الفصل الثاني
الموسيقى في العصور الوسطى
القسم الأول: آباء الكنيسة
إن ما نعرفه عن موسيقى الحضارة الغربية في الاثنَي عشر قرنًا
التي بدأَت بميلاد المسيح، وامتدَّت حتى ظهور النزعة الإنسانية
المدرسية في القرن الثاني عشر ليزيد عما نعرفه عن الموسيقى
اليونانية في الاثنَي عشر قرنًا التي بدأَت بعصر هوميروس، وانتهت
بتدهور الحضارة اليونانية. غير أن معرفتنا بالموسيقى الفعلية في
القرون المسيحية الأولى أقرب إلى أن تكون ضربًا من التخمين؛ إذ ليس
لدينا من الموسيقى الدينية أو الدنيوية الحقيقة في هذه الفترة إلا
القليل، إن كان لدنيا منها شيءٌ على الإطلاق. غير أن حظنا أسعد إلى
حدٍّ ما بالنسبة إلى الموسيقى الدينية والدنيوية التي حُفِظَت لنا
في صورةٍ معدَّلة منذ النصف الأخير من العصر الوسيط. ولا جدال في
أن ما تراكَم لدينا من مخطوطات العصور الوسطى أوفَرُ مما لدينا من
سجلات الموسيقى اليونانية، التي لا نملك منها إلا شذراتٍ قيِّمة
قليلة العدد. ومع ذلك فمن واجبنا أن نرجع إلى كتاباتِ آباء الكنيسة
وفلاسفةِ العصور الوسطى في روما الوثنية، مثلما رجعنا إلى الفلاسفة
اليونانيين في دراستنا للموسيقى القديمة، وإن شئنا أن نُلِم بخصائص
الموسيقى في العصور الوسطى ودلالتها الجمالية. ولقد عُرِف عن
العلماء المتخصصين في موسيقى العصور الوسطى أنهم كانوا يكرِّسون
حياتهم كلها للبحث في بعض الفروع التي ستتناولها أقسام هذا الفصل.
ومن هنا لم يكن لنا أن نأمل، في هذا الفصل الذي سنحاول فيه أن
نتعرَّض بالترتيب الزمني لفترةٍ من التفكير الموسيقى تقرُبُ من ألف
ومائتَي عام، في شيءٍ يزيد على تأكيد التيارات التاريخية، وتقديم
عرضٍ متواضع للآراء الموسيقية لأولئك اللاهوتيين والفلاسفة، الذين
كتبوا عن طبيعة الموسيقى ومعناها في تلك الفترة.
ولقد كانت الموسيقى المسيحية الأولى من أصلٍ يوناني وعبراني؛ ذلك
لأنه لما كانت المسيحية قد نمَت وتطوَّرَت عن اليهودية، فليس من
المستغرب أن يجد قدْرٌ كبير من موسيقى المعابد اليهودية طريقة إلى
الشعائر الدينية المسيحية. وقد روى القدِّيس بولس أن الترنيمات
المسيحية الأولى كانت مستمدَّة من الطقوس اليهودية. ومن جهةٍ أخرى
فقد اندمجَت موسيقى اليونانيين والرومان في الموسيقى الدينية
للعقيدة المسيحية، وذلك بموافقة كبار رجال الكنيسة حينًا، ودون
موافقتهم في معظم الأحيان. ولم يكن في الموسيقى المسيحية في
البداية من مظاهر الإبداع إلا القليل؛ إذ كانت مزيجًا من الشرق
والغرب، ومن العبرية والوثنية.
كذلك احتفظ آباءُ الكنيسة الأوائل بنفس الموقف الفلسفي من
الموسيقى الذي وقفه رجال الدين اليهودي من موسيقاهم ومن الموسيقى
الوثنية اليونانية والرومانية، فلَم يَرَ هؤلاء الآباء في الموسيقى
الوثنية إلا نفاقًا وشهوانية فحسب. وكانوا يدركون بوضوح أن
الموسيقى الوثنية الإباحية المحيطة بالمسيحيين تُغرِي المؤمن
العادي إغراءً شديدًا بأن يتخلى عن ذلك الوعد غير المضمون بالسعادة
في المستقبل البعيد؛ لكي يعيش حاضرًا يَحفِل بالمسرَّات. ولم يكن
مركز المسيحية مأمونًا، سواء من حيث هي عقيدة، ومن حيث هي قوةٌ
سياسية، حتى ذلك الحين. وفضلًا عن ذلك، كان المسيحيون يتعرَّضون
للإهانات، وكثيرًا ما كانوا يواجهون خصوماتٍ لا تُحتمَل؛ إذ كان
الرومان يزدَرون هذه العقيدة الجديدة التي تؤكِّد خلاص الناس
أجمعين في الآخرة، ويَسْخرون منها. ولم تكن هذه وحدها هي الصعوبات
التي واجهها آباء الكنيسة، والتي كانت تهدِّد بإبعاد المسيحيين عن
عقيدتهم، بل لقد تعيَّن عليهم أن يواجهوا ويقهروا التأثير الهدَّام
الذي يمكن أن يكون للألحان الفاسدة على الحياة الأخلاقية
للمسيحيين.
ولقد كانت الموسيقى الوثنية ممثِّلةً لمعتقدات الوثنيين الحضارية
والاجتماعية والدينية. وهكذا فإن آباء الكنيسة عندما وصفوها بأنها
مُنحلَّة كانوا في الواقع يُعِدون مقارنةً بين الفلسفات الشائعة
لدى الرومان والمسيحيين؛ فلا جدال في أن اهتمام العقيدة الرومانية
بالجانب الحسي قد انعكَس بوضوح على موسيقاها الدينية والغرامية.
وفي مقابل ذلك كانت الموسيقى الرومانية تفتقر إلى تلك الأغاني
المخلصة الشاكية التي كان المسيحي يغنِّيها تقديسًا لربه؛ فقد
اهتمت الموسيقى الرومانية بمشاعر غريبة عن المفاهيم اللاهوتية التي
يتضمَّنها الفكر المسيحي. ولما كانت الموسيقى تصف المجتمع الذي
يضمُّها، فإن أصل الداء هو أولًا في الحضارة الرومانية الفاسدة،
وثانيًا في الموسيقي الوثني الذي كان يصوِّر مجتمعه بنوع من
الموسيقى يثير الانفعالات بعنف، وهي موسيقى يمكن أن يستجيب لسحرها
الوثني والمسيحي معًا. وإذا كان آباء الكنيسة قد وقفوا مكتوفي
الأيدي أمام روما، فقد كان في وسعهم أن يُحاولوا حماية أبناء
طائفتهم من المؤثِّرات الشريرة المترتبة على الموسيقى
الرومانية.
وكان آباء الكنيسة ينظرون بعين الاستياء إلى أي اتجاهٍ إلى
النهوض بموسيقى الآلات أو بالآلات الموسيقية ذاتها. ومن الجائز أن
هؤلاء الآباء الذين عاشوا في القرون الأولى، وتحمَّلوا عبء توجيه
المسيحية في الطريق الصحيح، كانوا ينفرون من الآلات الموسيقية لما
فيها من بقايا المظاهر الوثنية. وهناك احتمالٌ آخر هو أن المسيحيين
الأوائل كانوا مُضطَرين إلى الاجتماع سرًّا، ولم يكن في وُسْعهم
استخدام الآلات في الصلوات الهامسة التي كانوا يقيمونها في تلك
الاجتماعات، خوفًا من أن يستدل عليهم خصومهم.
١
وفي خلال القرنين الأوَّلَين من المسيحية، أبدى آباء الكنيسة نحو
الآلات الموسيقية أو نحو الموسيقى المصاحبة للطقوس الدينية نفس
الارتياب الذي سبق أن أبداه حاخامات اليهود نخوها؛ فقد أشار كليمنت
السكندري (Clement of Alexandria)
حوالي (١٥٠–٢٢٠م) إلى أن «الناي» إنما هو آلةٌ يختص بها أولئك
المؤمنون بالخرافات، الميَّالون إلى عبادة الأصنام. وكان أفلاطون
قد نبَّه من قبلُ إلى أن لهذه الآلة (المزامير) طبيعةً حسية
شهوانية، كما استخدمها اليونان والرومان معًا في شعائرهم
الديونيزية المنتشية الصاخبة. ولم يكن هناك مَفَر من أن ينظر
كليمنت إلى هذه الآلة بمثل هذا التوجُّس؛ إذ إنها أصلَح للتعبير عن
السَّورات الجسدية منها للتأمل الروحي، ولكن كانت هناك بعض الآلات
التي لم يربطها كليمنت بالطقوس الوثنية، أو يَعُدُّها مفسدةً
للأخلاق؛ فقد اقتبس الإشارات الواردة في «العهد القديم» إلى عزف
الليرا (Lyre)، وتأثيره المهدِّئ
في نفس الملك داود. كما أشار إلى تشبيه للفيلسوف اليهودي فيلون
(وُلِد حوالي ٢٠ق.م.) هو تشبيه «لسان الإنسان بقيثارٍ يسبِّح بحمد
الله». وكان فيلون قد نظر إلى الليرا على أنه آلةٌ متحررة من كل
نزعةٍ حسية، تهدِّئ المشاعر وتقضي على الصراع داخل الإنسان، واتفق
كليمنت معه في هذا الرأي.
ولقد كان كليمنت متأثرًا بزميله السكندري فيلون، الذي كانت
فلسفتُه مزيجًا من النظريات الهلنستية والعبرانية. قد حاول فيلون
أن يوفِّق بين الكتاب المقدَّس وبين آراء أفلاطون، وكان مثل
أفلاطون لا يَعُد الموسيقى غايةً في ذاتها، بل يراها إعدادًا
وتدريبًا ذهنيًّا لدراسة الفلسفة. وبالمثل لم ينظر كليمنت إلى
الموسيقى على أنها غايةٌ في ذاتها، وإنما رآها وسيلةً وجدانية
منظِّمة لنشر العقيدة المسيحية.
وقد حفظ لنا التاريخ تعليقًا للقديس يوحنا كريسوستوم («فم الذهب»
في كتب الأقباط)
St. John
Chrysostom وصَف فيه أحوالَ الموسيقى في أواخر
القرن الرابع، وربما في أوائل القرن الخامس. في هذا التعليق ردَّد
القديس يوحنا رأي الكنيسة القائل إن الموسيقى قدرةٌ خاصة، لو
استُخدِمت بطريقةٍ فاضلة لساعدَت كثيرًا على غرس الخير في النفوس.
ولكنه حذَّر آباء الكنيسة قائلًا: إن عليهم أن يتنبَّهوا للقضاء
على خطر أي نوع من الموسيقى يتصف بخصائصَ وثنية، وقد يثير الغرائز
المُنحَطة في الإنسان. وقد أكَّد كريسوستوم أن أخلص حواريِّي
المسيح قد عرف قيمة الموسيقى في غرس التقوى في نفوس الشباب. غير أن
العصر قد تغيَّر منذ أيام القديس بولس؛ ولذا هتف كريسوستوم شاكيًا:
«إن أبناءكم سيُغنُّون أغاني، ويرقصون رقصاتٍ شيطانية، كالطباخين
والندمان (الندل) والموسيقيين، ولم يعُد أحدٌ يعرف شيئًا من مزامير
«داود»، بل تبدو هذه أمرًا مخلًّا، وأضحوكةً تبعث على السخرية، ذلك
هو مكمن الشر كله.»
٢ وقد لاحظ كريسوستوم أن المربِّيات يُهدهِدن الأطفال
الصغار بالأغاني لكي يناموا، كما أن الفلاحين يُغنُّون وهم يجمعون
الكروم ويَعصِرونها، وللنواتي أغانيهم البحرية، وللنساء أنشوداتهن
أثناء النسج. ومن المؤكَّد أن النفس تتحمَّل المشاقَّ والصعاب
بمزيدٍ من السهولة عندما تستمع إلى الأغاني والأناشيد.
ويواصل كريسوستوم كلامه قائلًا: «لمَّا كان هذا النوع من
الاستمتاع فطريًّا مغروزًا في نفوسنا، ولكيلا يتمكَّن الشياطين
الذين يأتون بأغانٍ شهوانية من إفساد كل شيء، وضَع الرب المزامير
(
psalms) لكي يكون الغناء متعة
معونة في آنٍ واحد. إن الأغاني الغريبة تؤدي إلى الضرر والدمار
وإلى كثيرٍ من النتائج المؤسفة الأخرى؛ إذ إن العناصر الشهوانية
الشريرة في جميع الأغاني تستقر في أجزاء من النفس، فتجعلُها أضعفَ
وأشدَّ رخاوة. أما المزامير الروحية ففيها الكثير من العناصر
القيمة، المفيدة القدسية، وهي تشجِّع على الحكمة تشجيعًا تامًّا؛
إذ إن الكلمات تُطهِّر النفس، ويهبط الروح القدس سريعًا على نفس
المغني؛ ذلك لأن من يُغنُّون عن فهمٍ يستجلبون لطف الروح الإلهية.»
٣
وقد كتب القديس هيرونيموس (جيروم)
St.
Jerome (حوالي ٣٤٠–٤٢٠م)، الذي تُعرف ترجمته
اللاتينية للكتاب المقدس باسم «الفولجاتا»
Vulgate يقول: «غنُّوا لله، لا
باللسان، ولكن بالقلب. ولا تفعلوا كمُمثِّلي التراجيديا، حين
يُلطِّخون حناجرهم بعقاقيرَ حُلوة المذاق، حتى تُسمَع الألحان
والأغاني المسرحية في الكنيسة، وإنما ليكن غناؤكم تقوى وعملًا
ومعرفةً بالكتب المقدَّسة. وعلى الرغم من أن المرء قد يكون ناشز
الصوت، كما يقول التعبير الشائع
Kakophonos، فإنه يكون أمام الله
مُغنِّيًا عذب الصوت بأعماله الصالحة، وليُغنِّ خادم المسيح، بحيث
يكون في غنائه متعة، لا بالصوت، وإنما بما ينطقُه من كلمات، حتى
تُطرد الروح الشريرة التي كانت تتملَّك شاءول من أولئك الذين
يُعانون نفس الاضطراب، وحتى لا تنبَثَّ في أولئك الذين يجعلون من
بيت الله مسرحًا شعبيًّا.»
٤
وهكذا كان جل اهتمام الآباء بالموسيقى أخلاقيًّا بحتًا طوال فترة
نمو الكنيسة. وكانوا يعُدُّون الموسيقى وسيلةً لإثراء الصلوات،
فحاربوا الاتجاه الموسيقي إلى التعبير الحر، دون أي أساسٍ فني
لقرارهم هذا. وترتَّب على ذلك أنه عندما ازدادت الكنيسة قوةً
وأصبحَت أقل تسامحًا، صارت قواعدها الموسيقية أوامرَ مطلقة. وإن
جميع إشارات آباء الكنيسة إلى الموسيقى لتهدف، بلا استثناء، إلى
تحديد أفضل طريقةٍ لاستخدامها من أجل تحويل الوثنيين إلى زمرة
المسيحيين أو لتقوية التهجد عند من يؤمُّون الصلوات، فإذا كانت
الألحان التي تُغنَّى بها المزامير
(
psalms) تجذب جماهير الناس،
فعندئذٍ تكون هذه الموسيقى قد أدَّت غرضًا مفيدًا بحق. وقد ذهب
القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) في الفترة الآتية المقتطَفة من
«الاعترافات» إلى حد القول، بكل صراحة: «… في بعض الأحيان تتملكني
الرغبة في أن أطرح بعيدًا عن أذني، وعن الكنيسة كلها أيضًا، لحن
الموسيقى العذبة التي تُغنَّى بها مزامير داود غالبًا … فأستعيد
بذهني الدموع التي ذرفتُها عند سماع أغاني كنيستك، عند بداية فترة
استرجاعي لإيماني، وفي هذه اللحظة التي لا أكون فيها متأثرًا
بالغناء، وإنما بالشيء الذي يتضمَّنه الغناء (عندما تنطلق الكلمات
بصوتٍ واضح، وبالتلحين المناسب)؛ عندئذٍ لا يكون أمامي مَفَر من
الاعتراف بالخير العظيم الذي يجلبه هذا الفن. وهكذا أتأرجح بين
مخاطر اللذة، وبين عادةٍ مفيدة أقرَّها العرف، وإن كنتُ أشد ميلًا
إلى ترك طريقة الغناء القديمة التي جرى عليها العرف في الكنيسة على
ما هي عليه (على الرغم من أن الرأي الذي أقول به في هذا الصدد ليس
قطعيًّا)، وذلك يتيقَّظ في النفوس الضعيفة، بفضل المتعة التي
تنقلها إليها الأذن، الشعور بالتقوى والخشوع. ومع ذلك فكثيرًا ما
كان يحدث لي أن أتأثر بالصوت أكثر مما أتأثر بالنشيد، وعندئذٍ
أعترف لنفسي بأنني ارتكبتُ إثمًا كبيرًا، وأتمنَّى في هذه اللحظات
لو لم أكن قد سمعتُ الموسيقى قط.»
٥
والواقع أن المزامير، التي افتُتن بها الملك داود كل الافتتان،
هي أقدمُ موسيقى عرفها المسيحيون، وإن يكن كرسوستوم قد أعرب عن
قلقه؛ لأنها لا تلقى القبول الواجب من الناس، ولا تُغنَّى كما
يريد. كذلك أشار القديس باسيليوس
St.
Basil (٣٣٠–٣٧٩م) إلى شيوع استخدامها بين الناس في
جميع أرجاء العالم المسيحي، ودافع عن غناء المزامير، سواء منه
التبادلي
antiphonal والتجاوبي
responsory٦ بوصفه أسلوبًا جذابًا يضيف ألوانًا متقابلة شقية إلى
الشعائر الجدية. وقد تضمَّنَت كتاباتُه فِقرةً تكشف بوضوح عن قيمة
غناء المزامير في الحياة المسيحية، وفيها يقول: «عندما رأى الروح
القدس أن البشر غير ميَّالين إلى الفضيلة، وأننا لا نتجه إلى حياة
التقوى نظرًا إلى ميلنا إلى المتعة، فماذا فعل؟ مزج بين تعاليمه
وبين طرب الألحان، حتى نتلقى من خلال جمال الصوت وعذوبته، ما هو
مفيدٌ في الكلام دون أن نشعر، وذلك كما يفعل حُكماء الأطباء، عندما
يعطون الدواء المُر للمريض في كوبٍ يُغطُّون حافتَه بالعسل؛ فألحان
المزامير المتآلفة قد صُنِعت لنا لغرضٍ معيَّن، هو أنه عندما
يغنِّيها الصبية أو الشبَّان، يُغذُّون في واقع الأمر نفوسهم
بالتعاليم المفيدة، وإن كانوا في الظاهر يُنشِدون؛ ذلك لأننا لا
نجد أحدًا من بينهم، ومن بين ذوي النفوس الخاملة، يحتفظ في ذاكرته
بأيٍّ من تعاليم الحواريين أو الرسل، أما نبوءات المزامير فهم
يُغنُّونها في بيوتهم ويُذيعونها على الملأ، فإذا ما وقع تحت تأثير
سحر المزامير شخصٌ يمتلكه الغضب كأنه وحشٌ مفترس، تراه بعد سماعها
ينصرف وقد هدَّأ اللحنُ سورةَ نفسه.»
٧
وهكذا نظر كلٌّ من أوغسطين وباسيليوس وكريسوستوم إلى الموسيقى
على أنها وسيلةٌ لنشر الإيمان، كما حثُّوا الشباب المسيحي على ألا
يتخلى عن المزامير في سبيل الموسيقى الوثنية، فالموسيقى في نظر
آباء الكنيسة هؤلاء، كما كانت في نظر الفلاسفة اليونانيين، يمكن أن
تؤدي إلى تأثيرَين متعارضَين؛ ففي وسعها أن تجعل النفس تنحَط إلى
الدرك الأسفل، مثلما تجعلها تسمو إلى أعلى المراتب، إلى هذا الحد
وصلَت القدرة التأثيرية للموسيقى في نظرهم.
ولقد كانت «مزامير داود» مصدرًا زاخرًا للشعر في الأدب الموسيقي؛
فلم تكن المزامير شعرًا فحسب، وإنما كانت في الأصل أغانيَ محدَّدة
بمصاحبة آلاتٍ موسيقية. وحين أدمجَت الكنيسة هذا الشعر التقليدي
المستمد من التوراة في كيانها اتخذَت منه نصًّا شعريًّا لموسيقاها.
وكانت الطبيعة الشعرية للمزامير مقترنة بالعنصر الغنائي، ملائمة
للطقوس الدينية، إلى حد أن الصلوات في الفترة المبكرة من تاريخ
الكنيسة كانت تتألَّف أساسًا من غناء المزامير.
ومن الأساليب التي كانت تُغنَّى بها المزامير، الأسلوب المباشر؛
أي الذي يُغنَّى فيه المزمور كله مباشرةً دون أية «إضافة أو تعديل
للنص». أما الأسلوب الثاني، وهو الأسلوب التجاوبي
responsory، ففيه كانت طريقة
الإنشاد مماثلةً لطريقة أدائها الأصلية في الكنيس اليهودي؛ حيث كان
العَريف يُغنِّي المزمور، ثم تُجيب المجموعة بكلمة «آمين». ولقد
كان العَريف العبراني في غنائه للمزامير يُفرِط في استخدام الزخرف
الغنائي، ولكن المسيحيين عندما أدمجوا المزامير في شعائرهم الخاصة
حذَفوا التطريب والغناء الزخرفي الذي كان المُرتِّل اليهودي يؤديه،
وطبعوا إنشادهم بطابع من الاستكانة التي تُناسب عقيدةً جديدة
قوامُها التبتل والخشوع. ومع ذلك فلم يمضِ وقتٌ طويل، حتى بدأ
المغنُّون المسيحيون، فرادى وجماعات، يغنُّون بطريقةٍ تطريبية كانت
تزداد تعقُّدًا على مَرِّ السنين. أما الأسلوب الأخير من أساليب
الإنشاد الثلاثة فهو التبادلي
antiphonal، وفيه يُستخدَم نصفا
مجموعةٍ يتبادلان الغناء. وقد ترك لنا فيلون وصفًا حيًّا جذابًا
لهذا الأسلوب.
٨
وهناك نقطةٌ طريفة أخرى تتعلق بالتطريب الذي كانت تُغنَّى به
«التهليلة
Alleluia»، وهي العبارة
التي كانت تردُّ بها الطائفة على المُغنِّي المنفرد. والمعنى
الحرفي لكلمة «أليلويا» أو «هليلويا» هو سبِّحوا بحمد الله (أو
هلِّلوا له). وكان غناؤها بطريقة التطريب، الذي اشتُهر بأنه كان
يطول أحيانًا حتى يبلغ ربع الساعة، مع تفاوُت في درجاته في الكنيسة
البيزنطية. ويرجع استخدام التسبيحة
gubilus إلى صورة الفرَح التي كان
يُعبِّر عنها المقطع الأخير من الأليلويا، والتي كان يُستخدَم فيها
التطريب أيضًا. وقد عرَّف أوغسطين هذا الجزء (أي «التسبيحة»
Jubilus) بأنه نوعٌ من الحمد لله
يُعبِّر عن مشاعرَ إنسانيةٍ لا يمكن نقلُها بالكلمات أو الحروف
وحدها: «فمن يُغنِّي التسبيحة لا ينطقُ كلمات، وإنما هي أغنيةُ فرح
دون ألفاظ، وهي صوتُ القلب المُفعَم بالسرور، الذي يُحاوِل التعبير
عن شعوره على قَدْر استطاعته، حتى لو لم يكن يفهم المعنى، وعندما
يطرب المرء حتى يُغنِّي التسبيحة، فإنه ينتقل من أصواتٍ لا تنتمي
إلى الكلام، وليس لها معنًى خاص، إلى التسبيح دون ألفاظ؛ بحيث يبدو
بالفعل أنه مبتهج، غير أن فَرحَه أعظم من أن تُعبِّر عنه الكلمات.»
وقد تساءل أوغسطين، مشيرًا إلى المزمور الثاني والثلاثين: «ولمن
تصلُح هذه الفرحة الكبرى
(
Jubilatio) أكثر من الله الذي لا
يحُدُّه لفظ؟ إن الله يجلُّ عن التعبير؛ لأن اللغة أفقر من أن
تصفه، فإن لم يكن الكلام يُسعِفُك إزاء الله، وكنتَ في الوقت ذاته
لا تودُّ السكوت، فما الذي يتبقَّى أمامك سوى أن تُسبِّح حتى يطرب
قلبك دون كلمات تُغنَّى، وحتى لا ينحصر فرحُك الهائل في حدود
المقاطع اللفظية؟» وقد أعرب القديس هيرونيموس (جيروم) عن رأيٍ
مماثل بصدد القيمة الجمالية والدينية لهذا الغناء التسبيحي
(
Jubilus) فقال: «نعني بالتسبيحة
أنَّ من المستحيل عن طريق الألفاظ أو المقاطع أو الحروف أو الكلام
التعبير عن المقدار الذي يتعيَّن به على الإنسان أن يُسبِّح بحمد
الله، ومن المستحيل فهمُه.»
٩ ربما كان آباء الكنيسة قد شعَروا بأن من واجبهم أن
يُبرِّروا استخدام هذه العادة الشرقية؛ ذلك لأن المؤلَّفات الأدبية
الشرقية حافلةٌ بأمثلة الغناء التطريبي، وكذلك الحال عند
العبرانيين. أما كيف وأين نشأَت هذه الطريقة في الغِناء أصلًا،
فهذا أمرٌ ينبغي أن نترك التفكير فيه للمؤرِّخ.
وقد تحدَّث القديس أوغسطين في «الاعترافات» عن تعميده، وعن
التأثير الانفعالي الهائل الذي أحدثَتْه فيه إحدى الصور الموسيقية،
وهي الأنشودة الدينية، فقال: «لكَم بكَيت، وأنا أسمع أناشيدك
وترانيمك هذه … وتأثَّرتُ لتَوِّي بأصوات … حقيقتك الخالصة، وهي
تنساب برفقٍ إلى قلبي، فتجعل أحاسيس تقواي تفيض، ودموعي تنهمر،
وإذا بي أجد نفسي مغمورًا بالسعادة.»
١٠ ولقد ذُكِرت الأنشودة الدينية
hymn لأول مرة في تاريخ الموسيقى
المسيحية، بعد القربان المقدَّس مباشرة، حين اشترك المسيح وحواريوه
في أغنية. أما في العصر اليوناني فكانت هذه الأنشودة تمجيدًا أو
تقديسًا لإلهٍ ما. وهذه بالضبط هي طبيعة أنشودتَي أبولو اللتَين
تحدَّثنا عنهما في الفصل السابق. ولقد كان اليوناني ينظر إلى كل
مدحٍ أو شكرٍ لآلهته على أنه أنشودةٌ دينية، على شرط أن يتخذ صورة
الغناء. وعندما انتقلَت هذه الأنشودة إلى المسيحية، احتفظَت
بطبيعتها ذاتها، من حيث إنها أغنيةُ تسبيح لله. وكانت نصوصها في
الأساس أشعارًا ليست مستمدةً من المزامير.
ولقد كان القديس أمبروز (حوالي ٣٤٠–٣٩٧م) من الروَّاد في تطوير
صورة الأنشودة الدينية. وليس في وسعنا أن نؤكد إن كان هو الذي ألف
كل الأناشيد المنسوبة إليه، أم أنه اهتم قبل كل شيءٍ بنشرها على
نطاقٍ شعبي، ولكن يكاد من المؤكَّد أن كثيرًا من الأناشيد التي
أُلِّفَت في عصره قد نُسبَت إليه بوصفها أمثلةً لتلك الفترة، لا
بوصفها من إبداعه هو ذاته. وقد أسهم آباءٌ كثيرون للكنيسة، غير
أمبروز، في تطويرها وفي جعلها مقبولة من حيث هي نوع من الأنواع
الموسيقية، حتى أصبحت — في القرن الرابع ذاته — تُعَد أفضل من
المزامير. وليس في وسعنا أيضًا أن نحدِّد إن كان نفس الشخص هو الذي
كان يكتب الموسيقى والنص الكلامي. وعلى أية حال، فإن بساطة
الأنشودة الدينية جعلَتها ملائمة للغناء الديني الجماعي. وربما
كانت تُكتَب بأسلوبٍ بسيط، حتى تستطيع المجموعة أداءها بسهولة. ولا
جدال في أن سهولة تعلُّم الأنشودة الدينية كانت من أسباب ذيوعها
إلى الحد الذي أصبحَت فيه مقبولة ومستحبة في جميع أرجاء العالم
المسيحي. على أن بعض الأسقفيات لم تكن تقبل الأنشودة الدينية، على
أساس أنها لا ترضى بالتخلي عن نصِّ المزامير حسبما جاء في «العهد
القديم» في سبيل تأليف شعرٍ دنيوي، هذا فضلًا عن أن هذه الأشعار
كانت تُصاحبها ألحانٌ بهيجة تُعيد إلى الأذهان ذكرى الألحان
الوثنية. ولعل هذا هو السبب الوحيد في أن الأنشودة الدينية لم
تُقبَل ضمن الشعائر الدينية في روما إلا في القرن التاسع.
١١
القسم الثاني: بويتيوس
Boethius
وصف أفلاطون خَلق العالم في محاورة «طيماوس» بأنه بدا بأشكالٍ
هندسية، هي المثلثات المتساوية الساقين والقائمة الزوايا، وفسر
حركات الأرض والنجوم تفسيراتٍ رياضية معقدة. ولقد كانت هذه
المحاورة هي التي تغلغلَت في التفكير العقلي للعصور الوسطي؛ فقد
كان للإحكام السحري للأعداد تأثيرٌ خلَّاب في نفس أوغسطين وغيره من
آباء الكنيسة الأولين، وعن طريق الأعداد أمكن تفسير الموسيقى
وملَكَة التذكُّر وخوالج النفس، بل إن الرب إنما خلق العالم بوضع
الأعداد المناسبة معًا. ولما كانت الأعداد ترمُز إلى كل ما يعرفه
الإنسان، فقد انتهى أوغسطين، كالفيثاغوريين وأفلاطون، إلى أن
الموسيقى مبنيةٌ على قانونٍ رياضي وتنظيمٍ سليم. وإن صفاتِ النظام
والاتزان والجمال في العالم المادي لترجعُ جذورها إلى الأعداد، بل
إن تركيب الكون بأَسْره مبني على علاقةٍ رياضية منسجمة. وقد ظهر
هذا التأثير الفيثاغوري والأفلاطوني في كتاب أوغسطين «في الموسيقى
De Musica» الذي يبحثُ أساسًا في
الوزن والشعر والنظريات المتعلقة بالأعداد؛ فالأبواب الخمسة الأولى
من هذا البحث تتناول الإيقاع والوزن، أما الباب السادس فقد ناقش
فيه أوغسطين النواحي الكونية واللاهوتية للموسيقى.
ولقد كان أوغسطين، كالفيثاغوريين، ينظر إلى الموسيقى على أنها
مظهرٌ أرضي للإيقاع الكوني، وكان مثل أفلاطون يرى لهذه الظاهرة
دلالةً أخلاقية. وقد حذَّر المسيحيين من الخلط بين رمز الإيقاع
الموسيقي وبين ما يدُل عليه هذا الرمز؛ فالجمال والموسيقى كانا في
نظره محاكاةً فنية لنظامٍ أكمل أضفاه الفضل الإلهي على البشر. وقد
نصح المسيحيين بأن يقتدوا، في نظرتهم إلى الموسيقى، بداود ملك بني
إسرائيل؛ إذ إن داود كان «بارعًا في الغناء، محبًّا للانسجام
الموسيقي كل الحب، لا من أجل المتعة العابرة، بل بقلبٍ عامرٍ
بالإيمان، وبالموسيقى عند ربه الإله الحق، بوصفها تمثيلًا صوفيًّا
لشيءٍ عظيم؛ ذلك لأن التوافق المعقول المنظم بين مختلف الأصوات في
التنوع المنسجم، يُوحي بالوحدة المحكمة لمدينةٍ إلهية يسودها النظام.»
١٢
كذلك كان لمحاورة «طيماوس» الأفلاطونية تأثيرٌ بالغ في الفيلسوف
الروماني بويتيوس (٤٨٠–٥٢٤م)؛ فقد شارك أفلاطون آراءه التي أعرب
عنها في هذه المحاورة؛ إذ كتب في مؤلَّفاته الخاصة يقول: إن نفس
العالم تتحد بفضل التوافق الموسيقي؛ ذلك لأننا حين نعرف ما في
الأصوات من وحدةٍ منسجمة محكمة عن طريق ما نلمسه في أنفسنا من نظام
وإحكام، ندرك أننا نحن أنفسنا نتوحد بفضل هذا التشابه.» وكان يروي
أن هناك علاقةً رياضية تربط بين النفس البشرية والنفس الكونية.
وعلى ذلك فإن الموسيقى، التي هي في أساسها رياضية، تتخذ طابعًا
أخلاقيًّا؛ لأن في وسع النوع الملائم من الموسيقى غير المناسبة،
فتفسد هذه العلاقة الرياضية، وتحط من نفس الإنسان وتحطِّم بدنه.
وهكذا كان بويتيوس، في العالم الروماني، خير مدافع عن الرأي
اليوناني في فلسفة الجمال، كما بدأه الفيثاغوريون وطوَّره أفلاطون،
وهو الرأي القائل إن الموسيقى ترتبط بنا بحكم الطبيعة، وإن في
وسعها صلاح الخلق أو إفساده.
ولقد بدأ الفيلسوف الروماني بويتيوس نشاطه في ميدان الموسيقى
كواحدٍ من أتباع المذهب الفيثاغوري والأفلاطوني، فاتفق مع هذَين
المذهبَين الفلسفيَّين على أن الموسيقى في أساسها ذاتُ طابع رياضي،
وينبغي أن تُستخدَم وسيلةً تمهِّد لدراسة الفلسفة. كذلك أيَّد
بويتيوس الرأي القائل إن للموسيقى قيمةً أخلاقية تحضُّ الناس على
التزوُّد من العلم، وتساعد على تقريبهم من الحقيقة الحقة بتحريرهم
من هذا العالم الخدَّاع، عالم التغيُّر المحسوس. وكان بدوره يؤمن
بأن في مقدور الموسيقى أن تحطَّ من معنويات الإنسان إذا كانت
متجهةً إلى إثارة انفعالاته. وكان بويتيوس يرى أن الإنسان قد وُهِب
قدراتٍ موسيقية فطرية، وأن في وسع المرء أن يتخلص من النواحي
الحسية في هذا الفن الذي يثير الرغبات الحسية في كثيرٍ من الأحيان،
بالانصراف إلى الدراسة النظرية للموسيقى بما تقتضيه من تفكيرٍ
عقلي؛ إذ إن العقل أسمى من الحواس.
ولقد كان هذا الفيلسوف المبكِّر النضج في سن العشرين عندما أهدى
كتابه في الموسيقى إلى من هم في مثل سنه، على أمل أن يثير فيهم حب
الفلسفة، وإن يكن ذلك أملًا ميئوسًا منه، ولكن بويتيوس لم يتم
كتاباته في الموسيقى، وكانت كل إشاراته إلى الموسيقى، خلال بقية
سني حياته، تؤكِّد أهمية الجانب التعليمي فيها بوصفها مبحثًا
عقليًّا، وقيمتها في تحقيق حياةٍ أخلاقية سليمة.
وقُرب نهاية حياته، عندما كان قابعًا في سجن ينتظر فيه موته
السابق لأوانه، كتب عن ربَّة الموسيقى «موزي»، فوصفَها بأنها عروسُ
بحر «سيرينا»، تُضلِّل كل من وقعوا تحت تأثير سحرها الخلَّاب،
وأطلق على ربَّة الشعر والغناء اسم «بغي المأساة» التي تقدِّم إلى
الإنسان «سُمًّا حُلو المذاق»، بدلًا من أن تُعطيه بلسمًا فلسفيًّا
شافيًا يخفِّف به عن نفسه أعباء الحياة. وهكذا فإن الفلسفة وحدها،
أم الربَّات «الموزي» جميعًا، هي وحدها التي أقبلَت على بويتيوس
تقدِّم إليه السلوى، وهو راقد على فراش الموت.
١٣
ولقد كان الهدف الذي اختطه بويتيوس لنفسه في الأصل هو «التوفيق
بقدر ما بين أفكار أرسطو وأفلاطون»، وكان تأثير فلسفته في موسيقى
العصور الوسطى عميقًا باقيًا «فقد أعلن بويتيوس أن من الضروري، لكي
يصل المرء إلى «قمة الكمال» التي لا نبلغها إلا بفضل الدراسة
الفلسفية وحدها، أن يكون للمرء إلمامٌ كامل بميادينَ تمهيدية
للمعرفة، هي العلوم الرياضية، أو الرباع
Quadrivium، وهو لفظ يبدو أن
بويتيوس ذاته هو الذي أدخلَه في اللغة اللاتينية … وكان بويتيوس
مقتنعًا بأن كل من يهمل هذه الدراسات يظل إلى الأبد جاهلًا
بالفلسفة في مجموعها، ولا أمل له فيها. وليس لمثل هذا الإهمال
دواء؛ إذ إنه يُضيع إلى الأبد فرصة الفوز على الدارس الذي يتوق إلى
بلوغ قمة الكمال؛ فمن لم يمُرَّ بدراسة الموسيقى داخل نطاق
الرياضيات، فإن عالم الفلسفة يظل مغلقًا في وجهه. وفي عبارةٍ أخرى
فإن اكتساب معرفة الرياضيات ضرورة لا غناء عنها. وهدف الدراسة
وغاية التعليم هو الفلسفة في كل الأحوال، غير أن الطريق الوحيد
الموصل إليها يمُرُّ عبر الرياضيات.»
١٤ وهكذا فإن الموسيقى، بوصفها جزءًا من الرياضيات،
تُسهِم في تدريب الذهن، وتُعَد مبحثًا يمهِّد لدراسة
الفلسفة.
وكان بويتيوس يرى أنه نظرًا إلى القيمة الأخلاقية الكامنة في
دراسة الموسيقى، فإن هذه الدراسة أقدر من أي مبحثٍ آخر في «الرباع»
«الكوادر يفيوم» على تشكيل النفس والجسم. وقد ردَّد رأي أفلاطون
قائلًا إن للموسيقى القدرة على أن «ترفع معنويات الإنسان أو تحط
منها»، وأشار إلى أن النفوس الشهوانية تستمتع بالألحان الشهوانية،
على حين أن النفوس الجادة تجد لذتها في أساليبَ أقوى تأثيرًا؛ إذ
إن الناس يتعلقون بالأساليب المشابهة لطبائعهم، ولكنه انتهى إلى أن
الناس جميعًا معرَّضون للفساد؛ إذ تُصاب النفوس الضعيفة بالفساد
والرخاوة، وحتى النفوس القوية ذاتها قد تَعجِز أحيانًا عن
المقاومة. واستطرد بويتيوس قائلًا: إن أفلاطون كان على حق في
تحذيره من التحديدات الموسيقية؛ إذ إن من شأن الأساليب الموسيقية
المتغيرة ذات الطابع الأخلاقي المريب أن تحط قطعًا من نفوس الناس.
وهكذا قال: «إن الموسيقى تظل عفيفةً متواضعة ما دامت تُعزَف على
آلاتٍ بسيطة، ولكن نظرًا إلى أنها قد أصبحَت تُعزف على أنحاءٍ
متباينة، وبطرقٍ مضطربة، فإنها فقدَت صفات الجد والفضيلة، وكادت أن
تنحط إلى مرتبة الوضاعة دون أن يبقى لها من جمالها الغابر إلا
أثَرٌ ضئيل.»
والواقع أن بويتيوس لم يقتصر على نقل آراء القدماء إلى مفكري
العصور الوسطى، بل إنه كان هو ذاته مسئولًا عن تشكيل الفلسفة
الجمالية الموسيقية للحضارة الغربية طوال قرونٍ عديدة بعد وفاته؛
فقد كان اللاهوتيون المسيحيون راضين كل الرضا عن رأيه القائل إنه
لما كانت الموسيقى في أساسها رياضية البناء وأخلاقية القيمة، فمن
الضروري أن يكون التأليف الموسيقى دقيقًا دقة العلم، حتى لا يفسد
الطابع الأخلاقي للموسيقى، وكانت النتيجة النهائية لآرائه، كما
عدَّلها أتباعه ووسَّعوها، هي أن القيمة الأخلاقية للموسيقى متوقفة
على العلم، وانتهى الأمر بعلم الموسيقى إلى اتخاذ قوالبَ محدَّدة
لا يخرج عنها. وهكذا رأى رجال الكنيسة أن أي خروج على القوالب
الموسيقية التقليدية، أو على الموسيقى الكنسية المسموح بها، هو
أمرٌ خارج على العلم وعلى الدين معًا، ولقد كان رجال الكنيسة
يعلمون حق العلم أن هذا الرأي موجود بصورةٍ ضمنية عند أفلاطون، ومع
ذلك كان مما يدعم موقفهم أن يستطيعوا الإهابة بسلطة أي مفكرٍ آخر،
حتى لو كان وثنيًّا رومانيًّا، يقول بآراء يمكنُهم استخدامها
لصالحهم. ولقد كان دستور البابا يوحنا الثاني والعشرون (الذي شغل
منصبه من سنة ١٣١٦م إلى ١٣٣٤م) وهو الدستور الذي كُتِب بعد
ثمانمائة عام من وفاة بويتيوس السابقة لأوانها، والذي كان يتضمن
هجومًا على الموسيقى الجديدة في ذلك العصر، كان هذا الدستور
متأثرًا بفلسفة بويتيوس الجمالية في الموسيقى، إلى حد أن كاتبي هذه
الوثيقة البابوية آثروا أن يقتبسوا من كتاباته في دفاعهم عن
الموسيقى الدينية في الكنيسة المسيحية؛ فقد اقتبس رجال الكنيسة من
بويتيوس نصًّا توجَّهوا به إلى دعاة الموسيقى الحديثة، سواء منهم
صانعوها ومتذوقوها، يقول فيه: «إن الشخص الذي هو بطبيعته ميال إلى
الحسيات، يستمتع بالاستماع إلى هذه الألحان الفاسقة. ولا بد لمن
يثابر على الاستماع إليها أن تضعُف أخلاقه، وتفقد روحُه
صلابتها.»
وهناك فيلسوفٌ آخر معاصر لبويتيوس، شارك بدَوره في تعريف مفكري
العصر الوسيط بالفلسفات الموسيقية لليونانيين، وهو كاسيودورس
Cassiodorus (٤٨٥–٥٨٠م) الذي كان
في حياته أسعد حظًّا من بويتيوس. وقد نظر بدَوره إلى الموسيقى على
أنها مبحثٌ رياضي، وتأثَّر بالطابع الأفلاطوني في آرائه الأخلاقية
في الموسيقى، فكتب في رسالة إلى بويتيوس يقول: «إن المقام الدوري
Dorian يؤثِّر في العفَّة
والحياء»، واتفق مع أفلاطون على أن المقام الفريجي «يستفز الرغبة
في النضال ويثير الغضب»، أما المقام الأيولي
Aeolian فإنه «يهدِّئ عواصف النفس،
ويُنزل الكَرى في أجفان النفس الهادئة»، أمام المقام الرابع من
أساليب القدماء وهو الإياستي
Iastic، فإنه «يجعل البصيرة
الخاملة حادة، ويجعل الذهن الدنس يتطلع إلى الأمور السماوية». وأما
المقام الأخير وهو الليدي، فلم ينظر إليه كاسيودورس بطريقةٍ
أفلاطونية خالصة، وإنما رأى فيه أسلوبًا موسيقيًّا ذا قيمةٍ
علاجية؛ إذ إن هذا المقام الليدي «يخفِّف من الأعباء الثقيلة على
النفس، ويُزيل الضيق بالترويح الممتع عن النفس»، وللموسيقى في
فلسفته قيمةٌ روحية هي تقريب الناس من الله، كما أن للموسيقى
القدرة على إثارة أحوالٍ متفاوتة في النفس، وهي أيضًا صورةٌ
فعَّالة من صور التطهُّر
Katharsis، تُزيل في رأيه الضيق
وتهدِّئ الانفعالات.
القسم الثالث: الأناشيد الجريجوريانية
كانت الكنيسة المسيحية، منذ نشأتها الأولى، تشنُّ حملاتٍ منتظمة
للقضاء على الوثنية. ولقد كان من الضروري للقضاء على عقيدة الوثني،
تحطيم معابده ومحو آثار فنونه. وترتَّب على ذلك حدوث تدميرٍ واسع
النطاق للمعابد الوثنية التي كانت تضُم أصنام الكفرة وتعاويذهم،
وكانت أذهان المسيحيين المتمسكين تجد لذلك المبرِّر الكامل في أن
هذه الأفعال إنما هي تنفيذٌ للإرادة الإلهية، ولكنَّ هؤلاء
المتمسكين وجدوا أنفسهم عاجزين تمامًا عن القضاء على الموسيقى
الوثنية؛ إذ لم تكن هناك مخطوطاتٌ تُحرَق أو موسيقيون يعاقَبون.
ولم تكن الموسيقى ذاتها تمثِّل شيئًا ملموسًا، وإنما كانت تمثِّل
أفكارًا وتعبيرات فحسب، فأنَّى للمرء أن يقتل الأفكار
والتعبيرات؟
ومنذ عهدٍ مبكر، يرجع إلى وقت أوغسطين، كانت هذه العداوة الدينية
للفن قد رُسِّخت بالفعل؛ فقد اجتاحت رجالَ الكنيسة في القرن الرابع
موجةٌ عارمة من المعارضة حتى للفن المسيحي ذاته. وبحلول القرن
السادس كان جريجوريوس الأكبر الذي وُلِد عام ٥٤٠م، وتولى منصب
البابوية من عام ٥٩٠م إلى عام ٦٠٤م، قد أمر، وهو لا يزال أسقفًا
لمرسيليا، بنزع وتدمير كل الصور المقدَّسة داخل نطاق أسقفيته.
وكانت تصرفاتُه مبنية على الاعتقاد بأن هناك فارقًا بين تقديس
الصورة ذاتها وبين النظر إليها على أنها رمز. وكان جريجوري يخشى أن
يبدأ الإنسان العادي في تقديس الرمز بدلًا من الموضوع المرموز
إليه. وكانت نفس هذه المشكلة تتمثل في الموسيقى، فإذا كان الشخص
العادي الذي يؤم الكنيسة يُفتتَن بالطابع الحسي للموسيقى الدينية
إلى حد نسيان أن الموسيقى لا ترمي إلا إلى تجميل النص المقدس فحسب،
فلا بد عندئذٍ من تبسيط الموسيقى وتأكيد النص.
ومن الجائز جدًّا أن البابا جريجوري قد تذكَّر تحذير أوغسطين
الموجَّه إلى المسيحيين بألا يخلطوا بين رمز الإيقاع الموسيقي وبين
ما يمثِّله الرمز؛ إذ إن الجمال والموسيقى ليسا إلا محاكاةً فنية
لنظام أعلى أضفاه فضل الله على البشر. ولا بد أن جريجوريوس قد تأثر
أبلغ التأثُّر بعبارة أوغسطين القائلة: «ويل لمن يحبون إشاراتك
بدلًا منك، ويضلون طريقهم وسط آثارك»، وما كان من الممكن أن تجد
آراء أوغسطين عن الموسيقى في الحياة المسيحية نظيرًا أكثر تحمسًا
من البابا جريجوري.
وربما كان جريجوري الأكبر أشهر شخصية في تاريخ البابوية. وقد
صوَّره التاريخ تارةً على أنه شغوف بالفن، وتارةً أخرى على أنه
شخصيةٌ قوية تفتقر إلى كل إحساس أو خيالٍ فني. وقد امتدحه كثير من
الكُتاب في العصور الوسطى بوصفه رجلًا عظيمًا فاضلًا من رجال
الكنيسة، دون أن يعبئوا بالتفرقة بين عبقرية البابا جريجوري
الدينية في دعم الكنيسة، وبين احتقاره للعلوم والفنون، وعزا إليه
هؤلاء الكُتاب نظرياتٍ متحررة كانت بعيدة كل البعد عن فلسفته، ولكن
من المفارقات العجيبة أن الأجيال التالية لم تعُد تعرفه بفضل
مقدرته السياسية والتنظيمية الفذة، بل بفضل الموسيقى التي ارتبطَت
باسمه.
ولكي يتأكد البابا جريجوري من أن المبادئ والتعاليم المسيحية لا
تُوضع موضع الشك، أو تتعرض لتفنيد المارقين، فقد حرَّم التعليم
الدنيوي، وأضفى على الدراسات اللاهوتية أهميةً لم تكن لها من قبلُ
على الإطلاق، واستبعد العلم والفن من التعليم الديني، ولكن لمَّا
كان العرف الشائع في العصور الوسطى قد جرى على النظر إلى الموسيقى
على أنها فرع من الرياضيات، فقد أُدرجَت ضمن الرباع التعليمي، الذي
يتألف من الحساب والهندسة والفلك والموسيقى.
ولما لم يكن جريجوري يعبأ كثيرًا بالتعليم الدنيوي، فليس من
المستغرب أن نجده ينفر من الاتجاهات الموسيقية اللادينية، التي
كانت في حاجة إلى قمع مستمر. ولقد بلغ من صرامته في إدارة شئون
الدين أنه عاقب أصحاب المناصب في الكنيسة، بعد خمس سنوات من توليه
منصب البابوية؛ لأنهم استمعوا إلى نوازع الشر في نفوسهم، ودرَّبوا
أصواتهم على أداء الجزء الموسيقي من الصلاة، وقضَوا في ذلك وقتًا
كان ينبغي أن يكرِّسوه لأغراضٍ أشرف؛ ومن ثَم فقد أمر جريجوري بأن
يقتصر القساوسة على غناء الإنجيل، ويُغنِّي مساعدوهم بقية الجزء
الموسيقي من الصلاة. وقد اتخذ الخطوات اللازمة لتوفير هؤلاء
المساعدين، بتشييد معاهدَ دينيةٍ إضافية، وإنشاء مدرسة للغناء
«سكولا كانتوروم» زوَّدَت فرق الإنشاد البابوية بالمغنِّين.
ولقد حذا جريجوري حَذْو أوغسطين، فرأى في الموسيقى مجرَّد عاملٍ
مساعد في أداء الصلاة. كذلك التزم معتقدات أوغسطين المتأخرة، فحظر
كل ما له صبغةٌ وثنية، ويمكن أن يكون له تأثير في المسيحيين. وهكذا
مُحي الفن والموسيقى من الوجود بوصفهما نشاطًا حضاريًّا، واستُعيض
عن العلم والبحث، مهما كان ضيق نطاقهما، بالنظام الصارم والعزوف
والتبتُّل. ومع ذلك فإن البابا جريجوري الأكبر هذا هو نفسه الذي
نُسِب إليه دورٌ خلَّاق في تلحين جزء من القداس، هو الجزء
التبادلي، وتنظيم الطقوس الدينية، ولكن هناك من الأسباب ما يدعو
باحثي الموسيقى إلى الاعتقاد بأن هذه النسبة خياليةٌ أكثر منها واقعية.
١٥
وللأناشيد الجريجورية أصولٌ متعددة؛ فهي قد تطوَّرَت من الموسيقى
الشرقية والعبرية واليونانية، ومن صورةٍ سابقة عليها وأبسط منها هي
الأناشيد الأمبروزية (نسبةً إلى القديس أمبروز) ومن الأسباب التي
تُساق لتعليل ظهور الأناشيد الجريجورية أنها نشأَت نتيجة شكاوٍ
متعدِّدة تقدَّم بها رجال الإكليروس، من أن الموسيقى الكنسية
تُؤدَّى بطريقةٍ غير صحيحة، وبانفعالٍ مُفرِط. ويُقال إن جريجوري
قد جمع مختلف الأنواع التي تُغنَّى في الكنائس، وصنَّفها وعدَّلها،
ووضَع — على ما يُقال — ألحانًا جديدة، ثم أصدر أمرًا حدَّد فيه
بدقةٍ طريقةَ أداء كل جزء من الموسيقى وموقعها في شعائر الصلاة،
وبذلك استنَّ سنةً أدت إلى تثبيت الطقوس الدينية بدقةٍ مع
تنويعها.
وتنقسم الأناشيد الجريجورية إلى ثلاثِ فئاتٍ من الألحان؛
المقطعية syllabic، والتطويلية
neumatic، والتطريبية
melismatic؛ ففي المجموعة الأولى
كان كل مقطع من النص يطابق نغمةً واحدة فحسب، وقد يحدث أحيانًا أن
يطابق مقطعُ واحد نغمتَين أو ثلاثًا، ولكن الألحان كانت على الدوام
بسيطةً في طابعها. أما في النوع التطويلي فكانت بعض المقاطع
تُستخدَم لنغمةٍ واحدة، ولكن العادة المتبعة كانت استخدام مقطع
واحد لأداء مجموع من نغمتَين أو ثلاثِ أنغام. وأما النوع الثالث
وهو التطريبي، فكان أسلوبًا مزركشًا، يُغنَّى فيه مقطعٌ وحيد
بطريقةٍ زخرفية خالصة.
وكانت الألحان الجريجورية تُبنى في البداية على نظامٍ نغمي من
أربعة مقامات. وعلى الرغم من أن أصل هذه المقامات يرجع إلى
المقامات الشرقية والعبرانية، فقد سُمِّيت بالمقامات الكنسية
لارتباط طابعها اللحني الخاص بالغناء الديني. وكانت المقامات
الأربعة الأصلية تُسمى بالمقامات الرئيسية، ولكن كان الأغلب
تسميتها بالمقامات الأصلية
authentic. وعندما أُضيفَت إليها
أربعةٌ أخريات كان يُطلق عليها اسم المقامات البلاجالية
plagal، وقد استخدمها الملحِّنون
لأصوت الرجال فحسب.
ولم يؤلف الموسيقيون
الجريجوريون الأوائل موسيقى مبتكرة، وإنما كرَّسوا جهودهم لاقتباس
الألحان القديمة أو أجزاءٍ منها، ثم تعديلها بحيث تُلائم جزءًا
معيَّنًا من الشعائر المنوَّعة؛ أي إن الجهود الفنية لهؤلاء
الموسيقيين قد تركَّزَت كلها في إعادة تعديل قالب الألحان القديمة
وصياغتها من جديد. وقد بلغوا في هذا التنظيم قدْرًا كبيرًا من
البراعة، والدليل على ذلك تمكُّنهم من تنويع ذلك العدد المحدود من
الألحان الذي كانت تُبنى عليه الموسيقى الكنسية في العصور الوسطى،
في قوالب عظيمة التباين. ولقد كان لدى الموسيقي الكنسي صبرٌ لا
ينفد استمده من حياة الرهبنة في الأديرة، وأتاح له ذلك أن يوجِّه
أعظم عنايته لتحقيق توازُن بين النص والموسيقى، بحيث لا يُضحِّي
بالنص، ولا تصبح الموسيقى جوفاء. وعندما يتكرَّر استخدام نصٍّ
معيَّن في أجزاءٍ مختلفة من الشعائر، كان الملحِّن يمله بلحنٍ
مقابل يُلائم وظيفته الجديدة. ولقد بلغ هؤلاء الملحِّنون من
الإبداع في كتابة الألحان المنفردة ما جعل أعمالهم تظل مصدرًا
للإلهام الفني لكل من يكتبون الموسيقى.
وفي خلال القرون التالية ظهَرَت مقاديرُ غير قليلة من الأناشيد
التي تنتمي إلى النمط الجريجوري خارج روما، فبتوسُّع الكنيسة
توسَّعَت أناشيدُها أيضًا، وانتقلَت هذه الأناشيد إلى إنجلترا في
عهدٍ مبكر جدًّا عن طريق المبعوثين البابويين «القاصدين
الرسوليين»، وعملَت أديرة كثيرة في أيرلندا بجهدٍ لا يكل في سبيل
تنمية هذا النوع من الموسيقى، وشجَّع شرلمان على قبولها في فرنسا
وألمانيا؛ ذلك لأنه كان حاكمًا ذا عقليةٍ عملية، سعى إلى بعث
الوحدة بين جميع أرجاء مملكته، وكان حكيمًا في تشجيعه للأناشيد
الكنسية حتى يستغلها بوصفها رباطًا قويًّا للوحدة. ويُقال إن
الغاليين لم يستطيعوا تذوُّق الصفاء الجمالي لهذه الأناشيد؛ نظرًا
إلى جلافتهم الطبيعية، وأصرُّوا على أن يُضيفوا إلى الموسيقى
الكنسية أجزاء من أغانيهم الخاصة التي لم تكن مُستساغة.
وكانت الأناشيد الجريجورية تستخدم نظامًا من العلامات «النومس»
neumes كوسيلة للتدوين، وهذه
العلامات التي يُمكِن العثور عليها في المخطوطات الجريجورية التي
حُفِظت لنا منذ عهدٍ بعيدٍ يرجع إلى القرن التاسع، لم تكن تُقدِّم
للمُغنِّي إلا تلميحًا تقريبيًّا عن مجرى اللحن. أما الألحان
والقوالب ذاتها، فكانت تُنقَل من جيلٍ إلى جيل بالسماع؛ إذ إن
العلامات لم تكن تصلُح إلا للتذكرة فحسب. ومع ذلك امتد نظام
العلامات «النومس» هذا إلى التدوين الحديث مباشرة؛ لأنه كان يستطيع
أن يدُل المغنِّي على اتجاه الخط اللحني نحو الارتفاع أو نحو
الانخفاض. وقد حدث في وقتٍ ما، من هذه القرون، أن توصَّل أحدُ
الرهبان إلى فكرة التدوين الموسيقي، واختار لسببٍ ما، خطًّا
أفقيًّا لتمييز ارتفاع صوتٍ معيَّن عن الآخر، وبعد ذلك بوقتٍ قصير
أُضيف خطٌّ ثانٍ، حتى إذا ما جاء القرن الحادي عشر ظهَرَت في
المخطوطات أو الخطوط الموسيقية المعروفة، فكان الخط الأحمر يدل على
النغمة «فا F»، والخط الأصفر
(وأحيانًا الأخضر) يدُل على «دو
C»، وأدى إلى ذلك تكوينُ مفتاحَي
فا ودو ابتداءً من القرن الثاني عشر، ثم أعقبها مفتاح صول
G، وأدخل الراهب البندكتيني «جويدو
داريتسو Guido dArezzo»
(٩٩٥–١٠٥٠م) تحسيناتٍ على طريقة التدوين، ومن المعتقد أنه تقدَّم
بنظرياتٍ جديدة في التدوين إلى البابا يوحنا التاسع عشر في أوائل
القرن الحادي عشر.
القسم الرابع: فيلسوف العصر الوسيط والموسيقى
يرجع أصلُ كثير من القوالب الموسيقية الكنسية إلى نصوصٍ دنيوية،
بل إباحية في أحيانٍ غير قليلة، كانت لها ألحانٌ سهلة الحفظ. كذلك
كان للموسيقى الكنسية بدَورها تأثيرٌ مباشر في الموسيقى الدنيوية.
وطوال الفترة الأولى من تطور الكنسية كان المسئولون من رجال الدين
يرقبون عن كثبٍ تلك الموسيقى الدنيوية، وما كانوا يعُدُّونه دنسًا
فيها. ومع ذلك فقد وجَدَت الأغنيات القومية المحلية طريقها إلى
المعابد المقدسة، واجتذَبَت الموسيقى الدنيوية في ذلك العصر جمهور
المتعبدين، والكهنة المشرفين على العبادة بدَورهم. وترتَّب على ذلك
أن التحذيرات التي كانت تأتي من روما كانت موجَّهةً إلى رجال الدين
ورعيَّتِهم في آنٍ واحد، وكانت الكنيسة تشعُر بأن من واجبها ألا
تستسلم في أي ميدان، أو تتردَّد في تفسيراتها، إذا شاءت أن تحتفظ
بمواقعها، بل أن تظل قلعةً ثابتة راسخة تقف في وجه الهرطقة
والمؤثِّرات الوثنية الكافرة.
ولقد رأينا من قبلُ أن المزامير التي ورَّثها العبرانيون
للمسيحيين، كانت في تطوُّر القوالب الموسيقية، أقدم لونٍ من ألوان
الموسيقى الكنسية، وكان المسيح يعرف شعائر المعابد اليهودية معرفةً
كافية، بدليل أنه عندما ودع حوارييه حدَّد معالم الجو الديني
للعَشاء الأخير بغناء المزامير. وفيما تلا ذلك من السنين، عرف
الوثنيون والمنتصرون الذين كانوا غيورين على ممارسة شعائر الكنيسة،
أو الذين أقبلوا عليها بحماسة، أناشيدَ المزامير، ولما كانت إحدى
الطوائف تفر من مُضطهِديها، كانت تحمل معها المزامير حيثما وجَدَت
ديارًا جديدة. وهكذا انتشَرَت المزامير في الفترة التالية إلى حدِّ
أنها كانت من جهة قيدًا على حرية الطوائف المسيحية، وكانت من جهةٍ
أخرى مصدرًا زاخرًا للموسيقى، يستمد منه المؤمنون من القوة والعزاء
الروحي ما يكفُل لهم الصمود خلال أوقات المحن.
وقد أعلى القديس أمبروز وأتباعه قيمة الأنشودة الدينية
hymn في الموسيقى الكنسية. وليس في
وسعنا أن نجزم إن كانت الألحان المستخدَمة في هذه الأناشيد من أصلٍ
شعبي فحسب، أم أن جزءًا غير قليلٍ منها كان من تأليف القساوسة
أنفسهم. وعلى أية حالٍ فإن القالب اللحني للأنشودة القديمة كان
بسيطًا، مما ساعد دون شك على قبولها في الكنيسة، وذيوعها بين
الناس. ولضمانِ أعظمِ قَدْر من البساطة كان كل مقطع في النص
الكلامي تُخصَّص له نغمةٌ واحدة من الموسيقى.
ولقد كان اللحن، في الأناشيد الجريجورية، خاضعًا للنص الكلامي،
ولمَّا كان الإنشاد يستخدم إطارًا لحنيًّا لنصٍّ مقدس، فقد تعيَّن
على اللحن ألا يكون معقدًا، وأن يكتفي بالقيام بدور الأساس الخلفي
لذلك النص. وتضمَّنَت الأناشيد كثيرًا من الألحان العبرانية التي
أُخفِيَت فيها ببراعة، كما حملَت الأناشيد الجريجورية آثار النظام
الموسيقي اليوناني، أما أصل العلامات (النومس)
neumes المستخدَمة في الأناشيد،
فما زال سرًّا إلى حدٍّ ما، ونحن نعلم أن العبرانيين قد استخدموا
إشارات المقاطع المتحرِّكة في غناء تراتيلهم، ولكنا لا نعلم إن كان
ذلك قد أثَّر في المسيحيين، أم أنهم وضعوا نظامهم الخاص في
العلامات (النومس)، أو كيف ومتى وضعوا هذا النظام.
وقد ذكر إيزيدور الإشبيلي Isidore of
Seville (٥٧٠–٦٣٦م) أن قَدْرًا كبيرًا من الموسيقى
المعروفة في عصره كان يُحفَظ عن ظهر قلب، ويُنقَل بالتلقين إلى
أجيالٍ أخرى، ولولا ذلك لضاع إلى الأبد. ولم يُخترَع التدوين إلا
بعد أربعة قرون، على يد جويدو داريتسو Guido
dArezzo، الذي قال: «إن أي نتيجةٍ فيزيائية لا
تكون لها قيمةٌ موسيقية ما لم تؤيدها الأذن.» والذي اخترع أيضًا
أول أشكال السُّلم كما نعرفه اليوم. وقد اختلف المؤرخون حول تحديد
دَوْره بدقة، ولكن في وسعنا أن نفترض، دون أن نخشى الوقوع في
الخطأ، أن جزءًا كبيرًا من الأعمال المنسوبة إليه صحيح تاريخيًّا؛
فقد وضع جويدو نظامًا أدى إلى «السولفيج» الذي نستخدم فيه مقاطعَ
لفظية لقراءة المدوَّنات، وقد أخذ أنشودة القديس يوحنا المعمدان،
واستمد المقطع الأول من كل بيت للدلالة على درجةٍ مختلفة في
السُّلم والنص اللاتيني لهذه الأنشودة هو:
Ut queant laxus Resonare
Fibris
Miea gestorum Famuli
tuorum
Solve pollute Labii
reatum
Sancte Joannes
وهناك صوتٌ كامل يفصل بين «أوت» وهي دو فيما بعدُ و«ري» و«مي»،
وبين «فا» و«صول» و«لا»، ونصفُ صوتٍ بين «مي» و«فا»، وقد تغيَّرَت
«الأوت» فيما بعدُ إلى «دو»، وجمع بين الحرفَين الأوَّلَين في
كلمتَي البيت الأخير، بعد عصر جويدو، ليكوِّنا المقطع «سي»
١٦ حتى تكتمل دورة السُّلم. وكان جويدو قد وضع في الأصل
صوتًا زائدًا قبل «أوت» مستخدمًا الحرف اليوناني «جاما»، الذي يكون
بعد إضافته إلى «أوت» لفظ «جاموت
gamut»، وقد أصبَحَت كلمة «جاموت»
تدُل في السنوات التالية، على التركيب الكامل للسُّلم.
كذلك اهتم جويدو بحالة الموسيقى من الوجهة الأخلاقية في عصره،
فوجَّه إلى كثيرٍ من رجال الدين نفس التهمة التي كان البابا
جويجوري الأكبر قد وجَّهَها إليهم قبل ذلك بأربعمائة عام، بناءً
على موقفهم من الموسيقى «وأخطر الأمور جميعًا، أن كثيرًا من
القساوسة والرهبان يتجاهلون المزامير، والقراءات المقدسة،
والتراتيل الليلية … على حين أنهم يعكُفون بجهدٍ أحمق لا يكِل ولا
يمَل على دراسة علم الغناء …»
ومن المعتقد أن فن «الاسترسال» (السيكونسة
sequence) أو وضع نص للمقطع الأخير
من «التهليلة alleluia» قد ظهر
أصلًا في شمال فرنسا في القرن التاسع. وكان القديس أوغسطين والقديس
أمبروز قد امتدحا، قبل حوالي ٥٠٠ عام، تطويلَ غناء التهليلة أو
التسبيحة Jubilus، بوصفه حمدًا لله
دون كلمات. على أنه لم يكن من السهل حفظ التسبيحة، ومن هنا بدأَت
تظهر فكرةُ إضافةِ نصٍّ كلامي لمساعدة المغنِّين على تذكُّر
الألحان الطويلة، وفي البداية كان يُوضع لكل نغمة مقطعٌ واحد، ولكن
السيكونسة (الاسترسال) أصبَحَت بمُضي الوقت من التعقيد، واكتسبَت
من الشعبية ما جعلها تشكِّل خطرًا على الطابع الديني للشعائر.
وهكذا فإن الكنيسة لم تنظر بعين الرضا إلى هذا التطوُّر لفن
«السيكونسة» (الاسترسال)، ولا لفن التروبة (الفواصل)
(troping) أيضًا، والتروبة هي ما
يُقحَم بين الأجزاء التي تُغنَّى من القداس.
ولقد كان فن «السيكونسة» (الاسترسال)، والتروبة (الفواصل)
مقتصرًا في البداية على الأديرة، ولم ينتقل إلى النشاط الموسيقي
للأبرشية الدنيوية للكنيسة إلا فيما بعدُ، وعندئذٍ أدخل القساوسة
بالتدريج فواصلَ باللغات المحلية في الشعائر الدينية؛ لكي يشرحوا
لجمهور المصلِّين الأجزاء الغنائية من القدَّاس اللاتيني التقليدي
للشعائر الدينية. ولمَّا كان أقطاب الكنيسة لم يعترفوا قَط بهما
بوصفهما جزأَين رسميَّين من الشعائر الدينية، ونظرًا إلى أن مجمع
ترنتينو Trent (١٥٤٥–١٥٦٣م) قد
اعترض على قيمتهما في الشعائر، وعلى ما فيهما من تحرُّرٍ شعري، فقد
أصدر البابا بيوس الخامس أمرًا يحظُر فيه استخدام كل «السيكونسات»
ما عدا القليل منها، في الشعائر الرسمية للكنيسة، ويُحرِّم تمامًا
استخدام طريقة «التروبة» في هذه الشعائر. أما «السيكونسات» القليلة
التي لم يتناولها قرار الحظر، فما زالت محتفظة بمكانتها في الشعائر
الدينية إلى اليوم.
ولقد كان لفلاسفة العصور
الوسطى تأثيرٌ كبير في مجرى الموسيقى، سواء أكان هذا التأثير
مباشرًا أم غير مباشر؛ إذ كان القديس أوغسطين يؤمن بحرارة بأن من
الخير حظر الموسيقى الوثنية والأدب الوثني حظرًا تامًّا، حتى لا
يؤديا إلى إغراء المسيحيين على قراءة الشعراء الرومان، أو حضور
المسارح الرومانية. كذلك كان هناك جانبٌ صوفي في تقديره للموسيقى؛
ذلك لأنه كان يؤمن بالمبادئ الفيثاغورية التي كانت تردُّ ظاهرة
الموسيقى إلى علاقاتٍ عددية خاصة، وتحاول تفسيرها من خلال هذه
العلاقات، وهكذا رأى أوغسطين أن الله قد خلق الكون بأن جمَع كل
العناصر بالنِّسَب الصحيحة بدقة، حتى يتم التوازن المنسجم،
والتوافق بين كل عنصر وبين جميع العناصر الباقية وفقًا للمشيئة
الإلهية. ومن ذلك استنتَج أنه إذا كان عنصر الإيقاع في الموسيقى
نسخةً محاكية لأنموذج كوني، فلا بد أن الموسيقى تمثل الحركة
الكونية ذاتها على نطاقٍ محدود. ولقد كانت هذه النظرة أفلاطونية،
ردَّدَها أفلوطين قبل أوغسطين. كذلك مضى بويتيوس بهذه الحُجة خطوةً
أخرى في طريق التأمل الفلسفي؛ إذ جعل من النظرية الأفلاطونية
أساسًا لتقيم الموسيقى بوجهٍ عام، ولكن مهما كان الفلاسفة نظريين
في تقديرهم للموسيقى، فلسنا بحاجةٍ إلى تفكيرٍ طويل لكي ندرك مدى
تأثير نظرياتهم الميتافيزيقية والأخلاقية في مجرى التطور
الموسيقي.
ولم يكن الفلاسفة
الكاثوليكيون الذين عاشوا في القرون التالية للألف عام الأولى من
المسيحية يَقِلون عن الفلاسفة السابقين عليهم تزمُّتًا في آرائهم
الأفلاطونية في الموسيقى. من الجائز أن مواقفهم الفلسفية كانت في
بعض الحالات أقرب إلى النزعة الإنسانية من مواقف السابقين عليهم،
غير أن نظرتهم إلى الموسيقى ظلت تُماثِل نظرة هؤلاء الأخيرين في
طابعها الصوفي. وهكذا فإن الاتجاه الإنساني الذي نجده كامنًا في
فلسفة أبيلار Abelard، وفي إيمان
القديس فرنسيس St. Francis
(الأسيزي) ولاهوت القديس توما الأكويني؛ هذا الاتجاه لا يمتد إلى
كتاباتهم في الموسيقى، وطرأ تغييرٌ كبير على الآراء التي كان
أبيلار والقديس فرنسيس يقولان بها عن الموسيقى وهما بعدُ طالبان
للعلم، عندما انخرطا في السلك الرسمي للكنيسة؛ ذلك لأنهما عندما
أصبحا من رجال الكنيسة، صارا ينظران إلى المتعة الحسية التي كانت
الموسيقى تجلبها لهما في شبابهما على أنها ذات طابع لا ديني؛ إذ إن
موسيقى أيامهم الخوالي كانت تُوحي باللذة أكثر مما تُوحي بالتوبة،
وتُهيب بالجسد لا بالروح.
وقد وجد القديس أوغسطين وبويتيوس تشابهًا بين النظام الموجود في
الموسيقى، وبين النظام الأخلاقي الذي يسود جميع أرجاء الكون. وذهب
هذان الفيلسوفان، اللذان كان أحدهما مسيحيًّا والآخر وثنيًّا، إلى
أن الموسيقى المتناسقة تحاكي نظام الكون، ورأى الاثنان معًا أن
للموسيقى القدرة على رفع مستوى أخلاق الإنسان أو الحط منها. كذلك
أيَّد أوغسطين وبويتيوس النظرية الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى
نوعٌ من الرياضة يمكنه أن يُساعِد على تهذيب العقل، وإن الرياضيات
بالمثل تبعثُ نظامًا متوافقًا في الكون. وقد فسَّر أتباع بويتيوس
هذا الرأي الأفلاطوني بأنه يعني أن الموسيقى علمٌ تسري عليه نفس
القوانين الرياضية التي تبعث النظام في الكون، والانسجام بين
الأفلاك، وعلى ذلك فمن الواجب ألا تقل صرامةُ علم الموسيقى عن
صرامةِ القوانين الرياضية التي يسير بمقتضاها الكون. وقد قُدِّر
لرأي بويتيوس هذا أن يُسيطِر على التفكير الجمالي في الموسيقى
طَوال قرونٍ عديدة تالية.
ولقد عُرِف عن أبيلار (١٠٧٩–١١٤٢م) في شبابه أنه موسيقيٌّ بلغ من
البراعة في التأليف والعزف على العود
lute حدًّا اشتُهر معه شهرةً واسعة
بأنه الشاعر المُغنِّي
Minstrel.
والواقع أننا لا نذكُر عن أبيلار في العادة سوى أنه رجلُ كنيسة،
وصاحبُ نزعةٍ إنسانية، وكاتبٌ رومانتيكي في رسائله إلى إلويزا
Heloisa ومؤلِّف لأغانٍ باللغة
العامية كان طلابُ باريس يُنشِدونها، ولكننا كثيرًا ما ننسى أنه
لحَّن أو أعاد توزيع عدد من الأناشيد الدينية للكنيسة،
١٧ وأنه كان ينظُر إلى الفلسفة على أنها وسيلةٌ لجعل
التعاليم المسيحية معقولةً ومفهومة.
كذلك ألَّف القديس فرنسيس في شبابه، كبقية الشبان المختالين في
أيامه، أغانيَ وأشعارًا، ولكنه عندما تقدَّم به العمر، وأحس بأنَّ
أي عذابٍ لا يُعادِل ما عاناه المسيح في حياته، كتب «أنشودة للشمس
Hyman to the Sun» وهو قابع
يترقَّب الموت في زنزانة تغشاها الفيران، ولو كان أي مسيحي أقل منه
شأنًا هو الذي كتب أنشودة للشمس لعُدَّت أغنيةً وثنية، غير أن نزعة
القديس فرنسيس في شمول الألوهية (أو وحدة الوجود)، التي تتسع لحب
كل مخلوقات الله، كانت في إيمانها وتقواها بمنأًى عن كل شك.
ولقد كانت القرون الثمانية التي تفصل بين القديس توما (حوالي
١٢٢٥–١٢٧٤م) وبين القديس أوغسطين، تمثِّل البداية والنهاية
التقريبية لفلسفة العصور الوسطى. والواقع أن من المستحيل فصل
الفلسفة عن اللاهوت في العصور الوسطى؛ إذ إن المفكرين المدرسيين قد
استنفدوا طاقاتهم في تشييد مذاهبَ استدلاليةٍ منطقية تؤدي إلى
البرهنة بطريقةٍ استنباطية واستقرائية على وجود الله وألوهيته.
ولقد اختلف الموقف الفلسفي لكلٍّ من أوغسطين وتوما، وهما العملاقان
العقليان لهذه الفترة، في المسائل النظرية. أما في الموسيقى فلم
يكن هناك اختلافٌ بين آرائهما. وقد شارك القديس توما رأيَ أوغسطين
القائل إن علم الموسيقى مبنيٌّ على مبادئَ تحدِّدها الرياضيات
«وعلى ذلك فكما أن الموسيقى تقبل سلطة المبادئ التي يلقِّنُنا
إياها علم الحساب، فكذلك يقبل العلم المقدس المبادئ التي يُوحي بها الله.»
١٨
وعلى الرغم من أن الفلاسفة الكاثوليك كانوا يعلمون أن «العهد
القديم» تضمَّن وصفًا لموسيقى الآلات وللغناء، فقد اتجهوا إلى
الربط بين الآلات والطقوس الوثنية واللذات الجسدية، بل إن الفلاسفة
الكاثوليك والأشد تمسكًا بعقيدتهم قد أضفَوا على الآلات الموسيقية
دلالةً رمزية؛ فقد نظر القديس أوغسطين إلى الطبلة والسنطور
(
psaltery) على أنها تُذكِّر المرء
بجسد المسيح مشدودًا على الصليب «فالجلد يُشَد على الطبل، والوتَر
يُشَد على السنطور، وفي كلتا الحالتَين يُصلب البدن».
١٩ وهكذا لم يكن في وسع القديس أوغسطين أن ينظر إلى
هاتَين الآلتَين بنفس الروح المرحة التي نظر بها إليهما
العبرانيون، والتي تدُل عليها هذه الآية في «العهد القديم»:
«فليُغنُّوا لله مزمورًا بالطبل والسنطور.»
ولقد كان فلاسفة العصور الوسطى المسيحيون الذين تحدَّثنا عنهم
أعضاءَ في الكنيسة بصفةٍ رسمية أو بأخرى. ولآرائهم في الموسيقى
أهميةٌ عظمى بالنسبة إلينا اليوم؛ فآباء الكنيسة قد وضَعوا بالفعل
معيارًا للقيم بالنسبة إلى الموسيقى الدينية كان مبنيًّا على
الفلسفة اليونانية واللاهوت العبراني، وهما التياران اللذان
تبلوَرَا في كتابات القديس أوغسطين. وقد أسهم الفلاسفة المسيحيون
في معرفتنا بالموسيقى، بما تركوه لنا من أوصافٍ وتقديراتٍ لمعنى
الموسيقى وطبيعتها في عصرهم. أما فلاسفة الرومان فقد احتفظوا بآراء
اليونانيين في صورتها الأصلية، ولم يُعدِّلوا الفلسفات اليونانية
في الموسيقى وفقًا للحاجات الدينية، كما فعل آباء الكنيسة الأوائل.
وقد لخص أرستيدس كونتليانوس Aristides
Quintilianus الفلسفات الموسيقية التي كانت
تُعلَّم في الأكاديمية الأفلاطونية واللوقيوم (الليسيه) الأرسطي،
وحاول بويتيوس أن يقوم ﺑ «التوفيق بين آراء أرسطو وأفلاطون إلى
حدٍّ ما». وقد كان للفلاسفة المسيحيين والرومان معًا تأثيرهم في
مجرى الفلسفة الجمالية للموسيقى؛ إذ إنهم لخَّصوا الفلسفات
الموسيقية للحضارة الهلينية السابقة عليهم، وقدروا هذه الموسيقى
وعدَّلُوها وفقًا لحاجات الإنسان الغربي. وسواء قبلنا تقديرهم
للموسيقى التي ورثوها من اليونان القديمة وطريقتهم في استخدامها أم
رفضناهما، فإن حقيقة الأمر هي أنهم أعطونا مجموعة من المبادئ
الجمالية لا تزال الكنيسة والدولة تتخذها أساسًا ضروريًّا للحكم
على الموسيقى في أيامنا هذه.
القسم الخامس: الدراما الشعائرية
كانت الدراما الشعائرية مسرحيةً دينية تولَّدَت عن الفن الموسيقي
في العصر الوسيط. وقد بدأَت بوصفها وسيلةً مبسَّطة لتفسير الكتب
المقدسة لأفراد الكنيسة الأميين، ولكنها تدهوَرَت بمضي الزمن، حتى
أصبَحَت مسرحيةً ذات طابع ديني مشكوك فيه، وشوَّهَت قداسة الكنيسة
التي كانت تُعرض فيها. وهناك وجه شبه تاريخي غير واضح المعالم بين
أصل الدراما الشعائرية في العصور الوسطى وبين ذلك التفسير
الرومانتيكي الذي قدَّمه الفيلسوف «نيتشه» لنشأة الدراما اليونانية
في كتابه «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى اليونانية»؛ فقد كان
نيتشه يرى أن الدراما اليونانية قد نشأَت من روح الموسيقى
اليونانية، ثم تدهوَرَت في المسرح الروماني إلى استعراضاتٍ سطحية
تافهة. وبالمثل نشأَت الدراما الشعائرية من فن «التروبس» (الفواصل)
الموسيقي، ثم تدهوَرَت فأصبَحَت عروضًا تافهة للحياة في عصور
الكتاب المقدس وحكاياته.
ولقد كان آباء الكنيسة ينظرون إلى المسرح على أنه لونٌ حسي مبتذل
من ألوان الفن. وقد شكا المتحدث الرئيسي باسمهم، وهو القديس
أوغسطين، من أن الشبان قد افتُتنوا بخرافات هوميروس التي يعرضها
عليهم كُتاب المسرح من الرومان،
٢٠ وفي الكتاب الثاني من «الاعترافات» قال إن المسيحيين
يجدون لذةً خاصة عندما يشعُرون إزاء المحبِّين الآثمين والمجرمين
الكبار في المسرح بأسفٍ يفوق ذلك الذي يشعُرون به إزاء نفوسهم
المضطربة والتُّعساءِ الموجودين بينهم،
٢١ كذلك وَرَد ذِكر المسرح الوثني والموسيقى الدينية في
كتابات ترتوليان
Tertullian (حوالي
١٥٥ وحوالي ٢٢٢م)، ذلك المتدين الشديد التمسُّك بعقيدته، الذي تخلى
عن كنيسته الأصلية لينضم إلى طائفةٍ غريبة الأطوار وجدَها أكثر
تمشيًا مع المسيحية الزاهدة؛ فقد وصف ترتوليان المسرح الروماني
بأنه معبدٌ وثني يأوي شيطانَي الثمالة والشهوة، باخوس وفينوس،
وأرجع أصل المسرح إلى المعبد الوثني والمذبح الذي كان الوثنيون
يُحرقون البَخور فوقه، وسط أنغام المزمار والأبواق الصارخة،
ويقدِّمون القرابين إلى آلهتهم الحقارى.
٢٢ وقال إن العروض المسرحية التي ترجع إلى أصلٍ كهذا لا
يمكن أن تُعَد جديرة، من الوجهة الأخلاقية، بالموسيقى المسيحية
الصالحة التي كان المؤمنون يُغنُّونها فيما بينهم؛ فالمزامير
psalms والأناشيد الدينية تزيد
الإنسان قربًا من الله. أما المسرح الوثني فيهبط بالإنسان إلى
الشيطان.
غير أن الكنيسة كانت تتميز بالقدرة الفائقة على قهر العقبات التي
تحول دون تقدُّمها الديني وطموحها السياسي. وكانت بارعةً إلى أبعد
حدٍّ في رفع التناقضات الفلسفية حتى تبعث الانسجام في لاهوتها،
وأظهَرَت مقدرةً مماثلة في الطرق التي اتبعَتْها من أجل ضم
الوثنيين إلى صفوفها؛ فهي قد اقتَبسَت الموسيقى الوثنية في
البداية، كلما كان ذلك ضروريًّا ومفيدًا، واستَخدمَت ألحانها
لأغراضها الخاصة. وبعد انقضاء عدة قرون بدأَت الكنيسة تنظر بعين
الرضا على القيمة التعليمية للتصوير الرمزي. ولم يتبقَّ من بين
الفنون الأصلية سوى المسرح الذي لم يكن قد انضَم بعدُ إلى الثالوث
الفني، وقد تحقَّق ذلك بفضل الدراما الشعائرية.
ولقد كانت للدراما الشعائرية ثلاثة عناصر، هي الدين والموسيقى
والنص الكلامي؛ ففي البداية كانت هذه الدراما مجرد محاورةٍ درامية
تطوَّرت عن «التروبس» (الفواصل) التي أُقحِمت في الشعائر لشرح
الأجزاء التي تُغنَّى في القداس لجمهور المصلين. وقد ظلت الشعائر
الدينية تُؤدَّى باللغة التقليدية، وهي اللاتينية، على الرغم من
سيادة الجهل في ذلك العصر الذي كان يحول بين المسيحي العادي وبين
معرفة اللغة اللاتينية الكلاسيكية. وترتَّب على ذلك أن عددًا
قليلًا جدًّا من روَّاد الكنائس هم الذين كانوا يفهمون الشعائر.
وبظهور «التروبس» (الفواصل) استطاع هؤلاء على الأقل أن يتتبَّعوا
المعاني الأدبية الرئيسية للقداس. وقد حدث هذا التحوُّل الثوري
بإدخال شروح تَروِي باللغة الشعبية مغزى الصلاة. وكان معنى ذلك أن
فهم القداس لم يعُد مقتصرًا على الأقلية المتعلمة، بل إن المسيحي
العادي يستطيع أن يستمتع بفهم «التروبس» (الفواصل) المشروحة من
الصلاة، وبلغ من شعبية هذه «التروبس» (الفواصل) أن مؤلِّفيها لم
يكتفوا بأن تكون مجرد محاورة، وإنما أضافوا العنصر الثالث، وهو
الإيقاع والنظم المقفَّى.
ولقد كانت «التروبس» (الفواصل) تُؤدَّى في الأصل بصورةٍ تجاوبية؛
فكان أحد أعضاء الإكليروس يُرتِّل، أو يقرأ فقرة من الإنجيل، أو من
إحدى الرسائل الدينية باللاتينية، فيردُّ عليه قسيسان أو ثلاثة
بغناء شرح أو تلخيصٍ باللغة المحلية للفقرة التي قُرئَت. وبعد أن
أُضيف الإيقاع والنظم إلى هذا الحوار، ظهر شكلٌ جديد من أشكال
الدراما، كانت له إمكاناتٌ درامية أوسع كرواية القصص الديني المبني
على المعجزات وأسرار العقيدة المسيحية وحياة القديسين ومناقبهم.
وكانت الخطوة التالية في تطوُّر الدراما الشعائرية هي إدخال
المناظر؛ لكي تبدو الأحداث أكثرَ واقعية.
وقد اتسع بالتدريج نطاقُ الأحداث في الدراما الشعائرية حتى
استنفد الإمكانات المحدودة لهيئة القساوسة، ولم يعُد هناك مَفَر من
الاستعانة بجمهرة المتدينين والطلاب الجامعيين لكي يؤدُّوا أدوارًا
محدَّدة في هذه الدراما، وعندئذٍ بدأ استخدام اللاتينية في هذه
المسرحيات الدينية يتضاءل؛ لأن كثيرًا من الممثلين الذين ينتمون
إلى الطبقة العلمانية (أي الخارجين عن نطاق رجال الدين الرسميين)
لم يكونوا يتكلَّمون هذه اللغة أو يفهمونها، وبالإضافة إلى هذه
الصعوبة، فإن الممثلين العلمانيين، وكذلك القساوسة ذاتهم وصبية
المجموعات الغنائية المشتركين في الدراما، بدءوا يرتجلون الأجزاء
الخاصة بهم، ويُقحِمون كلماتٍ ونغماتٍ «دارجة»، بحيث إن سلطاتٍ
كنسية متعددة أفتت بأن الممثلين العلمانيين مسئولون عن انحلال هذه
المسرحيات المقدَّسة، وينبغي منعهم من الاشتراك في الدراما
الشعائرية، التي بدأَت في الأصل بوصفها تروبس (فواصل) في الأديرة،
ثم أصبَحَت عاملًا يساعد على شرح الصلاة في كنيسة الأبروشية، قد
أصبَحَت الآن عاملًا من عوامل تشجيع صبية الممثِّلين في هذه
المسرحيات على إدخال الموسيقى الدنيوية في بيت العبادة، وعَزفِ هذه
الموسيقى البعيدة عن القداسة أمام المذبح ذاته. وهكذا فإن أقطاب
الكنيسة لو كانوا في حاجةٍ إلى ما يذكِّرهم بألا يخفِّفوا من وطأة
رقابتهم على الموسيقى والأخلاق، فإنهم كانوا يجدون المبرِّر الكافي
لسياستهم كلما شاهدوا الممثلين العلمانيين يقتحمون ميدان الدراما
الشعائرية.
ولقد ظهَرَت الدراما الشعائرية في حوالي القرن العاشر، عندما بدأ
القساوسة يمثِّلون لأهل أبروشياتهم في الكنائس مسرحياتٍ مسيحية
جعلوها جزءًا هامًّا من الطقوس الدينية، وكان التمثيل في البداية
باللغة اللاتينية، ثم أصبَحَت اللغات المحلية تُستخدَم بدَورها في
القرن الحادي عشر، وبمُضِي الزمن تحوَّلَت هذه المسرحيات الدينية
إلى أعمالٍ ضخمة معقدة، وتزايد عدد مشاهديها، واتسعَ نطاق هذه
المسرحيات، وازدادت شعبيَّتها، إلى حد أنها أصبَحَت تُمثَّل خارج
الكنيسة فضلًا عن داخلها، وأصبَحَت تؤدَّى ﺑ
«اللغة الدارجة».
وبمُضي الوقت أخذ النظارة يحضُرون لمشاهدة هذه المسرحيات
الشعائرية بقصد التسلية، أكثر مما يحضُرون بقصد التزوُّد من
التعاليم المسيحية، وأصبحوا يتوقَّعون من الممثلين أن يقدِّموا
إليهم عرضًا ترويجيًّا. وازداد العنصر الهَزْلي في الدراما
الشعائرية، كما ازدادت المسرحيات «دنيوية»، وبتدهور نص الدراما
الشعائرية تدهوَرَت الموسيقى بدَورها. وهكذا فإن ما كان يتخذ في
البداية مظهر أسلوبٍ لتعليم العقيدة المسيحية باستخدام «تروبس»
(فواصل) موسيقية، قد انحَطَّ حتى أصبح مسرحيةً مصحوبة بالموسيقى،
تهتم بمبدأ أكثر مما تهتم بالإرشاد الديني.
القسم السادس: الموسيقيُّ الجوال
تبدَّدَت في مطلع القرن الحادي عشر مخاوفُ كان مبعثُها خرافةً
سائدة في الأزمنة الوسيطة، هي أن نهاية العالم وشيكة الوقوع
تمهيدًا لعودة المسيح في سنة ألف، فعندما لم تتحقق هذه الظاهرة،
بدأ الناس مرةً أخرى يبنون ويُبدِعون ويضعون الخطط للمستقبل؛ إذ إن
العالم باقٍ على أية حال، والله قد استجاب لصلوات المسيحيين
وتراتيلهم الدينية، وشاءت رحمتُه أن يؤجل يوم الحساب. وعندئذٍ
أشارت الكنيسة إلى أن على الشباب أن يتمسَّكوا بإيمانهم،
وبالموسيقى المقدَّسة عند أسلافهم، حتى يرضى الرب الواسع الرحمات
الذي يرعى المسيحية عن أغانيهم، ويستجيب لصلواتهم، مثلما رضي عن
الموسيقى الدينية لآبائهم، واستجاب لدعواتهم.
ولم تكن فترة تقديم الشكر هذه على دوام حياة البشر قد انتهت
بعدُ، في مطلع القرن الحادي عشر، عندما بدأ الطلاب وصغار رجال
الدين يهاجرون من مدينةٍ جامعية إلى أخرى. وظلوا يجوبون أرجاء
أوروبا حتى أوائل القرن الثالث عشر، وذلك على الأرجح بوصفهم
لاهوتيين ناشئين باحثين عن المعرفة والحقيقة، ولكنهم قبل انصرافهم
التام إلى الزهد، أو ارتدائهم ثياب الكهنوت، كانوا يشعرون بالرغبة
في الشرب من كأس المتع الدنيوية حتى الثمالة، مما كان يؤدي بالبعض
إلى التعجيل بالاعتراف الكامل بذنوبهم، وبالعض الآخر إلى التحوُّل
عن الكنيسة تحولًا نهائيًّا. وسرعان ما تدهوَرَ هؤلاء الطلاب
الرحَّل إلى طائفةٍ من الجوَّالين أو الصعاليك، ويُعرف هؤلاء عادة
باسم «المطربين goliards»، وقد ظهر
نشاطهم وتأثيرهم أوضح ما يكون في ألمانيا، وبدرجةٍ أقل في فرنسا
وإنجلترا. وفي الأوقات التي لم يكن فيها هؤلاء مشغولين بالسكَّر أو
الاحتيال على الفلاحين السذَّج، كانوا يؤلِّفون عددًا لا حصر له من
الأغاني الساخرة التي تقلِّد النصوص المقدسة، أو يستخدمون ألحانًا
شعائرية مع نصوصٍ بذيئة ترمي إلى السخرية من الدين والأخلاق، وفي
خلال تجوالهم في أرجاء كثيرة من أوروبا، متنقلين من جامعةٍ إلى
أخرى، كان هؤلاء الطلاب الرحَّل والمتطلعون إلى سلك الكهنوت
يؤلِّفون الموسيقى ويعزفونها، والأهم من ذلك أنهم كانوا يتبادلون
الأفكار. وعندما كان مَعين الخَلق عندهم ينضب، لم يكونوا يجدون
غضاضةً في اقتباس الألحان الرئيسية من الأناشيد والتراتيل
والقدَّاسات الدينية مباشرة. هكذا أصبَحَت الألحان والكلمات
المقدَّسة معرَّضة للسخرية، وللتفسيرات المستخفَّة، وأصبَحَت
الموسيقى الدينية بأَسْرها ضحيةً للمجون، ومحاكاة هؤلاء الطلاب لها
بطريقةٍ خارجة عن الدين. وكلما ازداد هؤلاء الطلاب انحلالًا من حيث
هم فئة، ازدادت كلماتُ أغانيهم المعدَّلة وضاعة، وازدادت ألحانهم
المؤلَّفة والمقتبَسة سخرية. ولمَّا كانت الكنيسة غاضبةً على
سخريتهم ومرتابةً في إخلاصهم الديني، فقد أبت عليهم الدخول في
مناطقها المحرَّمة.
ولقد قامت الفئة المُسمَّاة بالشعراء الجوَّالين الفرنسيين
٢٣ French jongleurs
بدَورٍ أكبر من ذلك الذي قامت به الفئة السابقة ذاتها، في الإبقاء
على جذوة الفن الموسيقي مشتعلةً في العصور الوسطى. وكان بعض هؤلاء
الشعراء الموسيقيين المتجوِّلين صعاليك لم يتلقَّوا تعليمًا
منظمًا، يكسبون قوت يومهم بخفَّة اليد وزلاقة اللسان، فتراهم على
استعدادٍ لإحياء عُرسٍ ريفي بموسيقاهم، أو أداءِ حركاتٍ بهلوانية
في مولدٍ صاخب تمامًا، كما هم على استعداد لتمثيل الأدوار الرئيسية
في المسرحيات الدينية. وكانت رحلاتهم تحملهم من إقليمٍ إلى آخر،
حيث كانوا يرفِّهون عن الناس بالدعابات والأحاديث والأغاني. ولقد
كان هذا المُغنِّي الجوال بالنسبة إلى عامة الشعب بمثابة الجريدة
اليومية والمسرح ومُنشِد الأغاني،
٢٤ وكان الضحك يسير في ركابه حيثما حل، ولكنه كان أحيانًا
يأتي معه بأنغامٍ حزينة. وكان الناس يُحبونه لبذاءته وخفَّة روحه
وموسيقاه، ولكنهم كانوا مع ذلك يخافون لسحره الطاغي، ولتلك «القوى
الخارقة للطبيعة» التي كان يستطيع أن يخلبهم بها.
ولقد كانت تُوجد من الشعراء الجوَّالين أيضًا فئةٌ مثقفة، كانوا
في بعض الأحيان من أُسرٍ عريقة، وهؤلاء كانوا يجدون لهم طريقًا إلى
قصور الإقطاع وبلاط الأمراء بوصفهم مُغنِّين وشعراء ورواة للأقاصيص
الكلاسيكية القديمة. وكان مثل هؤلاء الشعراء يظلون في القصور
كأفرادٍ دائمين، أو يتنقلون بين باحات القصور منشدين أغانيهم
وراوين أشعارَهم لجمهورٍ من المستمعين يقدِّرهم على الدوام، وكان
أصحاب المناصب الدينية الكبيرة، والنبلاء، وكبار أعيان المدن،
يحتفلون بضيوفهم هؤلاء، ويقيمون الحفلات الباذخة للاستمتاع بموسيقى
وأشعار تلك الشخصية الفذة، شخصية الشاعر الجوَّال.
ولقد كان أصل هؤلاء الشعراء
الجوَّالين (jongleurs) غامضًا،
وإن يكونوا قد أثبتوا وجودهم بوضوح في القارة الأوروبية في القرن
التاسع. ومن الجائز أن يكون أصلهم راجعًا إلى المهرِّج اللاتيني
(Latin mime) الذي كان بدَوره
جوَّالًا، وكثيرًا ما كان يسير في أعقاب الجحافل الرومانية
ليُرفِّه عن جنود قيصر وعن الشعوب المهزومة التي كانت تُرغَم على
الدخول في حومة الإمبراطورية. وقد سار الشاعر الجوَّال في العصور
الوسطى في أعقاب الصليبيين، لا لأنه كان متحمسًا دينيًّا لطرد
المسلمين من الأراضي المقدسة، بل لأنه كان ينتفع، كالمهرِّج
اللاتيني، من أية حملة مغامرة تُتيح له إيجاد متنفَّسٍ لروحه غير
المستقرة، وفرصة لبيع بضاعته الموسيقية. ولقد كان الشاعر الجوَّال
كالمهرِّج شخصيةً هزلية متجولة تجنَّبها مؤرخو الأدب الكاثوليكي
وتجاهلوها. وكانت الكنيسة تعُدُّهم أشخاصًا مغضوبًا عليهم بوجهٍ
خاص؛ لأنهم أقرب الناس تمثيلًا للحضارة الوثنية، ولأنه كان في
وسعهم أن ينفثوا «سحرهم المسموم» في الأخلاق المسيحية عن طريق
الغناء.
ولم يكن دَور الشعراء
الجوَّالين في العصور المظلمة متسقًا تمامًا أو واضحًا؛ فقد كانوا
شعراء وموسيقيين أصليين إلى حدٍّ بعيد. وعلى الرغم من أن الكنيسة
كانت تنبذهم رسميًّا، فإنه لم يكن من المستغرب أن تجد مغنيًا
بارزًا منهم ضمن أفراد بيتٍ واحد من أقطاب رجال الدين، بل إن
الأديرة ذاتها كانت تستضيف الشاعر الجوَّال أحيانًا؛ ليُحييَ لها
حفلاتٍ خاصة. ومن الواضح أن رجال الكنيسة لم يكونوا في حياتهم
الخاصة يلتزمون دائمًا مختلف الأوامر والمراسم التي أصدرتها مجامعُ
دينية متعددة ضد الشعراء الجوَّالين. أما رجل الشارع، فكان من
جانبه يستمتع بدعابات هؤلاء الشعراء في الحفلات الدينية، ويعجب
لبراعتهم في إضفاء الحيوية على الاحتفالات التي تُقام تكريمًا
لقديسٍ ما. ومع ذلك يعتقد بسذاجةٍ أن هذا الشاعر ذاته يحمل خميرة
الشيطان وإباحيته.
ولمَّا كانت الكنيسة تُدرِج هؤلاء الشعراء المغنِّين ضمن فئة
السحرة والآثمين، فقد عدَّتهم خطرًا على سلطة الدين، وكانت أحيانًا
تأبى عليهم طقوس التناول والأسرار القدسية. ولقد كانت الكنيسة تنظر
إلى هؤلاء الشعراء، فيما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر،
على نفس النحو الذي كان آباء الكنيسة الأوائل ينظرون به إلى
المهرِّجين اللاتينيين؛ أي بوصفهم خطرًا داهمًا على الأخلاق
المسيحية. والمهم في الأمر أنه مثلما كان المهرِّجون هم حفظة
الموسيقى والشعر الدنيويَّين في أيامهم، فكذلك عمل الشاعر
الموسيقار المتجوِّل على إبقاء جذوة الموسيقى والشعر، وربما الأدب
— في أنواعها شبه الدينية أو اللاتينية — مشتعلة خلال الجزء
المتأخر من العصور الوسطى.
ولكن كيف كان هؤلاء الموسيقيون يتعلمون فنهم؟ المفروض أنه كانت
هناك مدارسُ يتعلم فيها الناشئون منهم فنونَ العزف والغناء. وكان
هؤلاء الموسيقيون الشعراء يجتمعون بانتظام في موسم الصوم، وهو
الوقت الذي يُمنَعون فيه من ممارسة فنونهم أمام الجمهور. وكانت هذه
الاجتماعات تُتيح لهم فرصة مناقشة المشاكل المشتركة، وتبادُل
أشعارهم وأغانيهم بعضهم مع بعض.
ولقد كان معظم الفرسان النبلاء من فئة «التروبادور
troubadours» يضُمُّون واحدًا من
الشعراء الجوَّالين إلى بطانتهم،
٢٥ وكانت مهمة الشاعر الجوَّال هي تنظيم موسيقى الفارس
الذي يعمل في خدمته، وزيادة حصيلته من الأغاني بألحانٍ أو أشعارٍ
جديدة، بل تزويده بالموسيقى المعزوفة أيضًا. ولم يكن الشاعر
الجوَّال في واقع الأمر يصاحب الفارس عند غنائه، وإنما كان على
الأرجح يعزف بقوسه على آلةٍ وترية، ربما كانت الفييلا
(
vielle وهي من أسلاف الفيولينة
الحالية) فيعزف مقدِّمات ولازمات
interludes وختامات
postludes٢٦ كذلك كان يُطلَب إلى هؤلاء الموسيقيين الجوَّالين
إنشاد الأغاني الجديدة التي ألَّفها أسيادهم كلما استدعَت الظروف
ذلك. وكان المطلوب من الموسيقي الشاعر أيضًا أن يعوِّض نواحي النقص
في فن سيده؛ فالتروبادور الفارس الذي يؤلِّف أشعارًا رقيقة، ولكنه
يضع ألحانًا ضعيفة كان يستعين بخدمات موسيقى شاعرٍ بارع في
التلحين، والعكس بالعكس. أما التروبادور الذي يستطيع تأليف الشعر
والموسيقى معًا، والذي يستطيع الغناء والعزف في آنٍ واحد، فإنه
يكون أقل اعتمادًا على الشعراء المتجوِّلين. ولقد كان هناك قانونٌ
أخلاقي صارم ينزل بمقتضاه أرفع فرسان التروبادور إلى مرتبة الشاعر
المتجوِّل إذا جعل فنه تجاريًّا أو اتخذه وسيلةً لكسب العيش. ومن
جهةٍ أخرى كان في وسع الشاعر المتجوِّل، إذا كانت مواهبه خارقةً
للمألوف، كما في حالة كولان موزيه
Colin
Muset أن يرقى إلى مرتبة التروبادور.
ولقد أطلق البعض على هؤلاء الشعراء الجوَّالين اسم «البوهيميين
الأصالى» في عالم الفن بالعصور الوسطى. وبالفعل كانت هذه الفئة،
خلال الجزء الأكبر من تاريخها، تتألف من جماعةٍ غير منظمة من
الأفراد ذوي المواهب المتنوعة. وكان هناك تمييزٌ اجتماعي بين
الشاعر المتجوِّل الأمي وبين زميله الأكثر ثقافة، الذي كان في
كثيرٍ من الأحيان يغشى أوساط البلاط، أو يعيش في قصر نبيلٍ من
النبلاء؛ حيث يكون له في أحسن الأحوال مركز الخادم المميَّز. وكان
هندامه العجيب، ومظهره «الكوسموبوليتاني» يتيح له الاندماج بأرقى
الأوساط الاجتماعية وأدناها. وبحلول أواخر القرن الثالث عشر أو
أوائل القرن الرابع عشر، أصبح لهؤلاء الشعراء الجوَّالين مركزٌ
اجتماعي معترف به. وفي حوالي هذا الوقت أصبح الاسم الشائع الذي
يُطلَق على كل الشعراء الجوَّالين هو «منستريل
minstre».
ولقد كان موطن التروبادور هو جنوب فرنسا، ولكن أشعاره وأغانيه
انتقلَت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر من المقاطعات
الجنوبية إلى الشمالية. وكان من أسباب ذلك الحملة الصليبية في عام
١١٤٧م، التي جمعَت بين فئاتٍ من الحُجَّاج ينتمون إلى شمال فرنسا
وجنوبها، كما كان من أسبابه الزيجات الملكية التي جمعَت بين أُسرٍ
من المنطقتَين معًا. وقد اتخذ شاعرُ التروبادور في الشمال اسم
التروفير trouvere تمييزًا له من
زميله في الجنوب.
وقد وُضعَت ألحانٌ متعددة لبعض أشعار التروبادور و«التروفير»
المتعلقة بالحب والدين والسياسة، ولكنهم لم يكونوا يُبيحون استخدام
اللحن الواحد لأي نصَّين مختلفَين. ولقد كانوا يقبلون أي تغييرٍ
طفيف يطرأ على اللحن الأصلي، فيعُدونه شيئًا جديدًا، أما تكرار نفس
اللحن فإنه يشوِّه سمعة المغنِّي والأغنية. ولقد كان صاحب أعظم
موهبةٍ موسيقية بين أفراد «التروفير» المعروفين هو «آدم دلاهال
Adam de la Halle»، والذي ألَّف
موسيقى «روبان وماريون Robin et
Marion»، وهي أقدم مسرحيةٍ نعرفها عن المجتمع
الفرنسي في العصور الوسطى، تتناول موضوعًا دنيويًّا
مُلحَّنًا.
وكانت البساطة هي أساس النظرة الجمالية للتروبادور إلى الموسيقى؛
فقد كانوا يُبدون اهتمامًا متساويًا بالنص الشعري واللحن الموسيقي.
وكان التروبادور ينظر إلى شعره وغنائه على أنهما شكلٌ واحد من
أشكال الفن، ولم يكن يفرق في العادة بين أحدهما وبين الآخر، وقد
لخص دانتي فلسفتهم في «الكوميديا الإلهية» بتلك الحكمة الموجزة
التي قالها على لسان التروبادور «فولكير دي مارسي (من مدينة
مرسيليا) Folquert de Marseilles»
«شِعرٌ بلا موسيقى كطاحونٍ بلا ماء.»
وبعد فترةٍ ما من الغزو النورماندي عام ١٠٦٦م حمل التروبادور
و«المنستريل» فنَّهم معهم عَبْر بحر المانش إلى إنجلترا. وكانت
إليانور أميرة أكويتانيا
Eleanor d’
Aquitaine قد أدخلَت في البداية فن التروبادور إلى
شمال فرنسا عندما تزوَّجَت من لويس السابع وقتَ أن كان أميرًا.
ولقد كانت إليانور مشغوفة بالموسيقى، حتى إن شعراء التروبادور في
أكويتانيا كانوا يعُدونها ملهمتَهم وراعيةَ أغانيهم. وعندما نزلَت
شمال فرنسا بعد زواجها أتت معها بالتروبادور المشهور «برنار دي
فنتادورن
Bernard de Ventadorn»؛
لكي يُدخِل موسيقى المقاطعات الجنوبية إلى الشمال.
٢٧ وفي عام ١١٥٢م أُبطل زواجها بلويس السابع، فتزوَّجَت
من بعده ﺑ «هنري دانجو
Henri d’
Anjou»، وهو أول فردٍ من أسرة الأنجفينيين يتولى
الحكم في إنجلترا. ويُقال إنها ضمَّت إلى بلاطها «برناردي
فنتادورن» مرةً أخرى؛ لكي يُدخِل فن التروبادور إلى إنجلترا. ولقد
بلغ من تأثير حياة البلاط النورماندي على الأنجليِّين
Anglicans أن اللغة الفرنسية
أصبَحَت لغة الدولة الرسمية، وأصبح الأدب والموسيقى الفرنسيان موضع
إعجاب المثقَّفين والنبلاء.
وقد امتد تأثير الفن الفرنسي في اتجاهٍ آخر، هو ألمانيا. وفي هذه
الحالة بدَورها أدَّى شغف امرأة بالموسيقى إلى التأثير في الحياة
الثقافية لأمة بأَسْرها؛ فعندما تزوَّجَت «بياتريس دي بورجونيا
Beatrice de Bourgogne» من فردريك
بربروسا أحضَرَت معها «التروفير» «جويودي بروفان
Guiot de Provintes» إلى ألمانيا.
وبفضل جهودهما المشتركة اصطبغ الفن والفكر الألمانيان بصبغة
الموسيقى والأدب الفرنسيَّين. وكان الجوَّالون الصعاليك
vagantes قد طبَعُوا الشعب
الألماني بطابعهم الخاص في الموسيقى. وأدى إدخال الأفكار الفنية
الفرنسية، ممتزجة بشعر المغنِّين الجوَّالين وأغانيهم، إلى خَلقِ
تُراثٍ موسيقي حافل مهَّد الطريق لظهور فئةٍ أخرى من الشعراء
والموسيقيين الجوَّالين، هي «المينيزنجر
Minnesinger»، وكانت موسيقى
«المينيزنجر» الألمان وشعرهم، شأنها شأن موسيقى «التروفير»
الفرنسيين وشعرهم، تدور حول الحب والدين والسياسة
والمغامرات.
ولقد أصبح «المينيزنجر»، بفضل أغانيه وأشعاره، نبيَّ الألمان.
وكان الجو السياسي يموج بشيءٍ فسَّره الخيال المُرهَف ﻟ
«المينيزنجر» بأنه تغيُّرٌ وشيك الوقوع، ولا جدال في أنه كان يلقى
في ذلك تأييدًا من أسرة «هوهنشتاوفن
Hohenstaufen» المالكة؛ فقد تشكَّك
المينيزنجر في قداسة البابوية وفي سلطاتها الاجتماعية. وكان ذلك
كفيلًا بإحداث صدعٍ تام في بناء المسيحية في ألمانيا لولا أن
البابا «أنوتشنتي الثالث» رد للكنيسة السلطة التي كانت لها في
البداية، وأصبح مسيطرًا على الموقف السياسي، غير أن الفنان كان قد
أشعل شرارة الخيال الثائر بين العناصر المفكِّرة في جميع أرجاء
ألمانيا والنمسا؛ ولذلك فعلى الرغم من أن سلطة البابا قد عادت إلى
السيطرة على الولايات الألمانية، فإن عجلة التغيُّر لم تكد تتوقف
حتى ظهر فنانٌ آخر، أشد تعصبًا وتحمسًا من أفلاطون، انشَق نهائيًّا
على روما.
كان المينيزنجر «فالتر فون در فوجلفيده Walther
von der Vogelweide» من أُسرةٍ عريقة، بحيث إن
مركزه في بلاط «الهوهنشتاوفن» الحافل بالمؤامرات والدسائس، لم يكن
مهدَّدًا من الوجهة الاجتماعية، أو متوقفًا على عبقريته من حيث هو
شاعرٌ غنائي وموسيقار. وقد وُصِف بأنه شاعرٌ موسيقار من طبقة
الفرسان، ومن المعتقَد أنه كان يجوب أرجاء الولايات الألمانية
متنكرًا في ثوب موسيقيٍّ جوال
(minstrel). وكان فالتر مفكرًا
رومانسيًّا مثلما كان شاعرًا وموسيقيًّا ساخرًا، كرَّس فنه لخدمة
الحركة المعادية للبابا، التي كان فردريك الأول قد أعطاها الدفعة
الأولى. وقد أخذ الشعراء والموسيقيون الألمان على عاتقهم فصل
الإمبراطورية الألمانية عن روما، وأطلقوا على البابا اسم «المسيح
الدجال». وهكذا أُجريَت تفرقةٌ نظرية بين المسيحية وبين حكم البابا
لأول مرة بعد ألف ومائتَي عام. وأصبح فالتر هو النصير القوي
والمرشد الروحي للفنانين. غير أن فردريك مُنِي بهزيمةٍ عسكرية،
ولكي يستعيد ما يمكن استعادتُه من نفوذه، سار حافيَ القدمَين على
الجليد، وركَع خاضعًا تائبًا أمام البابا «ألكسندر الثالث»، وعادت
لروما السيطرة مرةً أخرى. وقد شهد «فالتر فون در فوجلفيده» هذا
التحوُّل المؤسف لمَجْرى الأحداث، وكان كل ما يستطيع أن يفعله هو
أن يقف عن بُعد، ويرقب البابا التالي «أنوتشنتي الثالث»، وهو
يمهِّد الطريق لانهيار الإمبراطورية الألمانية.
لقد كان شعراء التروبادور يتخطَّون الحواجز الجغرافية، وينشرون
نوعًا جديدًا من الفن متحررًا تمامًا من رقابة الكنيسة وسلطانها في
جميع البلدان المحيطة بفرنسا. ومع ذلك فإن شعر التروبادور
وموسيقاهم كان فنًّا أرستقراطيًّا لا يشارك فيه بالضرورة جميع
الفرنسيين أو أفراد الطبقات الدنيا في مختلف أرجاء أوروبا. وكانت
موسيقاهم تنطوي على نغمةٍ أساسية متكرِّرة، هي النزاع الاجتماعي
الذي يرجع إلى صراع مرير على السيطرة بين البابا والملك. وقد
استعان التروبادور بالألحان الشعبية، وعلى الرغم من أنهم عدَّلوها
بحيث تُلائم أغراضهم، فإنهم ساعدوا على حفظها ونشرها. أما الكنيسة
فقد سلكَت طوال القرون مسلكًا مخالفًا، فحرَّمَت الألحان الشعبية
وتجاهلَتها، فكانت النتيجة أن هذه الألحان لم تُسجَّل، وليس هناك
من سبيلٍ إلى معرفة عدد ما فُقد منها. ولو كانت هذه الألحان قد
دوِّنَت بنفس العناية التي دوِّنَت بها الموسيقى الكنسية، لازدادت
معرفتُنا بموسيقى العصور الوسطى ثراءً إلى حدٍّ بعيد، ولكن الكنيسة
كانت تنظر إلى الموسيقى الشعبية على أنها سوقيةٌ لا تستحق
التسجيل.
والواقع أنَّ ما تبقى لنا من الإنتاج الموسيقي لمختلف فئات
الشعراء الجوَّالين، وهم «التروبادور» و«المينيزنجر» و«الجونجلور»
(الأدباتية) jonglieur و«الجوليار
(المغزلكون) goliards» قليل
للغاية، وأغلب الظن أنهم لم يكونوا يتجشَّمون عناء تدوين موسيقاهم.
ولقد كانت ألحانهم متكرِّرة، ولما كان حفظها سهلًا، فالأرجح أن
منشدي العصور الوسطى لم يهتمُّوا دائمًا بتدوينها، ومن الجائز أنهم
لم يعرفوا وسيلة التدوين. ولعل ذلك هو السبب في أنَّ ما لدينا من
أشعارهم الفعلية أكثر مما لدينا من موسيقاهم ذاتها. وقد أُعيدَت
كتابة بعض الألحان الرئيسية لهؤلاء الموسيقيين الوسيطيين بطرق
التدوين الحديثة. وعلى الرغم من جسارة هذه المحاولة وجُرأتها،
فإنها عاجزة عن أن تُوحي إيحاءً تامًّا بالروح الأصلية التي كانت
هذه الموسيقى تؤدَّى بها.