وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
كانت الأستانة في ٧ سبتمبر ١٨٦٩م في قيام وقعود استعدادًا لاستقبال زائر كبير وضيف عظيم، وكانت ألوف من الزوارق ومئات من البواخر مكتظة بالمتفرجين والمستقبلين تشق عباب البوسفور ذهابًا وإيابًا، وكان أهالي الأستانة كبارًا وصغارًا يتسابقون ويحتشدون بين شاطئ أوروبا وآسيا لانتظار ذلك القادم العظيم، وقد رفعت الحرم من مقاصيرهن الحواجز الشبكية، وصوبن نظاراتهن نحو بحر مرمرا يستطلعن تلك الباخرة التي تقل ذلك المنتظر، وقد حق لهم جميعًا ذلك الانتظار وذلك الاحتفال؛ لأن الزائر ذلك اليوم كان الإمبراطورة أوجيني قرينة نابوليون الثالث، وكان نابوليون الثالث في ذروة مجده وقمة سؤدده، وكانت تلك هي المرة الأولى التي جاءت فيها إمبراطورة فرنسوية إلى عاصمة الشرق زائرة حالة ضيفة كريمة عند سلطان آل عثمان.
وكان السلطان عبد العزيز — كما ذكرنا — ميالًا إليها معجبًا بجمالها، فبالغ في الاحتفال بقدومها، والاحتفاء باستقبالها حتى إنه أمر بتجديد فرش السراي كله، وبأن يُجلب من باريس أثاث للغرفة التي أعدها للإمبراطورة كأثاث غرفتها في قصر التويلري تمامًا حتى لا يخال لها أنها خرجت من سرايها، وأنشأ زورقًا يبهر الأنظار بقبته المذهبة وستائره المخملية ومقاعده الحريرية، وكل ذلك لنقلها بضعة أذرع من الباخرة إلى السراي … وغير ذلك من الاستعداد الدال على الكرم الشرقي والبذخ التركي. وكانت الشمس ذلك اليوم ساطعة والجو صحوًا والهواء بليلًا، فلم يلبث الناس طويلًا في الانتظار حتى أطلت الباخرة «النسر» الباهرة تقل جلالة الإمبراطورة، فبدأت الحصون والمعاقل بإطلاق المدافع تبشيرًا بقدومها، وسارت الدوارع التركية إلى لقائها، فأحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، وقد صعد البحارة إلى أعلى السواري يصيحون «لتحيَا الإمبراطورة أوجيني».
فلما وصلت الباخرة أمام سراي بيكلربك المعد لنزول الإمبراطورة ألقت مرساتها، وانحدر السلطان بنفسه إلى لقائها، وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها، فلم يطأ السلم حتى رفعت الباخرة العلم العثماني يخفق مع العلم الفرنساوي المثلث الألوان.
ولم تمضِ برهة يسيرة حتى أطل السلطان عبد العزيز من أعلى السلم مرتديًا ثوبًا مثيرًا، وذراع الإمبراطورة ملتفٌّ بذراعه، وهي لابسة ثوبًا جميلًا ناصع البياض يزيدها حسنًا وجمالًا، وقد أثر بها ذلك المشهد البديع والاحتفاء الشائق.
وأجلسها السلطان في الزورق عن يمينه، وكان السفراء والوزراء والأمراء والعلماء وكبار المملكة جميعًا بانتظار جلالتها في سراي بيكلربك، فقدمهم السلطان إليها، ثم عاد إلى سراي «طلمه بغجه» حيث كان قد أعدَّ لها مأدبةً شائقة للمساء.
وكان بين ذلك الجمع المزدحم شابٌّ جميل الصورة شركسي المنظر برتبة أميرالاي يحاول عبثًا الوصول إلى الإمبراطورة فيحول دونه الزحام، ثم رأى بين ذلك الجمع وجهًا يعرفه، فبرقت أسرَّة وجهه فرحًا؛ إذ رآه يتبسم له ويشير إليه بالتقدم منه، فلما وصل إليه مد له يده وصافحه قائلًا: كيف حالك يا صلاح الدين؟ قد أنقذتني الآن؛ لأني كدت أموت خنقًا من الزحام.
– انتظر قليلًا لأقدمك إلى جلالة الإمبراطورة، فإن سفيريْ روسيا والنمسا يحيطان بها الساعة.
– مسكين أنت يا صلاح الدين، من كان يقول إنك ستقضي سنتين في سفارة باريس، وأنت قد سرت للقيام فيها بضعة أيام.
– نعم، قد طال غضب السلطان عليَّ، وبحجة ترقيتي أبعدوني قصيًّا، ولكن لم أعدم لحسن الحظ الأخبار السارة، فهي التي ساعدتني على احتمال مصابي، على أن الفضل عائدٌ إليك يا حسن وإلى كتبك المتواصلة … في كل حال.
– لم أقضِ إلا واجب الصداقة والإخاء … ويا حبذا لو أمكنني المزيد.
– أنا معترف بجميلك ذاكر معروفك. ثم التفت نحو الإمبراطورة، فقال: تعال لأقدمك إلى جلالتها؛ إذ الفرصة مناسبة.
ولما كان صلاح الدين قد عُيِّن حاجبًا خاصًّا للإمبراطورة حقَّ له تقديم صديقه حسن الذي كان يجهل اللغة الفرنسوية.
فاستقبلته الإمبراطورة بلطفها المعهود، والتفتت إلى صلاح الدين قائلة: اعذرني أمام مواطنيك لجهلي اللغة التركية؛ إذ يعسر على مجاوبتهم على تهانيهم، وليس لديَّ ترجمان أبرع منك وأنت تحسن اللغتين. فانحنى الضابطان احترامًا وامتنانًا، ورجعا القهقرى مسلمين، ومن ثم انحدر الصديقان إلى زاوية البستان عند شاطئ البحر يتحدثان.
فقال حسن: لا شك أن مأموريتك قد جعلتك أسيرًا، فمتى يتسنى لك يا ترى الذهاب إلى أورطه كي؟
– لا أعلم، لكن لا بد من ذلك فقد صافحت والدي للساعة بين القوم، ولم أتمكن بعد من معانقة والدتي، وإني أنظر البيت فهو لم يتغير من ظاهره شيء، ثم حدَّق بنظره إليه قليلًا، وقال: الحمد لله، ثم الحمد لله ها أنا في تركيا، ويخال لي أني كنت في منام وما شاهدته أضغاث أحلام، وقد عزمت على الإقامة هنا، ولو كُلفت الاستقالة؛ لأني أريد الاقتران.
– قد أحسنت وأصبت.
وأدرك حسن أن صديقه سيلقي عليه أسئلة يريد التملص منها، ويثقل عليه الجواب عنها، فقال صلاح الدين مستأنفًا: لم تذكر لي شيئًا يا حسن في كتابك الأخير المؤرخ في ١٠ مارس عن فاطمة هانم، وقُطعت منذ ذلك العهد أخبارك، فلِم هذا الصمت؟
– بلى حررت لك مرتين من ذلك التاريخ، ألم يصلك شيءٌ مني؟
– لا، ولكن كيف حال فاطمة هانم وعائشة؟
– عائشة هانم هي بكل خير وعافية، أما فاطمة هانم فكنت واهمًا أنك عالم منذ شهرين.
– بأي شيء؟
– بوفاتها.
– أماتت؟! لا إله إلا الله … وقد بقيت عائشة وحدها مع أحمد، ولكن لِم لَم تأخذها والدتي إلى أورطه كي؟ مسكينة … لا شك أنها اتهمتني بالصد والجفا، ويحق لها الشكوى.
وتضايق حسن من هذا الحديث، وأراد التخلص منه فقاطعه الكلام قائلًا: خصي شقيقتي مهرى سلطانة يدعوني، فصاح صلاح الدين مدهوشًا: مهرى سلطانة؟
– ألا تعلم أنها رُزقت ابنًا؟
– عرفت أن قد رُزق السلطان ابنًا، ولم أعلم أن مهرى والدته. فقال حسن مودعًا: أي والله، ثم تركه وانصرف.
وغادر حسنُ صلاح الدين وحده يتعثر بأذياله، ويفكر بما سمع وما رأى، ويتساءل كيف أن فاطمة هانم قد ماتت ولم تعتنِ والدته بعائشة، ولم تأخذها إلى منزلها بعد أن عاهدته قبل سفره على ذلك، ولِم كان وجه والده عبوسًا في الصباح؟ وكيف لم يذكر له حرفًا عن خطيبته وهي مع ذلك لا تزال على قيد الحياة كما أكد له حسن، وكان يشتد قلقه واضطرابه كلما فكر في أن مليكة فؤاده هي على بُعد بضع خطوات منه في بايكوس، وهو لا يستطيع الطيران إليها مقيد بخدمة الإمبراطورة، ثم قام إلى السراي، فجعل يطوف غرفها ليرى إذا كان لا يزال والده حميد باشا بين المهنئين، فوجد أنه كان في مقدمة المنصرفين، فانطرح على متكأ وقد علت وجهه أمارات الاضطراب تشاؤمًا من أمر جلل حدث في أثناء غيابه، وإذ تذكر أن الإمبراطورة مدعوة في المساء إلى العشاء في «طلمه بغجه»، وعليه السير في معيتها قطع كل أمل من الذهاب إلى بايكوس، ومشاهدة مليكة فؤاده.
ثم سمع حفيف ثوب فذُعر، وأنصت بسمعه مبهوتًا، وإذا به وجد الإمبراطورة أوجيني واقفة أمامه وهي في ثوبها الحريري الباهر، والجواهر تتلألأ عليها كالكواكب، فرأت على وجهه أمارات الاضطراب والاكتئاب، فقالت له باسمة متلطفة: كنت أظن وصولنا إلى البوسفور يملأ قلبك فرحًا وسرورًا، فإذا بي أراك حزينًا آسفًا.
– مولاتي، ليس السبب إلا عائلي.
– ألم يطمئنك والدك هذا الصباح؟ أرى أن والدتك لا تزال على قيد الحياة، وأنك ذائب شوقًا إلى مشاهدتها، فبرقت أسرَّة صلاح الدين لهذا السؤال، وأدركت الإمبراطورة فرحه فقالت له: أعفيك من الخدمة هذا المساء، فإلى غدٍ «مسيو صلاح الدين».
– ألف منة وشكر لنعم جلالتك.
فحيته الإمبراطورة بابتسامة، وسارت تتبعها حاشيتها.
فطار صلاح الدين بأقل من طرفة عين إلى الشاطئ، وقفز إلى أحد الزوارق ليس لمشاهدة والدته كما وهمت الإمبراطورية، بل إلى بايكوس لمشاهدة خطيبته ومليكة فؤاده؛ لأن عوامل الغرام أشد فعلًا من عوامل الحب البنوي. فلم يصل إلى بايكوس إلا بعد ساعة، وكانت الشمس قد غابت واشتد الظلام، فلم يهتد إلى الطريق وأضاع السبيل؛ لأنه لم يكن يعرف بايكوس إلا مرة جاءها مساء، وكان أحمد دليله فحاول عبثًا الوصول إلى بيت عائشة والاهتداء إليه؛ لأنه فضلًا عن مضي سنتين على زيارته الأولى كانت حريقة هائلة قد دمرت قسمًا كبيرًا من القرية، فارتعدت فرائصه خوفًا من أن تكون النار التهمت بيت حبيبته، وبينما هو يطوف طرقاتها الضيقة، وإذا به عرف البيت في منعطف طريق، ووقف يطرق الباب وهو لا يسمعه إلا دقات قلبه، فجاء شيخ جليل بيده شمعة وفتح له، فقال صلاح الدين: عفوًا أيها الشيخ الجليل من إزعاجي إياك، أليس هنا بيت أحمد أفندي؟
– أيهما تريد؟ أأحمد الشاب الذي تزوج منذ عهد قريب أو أحمد الدرويش؟
– لا هذا ولا ذاك؛ بل أريد أحمد أفندي خادم المرحوم محمد باشا التونسي، أليس هذا «قناق» (منزل) فاطمة هانم؟
– تريد القادين العجوز؟
– نعم.
ألا تدري أنها ماتت منذ شهرين … ولكن تفضل بك أفندي، واشرب فنجان قهوة.
فدخل صلاح الدين رغبة الوقوف على ما جرى، فعرف للحال أن البيت بيع بعد وفاة فاطمة هانم، وأن عائشة وأحمد هاجرا بايكوس منذ أواخر شهر تموز (يوليو) فشكر صلاح الدين الشيخ عَلى إفادته، وعاد إلى زورقه مسرعًا قائلًا للنوتيين وقد وجدهما ملتفين بالعبي راقدين: العجل العجل إلى أورطه كي، فنهضا للحال وشرعا بالتجديف، واتكأ صلاح الدين على وسادة، ثم رفع رأسه إلى السماء وقد رصعتها النجوم، فقال في نفسه: يا له من بله لا شك أن عائشة هي عند والدتي، وكان يجب أن أذهب أولًا إلى معانقتها، ولكن الحمد لله فهم يعرفون أني مقيد بخدمة الإمبراطورة، وإلا لقلقوا من أجلي كثيرًا.
وأخذ يفكر في أحواله مستغرقًا، وظن النوتيان أنه قد رقد، فلم ينبسا ببنت شفة حتى وصلا إلى أورطه كي، فنادى به أحدهما: بك أفندي قد وصلنا، فنفحهما صلاح الدين أجرة مضاعفة، وقام إلى بيته مهرولًا، وكانت الأزقة خالية والصمت تامًّا، فلما أطل على البيت وجده مظلمًا، فقال في نفسه: «وقد رقدت الحبيبة وقطعت الأمل من مجيئي». ثم طرق الباب بمطرقته الحديدية بعنف، فهرول الخدم للقائه، ولما عرفوه أخذوا يهنئونه بسلامة الوصول، فسألهم عن والده فأجابوا أنه في الحرم. فسار إليه وطرق الباب، فسمع صوت جارية تقول: من هذا؟ فقال: أنا صلاح الدين. فعلَت صيحة الجواري فرحًا وسرورًا بقدومه، وقامت والدته للقائه، ولم يكد الباب يفتح له حتى انطرح بين يديها يقبلهما، وهي تضمه إلى صدرها وتقول مكررة: الحمد لله قد شاهدتك سالمًا معافًى بعد غيبة سنتين، ولكني رأيت هذا اليوم أطول من العامين؛ لأنك كنت قريبًا مني وبعيدًا عني.
وأراد صلاح الدين أن يسألها عن عائشة، وسبب عدم وجودها معها، لكنه تربص ريثما فرغت من معانقته وتهنئته، ثم سألها: أين عائشة؟ فتصامت والدته أولًا عن هذا السؤال، فكرره ثانية، فحدقت إليه بنظرة كئيبة تطيَّر منها صلاح الدين، فصاح مذعورًا: أين عائشة يا أماه؟! فكان جوابها أن أجهشت بالبكاء؛ فصرخ صلاح الدين: أماتت، يالله يا للمصاب! وكادت العبرات تخنقه.
فأجابه والده بصوت مهيب، وكان قد وطئ عتبة الباب: لا لم تمت.
– إذن تزوجت؟
– لا لم تتزوج.
– إذن ماذا أصابها إذا كانت لم تمُت ولم تتزوج وهي ليست هنا، أخانت عهدي يا ترى؟
فأجابت والدته: لو كان الأمر كذلك لما بكت والدتك ابنةً خانت عهد ولدها.
– فأين هي الآن إذن؟
– هي في السراي.
فعضَّ صلاح الدين على شفته حنقًا وغيظًا، لكنه تجلَّد وقال: أتعرفين السبب والتفصيلات؟!
– اجلس لأخبرك يا ولداه بما حدث، ثمَّ مسحت دموعها وشرعت تقص عليه ما جرى في غيابه …