القسم الأول: الأوبرا والدراما اليونانية
في كل انتقال من عصرٍ موسيقي إلى آخر يحدُث دائمًا انقسامٌ في
الرأي بين مبدعي الموسيقى وبين نقَّادها؛ ففي سنة ١٦٠٠م ألَّف ناقد
وباحثٌ موسيقي نظري وقسيس اسمه «جوفاني ماريا أرتوزي
Giovanni Maria Artusi» كتابًا
بعنوان «بحث في نقائص الموسيقى الحديثة»، وفي هذا الكتاب أعرب عن
أسفه لانقضاء عهد الموسيقى التقليدية. وبعد عامَين وصف الموسيقي
والمُغنِّي جوليو كاتشيني
Giulio
Caccini (المولود سنة ١٥٥٠م) المجموعة التي
ألَّفها من «المادريجالات» و«الكانزونيتات
canzonets» بأنها موسيقى حديثة
Nuove Musiche وبعد ذلك بثلاث
سنوات كتب «كلاوديو مونتيفردي
Claudio
Monteverdi» (١٥٦٧–١٦٤٣م) الذي ألَّف أول أوبرا
تستحق الاهتمام، والذي ربما كان أعظم من ألَّف «المادريجال» حتى
اليوم، يقول في كتابه الخامس من المادريجالات إنه لم يتبع تعاليم
المدرسة القديمة، وإنما استرشد بما أسماه بالاتجاه الثاني أو
المدرسة الجديدة. وكان مونتيفردي في ذلك يردُّ على حملة الناقد
«أرتوزي» على الفلسفة الموسيقية الجديدة؛ فقد أكَّد أرتوزي، في
دفاعه عن الموسيقى التقليدية، أن مونتيفردي اهتم أكثر مما ينبغي
بدور التنافُر الهارموني
(
dissonance) في موسيقاه. أما
مونتيفردي فردَّ بقوله: إن المعايير الجمالية للمدرسة الأولى أو
القديمة لا يمكن تطبيقها عند تقدير المدرسة الجديدة أو الثانية.
١
ومهما كان من أمر الخلاف
بين أنصار المدرسة القديمة؛ أي مدرسة عصر النهضة، وبين التقدُّميين
من أنصار الفلسفة الموسيقية الجديدة في عصر الباروك، حول موضوع
القواعد اللحنية، فقد بنى الفريقان معًا أفكارهما الجمالية على
النظرية الأفلاطونية القائلة إن الفن محاكاةٌ للطبيعة؛ أي إن
موسيقيِّي عصر النهضة وعصر الباروك قد اتَّبَعوا هذا المذهب
القديم، وحاولوا خلق مجموعاتٍ موحَّدة من الأنغام الموسيقية تُحاكي
الانفعالات البشرية والظواهر الطبيعية. وكان أرسطو في كتابه
«السياسة»، وكذلك نيكولاس دي كوزا في أوائل عصر النهضة، قد كتبا عن
مذهب المشاعر في صلته بالموسيقى، فاستخدم موسيقيو عصر النهضة هذا
المذهب بحذَر، ببساطةٍ واضحة، أما موسيقيو الباروك فقد ذهبوا إلى
حد التطرُّف في الطريقة التي عبَّروا بها عن المجموعة الكاملة
للمشاعر تطبيقًا لهذا المذهب. كذلك ذهب موسيقار عصر الباروك في
تأكيده للكلمات الهامة في النص عن طريق التنافُر النغمي والأنغام
الكروماتية إلى أبعدَ مما بلغه موسيقار عصر النهضة. كما أدت
البراعة المتزايدة في العزف وتطوُّر الآلات الموسيقية، إلى إتاحة
وسائل أفضل يستطيع بها الموسيقي في عصر الباروك أن يُجمِّل الكلمة
المكتوبة، ويؤكِّد معناها عن طريق زيادة المشاعر حدَّة.
وفي عام ١٥٨١م نشر فينشنزو جاليلي Vincenzo
Galilei أبو العالم الطبيعي المشهور (جاليلو
جاليلي) بحثًا بعنوان «محاورات في الموسيقى القديمة والموسيقى
الحديثة Dialogo della. Musica antica e della
moderna» ولخَّص هذا البحثُ الفلسفة الموسيقية
لجماعةٍ أدبية تُسمى «الكاميراتا»
camerata وهي جماعة كانت قد آلت
على نفسها أن تُطبِّق المُثُل العليا الجمالية للفلسفة اليونانية
على الموسيقى الإيطالية، وقد تزعَّمها الكونت جوفاني باردي
Giovanni Bardi والكونت جاكوبو
كورسي Jacopo Corsi، وكانت تضُم من
بين أعضائها المشاهير الشاعر أوتافيو رينوتشيني
Ottavio Rinuccini والموسيقارَين
جاكوبو بيري Jacopo Peri
(١٥٦١–١٦٣٣م) وكاتشيني Caccini.
وقد ذهب جاليلي في بحثه إلى أن فن البوليفونية هو علة تدهور
الموسيقى، ولا بد من التخلص منه، كما كان يعتقد أن الموسيقى
الوصفية غير واقعية، وهي تَحفِل بالمحاكاة الزائفة. وقد عبَّر
جاليلي عن الفلسفة الموسيقية لجماعة الكاميراتا بقوله إن من
الضروري إيجادَ أسلوبٍ جديد موحَّد النغمات (مونودي) إذا شاءت
الموسيقى الإيطالية أن تتمشَّى مع المُثُل العليا الأفلاطونية
للموسيقى اليونانية.
ولم يكن جاليلي موسيقارًا
واسع العلم، ولكنه كان رغم ذلك متعدد المواهب. ويبدو من حملته على
الاتجاهات الحديثة في الموسيقى، بما فيها من تأكيد للبوليفونية،
أنه كان أهم شخصيات هذه الحركة عند بداية ظهورها. وقد هاجمَت جماعة
الكاميراتا الطريقة التي تُعامَل بها الكلمات في موسيقى عصر النهضة
بقولها إن الموسيقى الكنترابنطية تؤدي إلى «تقطيع أوصال» الشعر؛
لأن الأصوات الفردية تُغنَّى ألحانًا مختلفة في آنٍ واحد، وأكَّدَت
هذه الجماعة أن من الواجب في الموسيقى محاكاةَ معنى فقرةٍ كاملة لا
كلمةٍ واحدة. وهكذا أُنشئ أسلوب التلاوة «الريتشيتاتيفو»
(
recitative)، والذي تُترك فيه
الكتابة الكنترابنطية جانبًا تمامًا، حتى تضع الموسيقى للكلمات،
وتتحكَّم الكلمات في الإيقاع الموسيقي، وفي القفلات
(
cadences) كما هي الحال في
الأسلوب المثالي عند اليونانيين.
٢
ولقد كان أعضاء جماعة الكاميراتا يعتقدون حقًّا أن اليونانيين
كانوا يُغنُّون النص الكامل لمسرحياتهم. ولمَّا كانوا هم ذاتهم
أنصارًا لأفلاطون يمجِّدون الماضي، فقد سَعَوا إلى إحياء ما
اعتقدوا أنه فنٌّ مفقود من العصر اليوناني القديم؛ لذلك كرَّسوا
جهودهم الخلَّاقة لاستحداث نوعٍ من أنواع الفن تعمل فيه الموسيقى
على تجميل الكلمة المنطوقة، وعلى دعم الحركات الدرامية للمُمثِّل،
بحيث يؤدِّي الزواج الروحي بين الموسيقى والدراما إلى بعث المثل
الأعلى اليوناني لفلسفة أفلاطون الجمالية. وقد وجد أعضاء هذه
الجماعة في كشف جاليلي لأنشودة «ميزميدس
Mesomedes» أول دليلٍ على أصالة
الموسيقى اليونانية، ولكن لمَّا كان أعضاء هذه الجماعة الأدبية قد
عجَزوا عن فك رموز التدوين اليوناني، فإنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا
شيئًا سوى التكهُّن بما عسى أن يكون مضمونها. وقد أصبح «رينوتشيني»
أول كاتبٍ لنص أوبرا، وذلك حين لبى طلب جماعة «الكاميراتا» في
كتابة تراجيديا مبنية على المبادئ الجمالية اليونانية، فألَّف
قصيدةً درامية عنوانها «دافني
Dafne» وضع موسيقاها «بيري
Peri»، وعُرضَت في بيت الكونت
كورسي في فلورنسا حوالي عام ١٥٩٤م. ولم يبقَ لنا من «دافني»
الأصلية سوى النص فحسب؛ إذ إن الموسيقى للأسف قد فُقدَت، ثم ألَّف
رينوتشيني وبيري، وقد شجَّعهما نجاح الأوبرا الأولى، عملًا ثانيًا
هو «أوريدتشي Eurydice» بالاستعانة
بتوزيعاتٍ موسيقية قام بها كاتشيني. وقد عُرضَت هذه الأوبرا
الأخيرة عام ١٦٠٠م؛ احتفالًا بزواج هنري الرابع (ملك فرنسا) من
ماريا دي مديتشي في فلورنسا.
وقد استحدثَت جماعة الكاميراتا فن «التلاوة الريتشيتاتيفو
recitative» على أساس الاعتقاد
القائل: «إن الموسيقى ينبغي أن تُحاكيَ طريقة كلام الخطيب وأسلوبه
في تحريك مشاعر الجمهور.» وكان كاتشيني مخلصًا لرأي أفلاطون القائل
إن الموسيقى كلام وإيقاع أولًا ولحن أخيرًا.
٣ كذلك رأى بيري أن على الموسيقي أن يُحاكيَ الشخص
المتكلم في الأغنية. وقد ذهب جاليلي وباردي إلى أن من واجب
الموسيقار أن يتعلم من الخطيب كيف يُحرِّك المشاعر، وكتب بيري في
مقدمته ﺑ «أوريديتشي» يقول إنه كان يُحاول تعديل الموسيقى الغنائية
تبعًا للكلام البشري.
وكان مارسيليو فيتشينو، الأفلاطوني الصميم في أكاديمية فلورنسا،
قد أعرب عن الرأي القائل إن الشاعر والخطيب يتخذان من الموسيقار
أنموذجًا لهما. وفي هذه الحالة كان فيتشينو منتميًا إلى عصر النهضة
أكثر مما كان أفلاطونيًّا متحمسًا. كذلك دافع «زارلينو
Zarlino» عن الفلسفة الجمالية لعصر
النهضة، ولكنه ذهب إلى أن فن الشعر والموسيقى طريقتان مستقلتان من
طرق التعبير. وقد وجَدَت آراء زارلينو في فن البوليفونية قبولًا
لدى جماعة الكاميراتا؛ إذ إنه كتب يقول إن الموسيقى البسيطة لصوتٍ
واحد تُحرِّك القلب على نحوٍ أعمق مما يحرِّكه «الكنترابنط»
المعقد. غير أن زارلينو كان يختلف عن جماعة الكاميراتا الفلورنسية
في رأيه عن علاقة الموسيقى بالشعر؛ ذلك لأن موسيقار عصر النهضة كان
يرى أن «التلاوة» (الريتشيتاتيفو) هي في أساسها موسيقى غنائية
وُضعَت لنصٍّ كلامي، ولكن موسيقي عصر الباروك كان يرى أن التلاوة
هي قبل كل شيء نصٌّ كلامي تحمله الموسيقى. أما زارلينو فرأى أن
الموسيقى ينبغي أن تُثير من المشاعر ما تُثيره الكلمات، ولكنه أكد
وجود فارقٍ أساسي بين أسلوب الشاعر وأسلوب الموسيقي.
٤ وهكذا كانت الأفكار الجمالية لفيتشينو وزارلينو تمثِّل
الآراء التقليدية لعصر النهضة، وكانت آراء أعضاء جماعة الكاميراتا
تمثِّل الفلسفات الموسيقية في أوائل أيام عصر الباروك.
على أن الدراما الموسيقية الجديدة التي استحدثَتْها جماعة
الكاميراتا لم تكن نسخةً مطابقة للتراجيديا الكلاسيكية أو بعثًا
لها من جديد؛ فقد كانت الأوبرا الأولى بالفعل مسرحيةً ريفية وُضعَت
لها موسيقى. وكان أعضاء الكاميراتا يعتقدون بالفعل أنهم قد حرَّروا
الموسيقى من سيطرة البوليفونية. وقد يبدو عند إمعان التفكير في
الأمر أن أعضاء الكاميراتا انتقلوا من موقفٍ متطرف إلى موقفٍ متطرف
متضاد؛ إذ إنهم خلقوا فنًّا تُسيطِر عليه الكلمات، وتقتصر فيه مهمة
الموسيقى على دعم الكلمة المنطوقة، فكانت النتيجة أن أوبرات جماعة
الكاميراتا كانت كلها تقريبًا تلاواتٍ
recitatives مطوَّلة، حاولَت أن
تلائم بين الكلمة المنطوقة وبين الموسيقى المصاحبة لها.
وقد ذهب أنصار الاتجاهات التقليدية إلى أن جماعة الكاميراتا
الفلورنسية كانت بالفعل تؤخِّر تطوُّر الموسيقى؛ لأنها تعمَّدَت
تجاهُل فن بالسترينا والقواعد المعمول بها في البوليفونية. وقال
أصحابُ هذا الرأي إن إغفال التأثيرات الفنية التي حقَّقها
بالسترينا عن طريق البوليفونية التقليدية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى
إرجاع الفن والأسلوب الموسيقي لجماعة فلورنسا، وكذلك قدرتهم
الخلَّاقة، إلى الوراء. وانتهى أنصار الاتجاهات التقليدية، الذين
كان أرتوزي هو المتحدث باسمهم، إلى أن من الواجب أن تُكتب
الموسيقى، لا على أساس نظرياتٍ كتلك التي وضعَتْها هذه الجماعة، بل
على أساسِ قواعدَ مبنيةٍ على التوافُقات والإيقاعات
التقليدية.
وقد حَلَّ موتيفردي الصراعَ بين أنصار الاتجاهات التقليدية
وأنصار الاتجاهات الحديثة عن طريق اتباعه للأسلوب المحافظ في
إبقائه على الموسيقى البوليفونية، وفي الوقت ذاته اتجه اتجاهًا
ثوريًّا لا شك فيه، في طريقة استخدامه لها «فهو مثل جماعة
الكاميراتا قد أكَّد مبدأ أسبقية الكلمات الهارمونيا، ولكن هذا
المبدأ أدَّى لديه إلى نتيجةٍ مضادة تمامًا؛ لأنه طبَّقَه على
البوليفونية لا ضدها كما فعلَت جماعة فلورنسا.»
٥
وهكذا كان كلاوديو مونتيفردي، لا جماعة الكاميراتا الفلورنسية،
هو الذي أحيا، فنيًّا، روح التراجيديا القديمة، وخلَق دراما
موسيقية في الحضارة الغربية، وقد شغل مونتيفردي أولًا وظيفة رئيس
أو عَريف الشمامسة وقائد الفرقة الموسيقية في كاتدرائية سان مارك
بفينيسيا عام ١٦١٢م. ولم تكن الأوبرا قد دخلَت فينسيا بعدُ في وقت
وصوله، بل إن افتتاح أول أوبرا للجمهور في فينسيا لم يتمَّ إلا في
عام ١٦٣٧م، وفي السنوات الواقعة بين وصول مونتيفردي إلى سان مارك
وبين بداية عهد الأوبرا في فينسيا اضطلَع بمهامه في قيادة الفرقة
الموسيقية للكاتدرائية المشهورة، وتأليف موسيقى كنسية. وفي عام
١٦٣٠م اجتاح جمهوريةَ البندقية الواقعة على البحر الأدرياتي وباءٌ
شديد، لم يترك مجالًا كبيرًا للاستمتاع بالفن أو إبداعه. وبعد
عامَين، رُسمَ مونتيفردي قسيسًا بالكنيسة، غير أن اعتزالَه العالم
في مجموعه لم يكن إلا اعتزالًا مؤقتًا؛ ذلك لأن دخول الأوبرا في
حياة فينسيا قد لقي من الإقبال والحماسة ما كان من المستحيل معه أن
تظل القوى الخلَّاقة في نفس مونتيفردي خاملة.
ولقد كان مونتيفردي يصوِّر في موسيقاه آلام البشر وعجز الإنسان
عن السيطرة على انفعالاته. وكانت مؤلَّفاته الموسيقية تنصَب على
عواطف الإنسان ومشاعره وآلامه، ولكي يحقق هذا الغرض استخدم من
الإيقاعات والتوافُقات ما أثار حفيظة أنصار القديم، فهاجمه
«أرتوزي» على هذه التجديدات، ولا سيما على التجائه إلى استخدام
التنافُر الهارموني
dissonance دون
أن يُتبِعه بتآلُف يُعتبَر حلًّا له. وأدت به آراءه الأفلاطونية
إلى أن يكتب عن موسيقى مونتيفردي قائلًا إنها «بقَدْر ما أدخلَت
قواعدَ جديدة ومقاماتٍ جديدة، وصياغاتٍ جديدة للعبارات الموسيقية،
كانت خشنةً لا تسُر الأذن، وما كان لها أن تكون غير ذلك؛ إذ إنها
بقَدْر ما تخرج عن القواعد السليمة — وهي القواعد المبنية من جهةٍ
على التجربة، وهي أصل الأشياء جميعًا، والتي تُلاحَظ من جهةٍ أخرى
في الطبيعة، ويُثبِتها البرهان من جهةٍ ثالثة — فمن الواجب أن نرى
فيها تشويهًا للطبيعة وللتوافُق المنشود، بعيدًا كل البعد عن غاية
الموسيقى …»
٦ على أن مونتيفردي بدَوره قد وجد في كتابات أفلاطون
تبريرًا فلسفيًّا لأفكاره الجمالية الجديدة، فقال: «لقد وجدتُ، بعد
إمعان الفكر، أن الانفعالات الرئيسية التي تنتاب نفوسنا ثلاثة؛
الغضب، والاعتدال، والتواضُع أو التوسُّل
supplication. هذا ما أعلنه أفضل
الفلاسفة، وما تُثبِته طبيعة صوتنا ذاته بما فيها من طبقةٍ مرتفعة
وطبقةٍ خفيضة، وطبقة وسطى. كما يدل فنُّ الموسيقى على ذلك بوضوح في
استخدامه للألفاظ ﺑ «قلق
agitato»
وﺑ «عذوبة
dolce» وﺑ «اعتدال
moderato». والحق أنني وجدتُ في كل
أعمال الموسيقيين السابقين أمثلةً ﻟ «العذب» و«المعتدل
moderato»، ولكني لم أجد أبدًا
أمثلة ﻟ «القلق
agitato»، مع أنه
وصفه أفلاطون في الكتاب الثالث من «الخطابة»
٧ بقوله: «لتأخذ ذلك الانسجام الذي يصلُح لمحاكاة أقوال
ولهجة رجلٍ شجاع مشتبك في حرب.» ولمَّا كنتُ أدرك أن الأضداد هي
أقدر الأشياء على تحريك نفوسنا، وأن هذا هو الهدف الذي ينبغي أن
تتجه إليه كل موسيقى جديدة — كما أكد بويتيوس حين قال: «إن
للموسيقى صلةً وثيقة بنا، وهي إما أن تزيد شخصيتنا نبلًا أو
فسادًا.» — فقد أخذتُ على عاتقي، بجهدٍ وعناءٍ غير قليل، أن أكشف
هذا النوع من جديد.»
٨
وقد توسَّع مونتيفردي في استخدام التآلفات (الهارمونيات) في
التعبير عن النصوص الشعرية. وكان يعتقد أن على الهارمونيا أن
تُحاكي مفهوم النص، ولا سيما حين يكون الأمر متعلقًا بانفعالاتٍ
بشرية. وقد استخدَم التآلفات والاصطحاب الهارموني، لا من حيث هما
غايةٌ في ذاتها، بل لتحقيق علاقةٍ تعبيرية بين النغم والكلام. وعلى
حين أن موسيقى جماعة الكاميراتا الفلورنسية كانت تخدم النص، فإن
مونتيفردي قد استخدم الموسيقى لإظهار المعنى الكامن في النص على
نحوٍ أكمل، وكان يعتقد أن الموسيقى ينبغي أن تتشكَّل وفقًا لمعنى
الألفاظ. وكانت طريقة مونتيفردي في فهم وظيفة النص متمشيةً مع آراء
جميع موسيقيِّي عصر الباروك؛ إذ إنه وضع مجموعة من التعبيرات
الموسيقية لتصوير انفعالاتٍ وأفعالٍ بشرية محددة.
ولقد أصبح «مذهب المشاعر
affections» السائد في القرن
السادس عشر أوضح ظهورًا في الأبحاث الخاصة بالفلسفة الجمالية
الموسيقية في الفترة المتأخرة من عصر الباروك. وعلى حين أن
الفلاسفة والباحثين النظريين بوجهٍ عام قد اهتموا بالطبيعة العملية
والوظيفة الأخلاقية للموسيقى، فإن الموسيقيين أكَّدوا أن العنصر
الهام إنما هو صوتُ الموسيقى وطريقةُ استجابة السامع لها.
ولقد استخدم موسيقيُّ عصر الباروك «مذهب المشاعر» في البداية
لتأكيد دلالات النص الكلامي، وزيادة فعالية اللحن الموضوع. غير أن
«مذهب المشاعر» ازداد بمُضي الوقت ثباتًا وتشابهًا، حتى أصبح
الموسيقيون يستخدمون تعبيراتٍ موسيقية موحَّدة لإثارة انفعالاتٍ
معيَّنة، وبعث صورٍ متوهَّمة في النفوس. وقد أدت هذه الطريقة
العقلية في خلق فئةٍ من المؤثِّرات الموسيقية لوصف الحب والشفقة
والكراهية، أو بعث حالةٍ نفسية تتلاءم مع الأفعال المطلوب تصويرها،
أدَّت هذه الطريقة إلى تشويه التوازُن الذي وضعه اليونانيون بين
النص واللحن. وكان تأكيد أعضاء جماعة الكاميراتا لوجوب إخضاع
الموسيقى للألفاظ في الأوبرا مظهرًا من مظاهر هذا الافتقار إلى
التوازُن بين النص واللحن. ولو كانت النظريات الجمالية لجماعة
الكاميراتا قد طُبِّقَت إلى آخر مداها، لكان من الجائز أن تُصبح
الموسيقى الخالصة مجرَّد تابعٍ للدراما. على أن مونتيفردي كان
يُدرِك هذا الخطر بوضوح؛ لذلك أخذ على عاتقه مرةً أخرى — بوصفه
موسيقيًّا خلَّاقًا — أن يدفع عن الموسيقى تلك الأضرار التي
جلبَتْها على الموسيقى آراء فلاسفة جماعة «الكاميراتا» ومفكِّريها
الجماليين.
القسم الثاني: الأسس الجمالية للأوبرا الإيطالية
أصبَحَت إيطاليا مركز العالم الموسيقي في عصر الباروك. ولقد كانت
الأهداف البسيطة لجماعة الكاميراتا، وهي تطهير الموسيقى الغربية من
البوليفونية المعقَّدة بالعودة إلى الأساليب الموسيقية للقدماء؛
كانت هذه الأهداف فاشلةً وناجحةً في آنٍ واحد؛ ذلك لأن الموسيقي
الإيطالي، من جهة، لم يشارك هذه الجماعة تحامُلَها على الشرور
الجمالية للبوليفونية، وفضلًا عن ذلك فقد وجد أن من العسير عليه
تقييدَ نزوعه الخلَّاق في الموسيقى بحدود نصٍّ معيَّن. ومن جهةٍ
أخرى فقد نجَحَت جماعة الكاميراتا في إدخال نوعٍ موسيقي جديد، بدأ
بوصفه مسرحيةً ريفية وضعَت موسيقى بسيطة واحدية الصوت (مونوفونية
monophonic) وتطوَّر بمضي الوقت
إلى نوعٍ جمع كل الفنون في وحدةٍ واحدة هي الأوبرا.
والواقع أن أوبرات مونتيفردي ومؤلَّفاته من نوع «المادريجال»
والأنغام الزاخرة التي تتم بها الموسيقى الغنائية والمعروفة،
الدينية منها والدنيوية، عند جوفاني جابرييلي
Giovanni Gabrieli (١٥٥٧–١٦١٢م)
تتميَّز بفخامة نشعر إزاءها بالتبجيل، حتى في أيامنا هذه. وقد كانت
جودة الصنعة، التي تتمثل في مؤلفات هذَين الموسيقيَّين وجرأة
أفكارهما، متناقضةً مع نظريات جماعة الكاميراتا القائلة إن خلاص
الموسيقى في المستقبل مرهون بالالتجاء إلى الماضي.
ولقد كانت للموسيقي الإيطالي في عصر الباروك مبادئُ جماليةٌ
محددة قد تفوتنا اليوم ونحن نستمع إلى موسيقاه؛ فهو قد حاول تأكيد
الكلمات الهامة في النص بألحانٍ تُبرِز أهميتها، وسعى إلى بلوغ
أكبر قَدْر من التأثير للنص. وقد انفصل انفصالًا واعيًا من عصر
النهضة باستخدامه للتنافُر الهارموني
dissonance، والتلوين الكروماتي.
كما أنه حاول إثراء تآليفه للآلات بتجمُّعاتٍ نغمية يحصُل بواسطتها
على أصواتٍ موسيقية لم يعرفها موسيقيُّ عصر النهضة. وأهم من ذلك
كله أنه كان يُقدِّر اللحن ذاته. وفي هذا الصدد نجد أن موسيقيَّين
كبيرَين هما جاكومو كاريسيمي Giacomo
Carissimi (١٦٠٤–١٦٧٤) ولويجي روسي
Luigi Rossi (١٥٥٨–١٦٥٣م) قد
استحدثا طريقةً اسمها «التتابع اللحني» تُقدَّم فيها جملةٌ لحنية،
ثم تُكرَّر بطبقةٍ أعلى وأخرى أكثر انخفاضًا منها مراتٍ متعددة،
لتأكيد استقلال اللحن عن النص.
وقد تبدو موسيقى الباروك لعصرنا الحالي هادئةً رزينة، ولكن الأمر
الذي عابه عليها أرتوزي هو أنها صاخبةٌ مدوِّية مختلطة، جريئة أكثر
مما ينبغي في استخدام التنافُر الهارموني والتلوين الكروماتي. ولم
تصدُق نبوءة أرتوزي عندما توقَّع أن يكون فساد الموسيقى على أيدي
المحدَثين من أمثال مونتيفردي. والحق أنَّا نذكُر أرتوزي اليوم؛
لأنه كان ناقدًا هاجم موسيقارًا عظيمًا، أكثر مما نذكُره لأي سببٍ
آخر.
وقد افتُتحَت أول دار للأوبرا في فينسيا عام ١٦٣٧م. وكان الأمراء
والأغنياء هم الذين يرعَوْنها، ومنهم كان يتألف معظم جمهورها، ثم
أصبَحَت الدار تستقبل فيما بعدُ كل من كان يمتلك ثمن الدخول، ولكي
يجتذب المشرفون عليها أكبر عددٍ ممكن من المشاهدين، تعاقدوا مع
أحسن المطربين في أوروبا ليُغنُّوا في فينسيا، وبفضل اجتذاب هذه
المواهب الموسيقية الفريدة إلى فينسيا ضَمِن هؤلاء المشرفون ربحًا
ضخمًا لاستثماراتهم، كما أنهم في الوقت ذاته قد جعلوا من فينسيا
مركز النشاط الموسيقي في إيطاليا.
وقد خلَف مونتيفردي في قيادة أوبرا فينسيا تلميذُه الموهوب
فرانشسكو كافالِّي Francesco
Cavalli (١٦٠٢–١٦٧٦م) ومعه مارك أنطونيو تشيسي
Marc Antonio Cesti (١٦٢٠–١٦٦٩م)،
وكان مونتيفردي قد تعمد حفظ التوازُن بين الموسيقى وبين النص
الشعري لأوبراته. أما هذان المؤلِّفان الموسيقيان التاليان له، فقد
زادا من اهتمامهما بالموسيقى وقلَّلا من اهتمامهما بنص الأوبرات.
وكان للتقدير الذي لقيه كافالِّي وتشيستي في الأوساط الموسيقية في
فينسيا تأثيره السريع في مركز الأوبرا ذاتها في تلك المدينة
الإيطالية؛ ذلك لأن تأكيدهما أهميةَ الموسيقى فوق النص الشعري
أدَّى إلى إضعافهما للعنصر الدرامي في أوبرات فينسيا، مما أخل
بالتوازن الذي بذل مونتيفردي جهدًا كبيرًا في حفظه بين الكلمات
واللحن، على عكس جماعة الكاميراتا التي أكَّدَت النص على حساب
اللحن.
وقد استحدث تشيستي وكافالِّي ما بدا لهما أنه أوبرا قائمة على
استقلال اللحن، ولكن هذه قد تحوَّلَت بمُضِي الوقت إلى أسلوب من
الاستعراض الغنائي كاد أن يقضيَ على تكامل القالب الأوبراتي. ولا
بد أن تشيستي كان مُغرمًا بالموسيقى الغنائية؛ إذ يُقال عنه إنه
أول من أدخل أسلوب الغناء الزخرفي bel
canto بفِقراته الطويلة المتصلة وأنغامه التي
تُشنِّف الآذان، وذلك نتيجةً للطريقة التي كان يؤلِّف بها الفواصل
الغنائية المطوَّلة داخل الأوبرا. وقد امتد التأثير الذي مارسه
تشيستي وكافالِّي على الأوبرا في فينسيا، إلى جميع أرجاء
أوروبا.
ولقد أدت الروح الديمقراطية التي سادت دار الأوبرا في فينسيا إلى
نتائجَ تتجاوز مجرد دعوة من يملكون ثمن الدخول لحضور الأوبرا
بأسلوب كافالِّي وتشيستي؛ فليس المهم أن نعرف الأسباب الأساسية
التي دعت المشرفين على هذه الدار إلى فتح أبوابها للجمهور، وإنما
المهم حقًّا أن فَتْح الأبواب للجمهور كان يعني بدايةَ انقضاء عهد
الأوبرا بوصفها عرضًا مقتصرًا على القصور وأهلها، واستهلال عهدٍ
جديد أصبَحَت فيه الأوبرا أحب الفنون الموسيقية إلى قلوب الجماهير.
٩
ولقد كانت أوبرا فينسيا تعني نهايةً أليمة لآمال جماعة
الكاميراتا وأمانيهم في قيام أوبرا مبنية على الأفكار الجمالية
للمسرح اليوناني؛ فقد نُبذَت المُثُل العليا لهذه الجماعة،
وأصبَحَت الأوبرا في فينسيا نوعًا من الحل الوسط من الوجهة الفنية،
فصارت تهتم أيضًا بإرضاء نزعات الترف والرغبة في الترفيه. ولم يعُد
النص يدور حول شخصيات، وإنما حول أنماط، وقد أطلق موسيقيو فينسيا
على دراماتهم الموسيقية اسم الأوبرا الجادة Opera
Seria، غير أن هذه تسميةٌ غير منطبقة؛ إذ إن
الأوبرا نادرًا ما كانت تنتهي نهايةً محزنة، وإنما كان الجمهور
يطالب بنهايةٍ سعيدة. كذلك ضربت أوبرا فينسيا عُرض الحائط بالوحدات
الثلاث المعروفة في المسرح اليوناني؛ إذ إن كثيرًا من هذه الأوبرات
كانت أقصر من أن يمكن الانتفاع منها عمليًّا؛ ولذلك عمَد مديرو
المسرح إلى إقحام فواصل لإطالة مدة العرض. وكانت الألحان زخرفية
إلى حدٍّ بعيد، ولم يكن في وسع أحدٍ سوى كبار المغنِّين من
«الخصيان castrati» أن يُحكِم أداء
السطور اللحنية التي قد تُرهِق العازف الموسيقي البارع.
ولقد كانت موسيقى فينسيا الدينية ثوريةً بقَدْر ما كانت الموسيقى
الدنيوية في المسرح؛ إذ إن الموسيقيين كانوا يتجهون إلى الكتابة
بأسلوبٍ واحد في الموسيقى الدينية والدنيوية معًا. ولم يكن من
النادر أن يجد المرء نصًّا شعائريًّا يؤدَّى في صلاةٍ دينية بلحن
«آريا» من «آريات» الأوبرا. ولم يقبل رجال الكنيسة بارتياحٍ إقحامَ
الألحان الغنائية الدنيوية في الصلوات الدينية، وإدخال موسيقى
معزوفة في الكنيسة. غير أن عدوى التجديد هذه قد انتقلَت إلى روما بدورها.
١٠ فألف موسيقيوها قدَّاساتٍ تنعكس عليها فخامة عصر
الباروك. وكان جيرولامو فرسكوبالدي
Girolamo
Frescobaldi (١٥٨٣–١٦٤٣م) عازف الأرغن الشهير
بكاتدرائية القديس بطرس في روما يستخدم الأرغن والمجموعة الغنائية
بالتبادُل في البداية، ثم انضمَّت بعد ذلك مجموعاتٌ ضخمة من
المغنِّين يدعمهم «أوركسترا» يعزف مستقلًّا، أو مع الأصوات
الغنائية، لزيادة تأثير شعائر الصلاة. كذلك احتل موسيقيو روما
مكانةً بارزة في عالم الأوبرا، غير أن روح القديس أوغسطين سرعان ما
تجلَّت في البابا أنوتشنتي الثاني عشر (الذي تولى البابوية من
١٦٩١م إلى ١٧٠٠م)، وهو مصلحٌ صارم عارَض الطابع السوقي للمسرح،
وأمر بهدم دار الأوبرا في المدينة البابوية.
وقُربَ نهاية القرن السابع عشر، بدأَت نابولي تتجه إلى أن تُصبِح
مركز العالم الموسيقي. ولقد أصابت الموسيقى، خلال عهد سيادة
نابولي، أضرارٌ ومنافع؛ فقد كان أهل نابولي يمجِّدون الصوت البشري،
وأصبح هدفهم هو الوصول إلى أكبر قَدْر من البراعة الغنائية،
وترتَّب على ذلك الإساءة إلى النص الشعري للأوبرا. وصارت كل
اتجاهات الأوبرا في عصر الباروك المتأخر تهتم بجودة الغناء وصفاء
أصوات المغنِّين. ولم يعُد المغنُّون يعبئون كثيرًا باللحن
الموسيقي المدوَّن، بل كانوا يستعيضون عن «الآريات» الأصلية
بمؤلفاتٍ من عندهم، تُظهِر مقدرتهم الغنائية في أحسن أحوالها. ولقد
كان هذا الاهتمام البالغ بإظهار البراعة والمقدرة الفنية في الغناء
هو السبب الرئيسي في تدهور الأوبرا إلى نوعٍ غريب من أنواع الفن؛
فالمغنِّي الذي كان يحب «آريا» معيَّنة كان في كثير من الأحيان
يستخدم نفس لحنها لكلماتٍ مختلفة، وأدى ذلك إلى طغيان شخصية المغني
على الملحِّن وقائد الفرقة الموسيقية؛ بحيث أصبح المؤلِّف الموسيقي
والمسئول عن الأداء تحت رحمة المغنِّي، يستجيبان لنزواته، ويتقيدان
بطريقته الخاصة في الأداء. وكان في وسع المغنِّي أن يُعدِّل
الموسيقى المكتوبة كما يشاء، ويزخرفها حسب هواه. وفي هذا المجال
الاستعراضي الغنائي بلغَت أصوات الخصيان
castrati١١ قمة مجدها، وكانت الطبقات الغنائية التي تبلغها
أصواتهم عالية إلى حدٍّ مذهل، حتى إن النساء اللاتي كن يغنِّين
بصوت «السوبرانو» (الرفيع) عادةً كن يُضطَررنَ إلى الغناء بطبقاتٍ
منخفضة، حتى لا تُجرح كبرياؤهن لعجزهن عن تجاوز أصوات الخصيان أو
مجاراة بهلوانياتها الغنائية، ولكن دور الخصيان في الأوبرا بدأ
يتضاءل منذ النصف الثاني من القرن
الثامن عشر.
وكانت نابولي هي موطن موسيقيَّين موهوبَين هما «ألساندور
سكارلاتي Alessandro Scarlatti»
(١٦٥٩–١٧٢٥م) وهو أبو دومنكو سكارلاتي Domenico
Scarlatti (١٦٨٥–١٧٥٧م)، وقد ألَّف الأول أكثر من
مائة أوبرا حرص فيها كلها على إظهار جمال اللحن وفن الغناء. وكانت
الفلسفة الموسيقية لسكارلاتي الأب والابن مضادةً تمامًا لفلسفة
جماعة الكاميراتا في فلورنسا، وهي الجماعة التي ابتدع أفرادها في
نهاية القرن السادس عشر دراما موسيقية كانوا يظنون أنها تقتدي
بالأسلوب اليوناني؛ إذ إنهم أخضعوا الموسيقى للنص الكلامي، حتى
تكون الكلمة المنطوقة واضحةً دون لبس، وتجنَّبوا الأساليب
البوليفونية المعقَّدة الشائعة في أيامهم، حتى تكون أوبراتهم — على
ما يعتقدون — متمشيةً مع الروح اليونانية الحقيقية. وفي أوائل
القرن السابع عشر تخلى مونتيفردي عن الأفكار الجمالية المتزمِّتة
لدى جماعة الكاميراتا، بإعطائه للموسيقى دورًا أهم، وزيادة قوة
الحركة الدرامية. أما ألساندرو سكارلاتي، فكان أكثر اهتمامًا
بالموسيقى منه بالنص الكلامي أو الحركة الدرامية. وكانت أوبراته،
التي تحوَّلَت في القرن التالي إلى «الأوبرا الجادة»
Opera Seria تتألَّف من مؤامراتٍ
أسطورية، ومن نصوصٍ كلامية سطحية، وعدة فواصلَ غنائية غير مترابطة
يغنِّيها خصيان بارعون، وهي كلها أمور يطرب لها الإيطاليون. ويمكن
القول إن كل موسيقيٍّ أجنبي وفَد إلى نابولي قد حمَل معه عند
مغادرتها شيئًا من تأثير سكارلاتي؛ بحيث إن أوبرات سكارلاتي كانت
أنموذجًا للموسيقيين الأوروبيين في القرن الثامن عشر.
وقد حقَّق جوفاني برجوليزي
Giovanni Pergolesi (١٧١٠–١٧٣٦م) ﻟ
«الأوبرا الهازلة» Opera Buffa
نفسَ ما حقَّقه سكارلاتي للأوبرا الجادة. وهكذا تطوَّر هذان
النوعان من الأوبرا في وقتٍ واحد. ولم يقف الطابع شبه الشعبي
والحوار المضحك للأوبرا الهَزْلية عند حد التسلية الخاصة، بل لقد
أصبح أداةً فعَّالة للسخرية والهجاء عن طريق الموسيقى.
القسم الثالث: الموسيقى في فرنسا وإنجلترا وألمانيا
كانت الروح المسيطرة على الموسيقى الفرنسية في القرن السابع عشر
تشبه إلى حدٍّ بعيد روحَ جماعة الكاميراتا الفلورنسية في القرن
السابق؛ فقد كان الشعراء والموسيقيون يُحاوِلون إحياء الدراما
اليونانية، وكانوا يتفلسفون حول التمييزات الدقيقة الكفيلة بتحقيق
توازنٍ سليم بين الموسيقى والنص. وأدخلوا الرقص بوصفه العنصر
الثالث في المسرح، آملين بذلك أن يَبْعثوا من جديدٍ الجو الحقيقي
للعصر اليوناني القديم. وقد شارك موليير (١٦٢٢–١٦٧٣م)، الذي سَخِر
من الحياة الاجتماعية في أيامه، في تلك الروح الجمالية السائدة في
عصره، فأدخل عنصرًا موسيقيًّا جديدًا في كوميدياته، وذلك بتوحيد
المسرحية الهَزْلية بالموسيقى، ثم إضافة الرقص إليها.
وكان جان بابتيست لولي Jean Baptiste
Lully (١٦٣٢–١٦٨٧م)، الذي تعاوَن مع موليير في
مسرحياته، من أنصار المبدأ الأفلاطوني القائل بضرورة خضوع الموسيقى
للشعر. وبلغ من تزمُّته في ألحانه الموسيقية التي وضَعَها لنصوصٍ
مكتوبة أنه جعل الخط اللحني معتمدًا على نبرات المقاطع وقافية النص
الشعري ووزنه. ومن الجائز أن هذا الالتزام الحرفي للنص قد زاد من
أهمية الكلمة المنطوقة، ولكنه أدَّى في الوقت ذاته إلى الحد من
قدرة اللحن. ولقد كان لُولَى صارمًا مع القائمين بأداء ألحانه
بقَدْر ما كان صارمًا مع نفسه، فكان يفرض على المغنِّين والعازفين
قواعدَ دقيقة، مثلما فرض نظامًا صارمًا على نشاطه الخلَّاق وفقًا
لآرائه الجمالية الخاصة. ولم يكن يمسح للمغنِّين أو العازفين
المنفردين بالتحرُّر في تحديد سرعة الأداء، أو بالإغراق في زخارف
أو «تقاسيم» من ابتداعهم لا لشيء إلا لكي يستعرضوا براعتهم الفنية.
وقد ساعد حرص لُولَى على التزام الموسيقى المكتوبة بدقة على إزالة
التأثير الذي تركَه غرور المغنِّين الإيطاليين، وتحررهم في المسرح
الفرنسي. ومن الجائز أن شروطه الدقيقة في التزام النص الموسيقي قد
حالت دون تدهور المسرح الفرنسي إلى ذلك الطابع الشبيه ﺑ «الفودفيل»
السطحي، الذي أصبَحَت تتسم به الأوبرا الإيطالية.
كذلك كان للنزعة العقلية
الفلسفية في فرنسا تأثيرها في الموسيقى؛ فقد أدى ذلك العنصر
الأفلاطوني الذي كان كامنًا على الدوام في النزعة العقلية
الفرنسية، إلى تطبيق الفكرة اليونانية في محاكاة الطبيعة على الفن
عامة، والموسيقى خاصة. وكانت جماعة الكاميراتا قد أكَّدَت أهمية
الدَّور الذي ينبغي أن تلعبه الموسيقى في إبراز معاني الكلمات،
وزيادة تأثير الدراما، وبالمثل أصبَحَت الفلسفة الجمالية للموسيقى
في فرنسا عقلية إلى حدٍّ بعيد. ولم يقتصر العقليون الفرنسيون على
جعل الموسيقى تابعة للنص، وإن كانوا بالفعل قد وضَعوا الموسيقى
المعزوفة في مرتبةٍ أدنى من مرتبة الموسيقى الغنائية، وإنما حكموا
على الموسيقى بطريقة اليونانيين، فاستنتَجوا منطقيًّا أن الموسيقى
لمَّا كانت تثير الانفعالات، فلا بد أن تكون لها قيمةٌ فلسفية أقل
من قيمة الأفكار العقلية التي تُعبِّر عنها الكلمات.
كذلك كان أصحاب النزعة
العقلية الفلسفية يعتقدون أن موسيقى الآلات أقلُّ قيمةً من
الموسيقى الغنائية؛ لأن الأولى لا تستطيع بذاتها أن تُعبِّر عن
المشاعر تعبيرًا دقيقًا أو كاملًا، ولكن العالم والموسيقار
الألماني يوهان ماتيسون
Johann
Mattheson (١٦٨١–١٧٦٤م) قد خالف هذا الرأي بأن
أدرج استخدام الآلات الموسيقية ضمن تطبيقه الخاص ﻟ «مذهب الشاعر»؛
ففي كتابه «الأوركسترا المستحدثة
Das neu-eroffnete
Orchestre» (١٧١٣م) طرح جانبًا الآراء الموسيقية
العتيقة بقوله إن اللحن ينبغي أن يكون تعبيرًا عن عاطفة، لا
محاكاةً لروحٍ إلهية، وبجعله الإنسان نفسه حكمًا على ما هو خير وشر
في الموسيقى. وإن لهجته لتُذكِّرنا بلهجة أرسطوكسينوس في أيامه،
حين دعا إلى الحكم على الموسيقى من خلال العقل والحس؛ أي حاسة
السمع. وقد كتب يقول: «إن الأعداد ليست المتحكمة في الموسيقى،
وإنما هي توجِّهُها فحسب، وحاسة السمع هي الطريق الوحيد الذي
يُنقَل من خلاله تأثيرها إلى النفس الباطنة للسامع المنتبه …
والهدف الوحيد للموسيقى ليس كونها تسُر العين، أو ما يُسمَّى
بالعقل على الإطلاق، وإنما كونها تسُر الأذن فحسب.»
١٢
ولم يكن ماتيسون يعتد كثيرًا بآراء أولئك الفلاسفة الذين اعتقدوا
في أيامه أن الطريقة الصحيحة للحكم على قيمة الموسيقى هي مقارنتها
نغميًّا وإيقاعيًّا بأنواع الأمثلة الموسيقية التي عرضها أفلاطون
وأرسطو فيما كتباه عن الموسيقى. كذلك لم يكن ماتيسون يَحفِل كثيرًا
بآراء أصحاب العقليات الميَّالة إلى الصنعة في الموسيقى، الذين
يُبدون بعلم الصوت اهتمامًا يفوق اهتمامهم بالموسيقى ذاتها، كما
فعل الفيثاغوريون في أيامهم. وقد تجلَّت بوضوحٍ روح النزعة
الإنسانية في تفكير ماتيسون الموسيقي، وذلك في قوله إن المثقف
المستمع إلى الموسيقى يستطيع أن يُصدِر حكمًا سليمًا على ما يسمعه،
بناءً على معرفةٍ فنية بالموسيقى، مقترنةٍ بالقدرة على التمييز بين
ما هو جميل وقبيح فيها من خلال ذوقه الخاص. وهكذا تنبأ ماتيسون
بعهدٍ جديد للموسيقى يكون مبنيًّا على التنوير والتعليم.
ولقد أعلن فيلسوف إنجليزي معاصر لماتيسون، هو فرانسس هتشسون
Francis Hutcheson (١٦٩٤–١٧٤٧م) أن
«للموسيقى غايتَين؛ الأولى أن تُطرِب الحس، والثانية تحريك المشاعر
أو إثارة الانفعالات. والواقع أن الأوبرا الإنجليزية كانت بالفعل
تُطرِب الحواس، ولم تكن تُثير الانفعالات إلا بطريقةٍ غير مباشرة؛
إذ إنها كانت في المحل الأول مسرحيةً رومانية ذات موسيقى
تصويرية.»
وبالمثل انتقد جوزيف أديسون Joseph
Addison (١٦٧٢–١٧١٩م) الاتجاه إلى إصدار أحكامٍ
جمالية مسبقة على الموسيقى، وذلك في كتاباته في مجلة «سبكتيتور
Spectator» إذ قال: «ينبغي على
الموسيقى والعمارة والتصوير، فضلًا عن الشعر والخطابة، أن تستمد
قوانينها وقواعدها من الحس المشترك والذوق العام للبشر، لا من
مبادئ تلك الفنون ذاتها، أو بعبارةٍ أخرى، ينبغي ألا يتكيف الذوق
تبعًا للفن، وإنما الواجب أن يتكيف الفن تبعًا للذوق.»
وقد كتب جون درايدن
John Dryden
(١٦٣١–١٧٠٠م) وهو أمير الشعراء الإنجليز
١٣ (١٦٧٩م)، وزميل هنري بيرسل
Henry
Purcell (حوالي ١٦٥٨–١٦٩٥م) في مجموعة أعمال فنية؛
كتب في مقدمته لألبيون وألبانيوس
Albion and
Albanius يقول: «إن الأوبرا روايةٌ شعرية تمثِّلها
الموسيقى الغنائية والمعزوفة، وتُزيِّنها مناظر وآلاتٌ مسرحية
ورقص. والشخصيات المزعومة في هذه الدراما الموسيقية هي عادةً
شخصياتٌ خارقة للطبيعة كالآلهة والإلهات والأبطال …»
وقد أدخل بيرسل وأستاذه جون بلو
John
Blow (١٦٤٨ / ٤٩–١٧٠٨م) على الألحان الجادة
للكنيسة الإنجليزية بعض الخصائص المليئة بالحيوية، التي كانت تتسم
بها الموسيقى الإيطالية والفرنسية، ولكنهما وُصِفا بعدم احترام
الكنيسة نظرًا إلى جهودهما هذه. وأدخل بيرسل بعض العناصر الإيطالية
والمؤثِّرات الجمالية الفرنسية في أوبرا «ديدو وأينياس
Dido and Aeneas» التي قدَّم بها
إلى إنجلترا أولى أوبراتها وأروعها في تلك الفترة، ولكن كان يوجد
مقابل كل فيلسوفٍ ذي ذهنٍ عملي وكل موسيقيٍّ خلاق، عددٌ غير قليل
من أنصار التراث الأفلاطوني الذين ظلوا حتى القرن السابع عشر
والثامن عشر يدافعون عن موسيقى الماضي المجيد، وكان تبجيل الأقدمين
هو أعظم فضيلةٍ يمكن أن يتصف بها الشخص الغيور على الموسيقى.
١٤
وقرب نهاية عصر الباروك، استقدَمَت الطبقة العليا الإنجليزية
جورج فريدرك هيندل
Handel
(١٦٨٥–١٧٥٩م) إلى إنجلترا لكي يؤلِّف لهم أوبرا على الطراز
الإيطالي. غير أن الأوبرا الإيطالية لم تحظَ بنجاح في إنجلترا، على
الرغم من جهود وعبقرية شخصية مثل هيندل. وقد كتب أديسون في مجلة
«سبكتيتور» يقول: «لا جدال في أن أحفاد أحفادنا ستتملَّكهم الرغبة
الشديدة في معرفة السبب الذي كان يدفع أجدادهم القدماء إلى الجلوس
سويًّا، وكأنهم جمع من الغرباء في وطنهم ذاته، ليستمعوا إلى
مسرحيات كاملة تُمثَّل أمامهم بلغةٍ لا يفهمونها … والحق أنه لا
شيء كان يروع نظارتنا الإنجليز أكثر من فواصل التلاوة
(الريسيتاتيف) الإيطالية عندما أُدِّيَت على المسرح لأول مرة؛ فقد
دُهِش الناس كثيرًا لسماعهم قُوَّادًا يصدرون أوامرهم العسكرية
بالنغم وسيداتٍ يبلغن رسائل بالموسيقى. ولم يتمالك مواطنونا أنفسهم
من الضحك عندما سمعوا محبًّا ولهانًا يُنشِد رسالة غرام، بل إن
عنوان الرسالة ذاته كان مُلحَّنًا …»
١٥ ولقد كان أديسون يُسلِّم بأن الأوبرا يمكن أن تكون
مليئةً بالزخارف؛ لأن وظيفتها هي إرضاء الحواس، وجذب انتباه
المشاهدين، ولكنه لم يكن يُقِر التصنُّع المسرحي الإنجليزي إلى ما
يشبه «السرك» الروماني.
وفي عام ١٧٢٨م أنتج «جون جي John
Gay» (١٦٨٥–١٧٣٢م) و«جون كرستوفر بيبوش
John Christopher Pepusch»
(١٦٦٧–١٧٥٢م) «أوبرا الشحاذ Beggar’s
Opera» التي سَخِرا فيها من الأوبرا الإيطالية.
وقد كانت هذه عملًا بديعًا ساخرًا كان إلى جانب سخريته من الأوبرا
الإيطالية، يتهكم على الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في عصره. وقد
بلغ من نجاح هذا العمل أنه عجَّل بسقوط الأوبرا الإيطالية في
إنجلترا. ولقد كانت «أوبرا الشحاذ» بأغانيها البسيطة، وأنغامها
الراقصة التي ترجع إلى أصل شعبي، وموسيقاها التي يتخلَّلها حوارٌ
يتدفق حيوية؛ كان هذا العمل مضادًّا تمامًا للأوبرا الجادة (أوبرا
سيريا) الإيطالية. ولَقيَت بساطة هذه الموسيقى والنص والغناء
وطابعها المألوف إقبالًا ساحقًا من الإنجليز. وقد تأثَّر هيندل
بهذا الشعور العدائي الذي أظهره الإنجليز نحو نوعٍ من الفن
الموسيقي لم يكن غريبًا تمامًا عن حضارتهم وأفهامهم، وبلَغ من
تأثُّره أنه كفَّ عن تأليف الأوبرات وتحوَّل إلى
«الأوراتوريو».
وقد طبق هيندل الأسلوب الإيطالي للآريا الدرامية
١٦ على النص في الأوراتوريو. وعن طريق هذا النوع الموسيقي
روى هيندل التاريخ الديني والتقدُّم الإنساني للبشر، واستخدم
الكنيسة ذاتها مسرحًا له. وقد أصبح الأوراتوريو، بفضل جهوده، يحتل
عند الإنجليز المكانة التي تحتلها الأوبرا عند الإيطاليين.
وفي ألمانيا كانت الأوبرا في عصر الباروك المتقدم تعتمد على
معونة الأمراء الحاكمين، الذين كانوا يجلبون الإيطاليين لعرض
أوبرات يستمتعون بها في بلاطهم. أما الشعب الألماني، الذي أنهكَته
الحروب الدينية، وأشعَرَته بالمرارة، فقد وجد عزاءه في الموسيقى
الدينية. وقد يبدو لأول وهلةٍ عندما أُتيح للشعب الألماني أخيرًا
أن يشاهد الأوبرا الإيطالية في ألمانيا الكاثوليكية (أي في الجنوب)
أن أذواق موسيقيِّي فينسيا ونابولي وروما كانت قادرةً على الانتشار
بينهم، ولكن الذي حدث فعلًا هو أن اللغة الإيطالية كانت عاجزةً عن
نقل معنى النص إلى الألمان. وكانت الحرية اللحنية في الأوبرا
الإيطالية شيئًا جديدًا كل الجدَّة بالنسبة إليهم. كما بدا افتقار
الأوبرا الإيطالية إلى الواقعية، في نظر العقلية الألمانية، إساءةً
إلى الثالوث المسرحي في الوحدة والعقدة والحدَث. وهكذا بدا فن
الإيطاليين غريبًا في نظر الألمان، كما بدا في نظر الإنجليز، ومن
هنا كان مآله إلى الإخفاق السريع.
ومن الجائز أن الآثار الجمالية لموسيقى الأوبرا الإيطالية قد
خيَّبَت آمال الشعب الألماني، غير أن موسيقى الإيطاليين قد حازت
أعظم الإعجاب لدى الموسيقيين الألمان المنتمين إلى الشمال
البروتستانتي، مثلما أُعجِب بها الموسيقيون المنتمون إلى الجنوب
الكاثوليكي، وكان لها صداها في أفكارهم وأساليبهم الموسيقية. وقد
حاول هينريخ شوتس Heinrich Schutz
أن يمزج الألحان الإيطالية بالموسيقى الدينية، كما امتزجَت الروح
الإيطالية بالألمانية في موسيقى هانز ليو هاسلر
Hans Leo Hassler (١٥٦٤–١٦١٢م)
وميخائيل بريتوريوس Michael
Praetorius (١٥٧١–١٦٢١م) ويوهان كونار
Johann Kuhnau (١٦٦٠–١٧٢٢م)
وراينرت كايزر Reinhard Keiser
(١٦٧٣–١٧٣٩م) وجيورج فيليب تليمان Georg Philipp
Telemann (١٦٨١–١٧٦٧م).
وقد بدأت موسيقى الباروك الألمانية، تاريخيًّا، على يد هينريخ
شوتس (١٥٨٥–١٦٧٢م)، وانتهت بيوهان سباستيان باخ
Bash Johann Sebastian
(١٦٨٥–١٧٥٠م)، وقد نظر شوتس، بطريقةٍ رومانسية، إلى الكلمة
المنطوقة على أنها موضوع ينبغي أن تغزوه روح الموسيقى. وكان شعار
فلسفته الفنية هو أن من الممكن زيادةَ تأكيد معنى الكلمة
بتوافُقاتٍ موسيقية تتكرَّر على أنحاءٍ شتى. وقد كرَّس حياته
الموسيقية لإيجاد مركَّب من الموسيقى الدينية والدنيوية، آملًا أن
يتمكَّن، عن طريق إدخال العناصر الإيطالية في الموسيقى الألمانية
الدينية، من أن يخلق فنًّا موسيقيًّا أكثر توازنًا من ذلك الذي نتج
عن رد الفعل البروتستانتي على الموسيقى الكاثوليكية.
وبالمثل كانت الرغبة تتملك باخ في إدخال عناصرَ دنيويةٍ مستمدة
من الإيطاليين في الموسيقى الدينية لعصره. وقد كان يشارك شوتس
آراءه التي أعرب عنها منذ حوالي قرن من الزمان، وهي أن الموسيقى
البروتستانتية الألمانية تفتقر إلى الاتزان جماليًّا، وإذا كان لها
طابع يغلب عليها، فذلك هو طابع الرتابة والإملال. كما لقي باخ نفس
المصير الذي لقيه شوتس؛ فقد اشتبهَت السلطات الدينية في دوافعه
الجمالية، وشكَّت في تصرُّفاته الموسيقية، وتجاهل أبناء باخ
موسيقاه بقَدْر ما تجاهلها معاصروه؛ لأن الجميع لم يفهموا آراءه
الجمالية في الموسيقى. وفي النهاية مات باخ كما مات شوتس من قبله،
وحيدًا تملأ المرارة نفسه، حزينًا على تجاهُل الناس له.
ولقد كان باخ مسيحيًّا تقيًّا يؤمن بأن معرفة اللاهوت والإخلاص
في العقيدة الدينية شرطان ضروريان لمؤلِّف الموسيقى الدينية. وكان
يرى أن دراسة التأليف الموسيقي، والنظريات الموسيقية، ليست في
ذاتها كافيةً لإنشاء موسيقى دينية؛ فالتعليم الفني يصقُل الذهن،
ويجعل المرء عارفًا بأصول صنعة الفنَّان، ولكن الإيمان الديني
العميق، بالإضافة إلى معرفة أصول الصنعة الفنية، هو الذي يتيح
للموسيقي تأليف موسيقى بروتستانتية تزيد المسيحي قربًا من خالقه.
وكان باخ ذاته يعتقد أنه في حاجةٍ إلى مزيد من الإلمام بأسس
اللاهوت، حتى يعبِّر في موسيقاه عن أكبر قَدْر من الروحانية، ومع
ذلك فإن الجيل الذي عاصره، وعدة أجيالٍ تالية له، قد وجدَت موسيقاه
باردة فنيًّا، ومُفرِطة في معقوليتها، وذات طابعٍ رياضي، ولم تعترف
لها أبدًا بصفة الحرارة والحماسة الدينية.
وقد كرَّس باخ حياته لإصلاح الموسيقى البروتستانتية، فكتب يقول:
«إن هدفي النهائي هو أن أُعيد تنظيم موسيقى الكنيسة.» كما كان يأمل
أن يتيح للإنسان، بفضل موسيقاه، أن يصبح مسيحيًّا أفضل، وكان أهم
آلات التعبير الموسيقي عنده هو الأرغن. والقالب الذي امتاز فيه هو
قالب «الفوجة
Fugue»، وعن طريق
الغنائية «الكانتاتا
cantata»
١٧ أساسًا، وكذلك الكورال، أدخل على الشعائر
البروتستانتية أفكارًا جمالية هي المبادئ التي بنى عليها ذلك
الإصلاح الذي طالما دعت الحاجة إليه، لموسيقى الكنيسة
البروتستانتية.
ولم تلقَ حماسةُ باخ لإصلاح الموسيقى البروتستانتية فنيًّا
استجابةً كبيرة؛ إذ إن الكنيسة سجَّلَت عليه أن طريقته في عزف
الأرغن، وكذلك موسيقاه «تُبلبِل خواطر جمهرة المصلين بأنغامٍ
أجنبية غربية» وعندما أصبح عَريفًا
(cantor) في كنيسة القديس توما في
ليبزج عام ١٧٢٢م، اشتُرط عليه في العقد الذي وقَّعه أن تكون
موسيقاه ملائمة للشعائر، وألا يكون عزفه طويلًا إلى حد لا يتناسب
مع هذه الشعائر تناسُبًا معقولًا، وألا يُدخِل موسيقى الأوبرات
الإيطالية في الشعائر، وأن يتذكَّر دائمًا أن وظيفة عازف الأرغن
بالكنيسة هي خدمة الصلاة عن طريق الموسيقى، وليست صرف الأنظار عن
العبادة بالاستعراض غير المجدي لمقدرته في العزف على الأرغن أثناء
أداء هذه الشعائر. وكانت عقود الموسيقيين في عصر الباروك تشترط
عليهم البقاء داخل المدينة، وعدم مغادرتها بدون إذن. وقد أدت هذه
القيود المفروضة على حرية باخ المادية، فضلًا عن تلك المفروضة على
حريته الموسيقية، مقترنةً بما لقيه من تجاهُل، إلى جعل السنوات
الأخيرة من عمره أتعَسَ سنوات حياته.
لقد بدأ عصر الباروك بإدخال الأفكار الجمالية اليونانية في
الموسيقى الإيطالية، وانتهى بموت باخ في ألمانيا. وفي تلك الفترة
التي تقل عن قرنَين، والتي تفصل بين اجتماعات أفراد جماعة
الكاميراتا وبين موت الموسيقي الألماني الكبير، ظهَرَت واختفت
مذاهبُ متعددة في الفلسفة الجمالية للموسيقى؛ فقد خُلق فن الأوبرا
في إيطاليا على أساس فهمٍ خاطئ لطريقة اليونانيين في أداء الفن
الدرامي، وصحَّح مونتيفردي المفاهيم الخاطئة لجماعة الكاميراتا عن
طريق إيجاد علاقةٍ أكثر توازنًا بين النص والموسيقى، وزيادة أهمية
ودور الأوركسترا. وبعده بوقتٍ ما، عمل فرانشسكو بروفنسالي
Francesco Provenzale (المُتوفَّى
سنة ١٧٠٤م) وسكارلاتي الأب على جعل الأوبرا، بكل ما فيها من نقائصَ
جمالية، فنًّا للغناء واللحن. وقد كتب أركانجلو كوريلِّي
Arcangelo Corelli (١٦٥٣–١٧١٣م)
مقطوعاتٍ للفيولينة والهاربسيكورد بأسلوبٍ واضح وقالبٍ بسيط. أما
أنتونيو فيفالدي Antonio Vivaldi
(١٦٨٠–١٧٤٣م) ذلك الموسيقي الفذ، فقد لوَّن موسيقى الآلات في أواخر
عصر الباروك الإيطالي، وأضفى عليها رونقًا ما زال محتفظًا بتأثيره
الانفعالي حتى اليوم. وفي فرنسا أعاد لُولَى جزءًا من التأثير
الأفلاطوني إلى الأوبرا، وحدَّ في الوقت ذاته من الأساليب التي لا
طائل منها، والتي كان يلجأ إليها مُغنُّو الأوبرا. وفي إنجلترا مزج
بيرسل الموسيقى الإيطالية بقالبه الخاص في الأوبرا، وكذلك
بالموسيقى الدينية. ثم انتقل لواء الإبداع الفني من إيطاليا إلى
ألمانيا، وإن يكن شوتس وباخ قد ظلا يعودان من آنٍ لآخر إلى
الموسيقى الإيطالية التي كانت تُعزف في جنوب ألمانيا، لكي يقتبسا
منها وحيًا لحنيًّا يُثرِيان به الموسيقى اللوثرية في شمال
ألمانيا.
ولقد كانت الأوبرا في عصر الباروك المتقدم معارضة من الوجهة
الفلسفية، ومن حيث الأسلوب للكنترابنط. ومن جهةٍ أخرى كانت تهتم
بالكلمة المنطوقة اهتمامًا مبالغًا فيه. وعلى حين أن الباحثين
النظريين مثل أرتوزي، كانوا يشُكُّون من استخدام التنافُر
الهارموني dissonance فإن
الموسيقيين الأصالى، مثل مونتيفردي، ظلوا يُثْرون الموسيقى الغربية
بتجمُّعاتٍ نغمية جديدة. ولم يكن النظام الهارموني، كما عرفناه
فيما بعدُ، قد تطوَّر بعدُ، وإنما كان عليه أن ينتظر ظهور باخ
ورامو Rameau. وقد انتظمَت
المقامات الغامضة التي كانت معروفةً في الموسيقى الأقدم عهدًا، في
تآلفاتٍ متتابعة أضفت على الموسيقى اتصالًا هارمونيًّا، وأتاحت
ظهورَ قوالبَ موسيقية أطول مدًى. وعلى حين أن جماعة الكاميراتا
كانت قد رفضَت فن البوليفونية على أساس أنه مضادٌّ للتعاليم
الأفلاطونية، فإن هذا الفن أصبح في مؤلَّفات يوهان سباستيان باخ هو
الدعامة الأساسية لموسيقى ذات تركيبٍ هارموني مُحكَم، وجمالٍ لحني
رائع.