القسم الأول: من ديكارت إلى كانت
لا تعكس الفلسفة والموسيقى روح العصر في كل الأحوال؛ فالتجديدات
الموسيقية التي تُهاجَم بشدة في عَصرِها تُصبِح في كثيرٍ من
الأحيان الأساليب والنماذج المقبولة في عصورٍ تالية. كذلك فإن
فلسفة الأمس قد أصبَحَت علم اليوم، وقد يصبح الكثير من تأملاتنا
الفلسفية الحالية علمًا في الغد. والواقع أن الفلاسفة والفنانين هم
أقدَر الناس على التطلع إلى المستقبل. غير أن الفيلسوف والفنَّان
نادرًا ما يشتركان في طريقة تعبيرهما عن روح العصر، وكثيرًا ما
يتشكَّك أحدهما في آراء الآخر.
فقد كان أفلاطون أشهَرَ فيلسوفٍ انتقد الفنانين نقدًا لا يعرف
هوادة، ومع ذلك فإن التفكير الجمالي للحضارة الغربية في الموسيقى،
إنما ترجع جذوره إلى كتابات أفلاطون. ولقد كان تقديره للموسيقى،
الذي أعرب عنه في محاورتَي «الجمهورية» و«القوانين» أساسًا،
تقديرًا أخلاقيًّا قبل كل شيء. وقد تابع المدرسيون أفلاطون في معظم
نظرياته الموسيقية، وطبَّقوها تطبيقًا عمليًّا دقيقًا على طريقة
الحياة والعبادة المسيحية. وحذا قادة عصر الإصلاح الديني حَذْو
أسلافهم في العصور الوسطى؛ إذ أبدَوا نفس القَدْر من التزمُّت، بل
زادوا عليه في كثير من الأحيان، وذلك باستخدامهم الصفات الانفعالية
للموسيقى من أجل دعم المذهب البروتستانتي. وطوال هذه القرون كان
للموسيقى دورٌ متفاوت الأهمية في مذاهب الفلاسفة الغربيين الذين
كانوا يفتقرون — باستثناء عددٍ قليل جدًّا منهم — إلى الخبرة
الفنية أو المعرفة النظرية التي تتيح لهم تقدير قيمة الموسيقى
بوصفها وسيلةً للتعبير الجمالي. وترتَّب على ذلك أنهم جعَلوا لها
مركزًا متواضعًا بين الفنون الأخرى، حتى نهاية القرن الثامن عشر،
وحتى في ذلك العهد المتأخر، كان الفلاسفة ينظرون إلى الموسيقى
باستخفاف، ويُقدِّرونها على طريقة القدماء؛ أي من خلال الاعتبارات
الميتافيزيقية أو الرياضية أو الأخلاقية، لا بوصفها فنًّا مستقلًّا
يُبرر وجوده بذاته.
وحتى بعد بداية عصر الكشوف العلمية في أوروبا في القرن السابع
عشر ظل عالمٌ مثل يوهان كبلر
Kepler (١٥٧١–١٦٣٠م) يربط بين
الأنغام والمسافات الموسيقية وبين حركات الكواكب بطريقةٍ مشابهة
للطريقة التي استخدمها أفلاطون في وصف نظرية انسجام الأفلاك
الفيثاغورية، كما احتفظ رينيه ديكارت
Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠م) بالفكرة
الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضية في أساسها. وينبغي أن
تُستخدم مبحثًا يمهد لدراسة الفلسفة، وقد تحدث أيضًا — شأنه شأن
مؤسس الأكاديمية واللوقيون — عن المشاعر الموسيقية، وجعل للإيقاعات
قيمًا أخلاقية؛ إذ إن لها تأثيرًا مباشرًا في النفس البشرية؛ لذلك
أعرب ديكارت عن إيثاره للإيقاعات التي لا تهيِّج المشاعر أو
تُثيرها بعنف كالإيقاعات البسيطة، لا المعقَّدة، والإيقاعات
الهادئة المعتدلة. كما أكَّد ضرورة استخدام النِّسَب البسيطة في
المسافات النغمية، وردَّد الشكوى التي سبق أن أعلنها أفلاطون، فحمل
على عدم تناسُق المقامات الموسيقية التي كان يستخدمها الموسيقيون
المعاصرون له في أساليبهم الكنترابنطية. وكان ديكارت متمشيًا مع
المذهب القديم في إخضاع المشاعر للعقل، حتى لا تؤدي حاسة السمع إلى
تضليل الروح، أو يفسَد العقل بالشطحات الجامحة للخيال.
١ أما اهتمام بندكت دي اسبينوزا
Spinoza (١٦٣٢–١٦٧٧م) بالموسيقى،
فقد بدأ وانتهى بملاحظته القائلة إن «الموسيقى تنفع المكتئب، وتضُر
المحزون، أما الأصَم فلا تنفعه ولا تضره.»
٢
وبالمثل وصف جوتفريد فلهلم ليبنتس
Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦م) الموسيقى
بأنها مظهرٌ للإيقاع الكوني تتألف ماهيَّته الباطنة من عدد ونسبة،
فقال: «مثلما أنه لا شيء يسُر حواس الإنسان أكثر من الانسجام في
الموسيقى، فكذلك لا يُوجد شيء يسُر (العقل) أكثر من الانسجام
الرائع للطبيعة، الذي لا تُعد الموسيقى بالنسبة إليه سوى بادرةٍ
ضئيلة ودليلٍ بسيط.»
٣ ويضيف ليبنتس على ذلك قوله إنه مهما كان من سحر
الموسيقى لنا «فإن جمالها لا يكون إلا في انسجام الأعداد».
٤ وعلى ذلك فالموسيقى في مذهب ليبنتس هي حسابٌ لا شعوري،
أو هي علاقةٌ محسوسة بين أعدادٍ مرتَّبة حسب مسافات وأنماطٍ صوتية
تبعث المتعة في النفس. ولقد حرص ليبنتس بوجهٍ خاص على أن يشير إلى
أن الموسيقى إنما هي مظهرٌ للإيقاع الذي يسود الكون، وأن النفس
تستجيب لتأثيرها دون وعيٍ منها؛ فالموسيقى تعكس نظام الكون
وتنوُّعه، وعن طريق إيقاعاتها النابضة وتوافُقاتها السارة نشعر
عيانيًّا بأن الله خلق العالم وفقًا لأفضل خطة ممكنة؛ أي إنه خلق
العالم، بحيث يجمع بين أعظم تنوُّعٍ ممكن وأعظم نظامٍ ممكن. مثل
هذا العالم، في رأي ليبنتس، هو الذي صوَّره كبار الموسيقيين بما في
موسيقاهم من تنافُر وانسجام.
٥
وقد أعلن أديسون
Addison في
القرن الثامن عشر، مذهبًا جماليًّا في الموسيقى ترجع جذوره إلى
الامتزاج الفيثاغوري بين الرياضة والصوت؛
٦ فهو يؤمن بأن المتعة التي نستمدُّها من الموسيقى، أو
السرور الذي تبعثُه الأنغام الموسيقية بما تُثيره من خيال، هما
بالفعل حسيَّان، ولكنه انتهى من ذلك إلى أننا عندما ندرك الجميل
بالحَدْس، فإن تلك هي إحدى الوسائل التي يتبعُها الخالق لكي يكشف
لنا صنعتَه المُحكَمة، وإذن فالموسيقى ذاتها وسيطٌ حسي للتعبير،
ينطوي على مضموناتٍ أخلاقية تبعثُ على التأمُّل الديني.
ولقد كان فولتير
Voltaire
(١٦٩٤–١٧٧٨م) وأديسون متفقين في كراهيتهما للأوبرا الإيطالية
السائدة في أيامهما، فقد وصفَها أديسون بأنها فنٌّ يفتقر إلى
الوحدة والتآلُف. ورأى فولتير أن من المضحك أن يستمع المرء إلى
البطل، وهو يغنِّي «آريا» طويلة في الوقت الذي تُنهب فيه مدينة، ثم
كتب يقول: «وأي شيءٍ أسخف من أن يختم كل منظر بواحدةٍ من هذه
الآريات التي لا علاقة لها بما قبلها أو بعدها … والتي تقضي على
اهتمامنا بالدراما، لكي تتيح الفرصة لحنجرةٍ مخنَّثة، حتى ترفع
عقيرتها بالترعيش والتقطيع، على حساب الشعر والذوق السليم.»
٧ ولعل فولتير كان يتجه بذهنه إلى مثل هذه المظاهر في
الأوبرا عندما ذكَر أن كل ما يبلغ من السخف حدًّا يحول بينه وبين
التعبير عنه الكلام، كان نصيبه أن يُغنَّى. غير أن أروع ما في
سُخرياته البارعة هو تشبيهه للفيلسوف الميتافيزيقي براقصي
«المنويتو» الذين يُقبِلون وقد تحلَّوا بأبهى زيناتهم، وينحنون
بضعةَ مرات، ويَخطِرون برشاقةٍ عَبْر القاعة كاشفين عن سحرهم
الطاغي، ويتحرَّكون دون أن يتقدموا خطوةً واحدة، بحيث ينتهي بهم
الأمر إلى نفس البقعة التي بدءوا منها.
٨
وكان اللورد تشسترفيلد
Chesterfield (١٦٩٤–١٧٧٣م) يعتقد
أنه على الرغم من أن الموسيقى تُسمى فنًّا حرًّا، فهي أقل قيمةً من
النحت والتصوير، أما علو مكانة الموسيقى في إيطاليا، فدليل على
انحطاط هذا البلد، فكتب يقول: «من الصحيح تمامًا أن يُوصَف النحت
والتصوير بأنهما من الفنون الحرة؛ لأن الشرط الأساسي للتفوق فيهما
هو خصب الخيال وقُوَّته، بالإضافة إلى دقة الملاحظة، وهو أمرٌ
أعتقد أنه لا يلزم في الموسيقى، وإن تكن تُسمى فنًّا حُرًّا …
فالنحت والتصوير مرتبطان بالتاريخ والشعر، أما الموسيقى فلا ترتبط
فيما أعلم، بأي شيء سوى رفاق السوء.»
٩
ولقد كان «دني ديدرو Denis
Diderot» (١٧١٣–١٧٨٤م) يرى في الموسيقى محاكاةً
للانسجام الكوني. وكما أن الطبيعة ذاتها لا تُخطِئ في تقديراتها
أبدًا، فكذلك يتألف الجمال في الموسيقى من نسبٍ صحيحة. وقد امتدح
فيثاغورس؛ لأنه وضع أسس علم الموسيقى بأن استخلص النسب والعلاقات
الرياضية الدقيقة من الطبيعة، وبذلك أنشأ أول مذهبٍ في علم
الأصوات، ومع ذلك فقد اعترض على التفكير الجمالي الميتافيزيقي عند
«رامو»، الذي ذهب إلى أن «الهارمونيا» هي المبدأ البديهي، الذي
يستطيع الفيلسوف والموسيقي بواسطته أن يتوصَّلا إلى فهم للمبادئ
الأساسية للطبيعة والموسيقى. وحاول ديدرو أن يُقنِع رامو بأن
الموسيقى أكثر من مجرَّد علمٍ للصوت مبني على حساباتٍ هندسية؛
فالجمال في الموسيقى لا يتألف من علاقات أو نِسَبٍ صحيحة فحسب،
وإنما يستحيل في رأي ديدرو الفصل بين الموسيقى والشعر. ومن الواجب
أن تُراعى مقتضيات النص عند وضع اللحن والهارمونيا.
أما «جان فيليب رامو
Jean Philippe
Rameau» (١٥٨٣–١٦٧٤م) مؤسس نظامنا الهارموني
الحديث، فقد وضع مذهبًا جماليًّا في الموسيقى مبنيًّا على فلسفة
ديكارت. ولقد كانت المشكلة الأساسية في نظر ديكارت هي تطبيق المنهج
الهندسي على الميتافيزيقا من أجل جعلها علمًا دقيقًا. وقد اتفق
رامو مع ديكارت على أن الموسيقى مبنية أساسًا على الرياضة، فقال في
كتابه «دراسة في الهارموني
Traite de
l’harmonie»: «إن الموسيقى علمٌ ينبغي أن تكون له
قواعدُ معيَّنة، وهذه القواعد يجب أن تُستمَد من مبدأٍ واضح بذاته.
ومن المُحال أن نعرف نحن هذا المبدأ إلا بمساعدة الرياضيات.»
١٠
وكان رامو يعتقد أن الفنون الجميلة تتميز بعلاقة يحكمها نفس
المبدأ، أعني مبدأ الانسجام، ولكن الطبيعة فضَّلَت الموسيقى على
سائر الفنون؛ لأن الانسجام يتمثل في الموسيقى أوضَحَ ما يكون. وهو
يذكِّرنا من بعيد بأرسطوكسينوس في الفقرة التي يقول فيها: «لا يجوز
لنا أن نحكم على الموسيقى إلا من خلال حاسة السمع، وليس للعقل من
سلطة فيها إلا بقَدْر ما يتفق مع حكم الأذن. وفي الوقت ذاته، فلا
يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر إقناعًا لنا من اتفاق الأذن والعقل
في الأحكام التي نُصدرها؛ ذلك لأن الأذن تُرضِي طبيعتنا، والعقل
يُرضِي روحنا، فعلينا إذن ألا نحكُم على شيء إلا بهما معًا متضامنَين.»
١١ كذلك احتفظ رامو ﺑ «مذهب المشاعر»، فقال: «من المؤكَّد
أن في وسع الهارمونيا أن تثير فينا انفعالاتٍ تختلف باختلاف
التآلفات الهرمونية المستخدمة؛ فهناك تآلفاتٌ حزينة، وأخرى ناعمة
ورقيقة وسارة ومرحة، ومؤثِّرة، كما أن هناك تعاقباتٍ معيَّنة
للتآلفات الهارمونية تعبِّر عن هذه الانفعالات.»
١٢ وأضاف إلى ذلك «كارل فيليب إمانويل باخ» (١٧١٤–١٧٨٨م)
ابن يوهان سباستيان باخ قوله: «… لمَّا كان من المستحيل على
الموسيقي أن يحرِّك مشاعر الناس إلا إذا تحرَّكَت مشاعره هو ذاته،
فمن الضروري أن يكون في استطاعته أن يبعث في نفسه كل الانفعالات
التي يودُّ أن يثيرها في نفوس سامعيه؛ فهو ينقل مشاعره، وبذلك يكون
من أيسر الأمور أن يُثير فيهم مشاعرَ متعاطفة.»
١٣
ولقد اكتسبت نظرية المحاكاة
mimesis، القائلة إن الفن تقليدٌ
للطبيعة، أهميةً كبيرة في الأبحاث الفلسفية في القرن الثامن عشر؛
فقد كان ذلك عصرًا انتشَرَت فيه دعوة العودة إلى الطبيعة والانصراف
عن حياة المدينة. وبالطبع لم يكن الموسيقي الخلَّاق يعبِّر عن هذه
الحركة في مؤلَّفاته تعبيرًا كاملًا؛ إذ إن الموسيقى ليست دائمًا
انعكاسًا مباشرًا لروج العصر. ومع ذلك ظل الفلاسفة يردِّدون الفكرة
اليونانية القائلة إنه لمَّا كان الفن محاكاةً للطبيعة، فيترتَّب
على ذلك منطقيًّا أن تكون الموسيقى انعكاسًا للإيقاع الذي يسود
الكون، وعلى ذلك فإذا أمكن أن يستمع الإنسان إلى الإيقاعات
الموسيقية الصحيحة دون سواها، فعندئذٍ يستطيع أن يتعلَّم كيف يعيش
وفقًا للقانون الطبيعي، ويتحد مع الطبيعة.
وقد اتفق جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م) مع ديدرو في رأيه القائل إن
الموسيقى محاكاةٌ للطبيعة، ودفعَتْه رُوحُه النازعة إلى الإصلاح
إلى أن يحمل على استخدام اللغة الفرنسية في الموسيقى الغنائية،
وذلك بناءً على نظريته غير المؤكدة القائلة إن اللغة الفرنسية لا
تصلُح للنطق الغنائي كما تصلُح اللغة الإيطالية، فكتب يقول: «إن
لهجة اللغات هي التي تحدِّد الألحان في كل أمة، واللهجة هي التي
تجعل الناس يتكلمون وهم يُغنُّون …»
١٤ وكان روسو يعتقد، على عكس أديسون وفولتير، أن الموسيقى
الإيطالية تعبِّر عن انفعالات الشعب الإيطالي ومشاعره. أما اللغة
الفرنسية فهي لغةٌ فكرية جافة، مما يجعل الموسيقى الفرنسية تعاني
على الدوام صعوباتٍ فنيةً ناتجة عن طبيعة الصعوبات اللغوية «فليس
في الموسيقى الفرنسية وزن ولا لحن؛ لأن اللغة تفتقر إليهما. وهناك
حقائقُ لا سبيل إلى الشك فيها، هي أن الغناء الفرنسي صُراخٌ مستمر،
لا تُطيقه الأذن المنصفة، وأن هارمونياتها خشنةٌ خالية من التعبير،
ولا توحي إلا بموضوع إنشاءٍ تافه لتلميذٍ صغير، وأن «الآريات»
الفرنسية ليست آريات والريسيتاتيف (التلاوة) الفرنسي ليس
ريسيتاتيف. ومن هذه الحقائق استنتج أنه ليس للفرنسيين ولا يمكن أن
تكون لهم موسيقى، أو أنه إذا أصبح لهم موسيقى يومًا ما، فستكون هذه
أسوأ موسيقى يمكن تصوُّرها.»
١٥
ولقد كان روسو بدوره، شأنه شأن معظم فلاسفة العصور القديمة
والعصور الوسطى وعهد الإصلاح الديني، يزدري الموسيقيين الذين
يكتبون موسيقى بلا كلمات؛ فموسيقى الآلات تحتلُّ في مذهبه الجمالي
مكانةً ثانوية؛ ولذلك قال: «إذا لم تكن الموسيقى قادرةً على
التصوير إلا باللحن، ومنه تستمد كل قوَّتها، فإنه يترتَّب على ذلك
أن كل موسيقى غير غنائية مهما كان من توافُقها ليست إلا موسيقى من
النوع المُحاكي، ولا تستطيع بهارمونياتها الجميلة أن تؤثِّر في
النفس أو تصوِّر شيئًا، وسرعان ما تترك الأذن والقلب جامدًا لا يتأثر.»
١٦ ثم يضيف روسو ساخرًا وفي ذهنه إشارةٌ صريحة إلى رامو:
إن الصوت البشري في موسيقى نصير الأوبرا الفرنسية الكبيرة (جراند
أوبرا)، لا يُستخدَم إلا بوصفه «مصاحبة للاصطحاب» كذلك حمل،
كالقدماء وكثيرٍ من المفكِّرين النظريين في العصور الوسطى، على
استخدام الكتابة الكنترابنطية. ولم يُنكِر روسو أن اللحنَين
اللذَين يؤدَّيان متفقَين أحيانًا، ومتقابلَين أحيانًا أخرى يمكن
أن يتصفا بالجمال، غير أنه آثَر البساطة على التعقيد؛ إذ إن
الطبيعة ذاتها من وجهة نظره الفلسفية بسيطةٌ في أساسها.
ولقد قام روسو بدَورٍ مزدوج، هو دور فيلسوف عصر التنوير الذي
يدعو إلى العودة إلى الطبيعة بوصفها شفاءً من كل الشرور
الاجتماعية، ودور الموسيقي الذي وضع مذهبًا جماليًّا عقليًّا في
الموسيقى، مبنيًّا على مبادئَ ميتافيزيقية. ولم يكن يجد غضاضةً في
إصدار أحكامٍ قطعية، سواء بوصفه فيلسوفًا أم بوصفه موسيقيًّا،
ولكنه كتب في بحث بعنوان: «رسالة في الموسيقى الفرنسية
Lettre sur la musique francaise»
(١٧٥٣م) يقول: «… إنني أعترف بأني لا بد أن أزدري شعبًا يُولِي
أهميةً مفرطة لأغانيه، ويضع موسيقييه في مرتبةٍ أرفعَ من فلاسفته،
ويضطَر المرء إذا عاش بين ظَهرانَيه أن يتحدث عن الموسيقى بدقة
وحرصٍ يفوق حديثه عن أخطر المسائل الأخلاقية.»
١٧ وهو يقول أيضًا: «… إن مهمة الشاعر هي أن يكتب شعرًا
ومهمة الموسيقي هي أن يؤلف موسيقى، ولكن الفيلسوف وحده هو القادر
على أن يبحث في هذا وذاك معًا.»
١٨
ولقد أُعجِب روسو أيما إعجاب بفرقةٍ إيطالية للأوبرا كانت تؤدي
أوبرا برجوليزي البهيجة «السيدة الخادم La Serva
Padrona» في باريس عام ١٧٥٢م، وقد قوبلَت هذه
الفرقة بحماسةٍ تُناظِر تلك التي قوبلَت بها «أوبرا الشحاذ» في
إنجلترا. غير أن أنصار الأوبرا الجادة لم يَرَوا في هذا العمل
المرح إلا تجديفًا وجريًا على عادة الفرنسيين في مثل هذه الأحوال؛
فقد انقسَم محبو الموسيقى في فرنسا إلى معسكَرَين حول هذه المسألة؛
فهناك المُعجَبون ﺑ «السيدة الخادم» وهؤلاء أُطلق عليهم «أنصار
التهريج buffonistes» وأنصار
الأوبرا الجادَّة، وهؤلاء سُمُّوا بأعداء التهريجيين. وقد دافع
روسو عن وجهة نظر «التهريجيين» في كتاباته وفي نشاطه الموسيقي
الخاص. وعلى الرغم من أنه لم يتلقَّ تعليمًا موسيقيًّا فنيًّا، فإن
هذا لم يحُل دون تأليفه أوبرا هزيلةً على نصٍّ فرنسي، هي «عرَّاف
القرية Le Devin du Village»
(١٧٥٢م)، وفيها حاول أن يطبِّق مبادئ الأوبرا الهَزْلية «البوفا»
الإيطالية.
وكان روسو يرى أن اللحن هو أهم ما في الموسيقى. وعلى حين أن رامو
كان يستمد ألحانه من التتابعات الهارمونية، فإن روسو قد أكد أن
الهارمونيا لا معنى له بدون اللحن. ولقد كان روسو فيلسوفًا أكثر
منه موسيقيًّا في حملته على البوليفونية؛ إذ يقول: «إن أيَ
هارمونيا يمكن أن تبعثَها عدة سطور، لكلٍّ منها لحنه الجميل؛ إذا
ما أُدِّيَت سويًّا، تنتهي إلى إزالة أي تأثير لهذه الألحان
الجميلة بمجرد أن نسمع معًا ولا يظل يُسمَع عندئذٍ سوى تعاقُب
التآلفات الهارمونية، مما يُوصَف بأنه لا حياة فيه أبدًا إذا لم
يبعثه اللحن حيًّا، فكلما زاد المرء من تكديس الألحان غير
المتلائمة بعضها فوق بعض، قلَّت المتعة وتضاءل الجمال اللحني
للموسيقى؛ فمن المستحيل أن تُتابِع الأذن عدة ألحان في آنٍ واحد،
ولمَّا كان أحدها يمحو تأثير الآخر، فلن يكون المجموع إلا جلبةً
وضوضاء، ولكي تكون القطعة الموسيقية بديعة، ولكي تنقل إلى الروح
المشاعر التي يُقصَد منها أن تثيرها، فإن جميع الأسطر اللحنية
ينبغي أن تتضافر في تقوية تأثير الموضوع، فلا يكون للهارمونيا من
عملٍ سوى بعث النشاط في الموضوع الموسيقي، ولا يكون للآلات
المصاحبة من وظيفةٍ سوى تجميله دون أن تطغى عليه أو تُشوِّهه. وعلى
سطر القرار «الباص» (
bass) أن
يُرشِد المغنِّي والسامع، في تتابُعٍ هارموني بسيط، دون أن يُدرِكه
واحدٌ منهما، وبالاختصار فمن الواجب أن تنقل المجموعة كلها، في
الوقت الواحد، لحنًا واحدًا إلى الأذن، وفكرةً واحدة للذهن.»
١٩ ويضيف روسو في رسالته هذه عن الموسيقى الفرنسية، بعد
قليل، قولَه: «إن جعل الفيولينات تُعزَف بذاتها من جانب، والفلوتات
(
Flutes) من جانبٍ آخر، والباصونات
(الفاجوتو
bassoons) من جانبٍ
ثالث، كلٌّ بلحنه الخاص، ودون أية علاقةٍ متبادَلة تُذكَر بينهم،
ثم إطلاق اسم الموسيقى على هذه الفوضى الصاخبة، إنما هو إهانة
للأذن ولذَوق السامع.»
٢٠
وبعد عشرين سنةً من كتابة روسو ﻟ «الرسالة في الموسيقى الفرنسية»
تراجع عن هجومه على الموسيقى الفرنسية. ومع ذلك فإن الصراع الفلسفي
والحملة الموسيقية التي شنَّها على موسيقى بلاده
٢١ قد مهَّدَت الطريق، رغم ذلك، لظهور الفلسفة الهيجلية
ودراما فاجنر في ألمانيا؛ ذلك لأن روسو قد وضع أسس النزعة القومية
في نظريته الاجتماعية التي وجدَت لها تبريرًا فلسفيًّا في مثالية
هيجل. وكان يرى أن الأوبرا القومية لا تنفصل عن لغة الأمة، وهي نفس
الفكرة التي طبَّقَها فاجنر فيما بعدُ عندما مجَّد في أوبراته
الأساطير الجرمانية من أجل إحياء حضارة الأمة الألمانية، غير أن
روسو قد اقتبس من الفلاسفة السابقين عليه مثلما أثَّر في اللاحقين
له، من أمثال هيردر اللاهوتي، وهيجل الفيلسوف، وفاجنر الموسيقي؛
ذلك لأنه سلَّم بالرأي الأفلاطوني القائل إن الكلمات والموسيقى
ينبغي ألا تنفصلا، وقد وجد في أسلوب الغناء الإيطالي الزخرفي اﻟ
«بل كانتو
Bel Canto» مبررًا
كافيًا لتفضيل الصوت الغنائي الذي اعتقَد أنه يؤثِّر في السامعين
أكثر مما تؤثِّر فيهم أجمل الآلات الموسيقية. وقد اختلف مع رامو؛
لأن هذا الأخير كان يُبالِغ في تأكيد أهمية موسيقى الآلات؛ ذلك لأن
روسو كان يعتقد أن الآلات الخالصة لا تنتُج عنها إلا مشاعرُ عامة
غامضة، وكان يرى — مع أفلاطون — أن وظيفة الآلات هي تعميقُ النص
الكلامي. وقد سَخِر من «الكنترابنط» كما فعل أفلاطون في أحكامه
التي أصدرها على الموسيقى اليونانية الموزَّعة على صوتَين
متقابلَين.
وقد وضع كريستوف فيليبالد فون جلوك
Christoff
Willibald von Gluck (١٧١٤–١٧٨٧م) نظريةً جمالية
في الموسيقى كانت أقرب إلى أذهان فلاسفة عصر التنوير من نظرية
رامو؛ فقد كتب جلوك في تصديره لأوبرا «ألست
Alceste» يقول: «عندما عزمتُ على
كتابة موسيقى «ألست»، قرَّرتُ أن أُخلِّصها تمامًا من تلك المساوئ،
التي جلبها على الأوبرا غرور المُغَنِّين الكاذب، أو تهاوُن
المؤلفين الموسيقيين المُفرِط، وهي المساوئ التي شوَّهَت الأوبرا
الإيطالية منذ عهدٍ بعيد، وأحالت أروعَ المناظر وأبدعَها إلى
مناظرَ مضحكةٍ مملة؛ لذلك اجتهدتُ في أن أقصُر الموسيقى على أداء
مهمتها الدقيقة، وهي أن تخدم الشعر عن طريق التعبير ومسايرة مواقف
القصة، دون أن تُقاطِع الحوادث أو تُشوِّهها عن طريق زخارفَ عميقةٍ
جوفاء … ولقد رأيتُ أن جهدي الأعظم ينبغي أن ينصرف إلى التماس
البساطة الجميلة، وتجنَّبتُ التظاهر بالتعقيد على حساب الوضوح.»
٢٢ وأضاف جلوك في رسالةٍ له يقول: «مهما كانت مواهبُ
الموسيقي، فلن يستطيع أن يضع إلا موسيقى هزيلة إن لم يُثِر الشاعر
فيه الحماسة التي بدونها تكون نواتجُ الفنون كلها ضعيفةً تافهة؛
فالجميع متفقون على أن الهدف المشترك لكافة الفنون هو محاكاة
الطبيعة، وهذا الهدف هو ما أسعى إلى بلوغه؛ لذلك فإن موسيقاي التي
سعيتُ بقَدْر طاقتي إلى جعلها طبيعةً بسيطة، لا تتجه إلا إلى
التعبير عن معنى الشعر ودعمه إلى أقصى حدٍّ ممكن.»
٢٣ وهكذا عرض جلوك أساس نظريته الجمالية، التي أرجع الفضل
فيها إلى مؤلِّف أشعار أوبراته، «رانييري دي كالزابيجي
Ranieri de Calzaigi» (١٧١٤–١٧٩٥م)
بقوله إن الشعر له الأولوية، وإن وظيفة الموسيقى هي تصوير البيت
الشعري وتأكيده. وقد تحدَّى جلوك تقاليد «الأوبرا الجادة»
الإيطالية، وخلق أسلوبًا جديدًا للأوبرا مبنيًّا على المزيد من
الواقعية الدرامية.
ولقد كان جلوك متشبعًا بالروح الفلسفية لعصره. وأدَّت رغبتُه في
العودة إلى حالة الطبيعة إلى مسارعة روسو بتأييده والترحيب به
بوصفه واحدًا من دعاة حركة «العود إلى الطبيعة». وكان جلوك حريصًا
على إصلاح الأوبرا الفرنسية بتطهيرها من تفاهات الأوبرا الإيطالية
ونقائصها الفنية. غير أن أنصار الأوبرا الإيطالية قاوموا محاولته
هذه التي تهدف إلى القضاء على قوالبهم التقليدية في الأوبرا، مثلما
فعلوا عندما أعلنوا سخطهم على أوبرا «السيدة الخادم». وأقام أعداء
الإصلاح هؤلاء «نيكولا بيتشيني Niccola
Piccinni» ووضعوه في مقابل جلوك وروسو؛ أي بيتشيني
كان يُمثِّل الأوبرا الإيطالية التقليدية، وجلوك كان يُمثِّل روح
الإصلاح التي بدأَت في باريس بأوبرا برجوليزي وأوبرا «عَرَّاف
القرية» لروسو.
ولقد كان مفهوم المحاكاة اليوناني واضحًا كل الوضوح في التفكير
الجمالي عند جلوك، الذي كان يعتقد أن الفن ينبغي أن يصوِّر الطبيعة
والظواهر الطبيعية تصويرًا واقعيًّا، وأن في وسع الموسيقى، كأي
فنٍّ آخَرَ غيرها، أن تقوم بهذه المهمة. وفي هذا الصدد كان جلوك
متفقًا مع الآراء الجمالية السائدة في عصره، والقائلة إن الفنون
يُمكِن أن يحل كلٌّ منها محل الآخر، وأن ما يُمكِن أن يعبِّر عنه
أحد الفنون يمكن أن يُعبِّر عنه الآخر. وقد انتهى جلوك على أساس
هذا المنطق، إلى أن في استطاعة الموسيقى أن تصوِّر الواقع تصويرًا
دقيقًا عن طريق تجميل الكلمة المنطوقة حتى تُعبِّر عن معناها بدقة.
وإذا كان روسو، في اهتمامه بالجانب النظري أكثر من الجانب العملي
في الموسيقى، قد أوضح الصعوبات الجمالية التي يتضمَّنها تحويل
اللغة إلى أغنية، والموسيقى إلى كلام، فإن جلوك الذي كان موسيقيًّا
أكثر منه باحثًا نظريًّا، قد بنَى حركتَه الإصلاحية على إخضاع
الموسيقى للنص. وكانت تلك طريقته الخاصة في تقويم عيوب الأوبرا
الإيطالية التي تَركَت للمُغنِّين الخصيان حرية استخدام الكلمات
على هواهم، أو تغيير المقاطع من أجل زيادة التأثير النغمي. وكان
جلوك يعتقد أن الأداء الأمين للنص هو الذي يضمن للموسيقى أن تكون
طبيعية. على أنه عدَّل في عام ١٧٧٧م موقفه الجمالي القائل إن الشعر
له الأولوية، وإن وظيفة الموسيقى هي تصوير البيت الشعري وتأكيد
معناه، فذهب إلى أن الموسيقى والشعر ينبغي أن يكونا في مركزٍ
متساوٍ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
وفي الوقت الذي أتم فيه إمانويل كانت
Immanuel
Kant (١٧٢٤–١٨٠٤م) تأليف كتابه «نقد ملكة الحكم
Critique of Judgement» (١٧٩٠م)
كان باخ وهيندل وجلوك قد تُوفُّوا، وكان هايدن وموتسارت في قمة
نضجهم الموسيقي. وعلى الرغم من أن عالمًا موسيقيًّا جديدًا كان قد
ظهر، فإن «إمانويل كانت» ظل يكتب بطريقةٍ تليق بالأقدمين، فقال:
إنه على الرغم من أن الموسيقى «تتحدث بواسطة الإحساسات وحدها دون
تصوُّرات، وبذلك لا تترك أي مجالٍ للتفكير، كما يفعل الشعر، فإنها
مع ذلك تُحرِّك الذهن على أنحاءٍ أكثر اختلافًا، وبطريقةٍ أقوى
تأثيرًا، وإن يكن ذلك على نحوٍ عارض فحسب.»
٢٤ ففي نظرية «كانت» الجمالي، يُعَد الشعر أقدَر الفنون
على اجتذاب العقل؛ إذ الكلمات هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن
التصورات والأفكار؛ فالشعر في رأي «كانت» هو الذي يجمع على أفضل
نحوٍ ممكن بين العقل والتعبير. ويلي الشعر في المرتبة، النحت
والتصوير، أما الموسيقى فهي في أدنى مراتبِ مذهبِه الجمالي.
ومَردُّ ذلك إلى أن الموسيقى، في رأيه، متعة أكثر منها ثقافة …
ولها في حكم العقل قيمة أقل من أي فنٍّ آخر من الفنون الجميلة. ومن
هنا فإنها، ككل متعةٍ أخرى، تُريد التغيُّر المستمر ولا تحتمل
التكرار الكثير، وإلا جلبَت السأم والملل.
وللموسيقى تأثيرٌ عضوي في السامع؛ إذ إنها — كالضحك واللهو —
تُرضينا؛ لأنها تبعث فينا شعورًا بالصحة. ولا تقتصر قدرة الموسيقى
على بعث الشعور بالحيوية والصحة في النفوس، ولمَّا كانت تؤثِّر في
سامعها أقوى تأثير، فقد اتفق «كانت» مع أفلاطون على أن الموسيقى
تستطيع التغلغُل في الأعماق الباطنة للنفس، بحيث يمكننا عن طريق
الموسيقى «أن نصل إلى الجسم من خلال النفس، ونستخدم النفس طبيبًا
يشفي عِلَل الجسم.»
ولقد سبق أن بحث أفلاطون وأرسطو في التأثيرات العضوية التي
يُمكِن أن تتحكَّم بها الموسيقى في السلوك وتكوين الشخصية، فكتب
أرسطو في «السياسة» يقول: «إن الإيقاع واللحن يُحاكيان الثورة
والرقة، وكذلك الشجاعة والاعتدال، وكل الصفات المضادة لهذه، وغيرها
من صفات الشخصية. وهذه المحاكاة لا تكاد تختلف عن المشاعر الفعلية
كما نعرفها في تجاربنا؛ إذ إن نفوسنا تتغيَّر بسماعها لهذه الألحان.»
٢٥ وقد ظلَّت «نظرية المشاعر» اليونانية هذه باقية، مع
بعض التعديلات، في الفلسفات الموسيقية للرومان. وردَّدَها الفلاسفة
المسيحيون في القرون التالية، كما طبَّق الموسيقيون الخلَّاقون في
العصر القوطي وعصر النهضة «مذهب المشاعر» بوصفه مجموعةً من الصور
الموسيقية الموحَّدة التي تُوحي بانفعالاتٍ محددة في نفس السامع،
وكرَّر ديكارت هذه النغمة في القرن السابع عشر، وكذلك فعل ليبنتس
وديدرو وروسو في القرن الثامن عشر. ومن هنا فليس من المستغرب أن
نجد كانْت يشير إلى «نظرية المشاعر» هذه في أحكامه الخاصة على
الموسيقى، فلما كان تغيُّر اتجاه الأنغام أشبه ما يكون بلغةٍ
عالمية للأحاسيس، يفهمها كل إنسان، فإن فن الصوت يُستخدَم بكل ما
فيه من قدرة؛ أي بوصفه لغةً للمشاعر، وبذلك ينقل للجميع بلا
استثناء، عن طريق قوانين التداعي، تلك الأفكارَ الجماليةَ التي
ترتبط به بطبيعتها.
٢٦
وتتضمن آراء «كانْت» الجمالية في الموسيقى عنصرًا آخر دأَبَت
الفلسفات السابقة على تأكيده، هو الإقلال من شأن الموسيقى الخالية
من الكلمات؛ فقد رأينا أفلاطون وأرسطو يُعرِبان عن سخطهما على أي
تحديدٍ يفصل الكلام عن الأنغام، كما رأينا القديس أوغسطين ولوثر
وكالفان يؤكدون أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به الألحان السليمة
في تعريف المتدين العادي بالكتاب المقدس. وبالمثل نظر «كانْت» إلى
الموسيقى على أنها «فنٌّ جميل (لا مجرد فنٍّ ممتع)، والسبب الوحيد
في ذلك هو أنها تُستخدَم أداة للشعر.»
٢٧ وكان يرى أن الموسيقى التي لا يُوجد لها موضوعٌ
محدَّد، «بل كل موسيقى بغير كلمات في الواقع» هي محضُ خيالات.
٢٨ فليس لموسيقى الآلات الخالصة من قيمةٍ تُذكر في نظر
«كانْت»؛ لأنها متحررةٌ خيالية، ولا تعبِّر عن تصوُّرٍ
محدَّد.
ولقد دعا معاصر «كانْت» يوهان جوتفريد فون هيردر
Johann Gottfried Von Herder
(١٧٤٤–١٨٠٣م) إلى فلسفةٍ إنسانية في الموسيقى، مضادة للآراء
الموسيقية المتزمَّتة التي دعا إليها حكيم كونجزبرج «كانْت»، وتقول
نظرية هيردر إن الموسيقى والفنون الأخرى تتطوَّر من صورةٍ أدنى إلى
صورةٍ أعلى، ولقد كان هذا الرأي معروفًا من قبله عند ليبنتس، كما
توسَّع فيه هيجل من بعده. على أن هيردر قد بدأ نظريته الجمالية في
الموسيقى بفكرةٍ قريبة من فكرة روسو القائلة إن الأغنيات الشعبية
لدى الأمم ذات اللغات المختلفة في العالم هي التي تكشِف عن
«الأصوات. جمع الموسيقى الشعبية ﻟ «الأمم المختلفة» البدائية منها
والمتحضرة. وانتهى بهم افتتانهم بالغناء الشعبي والشعر والموسيقى
إلى موقفٍ رومانسي يُنادي بوحدة الفنون، وهو موقفٌ جمالي مضاد لما
دعا إليه «جوتهولد إفرايم لسنج
Gotthold Ephraim
Lessing» (١٧٢٩–١٧٨١م) حين ميَّز بين الفنون
تمييزًا قاطعًا في كتابه اﻟ «لاوكون
Laocoon»،
٢٩ وإن يكن قد أصبح رغم ذلك حقيقةً واقعة في عالم الفن
قرب نهاية القرن التاسع عشر، في أوبرات فاجنر. وقد اتفق هيردر مع
روسو على ضرورة إصلاح الأوبرا، ولكن على حين أن روسو كان يعتقد أنه
وجد في الموسيقى البوليفونية تحديًا للنظام الطبيعي، فإن هيردر لم
يجد مثل هذا التعارض أو مثل هذا التوازي بين أغنيات الإنسان
والنظام الأزلي. وعلى الأرجح أنه اعتقد أن البوليفونية البدائية
قديمةٌ قِدَم الأغنية ذاتها، وأن البوليفونية قد نمَت، في تاريخ
الموسيقى، من صورةٍ بدائية إلى صورةٍ متطوِّرة رفيعة في القرن
الثامن عشر.
القسم الثاني: هايدن وموتسارت وبيتهوفن
وقعَت ألمانيا في القرن السابع عشر فريسة صراعٍ ديني وحربٍ
مدمرة. وكان من الطبيعي أن تنعكس على الموسيقى صورة الظروف التي
نشأت في ظلها، ألا وهي جو الصراع والموت هذا؛ فأهم ما أنتجَتْه
ألمانيا من الموسيقى في تلك الفترة كان ذا طابعٍ ديني قبل كل شيء،
وكان مكتوبًا عادةً للآلة الموسيقية الخاصة بالكنيسة، وهي الأرغن.
وعلى حين أن الجزء الشمالي من ألمانيا قد اتخذ من لوثر مرشدًا له
في الأمور الروحية والموسيقية، فإن الجزء الجنوبي منها، الذي ظل
كاثوليكيًّا كان يستورد الموسيقى والموسيقيين الإيطاليين ليستمتع
بفنهم. وكان الموسيقيان البروتستانتيان، شوتس وباخ، يحسُدان
جيرانهم الجنوبيين في مجال الموسيقى، بل لقد حاولا إدخال الأفكار
الجمالية للإيطاليين الكاثوليك في مؤلفاتهم البروتستانتية.
ولقد أصبَحَت إيطاليا المركز الموسيقي لأوروبا باكتشاف المونودية
monody٣٠، وهي لحنٌ فردي بمصاحبة آلاتٍ موسيقية استخدَمَته
جماعة الكاميراتا كردِّ فعلٍ على الغناء البوليفوني المعقَّد في
القرن السادس عشر. وقد أدى هذا الأسلوب المونودي في الغناء إلى جعل
الأوبرا فنًّا محببًا إلى نفوس الإيطاليين، وأذاع هذا القالب
الموسيقي والأسلوب الغنائي الجديد في جميع أرجاء أوروبا. ويروي لنا
فولتير أن الكاردينال مازاران قد أمر في عامَي ١٦٤٦م و١٦٥٤م بأداء
أوبراتٍ إيطالية بواسطةِ مغنِّين استُقدموا من إيطاليا خصوصًا لهذا
الغرض. غير أن الفرنسيين لم يميلوا على الفور للأوبرا الإيطالية،
التي اختُرعَت في فلورنسا، لسبب بسيط — في رأي فولتير — هو أنه «ما
زالت في فرنسا بقيةٌ من البربرية القديمة التي تُعارِض إدخال هذه الفنون.»
٣١ ولكن إذا لم يكن الفرنسيون قد مالوا إلى الأوبرا
الإيطالية، فإنهم لم يعترضوا على الموسيقى التي يؤلفها موسيقي
إيطالي، إذا كانت تتمشَّى مع الذوق الفرنسي. وهذا بعينه ما فعله
موسيقيٌّ إيطالي، هو «لُولَى» الفلورنسي، الذي خلق للأوبرا
الفرنسية قالبًا مضادًّا للقالب الإيطالي، وظل القالب يتخذ
أنموذجًا يحتذيه الموسيقيون الفرنسيون طوال المائة عام
التالية.
وفي القرن الثامن عشر ربط روسو بين الفن الموسيقي وبين مذهبه
الفلسفي، فذهب إلى أن فكرة العود إلى الطبيعة، تحتِّم الأخذ بفكرة
الطبيعة في الموسيقى، وقال: «إذا كانت الأوبرا تستهدف جلب لغة
الحياة اليومية إلى المسرح، فمن الواضح أن هذه اللغة لا تتمثَّل في
ذلك الحديث الفصيح المتكلف المتصنع، الذي كان يقدِّمه إلينا ممثلو
القرنَين السابع عشر والثامن عشر.» وقد عبَّر روسو عن فلسفته في
الموسيقى، وعن روح الحماسة الفرنسية، في أوبرا «عَرَّاف القرية»،
وكانت فلسفته في الموسيقى مرشدًا للموسيقي الكبير جلوك، كما كان
لها تأثيرها في عبقرية موتسارت المبكرة.
ولقد ظلت إيطاليا وفرنسا، حتى أوائل القرن الثامن عشر، متفوقتَين
على سائر البلدان الأوروبية في مجال الموسيقى، ولكن بحلول منتصف
ذلك القرن، أصبَحَت ألمانيا أكثر بلدان العالم الغربي إبداعًا؛
فقرب منتصف القرن الثامن عشر، فتَرَت القدرات الخلَّاقة للموسيقيين
الإيطاليين فتورًا واضحًا، وظلت الموسيقى المألوفة تتكرر دون
تغيُّر، ولم يظهر إنتاجٌ موسيقي جديد يُعادِل في مكانته أو مزاياه
الفنية موسيقى فترة الباروك الأولى، فقبل أواسط القرن الثامن عشر
كانت أوروبا كلها تغترف من مناهل الموسيقى الإيطالية، أما بعد ذلك
التاريخ، فقد بدا أن إيطاليا، وكذلك معظم بلدان أوروبا، قد أخذَت
تمُرُّ بفترة عقمٍ فني، ولم تعُد مظاهر النشاط الفني تتمثَّل إلا
في بلدٍ واحد هو ألمانيا؛ ففي الوقت الذي تراخت فيه إيطاليا
لتجتَرَّ ماضيها الموسيقي، بدأ عهدٌ موسيقي جديد في ألمانيا على
أيدي هايدن وموتسارت وبيتهوفن، الذين تأثَّروا جميعًا إلى حدٍّ ما
بالآراء الجمالية الموسيقية لدى ابنَي يوهان سباستيان باخ، وهما
كارل فيليب أمونويل ويوهان كريستيان (١٧٣٥–١٧٨٢م).
وفي عام ١٧٤٥م عيَّن أمير مانهايم عازفًا بارعًا على الفيولينة
اسمه يوهان أنطون شتامتس Johann Anton
Stamitz (١٧١٧–١٧٥٧م)، الذي أصبح بعد تعيينه
بفترةٍ وجيزة قائدًا لأوركسترا البلاط. وبفضل توجيه هذا العازف
العبقري، أصبح أوركسترا مانهايم أعظم مجموعة من العازفين في
أوروبا، وعرض هؤلاء الموسيقيون تحت قيادته ألوانًا وأساليبَ جديدة
للعزف، واستحدثوا تأثيراتٍ إيقاعية ودينامية لم تعرفها الأذن
الأوروبية من قبلُ، فاستخدموا طريقة التصاعُد (أي تقوية عنفوان
الصوت رويدًا رويدًا) crescendo
والخفوت (أي الهبوط بعنفوان الصوت شيئًا فشيئًا)
decrescendo بنجاح ساحق، على حين
أن موسيقيَّ الباروك كان في البداية يضيف آلاتٍ أو أصواتًا بشريةً
جديدة إذا أراد رفع الأصوات إلى إحدى القمم، ويُسكِت بعض هذه
الآلات أو الأصوات إذا أراد صوتًا خافتًا. وهكذا استخدَمَت مدرسة
مانهايم الموسيقية مؤثِّراتٍ لم يكن عازفو عصر الباروك عاجزين عنها
فحسب، بل لم يكونوا شاعرين بها أصلًا.
ولم يقتصر تأثيرُ مدرسة مانهايم على هذه النواحي الفنية فحسب، بل
إن الأفراد المحيطين ﺑ «شتامتس» أصبحوا طلائع عصر «العاصفة
والاندفاع» في الآداب والفنون الألمانية؛ فقد عارض أفراد مدرسة
مانهايم الأساليب الفنية التقليدية، ولم يقبلوا أن يظل الفنان في
ذلك المركز الاجتماعي الذي كان يحتله في أيامهم، والذي كانت القرون
الماضية تقبله على أنه أمرٌ مُسلَّم به. وقد تجلَّت روح التمرُّد
هذه في الطابع المجدِّد لموسيقاهم وأساليبهم الفنية، كما أنهم
طالبوا علنًا بمزيدٍ من الاحترام لمركزهم الاجتماعي بوصفهم
موسيقيين. وبفضل موسيقاهم وآرائهم الاجتماعية مهَّدوا الطريق
للفترة المقبلة في الحضارة الغربية، وهي الفترة التي كانت تتميز
بعلاقةٍ جديدة أكثر إنسانيةً بين الموسيقي الذي ينتمي إلى الطبقة
الوسطى وبين أفراد الطبقة العليا في المجتمع.
ولقد كان للآراء الاجتماعية والفنية التي نادت بها مدرسة مانهايم
تأثيرها في فرانز يوزف هايدن Franz Joseph
Hayden (١٧٣٢–١٨٠٩م)؛ فقد كان هايدن يعزف موسيقاهم
في بلاط الأمير الذي يعمل عنده، كما انضم إلى تمرُّدهم بأن شكا على
استحياء من أن هذا الأمير كان مخطئًا في معاملته على أنه مجرَّد
خادمٍ أجير في البلاط، عليه أن يظل دائمًا تحت رحمة سيده، وطوع
بنانه؛ فلم يكن هايدن يعتقد أن من اللائق أن يظل في عزلة في البلاط
لا لشيء إلا لكي يجلب المتعة للأقلية الأرستقراطية، وإنما أراد أن
تُنشر موسيقاه، بحيث تتجاوز نطاق حياة البلاط، حتى «يستمتع
المنهَكون والمكدودون، أو أولئك الذين يرزحون تحت وطأة عملهم،
بلحظات قليلة من السعادة والرضا» وهم يستمعون إلى موسيقاه.
ولقد امتدَّت حياة هايدن طوال الفترة الكلاسيكية للموسيقى
بأكملها، واستهل هو ذاتُه عهد الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى عن
طريق الرباعية الوترية والسيمفونية؛ ففي الرباعية جعل لكل حركة
استقلالًا خاصًّا بها، من حيث القالب، ومن حيث التبايُن بينها وبين
الأخريات. كما طوَّر طريقة التفكير من خلال ألحانٍ موسيقية رئيسية،
ووضع أسس التركيب المنطقي للتفكير الموسيقي المبني على تطوير
اللحن. وقد عبَّر عن هذه الأفكار الموسيقية في ألحانٍ مميزة، وزاد
على موسيقى عصر الباروك في أنه وزَّع اللحن على أكثر من خطٍّ صوتي
واحد وحسب أهميته. وكان هايدن ينظر إلى اللحن على أنه تفكيرٌ
موسيقي. وقد ظل متمسكًا بهذه النظرة في كل رباعياته، وبذلك أضفى
عليها استمرارًا واتصالًا، على عكس النوع الأقل انسيابًا الذي كان
يتميَّز به عصر الباروك. وكان كل صوت يغني اللحن في دوره، وعن طريق
الكنترابنط وصل هايدن إلى توازنٍ سليم في مؤلَّفاته بين الآلات
الأربع.
وقد أتاحت السيمفونية لهايدن أن يزيد نظريتَه الجمالية توسُّعًا.
ومع ذلك فإنه قد حرص، طوال سنوات تطوُّره الموسيقي، على ألا يتعمد
فرض أسلوبٍ يعتقد بصلاحيته لقالبٍ موسيقي معيَّن، على قالبٍ آخر،
وإنما كان يعتقد أن لكل قالب موسيقي حياة خاصة به، وأن كل قطعة
ينبغي أن تُعامَل على أنها كيانٌ قائم بذاته، وأن تُكتَب على هذا
الأساس.
ولقد ألَّف هايدن أيضًا أوبرا للأمير الذي كان يعمل عنده، وظل
يَكِد سنواتٍ عديدة لكي يكتب أوبراتٍ تُضارِع رباعياته
وسيمفونياته، بل كان يعتقد بالفعل أنها أفضل من مؤلَّفاته
الموسيقية الصرف، ولكن أوبراته لم تصل أبدًا إلى مستوى الأوبرات
السابقة في عصر الباروك، ولم تقترب فنيًّا من مستوى أعماله
الموسيقية الخالصة. ولم يكن الفيلسوف شيلر
Schiller يعتقد بأن أوراتوريو
«الخلق Creation» لهايدن هو عملٌ
رفيع، وإنما انتقدَه على أساس أنه خليطٌ مضطرب لا لون له، وصف
هايدن بأنه فنانٌ ماهر يفتقر إلى الإلهام.
أما فولفجانج أماديوس موتسارت Wolfgang Amadeus
Mozart (١٧٥٦–١٧٩١م) فكان أكثر توفيقًا مع
الفلاسفة من معاصره الأكبر سنًّا، هايدن؛ فقد أثنى عليه كيركجورد
Kierkegaard، المفكر الذي يعشق
الموسيقى، ووصفَه بأنه خالد، كما امتدح أوبرا «دون جوفاني»، فقال
عنها إنها من خَلقِ موسيقيٍّ مُلهَم. وإنا لنجد في الكتابات
الصوفية لهذا الفيلسوف الدنماركي تبجيلًا دائمًا لشخصية موتسارت
التي أحبها إلى درجة العبادة. والواقع أن موتسارت استخدم، في
التعبير عن مشاعره وأفكاره، كل القوالب الإيقاعية والنغمية
التقليدية، ولكنه زادها كلها عمقًا. وقد ألَّف موتسارت وهو صبي في
الثانية عشرة من عمره مسرحيةً غنائية بعنوان «باستيان وباستيين
Bastien and Bastienne» استخدم
فيها حوارًا كلاميًّا بين الأجزاء الغنائية، على نمط مسرحية روسو
الغنائية التي أحرزَت نجاحًا كبيرًا، «عرَّاف القرية». وعندما أصبح
موسيقيًّا ناضجًا ظهر في مؤلَّفاته تأثير «الرباعيات الروسية»
لهايدن، الذي كان له بمثابة الأب. وقد أهدى موتسارت بعضَ رباعياته
إلى هايدن لكي يعرف العالم مقدار ما يدين به لموسيقي فيِنَّا
الكبير. كذلك تأثَّر موتسارت بالإصلاحات التي أدخلها جلوك على
الأوبرا الفرنسية، ولكنه يرى أن من الواجب أن يظل الشعر ابنًا
مطيعًا للموسيقى لا العكس كما أراد جلوك في البداية. ولقد تعلم
موتسارت من جلوك أن تصوير الأحداث الدرامية بطريقةٍ واقعية هو من
الضرورات الفنية، ولكنه افتُتن أيضًا بالألحان الإيطالية
المنسابة.
وفي أوبرا «زواج فيجارو» استغل موتسارت الموضوع الذي ألَّفه
«بومارشيه Beaumarchais» عن
الانحلال الخُلقي للطبقة الأرستقراطية، وهو موضوع كان من العوامل
التي مهَّدَت للثورة الفرنسية. ولقد كان في هذه الأوبرا الهَزْلية
(أوبرا بوفا) نغمةٌ جادة كامنة، لا سيما في شخصية فيجارو، الذي
يرمز إلى كل الصراع الذي وجد موتسارت نفسه فيه، والذي كان على
الدوام ضحيةً له. وقد تبدو أوبرا «زواج فيجارو» ظاهريًّا عملًا
عابثًا، ولكن من وراء السطح الظاهري تُوجَد نغمةٌ سياسية جادة،
وسخريةٌ حقيقة معبِّرة عن اعتقاد موتسارت بضرورة قيام نظامٍ
اجتماعي جديد.
ومن الملاحَظ أن موتسارت، رغم كونه كاثوليكيًّا مؤمنًا، قد انضَم
إلى الحركة الماسونية احتجاجًا على المظالم الاجتماعية التي كانت
الدولة تُسبِّبها، والكنيسة تسمح بقيامها. وعلى حين أنه قد سُر
عندما أعلن موت فولتير «الملحد»، فإنه عندما مات هو ذاتُه، لم يجد
قسيسًا يقبَل الإشراف على دفنه؛ لأنه كان ماسونيًّا.
ولقد كانت طريقة الموسيقى والنص في الدراما الموسيقية التي وضعها
موتسارت متوازنَين بطريقةٍ سليمة. وعَمِل موتسارت على زيادة عدد
المجموعات الغنائية في أوبراته بالنسبة إلى عددهم عند السابقين
عليه، على أساس أن المجموعة الغنائية تُحدِث على المسرح تأثيرًا
دراميًّا يفوق تأثير المغنِّي الواحد. كما أنه أظهر مقدرته
المسرحية بإعطائه للشخصيات الرئيسية في الأوبرا أسلوبًا محدَّد
المعالم طوال العرض. وقد عمَّق هذه الشخصيات بوسائلَ لم تعرفها
التقاليد السائدة من قبلُ، وذلك بإيجاد جوٍّ هَزْلي له أساسٌ خلقي
جاد، غير أن هذا التجديد الأوبراتي لم ينجح للأسف في إيطاليا؛ إذ
كان التراث الإيطالي قد تغلغل في ذلك الوقت في نفوس الإيطاليين إلى
حدِّ أنهم أصبحوا ينفرون من أي مزجٍ بين الأوبرا الجادة (سيريا)
والأوبرا الهازلة (بوفا)؛ فهم قد اعتادوا أوبرا ذات أسلوبٍ واحد،
إما هازلة وإما جادة، وهذا هو ما كانوا ينتظرونه من
الأوبرا.
أما موسيقى لودفيج فان بيتهوفن Ludwig van
Beethoven (١٧٧٠–١٨٢٧م) فإنها، كما قال فكتور
هيجو، تُصغي إلى انسجام الأفلاك الذي أكَّده الفيلسوف أفلاطون. كما
ردَّد برليوز هذا القول، فامتدح معبودَه بيتهوفن بقوله إن موسيقاه
نسخةٌ صادقة من الانسجام السماوي. وكتب فاجنر يقول: إن موسيقى
بيتهوفن تجسيدٌ للإرادة الكلية، وتعبيرٌ عن فلسفة شوبنهور في
الموسيقى. تلك بعض المقارنات التي أُجريَت بين موسيقى بيتهوفن وبين
ميتافيزيقا بعض الفلاسفة الكبار.
ولقد أصبَحَت آراء بيتهوفن الجمالية في الموسيقى مقدَّسة في نظر
الرومانتيكيين، وكان نجاحه في إخضاع الأرستقراطية لإرادته تحقيقًا
ظافرًا للآراء الاجتماعية لمدرسة مانهايم. وقد أصبح بيتهوفن مثالًا
للموسيقي الذي لا يخضع للقيود، والذي لا يكتب للكنيسة ولا لسيدٍ
يرعاه، وإنما يكتب لنفسه. ولم يكن يؤلف موسيقاه انصياعًا لأوامر
تُملى عليه، وإنما كان يؤلِّفها لأنه يريد ذلك، ولأن روحه هي التي
تدفعه إلى التأليف. وكان بيتهوفن يمثِّل كل ما تطلَّع إليه
الموسيقي الكلاسيكي، وما كان يعود إليه الموسيقي الرومانتيكي
بأنظاره في إعجاب وخشوع.
وتتصف موسيقى هايدن وموتسارت وبيتهوفن بأن للحن الأهمية الأولى
فيها، وقد ظلَّت موسيقى بيتهوفن خالصةً بلا غناء، فيما عدا
استثناءاتٍ قليلة لا ترقى إلى مستوى موسيقاه الخالصة؛ ذلك لأن
النطاق الصوتي الذي يفرضه على مُغنِّيه كثيرًا ما يكون مرهقًا وغير
طبيعي. وهذه الظاهرة تصبح مفهومة إذا ما أخذنا بمأخذ الجد ملاحظته
القائلة: «إنني أسمع موسيقاي دائمًا على آلات، لا على أصواتٍ
بشرية.» وحيثما يضيف بيتهوفن الصوت البشري، كما في «السيمفونية
التاسعة» فإن ذلك لا يؤدي إلى زيادة الموسيقى ثراء. ومع ذلك ففي
أوبراه الوحيدة «فيدليو» تتسم الأجزاء الغنائية بميزاتٍ موسيقية
فريدة تكذِّب النظرية القائلة إنه لم يكن يستطيع أن يكتب للصوت
البشري بنفس الإجادة التي يكتب بها للآلات الموسيقية.