الفصل الثالث
الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
القسم الأول: الفيلسوف والكنيسة والبوليفونية في العصر
الوسيط
كانت الفترة المتأخرة من العصور الوسطى فترةَ صراع فلسفي هائل
بين مختلف مذاهب الفكر في الكنيسة. ولقد رأينا من قبلُ أن الفترة
المتقدمة في العصور الوسطى قد عَرفَت أفلاطون بوصفه مؤلِّفَ محاورة
«طيماوس» التي وصف فيها بطريقةٍ أسطورية أصل العالم بروحٍ صوفية
مماثلة لروح الفيثاغوريين. كذلك عَرفَت هذه القرون المتقدمة ذاتها
أرسطو بوصفه عالِمَ منطق؛ أي إن الباحثين الغربيين لم يكونوا
يعرفون من كتابات أفلاطون وأرسطو في ذلك الحين إلا أقل القليل؛ ومن
ثَم كانت معرفتهم بهذَين الفيلسوفين القديَمين مقتصرة على حفنةٍ من
الترجمات من اليونانية إلى اللاتينية، ولكن الغرب اللاتيني عَرف،
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كتاباتِ الفلاسفة العرب
واليهود الذين حافظوا على مؤلَّفاتِ اليونانيين خلال القرون التي
كانت فيها المسيحية تكافح التجديف العقلي والفني للوثنيين. أما قبل
ذلك فلم يكن الباحثون المسيحيون يعرفون اليونانيين — أعني أفلاطون
وأرسطو — إلا كما فسَّرهم آباء الكنيسة، وهو تفسير كان دائمًا
متعاطفًا مع العقيدة المسيحية. كذلك عَرفَ الباحثون المسيحيون
الفلسفات الموسيقية القديمة كما فُسِّرَت وأُدمِجَت في كتابات
أوغسطين وبويتيوس.
وقد تُرجِمَت مؤلَّفات الفيلسوف العربي «الفارابي» (المتوفى
٩٥٠م) إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر. وساعد العَرْض الذي
قدَّمه الفارابي لفلسفة أرسطو على تعريف العالم المسيحي بالمذهب
المشَّائي في التفكير، وهو المذهب الذي كان ينطوي ضمنًا على
الفلسفة الجمالية للموسيقى اليونانية. كذلك دعا «أبيلار
Abelard» في القرن الثاني عشر إلى
مزيد من الروح الإنسانية في المسيحية، ووازَن بين الدور الذي ينبغي
أن يلعبه كلٌّ من الإيمان والعقل في الحياة الدينية. وفي القرن
الثالث عشر انحاز مفكِّرٌ أقرب إلى النزعة التجريبية، هو روجر بيكن
Roger Bacon، إلى جانب العلم
الأرسططالي ضد الأسطورة الأفلاطونية. وفي القرن نفسه تولَّت فلسفة
توما الأكويني Thomas Aquinas مهمة
الجمع بين أفلاطون وأرسطو، والإيمان والعقل، والأسطورة والعلم،
والتوفيق بين هؤلاء جميعًا وبين المسيحية.
وكان أرسطو قد سَخِر من قبول أفلاطون لنظرية الفيثاغوريين في
انسجام الأفلاك، غير أن مفكِّري العصور الوسطى لم يكونوا على
استعداد للتخلي عن هذه العلاقة المثيرة للخيال، بين الموسيقى وبين
مجموعات الأفلاك الصدَّاحة، وكذلك كان موقف خلفائهم طوال السبعمائة
عام التالية. ولقد كان الدور الذي أسهَم به الفيلسوف في تاريخ
الموسيقى من القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر هو دور المدافع
النظري عن اسمَي أفلاطون وبويتيوس الموقَّرَين. ومن الجائز أن
المثقفين المسيحيين قد انقسموا على أنفسهم، في مجال اللاهوت، بين
المثالية الأفلاطونية والنزعة الطبيعية الأرسططالية، ولكن لما كان
أرسطو قد أخذ بآراء أفلاطون في الموسيقى، وردَّدَها مع تعديلاتٍ
طفيفة، فإن هذه الحقيقة قد أدَّت بأصحاب النزعة الإنسانية في
العصور الوسطى إلى إبداء المزيد من الثقة والإيمان بصحة التفكير
الجمالي اليوناني في ميدان القيم الموسيقية، بل إن مفكرًا
إنسانيًّا صريحًا مثل أبيلار الذي كان الطلاب في باريس يردِّدون
أغانيه الدنيوية التي ألَّفها في شبابه، قد وافق بوصفه رجلَ كنيسة،
على رأي أوغسطين القائل إن المسيحي الصالح ينبغي عليه ألا يقرأ
أشعار الوثنيين، أو يستمع إلى موسيقاهم، كذلك فإن فيلسوفًا
أرسططاليًّا مخلصًا مثل بيكون
١ الذي كانت آراؤه في دَور الموسيقى في التعليم تقدمية
بلا جدال، وقد أصدر على التجديدات في الموسيقى الدينية أحكامًا
تشوبها روح التحمُّس للأفلاطونية.
والواقع إنه لم يتبقَّ لنا الآن إلا القليل من الموسيقى الفعلية
للعصور التي تُسمى بالعصور المظلمة في العالم الغربي؛ ففي تلك
المرحلة من الحضارة المسيحية كما هي الحال بالنسبة إلى الحضارة
اليونانية، لا بد لنا من الاعتماد على الدراسات العلمية التي حفظها
لنا التاريخ حتى الآن. أما الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر إلى
القرن الخامس عشر، فإن ما تبقَّى لنا من موسيقاهم أكثر إلى حدٍّ
ما، ولكن ما زال على الدارس الحديث للتاريخ أن يرجع في بحثه لأحوال
الموسيقى، إلى دراسات الفلاسفة واللاهوتيين في العصر الوسيط، الذين
كانوا في واقع الأمر فئةً واحدة.
ومن المؤكد أنه لو لم يكن الباحثون الإسلاميون والعبرانيون قد
حافظوا على كتابات اليونانيين لتضاءلَت معرفتنا بالفلسفة والموسيقى
القديمة إلى حدٍّ بعيد، ولقد كان المسيحي البيزنطي في الشرق الأدنى
أكثر إلمامًا بفلسفة اليونانيين من المسيحي الغربي، كما أنه كان
يعُد نفسه شخصًا أكثر ثقافة، وأرفع عقلًا من نظيره في الغرب. غير
أن الفتاوى التي كانت الكنيسة تُصدِرها عن الموسيقى كان لها
تأثيرها في المسيحية بأَسْرها؛ فالكنيسة كانت تنظر إلى الموسيقى
على أنها نوعٌ من الإرشاد الديني، وكما أن هناك عقيدةً واحدة لا
تتزعزع، يتعيَّن على المسيحية بأَسْرها أن تؤمن بها، فكذلك كان من
الواجب أن تكون موسيقى الكنيسة الكاثوليكية واحدةً لا
تتغير.
ومن الجائز أن فلسفة اليونانيين لم تزدهر خلال قرون سيادة
المسيحية هذه، غير أن تطوُّر الموسيقى كان أسعد حظًّا دون شك؛ فقد
أدخل فن توزيع الأدوار الغنائية المختلفة في الصلاة الدينية عن
طريق ارتجال لحنٍ بسيط يُغنَّى في مقابل إنشاد اللحن الجريجورياني
الجاد. ومن هذه البداية المتواضعة صوتَين كلٌّ منهما في مقابل
الآخر نشأ فن البوليفونية، الذي كان بالنسبة إلى التطوُّر التاريخي
للموسيقى خطوةً لا تقل في أهميتها عن اختراع «جويدو داريتسو»
للتدوين الموسيقي. وإذن فالموسيقي في العصر الوسيط قد بدأ بإعطاء
الموسيقى نظامًا خاصًّا من علامات الأصوات، كان يشير أساسًا إلى
اتجاه اللحن. وكان العمل الثاني الذي أنجزه هو إدخال طريقة غناء
الأسطر اللحنية المختلفة في الوقت الواحد، ومن الجائز جدًّا أن هذه
الطريقة قد أُخذِت عن حضاراتٍ أخرى، ولكن الموسيقي الكنسي هو الذي
نمَّاها، وإن لم يكن ذلك قد حدث في كل الأحوال بطريقةٍ يرضى عنها
المدافعون عن العقيدة المتحمِّسون لها.
والبوليفونية هي موسيقى تُكتب، بحيث تجمع بين لحنَين أو أكثر
يؤدَّيان في وقتٍ واحد بالصوت البشري أو الآلات أو بهما معًا. وليس
أصل الموسيقى البوليفونية معروفًا، ومن هنا كان أقصى ما يستطيع
مؤرخونا الموسيقيون أن يفعلوه هو التخمين بالمكان والزمان اللذَين
ظهَرَت فيهما هذه الموسيقى لأول مرة في العالم. ونحن نعلم أن
الموسيقى اليونانية كانت مونوفونية؛ أي إنها كانت تتألف من سطرٍ
لحني واحد يُعنَى بمصاحبة الموسيقى. ومع ذلك فإن كتابات أفلاطون
تتضمَّن إشارة إلى نوع محدَّد من الموسيقى، يغنِّي فيه المغنِّي
نغمة، ويعزف بالآلة الموسيقية نغمةً أخرى. ومن سوء الحظ أن أفلاطون
لم يتوسَّع كثيرًا في شرح هذه الطريقة الموسيقية القديمة، كما أننا
لا نعرف مؤلَّفًا آخر للفلاسفة اليونانيين تضمَّن إشارة إلى هذا
الغناء المزدوج الأدوار، الذي يوحي بوجود نوع بدائي من
البوليفونية. ولقد كان أفلاطون يشير إلى أنغام تعليم الليرا
lyre عندما نصَح المربِّين بتجنُّب
التعقيد في الأنغام والإيقاعات على النحو الذي كان يشوِّه الموسيقى
اليونانية في جمالها وبساطتها. وفي هذا الصدد قال: «وتبعًا لهذا
الرأي، ينبغي على المعلِّم والدارس أن يستخدما أصوات الليرا؛ لأن
أنغامه صافية، بحيث يعزف المعلم وتلميذه نغمةً مقابل نغمة في
اتفاقٍ صوتي
unison، أما التعقيد
وتنويع الأنغام، عندما تعزف الأوتار صوتًا ويغني الشاعر أو الملحن
صوتًا آخر، وكذلك عندما يُحدثان توافقاتٍ يُجمع فيها بين مسافاتٍ
صغيرة وكبيرة، وبين أنغامٍ بطيئة وسريعة، أو مرتفعةٍ ومنخفضة — أو
عندما ينوِّعون الإيقاعات بطريقة معتقدة، ويلائمون بينها وبين
أنغام الليرا — كل هذه أمور لا تلائم أولئك الذين يتعيَّن عليهم أن
يكتسبوا معرفةً سريعة مفيدة بالموسيقى في ثلاث سنوات؛ ذلك لأن
المبادئ المتضاربة تبعث على الحَيْرة، ويكون من الصعب تعلُّمها …»
٢
وتُوجد في كتابات فلاسفة العصر الوسيط فقرةٌ أسلوبُها صوفي رفيع،
كتبها الفيلسوف الأيرلندي جون سكوتس إريجينا
John
Scotus Erigena (٨٠٠–٨٧٧م) عن البوليفونية
البسيطة، وفيها شبَّه اللحن المؤلَّف من أسطرٍ لحنية متعددة
بالعناصر المتباينة التي تؤلِّف عالمًا منسجمًا، ومضى في كتابه
«تقسيم الطبيعة
divisione naturae»
يقول: «إن جمال الكون الكامل المؤلَّف من أشياءَ متشابهة وأشياءَ
متباينة، قد صيغ بانسجامٍ رائع من أجناسٍ متعددة، وصورٍ متباينة
بتنظيماتٍ مختلفة للجواهر والأغراض، جُمعَت سويًّا في وحدةٍ لا
سبيل إلى التعبير عنها؛ ذلك لأن اللحن المنظَّم المؤلَّف من أصواتٍ
تختلف كمًّا وكيفًا يُدرك نغمة نغمة، بحيث تفصل بين كلٍّ منها
والأخرى نِسَبٌ مختلفة من الارتفاع والانخفاض، ولكن هذه الأنغام
متوافقة فيما بينها تبعًا للقواعد المعقولة المقرَّرة في الفن
الموسيقي، بحيث تبعث عذوبة ورقةً طبيعية.»
٣
ولقد كان أقدم نوع من الموسيقى البوليفونية سجَّله التاريخ في
الغرب هو ذلك النوع المعروف في العصر الوسيط ﺑ «الأورجانوم
organum»، الذي مَرَّ بمراحلَ
متعددة في التطوُّر، من تأليفٍ موسيقي بسيط يتألف من سطرَين لحنَين
إلى تأليفٍ معقَّد متعدد الأصوات، وذلك خلال الفترة الممتدة من
القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر. وكانت «الموتيت
motet» هي أرقى أنواع الموسيقى
البوليفونية في أواخر العصر الوسيط وفي العصر القوطي، وعصر النهضة.
وفي القرن السادس عشر كانت البوليفونية هي مصدر عظمة «القداس» عند
بالسترينا، وبلغَت البوليفونية المتأخرة أوج كمالها الفني في
«الفوجة fugue» عند باخ بعد مائتَي
عام.
وهناك إشارات إلى
البوليفونية في الفترة الواقعة بين القرن التاسع والقرن الثالث
عشر، ولهذه الإشارات أهميةٌ عملية لكل من يريد تتبُّع التطوُّر
التاريخي للموسيقى البوليفونية في الحضارة الغربية. وقد خلَّف لنا
كاتبٌ مجهول من القرن التاسع بحثًا في البوليفونية بعنوان
Musica enchiriadis، وصف فيه أنواع
الأورجانوم التي كانت مستخدمةً في أيامه. وبعده بثلاثة قرونٍ قال
كاتبٌ إنجليزي اسمه «جون كوتن
John
Cotton» إن الموسيقى البوليفونية تُعزَف في القرن
الثاني عشر على أنحاءٍ متعددة. ثم قال: «ولكن أسهل الطرق فهمًا هي
تلك التي تكون فيها للحركة المضادة أهميةٌ خاصة؛ أي عندما يهبط سطر
الأورجانوم على حين يصعد اللحن الثابت «كانتوس فيرموس
Cantus firmus»، والعكس بالعكس.»
٤ كذلك قدَّم إلينا جيرالدوس كامبرنسيس
Giraldus Cambrensis (حوالي
١١٤٧–١٢٢٠م) وصفًا للغناء المتقَن المؤلَّف من أسطرٍ لحنية متعددة،
والذي وجد أهل ويلز يؤدُّونه بسهولةٍ كبيرة، فقال: «إنهم في
حفلاتهم الموسيقية لا يغنُّون في اتفاقٍ نغمي كما يفعل سكان البلاد
الأخرى، وإنما يوزِّعون الغناء على أسطرٍ لحنية عديدة متباينة،
بحيث إنك تسمع في فِرَق المغنِّين، التي يصادف المرء الكثير منها
في ويلز، من عدد الأسطر اللحنية الموزَّعة والأصوات بقَدْر ما
يُوجَد من عدد المغنِّين، ثم يتحد هؤلاء جميعًا آخر الأمر في صوتٍ
واحد متناغم، تمثِّله الرقة الناعمة لنغمة «سي بيمول»، وفي المنطقة
الشمالية من إنجلترا، فيما وراء نهر الهمبر، وعلى حدود يوركشير،
يستخدم الأهالي نفس النوع من الأصوات المتوافقة المنسجمة، ولكن في
تنوُّع أقل؛ إذ يوزِّعون الغناء على سطرَين لحنين أو صوتَين فقط؛
أحدهما يلغط في القرار، والآخر يرفع عقيرته بصوتٍ حاد أو رفيع.»
٥
على أن فن البوليفونية لم يكن أسعد حظًّا في الوثائق البابوية،
أو في كتابات اللاهوتيين من الموسيقى المقدسة في أواخر العصر
الوسيط، وفي عصر النهضة، فقد وجَّهَت سلطاتُ الكنيسة إلى
البوليفونية نفس النقد الذي وجَّهَه أفلاطون في «القوانين» إلى
الموسيقى الموزَّعة على سطرَين لحنين. صحيحٌ أن اللاهوتيين قد
وجَّهوا هذا النقد لأسبابٍ مختلفة، ولكن أسس هذه المعارضة كانت
متشابهة؛ ذلك لأن أفلاطون كان ساخطًا على إدخال التجديدات
الموسيقية للشعراء المغنِّين اليونانيين في تعليم الشباب الأثيني.
وكان يعتقد أن عزف سطرَين لحنَين مختلفَين في آنٍ واحد أو بطريقةٍ
شبه متقطعة (staccato-like
fashion) يُعبِّر عن وجود مبادئَ متعارضة تبعَث في
النفس الاضطراب، تؤدِّي آخر الأمر إلى الانحلال الأخلاقي؛ وعلى ذلك
فإن الشاب الذي يتلقى هذا النوع من التعليم الموسيقي يجد صعوبة في
استيعاب مبادئ الموسيقى، بل إنه يتعرَّض لخطر الاضطراب النفسي بفعل
هذا الفن المتنافر الذي يمكنه أن يتغلغل في أعمق أعماق النفس،
ويؤثِّر في الجسم بدوره. وعلى ذلك فمن الواجب على حراس الدولة أن
يراقبوا عن كثَب تعليم الصغار، حتى يتأكدوا من أن الأساليب
والإيقاعات التقليدية هي وحدها التي تُعلَّم؛ إذ إن ما تتسم به
طبيعتها من بساطة ووحدة كفيلٌ بأن يبُث النظام والطاعة في نفس
التلميذ.
أما الكنيسة الكاثوليكية، فقد شعَرَت بالقلق تجاه الموسيقى
البوليفونية نظرًا إلى الاعتقاد السائد بين كثير من القادة
المسيحيين بأن هذه الموسيقى تُزعزِع الإيمان، وتبعث الغموض في النص
الكلامي، وتولِّد الاضطراب بدلًا من أن تبُثَّ في المؤمنين شعورًا
بالسلام والطمأنينة أثناء أداء الشعائر الدينية. ولسنا نعلم على
وجه التحديد متى أُدخِلَت البوليفونية لأول مرة في موسيقى الكنيسة،
ولكنا نعلم أن الكنيسة ظلَّت طوال القرون تُعرِب عن استيائها من
الموسيقى المعقَّدة التي وجَدَت طريقها إلى دُور العبادة. ولقد
كانت الكنيسة تخشى من أن تَحُل هذه الموسيقى الدنيوية الجديدة محل
التراتيل التقليدية البسيطة الجادة التي تبعث بالتداعي حالةً من
التقوى في نفس المتدين؛ فهذا الأسلوب الجديد من الموسيقى المعقد،
الذي لا تُوجد له ارتباطاتٌ دينية في ذهن المسيحي، لا يجلب إلا
الاضطراب للمصلَّين الذي يحاولون أن يتتبَّعوا البوليفونية
المعقدة، وهو فضلًا عن ذلك يشوِّه طابع القداسة الذي تتسم به
الصلاة. وقد سبق أن أشار أفلاطون إلى أن ترك حبل التجديد على
الغارب في ميدان الموسيقى هو نذير شؤم بقرب حدوث تغيُّر في قوانين
الدولة، وبالمثل رأت الكنيسة أن الموسيقى الدنيوية التي لا تتمشَّى
مع التراث إذا سُمِح لها بأن تُعزَف في الكنيسة، فقد تشجِّع على
إدخال بدعٍ جديدة تؤدي آخر الأمر لا إلى تعريض الصلاة والتعاليم
المقدسة للخطر فحسب، بل إلى تهديد سلطة الكنيسة ذاتها.
ولم يقتصر تطبيق الفلسفة الكاثوليكية في الموسيقى على العدد
القليل من المتحمسين في الكنيسة، وإنما كان هناك رأيٌ ذائع بين
المؤمنين المخلصين بأن البوليفونية تصرف أذهان المؤمنين عن التقوى
بما فيها من غناء موزع الأدوار، ومن خطٍّ لحني متقطع بدلًا من الخط
اللحني المتصل.
وقد احتج الفيلسوف المدرسي وأسقف شارترجون أوف سالسبري
John of Salisbury (حوالي
١١١٥–١١٨٠م) قائلًا: «إن الموسيقى تُسيء إلى الصلاة؛ ذلك لأن صخب
الأصوات الفوضوية، وحرصها على استعراض قدراتها، وتصنعها المخنث في
تقطيع الأنغام والجمل، لا بد أن يُفسِد النفوس البسيطة الورعة
لجمهور المصلين وهم في حضرة الرب ذاته، وفي نفس الحرمات المقدسة
للمعبد»، «ولو قُدِّر لك ذات مرة أن تستمع إلى هذا الأداء المثير
للأعصاب الذي تُستخدَم فيه كل أساليب الفن، لظننتَه فرقة من عرائس
البحر «السرينات» لا من البشر، واندهشتَ من عدم اكتراث المغنِّي،
الذي لا يُعادِله عدم اكتراث البلبل أو الببغاء، أو أي كائنٍ آخر
أوغل في هذا الباب منهما؛ ذلك لأن عدم الاكتراث هذا يتجلى في تطويل
الصعود والهبوط، وفي تقسيم الأنغام أو مضاعفتها، وفي تكرار الجمل،
وتصادم الأصوات، بينما النغمة العالية في السلم، أو حتى أعلى
أنغامه، تختلط خلال هذا كله بالنعمة الأدنى أو بأدنى النغمات، إلى
حدٍّ تكاد الأذن معه تفقِد قدراتها على التمييز.»
٦
ولم يكن لاهوتيو القرن الثالث عشر أقل سخطًا على البوليفونية من
أسلافهم في القرن الثاني عشر، على أن درجة معارضة أقطاب الكنيسة
للبوليفونية كانت متفاوتة؛ فكثيرٌ منهم لم يعترضوا على استخدام فن
التوزيع الغنائي في الصلاة، ولكنهم وافقوا من الوجهة الرسمية على
أن من الأفضل تعديل البوليفونية بحيث تُلائم المسيحية. وحتى ذوو
النزعة الإنسانية من أفراد السلك الكهنوتي كانوا يُصِرُّون على
ضرورة تقويم مفاسدَ معينة في البوليفونية، ولدينا على ذلك الدليل
في كتابات روجر بيكون (حوالي ١٢١٤–١٢٩٤م) رجل الكنيسة والفيلسوف
والعالم؛ فقد كان لديه إدراكٌ واقعي لقيمة الموسيقى في العبادة
والتعليم. وقد نصح رجال الكنيسة بأن يحصِّلوا معرفة بأساسيات
الموسيقى؛ حتى لا يجهلوا فائدةَ الموسيقى الكنسية وقيمتَها. كذلك
أشار إلى القيمة التربوية للموسيقى في التعليم الدنيوي، وأوضح أن
«الأطفال يتعلمون الحقائق الرياضية بطريقةٍ أفضل وأسرع، كما يتضح
في الغناء …»
٧ ولقد كان بيكون من أوسع رجال الدين في القرن الثالث
عشر ثقافة، ولا بد أن آراءه في القيمة النفسية للموسيقى في العبادة
والتعليم كانت في الوقت ذاته آراءَ مَن هم أعلى منه مرتبةً في
الكنيسة. كذلك فإن رأي بيكون القائل إن التراث الجاد للصلوات يتعرض
للفساد بفعل التأثير الضار للموسيقى البوليفونية، لا بد أن يكون قد
حظي بموافقة أصحاب المراتب العالية في الكنيسة أيضًا.
وفي عام ١٢٤٧م أصدر مجمع
ليون عدة مراسيم لتقييد هذه الموسيقى الجديدة التي وصفها «جون أوف
سالبري» بكل هذه النعوت السيئة، ثم أصدر البابا يوحنا الثاني
والعشرون في عام ١٣٢٤–١٣٢٥م، أمرًا من مدينة «أفينيون» ندَّد فيه
باستخدام القوالب والأساليب الموسيقية الجديدة التي كانت تحل محل
الأنغام والأساليب التقليدية. وقد ردَّدَت هذه الوثيقة ذلك القانون
الذي لم تتزحزح عنه الكنيسة، والقائل إن الموسيقى التي تُستخدَم في
الشعائر الدينية ينبغي لها أن تُحافِظ على سلامة النص باستعمال
ألحانٍ بسيطة، ثم تقول هذه الوثيقة البابوية عن الموسيقى الدينية:
«غير أن بعض أنصار المدرسة الحديثة، ممن لا يفكِّرون إلا في قوانين
الإيقاع المحدَّد بدقة يؤلِّفون ألحانًا جديدة من ابتكارهم، بنظامٍ
جديد من الأنغام، ويُفضِّلونها على الموسيقى التقليدية القديمة،
وهكذا يغنُّون ألحان الكنيسة مستخدمين «الروند» و«البلانش»
٨ وزخارف الإيقاع. وكان البعض يُجزِّئون الألحان ﺑ
«التقطيعات
hochetis» أو يسلبونها
رجولتَها بالغناء من سطرَين (ديسكانتوس)
(
discantus) أو من ثلاثة أسطر
triplis مع إدخال عنصرٍ خطير
مبعثُه غناء أجزاء من النص باللغات المحلية. كل هذه المفاسد أساءت
إلى سمعة الألحان الرئيسية لكتاب الصلوات اللاتيني الرئيسي والفرعي
(الأنتيفونال والجرادوال) (
Antiphonal and
Gradual)، والواقع إن هؤلاء الملحنين، الذين لا
يعلمون شيئًا عن الأساس الحقيقي الذي ينبغي أن يَبْنوا عليه،
يجهلون المقامات، ويَعجِزون عن التمييز بينها، ويُحدثون اضطرابًا
عظيمًا. وإن عدد الأنغام وحده في هذه الألحان ليُخفي عنا اللحن
الغنائي الواضح بما فيه من ارتفاعات وانخفاضاتٍ بسيطة منظمة يدُل
على نوع المقام. أما هؤلاء الموسيقيون فيَجْرون بلا توقف، ويخلبون
الأذن دون أن يُرضوها، ويُضفون على النص حركاتٍ تمثيلية. وبدلًا من
أن يدعموا الإيمان، يقضُون عليه بإيجاد جوٍّ حسي يفتقر إلى الطهر والنقاء.»
٩
وهكذا لم يكن اللاهوتيون
في الجزء الأخير من العصر الوسيط، وفي عصر النهضة، أقل خوفًا من
الموسيقى الجديدة، التي كانت في رأيهم خطرًا يهدِّد الكنيسة، من
آباء الكنيسة في القرون الأولى للمسيحية، ومن الفلاسفة اليونانيين
القدماء، موقفهم من الموسيقى وعلاقتهم بالدولة. على أن المراسيم
المتعددة التي أصدرها رجال الكنيسة في القرن الثالث عشر للحد من
تأثير الموسيقى الجديدة، وكذلك الأمر البابوي الذي أصدره البابا
يوحنا في القرن الرابع عشر ضد الموسيقى الجديدة التي تُخفي عنا
اللحن الغنائي الواضح بما فيه من ارتفاعات وانخفاضات بسيطة منظمة؛
كل هذا لم يكن له تأثيرٌ دائم؛ إذ إن مجمع ترنتينو
Trent قد عاد، مرةً أخرى، في القرن
السادس عشر، إلى بحث مسألة البوليفونية. وكان من الواضح أن الإشراف
والرقابة على التعليم والبحث أيسر بالنسبة إلى السلطات الدينية من
توقيع جزاءاتٍ فعالة على التجديدات الموسيقية الدنيوية التي كانت
تُقحَم في الشعائر الدينية.
القسم الثاني: الموسيقى، والكنيسة، والبوليفونية في العصر
الوسيط
كانت تُوجد في العصور الوسطى أنواعٌ متعددة من الآلات صُنعَت،
بحيث يتسنَّى لها إحداث أصوات في وقتٍ واحد؛ فقد كان في وسع الأرغن
المائي (Organ hydraulic) الذي سبق
أن عَرفَه الرومان والبيزنطيون، أن يُحدِث صوتَين في وقتٍ واحد.
وكذلك الحال في «القِرب» (bagpipe)
الاسكتلندية التي ترجع إلى تاريخ قديم، والتي يمكن تتبُّع أصلها —
مع اختلاف في أسمائها — إلى فتراتٍ موغلة في القدم من عصور
الموسيقى الغربية، وفي هذه القِرب يؤدي خروج الهواء من القِربة
وحدها إلى إحداث ذبذباتٍ هوائية في القصبة التي تعزف صوت الاصطحاب
الطنيني (drone) لصوت المزمار الذي
يؤدي نفخُه إلى إحداث الأنغام المختلفة، بل إن الموسيقي المتجول
(Jongleur) ذاته، الذي كان يُصاحِب
أشعارًا قصصية لتربادور والمينسترل بالفيلَّا
(vielle) كان يدعم لحنه بمجموعةٍ
متعاقبة من التآلفات الهارمونية المبتسرة.
وإنا لندينُ بمعرفتنا للآلات الموسيقية في العصور الوسطى — إلى
حدٍّ بعيد — لأولئك الفنانين القوطيين الذي نقلوا إلينا أشكال آلات
عصرهم بالتصوير والنحت، ووصفوها نغمًا وشعرًا؛ فالتصوير والنحت
القوطي قد تركا لنا صورةً واضحة لهذه الآلات، كما حدَّد الشعر
طريقة استخدامها، وأهميتها بالنسبة إلى مجتمع العصور الوسطى
المتأخرة. كما إننا نعلم أن آلات العصور الوسطى هذه كانت تُستخدَم
مستقلة، كما كانت تُستخدَم بمصاحبة الغناء، ولكي تؤدِّي سطورًا
لحنية في مخطوطٍ موسيقي إذا ما طُلب إليها ذلك. ولقد كان الأرغن
أرقى الآلات في العصور الوسطى وعصر النهضة، وكان يمتاز بأنه الآلة
الأولى والأساسية للكنيسة؛ ومن هنا فإن اللاهوتيين، الذين احتجُّوا
على ضياع هيبة الموسيقى الدينية، كانوا عادةً يُدرِجون الاستعمالات
الجديدة للأرغن في شعائر الصلاة، ضمن المؤشرات السيئة التي
يكافحونها.
وقد مرَّ توزيع الأصوات والتدوين الموسيقي بعدة مراحل في
تطوُّره؛ فالتدوين قد مرَّ بثلاثِ مراحل متميزة؛ ففي نظم التدوين
المستخدمة في الموسيقى اليونانية والرومانية، وكذلك المسيحية
المتقدمة، لم تكن رموز الأنغام تدُل على مدتها الزمنية؛ إذ إن
اللحن كان خاضعًا للنص الكلامي، وكان الوزن الشعري هو الذي يُحدِّد
طُول النغمة وقِصَرها، وما على الخط الموسيقي إلا أن يتبع النص
ارتفاعًا وانخفاضًا، وفي مرحلةٍ ثانية تالية كانت هناك إشارةٌ غير
مباشرة إلى المدة الزمنية باستخدام نظام «النومس»
neumes (العلامات) الذي نجده في
الأناشيد الجريجورية منذ القرن التاسع. وفي المرحلة الثالثة كانت
المدة الزمنية تُوضَّح برموزٍ مناظرة لها. وهكذا فإن هذه المرحلة
الثالثة هي وحدَها التي يمكن أن يُقال إنه قد وُجِد فيها نظامٌ
قياسي يحتوي على علاماتٍ تدُل على مُددٍ زمانية محدَّدة
المعالم.
والواقع أن قياس الموسيقى كان أمرًا ضروريًّا لكي يتقدم توزيع
الأصوات الموسيقية على سطورٍ لحنية مختلفة تُؤدَّى في وقتٍ واحد؛
ذلك لأن العَزْف أو الغناء المنفرد كثيرًا ما كان يُشجِّع على
إطلاقِ العِنان لحرية الموسيقى. أما عندما تنضم عدة أصوات في
أغنية، كما هي الحال في البوليفونية، فعندئذٍ لا يكون هناك مَفَر
من تنظيم طريقة سَيْر كل مُغنٍّ، حتى يتسنَّى مزجُ صوته بالأصوات
الأخرى؛ وعلى ذلك فإن توزيع الأصوات الموسيقية كان يتقدَّم كلما
بعث الموسيقار مزيدًا من النظام والضبط في مدوَّناته عن طريقِ ما
توافر لديه من مختلف القيم الرمزية.
وقد حَفظَت لنا دراسةٌ قام بها باحثٌ إنجليزي مجهول في فرنسا،
قرب بداية القرن الثالث عشر، أُطلِق عليه اسم «المجهول الرابع
Anonymous IV»، وفي هذه الدراسة
سجَّل المؤلِّف تاريخ بعض مشاهير الموسيقيين، وتطوُّر فن توزيع
الأصوات الموسيقية في مدرسة كاتدرائية نوتردام بباريس. ويروي لنا
«المجهول الرابع» أنه كان هناك موسيقيان شهيران أسهَما بدَورٍ هام
في فن البوليفونية لمدرسة نوتردام، هما «ليونان
Leonin» و«بيروتان
Perotin»، وكان ليونان — حسب رواية
هذا الباحث الإنجليزي — يعيش في القرن الثاني عشر، وقد ألَّف
مجموعةً كاملة من مقطوعات الأرغن في مصنَّف يحمل عنوان «كتاب
الأرغن الكبير Magnus Liber
Organi»، وقد كان لموسيقى اليونان تأثيرٌ بالغ في
نفس هذا الباحث الإنجليزي، حتى إن هذا الأخير وصف ذلك الموسيقي
بأنه عَريف المُنشِدين بكاتدرائية نوتردام، وبأنه «أعظم مؤلف
للأرغن»، أما بيروتان فلا نعرف عنه إلا القليل، ومما نعرفه أنه كان
رائد مدرسة نوتردام فيما بين عامَي ١١٨٠م، ١٢٣٦م.
وقد كتب «جاكوبوس لييج
Jacobus de
Liege» مؤلِّف كتاب «مرآة الموسيقى
Speculum Musical» قرب نهاية القرن
الثالث عشر يقول إن «المحدَثين (من أبناء جيله) لا يستخدمون إلا
الموتيت
motet والكانتلينا
cantilena»، أما هذا الموتيت الذي
تحدَّث عنه جاكوبوس فهو أرقى أنواع الموسيقى البوليفونية، وبالتالي
أرقى أنواع الفن الموسيقي المتعدد الأصوات، ولكنه مع ذلك تعرَّض
لأعنف نقدٍ من سُلطات الكنيسة. ولقد كانت هناك أنواعٌ أخرى من
الموسيقى البوليفونية في القرن الثالث عشر، كالنوع المسمى «كوندكتس
Conductus»،
١٠ ولكن الموتيت، بما كان يتميز به من طابع شديد التعقيد،
كان مصدر إزعاج اللاهوتيين، على الرغم من أن «العصريين» في أواخر
العصر الوسيط كانوا يُفتَتنون بمزاياه الجمالية. وعلى أية حال فليس
قلق اللاهوتيين على مشكلات الموسيقى بالأمر الذي يدعو إلى
الاستغراب، وذلك إذا علمنا أن نوع «الموتيت» الذي لقي إقبالًا
شديدًا من الناس في ذلك الحين، كان هو ذلك الذي تُغنَّى فيه ثلاثة
ألحانٍ مختلفة، لكلٍّ منها نصٌّ كلامي خاص، في وقتٍ واحد،
وبإيقاعاتٍ مختلفة مقابل لحن جريجوري، فمن المشكوك فيه أنه كان من
الممكن سماع الأنشودة الجريجورية فوق الموسيقى التي تُحدِثها ثلاثة
أصواتٍ تُغنَّى بلغاتٍ مختلفة. وقد أبدى «جون أوف سالسبري» والبابا
يوحنا الثاني والعشرون، بوجهٍ خاص، استياءهما من تشويه هذا النوع
من الموسيقى للأنشودة الشعائرية، أو تقطيع أوصالها إلى حدٍّ يستحيل
معه التعرُّف عليها، مما يؤدِّي إلى القضاء على الطابع المقدَّس
للموسيقى الدينية.
ولقد كان النوع الفرنسي هو أطرف أنواع «الموتيت الدنيوي»؛ فقد
كان مؤلِّف هذا النوع البوليفوني يتحدَّث فيه عن المشكلات
الاجتماعية المعاصرة له، ويلوم رجال الدين وينتقد النبلاء؛ كل ذلك
في قالب «الموتيت»، وكانت هذه «الموتيت» في بعض الحالات تمجيدًا
للحب، وفي حالاتٍ أخرى تغنيًا بمتعة الشراب، على أنها كانت في
حالاتٍ أخرى تُشيد بمناقب قديس أو ملك بطريقةٍ عاطفية.
ومن الطريف أن نلاحظ أنه كما انتقد رجال الدين الموسيقى، فإن
الموسيقيين بدَورِهم قد انتقدوا رجال الدين من خلال مؤلَّفاتهم؛
فقد كانت الكنيسة تعارض البدع البوليفونية التي ظهَرَت عند
موسيقيين مثل بيير دي لاكروا Pierre de la
Croix (نهاية القرن الثالث عشر) الذي أضاف إلى
الموتيت صوتًا ثالثًا ثم رابعًا، بحيث كان لكل صوتٍ استقلالُه
اللحني والإيقاعي ونصُّه الكلامي الخاص به. كذلك لم ينسَ رجال
الدين أن كثيرًا من تلك الألحان التي كانت تُغنَّى في مقابل
الأنشودة الدينية في «الموتيت» كان أصلها يرجع إلى الشعراء
الجوَّالين (التروفير)؛ ومن ثَم فإن لها ارتباطًا مباشرًا بالنزوات
الغرامية. ومن جهةٍ أخرى فقد غضب رجال الدين بوجهٍ خاص من أنواع
«الموتيت» الدينية التي كان الموسيقيون والشعراء يَسخَرون فيها من
حياة أقطاب الكنيسة في العصر الوسيط وعصر النهضة، بما فيها من
إقطاعياتٍ شاسعة ومعيشةٍ باذخة. على أن الكنيسة لم تنجح في محاربة
هذه المظاهر الدنيوية للتمرُّد في ميدان الموسيقى، أكثر مما نجحَت
في الوقوف في وجه الاتجاهات الموسيقية التي كانت تهدِّد قداسة
الشعائر الدينية.
ولقد كان «فليب دي فيتري Philippe de
Vitry» (١٢٩١–١٣٦١م) باحثًا وسياسيًّا يذكره
التاريخ بوصفه موسيقيًّا بوليفونيًّا موهوبًا، وأسقفًا قديرًا، وقد
ظل متمسكًا بالرأي القديم القائل إن الموسيقى فرعٌ من الرياضيات.
وكان روجر بيكون قد أشار، في القرن السابق، إلى أن الحقائق
الرياضية تتكشَّف للصغار من خلال فن الموسيقى. وكذلك كان «فيتري»
يؤمن بالرأي الأفلاطوني القديم القائل إن الموسيقى انعكاسٌ للنظام
المثالي الذي يتكشَّف للباحث من خلال دراسة الفلسفة. وقد اتفق مع
البابا يوحنا الثاني والعشرين على أن من الممكن القضاء على البدع
الموسيقية المنتشرة في القرن الرابع عشر لو أخضَع المؤلِّف موسيقاه
لنظامٍ محدد، بدلًا من أن يؤلِّف متجاهلًا التراث تجاهلًا تامًّا؛
لذلك ألَّف دي فيتري مقطوعاتٍ من نوع «الموتيت» كانت كل الأصوات
فيها مستقلةً لحنيًّا، ولكنها كانت تتساوى طَوالَ الوقت في القيم
النغمية وتتماثل في الوزن.
أما «جيوم دي ماشو Guillaume de
Machaut» (١٣٠٠–١٣٧٧م)، فكان أشهر الموسيقيين في
القرن الرابع عشر. وهناك وجه شبه بين حياته الشخصية وبين حياة
الشاعر الجوَّال (التروفير) من حيث إنه كان رجل دينٍ تحوَّل إلى
الدنيا، وكان صاحب نزعةٍ إنسانية واضحة، وقد ألَّف مقطوعاتٍ من نوع
«الموتيت» بنفس الأسلوب الملتزم للنظام الذي استحدَثه دي فيتري، ثم
انتقل إلى استخلاص الإمكانات البوليفونية للأقصوصة الغنائية
(ballad) عند الشعراء الجوَّالين،
وكان بعض هذه الأقاصيص الغنائية يتحدث عن انشغال الشاعر المتجوِّل
بالحب، وبعضها الآخر كانت له رنةٌ اجتماعية؛ إذ كان فيها إيحاء إلى
رجال الدين بأن يتنازلوا بشرفٍ عن بعض أراضيهم، بدلًا من أن تُؤخَذ
منهم قسرًا، كذلك ألَّف ماشو قداسًا بوليفيونيًّا يُظن أنه أول
قداسٍ ألَّفه موسيقيٌّ واحد.
ولقد كانت المؤلفات النظرية في الموسيقى خلال العصور الوسطى تحمل
عادةً طابع التأثير ببويتيوس؛ ذلك لأن بويتيوس كان حلقةً بين
الفلسفة اليونانية الموسيقية وبين عالم العصر الوسيط؛ إذ إنه شبَّه
الموسيقى بالرياضة، ثم أدرج الموسيقى ضمن «الرباع» (الكواد ريفيوم)
التعليمي بوصفها مبحثًا عاليًا، وتشهد كتابات روجر بيكون بمدى قوة
تأثير بويتيوس في الفلسفة التعليمية السائدة في عصره.
كذلك احتفظَت العصورُ الوسطى في مرحلتها المتأخرة بالثنائية
الميتافيزيقية التي تجعل من الموسيقى فنًّا محاكيًا للنظام الإلهي،
١١ وقد أجرى الفيلسوف «إريجينا
Erigena» هذا التشبيه بالنسبة إلى
البوليفونية، وردَّده الموسيقار «دي فيتري» بعد أربعة قرون، على
أنه كان هناك أيضًا من الموسيقيين والباحثين النظريين من لم يعبئوا
كثيرًا بالتعاليم القديمة أو بالصيحات المستمرة التي كانت الكنيسة
تشكو فيها من انحطاط الموسيقى لخروج الموسيقيين عن التراث القديم.
ولقد كان نمو فن البوليفونية، الذي بدأ على الأرجح في الموسيقى
الدينية بوصفه ارتجالًا لكنترابنط بسيط على لحنٍ ديني، أو نشيدٍ
جريجورياني، وتحوَّل هذا الفن إلى قالبٍ عظيم التعقيد يبعث في
النفس متعةً جمالية، كان هذا النمو دليلًا على أن القدرة الخلَّاقة
لا تستسلم بسهولة لمذهبٍ فلسفي أو أمرٍ ديني صادم. صحيح أن
موسيقيَّ العصور الوسطى كان يؤلِّف موسيقى للدعوة الدينية، غير أن
قدْرًا كبيرًا من هذه الموسيقى كان من حيث الإيقاع واللحن يرجع إلى
أصلٍ دنيوي، وأدخلَه إلى الكنيسة موسيقيون دينيون تأثَّروا بهذه
المصادر الدنيوية.
وإذا كان موسيقيُّ العصور الوسطى قد تجاهل تعاليم بويتيوس، فإن
قلةً نادرة من الباحثين هي التي تجرَّأَت على تحدِّي سلطته. ومن
هؤلاء يوهانس دي جروكيو Johannes de
Grocheo (حوالي ١٣٠٠م) الذي رفض نظرية العدد
الفيثاغورية، وكذلك فلسفة بويتيوس لأنه أبى أن يعترف بأن الإبداع
الموسيقي إنما هو ترديدٌ عددي وإيقاعي للنظام الكوني. وقد شك
جروكيو في صحة رأي بويتيوس القائل إن الموسيقى علمٌ رياضي. واختلف
مع بويتيوس وأتباعه الذين أكملوا عرض فلسفته الموسيقية في الفكرة
القائلة إن قوانين الموسيقى ينبغي أن يكون لها من الصرامة ما لنفس
القوانين التي أضفت على الطبيعة نظامًا وتناسُقًا. وقد أكد جروكيو
في كتاباته قيمة الموسيقى من الوجهة الشعبية والحضارية، واستبق
كتاباتِ مفكِّرين ظهروا بعده مثل مونتني وروسو وهيردر؛ إذ أشار إلى
أن الموسيقى تختلف باختلافِ عاداتِ الشعوب ولغاتها.
ولقد كانت هناك على الأقل ثلاثةُ شواهدَ على عداوة الكنيسة
للتجديدات الموسيقية خلال القرنَين الثالث عشر والرابع عشر.
ولنذكُر في هذا الصدد أولًا أن الشاعر المغنِّي اليوناني لم يكن
يستخدم نظامًا من العلاقات الإيقاعية والزمنية؛ لأن موسيقاه كانت
مرتبطة بالشعر، فكان يؤدِّي أغنيته بأسلوبٍ ألماني. وبالمثل كانت
الأغنية الدينية في العصور الوسطى مُعتمِدةً على النص الكلامي، مع
إيقاعاتٍ منسابة بهدوء، لا تقتضي إلا قليلًا من التغيير في أزمنة
الأنغام. ومن هنا فإن البابا يوحنا الثالث والعشرين عندما أعلَن
احتجاجَه في مرسومه من أن «الموسيقى الكنسية تُؤدَّى الآن بعلامات
«الروند» و«البلانش»، وتُقطَّع بهذه الأنغام القصيرة» لم يكن في
واقع الأمر يُعلِن تحريمه للموسيقى ذات الإيقاعات المطابقة لنصوصٍ
مختلفة، وإنما كان الوقتَ ذاتَه يحمل على تجزيء الأنغام الطويلة
المتصلة إلى أنغامٍ ذات أزمنةٍ أقصر، بل إلى نغماتٍ تتعدى النبر
الإيقاعي (syncopated)، كما في
حالة التقطيع hocketting، ومن
المُلاحَظ ثانيًا أن الموسيقيين — في حقبة ما يُعرف بالفن الجديد
«ars nova»، وهو القرن الرابع عشر
— كانوا يزدادون ميلًا إلى تغيير الإيقاعات التقليدية على خلاف
موسيقى القرن الثالث عشر، التي كانت تُسمى بالفن القديم
ars antiqua، وكان الإيقاع الثنائي
أو الزمن المزدوج مُحرَّمًا أصلًا في موسيقى الكنيسة لأسبابٍ
أخلاقية هي أن للعدد «ثلاثة» علاقةً «بالثالوث الديني». ومن هنا
كانت الكنيسة تُبدي عدم رضائها على أية محاولة يبذلها موسيقيُّ
القرن الرابع عشر لاستخدام إيقاع ثنائي بدلًا من الثلاثي. ويُلاحَظ
أخيرًا أن الموسيقى اليونانية ومن بعدها موسيقى العصور الوسطى،
كانت مبنيةً في الأصل على الجواب «الأوكتاوف» والدرجتَين الرابعة
والخامسة. وفي القرن الثالث عشر بدأ الموسيقيون الفرنسيون يقتدون
بالإنجليز في استخدام هذه المسافة الثالثة. ومن الغريب أن
الإكليروس الفرنسي اعترض على استخدام المسافة الجديدة التي تُطرِب
الأذن، على الرغم من أنها مبنية على الرقم «ثلاثة» لا لشيءٍ إلا
لأنها غيَّرَت التقاليد الموسيقية الماضية.
القسم الثالث: أكاديمية فلورنسا
ظل المسيحيون اليونانيون البيزنطيون، شأنهم شأن العرب، يُبدون
اهتمامًا كبيرًا بالحضارة والآداب الكلاسيكية اليونانية
والرومانسية؛ فقد أدرج العلماء البيزنطيون أفلاطون وأرسطو ضمن
دراساتهم خلال تلك السنوات، التي لم تكن فيها اللغة اليونانية إلا
لغةً ميتة في نظر المثقَّفين الغربيين. وقد أُعجِب بعض الصليبيين،
الذين اتصلوا مباشرةً بالحضارة البيزنطية، بهذه اللغة إلى حد أنهم
جلبوا معهم إلى الغرب هذه الدراسات اليونانية. أما روما فلم تنظر
إلى هذا التطوُّر بعين الرضا؛ إذ إن رجال الكنيسة لم يَرَوا في هذه
الاتجاهات الكلاسيكية في التعليم والثقافة إلا تجديفًا. وقرَّرَت
كنيسةُ روما أن من الضروري اتخاذَ تدابيرَ حاسمة لمواجهة تغلغُل
الفكر اليوناني البيزنطي المجدِّف في لاهوتها، فأرسل البابا إلى
القسطنطينية الفيلسوف اللاهوتي نيكولاس دي كوزا
Nicholas de Cusa (١٤٠١–١٤٦٤م) لكي
يضع أساس وحدةٍ ممكنة بين الكنيستَين الشرقية والغربية، وناشد هذا
الكنيسةَ الشرقية، في سبيل مصلحة المسيحية، أن تُزيل الخلافات
بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، بحيث تكونان كنيسةً كاثوليكية
عالمية، غير أن الكنيسة اليونانية أبت أن تتنازل عن سلطتها إلى
الحد المطلوب منها، على الرغم من أنها كانت تتوقَّع غزوًا تركيًّا
للقسطنطينية، وكانت تدرك أنه سيتعيَّن عليها أن تستنجد بروما
لإيقاف زحف المسلمين.
ومع ذلك، فقد كان العلماء البيزنطيون يُسافرون إلى الغرب، ولا
سيما فلورنسا، وأغلب الظن أن الكنيسة الشرقية بدَورها قد أرسلَت
عددًا كبيرًا منهم ليستطلعوا إمكان اتحاد الكنيستَين على أسسٍ
مشتركة. وعلى الرغم من أن هذا الاندماج بين الكنيسة اليونانية
وكنيسة الروم الكاثوليك لم يتحقق، فقد كان العِلْم الكلاسيكي الذي
يحمله العلماء والشعراء البيزنطيون معهم ينتشر بسرعة حيثما
حلُّوا.
وبعد أن فتح الأتراك القسطنطينية، وقضَوا على الإمبراطورية
البيزنطية عام ١٤٥٣م، فرَّ بقية علمائها اليونانيين إلى إيطاليا
لاجئين إلى أكاديمية فلورنسا. وكانت هذه الأكاديمية قد تأسَّسَت،
تحت رعاية كوزيمو دي مديتشي Cosimo de
Medici على يد «جيمسطوس Gemisthus
Pletho» وهو مبعوثٌ يوناني بيزنطي كان قبل سقوط
القسطنطينية بثلاثة عشر عامًا يُعتبر سفيرًا لدى المجلس الذي عُقد
في فلورنسا لمحاولة توحيد الكنيستَين اليونانية والرومانية، وهي
محاولةٌ لم يُقدَّر لها النجاح. وكان الهدف من هذه الأكاديمية
الحديثة العهد هو تعريف العالم الغربي بفلسفة أفلاطون، ومكافحة
الفلسفة الأرسططالية المزعومة التي أصبَحَت هي المسيطرة على عقيدة
الكاثوليك وتفكيرهم. وقد أصبح نيكولاس دي كوزا نفسه، بعد أن صار
كاردينالًا من أشد المُعجَبين بتعاليم أفلاطون، حتى إنه طلب إلى
علماء روما أن يعيدوا النظر في علاقة أفلاطون بالمسيحية على ضوء
الكتابات الأصلية لمؤسس الأكاديمية «أفلاطون» حتى لا يضلَّل العالم
الغربي بالمعتقدات المُعوجَّة التي خرَّجها رجال الكنيسة من فلسفته
تعسُّفًا.
وقد لقي الكاردينال في موقفه هذا تأييدًا من الفيلسوف مارسيليو
فيتشينو Marsilio Ficino
(١٤٣٣–١٤٩٩م)، وهو من تلاميذ أكاديمية فلورنسا، فذهب إلى أن الفهم
الصحيح لأفلاطون هو وحده المؤدي إلى استعادة روح المسيحية التي
فقدَتْها الكنيسة منذ زمنٍ بعيد، وقد لقِيَت آراء نيكولاس دي كوزا
وفيتشينو قبولًا لدى الكثير من أقطاب الكنيسة، بل لقد كان لها
تأثيرٌ ملحوظ في الفكر والفن في عصر النهضة.
وقد احتفظت فلسفة الكاردينال كوزا الموسيقية بالتصرُّف
الفيثاغوري والأفلاطوني؛ إذ إنه شبَّه فن البوليفونية بانسجام
الأفلاك «ذلك لأن العقل الأزلي يخلُق كما يفعل الموسيقيُّ الذي
يرغب في التعبير عن صوره الباطنة وتمثيلها؛ فهو يتناول الأجزاء
الموسيقية المتنوِّعة، ويفرض عليها قواعد القياس الدقيق التي
تؤدِّي إلى التوافق، وهذا التوافق يفيض رقةً وكمالا.»
١٢ وقد ردَّد الفكرة اليونانية القائلة إن الموسيقى
البشرية إنما هي أنموذجٌ للموسيقى السماوية، ولكنه أضاف إلى ذلك أن
آباء الكنيسة قد اتخذوا من الموسيقى رمزًا فحسب، لكي يُشبِّهوا
موسيقى البشر بصنعة الإله، وفيما وراء الرمز ذاته يُوجَد نظامٌ
علوي، أو بتعبير نيكولاس «إن نفس الأمور الروحية التي نَعجِز عن
فهمها مباشرة، تُبحث من خلال واسطة هي الرمز …» وعندما تُستخدَم
الرموز الموسيقية بوصفها تشبيهاتٍ تفسِّر أنغام الأفلاك السماوية
«فإن علامات الفرح هذه المستمدة من التوافق الموسيقي … التي أتت
إلينا من كتابات آباء الكنيسة بوصفها رموزًا معروفة لقياس السعادة
الأزلية، ليست إلا رموزًا مادية بعيدة الصلة بالأصل، تختلف
اختلافًا هائلًا عن تلك الأفراح الروحية التي لا يرقى إليها خيالنا.»
١٣
ولقد كان هدف التفكير الجمالي في القرن الخامس عشر هو كشف الصيغ
السحرية لليونانيين؛ أي الصيغ الرياضية الدقيقة التي تؤدِّي إلى
كشف أشكال «فيدياس» من جديد؛ فقد كان هدف الحياة الفنية هو
الاستنباط الرياضي للتماثل والتناسُق والمنظور. وكان نيكولاس
مسايرًا لروح عصره عندما اتفَق مع أفلاطون على أن الرياضة هي أساس
الموسيقى، وعلى أن الرياضة مبحثٌ عقلي صرف.
ويقول نيكولاس إننا عندما نستمع إلى الموسيقى «ندرك الأجزاء
المتوافقة بحواسِّنا ونقيس المسافات والتوافقات بعقولنا، وبمساعدة
خبرتنا الموسيقية. وهذه الملكة (أي العقل والقدرة على الانتفاع من
التعليم) لا تُوجَد في الحيوانات … ولذا لم يكن في استطاعة
الحيوانات تعلُّم الموسيقى، وإن كانوا يُدرِكون الأصوات ﺑ «الحواس»
مثلنا، ويُطرِبون للأصوات المتوافقة. وعلى هذا الأساس يحقُّ لنا أن
نَصِف روحنا بأنها عاقلة؛ لأنها قادرةٌ على القياس والعَد وتُدرِك
ما يقتضي تمييزًا دقيقًا، وعندما تستمع آذاننا إلى توافُقاتٍ
موسيقية جميلة تَطرَب لها. وهكذا فإن العقل حين وجد أن التوافق
مبنيٌّ على العدد والتناسُب، قد اخترع النظرية العقلية للتآلفات
الموسيقية المبنية على نظرية الأعداد.»
١٤
وقد عاد نيكولاس إلى نظرية المشاعر اليونانية، وأشار بوصفه رجل
كنيسة إلى أن الانفعالات «زائلة، والانطباعات الحسية لا تكون
جميلة، إلا بقَدْر ما تمسُّ الأفكارَ الروحية أو الجمالَ الروحي»
١٥ كما تمثَّل المذهب الأخلاقي الأفلاطوني في كتابات
نيكولاس؛ لأنه اهتم ببحث تأثيرات الإيقاعات والمقامات الموسيقية في
النفس، ولكنه من حيث هو شخصيةٌ تنتمي إلى عصر النزعة الإنسانية قد
تخلى عن الاعتقاد القديم القائل إن المؤلف الموسيقي وسيط بين الله
وبين الإنسان، وإنه ينقل رسالةَ الإرادة الإلهية إلى الأرض؛ فقد
انتقد نيكولاس فكرة أفلاطون القائلة إن الفنان شخصٌ يتلقى الوحي من
ربَّات الفن «الموزي»، وكثيرًا ما يُتصَف بالهوس، ولا يخلق إلا
بإلهام يأتيه من أعلى، وأكَّد في مقابل ذلك الرأي السائد في عصر
النهضة بأن الفنان مُبدِع بقواه الخاصة.
وعلى حين أن نيكولاس دي كوزا أقل تعمقًا في الموسيقى منه في
الفنون الأخرى، فإن اهتمام مرسيليو فيتشينو بالموسيقى كان أعمق من
اهتمامه بالفنون الأخرى. ويُقال إنه كان يعزف إحدى الآلات
الموسيقية، ويقدِّم عروضًا كثيرة أمام مجموعاتٍ كبيرة من أصدقائه.
كذلك فإنه تحدَّث بإقناع تام عن تأثيرات الموسيقى في النفس، وردَّد
آراء أفلاطون في اعتقاده بأن أساس جمال الأصوات هو التوافُق الذي
ربطه بمفهوم التناسُب. وفي رأيه أن هذه الموسيقى تصدُر من أعمال
روح المؤلف الموسيقي، ومن هنا كان في وسعها أن تؤثِّر في نفس
السامع. وقد اتفق مع أفلاطون على أن الموسيقى تستطيع أن تغلغل في
الأغوار الباطنة للنفس البشرية، وتؤثِّر في مجرى السلوك الجسمي
«فلما كانت الأغنية والصوت يأتيان من التفكير الذهني، ومن تأثير
الخيال، ومن انفعال القلب، ولمَّا كانت تقوم بمساعدة الهواء الذي
يتكوَّن ويتذبذب نتيجةً لها بتحريك الروح الشبيهة بالهواء لدى
السامع، والتي هي حلقة الاتصال بين النفس والجسم، فإن من السهل
عليها أن تحرِّك الخيال، وتؤثِّر في القلب، وتتغلغل في أبعد أغوار الذهن»
١٦ «إن الموسيقى الجادة تحفظ توافُق أجزاء النفس
وتستعيدُه، كما يقول أفلاطون وأرسطو، وكما جرَّبْنا نحن أنفسنا مرارًا.»
١٧
وقد ذكَر فيتشينو أن للموسيقى تأثيرًا علاجيًّا يُزيل الكآبة
والكدَر. كذلك تستطيع الموسيقى أن تبعث حالةً تأملية تزيد المرء
قربًا من الله «… كثيرًا ما كنتُ أتحوَّل إلى الألحان والأغاني
الجدية بعد دراسة اللاهوت أو الطب، حتى أنصرفَ عن اللذات الحسية
الأخرى، وأتخلَّص من متاعب النفس والجسم، وأسمو بالعقل إلى الأمور
العليا، وإلى الله على قَدْر استطاعتي.»
١٨
«ولقد كان فيتشينو يعود أحيانًا إلى الفكرة الفيثاغورية في
انسجام الأفلاك رغبةً منه في تأكيد المعنى والأصل الميتافيزيقي
للموسيقى؛ فالأفلاك السماوية التي تتناغم سويًّا تبعًا لقواعد
التآلُف
consonance تُحدِث موسيقى
إلهية تستطيع سماعها، ولمَّا كانت الموسيقى البشرية محاكاةً أرضية
للأصوات السماوية، فإنها تحُضُّ النفس بتأثيرِها الخلَّاب، على أن
ترقى بذاتها إلى عالم الانسجام السماوي، فعن طريق الأذن تدرك النفس
توافقات وإيقاعاتٍ عذبة معيَّنة، وهذه الصور تحضُّها وتحثُّها على
النظر إلى الموسيقى الإلهية بحاسةٍ عقلية أشد إرهافًا وتحمسًا.»
١٩
ولقد كان تقويم فيتشينو للشعر وثيقَ الصلة بالموسيقى؛ إذ إن
الشعر بدَوره يُخاطِب الأذن، وكثيرًا ما يتضمَّن لحنًا، كما أن فيه
على الدوام إيقاعًا، بالإضافة إلى ما يستخدمه من كلمات. غير أن
الشعر أرفع من الموسيقى؛ إذ إنه لا يقتصر على مخاطبة الأذن، بل
يخاطب الذهن بدوره مباشرةً عن طريق الكلمات؛ وعلى ذلك فإن أصله لا
يرجع إلى انسجام الأفلاك، وإنما إلى موسيقى العقل الإلهي ذاته، وفي
إمكانه، بفضل ما له من تأثير، أن يُوصِل السامع إلى الذات العلية مباشرة.
٢٠ ولقد كان فيتشينو يختلف عن نيكولاس دي كوزا، ويتفق مع
أفلاطون في القول إن الشاعر لا يستجيب للخاطر العَفْوي للفكر
البشري، وإنما هو يتلقَّى إلهامًا إلهيًّا. وقد علَّل القدرة
الخالقة الملهمة للموسيقى في ضوء نظرية الجنون الإلهي التي عَرضَها
أفلاطون في مُحاورتَي «أيون» و«فيدروس».
وإذن فقد كانت نظريات فيتشينو في الموسيقى تقليديةً في أساسها،
تسير على نهج نظريات أفلاطون وأوغسطين. أما من حيث إنه موسيقي
يمارس هذا الفن عمليًّا، فقد نظر إلى مسافة «الثالثة» على أنها
صوتٌ متآلف. وكان القدماء، فضلًا عن الموسيقيين النظريين في عصره،
ينظرون إلى «الجواب» و«الخامسة» والرابعة على أنها هي وحدها
المسافات المتآلفة، أما هو فقد أكَّد أن الأفلاطونيين لم يفهموا
الموسيقى كما فهمها المحدَثون؛ إذ إنهم لم يدركوا المتعة الناشئة
عن «الثالثاث» التي عدُّوها تنافرًا … مع أنها أكثر التآلُفات
إمتاعًا، وهي ضرورية إلى حد أن موسيقانا بدونها تكون مفتقرةً إلى
أروع مظاهر جمالها، ويكون الكنترابنط
(
counterpoint) لا طعم له، وسائرًا
على وتيرةٍ واحدة.
٢١
ولم تصبح إيطاليا مركز الحياة الموسيقية إلا بعد مُضيِّ قرنٍ آخر
من عصر فيتشينو، ولكن كلامه عن «الثالثاث» بوصفها متآلفةً يعني أن
استخدامها قد عُرف في موسيقى عصر النهضة الإيطالية. أما إذ شئنا أن
نبحث عن المكان الذي تطوَّرَت فيه الموسيقى في القرن الخامس عشر،
فعلينا أن نلتمسه في الأراضي الواطئة لا في إيطاليا. ولنستمع في
هذا الصدد إلى ما قاله «ألبرخت دورر Albrecht
Duerer» في اليوميات التي سجَّل فيها أسفاره عن
رحلته إلى الأراضي الواطئة في تاريخٍ متأخر هو ٥ من أغسطس عام
١٥٢٠م: «إن كنيسة نوتردام في أنفرس من الضخامة، بحيث تُغنَّى فيها
عدة قدَّاسات في وقتٍ واحد دون أن يختلط أحدها بالآخر. وتُغدِق على
الموسيقى هناك هباتٍ سخية، بحيث يستخدمون أحسن مَن يمكن الحصول
عليهم من الموسيقيين.» ولا شك أن تقلبات الحروب تفسِّر لنا السبب
في تدهور باريس من الوجهة الفنية في القرن الخامس عشر، بعد أن كانت
أعظم مراكز الموسيقى خلال القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع
عشر.
القسم الرابع: الفلسفة الجمالية لموسيقى عصر النهضة
أصبح لفن البوليفونية، الذي وضعَتْه المدرسة الفرنسية، أهميةٌ
جماليةٌ كبرى في مدرسة «كامبري
Cambrai». وفي هذه المدرسة، التي
تحكَّمَت في الأذواق الموسيقية لأوروبا طَوال قرنٍ من الزمان،
ظهَرَت شخصياتٌ لامعة مثل «بانشوا
Binchois» و«دوفي
Dufay»، وأصبَحَت بلدة «كامبري» في
بورجونيا، مركز الموسيقى في القرن الخامس عشر. وهناك في بلاط
بورجونيا، كان يعيش «شارل الجسور Charles the
Bold» في أروع وأفخم بلاطٍ في أوروبا كلها. وكان
شارل راعيًا سخيًّا للفنانين، كما كان هو ذاته موسيقيًّا ذا شأن.
وكانت مدرسة كاتدرائية كامبري هي المصدر الذي يجلب منه البابا
والملك الموسيقيين الموهوبين.
وكان جيوم دوفي (حوالي ١٤٠٠–١٤٧٤م) أبرز شخصيات المدرسة
البورجندية. وقد تلقى تدريبه مع المجموعة الغنائية (الشمامسة)
لكاتدرائية كمبري، ثم انضم إلى المجموعة البابوية. وبفضل أسفاره في
مراكزَ موسيقيةٍ هامة أخرى بأوروبا عرف مختلف الاتجاهات الموسيقية
لموسيقيين كثيرين ملتحقين بخدمة الملوك أو الكنيسة. وقد أثَّرَت كل
هذه الاتجاهات في موسيقاه هو وفي النظرة الجمالية البورجندية بوجهٍ
عام. وبفضل إرشاده تشرَّبَت المدرسة البورجندية بروح التحرر الذهني
والحساسية التشكيلية التي كانت تتميز بها الحياة الإيطالية في عصر
النهضة. كذلك فإن الموسيقي، في بورجونيا، كان يؤلِّف ألحانه في
جوٍّ يشجِّع على الانفصال القاطع بين موسيقى الكنيسة وبين الموسيقى
الدنيوية.
وكانت الموسيقى البورجندية تختلف في نواحٍ كثيرة عن الموسيقى
القوطية. صحيحٌ أن جذور المدرسة البورجندية ترجع إلى الموسيقى
القوطية التي سبقَتْها، غير أن الموسيقي البورجندي كان يكتب
موسيقاه على أسسٍ وقواعدَ أدقَّ وينفر من فكرة «الارتجال»، التي
كانت سائدةً في التفكير الجمالي للقرن الرابع عشر. وهكذا كان
الموسيقي البورجندي يؤلِّف موسيقاه في قالبٍ تقليدي يقتضي من
العازف التزامًا دقيقًا للمدوَّنة الموسيقية. وكان لبحث عصر النهضة
عن القوالب الفنية اليونانية تأثيرٌ مباشر في الموسيقي، الذي أراد
بدَوره أن يُداري روح العصر. وهكذا أصبح احترام القالب والتصميم
الشكلي واضحًا في الموسيقى بقَدْر ما كان واضحًا في التصوير
والنحت.
وقد ابتعد الموسيقي البورجندي عن تلك الأنغام القوطية التي كان
يعُدها أنغامًا خشنة عتيقة، وكان الموسيقي القوطي قد استخدم الجواب
«الأوكتاوف» والرابعة والخامسة بالطريقة التقليدية حتى استهلَكَها.
وأما الموسيقي البورجندي فلجأ إلى الثالثة، بل وإلى السادسة، مما
أرسى موسيقاه على مقاميةٍ أكمل. ومن المظاهر الأخرى للتضادِّ بين
التفكير الموسيقي الجمالي للمدرستَين القوطية والبورجندية، خشونة
موسيقى المدرسة الأولى وجمودها، وانسياب موسيقى المدرسة الثانية
وطابعها الغنائي العذب. وأتاح هذا الطابع الغنائي في الموسيقى
البورجندية للمؤلِّف أن يستغل الإمكانات الموسيقية للصوت
البشري.
وكانت الموسيقى التي يكتبها المؤلِّف البورجندي تزيد النص
الكلامي ثراءً، على حين أن المؤلِّف القوطي كثيرًا ما كان يتجاهل
العلاقة بين الموسيقى والنص. وكان المؤلِّف القوطي أميَلَ إلى
إظهار اهتمامه بعرض براعته ومقدرته الفنية التكنية منه إلى تنمية
الحساسية بجمال التصميم والشكل على النحو الذي تميَّزَت به أعمال
الموسيقيين البورجنديين. وكان الأسلوب الشائع في الموسيقى القوطية
— وهو وضع عدة ألحانٍ متضادة لعددٍ من النصوص المتباينة — جريئًا
من الوجهة الموسيقية بقَدْر ما كان استعراضيًّا. غير أن مظاهر
التقابُل والاستعراض هذه كانت بعيدةً كل البعد عن الأفكار الجمالية
الموسيقية في المدرسة البورجندية، ومع ذلك فإن الطبيعة الهادئة
للموسيقى البورجندية قد ضيَّقَت نطاق إمكاناتها العاطفية؛ إذ كانت
بطبيعتها عاجزةً عن التعبير عما فيه بطولة وفخامة وجلال، وانعكسَت
عليها فلسفة عصر النهضة؛ لأنها استسلَمَت للروح التأملية السائدة
في ذلك العصر. كان الموسيقي البورجندي أفلاطونيًّا دون أن يدري في
نظريته الجمالية إلى الموسيقى؛ إذ إنه إلى اهتمامه الزائد بالقالب
وبملاءمة الموسيقى للنص، كان يُطبِّق بالبداهة رأي فيتشينو القائل
إن النشاط الفني شأنه شأن سائر مظاهر الحياة الروحية، مبنيٌّ على
الاعتدال والتأمُّل.
وكان جان فان أوكيجيم Jan Van
Ockeghem (١٤٣٠–١٤٩٥م) موسيقيًّا بارزًا سيطَرَت
شخصيته على النصف الثاني من القرن الخامس عشر. وقد درَس على
«روفي»، وكان هو ذاتُه أستاذ أعظم موسيقيِّي عصر النهضة «جوسكن دي
بريه Josquin des Pres»
(١٤٥٠–١٥٢١م)، الذي أشار إليه مارتن لوثر باحترامٍ عميق، وتحدَّث
عن فنه على أنه ينطوي على كل ما هو رائع في الموسيقى.
وقد أسهمَت إنجلترا أيضًا بنصيبها في موسيقى عصر النهضة، فكان
الموسيقيون الإنجليز يُجرون تجاربَ واسعةً في المسافات والألحان
الموسيقية، بل إننا نجد في كتابات «دنستبل
Dunstable» (المتوفى عام ١٤٥٣م)
إدراكًا غامضًا للعلاقة الهارمونية بين تآلُفٍ هارموني وآخر، بدلًا
من الطريقة التقليدية في استخدام كل تآلُفٍ هارموني دعامةً للحن
فحسب. ولم يرتفع موسيقيٌّ آخر بين الإنجليز في عصر النهضة إلى
مكانةٍ تعلو على مكانة دنستبل سوى بيرد
Byrd (١٥٤٢–/٣–١٦٢٣م).
وفي إيطاليا كان الأفلاطونيون لا يزالون صامدين في مواقعهم في
ميدان الفلسفة والفن، بعد أن أفادوا كل الفائدة من تلك الآفاق
الأدبية الجديدة التي فتحَتْها أمامهم دراسةُ اللغة اليونانية، بل
إن خُصومهم الأسططاليين ذاتهم قد ثاروا واعترضوا على التفسير
المتحجر الذي كانت الكنيسة تَفرِضُه على مؤسس اللوقيوم «أرسطو»،
وعندما حل القرن السادس عشر لم تُطِق الكنيسة صبرًا على هؤلاء
الخوارج، وقدَّمَت عددًا منهم لمحاكم التفتيش، حتى يتراجعوا عن
معتقداتهم أو يواجهوا الموت. غير أن الكنيسة لم تستطع أن تقضي على
هذا الاتجاه إلى النزعة الإنسانية، لا في المجال العقلي ولا في
المجال الفني. ولمَّا كان الموسيقي قد تأثَّر بدَوره بهذا الاتجاه
في تفسير الفلسفة الأفلاطونية، فقد بدأ يؤكِّد أهمية النص ويُضحِّي
بالكنترابنط (
counterpoint)
واللحن، لا لأن الكنيسة كانت تُحبِّذ مثل هذه الفلسفة الموسيقية،
بل لأن المثل الأعلى للنزعة الإنسانية، وهو محاكاة اليونانيين، كان
مبنيًّا على القاعدة القائلة إن على الموسيقى أن تُضفيَ على النص
الشعري ثراءً. والواقع أن موسيقيَّ عصر النهضة قد أصبح أفلاطونيًّا
تمامًا، وأكد الفكرة القائلة إن وظيفة الموسيقى هي تجميل الكلمة
المكتوبة، واستخلاص كل إمكاناتها العاطفية في سياقها الأدبي؛ بحيث
يكون لكل بيتٍ شعري أقوى تأثيرٍ ممكن في السامع، وفي هذا نجد
الأساس الجمالي لفن «الغناء آكابلا
a
cappella»
٢٢ في عصر النهضة.
وفي عام ١٥٣٢م نشر أحد تلاميذ جوسكان، اسمه «أدريان بتي كوكليكوس
Adrian Petit Coclicus» (حوالي
١٥٠٠–١٥٦٣م) مؤلفًا أطلَق عليه اسم «الموسيقى بالأسلوب الجديد
Musica Reservata» ونسَبَه إلى
أستاذه الفلمنكي المشهور. وأساس هذا الكتاب مذهبٌ جمالي يؤكد «فكرة
المشاعر» وزيادة الكلمة المكتوبة عمقًا عن طريق الموسيقى. وترجع
جذور «فكرة المشاعر» هذه إلى كتابات أفلاطون وأرسطو. كما بُحثَت في
مؤلفات نكولاس دي كوزا في أوائل عصر النهضة. وقد ظلت هذه الفكرة
متغلغلة في الدراسات الفلسفية للقرون التالية، وإن لم يظل لفظ
«المشاعر affections» يُستخدَم
دائمًا بنفس المعنى الذي كان يستخدمه الفلاسفة القدماء في عصر
النهضة.
وقد أصبَحَت روما مركزًا للموسيقى الدينية في القرن السادس عشر،
واجتذب مَقَر البابا أشهر المواهب الموسيقية في أوروبا، في نفس
الوقت الذي كان يُحارِب فيه الوثنيةَ الدنيوية للنزعة المتحرِّرة
في عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني البروتستانتية. وقد تأثَّر
الموسيقي الهولندي أورلاندو دي لاسو Orlando di
Lasso (حوالي ١٥٣٢–١٥٩٤م) وزميله الإيطالي العميق
التديُّن بالسترينا Oalestrina
(حوالي ١٥٢٥–١٥٩٤م) بحركة مقاومة البروتستانتية، وكانت تلك فترةَ
تطهيرٍ داخلي عام في الكنيسة الكاثوليكية، من الوجهتَين الفلسفية
والفنية. وكما أن مجمع لاودقيا قد قام، في السنوات الأولى
للمسيحية، بدَورٍ عظيم الأهمية في تحديد طبيعة موسيقى الكنيسة
البيزنطية، بتحريمه استخدام الآلات، واشتراك مَهَرة المصلِّين في
غناء التراتيل، فكذلك تحكَّم مجمع «ترنتينو» (١٥٤٥–١٥٦٣م)، والمجلس
البابوي الخاص (١٥٦٤م) في المجرى المقبل لموسيقى الكنيسة
الكاثوليكية في القرن السادس عشر؛ فقد اعترض رجال الكنيسة على
البوليفونية لتجاهلها للنص، وتأكيدها للجانب الدنيوي في الموسيقى،
وردَّدوا ما قيل في مجمع لاودقيا، وأضافوا إليه أن الكنيسة تستخدم
في الشعائر آلاتٍ تزيد عما ينبغي استخدامه، وكرَّروا شكوى رجال
الكنيسة السابقين من أن المغنِّين لا يُبدون الاحترام اللازم
للكلمات، وإنما يُضحُّون بالنطق الصحيح لها، حتى يمكنهم أن
يستعرضوا قُدراتهم الصوتية.
ولسنا ندري تمامًا ما هي النتائج التي وصل إليها الكرادلة، ولكنا
نعلم أنهم ذهبوا إلى أن كل موسيقى لا تتفق مع جلال الصلاة
وتقاليدها ينبغي أن تُحرَّم. وهكذا فإن الفواصل والاسترسالات
«التروبس» و«السكوينسات» torpes and
sequences قد حُذفَت من مجال الموسيقى الشعائرية،
باستثناء القليل من مقطوعاتها المحبَّبة إلى النفوس. ولم تكن
البوليفونية في عمومها مَرْضيًّا عنها؛ إذ إنها كانت منذ بداياتها
الأولى عاملًا من عواملِ فقدانِ وقار موسيقى الكنيسة وبساطتها،
وصبغِها بصبغةٍ دنيوية. وقد بحث الكرادلة الفكرة القائلة إن مصلحة
العقيدة المسيحية تستدعي استبعاد كل موسيقى من شعائر الصلاة فيما
عدا التراتيل الدينية، ولكنهم لحسن الحظ لم يأخذوا بهذه
الفكرة.
وفي الوقت الذي كانت الكنيسة فيه تُحارِب المؤثِّرات الدنيوية
التي كان يُعتقَد أنها تؤدِّي إلى إفساد شعائر العبادة، كانت
الرغبة في التعبير العقلي والفني تزداد انتشارًا، وتتجاوز الباحثين
النظريين والفنانين الممارسين إلى عامة الناس. وقد كتب الفيلسوف
«مونتني» (١٥٣٣–١٥٩٢م) عن أسفاره في إيطاليا يقول إنه دُهش إذ رأى
الفلاحين في توسكانيا «يُمسِكون العود في أيديهم، وإلى جانبهم
الرعاة يُنشِدون أشعار أريوستو
Ariosto،
٢٣ التي يحفظونها عن ظهر قلب، وهذا أمرٌ يمكن أن يراه
المرء في جميع أنحاء إيطاليا.» وقد ازدهَرَت فرق العازفين
والمغنِّين في كل أرجاء أوروبا في القرن السادس عشر. وأصبَحَت
الآلات الموسيقية من الكماليات البهيجة التي يحرصُ الناس العاديون
على اقتنائها في بيوتهم، وانتشَرَت الاجتماعات الموسيقية
الارتجالية، وكان ذلك عصرًا ألَمَّ فيه العامة أنفسهم بأسرار
الموسيقى، وفي جو التنوير والثقافة الذي ساد عصر النهضة هذا، ظهر
فن «المدريجال
madrigal»، وتطوَّر
بوصفه شكلًا متقدمًا من أشكال البوليفونية الغنائية.
ولم يكن الباحثون النظريون في عصر النهضة يعرفون الكثير عن
الموسيقى اليونانية ذاتها، ولقد أرادوا بعث الروح اليونانية
الكلاسيكية من جديد، ولكنهم لم يكن لديهم من الموسيقى اليونانية
الفعلية ما يسترشدون به؛ فقد بنَوا نظرياتهم الجمالية على كتابات
الفلاسفة اليونانيين وفلاسفة العصر اليوناني الروماني. وقد أكَّدَت
الأبحاث الفلسفية من العصور القديمة أهمية الجوانب الرياضية
والأخلاقية للموسيقى، وردَّدَت المذهب الميتافيزيقي في انسجام
الأفلاك، وهو المذهب الذي ربط فيه الفيثاغوريون بين الموسيقى وبين
الانسجام الكوني.
وقد أراد الموسيقي في عصر النهضة أن يُحاكيَ الشاعر والمغنِّي
اليوناني، وكان أفلاطون قد ذكر أن هذا الشاعر المغنِّي اليوناني
كان في العصر الذهبي لليونان يؤلِّف ألحانه على إيقاع النص الشعري
ووزنه. وهذا عينُ ما فعلَه موسيقي عصر النهضة في فَورة تحمُّسه
لإيجاد توازنٍ مثالي بين النص الكلامي وبين الموسيقى. وهكذا أعلن
«هيرمان فنك
Hermann Fink» في
كتابه «ممارسة الموسيقى
Practica
Musica» (١٥٥٦م) أنه «إذا كان الموسيقيون القدماء
قد برعوا في معالجة الأساليب القياسية المعقدة، فإن الموسيقيين
الأحدث عهدًا قد فاقوهم في جمال اللحن
euphony، وهم حريصون كل الحرص على
أن يوائموا بين الأنغام وألفاظ النص، حتى يُعبِّروا عن معناها
وروحها بأكثر قَدْر من الوضوح.»
٢٤
وقد ميَّز بيترو آرون
Pietro
Aron (حوالي ١٤٩٠–١٥٤٥م) تمييزًا واضحًا بين مفهوم
التأليف الموسيقي الخلَّاق في عصر النهضة، وبين الأساليب الحالية
للموسيقيين القوطين، فكتب (في عام ١٥٢٣م) يقول: «إن موسيقى
المحدَثين أفضل من موسيقى الأقدمين؛ لأنهم ينظرون إلى جميع الأسطر
اللحنية ككل، ولا يؤلِّفون لصوتٍ بعد آخر.»
٢٥ وقد ظهر في موسيقى «دنستبل» مجهودٌ غير واعٍ في اتجاه
التأليف بواسطة تآلفاتٍ هارمونية رأسية، ولكن كان لا بد من
الانتظار حتى الفترة المتأخرة من عصر النهضة، لكي ينصرف الموسيقي
بطريقةٍ واعية عن الكتابة الأفقية لأسطرٍ لحنية تؤدَّى في وقتٍ
واحد (أي كنترابنطية) إلى الكتابة لتآلفاتٍ هارمونية رأسية؛ ففي
الأشكال القديمة للموسيقى كان الموسيقي يؤلِّف ألحانه بالأسلوب
الأفقي التقليدي الذي يقوم على كتابة أسطرٍ لحنية لأصواتٍ متعددة
تؤدَّى في وقتٍ واحد؛ أي بالأسلوب الكنترابنطي. غير أن موسيقيَّ
عصر النهضة قد بدأ يفكِّر في الموسيقى، ويستمع إليها، لا على أنها
أصواتٌ مستقلة أو سطورٌ لحنية، بل على أنها مجموعاتٌ نغمية منظَّمة
في تآلفاتٍ هارمونية رأسية ترتبط توافقيًّا بما يسبقها وبما
يليها.
ولقد كرَّس أدباءُ عصر النهضة وكُتابه فنهم ومواهبهم لتمجيد
الماضي، وحفَّزهم على ذلك اعتقادَهم بأنهم لو تجاهلوا التراث
القديم المجيد لضاع هذا التراث في زوايا النسيان ألف سنةٍ أخرى.
وهكذا نجد الباحث هنيريخ لوريس
Heinrich
Loris (١٤٨٨–١٥٦٣م) أو جلاريا نوس
Glaseanus، يمتدح «جوسكان دي بريه»
بوصفه تجسيدًا لروح النزعة الإنسانية، ويُحذِّر من أن أي تغيير في
أسلوبه يكون انحرافًا عن الروح الحقيقية للمذهب الكلاسيكي. كذلك
فإن الموسيقيَّ والباحث النظري جوزيفو زارلينو
Gisoseffo Zarlino (١٥١٧–١٥٩٠م)
الذي عاش في فينيسيا، يرسم صورةً مثالية لموسيقى العالم القديم،
ويفخر بما صنَعه عصرُه من أجل بعثها من جديد، ويرفُض صراحةً موسيقى
العصور الوسطى التي تبدو في نظره ضربًا من السفسطة الفنية وهو ينظر
إلى الموسيقى على أنها محاكاةٌ للطبيعة، ويُحاوِل أن يستخلص
تعاليمه من القانون الطبيعي. ولقد كان هو أوَّل من عالج الهارمونية
من خلال فكرة «الثلاث
triad» (أي
التآلف الهارموني المكوَّن من ثلاث نغمات) لا المسافة
(
niterval)، وأول من أدرك أهمية
التضادِّ الأساسي بين الديوان الكبير
(
major) والديوان الصغير
minor، وأوَّل من حاول تقديم
تفسيرٍ عقلي للقاعدة القديمة التي تمنع استخدام الخامات
والأوكتافات المتوازية، وبناءً على اقتراحه شرع في إصدار أول طبعة
لكتاب «الهارمونيات لأرسطوكسينوس» (في ترجمته اللاتينية).
٢٦
ولقد كان تلميذه «نكولا فيتشنتينو Nicola
Vicentino» (١٥١١–١٥٧٢م) أكثر تحمسًا من أستاذه
ذاته في محاولة إقامة فلسفةٍ جمالية للموسيقى تربط بين أساليب عصر
النهضة وبين الفلسفات الموسيقية لليونانيين. وقد ميَّز بين
الموسيقى الدينية والموسيقى الدنيوية؛ فالموسيقى الدينية في رأيه
ينبغي أن تكون مبنيةً على نصٍّ ديني، وأن تكون ألحانها ذاتها مشجعة
على التقوى والعبادة، فيجب أن تبدأ بدايةً وقورة تبُث الخشوع في
النفس، ويجب أن يكون تركيبها بوليفونيًّا رنانًا لكي يكون في صوتها
جلال وفخامة، ويكون لها من الهدوء ما يُطمئِن النفس الحائرة. وكان
تأثير أفلاطون وأوغسطين مسيطرًا على تعاليمه الجمالية، فوجد لدى
القدماء حلًّا لمشكلة التزاوج الكامل بين الكلمات والألحان. ولقد
رأينا أن أفلاطون الوثني وأوغسطين المسيحي يعتقدان أن اللحن يجب أن
يكون معتمدًا على النص، وأن الموسيقى ينبغي أن تكون أداةً في يد
المؤلف يُجمِّل بها بيتًا شعريًّا أو نصًّا دينيًّا. وها هو ذا
فتشنتينو، ابن عصر النهضة، يقتدي بالقدماء في قوله إن الكلمة
والمفهوم الفكري ينبغي أن يُسيطِرا على اللحن؛ فمهمة الموسيقى هي
إثراءُ النص وبعثُ الحياة في الكلمة المكتوبة.