موت السلطان عبد العزيز
قلنا: إنه كان للكتاب الذي أنفذه السلطان عبد العزيز إلى السلطان مراد رنة عظيمة في محافل الأستانة ونواديها، وقد علق عليه حزبه القديم أهمية كبرى، وظنوا أنها حيلة لإخماد الضغائن، وتسكين الخواطر، وتدبير وسيلة للانتقام متى عاد فتغير الرأي العام. فلما نُقل السلطان عبد العزيز إلى سراي جراغان، وأبدلوا له خدمه وحشمه وخصيانه جميعًا بغيرهم ممن عُرفوا بإخلاصهم للسلطان الجديد، أدرك أن لا أمل من العود إلى العرش، واستولى عليه اليأس والقنوط، فعرف حينئذٍ صعوبة السقوط وزوال النعمة. ولما كان لا نفس كبيرة في صدره تشجعه على احتمال الأرزاء ومصائب الدهر وتقلبات الأيام، كبر عليه مصابه، وتغلبت عليه طبيعته الفطرية، فتغيرت أطواره، وتبدلت أخلاقه، وصار يقضي ليله ونهاره بالسباب والشتائم، واستمطار اللعنات على جميع الناس يبكي عرشه المنثل، وينوح على عزه السابق ومجده القديم، وكانت والدته مع بقية نسائه وحرمه يحاولن عبثًا تطييب خاطره وتهدئة باله، وهو يزداد حنقًا وغضبًا حتى خشي عليه من الانتحار؛ لعدم احتمال معيشة الأسر في إحدى زوايا قصره، وفي نفس عاصمته، ولا يخفى أن النفي يثقل جدًّا على الملوك فكيف السجن إذا كان على أبواب قصورهم، وخصوصًا إذا كان السجين كالسلطان عبد العزيز معدودًا في مقدمة ملوك المشرق في حب الأثرة والملك؛ ولذا ثقلت عليه هذه الحياة، ففارق عينيه الرقاد، واستولى عليه السهاد، وبقي خمسة أيام لا يلذُّ له طعام ولا شراب، وهو لم يذُق غمضًا، ولم تلامس جنبه أرضًا …
وبزغ فجر الأحد الأول من شهر حزيران والسلطان عبد العزيز جالس على ديوان ينظر بعين جامدة بهاء ذلك النهار، ووالدته إلى جانبه تنظر بعين حزينة إلى ما صار إليه ولدها بعد الإقبال والسؤدد، والسلطانة مهرى تصك أسنانها ملتحفة في فراشها ليس من البرد، بل من جراء نوبة عصبية كانت تثيرها عليها الهواجس والأحزان وسوء المآل.
ولما طلعت الشمس قام السلطان يتمشى في غرفته ذهابًا وإيابًا كالأسد السجين في قفصه الحديدي، وكانت أقدامه لا تكاد تقوى على حمل جسمه، ثم التفت إلى والدته فقال: أتتذكرين يا أماه أني لما أمرت ببناء هذا القسم قال المهندس: إن هذا المكان كان قبرًا لأحد الدراويش من ذوي الكرامات، وإن ذلك يعود علينا بشرٍّ، أتتذكرين ذلك؟ فأجابته: نعم أتذكر، وأذكر كيف أن مهرى أيضًا سخرت من نبوءته وألحَّت بوجوب إتمامه …
فانتبهت مهرى لهذا الكلام قائلة: هذا قضاء وقدر. فلم يجِب السلطان إلا بالتأوه والحسرات.
فقالت له والدته حينئذ: دع عنك يا ولداه هذه الأفكار السوداء، واحترس على صحتك وحياتك فقد أصبحت خيالًا.
فأجابها: خففي عنك فإن الفرح قريب إن شاء الله، وهو سيرزقني قوة كافية للنجاة. فلم تفهم والدته ما يعني بقوله هذا، فأجابت: نعم، إنه الرحمن الرحيم، وهو لا شك سينتقم لك من الخونة، ويعيدك إلى عرشك.
فهز السلطان رأسه استخفافًا وقال: هل سمعتِ أو رأيتِ ملكًا عاد إلى عرشه بعد ائتمار شعبه عليه؟
فقالت له مهرى: كلا ليس شعبك هو الذي خانك، بل تلك إحدى الدسائس الجارية في الأستانة، وقد أخبرني حسن بك أن الدسائس هذه لا تزال على قدم وساق، وأن الذي يظن نفسه ثابتًا في عرشه … لا يلبث عليه طويلًا. فصاح بها السلطان اصمتي يا مهرى ودعي هذا الكلام … فلا أريد بعد الآن سماع ألفاظ المؤامرات والأصحاب والأعداء، ولا أريد معرفة شيءٍ، ولا رغبة لي إلا في الراحة والسكينة … فقد سئمت الحياة … آه يا رباه قد قُضي علي ألا أذوق طعم الراحة والعزلة، فلا يمكنني البقاء دقيقة إلا محتاطًا بالجواسيس والخدم الخونة والنساء الكثيرات الهوس. فقالت له والدته ومهرى وقد خافتا أن يتكدر منهما: أتريد أن نبتعد عنك قليلًا التماسًا لراحتك؟
– نعم، دعوني أرتاح قليلًا على هذا الديوان.
فنهضتا للحال وتأهبتا للخروج، وقالت له مهرى: إذا احتجت أمرًا مُرْ باستدعائي في الحال، وأرجوك أن تطرد عنك كل هذه الأفكار السوداء. فقال لها باسمًا: كوني براحة بال فإسماعيل بك في الغرفة المجاورة لمراقبتي … وأرسلي لي مرآةً ومقصًّا فإني أريد تسوية لحيتي. فخرجت مهرى ووالدته وقلبهما في اضطراب شديد؛ لشدة ما أحسا من القلق عليه، ودخلتا غرفة مجاورة؛ لتكونا على مقربة منه، وأرسلت له مهرى مع جاريةٍ المرآة والمقص.
وكانت مهرى ترسل بعض الجواري من حين إلى آخر لافتقاده، وكانت تطمئن لما كن يخبرنها بأنه جالس على الديوان أمام المرآة مهتم بتسوية لحيته، وأن إسماعيل بك في طرف الغرفة يتصفح الجرائد. فقالت مهرى: إذن ليس هو وحده فالحمد لله، وقالت والدته: وأنا قد أخفيت عنه جميع الأسلحة خوفًا عليه من الانتحار، فقالت مهرى: ولكن لماذا أمر بإبعادنا عنه …؟ فإني قلقة عليه، فأجابتها والدته: ما الحيلة الله كريم … ولم تتم هذه الكلمة حتى سمعت ضجة وخصامًا بين اثنين، فذُعرتا وصاحتا يا الله ماذا جرى؟ هرولتا إلى غرفة السلطان، فوجدتا منظرًا هائلًا ترتجف منه الأبدان فصُعقتا لهوله. كان السلطان عبد العزيز ملقًى على الديوان مخضبًا بدمه المتدفق من أرساغه ومعاصمه مكفهر الوجه وقد انحنى رأسه على كتفه، وإسماعيل بك يحاول عبثًا الضغط على الجراح لمنع الدم من الانفجار، فصرخت السلطانتان وأعولتا، فتراكض إليهما جميع من في السراي من رجال ونساء، وانطرحت والدته والسلطانة مهرى تبكيانه وتكلمانه، وكسرت بقية النساء نوافذ الغرف وملأن الفضاء صراخًا وعويلًا يستغثن ولا من مجيب، ويستصرخن ولا من معين، وكان هدير البوسفور الجواب الوحيد، وإذا بالطبيب العسكري جاء يصحبه بعض الخصيان، فتقدم من السلطان مرتجفًا وقد طوقته الأنظار، وتعلقت الآمال على شفتيه، فانحنى وأخذ يتفحص الجراح، ثم نهض وطلب الآلة التي كانت سبب الموت فأعطته مهرى المقص، وصاحت لقد مات من يدي وأغمي عليها، فلم يتمكن الطبيب إلا من تحقيق الموت، فأحاط الحاضرون بإسماعيل بك يتهددونه بتمزيق جسمه وقد اتهموه بقتل السلطان، وأخذ هو يحاول تبرئة نفسه ويقص عليهم ما جرى، وأنه لم ينتبه إلى عمل السلطان ومحاولته فتح شرايينه إلا بعد أن قُضي الأمر، فهرع إليه حينئذٍ يحاول نزع المقص منه، ولكن السلطان كان قد سقط ميتًا، فلم يصدقوه وهجموا عليه يضربونه، ولكنه تمكن أخيرًا من النجاة من بين مخالبهم فأركن إلى الفرار.
وستبقى هذه المسألة العويصة لغزًا غامضًا في التاريخ؛ إذ لم يتمكن أحد حتى الآن الجزم فيما إذا كان السلطان عبد العزيز مات مقتولًا أو منتحرًا.
ولما بلغ السلطان مراد خبر وفاة عمه وتفصيل موته، استولى عليه عارض عصبي فأخذ يبكي وينوح، وقد خاف أن يتهمه الناس بأن له في مقتل عمه يدًا، وكانت تلك الساعة بداية اختلال شعوره. ثم جاءوا باثني عشر طبيبًا من إفرنج وأتراك ومعهم أطباء السفراء للكشف عن سبب القتل، فأصدروا تقريرًا نشرته جرائد ذلك العهد من مقتضاه أن الجراح يمكن أن تكون مسببة عن الانتحار، وجرى دفن السلطان عبد العزيز في الغد بلا احتفال خوفًا من مظاهرة الشعب؛ إذ كان لخبر وفاته تأثير عظيم عند جميع الناس حتى عند أعدائه وخصومه.
انتقلت إلى رحمة ربها تعالى السلطانة مهرى وهي على أهبة الولادة، وذلك من شدة تأثرها على فقد زوجها العظيم الشأن، وقد اشتد عليها الحزن إلى درجة أن وقعت في مرض عضال عجزت عنه حيل الأطباء، فذهب بحياة تلك السلطانة البارعة الجمال، وسيحتفل غدًا بدفنها في يكى جامع تغمدها الله برحمته ورضوانه.
وفي ٢٠ يوليو «تموز» اجتمع السادة الأعلام والأئمة والمشايخ للاحتفال بمشهد السلطانة مهرى، فساروا أمامه يرتلون، وسار الناس وراء النعش، وكان مغطي بشال كشميري ثمين يتبعه بعض الباشاوات والوزراء، وكان الخصيان والأغاوات يتناوبون حمله اتباعًا للعادة الشرقية في مآتمهم إلا ضابطًا كان يحمل ويرفض إخلاء مركزه، وكان ذلك الضابط مرتديًا بدلته العسكرية، فعرفه الناس إنه حسن بك شقيق المتوفاة، وكانت عيناه تتقدان نارًا تطفئهما من آن إلى آخر دمعة أحر من الجمر، وكان يجيب كل من يطلب إليه الراحة: لم يبقَ لي إلا هذه اللحظة اليسيرة لحمل هذه الشقيقة العزيزة فلا تحرموني منها.
ولما وصل الناس إلى تربة السلطان أيوب وأروا الجثة في حفرة، وبعد أن أقاموا عليها الصلاة، وكرروا عبارات التعزية لشقيقها الحزين عاد كل إلى عمله، وبقي شقيقها وحده على القبر متكئًا على جذع شجرة غائصًا في بحار التأملات والأفكار، فلم يفق إلا وقد وجد نفسه وحيدًا على ذلك الضريح، وقد خيمت عليه رهبة الموت وهيبة الأبدية، فتنهد من قلبٍ مقروح، ثم صاح: أي مهرى العزيزة، لأقسمنَّ بضريحك إني لأجعلن عظامك تهتز طربًا عندما تشعر بمرور جثت أعدائك، فإذا سمعت تلاوة الصلوات والآيات تذكري شقيقك؛ لأنه لا يطيل عليك بعاده، فهو لاحق بك عن قريب، وهذا البدر لا يصير هلالًا حتى تُحفر حفرتي إلى جانبك …
قال هذا ونهض وانتفض منتعش الفؤاد لذلك اليمين، وخرج من التربة صابرًا، فدهش جميع من رآه، وأعجبوا من صبره واحتماله مصابه …