حمَّام الطوبخانة
فحدث أن في غرة جمادى الأولى من تلك السنة؛ أي قبل ستة أشهر من عيد رمضان، اكتظَّ ذلك الحمَّام على اتساعه بالمستحمات، وكان بين غسالاته امرأة عجوز اسمها فاطمة لا ينظر إليها أحد بعين الاهتمام؛ لفقرها المدقع أولًا ولأنفة نفسها خصوصًا، فبقيت ذلك النهار بلا عمل على الرغم من كثرة الزائرات، فجلست تنظر بعين الحسد إلى زميلاتها وهنَّ منهمكات وهي مكتوفة اليدين، وإذ رفع ستار الباب ودخلت جارية زنجية تحمل صرة ثياب وراءها امرأة في مقتبل العمر جميلة الصورة معتدلة القوام على سذاجة في الملابس، فظن الحاضرات أنها زوجة «أفندي عادي»، ولا سيما لأنها لم تكن مصحوبة إلا بجارية واحدة، والنساء التركيات يفاخرن بكثرة الجواري والعبيد والخصيان. فقامت فاطمة للقائها مؤملة أن تلقى منها التفاتًا وإقبالًا وقالت لها: هانم أفندي قد أُخذت جميع المحلات في هذا الطابق، فهل تريدين الصعود إلى الطابق الأعلى؟
– لا بأس.
فتقدمتها فاطمة تدلها، وأدخلتها إلى مخدع جميل، وبسطت فيه سجادة عجمية، وساعدتها على نزع «فراجيتها»، ثم سألتها أتريدين غسالة أو تنوب الجارية منابها؟
– بل أريد غسالة … وأريد أيضًا أدوية … وصبغ الحياءُ وجهها …
فقالت فاطمة العجوز في نفسها … وأي دواءٍ تريد هذه المرأة الجميلة ذات البنية القوية؟ ثم قادتها إلى صحن الحمام الذي ينحصر فيه البخار، فدهشت المستحمات من جمال تلك الزائرة الجديدة، واعتدال قوامها، وبياض بشرتها الناصع، وقد سدلت شعرها الحالك على منكبيها فأزعجها تصويب الأنظار إليها، وطلبت غرفة مستقلة، فقادتها الغسالة إلى مخدع جميل وأجلستها على مقعد من رخام، وشرعت تسعى في تهيئة ما يلزم لها، وأما الجارية فبقيت في الطابق الأعلى تحرس ثياب سيدتها، فجلست المرأة، ثم تنهدت الصعداء من قلب مقروح، ووضعت رأسها بين يديها مفكرة وقد كبر الهم عليها.
فلما رأت الغسالة حالة تلك السيدة، رأت من باب الملاطفة أن تسألها عن حالها، فقالت لها: هانم أفندي ما لكِ حزينة كئيبة؟ هل ينقص هذا الجمال الفتان شيءٌ من السعادة والهناء؟
– وا حسرتاه، أي سعادة وأي هناء! إني أشقى خلق الله، كأني من عبَّر عنه الشاعر بقوله:
فأجابتها العجوز: لو تعلمين شقائي لعرفتِ أنك سعيدة، وأن في الدنيا من هو أشقى منك بكثير.
– أحقًّا أنت تعيسة نظيري، أخبريني مصابكِ، فإني أشعر بميل وانعطاف إلى كل مسكين.
فشرعت العجوز تغسلها وتدلك بدنها، وتقص عليها ما أصابها في حياتها من الشقاء، وكيف أن الدهر قد أخنى عليها إلى حد أن اضطرت أن تكون غسالة في الحمامات بعد أن كان عندها العبيد والجواري. فلما فرغت من حديثها قالت المرأة: أحقًّا قد احتملت كل هذا الشقاء، وأصابك كل هذه المصائب؟ نعم، إنه لمصاب عظيم أن تسقط امرأة شريفة نظيرك إلى هذا الحد من الفقر والمسكنة، ثم تبسمت وقالت: نحن في يد العناية كحبات الرمال إذ تتلاعب بها ريح السموم.
ولما فرغت من الاستحمام وقفت، وارتدت ملابسها الحريرية، وسارت إلى غرفة الاستراحة تطفئ ظمأها بشرب المثلجات والمبردات والتدخين، وأمرت بمثل ذلك إلى العجوز، ثم جلست وقد عاودها الهم وبدا على وجهها الاضطراب، وأرادت أن تطلب الدواء فمنعها الحياء، ولكن ما عتمت أن استأنست من العجوز لطفًا، فتغلبت على حيائها، وأمسكت بيد العجوز، وقربت فمها من أذنها، وقالت لها همسًا بعد أن صبغ الحياء وجهها: يقولون إنك ماهرة في وصف الأدوية … فأرجوك أن تصفي لي دواءً … ولم تجسر أن تسميه أو تعنيه.
فقالت العجوز وقد فهمت ما تريد: لا أشير عليك بأخذه؛ لأنه يعرضك لخطر الموت، وأنا الوحيدة في هذا المكان التي تعارض هذه العادة السيئة.
فخجلت الهانم من هذا الكلام، وغطت وجهها بيديها حياءً، وطفقت تبكي.
– لا أريد هانم أفندي توبيخك، وقد عرفت سبب حيائك وخوفك، فتلك إرادة الله لا يحق لأحد معارضتها.
فأجابتها هذه باكية: قد قلتِ الحق، ولكن لا بد لي من شرب ذلك الدواء؛ لأني هالكة على الحالين، فإذا ما هيأته لا أدري إذا كان عندي جرأة كافية لتجرعه. قالت هذا وضجت بالبكاء والنحيب.
– ما معنى هذا البكاء … عفوًا على جرأتي مولاتي … وإنما أريد مشاطرتك مصابك، فقلبي منعطفٌ بكليته إليك.
– إن من الفؤاد إلى الفؤاد سبيلًا، أنا شقية، ولا أجسر أن أبوح بشقائي لأحد في العالمين على أنه:
وقد عيل اصطباري وطفح كيل همومي، ثم صمتت هنيهة، وقالت: أعيريني سمعكِ … إني مذنبة لدى مولاتي، ثم تداركت قولها فقالت: لدى الهانم أفندي وأنا مدينة لها بكل شيءٍ، ولكن النصيب قد قدَّر فكان … فالباشا متغيب الآن، ولا يمكنه أن يحول دون انتقام الهانم مني، وقد عرفت هي ذنبي، وتروم مني إخفاءه … قبل رجوع زوجها. وهل للهانم أولاد؟
– لا، وهذا مما زاد في حنقها.
ففكرت العجوز قليلًا، وعضَّت على شفتها السفلى مفكرة.
فقالت لها الهانم: حاولت عبثًا إخفاء إثمي والتكفير عن ذنبي، ولكن هذا ذنب لا يمحى إلا بالإثم، نحن وا أسفاه البنات الشركسيات يتركنا آباؤنا منذ نعومة أظفارنا، فيلتقطنا الغرباء لجمالنا، فنقضي حياتنا وليس لنا أهل ولا ولد، فإذا شعرنا بمولود في أحشائنا كان ذلك عزاءنا الوحيد، وموضوع حبنا، وكعبة آمالنا، ندافع عنه بأزواجنا، ولكن وا حسرتاه هو كالزهرة لا تكاد تفتح حتى تُقطف، وكالغصن لا يثمر حتى يُقصَف، وأنا مع شقائي أشعر بلذة بما أنا فيه.
فاغرورقت عينا العجوز أسفًا لحالة المرأة.
– آه، قد رقَّ قلبك لحالي ورثيت لمصابي … جزيت عني خيرًا … هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بحي يشاركني في عواطفي … والآن أرجوك أن تقنعيني بالعدول عن عزمي والإقلاع عن جرأتي … آه إني مدفوعة إلى هذا الطلب … مرغمة عليه … آه قد وهنت قواي وحُلت عزائمي. قالت هذا وانطرحت بين ذراعي العجوز تجهش بالبكاء.
فأخذت العجوز تقبِّلها وتهدئ روعها تخفيفًا لمصابها، ثم قالت: لا يحق لي أن أعلم بأكثر مما علمت، ولا أن أعرف اسم سيدك، وأصرح لك بامتناعي عن أن أمد يدًا لصنع ذلك الدواء المخالف لذمتي ولمشيئة الخالق — سبحانه وتعالى — فتشجعي يا بنية، واعتصمي بالصبر الجميل؛ فالله القادر على كل شيء ينجيك، ويمكنك التخلص من انتقام الهانم إذا تظاهرت بالخضوع لها والامتثال لأمرها. أما أنا فمقيمة في محلة الطوبخانة في بيت خشبي حقير في الزقاق المعروف «بالشبوقجي»، ومهما كان بيتي صغيرًا حقيرًا فهو يسعك وولدك، والبيت الضيق يسع ألف صديق، فثقي بإخلاصي وصفاء نيتي، واعلمي أن لكِ في قلبي محلًّا رحيبًا.
– جزيت خيرًا يا فاطمة، وأخذت يد العجوزة فقبلتها اتباعًا للعادة التركية، ثم قالت سأذكرك ما دمت حية، وسأتبع نصائحك، وأسأل الله أن يباركك؛ لأنك لم تخيبي رجاءَ «إقبال» المسكينة.
ثم لبست ثيابها، وخرجت مطمئنة الفؤاد قليلًا، فتقدمت الجارية، وقالت للعجوز: هل لك أن تخبري «أحمد» أن يتقدم بالعربة، فخرجت العجوز إلى باب الحمام وصاحت يا أحمد، فتقدم عبدٌ أسود كبيرٌ؛ فقالت له: أخبر الحوذي أن يتقدم بعربة الهانم، فأشار إلى الحوذي. ولما دنت العربة من أمام الباب رأت العجوز الطغراء العثمانية منقوشة على العدة، فأخذتها الدهشة لما عرفت أن تلك المرأة ليست جارية لأحد الباشاوات، بل إنها من الحرم السلطاني ثم تقدمت الهانم «إقبال» بردائها البسيط، ونقدت العجوز دينارًا عثمانيًّا، وشكرتها كثيرًا، وركبت فسارت بها الخيل تنهب الأرض نهبًا.
وفي المساء عادت العجوز إلى بيتها، وأخبرت زوجها بما رأت من أمر تلك الفتاة التركية، وأخذ العجوزان يتساءلان من تكون هذه؟ وما هو شأنها؟
ثم مضت الأيام والأسابيع والشهور على تلك الحادثة فنسياها تمامًا، وذهب الصيف والخريف وجاء الشتاء بقرِّه حتى كان ما كان من أمر عيد رمضان والهدية. فلما أخبرها زوجها بالتقائه بخصي السراي، وما سمعه لما نادى الخادم «أحمد» فكرت بهذا الاسم لما نادته هي في الحمام كما تقدم.
فتأكدت حينئذ أن الطفلة هي ابنة إقبال بعينها، وأنها قد حفظت وصيتها، ورأت هي وزوجها من باب الحكمة والصواب أن يهجرا محلة «الطوبخانة» خوفًا من بث العيون والأرصاد أو من وشاية الجواسيس والحساد، فذهبا مختبئين في قرية في أعالي البوسفور يقال لها بايكوس في ناحية أسكي دار، وأفرغت المرأة جهدها اعتناءً بالطفلة.
ومما زاد العجوز اقتناعًا بأن الطفلة هي ابنة إقبال أن وجدت في طاقيتها خاتمًا ذهبيًّا مرصعًا بحجر كريم من الزمرد رأته في خنصر إقبال لما جاءت مستحمة، ودرءًا للشبهة ومنعًا لاقتفاء الأثر أشاع الشيخ في محلته أنه عازم على الإقامة في إستامبول في محلة «شيخ زاده باشي» ولم يصحبه معه إلا الظئر التي رضيت أن تكون للطفلة مقام أمها.
وشرعت فاطمة من ذلك العهد تفرغ الجهد سعيًا وراء معرفة مقر إقبال في القصر السلطاني؛ لتخبرها عن مقامها الجديد، ولكن قد كان دون ذلك أهوال؛ إذ كيف يتسنى لها معرفتها بين مئات من السراري والجواري في ذلك القصر العظيم. ففكر زوجها الشيخ طويلًا، فرأى أن أحسن وسيلة هي أن يذهب كل يوم إلى نواحي القصر السلطاني متنزهًا يترقب خروج الخدم والخصيان ورجوعهم؛ حتى يعثر بالخصي أو الخادم (أحمد) الذي لقيهما أثناء رجوعه إلى البيت مساء عيد رمضان، فتزيا بلباس بائع حلويات، واشترى علبة نقالة، وملأها من أنواع الحلوى المختلفة، وصار يتأبطها كل صباح، فيعبر البوسفور قاصدًا سراي «طلمه بغجه» التي كان يفضلها السلطان عبد المجيد على جميع قصوره.
وكان الخدم والخصيان يكثرون من الترداد إلى ميدان السراي، فيجيء عثمان بعلبته ويقف في الطريق المؤدية إلى شارع «بشكطاش إلى أورطه كي»، فلم يلبث طويلًا حتى أصبح جميع خدم السراي وحشمها من معارفه ومعامليه، وكان هو يتفحصهم واحدًا بعد واحد، فتحقق أخيرًا أن الخصي وأحمد ليسا بينهم، وكانت صورتهما قد رسخت في ذهنه، ولئن كان لم يشاهدهما إلا لحظة واحدة لما برقت السماء، ولكي يبالغ في التأكيد ادعى يومًا أن خصيًّا اشترى منه حلوى بالأمس بثلاثين بارة لم ينقده إياها، فجاء الخصيان بعضهم بالبعض وهو يتفحصهم جيدًا، فتأكد أن الخصي الذي يطلبه ليس بينهم، فعزم حينئذٍ على الانتقال إلى سراي أخرى، وظل على هذا المنوال من البحث والتنقيب مدة ثلاثة أسابيع يجتاز البوسفور كل صباح، ويقف على قارعة الطرق تحت المطر الوابل في ذلك الشتاء القارس؛ حتى عثر أخيرًا على ضالته المنشودة، فرجع ذات يوم إلى قريته فرحًا مسرورًا، وألقى علبته في زاوية البيت، وقال لامرأته: من تأنى نال ما تمنى، وكل من سار على الدَّرب وصل، لا حاجة لي بهذه العلبة بعد الآن، فقد عرفت السراي، ولقيت الباب، وجاء دوركِ، وعليك تدبير حيلة نسائية للوصول إلى إقبال. أما الحيلة فهينٌ تدبيرها؛ فعند أي هانم هي؟
– عند السلطانة عليَّة هانم عمة مولانا السلطان وقرينة محمود باشا داماد.
– يا رباه … أهي عند تلك السلطانة الظالمة … أقسى امرأة خلقها الله في آل عثمان؟!
ثم قالت: عسى أن تكون الأيام والسنون قد دمثت شيئًا من أخلاقها، ولكن مهما يكن من أمرها فلا بد من الوصول إلى إقبال وعلى الله الاتكال.
– إن شاء الله.