مجلس الوزراء
كانت وفاة السلطان عبد العزيز الضربة الأولى على عقل السلطان مراد كما قلنا، وقد بلغ منه التأثر حدًّا أعدمه لذة الرقاد وتناوبته الحمى، فأشار الأطباء بوجوب انقطاعه عن النظر في شئون الدولة واللهو بالتنزه والتسلية.
وهكذا تعذر على الوزراء الاجتماع في السراي، فصاروا يعقدون جلساتهم تارة في الباب العالي، وطورًا في السر عسكرية، وأحيانًا في دار مدحت باشا.
ثم شعر حسين عوني باشا بهياجٍ بين الحزب العسكري القديم وبميلٍ إلى نجل السلطان عبد العزيز، فعزم على نفي رؤسائه وفي مقدمتهم حسن بك زعيمهم، فرقَّاه أولًا إلى رتبة قومندان الفيلق السادس المقيم في بغداد، ثم أصدر أمره إليه باتباع فيلقه، فأبى حسن بك الرضوخ، فأمر السر عسكر بسجنه، فبعد أن عقل أربعة أيام مسجونًا تظاهر بالرضوخ والامتثال، فأخلوا سبيله بعد أن شرطوا عليه السفر في الغد، وهكذا خرج من سجنه فسار أولًا إلى منزله فارتدى بدلته العسكرية، وأخفى تحتها مسدسين وخنجرًا، واكترى زورقًا، وسار إلى تربة السلطان أيوب فدخلها، وسار إلى قبر شقيقته فجثا وصلى، ثم عاد إلى زورقه قاصدًا أسكى دار. ولا يخفى أن أعيان الأستانة وعظماءها قد اختاروا ذلك القسم الآسيوي من الأستانة مقامًا لهم. وكان لحسين عوني باشا فيها دار جميلة فيممها حسن بك حتى وصلها، فأخبره الخدم أن الوزير قد سار إلى إستانبول لحضور مجلس الوزراء الذي سيُعقد في ذلك المساء عند مدحت باشا، فعاد حسن على أعقابه حتى وصل بزورقه إلى أسكلة «سركجى» فانحدر إلى البر، وأخذ يسير في الطرق العوجاء الضيقة، وكانت الشمس قد غربت وأسدلت الظلماء نقابها الحالك، فقال حسن: ها قد بدأ الاجتماع وآذنت الساعة، فخف عاجلًا حتى صار أمام الدار فوجد الخدم قد فرغوا من طعام المساء، وأخذوا يشربون القهوة ويدخنون بكل سرور وهناء، فلما عرفوا حسن بك خفُّوا للقائه والتسليم عليه، وصعد السلم فلم يعارضه أحد، وكان أحد الأغاوات جالسًا في أعلاه ينتظر أوامر الوزراء، فلما رأى حسنًا عرفه فتقدم إليه وسأله مدهوشًا: أي حسن بك، أي حظ ساقك إلى هنا؟
– إني مسافر غدًا؛ ولذا رغبت في مقابلة وزير الحربية لمفاوضته في أمر هام.
– إن دولته في المجلس الآن، وأشار إلى القاعة حيث كان الوزراء مجتمعين، وقد أسدل على الباب ستار من حرير.
– ولكن لا بد من مفاوضته الساعة.
– أتريد إذن أن أعلم ياوره بذلك؟
– من هو الآن؟
– توفيق بك.
– وأين صلاح الدين؟
– ذهب هذه الساعة إلى الباب العالي، وأرجوك أن تبتعد قليلًا حتى أستدعي لك توفيق بك.
فتظاهر حسن بالامتثال وابتعد إلى النافذة، فانحدر الأغا يبحث عن ياور الوزير، ولم يكد يغيب عن الأنظار حتى تقدم حسن الهوينا مشيًا على رءوس قدميه، ورفع ستار الباب بخفة فوجد الوزراء مجتمعين حول منضدة، وأوراق كثيرة مكدسة أمامهم وهم يتباحثون بصوت عالٍ، فأدار لحظة قليلًا متفحصًا مراكزهم، وتناول المسدسين من جيبه وسقط عليهم كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، فتقدم أولًا إلى حسين عوني باشا مصوبًا مسدسه إليه، وانتهره قائلًا: حسين عوني إياك أن تتحرك خذها وأطلق عليه رصاصة أصابته في صدره، فتمكن رغمًا من ذلك من النهوض، ولكن حسنًا عاجله بضربة خنجر جندله بها قتيلًا فذُعر الوزراء، وقاموا يطلبون النجاة إلا رشيد باشا، وكان ضعيف القلب والبنية، فأغمي عليه وبقي في كرسيه، وتمكن مدحت باشا مع بعض الوزراء من الفرار من باب سري يؤدي إلى الحريم، وحاول أحمد باشا مدة القبض على حسن، ولكن أصابته رصاصة في كتفه فتركه وفر هاربًا، وأدار حسن لحظه في القاعة فلم يجد إلا حسين عوني قتيلًا ورشيد باشا مغمى عليه في كرسيه، وكان لا يريد قتله، ولكن الغضب قد أعماه وبغير أن يدرك ما هو فاعل تقدم إليه وصوب بمسدسه إلى أم رأسه وأطلقه فمات لساعته منتقلًا من غيبوبة الإغماء إلى الموت بدون ألم. ثم تراكض توفيق بك والخدم لما سمعوا إطلاق الرصاص وصراخ الوزراء، فوجدوا حسن بك وحده في الغرفة مع جثتي الوزيرين يحاول خلع باب الحريم الذي مر منه بقية الوزراء، فاستل توفيق بك حسامه وهجم على الشركسي وضربه ضربة انفجر بها دمه، ولكن حسنًا التفت إليه، وقال: تعلَّم يا توفيق الضرب، وعاجله بضربة واحدة خر بها قتيلًا لساعته وذُعر الخدم، فلم يتجاسر أحد أن يتقدم إليه، وعاد هو يحاول خلع الباب والنساء يولولن من الداخل والخدم من الخارج، فتجمع الجند وهجموا عليه، وهو يدافع عن نفسه دفاع الأسود فقتل منهم اثنين، وأصيب هو بجراح كثيرة، فسال دمه وانحطت قواه. ورأى أحد الأغاوات ذلك، فقال: ضربة واحدة كافية للإجهاز عليه، وإذا بصوت هائل يصيح من الخارج: لا … لا تقتلوه إنما القتل فخرٌ للأبطال، فهو لا يستحق موت الحسام، بل الشنق بالحبال. فالتفت حسن إلى ذلك الصوت فرأى صلاح الدين هاجمًا عليه يريد اعتقاله وشد وثاقه، فصاح به حسن: ويك يا صلاح الدين … إلى الوراء … إياك أن تتقدم، وصوب مسدسه إليه، فصاح به صلاح الدين: خسئت من نذل مهان، وإذا برصاصة أصابت صلاح الدين في صدره فوقع يختبط بدمه، وكان قد احتال بعض الضباط في تلك البرهة على حسن، فشدوا وثاقه، وأخذوا يضربونه، فخرج مدحت باشا ومنعهم من قتله، وقال: دعوه حيًّا لمحاكمته.
وطار الخبر للحال في الأستانة فقامت لهذا النبأ وقعدت، وكانت تلك الحادثة الضربة القاضية على عقل السلطان مراد، فاختل شعوره تمامًا، وتخلى مضطرًّا عن العرش إلى أخيه عبد الحميد أفندي (السلطان الحالي).