القسم الأول: لوثر
كان مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) في الأصل رجُلَ علمٍ أصبح راهبًا،
ثم تحوَّل إلى مصلح عندما ثار على الأساليب الفاسدة التي يتَّبعُها
كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية. وقد قسم الديانة المسيحية للحضارة
الغربية إلى شعبتَين في نفس اليوم الذي ثبَّتَ فيه قضاياه الخمس
والتسعين الشهيرة على باب كنيسة فتنبرج
Wittenberg في ٣١ من أكتوبر عام
١٥١٧م؛ فبهذا العمل الذي تحدَّى به لوثر السلطة القائمة في روما
كشف مساوئ رجال الكنيسة الكاثوليكية لجمهور الناس في ألمانيا،
وبذلك أصبح مارتن لوثر أوَّل وأعظم قائد لحركة الإصلاح
البروتستانتية، وذلك من الناحيتَين اللاهوتية والنفسية معًا. وقد
تركَت رحلتُه الأصلية إلى روما، التي قام بها لأمور تتعلق بطائفته،
انطباعاتٍ لاهوتية وموسيقية عميقة في نفسه؛ ففي روما أدرك بوضوح
مدى التعارض بين انغماس البابوية في الأمور الدنيوية وبين مبادئ
الرهبنة التي كان يتمسَّك بها. وفي هذه المدينة البابوية أيضًا
اتصل بمشاهير الموسيقيين الذين كان البابا قد دعاهم إلى روما. وعرف
موسيقى «جوسكان دي بريه» الذي قال عنه فيما بعدُ: إن جوسكان دليل
على أن الرب يدعو إلى الكتاب المقدس بالموسيقى؛ إذ إن ألحانه تنساب
في سهولة ويسر ورقة وتلقائية، وهي كشَدْو البلبل لا تتقيد بقاعدة
أو تلتزم بقانون.
وقد كتب لوثر في كتابه «مدح الموسيقى
Eulogy of
Music» يقول: «إن الموسيقى لتُثير كل انفعالات قلب
الإنسان؛ فلا شيء في العالم أقدَر من الموسيقى على أن يجعل الحزين
فرحًا، أو الفرِح حزينًا، وعلى أن يُكسِب اليائس شجاعة، ويجعل
المغرور متواضعًا، ويخفِّف مشاعر الحسد والكراهية.»
١ وفي رسالةٍ كتبها في موضعٍ آخر يقول: «هناك دون شك،
بذور من الفضائل الرفيعة في قلوب أولئك الذين تحرِّكُهم الموسيقى،
على حين أن أولئك الذين لا يتأثَّرون بها ينبغي أن يُوصَفوا بأنهم
صخورٌ وأحجارٌ جامدة، وإنا لنعلم أن الشيطان يكره الموسيقى
ويخشاها، ولكني لا أتردَّد في القول إنه لا يُوجد بعد اللاهوت فنٌّ
يمكن أن يُعَد نظيرًا للموسيقى؛ فالموسيقى واللاهوت هما وحدهما
القادران على إسعاد النفوس القلقة وبث الطمأنينة فيها. وهذا يُثبِت
بوضوح أن الشيطان، الذي هو مصدر كل شقاءٍ وهَمٍّ يهرب من الموسيقى
مثلما يهرب من اللاهوت؛ ولهذا السبب مارس الأنبياء فن الموسيقى كما
لم يمارسوا أي فنٍّ آخر؛ فهم لم يربطوا بين لاهوتهم وبين الهندسة
أو الحساب أو الفلك، وإنما ربطوه بالموسيقى، وعن طريق الموسيقى
دَعَوا إلى الحقيقة بالترتيل والمزامير.»
٢ وكان لوثر يرى أن القديس أوغسطين كان يُحِس بتأنيب
الضمير كلما اكتشف أنه قد وجد في الموسيقى لذةً وسعادة؛ إذ كان
يعتقد أن في مثل هذه المتعة خطيئةً وإثمًا. لقد كان تقيًّا بمعنى
الكلمة، ولكنه لو كان يعيش اليوم لاتفق معنا على أن …
٣
وكان لوثر يعزف على العود والناي ويستمتع بغناء الأناشيد
الجريجورية والقدَّاسات «والموتيت» والأغاني الموزَّعة توزيعًا
كنترابنطيًّا. وكان يُعجَب بفن البوليفونية أيما إعجاب، وفيه يقول:
ما أعجَبَ وما أروعَ أن يُغنَّى صوت نعمةٍ بسيطة لا تعقيد فيها أو
نغمة التينور كما يُسمِّيها الموسيقيون! وفي نفس الوقت تُغنَّى
ثلاثة أصوات أو أربعة أو خمسة أخرى؛ بحيث إن هذه الأصوات تدور حول
النغمة الأولى، وتلهو حولها في طرب ومرح وتُزيِّنها وتجمِّلها
بفنٍّ متنوع وبصوتٍ رنَّان، وتجمعها الأنشودة السماوية في لقاءٍ
وعناقٍ جميل؛ بحيث إن من لديه أبسط قَدْر من الفهم لا بد أن
يتأثَّر ويعجب أيما إعجاب، ويدرك أنه لا شيء أنفس في العالم من
أغنيةٍ يزينها مثل هذا العدد من الأصوات. أما من لا يستمتع بهذه
الأصوات، ولا يتحرك قلبه لهذه الروعة فلا بد أن يكون فظًّا غليظ
القلب، غير جديرٍ بمثل هذه الموسيقى الخلابة، وخيرٌ لشخص كهذا أن
يستمع إلى نهيق الحمير في الكورال (الجريجوري)، أو إلى نباح الكلاب
والخنازير، لا إلى مثل هذه الموسيقى.
٤
وكان لوثر، كأسلافه الكاثوليكيين، لا يعترض على تحويل الأغاني
الدنيوية إلى أغانٍ دينية تُلائِم الحاجات البروتستانتية. كما أنه
عدَّل شعائر الصلاة الكاثوليكية، وأدخل تراتيلَ دينيةً بسيطة
باللغات القومية يُنشِدها جمهرة المصلين، حتى يتيح لكل فردٍ منهم
فرصة الاشتراك إيجابيًّا في هذه الشعائر. وهكذا كتب إلى جيورج
شبالاتين
George Spalatin في عام
١٥٢٤م يقول: لقد استقر عزمُنا على أن نحذُو حَذْو الأنبياء وآباء
الكنيسة، ونؤلِّف أغانيَ ألمانيةً للشعب الألماني، حتى تتردَّد
كلمة الرب في غناء الشعب، ونحن بسبيل البحث عن شعراء وموسيقيين من
كل مكانٍ لتحقيق هذا الغَرض، وإني لأسألك أن تتعاون معنا في هذا
الموضوع، وتحاول ترجمة بعض المزامير وإعدادها للغناء، وستجد مع
خطابي هذا نسخةً من أنشودتي «في محنتي أستنجد بك
Aus tirfer Not Schrei ich zu
dir». ومع ذلك فإني أرجوك أن تتجنَّب الألفاظ
الجديدة والمصطلحات المعقَّدة، حتى يفهما الناس بسهولة، فلتكن
الألفاظ بسيطةً بقَدْر الإمكان، ولتكُن في الوقت ذاته نقيةً
مناسبة، وعليك أن تُراعيَ أن يكون المعنى واضحًا وقريبًا من
المزامير بقَدْر الإمكان؛ ولذلك فإني أترك لك حرية التصرف في هذا
الموضوع، وتحديد المعنى الأصلي ثم ترجمته بحرية.
٥
وبعد عام من ذلك التاريخ، أضاف لوثر في كتابه «ضد الأنبياء
السماويين» قوله: «على الرغم من استعدادي للسماح بترجمة النصوص
اللاتينية للموسيقى الغنائية، وموسيقى المجموعة إلى اللغات القومية
مع الاحتفاظ بالأنغام الأصلية والإطار الموسيقي، فإني أعتقد أن
النتيجة لا تبدو مُرْضِية أو مُلائِمة؛ فمن الواجب أن يكون النص،
والعلامات والنبرات والنغمة، وكذلك التعبير الخارجي بأكمله،
امتدادًا أصيلًا للنص الأصلي ولروحه، وإلا لكان كل شيء أشبه
بالتقليد الأعمى.»
٦
ولم يقتصر لوثر على التعلق بموسيقى الكنيسة الأم، بل إنه كان
يقتبس كثيرًا من الأغاني الكاثوليكية لكي يُثريَ العقيدة
البروتستانتية فنيًّا. وقد اعترف صراحة، في تعليقٍ له على مجموعة
من تراتيل الجنازات ظهَرَت عام ١٥٤٢م: «لقد أردنا أن نضرب لغيرنا
مثلًا طيبًا، فاخترنا بعض قِطَع من الموسيقى والأناشيد الجميلة
المستخدمة في البابوية، في التسابيح وقدَّاسات الموتى والجنازات،
ونشرنا بعضًا منها في هذا المجلد … ومع ذلك فقد غيرنا النصوص، ولم
نحتفظ بتلك التي تُستخدم في البابوية … والواقع أن الأغاني
والموسيقى جميلةٌ حقًّا، وإنه ليكون أمرًا يُؤسَف له لو اندثَرَت.»
٧
وكثيرًا ما كان لوثر ينضم عندما كان طالبًا إلى رفاقه الشبان في
غناء الأناشيد المدرسية. وكان دائمًا ذا ذوقٍ رفيع في حُبه
للموسيقى، ومنذ أيام دراسته كان في كثير من الأحيان يغنِّي ويعزف
مع أصدقائه ألحان كبار الموسيقيين الفلمنكيين والألمان، بصوته
«التينور» الجميل والآلة الموسيقية الأثيرة عنده، وهي العود
lute، وكان يَطرَب للموسيقى
الدنيوية حتى وهو راهب، ولكن نظرته إلى الموسيقى كانت تتضمن من
فلسفة أوغسطين قدْرًا أعظم مما جرؤ على الاعتراف به، وذلك في
حملاته المتعددة على ما اعتبره أغنياتٍ دنيوية حسية فاسدة في
أيامه. وقد تتبَّع، بوصفه رائد البروتستانتية، الدور التاريخي
الهام الذي قامت به الموسيقى في سبيل دعم المسيحية، ولخَّص المهمة
التي رأى أن على الموسيقى أن تضطلع بها من أجل نشر المذهب
البروتستانتي، فكتب يقول: «إن كل مسيحي يعلم أن عادةَ غناء
الأناشيد الروحية نافعةٌ تُرضي الله؛ إذ إن الجميع يتعلمون أن
الغناء لم يقتصر على أنبياء بني إسرائيل وملوكهم (الذين كانوا
يسبِّحون بحمد الله بموسيقى الصوت البشري والآلات، وبالأغاني
والعزف على الأوتار)، بل إن المسيحيين الأوائل، الذين كانوا
يغنُّون المزامير على الأخص، كانوا يستخدمون الموسيقى في المراحل
الأولى من تاريخ الكنيسة، بل إن القديس بولس قد شجَّع استخدام
الموسيقى (١–١٤) وأكد في رسالته إلى «القولوسيين» أن على المسيحيين
أن يقفوا أمام الرب بالمزامير والأغاني الروحية الصادرة عن القلب،
حتى يتسنَّى بفضل هذه الموسيقى تعليم كلمة الرب وتعاليم المسيحية
والدعوة إليها وممارستها. ولقد قمتُ، واضعًا كل هذا نُصبَ عيني،
بجمع عددٍ من الأغاني الروحية بالاشتراك مع عدة أفرادٍ آخرين، حتى
يتسنَّى البدء في إعداد هذه المادة وجمعها، وحتى نشجِّع غيرنا، ممن
هم أقدرُ منا على هذا العمل، على القيام به. وقد وزَّعتُ الموسيقى
في أربع أسطرٍ لحنية تؤدِّيها الأصوات في وقتٍ واحد. وهذا ما أريده
لصالح الشباب خاصة؛ إذ إن من الواجب أن يتلقى هؤلاء تعليمًا في
الموسيقى وفي غيرها من الفنون إذا شئنا أن نصرفَهم عن الأغاني
الحسية الشهوانية، ونجعلهم يتعلقون بما هو خيرٌ ونافع؛ فبهذه
الطريقة وحدها يتعلمون — كما ينبغي أن يفعلوا — أن يُحبوا
ويتذوَّقوا ما هو خيرٌ في ذاته، وأنا لست من أصحاب الرأي القائل إن
الكتاب المقدس وحده يكفي، وإن من الواجب رفضَ كل الفنون واستبعادها
نهائيًّا، كما يقول أصحاب المذهب المخالف، وإنما أودُّ أن تُستخدَم
الفنون كلها، ولا سيما الموسيقى، في خدمة الإله الذي وهبنا إياها وخلفها.»
٨
وكان لوثر يدعو إلى أن يحصُل كل طفلٍ بروتستانتي على تعليمٍ
موسيقي، فكتب يقول: «إنني، من جانبي، أقول إنه لو كان لديَّ أطفال،
وكان في مقدوري تنفيذ هذا الأمر، لأصررتُ على ألا يقتصر تعليمهم
على اللغات والتاريخ، بل يشتمل أيضًا على الغناء، والموسيقى
والرياضيات جميعها. أليست هذه كلها ملائمةً لسن الطفولة، وهي التي
كان اليونانيون يدرِّبون عليها أطفالهم في سالف الأزمان، ثم يشبُّ
هؤلاء الأطفال رجالًا ونساءً ذوي مقدرةٍ هائلة، يصلُحون لمواجهة كل
مقادير الحياة؟»
٩
ولقد كانت الأهمية الأخلاقية التي نسَبَها لوثر إلى الموسيقى —
وهي أحد الفنون الحرة — متمشيةً بدورها مع النزعة الأخلاقية
اليونانية؛ فقد كان لوثر بدوره يعُد الموسيقى مبحثًا عقليًّا.
وظلَّت الموسيقى في نظر لوثر، كما كانت في نظر أوغسطين، وسيلةً
لرياضة النفس وتهذيبها أخلاقيًّا، كفيلةً في رأيه بأن تجعل الناس
«أرقَّ وأهدأ، وأقوى ضميرًا، وأرهف إحساسًا».
١٠ وقد أوصى لوثر أولئك الذين يُعِدون أنفسهم لسلكِ
التدريس أو الوعَّاظ بقوله: «ينبغي أن يكون المدرس قادرًا على
الغناء وإلا لما اعترفتُ به، كما ينبغي ألا يُقبَل الشبان في سلك
الوعَّاظ ما لم يكونوا قد مارسوا الموسيقى، وتعلَّموها في المدارس.»
١١ كذلك أشار لوثر إلى فكرةٍ يونانيةٍ أخرى هي وحدة
الأغنية والرقص والحركات، وهي الفكرة التي اقترحَها الفرنسسكاني
«روجر بيكون» من أجل تدريب الأطفال الكاثوليك في برنامج التعليم
الحر، فكتب لوثر يقول: «عندما تنصرف الفتياتُ والشبَّان إلى الرقص
الشعبي مع الموسيقى والحركات المناسبة، فإن هذا يكون مظهرًا
إنسانيًّا أطربُ له أشد الطرب.»
١٢
وبالمثل فإن الرمزية الأخلاقية التي ينسبُها لوثر إلى مختلف
المقامات الموسيقية تُذكِّرنا بالأفكار الجمالية الموسيقية عند
أفلاطون وأوغسطين. وقد انتهى لوثر من بحثه للأناشيد الجريجورية
وطبيعة المقامات الثمانية إلى أنه «لمَّا كان المسيح ربًّا رحيمًا،
ولمَّا كانت كلماتُه رقيقة، فإنا نودُّ أن نستخدم المقام السادس
للإنجيل، ولمَّا كان بولس حواريًّا جادًّا، فإنا نودُّ أن نستخدم
المقام الثامن لرسالته.»
١٣ وقد أضاف في موضعٍ آخر يقول: «إن النغمة الرئيسية في
الموسيقى هي الإنجيل، والأنغام الأخرى هي القانون، ولمَّا كان
الإنجيل يبعث الهدوء والرقة في القانون، فإن الإنجيل يسودُ الأنغام
الأخرى، وهو أعذب الأصوات.»
١٤
كذلك تردَّدَت عند لوثر عادةٌ أخرى ترجع إلى المسيحية الأولى،
وهي تفسير الآلات الموسيقية تفسيرًا أسطوريًّا، ولكنه لم يربط بين
الآلات الموسيقية وبين جسد المسيح وعذابه، وإنما ربط بين مختلف
الآلات وبين غاية الحياة المسيحية. وقد شجَّع لوثر على استخدام
موسيقى الآلات في الشعائر الدينية، ولكنه أكَّد أن من الضروري أن
تكون بسيطةً وملائمةً من الوجهة الجمالية للشعائر
البروتستانتية.
القسم الثاني: كالفان
بدأ على يد المصلح السويسري «أولريخ تسفنجلي
Urich Zwingli» (١٤٨٤–١٥٣١م) ردُّ
فعلٍ محافظ على آراء لوثر الفنية في الموسيقى. ولقد كان تسفنجلي
شاعرًا وموسيقيًّا لحَّن أغنيتَين من تأليفه هو ووزَّعَهما على
أربعة سطورٍ لحنية لأربعة أصوات، بل لقد كان يعزف على الآلات كلها
تقريبًا. ومع ذلك فإن طبيعتَه الشاعرية، وبراعتَه الموسيقية
الفائقة لم تمنع روحه الدينية الصارمة من أن تتعمَّد ترك الأرغن في
زوريخ يُحطَّم، بينما وقف عازف الأرغن يشاهد المنظر وهو يبكي
عجزًا. وقد ازداد كالفان تطرفًا في هذا الموقف السلبي عن الموسيقى
حين أخذ على عاتقه تقويم نظريات لوثر في وظيفة الموسيقى في الكنيسة
والبيت، وكان تسفنجلي وكالفن معًا يخشيان أن تؤدِّيَ الموسيقى إلى
تحوُّل أنظار المؤمنين عن الهدف الحقيقي للدين.
وتتلخص فلسفة «جان كالفان Jean
Calvin» (١٥٠٩–١٥٦٤م) الموسيقية في قوله إن
الموسيقى «لو أُدِّيَت على الوجه الصحيح لأتاحت للناس الترويحَ عن
نفوسهم، ولكنها يمكن أن تؤدِّيَ إلى إثارة الشهوات … وعلينا أن
ننتبه جيدًا، حتى لا تؤدِّيَ بنا الموسيقى إلى إطلاقِ العِنان لروح
الانحلال، أو إلى بعث الطراوة والرخاوة في نفوسنا حين تغرقُ في
متعٍ لا ضابط لها.» وعلى حين أن لوثر لم يستبعد تمامًا، في أي وقت
من الأوقات، الشعائر الموسيقية للكنيسة الرومانية، فإن أتباع
كالفان لم يسمحوا بأية موسيقى دينية في صلواتهم فيما عدا غناء
جمهرة المصلِّين. وكانت الأغاني الشعبية الفرنسية والإيطالية
والألمانية، التي كانت في معظم الأحيان ذات طبيعةٍ حسية مثيرة
للغرائز، قد وجَدَت طريقها إلى قدَّاسات الكنيسة الكاثوليكية، حتى
فترةٍ متأخرة من القرن السابع عشر. ومن هنا فإن أتباع كالفان لم
يكتفوا بالقول إن مثل هذه الموسيقى، مهما عُدِّلَت وَفْقًا
لمقتضيات الشعائر، لا تُساعِد أبدًا على إثارة الأفكار والمشاعر
الدينية، بل لقد ذهبوا إلى أنها شريرةٌ أصلًا؛ إذ إنها تؤكِّد
العنصر الجسدي والدنيوي بدلًا من العنصر الروحي المقدَّس.
وهكذا أخذ المتعصِّبون الدينيون وأعداء البابوية في سويسرا
يهاجمون الكنائس والأديرة لتطهيرها من آخر آثار «الكاثوليكية»،
فحطَّموا آلات الأرغن حتى يستحيل العزف عليها ثانية، ومَحَوا رسوم
المذابح والجدران، حتى لا يخلطَ المؤمنُ بين الرمز التصويري وبين
ما يمثِّله الرمز بالفعل، وحطَّموا التماثيل حتى لا يعبُد المؤمنون
صورًا منحوتة، بل لقد سَجَنوا الموسيقي «لويس بورجوا
Louis Bourgeois»؛ لأنه غيَّر
ألحان عدة مزامير دون إذن.
ولقد كانت ثورة لوثر على الكنيسة الكاثوليكية راجعةً إلى فوارقَ
نظريةٍ وعملية في المسائل اللاهوتية، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل، حتى
أدى التعارض السياسي والاجتماعي بين الكاثوليك والبروتستانت إلى
تقسيمٍ أشدَّ حدَّة للمسيحية إلى جماعتَين تُعادي كلٌّ منهما
الأخرى، وقد طبَّق رجال الدين البروتستانت على الموسيقى نفس
المقاييس الصارمة حاولوا بها فرض القوانين الأخلاقية، وتنظيم ملابس
أفراد طائفتهم وعاداتهم.
وقد نمَت لدى أتباع كالفان كراهيةٌ متزايدة للقدَّاس والأرغن،
وامتد تأثير هذه الكراهية بمضي الوقت إلى اللوثريين. وكان
الكالفنيون يتسامحون مع الموسيقى على مضَض، بل إنهم أصبحوا ينظرون
إليها بمُضي الوقت، على أنها نكبةٌ ولعنةٌ بابوية. وبينما ظلت
الشعائر اللوثرية تسمح بغناء الألحان الدينية بنصوصها الدنيوية دون
أي قيد، فإن الكالفنيين رفضوا هذا النوعَ ذاتَه من الألحان، وبدءوا
يؤلِّفون أناشيدهم الدينية الخاصة على أساس المزامير وحدها.
وقد حبَّذ كالفان، في مقالاته لإصلاح الكنيسة عام ١٥٣٧م، قيام
جمهور المصلين بغناء المزامير في الصلوات العامة. وبعد أن طُرِد من
جنيف في عام ١٥٣٨م استوطن مدينة ستراسبورج؛ حيث حاول مجاراة لوثر
بجمع مجموعة من الأناشيد والمزامير الدينية لكي تُستخدَم في
كنيسته. وكان كالفان يرى أن شعائر الكنيسة الإصلاحية ينبغي أن
تتركَّز حول الموعظة، حتى يُمكِنه بالموعظة تعليم الكتاب المقدس
وتفسيره. ولمَّا كانت المزامير جزءًا من الكتاب المقدس، فقد وجد
كالفان لها مكانًا في شعائر الصلاة؛ إذ كان يدرك أن الكتاب المقدس
يمكن أن يصبح عن طريق الإنشاد أكثر تشويقًا للإنسان منه عن طريق
الموعظة. وقد حرص كالفان بشدة على أن يحمي الكنيسة الإصلاحية من أن
تقع ضحية الطقوس المسرحية للكنيسة الكاثوليكية، فأكَّد أن من
الواجب أن تخلو الصلاة من أي زخرفٍ فني، وأن تقتصر، من الوجهة
الموسيقية، على غناء الموجات المنظومة للمزامير وغيرها من فِقرات
الكتاب المقدس. وقد ظل كالفان متمسكًا بالرأي القائل إن من الواجب
أداء الصلوات باللغات القومية، حتى يفهَمها كل من أقبل ليُصلِّي
ويتعلَّم.
وعلى الرغم من أن كالفان رفض أن يعترف بأي نوعٍ من الموسيقى فيما
عدا الغناء البسيط لجمهور المصلِّين، فقد سمح ببعض التلحينات
البوليفونية للنصوص الدينية، وهذه لا يُسمَح بغنائها إلا في البيت،
ومع الأسرة والأصدقاء، لا لمجرَّد المتعة الفنية، بل لأغراض
الإرشاد والتسبيح بحمد الله. وقد دعا كالفان جميع الموسيقيين
البروتستانتيين إلى تكريس مواهبهم لإعلاء كلمة الله بتلحين
المزامير موسيقيًّا. غير أن الشروط الجمالية الدينية الصارمة التي
فرضَها كالفان على الملحنين أدَّت في معظم الأحيان إلى قصر جهود
الموسيقيين الخلَّاقة على وضع تآلفاتٍ هارمونية بسيطة
للمزامير.
وقد أكَّد كالفان ضرورةَ غناء المزامير بصوتٍ موحَّد، ودون
مصاحبة الآلات، كما ألغى المجموعة الغنائية المتخصِّصة (الشمامسة)،
حتى تكون الشعائر أكثر ديمقراطية، ويتسنَّى لجمهرة المصلِّين
بأكملهم أن يُغنُّوا مسبِّحين لله بأفواههم. وعندما كتب الموسيقي
الهوجنوتي (أي البروتستانتي الفرنسي) «جوديمل
Goudimel» (حوالَي ١٥٠٥–١٥٧٢م)
الذي كان من أشهر موسيقيِّي عصره، تلحينًا للمزامير مُوزَّعًا على
أربعة أصواتٍ مختلفة، لم ينظُر كالفان إلى هذه المحاولة بعين
الرضا؛ فهي في رأيه «أعقد من أن تتمكَّن من غنائها جمهرة المصلين،
وإن نفس جَوِّ تركيبها التوافقي (الهارموني) لكفيلٌ بأن يُحوِّل
الانتباه إليها»، وقد كتب كالفان بلهجةٍ تُذكِّرنا بأوغسطين يقول:
«من المؤكَّد أن الغناء إذا ما وجه إلى ذلك الجلال الذي يليق بحضور
الله والملائكة، فإنه يُضفِي على الأفعال المقدَّسة مهابةً ورقة،
ويكون له تأثيرٌ فعَّال في بعث روح الإيمان الحق وحرارته في
النفوس. ومع ذلك فلا بد من توخِّي الحذر الشديد، حتى لا يكون
انتباه الأذن لمجرى الأنغام أعظم من انتباه الذهن للمدلول الروحي
للألفاظ … إن أية موسيقى تُلحَّن لكي تُطرِب الأذن وتسُرَّها فحسب،
لا تليق بجلال الكنيسة، ولا يمكن أن تحظى برضاء الله على
الإطلاق.»
وكان كالفان يعتقد أن كل فنٍّ جدير بهذا الاسم إنما هو هبة من
الله للإنسان؛ فالفنون التي تحمل إرادة الله على الأرض فنونٌ
صالحة، أما تلك التي لا تقدِّم إلا المتعة الحسية، ولا تساعد على
إعلاء دعوة المسيحية، فما هي إلا أساليبُ لقهر الإنسان. ولم يكن
كالفان يسمح بعزف الآلات الموسيقية في الشعائر الدينية، وقد حرَّم
استخدام الأرغن في الصلوات بالكنيسة لئلا تؤدِّيَ موسيقى الأرغن
إلى تحويل الأنظار عن معنى الأنشودة الدينية البسيطة. وقد يتجه
العازف المغرور للأرغن إلى استعراض براعته في العزف، ويُزخرِف
الموسيقى البسيطة، وهو ما يتنافى مع فكرة كالفان عن الموسيقى
الشعائرية؛ ذلك لأن كالفان قد أكَّد أن الكلمة المقدَّسة، لا اللحن
ولا التوزيع، هي أهم ما في الصلاة. وينبغي ألا تحول آية عقبةٍ دون
انصراف جمهور المصلين بكُليتهم إلى العبادة.
وقد أثَّرَت فلسفة كالفان الموسيقية في المذهب البروتستانتي
بأَسْره، بحيث أخذ الموسيقيون يكتبون موسيقى لا تُحوِّل الانتباه
عن التقوى والإيمان؛ فمن حيث الأسلوب نُقلَت النغمة الغنائية من
الصلوات «التينور» التقليدي إلى أحد الأصوات؛ أي السوبرانو. كما
اهتموا باللغات القومية، وأكَّدوا عنصر البساطة، وحذف أي نوع من
الزخرف الفني. ومع ذلك فإن العناصر البوليفونية الغنية التي أضافها
«كلود لوجين Claude Le Jeune»
(حوالي ١٥٢٨–١٦٠٠م) إلى البروتستانتية كانت مناقضةً بالفعل لروح
الزهد والبساطة الكاليفونية؛ ففي البروتستانتية كما في
الكاثوليكية، وكما سنرى في اليهودية بعد قليل، كان الموسيقيون، على
ندرتهم، يُطلِقون العِنان لمشاعرهم، ويرفضون التقيُّد بتلك
التعاليم الجمالية التي وضعَها أناسٌ متدينون نصَّبوا أنفسَهم
متحدثين باسم الإرادة الإلهية في مجال الموسيقى. ومع ذلك فإن آراء
كالفان اللاهوتية والموسيقية مارسَت ضغطًا قويًّا على العالم
اللوثري، وأصبح لها بمُضِي الوقت تأثيرٌ متزمِّت في نظرة أنصار
لوثر أنفسهم إلى العبادة، وإلى الموسيقى.
وقد أدت روح كالفن النارية إلى التحكُّم في مجرى موسيقى الهوجنوت
في فرنسا، وكان لمجموعات الأغاني الدينية الهوجنوتية، التي كان
يُوجَد منها ما يربو على مائة طبعةٍ فرنسية في القرن السادس عشر،
تأثيرٌ هائل في أوروبا البروتستانتية كلها، وفي المستعمرات
الأمريكية؛ ففي إنجلترا عارض كثيرٌ من أقطاب البروتستانتية، بنفس
القوة، إدخال الفنون في مجال العبادة، وقُيِّدَت حرية الأديرة،
ودُمِّرَت آلاتها الموسيقية بلا رحمة. وقد حاول هنري الثامن
(١٤٩١–١٥٤٧م) بعد انشقاقه عن كنيسة روما أن يحتفظ بالطقوس
الكاثوليكية. غير أن رجال الدين المتحمِّسين الذين أيَّدوا انفصاله
عن الكنيسة الأم، لم يقبلوا أن يحول شيء دون إتمامهم لرسالتهم في
تخليص إنجلترا من النفوذ البابوي، فذهبوا إلى أن الموسيقى
الكاثوليكية تشجِّع على استعراض البراعة الفنية، ولا تؤكد كلمة
الله. ووصفوا الموسيقى الكاثوليكية بأنها معقَّدة تتحدث بلسانٍ
أجنبي. وقد لُخصَت مطالبهم الفنية في رسالة بعث بها رئيس الأساقفة
كرانمر Cranmer (١٤٨٩–١٥٥٦م) إلى
هنري الثامن يقول فيها، مشيرًا إلى موسيقى الكنيسة: «ينبغي ألا
يكون الإنشاد مليئًا بالأنغام، بل إن من الواجب — بقَدْر الإمكان —
أن يكون لكل مقطعٍ نغمة، حتى يمكن غناؤه بوضوح وخشوع.» وهكذا كان
أقطاب البروتستانتية، شأنهم شأن آباء الكنيسة الأوائل، متفقين على
نوع الموسيقى اللازمة للصلاة والعبادة.
وقد قام «المتطهرون» الإنجليز
(Puritans) بتسريح المجموعات
الغنائية الكاثوليكية، ودمَّروا آلات الأرغن بالكنائس، وكذلك كُتب
الغناء الجماعي حيثما وجدوها؛ وذلك تعبيرًا منهم عن كراهيتهم
المتعصِّبة للأساليب الموسيقية البابوية، التي ظلَّت آثارها باقية
في شعائر الصلاة، وكانت أفعالهم هذه مبعث أسفٍ شديد في نفس أوليفر
كرومويل Oliver Cromwell
(١٥٩٩–١٦٥٨م) الذي أظهر مع كثير من أتباع إعجابه بالموسيقى علنًا،
وكان يدرك بوضوحٍ حاجة الإنسان في حياته إلى التعبير والتذوق
الفني. غير أن كرومويل ومساعديه كانوا متفقين تمامًا مع أتباعهم
الأشد تعصُّبًا، على أن الموسيقى إن لم تُستبعَد من شعائر الصلاة،
فمن الواجب على الأقل ألا تؤكَّد على حساب تهذيب الروح بالكتب
المقدَّسة. وقد أغلق المتطهِّرون المسارح؛ لأن الموسيقى التي تُعزف
فيها دنسةٌ تحُضُّ على الخطيئة، واعترضوا على عزف الموسيقى وسماعها
يوم الأحد، وعلى استخدام الموسيقى المعقدة في شعائر الكنيسة. أما
الموسيقى التي تُعزَف في البيوت فلم يعترضوا عليها، بشرط ألا يكون
فيها ما يسيء إلى الفضيلة المسيحية.
وقد وصف إدوارد ونسلو
Edward
Winslow (١٥٩٥–١٦٥٥م)، وهو أحد مؤسسي «نيو إنجلند»،
١٥ رحيلَ الحُجَّاج (المهاجرين) من ليدن في عام ١٦٢٠م،
قائلًا: إن جمهرة الناس، في تأثرهم الشديد، أخذوا يُغنُّون
المزامير «إذ كان الكثير من أبناء طائفتنا ذوي إلمامٍ عظيم
بالموسيقى»، غير أن المطالب المعنوية والصعاب المادية كان لها
تأثيرها في الحياة الفنية للمستوطنين وأُسَرهم؛ فقد جلب الآباء
والمهاجرون معهم معرفتهم الموسيقية بالمزامير، وعندما وجد هؤلاء
المنشقون على الكنيسة الإنجليزية ملجأً دينيًّا لهم في عالمٍ جديد،
بدأ ردُّ الفعل لديهم على العناصر «البابوية» التي كانوا يعيبونها
على البروتستانتية الإنجليزية. وكان القادة الأشد تحمسًا
للمستوطنين المتطهِّرين عازمين على استئصال أي أثَر للروح
الكاثوليكية من كنيستهم، بل لقد كان الكثيرون منهم يعتقدون أن من
الواجب عدم غناء المزامير؛ لأنها لم تنزل بوحيٍ إلهي، ورأَوا أن
تحريمها عملٌ يُرضي الله، ومن هنا حرم المتطهِّرون الأرغن،
واستبعدوا الموسيقى كلها تقريبًا، سواء منها الدنيوية والدينية
والغنائية والمعزوفة.
والواقع أن مصاعب الحياة العصامية الرائدة، التي أرغمَت
المستوطنين الأوائل على استغلال كل ذرة من طاقتهم في صراعهم من أجل
البقاء لم تترك لهم وقتًا للترفيه الدنيوي، وإنما استنفد المتطهرون
كل طاقاتهم في اقتلاع الغابات وتمهيد الأرض، وحماية أنفسهم من
أعدائهم الهنود الحمر المتربصين بهم. وهكذا أصبح العمل والحذَر هو
الشعار الذي ينبغي الالتزام به إذا ما شاءوا أن يُشيِّدوا كنيسة في
العالم الجديد، بينما نظروا إلى الكسل واقتطاع الوقت من العمل
للتسلية على أنه خطيئة. ولقد كان المتطهِّرون يَقْرنون الموسيقى
بالفراغ، ويَرَون أن الوقت الضائع في اللهو أو الغناء يمكن الإفادة
منه على نحوٍ أفضل في زيادة كفالة الأمن للمتطهِّرين حتى يُعْلوا
كلمة الرب في الأرض.
وعلى الرغم من أن المتطهِّرين الأشد تحمسًا قد تَبرَّءوا من
الموسيقى بكل أنواعها، فلا شك في أن الموسيقى ظلت تُعزف وتُغنَّى
في البيوت، بل إن العداء الذي كان بعض المتطهرين يُبْدونه نحو غناء
المزامير لم يمنع جماهير المصلين من استخدامها في أدائهم لشعائرهم.
وقد ظهَرَت في أواسط القرن السابع عشر طريقةٌ مبسَّطة لغناء جماهير
المصلين للمزامير.
وفي السنوات التالية أصبَحَت الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من شعائر
العبادة في المذهب البروتستانتي بجميع طوائفه تقريبًا، أما عداء
الكالفنيين للموسيقى فكان في الأصل جزءًا من ردِّ الفعل الفني على
التبهرُج الديني للكنيسة الكاثوليكية، على حين أن لوثر كان أميل
إلى الطقوس والموسيقى الكاثوليكية من تسفنجلي أو كالفان، وكان ينظر
إلى الموسيقى على أنها نغمةٌ سماوية يستطيع بها الإنسان أن يتوجه
بالصلاة والشكر لخالقه. ومع ذلك فإن الكالفنيين لم يتخلَّوا تمامًا
عن التراث الموسيقي الماضي، وإنما كانوا راضين عن موسيقى الفنان
الكاثوليكي أورلاندوا دي لاسو، يستخدمونها كلما استطاعوا إلى ذلك
سبيلا. ومن جهةٍ أخرى فإن الجزويت (اليسوعيين) الذين قادوا حركة
الإصلاح المضادة في الكنيسة الكاثوليكية آثَروا أن يتمشَّوا مع
الروح الديمقراطية للشعائر البروتستانتية، حتى لو كان ذلك مؤديًا
إلى التنازل عن بعض تعاليم «لويولا
Loyola»
١٦ التي أعرب فيها عن ازدرائه للموسيقى. وقد اعتَرفَ
أتباع لويولا بأن استخدام البروتستانتيين للغات القومية كانت له
قيمةٌ نفسية هائلة؛ لذلك رأَوا أن من المفيد للكاثوليكية بنفس
المقدار تقديمَ كُتبٍ للأغاني الدينية إلى أشياع طائفتهم. وعلى ذلك
فقد كانت الموسيقى وسيلةً فعَّالة في أيدي الكاثوليك والبروتستانت
معًا.
القسم الثالث: أوجه الشبه الجمالية في
الموسيقى البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية١٧
هناك تشابهٌ مؤكَّد في المفاهيم للموسيقى البروتستانتية
والكاثوليكية واليهودية؛ فالموسيقى البروتستانتية والكاثوليكية
ترجع جذورها الجمالية إلى الفلسفة الأفلاطونية واللاهوت العبراني.
وقد احتفظ البروتستانت بالمفاهيم الموسيقية الأساسية للكاثوليك.
كما أن الكاثوليك أنفسهم لم يتخلَّوا أبدًا عن التراث الموسيقي
الذي آل إليهم من أسلافهم العبرانيين. ومن الواضح أن هناك روحًا
أخلاقية وجمالية واحدة تجمع بين تحذيرات الحاخامات اليهود من
الأغاني اللاأخلاقية وبين النصائح التي وجَّهها أفلاطون إلى حُراس
الدولة.
وهكذا فإن ما كان يبدو مجرد نظريةٍ جمالية في محاورات أفلاطون قد
تحوَّل إلى واقعٍ فني فعلي في العصور الوسطى. وقد تم هذا الانتقال
من النظرية الجمالية اليونانية إلى التطبيق العملي في العصور
الوسطى عندما قام بعض آباء الكنيسة بإدخال أفلاطون في المسيحية
الأولى بوصفه حجةً معصومًا من الخطأ ينبغي أن تُتَّخذ آراؤه في
الموسيقى معيارًا للحكم في مجال الموسيقى الدينية، فضلًا عن
الموسيقى الدنيوية. وقد أكَّد آباءُ الكنيسة سماتٍ معيَّنة في
الآراء الأفلاطونية، هي:
-
(١)
أن للموسيقى تأثيراتٍ أخلاقية قوية.
-
(٢)
أن الموسيقى وسيلةٌ عظيمة الفعالية لبلوغ أية حالةٍ
انفعالية منشودة.
-
(٣)
العلاقة التقليدية بين النص والنغم.
-
(٤)
الحملة على التجديد الموسيقي.
على أن هذه النظريات الجمالية الأربع في الموسيقى لم تظل وقفًا
على الكاثوليك، بل إن التأثير الجمالي الذي مارس التعاليم
الأفلاطونية على أفلاطون في العصر اليوناني الروماني، ثم على
القديس أوغسطين، كان له صداه في النظريات الموسيقية الجمالية عند
لوثر وكالفان بدورهما.
ولقد كان الجانب الذي يهمُّ أفلاطون من الموسيقى هو الجانب
الأخلاقي قبل كل شيء. والحق أن التأثير الذي خلَّفَته فلسفتُه
الموسيقية في الأجيال اللاحقة كان هائلًا. وإذا لم تكن هناك شواهدُ
على تأثير الموسيقى العبرانية به مباشرة، فإن موسيقى الشعائر
الكاثوليكية والبروتستانتية ما زالت تحمل الطابع الأفلاطوني على
صفحاتها. وهذا التأثير الأفلاطوني الدائم يمكن أن يؤدِّيَ إلى تلك
المفاهيم الموسيقية الأربعة التي ذكرناها من قبلُ، والتي دافع عنها
مؤسس الأكاديمية في كتاباته.
ولقد تغلغلَت الموسيقى اليونانية في فلسطين، وأصبَحَت مُحببةً
إلى نفوس المثقَّفين فيها، وهو أمرٌ كان يستاء له قادتها الروحيون
كل الاستياء، ولا بد أنها قد أثَّرَت في الحياة الثقافية لليهود في
فلسطين تأثيرًا هائلًا؛ إذ إن القادة الدينيين لجوديا (أرض
اليهودية) قد جهَروا بالشكوى، قبل هدم «المعبد» من أن الاتجاهات
الدنيوية للوثنيين اليونانيين تُمارِس تأثيرًا أخلاقيًّا فاسدًا في
الشعب اليهودي. وقد أنذر الزعماء الروحيون لجوديا شعبهم، تحت تهديد
العقاب الإلهي ذاته، بالتخلي عن الأغاني اليونانية «اللاأخلاقية»
المثيرة للشهوات، والعودة إلى ألحانهم الدينية الخاصة حتى في
مناسبات الفرح والابتهاج.
١٨
كذلك لم يكن آباء الكنيسة، الذين راعَوا المسيحية في فترة
طفولتها غير المستقرة، أقل حرصًا واهتمامًا بالأوجه الأخلاقية
للموسيقى من العبرانيين؛ فقد كان القديس أوغسطين أفلاطونيًّا إلى
حدٍّ بعيد في دعوته المسيحيين الأوائل إلى أن يحذروا الأنغام
الإباحية المنبعثة عن المسرح الروماني، والتي قد تصرفهم عن الحياة
الأخلاقية النقية. وقد أصبَح أوغسطين، بعد تحوُّله المتحمس إلى
المسيحية، يعتقد أن الألحان الجذابة التي تُسمع في الشوارع
والمسارح إنما رجسٌ من عمل الشيطان؛ ومن ثَم فإن حكمها حكم
الخطايا. وكانت الموسيقى الصالحة الوحيدة في نظره هي الموسيقي
الدينية التي تُقرِّب الإنسان من الله بفضل اجتماع الغناء والعبادة
في وحدةٍ واحدة. وقد تجلَّت روح القديس أوغسطين بعد أكثر من ألف
سنة في الفلسفة الموسيقية لجان كالفان.
والمسألة الثانية هي الدور الذي قامت به الموسيقى بوصفها وسيلةً
نفسية لبلوغ غايةٍ انفعالية ودينية واجتماعية منشودة في الفلسفة
القديمة والوسيطة، وكان أفلاطون يرى أن الموسيقى ينبغي أن تكون
إحدى الوسائل التي ينبغي استخدامها في إقرار الفضيلة والروح
الأخلاقية.
ولقد كان أنبياء بني إسرائيل بدَورهم ينظرون إلى الموسيقى على
أنها أداة لنقل الأفكار، فقالوا لأمتهم: «إن الأغاني المدنسة تدعو
إلى الحُب والشهوة تكفي لدمار العالم، وإن أغاني بني إسرائيل
الدينية كفيلة بإنقاذه، وعلى ذلك فلو كان لديك صوتٌ عذب، فلتُسبِّح
للرب بتلك الهبة التي منحَك إياها، ولتُنشِد الشيما
١٩ Shema، وتؤم الناس في الصلاة.»
٢٠ وكانوا يَرَون أن الموسيقى الدينية هي وحدَها القادرة
على عبور الهُوَّة بين الله والإنسان. وهناك نصوصٌ كثيرة في العهد
القديم تتحدث عن الطبيعة الدنيوية للموسيقى، غير أن هذا النوع
يميَّز عادة عن الموسيقى الدينية. وعندما هُزمَت جوديا (أرض
اليهودية) في السنوات المتأخرة أصبَحَت الموسيقى الدينية والدنيوية
للإسرائيليين واحدة لا انفصال فيها، وصارت الموسيقى تُقدِّم
للعبراني عزاءً عاطفيًّا يعبِّر به عن أساه وحنينه؛ فلم تكن تلك
الموسيقى تعبيرًا عن حالة شعبٍ حر خلَّاق، وإنما كانت وسيلةً
للابتهال إلى الرب «ياهوا» لكي يُخلِّصَهم من العبودية.
كذلك كان أكثر ما يهتم به أوغسطين، في مجال الموسيقى، هو قدرتها
على إدخال الوثني في حظيرة الدين، وإمكان استخدامها وسيلةً نفسية
تُساعِد على تقوية الحماسة الدينية للمؤمن العادي، فإذا كانت
الموسيقى التي تُغنَّى بها «مزامير داود» تجذب الناس إلى الكنيسة
فعندئذٍ تكون الموسيقى، في رأي القديس أوغسطين، قد أدَّت غرضًا
نافعًا.
وكان لوثر ينظر إلى الموسيقى على أنها لغةٌ إيقاعية لها قدرةٌ
تفوق قدرة النثر على تعليم الناس، وتقريب فكرة الله إلى أفهامهم.
وعلى الرغم من أن لوثر ذاته كان موسيقيًّا «أصيلًا» فإن نظرياته
الجمالية كانت تَحفِل بآراءٍ لاهوتية تذكِّرنا تمامًا بالقديس
أوغسطين. صحيحٌ أن التفكير الموسيقي البروتستانتي، في مرحلته
المتقدمة، كانت له عقيدتُه الفنية، غير أن هذه العقيدة، كانت مبنية
على حاجاتٍ دينية وتنظيمية قريبة الشبه من أساليب الكنيسة
الكاثوليكية إلى حدٍّ كبير؛ فقد كان على قادة حركة الإصلاح، شأنهم
شأن أسلافهم الكاثوليك، أن يستغلوا كل وسيلةٍ ممكنة للانتفاع
بالقوى الانفعالية والنفسية في الإنسان من أجل تحقيق أغراضهم، وكان
لوثر يرى في الصِّلات الكامنة للموسيقى وسيلةً هامة لمساعدة الحركة
البروتستانتية على النجاح في ألمانيا.
أما المسألة الثالثة فهي علاقة اللحن بالنص الكلامي في موسيقى
القدماء والعصور الوسطى. وقد ظل أفلاطون متمسكًا على الدوام بالرأي
اليوناني التقليدي القائل إن الشعر والنغم ينبغي ألا ينفصل أحدهما
عن الآخر، وأكَّد القيمة الأخلاقية للنص عن طريق إخضاع القالب
الموسيقي للشعر.
كذلك كان الفلاسفة في عمومهم يعُدون اللحن خاضعًا لمقتضيات النص؛
ففي الموسيقى اليهودية كانت الأهمية الأولى للنص، وكان الاستخدام
الرئيسي لموسيقى الآلات هو مصاحبة الغناء وتجميله، بل إن الحاخامات
كانوا ينظرون إلى الآلات الموسيقية بعين الارتياب؛ لأن هذه الآلات
تتيح للمغنين والراقصين اليهود محاكاة أشكال العبادة الوثنية في
المعبد. كما رأى الحاخامات أن الكتب الدينية أهم في العبادة من
البدع اللحنية الزائفة والموسيقى المصاحبة لهذه النصوص.
وقد أكَّد القديس أوغسطين أنه يُفضِّل الاقتصار على استخدام نصوص
التوراة والإنجيل في الموسيقى الدينية، وبرغم أنه لم يُحرِّم
رسميًّا استخدام نصوص التوراة والإنجيل بعد تعديلها وفقًا للألحان
الشعبية السائدة في أيامه، فقد كان يدرك بوضوح أن اللحن الذي يسهُل
تداوله يمكن أن يُرى بين الجماهير بسرعة. وعلى ذلك فالفضيلة
الوحيدة التي يمكن أن تشفع للألحان الشعبية أو الأغنيات المتداولة
في الطرقات هي ارتباطها جماليًّا بفِقرة من النصوص الدينية على
نحوٍ يتيح للمسيحي العادي أن يزداد معرفةً بالنص الروحي أو الديني.
وإذن فقد كان آباء الكنيسة يَرَون أن للنص الأفضلية على اللحن، وقد
ظل المدرِّسون في القرون التالية متمسكين بهذا الرأي.
ولقد كانت التعاليم الموسيقية التي فرضَها كالفان على
البروتستانتية الفرنسية بما فيها من تزمُّت وإنكار للذات، مثلًا من
أبرز أمثلة التزييف في التاريخ الحضاري لفرنسا؛ فقد كانت فرنسا هي
أوَّل بلدٍ تطوَّر فيه فن «الأورجانوم
Organum» حتى أصبح نوعًا من
الكتابة البوليفونية الراقية. وكان «الموتيت» على الأرجح هو أشهر
شكلٍ من أشكال الأسلوب الكنترابنطي استحدثَتْه مدرسة كاتدرائية
نوتردام بباريس في أواخر القرن الثاني عشر وفي القرن الثالث عشر.
ومع ذلك كله فبعد حوالي ثلاثمائة عام من اعتلاء فرنسا عرش الموسيقى
في أوروبا، نرى موسيقى الهوجنوت (البروتستانت الفرنسيين) تَنحَط
إلى مرتبة الدعابة التبشيرية التي تهدف إلى نشر العقيدة
البروتستانتية الجديدة؛ فقد طلب كالفان من الموسيقيين البروتستانت
أن يقصُروا جهودهم الخلَّاقة على وضع تآلفاتٍ هارمونية للمزامير،
ولم يسمح إلا بأبسط أنواع الغناء لجمهور المصلِّين بقصد أداء
الشعائر فحسب. وقد أباح على مضَض، بعض التوزيعات البوليفونية
للنصوص الدينية، وإن يكن قد اشترط أن يُغنَّى هذا النوع المعقَّد
من الموسيقى داخل البيوت وبين الأصدقاء، وحتى في هذه الحالة
الأخيرة حذَّر كالفان الناس قائلًا إن عليهم أن يتذكَّروا أنهم
إنما يُنشِدون الكلم الديني.
أما آخر المفاهيم الأربعة فيتعلق بعنصر التغيُّر في موسيقى
العصور القديمة والوسطى. ولقد كانت حملة طاليس القديمة المشهورة
على أساطير هوميروس من حيث هي تشويهٌ للحقيقة أقدمَ مثالٍ ندَّدَت
فيه الفلسفة السابقة على سقراط بالتحرُّر والجديد الفني؛ فقد رأى
أبو الفلسفة القديمة أن الفيلسوف أقدرُ من الفنان على تمييز
الطبيعة الأصلية للحقيقة من البطلان، ولكن الذي حدث، على العكس من
ذلك، هو أن الفيلسوف والكاهن كانا في معظم الأحيان حائلًا يقف في
وجه تطوُّر التيارات الفنية على مَرِّ القرون. وأثبت الزمن أنهما
نبيان زائفان، على حين أن الفنان الذي ندَّدا به ﺑ «حكمتهما» لم
تقتصر مقدرتُه على التبصُّر بحقيقة عصره، بل لقد استطاع أن يستبق
حاجات المستقبل ويتكهَّن بها.
ولقد كان كبار رجال الدين اليهود يرتابون بالمثل في المؤثِّرات
المارقة التي يمكن أن تؤثِّر في الشريعة والطقوس اليهودية، وسرعان
ما فرضوا رقابتَهم على الأفكار الجديدة في ميادين الفن والفلسفة
واللاهوت، ولكن القادة الروحيين لليهود لم ينجحوا تمامًا في وأد
الاتجاهات الجديدة، سواء في الفترة السابقة على المسيحية أم بعد أن
أُجبِر اليهود على أن يتشرَّدوا في البلاد الأخرى. ولقد كان
للحضارات الأجنبية تأثيرها القوي في هؤلاء اليهود المشرَّدين، كما
أثَّر اليهود بدورهم في البلاد التي آوتهم. ومع ذلك فقد ظل حاخامات
اليهود يحُضُّون أبناء طائفتهم على ألا يُحاكوا أساليب البلاد التي
وجدوا أنفسهم فيها، فانطلقَت أصواتُ هؤلاء الحاخامات محذِّرةً من
أن ابتعاد الموسيقى الغربية الأجنبية عن الحياة اليهودية ليس أقل
من ابتعاد اللاهوت المسيحي عن «العهد القديم» (التوراة). ولقد كان
أشد ما استاء منه الحاخامات، خلال سنوات التشرُّد الطويل هذه، هو
تلك الاتجاهات الدنيوية المتحرِّرة التي كانت تتسلل من آنٍ لآخر
إلى الشعائر اليهودية. وكان إدخالُ أناشيدَ جديدة إلى الكنيس يُثير
في كل الأحوال موجةً من السخط على التجديد وتحدِّي التقاليد، بل
إننا نجد الحاخامات في ألمانيا يَشْكون مُرَّ الشكوى، في عهدٍ
متأخر هو القرن السادس عشر، من أولئك المنشدين الذين أخذوا
يتخلَّون عن الألحان الدينية القديمة الموروثة عن آبائهم.
وقد أعرب أوغسطين عن قلقه الشديد من أن تؤدِّيَ التغيُّرات
الشعبية في الموسيقى الشعائرية بمُضي الوقت إلى التأثير في قداسة
الشعائر ذاتها. وكان يعتقد أنه لمَّا كانت الأنغام والألحان
الشعبية والاتجاهات التجديدية في الموسيقى ترجع في أصلها إلى
مصادرَ وثنية، وإلى الجماهير الجاهلة، فلا بد أن يؤدي إدخال هذه
الألحان الدنيوية في الطقوس الدينية إلى رفع شأن الفن الوثني بدلًا
من الفضيلة المسيحية. وهكذا انتهى أوغسطين إلى أن من واجب مؤلفي
الموسيقى الدينية أن يقصُروا مواهبهم الخلَّاقة على القوالب
الكنسية الخالصة إذا شاءوا أن يخدموا أغراض المسيحية. وقد بلغ من
إعجاب البابا جريجوري الأول بهذه الحُجَّة الأوغسطينية أنه استهل
حملةً للمحافظة على الموسيقى الكنسية التقليدية بحمايتها من جميع
المؤثِّرات الخارجية التي قد تتسم بطابعٍ جسدي أو لا ديني.
أما لوثر فلم يكن معارضًا للتغيير في الموسيقى، ولكنه كان يؤكِّد
ضرورة تمشِّي هذا التغيير مع حاجات المذهب البروتستانتي. ولقد كانت
لديه فكرةٌ واضحة عن نوع الموسيقى الذي تحتاج إليه الكنيسة
البروتستانتية لكي تتحرَّر تمامًا من المؤثِّرات البابوية، فإذا
شاء أن يلقى استجابةً مباشرة من الشعب الألماني، فعندئذٍ لن تعود
اللغة اللاتينية ولا الأناشيد الجريجورية هي أفضل الوسائل للوصول
إلى قلب الإنسان العادي. ولتحقيق هذا الهدف أحلَّ لوثر اللغة
الألمانية محل اللغة اللاتينية المستخدَمة في الشعائر الكاثوليكية،
واختار بدلًا من الأناشيد الجريجورية المعقَّدة موسيقى أبسَط وأقل
تبهرُجًا وأقرب إلى الأغاني الشعبية الألمانية.
وهكذا نجد أن الأقطاب الإسرائيليين كانوا متفقين مع اليونانيين
في معارضتهم للمؤثِّرات الأجنبية؛ فقد كانت الدولة والعقيدة شيئًا
واحدًا في نظر اليونانيين واليهود، وأية بدعةٍ دينية يمكن أن
تهدِّد الدولة بالخطر، فلا غرو إذن أنهم حافظوا على الموسيقى في
معابدهم بنفس الحرص الذي كان حُراسهم يرقبون به كل دخيلٍ
عليهم.
وقد دأب آباء الكنيسة على نصح رعيتهم بأن تُعير أذنًا صماء
للألحان الرومانية التي تحُطُّ قَدْر المسيحية الحقة. وعملَت
الكنيسة، منذ أول عهدها حتى القرون المتأخرة، على محاربة كل اتجاه
من الجماهير إلى إدخال ألحانٍ دنيوية في شعائر الصلاة، غير أن
الشعوب أصرَّت على إدخال الألحان الشعبية في دور العبادة، وتعلَّم
رجال الدين الكاثوليك كيف يَحْنون رءوسهم، ويَقْبلون التيارات
الموسيقية الجارفة. وإذا كانت الكنيسة أكَّدَت ضرورة التمسك
بالتراث والبساطة، فإن موسيقييها المدنيين أنفسهم لم يملكوا إلا أن
يوجِّهوا بعض طاقاتهم الإبداعية لخلقِ قوالبَ جديدة.
ولقد كان القديس أوغسطين أقدَر آباء الكنيسة جميعًا في الدفاع عن
الاتجاه الأفلاطوني الذي تغلغل في موسيقى الكنيسة في عهدها المبكر.
وقد سبق أن لاحظنا أن أفلاطون كان فنانًا مبدعًا أصدر على الموسيقى
أحكامًا كانت قاسيةً متزمتة في كثيرٍ من الأحيان. ومثل هذه
المفارقة التي يتسم بها الفيلسوف الميَّال بطبيعته إلى الفنون
تتمثَّل بصورةٍ أعنف، ولكنها أكثر واقعية، عند أوغسطين؛ ذلك لأن
النظريات الفلسفية التي عَرضَها أفلاطون في الجمهورية و«القوانين»
وغيرها من المحاورات لم تُوضَع موضع التنفيذ في عصره، أما عندما
نصل إلى القرون الأولى للمسيحية، فإنا نجد أوغسطين يُدافِع عن هذه
النصائح الأفلاطونية الصارمة إلى حدِّ أنها أصبَحَت بفضله أنموذجًا
للمبادئ الأخلاقية التي تميَّزَت بها موسيقى العصور الوسطى، حتى
وقت ظهور النزعة الإنسانية في الحضارة الغربية بعد حوالي ثمانمائة
عامٍ من ذلك.
ولقد كان أوغسطين في شبابه مُعلمًا للبلاغة، ثم أصبح من شُرَّاح
الشعر المشهورين. وقبل تعميده بوقتٍ ما بدأ يكتُب بحثًا «في
الموسيقى» اتسم بلهجةٍ صوفية رفيعة، وخُصص قبل كل شيء لبحث الوزن
والنظم والنظريات المتعلقة بالأعداد. وقد حاول أوغسطين قرب نهاية
ذلك الكتاب الذي يتألَّف من ستة أبواب أن يُحلِّل الموسيقى بطريقةٍ
يمكننا في أيامنا هذه أن نُسمِّيَها بالطريقة النفسانية. واللهجة
العامة للبحث تجمع بين الفيثاغورية في بحثه للعلاقات العددية، وبين
الأفلاطونية في تعاليمه الأخلاقية السطحية. وفي هذا البحث، وكذلك
في الملاحظات الأخلاقية المتعلِّقة بالموسيقى في كتاب
«الاعترافات»، تَبَلوَر الفكر الكاثوليكي الرسمي بشأن وظيفة
الموسيقى في الكنيسة والدولة.
ولقد انتهت الروح الإنسانية التي سادت العالم الغربي نتيجةً لبعث
تعاليم أرسطو من جديد، انتهت نهايةً مؤسفة من الوجهة الموسيقية
بانعقاد مجمع «ترنتينو Trent»
والمحفل البابوي في عام ١٥٦٤م. وأغلب الظن أن أقطاب الكنيسة
الكاثوليكية أرادوا تطهير صفوفهم فنيًّا ولاهوتيًّا، وهذا يعني
العودة إلى الأساليب البسيطة المستخدَمة في الماضي. هكذا رأى الجمع
أنه إذا كان أرسطو يخدم أغراضَ الكنيسة في شئون اللاهوت، فإن من
الواجب، في مجال الموسيقى، سماع صوتِ أفلاطون كما تردَّد صداه عند
القديس أوغسطين. وكانت النتيجة هي الإبقاء على الموسيقى
البوليفونية المستخدَمة لأغراض العبادة، غير أنهم جعلوا استمرارها
في الشعائر مرهونًا بتحفُّظاتٍ عقلية معيَّنة. وهكذا لجأَت الكنيسة
مرةً أخرى إلى أسلوب الحلول الوسطى نحو تلك الاتجاهات الفنية التي
لم يكن يسعُها إلا قبولها. وقد مرَّت البروتستانتية بنفس المراحل
من الأخطاء التي تُرتكَب في حق الموسيقى، وكرَّرَت هذه المغالطات
الجمالية المدرسية بدلًا من أن تتخلص منها.
ولقد واجه لوثر موقفًا محرجًا في محاولته جمع قائمة من الألحان
الشعائرية والبروتستانتية؛ فعلى الرغم من أنه كان دون أدنى شك
متحمسًا ثوريًّا في مجال الدين، فإنه لم يكُفَّ أبدًا عن الإعجاب
بالموسيقى البوليفونية الفنية في المذهب الكاثوليكي؛ لذلك اقتبس
ألحانًا من التراتيل الأمبروزية ومن «السكوينسات»
(sequences) الشائعة في العصور
الوسطى، ومن الأناشيد الجريجورية للكنيسة الكاثوليكية. وقد أُعيد
تشكيل هذه الألحان، وبُسطَت وغُيرَت، بحيث تلائم أغانيه الكورالية
الفخمة. كذلك أخذ لوثر الألحان الشعبية الألمانية وأدمجها
بالموسيقى الروحية للعقيدة البروتستانتية. ولسنا نعلم عن يقين إن
كان لوثر وضَع بنفسه هذه الموسيقى أم أشرف على توجيه ذلك النشاط
الموسيقي، ولكن لا بد أنه قد أظهر فهمًا وحُبًّا عميقًا للموسيقى،
وهو أمر تكشف عنه كتاباته بوضوح.
أما كالفان فكان يرتاب في نظريات لوثر المتحرِّرة في الموسيقى.
وكما حذَّر آباء الكنيسة المسيحيين الأوَّلين من الألحان الوثنية،
كذلك أخذ كالفان على عاتقه، بروحٍ متعصبة، أن يمحو من الوجود كل ما
تبقى من آثار الموسيقى الكاثوليكية في المذهب البروتستانتي، وبذلك
ارتكب خطأً لا يُغفر، هو خنق المَلَكات الإبداعية، وإرجاع موسيقى
الهوجنوت إلى أكثر القوالب بدائية. وهكذا فإن فلسفته الموسيقية،
التي كانت تستهدف العودة إلى روح البساطة المسيحية الأصلية وتخليص
البروتستانتية من الشعائر والطقوس المعقدة، قد بلغَت من التزمُّت
ما بلغَتْه من قبلُ فلسفتا أفلاطون والقديس أوغسطين.