بين المستعصم وهولاكو
من الخاقان العظيم هولاكو سلطان السلاطين إلى المستعصم بالله العباسي. أما بعد فأننا قد مللنا المماطلة ونحن صابرون. أما آن لك أن ترعوي وتعرف قدرنا؟ بعثنا إليك نستعينك على الإسماعيلية الفتاكين القتلة، ونحن لا نخافهم على أنفسنا كما نخافهم عليك فأبيت، فدلنا ذلك على سوء رأيك، فبعثنا نعاتبك على عملك فأجبتنا جوابًا باردًا لا يشفي غليلًا، وشفعته بهدية هي أَولى أن تهدى إليك كأنك تظننا في حاجة إلى المال، ولم ترسل إلينا رسولًا يخفف من غضبنا. وقد كنا نقنع منك برسول عاقل، أما الآن فلا يرضينا إلا أن تأتي أنت بنفسك أو ترسل إلينا وزيرك أو قائد جندك للاعتذار، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، والسلام.
وما فرغ الكتاب حتَّى أخذ منه الأسف مأخذًا عظيمًا، ونظر إلى الخليفة فرآه مطرقًا يفكر، فظنه قد اعتبر ولا يلبث أن يطاوعه في استرضاء هذا الفاتح التتري، فإذا هو قد وقع بصره إليه وقال: «كيف رأيت أيها الوزير؟» قال: «الرأي لمولاي أمير المؤمنين.»
قال: «هل أعجبتك وقاحة هذا التتري، وما جزاؤه عندك؟»
فلما سمع هذا التعبير استغربه، وشعر أن الخليفة لم يقدر مركزه حق قدره، فقال: «أستأذن مولاي في أمر لا بد لي من التصريح به؛ إن هذا الرجل أصبح الآن شديد البطش، وقد علمنا من جواسيسنا أنه فاز في حروبه مع الفرس وغيرهم، وأصبح جيشه عديدًا، وعنده العدة والمئونة، وإذا لم نُجِبْه جوابًا حسنًا حمل على بغداد، فالذي …»
فتعرض أبو بكر للكلام باستخفاف وقال: «يحمل على بغداد؟ وهل ينال غير الخزي والفشل إذا حمل عليها؟»
فازداد مؤيد الدين أسفًا ولم يجبه، لكنه وجَّه كلامه إلى الخليفة وقال: «فالذي أراه أن نسترضيه ريثما تتأهب.»
فقال الخليفة: «بماذا نسترضيه؟ إنه يطلب مني أن أذهب إليه بنفسي أو أرسل إليه الوزير أو الداودار، ألم يكن الأولى أن نتلافى الأمر قبل تفاقمه؟»
قال الوزير وقد أعجبه إذعان الخليفة للحقيقة: «كان ينبغي ذلك، ولم يقصر العبد في أداء النصيحة في المرة الماضية لما جاء كتاب هولاكو هذا؛ فقد شرحت لمولاي ما نخافه من هؤلاء، ورغبت إلى أمير المؤمنين أن يبعث إليه بالهدايا الفاخرة من الجواهر والمماليك والجواري، فإن القوم يرضيهم ذلك، فاعترض الداودار يومئذٍ، واتهمني بالضعف، وظنني أفعل ذلك ممالأة للعدو، وأطاعه مولاي فأرسل هدية حقيرة أغضبت هولاكو فكتب ما كتب.»
وكان الداودار جالسًا فلما سمع ذكر اسمه تصدى للكلام قائلًا: «أظن الوزير يريد منا أن نذعن لهذا الطاغية ونسترضيه بكل ما عندنا، ولو فعلنا ذلك لم يزدَدْ إلا عتوًّا وطمعًا.»
فقال الخليفة موجهًا خطابه إلى الداودار: «وماذا يرى قائدنا الآن، هل يذهب إليه بنفسه كما يطلب؟»
قال وهو يظهر الأنفة والعظمة: «نعم أذهب إليه محاربًا إذا شاء مولاي.»
فاستغرب ابن العلقمي غرور هذا القائد، وهو يعلم عجزه عن ذلك، مع فراغ الخزانة من الأموال، حتَّى اضطر الخليفة أن يقتصد من أعطيات الجند. وكان مؤيد الدين قد أشار عليه بذلك لجميع مالًا يرضي به التتر لعلهم يعودون بلا حرب. وكان جيش بغداد ١٠٠٠٠٠ فارس، فسرح منه ٨٠٠٠٠ واستبقى عشرين ألفًا والداودار يعلم ذلك؛ فهل يحارب التتر بهذا العدد؟ أما الخليفة فلم يكن يجهل هذه الحقيقة، فأجاب الداودارَ قائلًا: «كيف تخرج لمحاربتهم وليس عندك إلا عشرون ألفًا؟»
قال: «صدق أمير المؤمنين، إن هذا العدد لا يكفي الآن لكننا نجند سواهم.»
فقال: «هل يسهل التجنيد؟»
قال: «كيف لا؟ إن المال الذي أشار الوزير باقتصاده من أعطيات الجند يكفي للتجنيد. سامح الله الوزير، إنه أخطأ بأخذه بهذا الرأي ولم نستفد منه إلا نقمة الجند علينا.»
فأراد الخليفة أن يدفع عن الوزير، فتصدى أبو بكر وقال: «وما الذي يهم الوزير رضي الجند أو غضبوا؟! إنما يهمه ألا يغضب هولاكو.»
•••
فكان لهذا الكلام وقع شديد على نفس ابن العلقمي، وتذكر كتابه الضائع فخاف أن يكون لهذا الكلام علاقة به، فأغضى عن وقاحة ذلك الشاب إلى مخاطبة الخليفة، ثم أجاب الداودار فقال: «إن ما أشرت به من قبل لا أزال عليه حتَّى الآن، وما جمع لدينا من المال المقتصد لو استرضينا به هولاكو لرضي وكفانا مئونة الحرب. أما الآن وأنت قائد الجند، فإذا كنت ترى جندنا قادرًا على الحرب، فالرأي راجع لأمير المؤمنين.»
فنظر الخليفة إلى ابن العلقمي وقال: «هل هذا هو رأي الوزير فيما نحن فيه؟»
قال: «نعم أرى أن نسترضي هولاكو بما أمكن غير الحرب.»
قال الخليفة: «إنه يطلب أن أذهب أنا إليه أو أنت أو الداودار.»
قال: «يرسل المولى من شاء منا.»
فقطع أبو بكر أحمد كلامه قائلًا وهو يضحك متهكمًا: «أظن الوزير يتمنى أن يذهب هو بهذه المهمة لزيارة صديقه الخاقان.» وقهقه ضاحكًا.
فاستغرب المستعصم هذا القول، ونظر إلى ابنه نظرة توبيخ على هذا المزاح، فوقف أبو بكر وأظهر الجد وقال: «إنني أقول الحق يا أبي، اسأل الوزير، ألم يكن بينه وبين هولاكو صداقة ومراسلة؟»
فأجفل الوزير وترجح عنده أن أبا بكر مطلع على شيء مما بينه وبين هولاكو، فأظهر اشمئزازه من ذلك الحديث والتفت نحو الخليفة معاتبًا، فالتفت الخليفة إلى ابنه وقال: «لا محل لهذا الكلام يا أحمد الآن.» فمد أبو بكر يده إلى جيبه وأخرج كتابًا دفعه إلى أبيه وقال: «وهذا الكتاب يشهد بذلك.» فتناول المستعصم الكتاب وقرأه، ثم نظر إلى مؤيد الدين فرآه مطرقًا، فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟» فرأى من الحزم أن يتجلد فنظر إلى الكتاب وقال: «أعرفه يا مولاي وقد كان معي وسرق مني.»
فرماه المستعصم إليه وقال: «إنه يؤيد كلام ولدنا، ويدل أيضًا على أن بينك وبين هولاكو تزاورًا.»
فالتقط مؤيد الدين الكتاب وقال: «نعم يا سيدي، لكن هل يدل على أني متفق معه على عمل، أم هو يشكو من رفض مطالبه؟»
فقال أبو بكر: «ولكن على كل حال يظهر مما في آخره أن المخابرة بينكما قديمة. ألم يكن يجدر بك أن تُطْلع أمير المؤمنين على ذلك. ما أدرانا بما دار بينكما؟ والأرجح أنك متفق معه على تسليم البلاد إليه، وإنما اختلفتما في كيفية تسليمها. ليس هذا شأن الوزير المخلص لمولاه كما تدعي.»
فتحيَّر مؤيد الدين بماذا يجيب، وهمَّ بالكلام فرأى الخليفة يشير إليه أن يسكت، وقد بان الغضب في وجهه ثم قال: «صدق أبو بكر، لم أكن أتوقع منك ذلك مع ثقتي بك. كان ينبغي أن تطلعني على ما يدور بينك وبين عدونا قبل الآن.»
فأراد ابن العلقمي أن يدفع عن نفسه، فأشار إليه المستعصم أن يسكت وقال: «طالما دافعتُ عنك وكذَّبت ما ينقلونه لي والتمست لك الأعذار، أما الآن فظهر لي أن كلامهم هو الصواب، ولا أفهم لسكوتك عن اتصال هولاكو بك معنًى سوى أن لك في ذلك غرضًا أو مطمعًا، ولولا ذلك لأطلعتني على ما دار بينكما.»
فلم يُطِقْ مؤيد الدين صبرًا على السكوت فقال: «لم أَرَ فائدة من إطلاع مولاي على ما يكدره، وإنما يطلب مني أن أحافظ على الولاء له وأدافع عن مقام الخلافة. فهل في هذا الكتاب ما يدل على خيانة؟ فإذا كان فيه شيء من ذلك فالعبد رهين أمر مولاه.»
فاعتدل المستعصم في مجلسه وقال: «حسنًا. وهل كان في إطلاعي على مكان تلك الجارية ضرر أيضًا؟»
فاستغرب مؤيد الدين قوله وقال: «أي جارية يا مولاي؟» قال: «جارية أبي بكر الذي ذبح أهل الكرخ بسببها.» قال: «وما شأنها فيما نحن فيه؟»
فقال الخليفة: «ما كنت أظنك تجهل شأنها، ألم تكن تعلم أن مقتلة الكرخ إنما جرت بسببها لأن أبا بكر علم أنها مختبئة هناك وأنكروها عليه؟» قال: «بلى!» قال: «وقد قلت لنا يومئذٍ أنك لا تعرف عنها شيئًا.» قال: «نعم.» قال: «كيف تقول ذلك وهي مخبوءة في منزلك؟» فأجفل مؤيد الدين عند سماع ذلك وقال: «مخبوءة في منزلي؟» قال: «نعم. أو منزل بعض أهلك في الكاظمية. وقد استرجعها أبو بكر أمس بهمة الداودار.»
فتذكر مؤيد الدين شوكار وأن سحبان أخذها من عنده ليخبئها في الكاظمية، ولمَّا تذكر ذلك سُري عنه لأنه سيفوز بها على أبي بكر لعلمه أنها جارية المستعصم وقد خطفها أبو بكر لنفسه، فقال وهو يظهر الاستخفاف: «هل أمير المؤمنين واثق بما قيل له؟»
قال: «هذا أبو بكر، وهذا الداودار، وقد أتيا بها أمس من الكاظمية.»
قال: «هل رآها أمير المؤمنين؟» قال: «لا. لم أَرَها ولكني لا أشك في صدقهما.»
ووقف أبو بكر وهو يظهر الغضب وقال: «وهل أنا كاذب؟» فقال له مؤيد الدين: «لا أعلم ولكنني أعلم أني غير كاذب. وبما أنك وجهت إليَّ تهمة الخيانة فيقتضى أن تثبت قولك بالبرهان. فإذا أثبتَّه فإني مذعن لحكم مولاي.»
فقال أبو بكر: «لا حاجة إلى إثبات ذلك فإنه ثابت عندنا جميعًا.»
وجلس وراح يتشاغل بفتل شاربيه ويظهر الازدراء، وقد خاف أن يلح مؤيد الدين في طلب الجارية ليراها أبوه فيفتضح أمره، وندم على ذكر هذه الجارية لأبيه، لكنه لم يكن يعلم أن مؤيد الدين مطَّلع على تاريخها.
أما مؤيد الدين فازداد تمسكًا بقوله ووجَّه كلامه إلى الخليفة وقال: «هل من ضرر إذا أمر مولاي أمير المؤمنين بإحضار الجارية لنراها ونطلب شهادتها؟»
فقال: «لا ضرر من ذلك.» والتفت إلى أبي بكر وقال: «أين هي؟» فأظهر الاشمئزاز من ذلك الطلب وقال: «ما الداعي لاستقدام جارية إلى ديوان أمير المؤمنين؟ وما هي أهميتها؟»
قال مؤيد الدين: «إنها ذات أهمية كبرى؛ لأن الوزير متهم بالخيانة والكذب بسببها، فالمطلوب إثبات ذلك.»
فنهض أبو بكر وهو يظهر عدم المبالاة وقال: «ليس أمر هذه الجارية مهمًّا، وإنما المهم كتاب هولاكو، وقد اطلع عليه والدي وكفى.»
قال ذلك وتحوَّل وخرج بلا استئذان وأبوه ينظر إليه، وقد سره خروجه لئلا يفرط منه كلام يسيئه، لكنه كان يحب بقاءه ليتحقق أمر تلك الجارية فناداه وقال: «أحب أن تتم أمر البحث في أمر الجارية.» فقال: «لا أهمية لها، وأنا أسامح الوزير على خطيئته بشأنها.» فقال الوزير: «أما أنا فلا أسامح نفسي. أحب أن تأتي الجارية وتثبت الخيانة عليَّ أو على غيري، وطلبي هذا حق.»
فما زاد أبو بكر على أنْ ضحك ومشى وأبوه يتبعه بنظره.
أما مؤيد الدين فالتفت إلى الخليفة وقال: «يأمر مولاي باستقدام الجارية إلى هنا، وهذا الداودار يعرفها لأنه كان مع الأمير أبي بكر لما أخرجاها من منزل بعض أهلي في الكاظمية كما يقول.»
فالتفت الخليفة إلى الداودار كأنه يأذن له في الكلام، فقال مخاطبًا الوزير: «وهل أنت في شك من قول مولانا أبي بكر؟» قال: «لا شك عندي في قوله ولا قولك، لكني ألتمس من مولاي الخليفة أن يأمر باستقدامها.» فأشار الخليفة إلى الداودار قائلًا: «لا أرى بأسًا من استقدامها فافعل.»
ولم يكن الداودار يعرف علاقة هذه الجارية بالخليفة؛ ولذلك لم يَرَ بأسًا من إحضارها، فنهض وهو يقول: «أنا ذاهب بأمر مولاي لاستقدام الجارية بدون أن أستأذن الأمير أبا بكر.» قال الخليفة: «افعل.» فخرج الداودار وظل ابن العلقمي جالسًا يفكر فيما وفق إليه من التغلب على عدوه، والخليفة مطرق لا يتكلم. ولم يمضِ كثير حتَّى عاد الداودار لأن المنزل الذي وضعوا فيه شوكار كان قريبًا من قصر التاج.
دخل الداودار ووقف وقفة الظافر وقال: «إن الجارية بالباب، هل أدخلها يا مولاي؟» قال: «لتدخلْ.»
فدخلت ومؤيد الدين ينظر إلى الباب بلهفة مخافة أن يكون قد جاء بجارية أخرى غير شوكار. فلما وجد أنها هي انشرح صدره. أما شوكار فوقفت مطرقة، فخاطبها الخليفة قائلًا: «ألم تكوني مخبوءة في الكاظمية وجاء بك قائدنا هذا أمس؟» قالت: «بلى يا مولاي.» قال: «ومن خبأكِ هناك؟ اصدقيني.» قالت: «وهل يجسر أحد على الكذب في حضرة أمير المؤمنين، خبأني رجل اسمه سحبان.» قال: «ألم يكن الوزير مؤيد الدين الذي خبأك؟» قالت: «كلا يا مولاي، ولم يكن يعرف أني مختبئة هناك.» قال: «ألا تعرفين وزيرنا قبل الآن؟»
فتحيرت في الجواب وتلعثمت لأنها توسمت من وراء تلك الأسئلة سوءًا يريده الخليفة بالوزير، وهي لم تَرَ من الوزير إلا الخير، ولا تحب مع ذلك أن تقص خبرها على الخليفة فأُرتِج عليها. فوقف مؤيد الدين وقال للخليفة: «يتفضل مولانا بالسؤال عن اسمها، ومن أين أتت إلى بغداد، وما سبب مجيئها.»
فقال الخليفة: «وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟» قال: «سيرى مولانا أنه ذا علاقة كبرى بذلك، وسيكشف له عن أمور جليلة.» فقال الخليفة: «ما اسمك؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا؟» ففهمت شوكار من تعرض ابن العلقمي لهذا الأمر أنه يريدها أن تقول الحقيقة، فقالت: «اسمي شوكار، وقد جئت من مصر لأكون مغنية في قصر أمير المؤمنين.»
فلما سمع الخليفة قولها أجفل وخفق قلبه؛ إذ ترجح له أنها المغنية التي كان قد أضاعها، فنظر إلى مؤيد الدين ثم إلى الداودار وقد تولَّته الدهشة وأعاد السؤال عليها قائلًا: «أنت شوكار جارية شجرة الدر؟»
قالت: «نعم يا مولاي، إني شوكار جارية شجرة الدر.» قال: «من أخذك مني؟ وأين كنت كل هذه المدة؟»
قالت: «أخذني ابنك الأمير أبو بكر وأخفاني عنده.»
قال: «ألم تكوني أنت الجارية التي حدثَت مقتلة الكرخ من أجلها؟»
قالت: «أنا تلك الجارية يا مولاي، وكنت قد فررت للنجاة بنفسي.»
قال: «وكيف أخذك ابني وأنت محمولة إليَّ؟»
قالت: «لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا إنهم قادمون من قصر أمير المؤمنين ليأخذوني إليه، فدفعني الركب إليهم فأخذوني إلى قصرٍ عرفتُ بعد ذلك أنه للأمير أحمد أبي بكر …»
فأخذ الغضب من الخليفة مأخذًا عظيمًا، وندم الداودار لأنه تصدى لحمل الجارية إلى هناك، وأصبح خائفًا على أبي بكر من غضب أبيه، فوقع في حيرة، وأعاد النظر إلى تلك الجارية بدهشة. وظل مؤيد الدين ساكتًا وقلبه يرقص فرحًا لفوزه، أما شوكار فقد عدت انتقالها من بيت أبي بكر إلى بيت الخليفة فرجًا، وإن كانت تفضل الانتقال إلى مصر.
•••
وحينما تحقق الخليفة الواقع صفق، فجاءه غلام فأومأ إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيرًا، والتفت إلى الداودار وقال: «قد سمعت الآن أن الذين أعانوا أحمد على هذه الجريمة من الجند. أيليق ذلك بالأجناد؟ أليست هذه خيانة منهم؟»
فاعتبر الداودار هذا التوبيخ موجهًا إليه لأنه القائد العام، فاضطر في سبيل الدفاع عن نفسه أن يشكو ابن الخليفة، فقال: «لم يفعل الجند ذلك بأمري، وإنما فعلوه بأمر الأمير أحمد أبي بكر، وهل نستطيع أن نخالف له أمرًا؟»
قال: «كيف لا؟ أتطيعون ابني في سبيل معصيتي، وأنا لا أزال حيًّا؟»
وتحرك في مجلسه من شدة الغضب وأخذ يلهث وينفخ ويصر على أسنانه، فخُيِّل لمؤيد الدين أن أبا بكر لو كان حاضرًا لأمر الخليفةُ بقتله، وود لو أنه يحضر، وإذا بالخليفة يقول للداودار: «أين أحمد الآن؟» قال: «لا أعلم يا مولاي.» قال: «إليَّ به حالًا أينما كان.» فخرج الداودار، ونظر الخليفة إلى مؤيد الدين نظر الاعتذار لأنه شك فيه وقال: «لقد أسأنا الظن بك يا وزيرنا. جوزيت خيرًا، لماذا لم تطلعني على خبر هذه الجارية من قبل؟»
قال: «لأني لم أعرف بها إلا منذ أيام قليلة، وقد قلت للذي قصَّ عليَّ خبرها أن يخبئها في مكان أمين ريثما نطلع أمير المؤمنين على أمرها في فرصة مناسبة لا يدري بها الأمير أبو بكر؛ لأننا لو أردنا أن نفعل ذلك بعلمه لما نجونا من الأذى، وهو ابن أمير المؤمنين والجند طوع إرادته.»
فهز الخليفة رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون. إني أخطأت بإطلاق سراح ابني هذا، ولو كان محجورًا عليه كما كان الأمراء قبله لَمَا كان في مثل هذه الأخلاق، ولَمَا جرَّ علينا هذه البلايا. لأحبسنَّه ولأحجرنَّ عليه ولأعلمنَّه كيف يكون مطيعًا، قبَّحه الله من ابن عاق!»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا ضوضاء بالباب عرفا منها صوت أبي بكر وهو يقول بلحن الغضب: «أما كفاه مَن في داره من النساء حتَّى يطمع في جاريتي؟! دعني أدخل.» وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «إن مولانا أبا بكر ابن أمير المؤمنين بالباب، هل يدخل؟» فقال: «هل جاء وحده؟» قال: «نعم.» قال: «وكيف ذلك، أليس الداودار معه؟» قال: «لا.» ولَم ينتظر أبو بكر الإذن له في الدخول، فدخل والغضب بادٍ في محيَّاه، فلما رآه أبوه داخلًا استعاذ بالله وابتدره قائلًا: «ما هذا يا أحمد، أهكذا يدخلون على أمير المؤمنين، أين التربية ووقار الخلافة؟»
فجلس دون أن ينتظر الإذن، وقال: «تسألني عن التربية وأنا ابن أمير المؤمنين وقد رُبِّيتُ في حِجره؟ ولعل ذلك من أسباب شقائي؛ يحسدني الناس على أن الخليفة أبي، ولو علموا كيف يعاملني لأشفقوا على.» قال ذلك واختنق صوته كأنه يجهش بالبكاء.
فلما سمع المستعصم إجهاشه ولحظ شيئًا يتلألأ في عينيه كالدمع، خمد غضبه وتغلب حنانه، وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الحنان والإشفاق؛ وذلك لأن المحبة الأبوية لا تذعن للحقوق ولا تعترف بقواعد المنطق ولا تطلب البراهين، وإنما هي حاكم مستبد أكثر أعماله لا تنطبق على القوانين، وكثير منها يناقض المنطق ويخالف أحكام العقل. الأب يحب ابنه ويغار عليه، ويرى فيه حسنات لا يراها الآخرون، وهو لا يحبه لأنه يرجو منه نفعًا، أو لأنه يستحق المحبة لفضائل فيه أو حسنات أتاها، وإنما يحبه عفوًا، يحبه لأنه ابنه، ويزداد حبه له كلما شقي في تربيته، ويزداد عطفه عليه إذا رآه حزينًا. إن الوالدين ليس أدعى إلى تحريك شفقتهما من أن يريا ابنهما باكيًا وإن كانا في أشد حالات الغضب، كأن دموعه تقع على نار ذلك الغضب فتطفئها ويتصاعد دخانها فيَغشى ما هناك من دواعي النقمة، فلا يريان غير بواعث الشفقة والعطف.
وكان المستعصم من أضعف الآباء قلبًا وأكثرهم حنانًا، فأوشك أن ينسى أسباب غضبه على ابنه لكنه تجلد وقال: «أبمثل هذا تخاطب أباك؟ هل يحق لك الشكوى من أبيك وقد منحك ما كان يشتهيه أبناء الخلفاء قبلك؟ كانوا مسجونين وأنت حر طليق ولك الأمر والنهي، ألم تَرَ الداودار؟
قال: لا، لم أره. لكنهم قالوا لي إنه أتى قصري وحمل جاريتي فلم أُطِقْ الصبر على ذلك، فجئت لأشكو إليه عمله. فإذا أنت تمن عليَّ بالحرية التي وهبتني إياها، وأي حرية هذه وقد ضننتَ عليَّ بجارية مع كثرة الجواري في قصرك ولكن …»
فقطع المستعصم كلامه قائلًا: «لم أضنَّ عليك بجارية، لكنني عتبتُ عليك لأنك اختطفت جارية آتية من مصر باسمي.»
فقال وهو يحول وجهه استخفافًا: «آتية من مصر باسمك؟ إنك لا ترى بأسا من اقتناء مئات الجواري وتبعث في طلبهن من الأطراف، وابنك الشاب إذا أخذ جارية منهن اتهمته بالعقوق وشددت النكير عليه. لو كنتُ ابن أحد العامة لم يفعل أبي معي فعل أمير المؤمنين.» قال ذلك وغص بِرِيقه وأظهر أنه ضاق صدره من الإجهاش وأنه إنما يمسك نفسه عن البكاء حياءً ثم قال: «ومع ذلك أنت أمير المؤمنين ولك الحق في أمور ليس لسواك الحق فيها. ونحن عبيدك وكل ما هو لنا طوع إرادتك. ولا يزال عندي بضع جوارٍ أُخر أبعث الداودار ليحملهن إليك. يا ليتك أبقيتني أسيرًا ولم تُرِنِي نور الحرية. إن المولود في الظلمة لا يعرف لذة النور ولا يأسف لفراقه، وإذا كنتَ قد ندمت على إطلاق سراحي، فها أنا ذا بين يديك؛ احبسني أو اقتلني، والقتل خير لأني أريحك من المتاعب.» وأظهر أنه لم يعد يستطيع التماسك عن البكاء وأخذ في الشهيق، وأوشك أبوه أن يشاركه في ذلك.
أما مؤيد الدين فكان جالسًا يسمع ويرى وقد أدهشه ما رآه من الانقلاب في عواطف المستعصم، فذهب فرحه بالفوز عبثًا، واكتفى بالنجاة من الغضب، وودَّ الخروج من ذلك المجلس، ولكن لا يجوز له أن يستأذن قبل أن يرى الخليفة راغبًا في صرفه على عادة الخلفاء والملوك. فأخذ يتحرك في مجلسه ليوجِّه التفات الخليفة إلى صرفه، وقد يكون الخليفة أكثر رغبة منه في ذلك.
لكن حركته لفتت انتباه أبي بكر فتحول نحوه وعاد إلى الكلام فقال: «أنا لا أشك في حب أبي، ولكن الذنب كله على هذا الوزير، الذي شب على كرهنا لأنه علوي ولا يرى لنا الحق في الخلافة.» ووجَّه خطابه إلى أبيه وقال: «وأني لأستغرب صبر والدي على رجل يكرهنا ويسعى في خلع خلافتنا ويخابر ألد أعدائنا سرًّا، وأغرب من ذلك أنه صدَّق دفاعه عن نفسه.» ومد يده إلى كتاب هولاكو، وكان ما زال في يد مؤيد الدين، فاختطفه منه بخشونة وفتحه وقال وهو ينظر فيه: «صدَّق دفاعه، وظنه بريئًا من المواطأة مع عدونا وهو يقول له في هذا الكتاب إنه صديقه، ويشير عليه بإرسال الرسالة كما قال له قبلًا، ألا يدل هذا على سبق المخابرة في شأن الخيانة؟ ومع ذلك فإن قول ابن العلقمي العلوي مصدق وقول أحمد مكذب.» وعاد إلى البكاء.
فتفطر قلب أبيه لبكائه، ورأى مؤيد الدين في وجهه الانصياع إلى رأي ابنه، فأسقط في يده وتحقق أن سعيه ذهب سدًى، وود لو أنه يختفي من المجلس لئلا يسمع تأنيبًا من الخليفة نفسه، فإذا هذا يقول: «سأنظر في أمر أحمد والجارية في فرصة أخرى. أما من حيث مخابرة العدو فقد صدق أحمد يا مؤيد الدين. كيف صبرت على مخابرة ذلك العدو مدة ولم تخبرنا؟ إني واثق بأمانتك، ولكن للثقة حدودًا تقف عندها … لا، لا، لا أزال على ثقتي بك وإن خالفني أحمد. إنه قال ما قاله الآن من غضب.»
فقطع أحمد كلام أبيه قائلًا: «لا، لا أقول من غضب، أنت تعرف سوء رأيي في هذا الوزير من قبل، وقد تحقق ظني فيه اليوم.»
فلم يشأ الخليفة أن تنتهي الجلسة على هذه الصورة؛ لأنه يعتقد اقتدار وزيره ويرى نفسه في حاجة إليه، لكنه لم يستطع أن يغالب عواطفه الأبوية ويجدل ابنه، فأحب إقفال باب الكلام، فأبدى إشارة الصرف، فوقف مؤيد الدين واستأذن في الانصراف وهو ساكت يفكر.
خرج الوزير وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا حتَّى أخطأ الطريق من الديوان إلى موقف الدواب حيث كان غلامه في انتظاره، ثم انتبه لنفسه فركب بغلته وسار قاصدًا منزله وهو لا يكاد يرى طريقه لعظم ما جاش في خاطره من الأسف واليأس والخوف. وتضاربت خواطره بين الانتقام والتربص حتَّى وصل إلى المنزل، فاستقبله قيِّم الدار على جاري العادة، فحالما وقع نظره عليه تذكر المملوك الذي كتب الرسالة على رأسه فسأل عنه فقال: «هو في حجرتي.» قال: «كيف شعره؟» قال: «قد نما حتَّى كسا رأسه، وإذا شئتَ أتيتُك به الساعة.»
قال: «أحضره.» ومشى إلى غرفته وهو يفكر وخاطره مشتغل بما مر به في ذلك اليوم، وكلما تصور أبا بكر واحتقاره إياه، اقشعر جسمه قشعريرة الحقد والغيظ والكراهية. فقعد على سريره وهو مطرق، وإذا بالقيِّم قد جاء ومعه ذلك الغلام يساق كالبهيمة، وليس فيه من علامات الإنسانية إلا شكله الخارجي ونطقه إذا تكلم. فلما رآه مؤيد الدين نظر إلى رأسه فرأى شعره قد نما وتكاثر ولم يبقَ شيء ظاهر من جلده، فتفرس في رأسه وهو يناجى نفسه قائلًا: «إن تحت هذا الشعر رسالة إذا بلغت صاحبها أقام الدنيا وأقعدها وانتقم لي من ذلك المغرور الطائش. وما علي إذا أنا أرسلتها إلى هولاكو؟ إن الرجل قادم إلينا لا محالة وهو فاعل ما يريده، ولا ريب عندي بفوزه، فإذا أرسلت إليه دعوتي هذه على رأس هذا المملوك ضمنتُ حياتي وحياة من أُحب من أهلي وأصدقائي. ولو علمتُ أننا قادرون على دفع هولاكو ورجاله لم أكن لأبالي بجهالة هذا الغر واستخفافه، بل كنت أدافع عن أمتي وبلدي وأُغضي عن ضعف الخليفة وطيش ابنه. ولكن أنَّى لنا أن ندفع التتر وليس عندنا إلا عشرون ألفا قلوبهم متفرقة ونياتهم متناقضة؛ إذن …» ووضع سبابته على ذقنه كما يفعل المتأمل ثم رفع بصره إلى قيِّم القصر وقال: «أرسل هذا الغلام في المهمة التي تعرفها.»
فخفق قلب القيِّم فرحًا؛ لأنه كان كثير الرغبة في الانتقام من الخليفة، فنادى الغلام إليه فتبعه، فلما خلا به أفهمه أن مولاه الوزير يريد منه أن يذهب إلى هولاكو خاقان التتر، ويقول له إنه قادم من وزير بغداد وكفى. ومتَى عاد نال المكافأة الكبرى، ففرح الغلام ومشى كالشاة تساق إلى الذبح.