ليلة ٣٠ أيار ١٨٧٦م
تلك ليلة من ليالي الدهر مشهورة، وستبقى في تاريخ آل عثمان إلى الأبد مسطورة، كان الجو فيها صافيًا، والسكون تامًّا لا يتخلله إلا جري بعض الرسل الذين كانوا يذهبون ويجيئون من كل جانب.
ولما كان أهل الأستانة قد تعودوا رؤية مثل أولئك الرسل يتراكضون من جهة إلى أخرى امتثالًا لأوامر الحرم والسراري؛ لم ينتبه أحد إليهم على أنهم كانوا ينقلون في ذلك المساء أخطر الأوامر وأشدها أهمية وهولًا. ثم وصل أمر إلى بارجتين كبيرتين كانتا راسيتين في قرن الذهب بأن توقدا مراجلهما وتتأهبا للسفر، وسلم إلى الربان أمر مختوم لا يحق له فضه إلا على بُعد عشرين ميلًا في بحر مرمرا، وصدر أمر سري آخر من وزير الحربية إلى قومندان حرس السلطان الخاص أن يجيء بخيله ورَجُله وجميع معداته إلى الترسخانة، فامتثل وجاء بجنوده على عجل واهمًا أن ذلك أمر السلطان، فنُقلوا جميعًا إلى ظهر البارجتين.
وعند الساعة العاشرة رُفع الجسر وخرجت البارجتان مقلتان أخلص الجنود والقواد للسلطان عبد العزيز، وارتاح الوزراء المتآمرون من شرهم، وأمنوا من إفشاء السر، وبدأت تباشير دسيستهم تبشر بالنجاح التام. وكان السلطان عبد العزيز في ذلك المساء متأثرًا جدًّا مما حدث في الصباح بينه وبين وزرائه، وكانت والدته والسلطانة مهرى تشجعانه على الحزم والعزم وإلا جلب على نفسه الويل والشر. وأخيرًا غلب على السلطانتين النعاس فرقدتا، وبقي السلطان وحده مسهدًا قلقًا مفكرًا في الاحتياطات الصارمة التي كان عازمًا على اتخاذها في الغد، فقال: لا بد لي من أن أحذو حذو والدي، فقد ذبح في ليلة واحدة خمسمائة من زعماء الانكشارية، فارتاح وأراح البلاد من شرهم، وأنا لا بد لي من ذلك، فقد صدقت مهرى في قولها: إن الضعف مجلبة للهلاك. وما انتهى من هذا الفكر حتى سمع دوي مخر مراكب كبيرة تعج عجيجًا شديدًا. فقال في نفسه: ما هذه المراكب الخارجة الساعة؟ واشتد قلقه كثيرًا؛ لأنه كان ممنوعًا خروج المراكب ليلًا مهما كان، فقام إلى النافذة وفتحها فوجد البارجتين خارجتين فدُهش من ذلك؛ لحصوله بغير إذنه، وظن في الأمر دسيسة، فصاح والله يا حسين عوني لا أبقاني الله إذا بقيتَ إلى غدٍ ونظرت مغيب شمسه. وخرج حنقًا من غرفته إلى غرفة الياوران، وأمرهم على الفور أن يطيروا لاستدعاء وزير الحربية إليه، فطار رئيسهم على جواد كان مسروجًا دائمًا لسرعة تنفيذ الأوامر، وطفق ينهب الأرض إلى السر عسكرية، وكان حسين عوني باشا مع اثنين من الوزراء يتآمرون والسرور طافح على وجوههم؛ لنجاح مسعاهم في إبعاد حرس السلطان الخاص. فلما وصل ياور السلطان انقلب سرورهم إلى رعبٍ، وخافوا أن يكون أُفشي السر وخان بعض المتآمرين، فقال حسين عوني باشا للياور: سر إلى السلطان وأخبره أني مقتفٍ أثرك على عجل وأنفذ في الحال رسلًا إلى بقية الوزراء يدعوهم للاجتماع به، فهرعوا إليه من كل جانب وقد ارتعشت قلوبهم وجلًا، فقص عليهم حسين عوني باشا أن الياور أخبره بأن السلطان كان يكرر لشدة حنقه كلمات الخيانة والمؤامرة والدسيسة، وأخذوا يتشاورون فيما يعملون، وكاد الوقت يمضي وهم لم يجزموا بشيءٍ فوقف أخيرًا مدحت باشا خطيبًا فيهم وقال: إن من الجنون التردد في العمل بعد الآن وإلا هلكنا جميعًا في الغد بلا مشاحة، فلا يصح بعد ذلك احتمال أعمال هذا السلطان الجنونية؛ إذ لا بد من إنقاذ البلاد، وقد تم نصف ظفرنا ولا بد أن تتكلل مساعينا بالنجاح التام مع قليل من البسالة والإقدام.
فقالوا: ولكن ما الحيلة؟
قال: يجب التعجيل بخلع السلطان هذا المساء عوضًا عن الغد، ويجب ألا تبزغ شمس غدٍ إلا والسلطان عبد العزيز مخلوعًا والسلطان مراد متسنمًا عرش آل عثمان.
فقال حسين عوني: قد قلت الحق ونطقت بالصواب، لكن ما الطريقة لذلك في هذا المساء ولسنا على أهبة تامة.
فأجابه مدحت باشا: نعم أنا عالم بخطورة المسألة، غير أن الوطن في خطر، وكلٌّ منا حامل على عاتقه قسمًا هائلًا من المسئولية، ولا ينال العلى من لم يركب الخطر، فلا بد من إنقاذ تركيا من وهدة الهلاك، وعليه أرى أن يعهد إلى عوني باشا أن يذهب الساعة لإيقاظ ولي العهد، واستحضاره إلى السر عسكرية، ونحن نستدعي شيخ الإسلام، ويذهب رديف باشا إلى ثكنة طلمه بغجه فيأمر بتوقيف الضباط والجنود الباقية فيها للحراسة، ويسلم قيادة الجنود التي اخترناها لمحاصرة السراي إلى صلاح بك، ويتخذ وزير البحرية مثل هذه الوسائل في الدوارع الراسية أمام طلمه بغجه، وبعد أن يتم كل شيء بالحذر والحكمة والجسارة والإقدام يذهب رديف باشا فيبلغ السلطان خبر خلعه ويخرجه من سرايهِ إلى السراي القديمة، ونجري نحن المبايعة للسلطان الجديد، وهكذا لا يبزغ فجر غد حتى تنتقل تركيا إلى طور جديد سعيد إن شاء الله.
فصادق الجميع على هذا الرأي، وعلى وجوب العمل به حالًا.
وعند نصف الليل تمامًا خرج رديف باشا يصحبه صلاح الدين بك مع ٣٠ ضابطًا من المتآمرين كانوا معهما، وقصدوا ثكنة طلمه بغجه، فلما رأى الضباط والجنود الوزير خفوا للقائه والتسليم عليه، فأبرز رديف أمرًا من السر عسكرية بتوقيف الضباط فأوقفهم بلا ممانعة، وعهد صلاح الدين إلى بقية الضباط الذين استصحبهم معه باستلام مراكزهم، واستلم هو القيادة الكبرى، فأمر الجنود أن تتهيأ للمسير بكامل معداتهم، فلم تمضِ عشر دقائق حتى تجمع الجنود في ساحة الثكنة مدهوشين من إيقاظهم في تلك الساعة، فتناول صلاح الدين مسدسه واستعرض كل نفرٍ منهم فردًا فردًا؛ ليعرف إذا كان بينهم خائن أو جاسوس، فلما فرغ خاطب الجنود قائلًا: الوطن في خطر، أترون هذا المسدس فكل من ينبس منكم ببنت شفة مات في الحال، وأمري الوحيد إليكم الصمت التام … فلم يُجب أحد بشيءٍ، وحينئذٍ استلَّ رديف باشا حسامه ومسدسه بيده، وسار والجنود تتبعه بقيادة صلاح الدين بك، وانحدروا حتى سراي طلمه بغجه، وكان يظهر أن الجمع هنالك نيام والسكوت تام والظلام دامس شديد الحلك، فتقدم رديف إلى الباب الحديدي، وقبل أن يسأل الحارس من القادم تقدم إليه ضابط مصوبًا مسدسه إلى صدره فأعطاه كلمة التعارف، ثم أمر الضباط بتوقيف الحارس وإبداله بغيره، وظل يفعل مثل هذا مع كل حارس حتى فُتحت جميع الأبواب، فدخلت الجنود وأحاطت بالسراي إحاطة السوار بالمعصم، وبقيت — والحق يقال — الجنود جاهلة السبب في هذا كله، وقد وهموا أنهم يعملون بأمر السلطان. فوزع صلاح الدين الضباط على المراكز، وأخذ على نفسه أخطرها؛ أي حراسة الباب الكبير، وهناك اتكأ على سيفه المسلول، ورفع رأسه إلى نوافذ السراي، وقال: أي سلطانة مهرى قد أزفت ساعة الانتقام.
فلما رأى رديف باشا أن جميع الاحتياطات قد أُخذت من الخارج تقدم إلى السلم الكبرى فصعدها وثلاثة من الضباط تتبعه، وسار إلى قاعة الخصيان، فذُعر هؤلاء لما شاهدوا أولئك الزوار في تلك الساعة، ولم يعرفوهم لأول وهلة، فصاحوا ماذا جاء بكم إلى هنا؟ ومن أين دخلتم؟ ومن أنتم؟ وماذا تريدون؟ فأجابهم رديف: لا ثرثرة ولا هذيان أنا رديف باشا أريد مقابلة السلطان لأمر مهم، فليذهب أحدكم وليخبر رئيس الخصيان أن يدخلني عليه الساعة بلا إبطاء. فقالوا: أفندم الجميع نيام في الحرم، فصاح به رديف اذهب وقل كما أمرتك.
فخاف الخصي وسار إلى رئيسه يخبره بما كان، فقام مهرولًا وكان عبدًا أسود طويل القامة هائل الجثة. فلما وصل قال غاضبًا: أي رديف، ماذا أصابك حتى جئت توقظني في مثل هذه الساعة، ولو لم يخبرني هذا العبد بأن المسألة هامة لما جئت.
فأجابه رديف عابسًا: قد أحسنت بمجيئك، وإلا لكنت ذهبت بنفسي وأيقظتك بحد هذا الحسام، والآن سِر وأخبر مولاك أني أريد مقابلته الساعة بلا تأخر ولا إمهال.
فصاح الخصي: أي رديف، أجننت؟! أو أنت راغب في حز رأسك حتى تجاسر على هذا الكلام وإيقاظ جلالة السلطان؟! إذن هو نائم، نعم، قد رقد الساعة.
– اعلم إذن أن تركيا بعد الآن قد تملصت من نير الحرم والخصيان، وهذه الليلة هي آخر ليالي الظلم والاستبداد، وإذا كنت في شك مما أقول فتقدم. ثم تناول الخصي من يده وسار به إلى شرفة، وقال له: انظر الجنود المحيقة بالسراي؛ فذُعر الخصيان ورُعبوا، وصاروا يولولون كالنساء.
فانتهرهم رديف قائلًا: كل من يرفع صوته أخطف نفسه، فصمتوا للحال كأن على رءوسهم الطير، فقال رديف لرئيسهم وقد جمد الدم في عروقه من الخوف: اذهب وأخبر السلطان بما سمعت وشاهدت، وإني أريد مقابلته الساعة …
فأجاب الخصي: «آمان أفندمز» لا أتجاسر على ذلك؛ لأنه يحز رأسي.
فقال له رديف: لا تخشَ شيئًا خذ هذا القنديل وسر أمامي، فقال الخصي: ألست عازمًا على قتله على الأقل …؟ فأجابه بازدراءٍ: لستُ بسفاح. سر بنا. أين الطريق؟
فسار الخصي صاعدًا السلم الرخامية يتبعه رديف وضباطه الثلاثة، فاجتازوا رواقاتٍ وقاعاتٍ كبيرة فارغة حتى وصلوا غرفة السلطان، ولم يتجاسر الخصي على فتح الباب، فوقف وأخذ يتوسل إلى رديف باشا بإعفائه من هذه المهمة فصوَّب رديف المسدس إلى صدره وقال: إذا لم تمتثل أخمد أنفاسك هذه الساعة. فطار قلب الخصي ذعرًا وهلعًا، وقال: انتظرني هنا على الأقل؛ لأن السلطان ليس وحده. فقال رديف: لا بأس فأنا بانتظاره.
وهكذا دخل الخصي وقام رديف باشا بكل رباطة جأش يشعل قناديل الغرفة وشموعها، ولم يكد يفرغ منها حتى أطل السلطان على عتبة باب غرفته، فتقدم إلى وزيره بوجهٍ عابس، وقال له بصوت يرتجف غضبًا: ماذا تريد الساعة مني حتى تجرأت على إيقاظي. فانحنى رديف باشا بكل احترام ووقار مسلِّمًا، وقال: أمرت جلالتك يا مولاي، باستدعاء السر عسكر ولما كان منهمكًا في شئون الدولة والأمة لم يتمكن من الامتثال لأمرك الكريم.
– أوَ هذا كل ما تريده؟ وهل جئت لتعتذر عن ذلك المجنون الذي تجاسر على إنفاذك إليَّ في مثل هذه الساعة؟
– لا يا صاحب الجلالة، لو كان الأمر كذلك فقط ما كنت أقلقت راحة جلالتك، وإنما هنالك أمر أهم وكل دقيقة تمر تزيده خطرًا.
– قل إذن ماذا تريد؟ أمن مؤامرةٍ عليَّ؟
– نعم، لقد أصبت.
فصاح السلطان: من وأين وكيف، وماذا جرى؟
فانحنى رديف باشا قائلًا: هذا الكتاب المنفذ إليك من جلالة ابن أخيك ينبئك ما تريد؟
فتناول السلطان الكتاب وهو يظن نفسه في منام، ولم يكد يتصفح العبارة الأولى منه حتى امتقع لونه، وطار صوابه، وصاح أيها الخونة اللئام والأدنياء الطغام، أظننتموني أخشى وعيدكم أو يروعني تهديدكم، أتطلبون مني الرضوخ لسلطان جديد، فمن ذا الذي تجاسر على خلعي من عرشي؟
فأجابه رديف باشا بسكون جأش: الشعب والجند والعلماء والأئمة، وإذا كنت جلالتك في ريب من ذلك، فما عليك إلا أن تشرف من نوافذ قصرك فترى جند البر والبحر قد انصاعوا لأوامرنا، وأن ليس لك من مهرب أو مغيث، ولا لديك حيلة إلا التسليم للقضاء والطاعة للسلطان الجديد، فضج السلطان وصخب لما رأى الجنود محيقة به، وأخذ يصيح كذي جِنة يا للخيانة يا للسفالة … يا لقومي يا لجنودي … فقال له رديف باشا: مولاي الفرصة أثمن من أن تُضاعظن أرجوك ألا تعرِّض حياتك للخطر، فإن حراسك وقوادك موضع ثقتك وركن اعتمادك هم الآن على بُعد عشرين ميلًا في بحر مرمرا. فعرف السلطان حينئذٍ أن لا خلاص ولا مناص ولا حيلة إلا بالرضوخ والامتثال، فقال: العزل خير من تولي شعبٍ خائن وجيشٍ عاق.
وكانت السلطانة مهرى قد استطالت غيبة السلطان فقلقت، ثم سمعت الجلبة فضجت وأعولت، وأخذت تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور. فصاح بها السلطان أن تصمت فصمتت. وطفقت تبكي وتنوح، وتراءت لديها عمته السلطانة عليَّة وميتتها، فازداد رعبها ونحيبها.
ووقف السلطان برهة يتأمل في تلك الساعة الهائلة، ثم التفت إلى الخصي، وأمره أن يأتيه بردائه فألقاه على كتفيه، وعهد إليه بالسلطانة مهرى خاصة، والتفت إلى وزيره قائلًا: هيا بنا إلى أين المسير. فأجابه رديف: إن على الباب زورقًا، وإذا بامرأةٍ هجمت على الحاضرين، واعترضت خروج السلطان، وصاحت أيها الخونة اللئام إلى أين تسيرون بسلطانكم وولي نعمتكم؟ فقال لها السلطان: أي مهرى العزيزة، دعينا نسير على خيرة الله، ولا تزيدي قلقي ومصابي، ولا تعرضي حياتك وحياتي للخطر. سلمي أمرك لله كما سلمته أنا نفسي، فإنه ولا شك سيجازي الخونة على خيانتهم، وهو على كل شيءٍ قدير.
فأجهشت مهرى بالبكاء قائلة: وهل أراك بعد الآن؟
فأجابها رديف: نعم بعد ساعة تجتمعين به فلا يفرقكما أحد بعد ذلك.
وانحدر السلطان يلعن وزراءه وضباطه وجنده، وخصوصًا نجله يوسف عز الدين؛ لأنه كان رئيس حرسه، وكان في تلك الليلة نائمًا لم يعرف شيئًا …
وعادت مهرى تبكي وتنتحب وتندب سوء حظها. وإذا بصوت يقول: الوقت أثمن من أن يضاع بالبكاء والنحيب، فيجب أن نُعلم بقية السلطانات والحرم بسرعة التأهب؛ لأنه يجب مفارقة السراي قبل بزوغ الفجر. فرفعت السلطانة نظرها ومسحت دموعها، وإذا القائل رئيس الخصيان، فصاحت به أوَ هذه تعزيتك لي الساعة؟
– مولاتي البكاء لا يرد الفائت، والحكمة تقضي بالنظر في المستقبل.
– آه يا ليتني مت قبل الساعة، وكنت نسيًا منسيًّا … وبعدُ فهل تعرف إلى أين ساروا بالسلطان؟
– سمعت رديف لما ركب مع السلطان الزورق الذي أعدوه له يأمر البحارة بالاتجاه إلى أسكى سراي.
– أوَ هذه هي السراي التي اختاروها منفى لسلطانهم في عاصمته نفسها، آه يا رباه … صوب انتقامك إلي، وأوقفه عندي، فأنا وحدي المسيئة وأنا وحدي المذنبة.
وطاف الخصيان يوقظون الحرم والنساء، ويعلمونهم بالتأهب للخروج من السراي، فلما عرفن السبب أخذن يولولن ويصخبن، فيملأن جوانب السراي بكاءً ونحيبًا، وقد تأهبن للمسير فجمعن أثمن ما عندهن من المال والجواهر، وأخذ الخدم ينقلونهن إلى الزوارق. وهكذا أخلين تلك السراي في أقل من ساعة من الزمان.
وركبت والدة السلطان مع السلطانة مهرى، وبقية السلطانات وأولادهن في زورق خاص استلم صلاح الدين دفته بيده غير آذن لأحد باستلامه، فلما ابتعد الزورق عن السراي تنهدت مهرى من أعماق قلبها، فتبسم لها صلاح الدين ابتسامة خفيفة دلالة على الظفر، فأدارت مهرى وجهها كي لا تراه، وقضت السلطانات تلك المسافة بالبكاء والنحيب، واستمطار اللعنات على الخائنين، فلما وصلن إلى السراي التي خصصت للسلطان عبد العزيز عهد صلاح الدين بالدفة إلى أحد البحارة، وانحدر قبل الجميع يساعد السلطانات على الانحدار إلى الرصيف، ولكن السلطانات رفضن مساعدته، وفضلن عليها خطر السقوط في البحر، وقابلنه بالشتائم. وجاءت مهرى آخر الجميع متكئة على ذراع جاريتها، فزلت قدم الجارية فسقطت وكادت تجر السلطانة مهرى معها، فذُعرت هذه وصاحت مستغيثة، وإذا بيدٍ قوية نشلتها فأنجتها من السقوط، ووضعتها على الرصيف سالمة، فالتفتت إلى صلاح الدين، وقالت له: جزاك الله جزاء ما فعلت معي. ودخلت السراي التي انتقوها منفي لذلك السلطان العظيم الشأن.
•••
ولم يبزغ فجر ٣٠ أيار حتى بدأت المدافع تدوي في أرجاء الأستانة مبشرة بإبدال السلطان بغير إهراق نقطة من الدم أو حدوث أقل مناوشة أو خصام، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ آل عثمان منذ نشأتهم إلى يومنا هذا.
وقد أوجبت تلك الثورة السلمية التي لم تطل أكثر من ليلة دهشة العالم قاطبةً، وأعجب بها الأوروبيون خاصةً، وقابل الشعب خلع السلطان عبد العزيز وتولي ابن أخيه السلطان مراد الخامس بمزيد الفرح والسرور، وتوسموا في أميرهم الجديد طلائع الحرية والإصلاح، وهب السكان يريدون المظاهرة بفرحهم، فبلغهم أن السلطان الجديد خارج من السر عسكرية إلى سراي طلمه بغجه فامتلأت بهم الشوارع والطرق على اختلاف أجناسهم وأديانهم يهنئون بعضهم بعضًا بذلك العهد الجديد.
شوكتلو عظمتلو أفندم
اسمح لأحقر رجل من رعيتك أن يكون في مقدمة المهنئين لك، سائلًا الله المتعال أن يطيل ملكك، ويجعل لك مستقبلًا سعيدًا، ورجائي الوحيد إليك أن تحرص على حياتي، وأن تأذن لي بالإقامة مع عائلتي في القسم الذي بنيته لجلالتك في سراي جراغان.
وأسأل الله أن يلهمك بحكمته السامية ما فيه خير الأمة والدولة. وإذا كنت أتجاسر على تقديم رأيي فهو ألا تضع ثقتك في جيشك، فقد ضحيت كل شيء من أجله وهو الذي خانني. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يهبك عمرًا طويلًا وعيشًا هنيئًا.
هذا دعاء أخلص عبيدك وأشدهم لك احترامًا.
وذكرت الجرائد بعد نشرها هذا الكتاب أن جلالة السلطان مراد أمر في الحال بإجابة طلب عمه.
وقد دُهش الجميع من رضوخ ذلك السلطان الجبار وطاعته، وتفاءلوا خيرًا وأمنوا على حياته؛ لأنه — كما قلنا — كانت العادة الجارية لذلك العهد قتل السلاطين لا خلعهم، كما أنهم كانوا يقتلون أولياء عهدهم لراحتهم.
ولما جاء المساء انجلت الأستانة كالعروس بزينتها البهية، وبالغت في ذلك حتى كانت كأنها شعلة نار، وكان السلطان مراد في القاعة الكبرى يقابل وفود المهنئين، وقد أمر بدخول جميع الناس عليه، وكانوا على اختلاف طبقاتهم يرون منه مزيد اللطف والإيناس.