القسم الأول: الفلسفات الموسيقية عند هيجل وشوبنهور
ونيتشه
وصف جيورج فلهلم فريدريج
هيجل
G. W. F. Hegel (١٧٧٠–١٨٣١م)
الموسيقى بأنها فنُّ الشعور والحالة النفسية اللذَين يؤديان إلى
إثارة أنواعٍ لا حصر لها من المشاعر والحالات النفسية. وكانت
الموسيقى في نظره «الفن الثاني الذي يحقِّق النمط الرومانتيكي، مع
التصوير وفي مقابله …»
١ وهو يُنبئنا، مثل أرسطو بأن الأنغام أقدرُ من الألوان
بكثير، وأن السمع أكثر مثالية من الإبصار،
٢ إذ إنه «في الأنغام الموسيقية يتردَّد ويتجاوب النطاق
الكامل لمشاعرنا وانفعالاتنا التي لا يكون موضوعها قد تحدَّد بعدُ.»
٣ وإنا لنجد للفنون التشكيلية والتصويرية وجودًا
مستقلًّا في المكان، يتمثل في النحت أكثر مما يتمثل في التصوير؛ إذ
إننا نرى الأول على أنه شيءٌ خارج عنا. أما الموسيقى فليست لها هذه
الموضوعية في المكان؛ إذ إن ماهيتها الباطنة تتألف من الإيقاع ذاته
«… ولما كانت هذه الموضوعية الخارجية تختفي في الموسيقى، فإن
انفصال العمل الفني عن متذوِّقه يختفي بدوره. وعلى ذلك، فإن العمل
الموسيقي يتغلغل في الأعماق الباطنة للنفس، ويندمج في ذاتيتها
اندماجًا لا ينفصم.»
٤ ويضيف هيجل، بطريقةٍ أفلاطونية خالصة، أن لهذه الصفة
الإيقاعية في الموسيقى تأثيرًا فريدًا في النفس، حتى إن لها في
الانفعالات البشرية تأثيرًا مباشرًا يفوق تأثير أي فن من الفنون
الأخرى. وبعد ذلك تكون مهمة الشعر هي وضع كلماتٍ للأصوات، وأفكارٍ
للمشاعر، وتصوُّرات للتأثُّرات النفسية، بحيث إنَّ ما كان غامضًا
غير محدد المعالم في الموسيقى يغدو أوضحَ وأعظم تحدُّدًا عن طريق
لغة الشاعر.
ولقد كان الثالوث الرومانتيكي للفنون، في مذهب هيجل، يتألف من
التصوير والموسيقى، وذلك النوع الأكثر مثالية، وهو الشعر. كذلك كان
هيجل مسايرًا للتقاليد في تفضيله الموسيقى الغنائية على موسيقى
الآلات؛ إذ إن الأخيرة في رأيه غامضةٌ تكتفي بالإيحاء فحسب. صحيحٌ
أن اللحن الموسيقي بلا كلمات قد يثير فينا أفكارًا، ولكن هذه لا
يمكن إلا أن تكون أفكارًا قرأناها نحن أنفسنا فيها. وعلى ذلك
فالموسيقى الغنائية؛ أي التي ترتبط بنصٍّ كلامي، تعلو في نظر هيجل
على موسيقى الآلات التي «لا تعدو أن تكون تعاملًا ذاتيًا مع صورٍ
مجردة». وعن طريق إضافة اللغة بوصفها تعبيرًا عن العقل إلى الحركة
الشكلية أو الصورية التي يُضفيها الإيقاع على اللحن، تُصبح
الموسيقى حافلةً بالمعنى بعد أن كانت خيالية، وتغدو محدَّدة
المعالم بعد أن كانت غامضة، وعقليةً بعد أن كانت انفعاليةً
خالصة.
وكان هيجل يُعجَب بالأوبرا الإيطالية، ولا سيما عند روسيني، إلى
حدٍّ لا يفوقه سوى إعجاب شوبنهور «الذي أعلن أنه أصبح يفهم القدرات
الأساسية الكامنة في الموسيقي»، بعد سماعه لأعمال هذا الموسيقي
الكبير. على أن هيجل عندما استمع إلى أداء المؤلِّف باخ «المسيح
حسب إنجيل متى
St. Matthews
Passion»، وأصبح من المتحمسين لحركة إحياء
موسيقاه. وقد نوَّه هيجل، في محاضراته في علم الجمال، التي استمع
إليها مندلسون ذاته، بعبقرية باخ التي تجاهلَها الناس، «والتي لم
نبدأ في تقدير قيمتها الحقيقية إلا في الآونة الأخيرة.»
٥
وقد اختلف يوهان فريدريخ هربارت
Johann Friedrich
Herbart (١٧٧٦–١٨٤م) مع هيجل في مثاليته الفلسفية،
ورومانتيكيته الموسيقية؛ فلم يكن يعتقد أن مهمة الفيلسوف هي تشييد
العالم بفكره، وإنما هي قبوله كما هو، وتفسيره تفسيرًا واقعيًّا.
كذلك رفض أن ينظر إلى الموسيقى على أنها مظهر من مظاهر مذهبٍ
ميتافيزيقي عام، فكتب يقول: «من المتوقع أن يكون للأعمال الفنية
معنًى … والفنانون يسُرهم أن يُبدِعوا أعمالًا ذات معنًى، ولكن
الموسيقى «موسيقى»، وليس من الضروري لكي تكون جميلةً أن تَعني
شيئًا … على أننا ما زلنا نجد موسيقيين موهوبين يردِّدون الرأي
القائل إن الموسيقى ينبغي أن تعبِّر عن المشاعر، وكأن تلك المشاعر
التي تثيرها الموسيقى، والتي يجوز بالتالي استخدام الموسيقى في
التعبير عنها، هي أساس قواعد الكنترابنط البسيط، والمركَّب الذي
تكمن فيه الماهية الحقيقية للموسيقى، ولنتساءل: ما الذي كان
الموسيقيون الأقدمون الكبار يَنْوون «التعبير عنه» عندما وضَعوا
القوالب الممكنة الفوجة
Fugue؟ لا
شيء على الإطلاق؛ فأفكارهم لم تكن تخرج عن نطاق فنونهم، إنما كانت
تتغلغل بعمقٍ في قلب هذه الفنون.»
٦
وفي فلسفة أرتور شوبنهور
Arthur
Schopenhauer (١٧٨٨–١٨٦٠م) كانت الموسيقى تُعَد
«تعبيرًا موضوعيًّا مباشرًا، وصورةً للإرادة الكلية، شأنها شأن
العالم نفسه، بل كالمُثُل ذاتها، التي تكوِّن مظاهرها المتعددة
عالم الأشياء الفردية»؛ فالموسيقى في رأي شوبنهور «ليست كالفنون
الأخرى» في كونها للمُثُل الأفلاطونية، «وإنما هي صورةٌ لنفس
الإرادة التي تُعَد المُثُل مظهرًا موضوعيًّا لها؛ لهذا كان تأثير
الموسيقى أقوى وأعمق بكثيرٍ من تأثير الفنون الأخرى؛ إذ إن هذه
الفنون الأخرى لا تتحدث إلا عن مظاهر، على حين أن الموسيقى تتحدث
عن الشيء في ذاته.»
٧ ذلك لأن العمارة والنحت والتصوير تُعبِّر عن مراحلَ
متدرجة تنكشف بها إرادة الإنسان وجهوده، أما الموسيقى فهي العمل
الذي يُتوِّج هذه كلها؛ لأنها هي المجموع الكامل لكل تعبيرٍ فني،
وصوت الإرادة الكاملة للإنسان والطبيعة؛ فبالموسيقى تكشف الطبيعة
لنا عن أسرارها الباطنة ودوافعها وأمانيها بطريقةٍ تجل على العقل،
ولكن يُدركها الشعور. ولقد وجَّه شوبنهور لومه إلى ليبنتس؛ لأنه
رفض الموسيقى حين جعلها حسابًا لا شعوريًّا لأعداد، وحوَّر كلمة
ليبتس بالطريقة الملائمة لمعتقداته الخاصة — كما فعل سقراط في
مجاورة فيدون — فقال إن الموسيقى ليست حسابًا لا شعوريًّا لأعداد،
وإنما هي ممارسةٌ غير واعيةٍ للميتافيزيقا؛ أي إنها تفلسفٌ لا شعوري.
٨
وقد اتفق شوبنهور مع كانْت وهيجل على أن الموسيقى فنٌّ يُعبِّر
بطريقةٍ غير محدَّدة المعالم؛ فهو يقول إن الموسيقى «لا تعبِّر عن
هذا الفرح المعيَّن أو ذاك، أو هذا الحزن أو الألم أو الرعب أو
السرور أو المرح أو الطمأنينة أو ذاك، وإنما هي تعبِّر عن الفرح
والحزن والألم والرعب والسرور والمرح والطمأنينة في ذاتها؛ أي
بطريقةٍ مجردة إلى حدٍّ ما؛ فهي تعبِّر عن الطبيعة الكامنة لهذه
المشاعر، دون إضافاتٍ من الخارج، وبالتالي دون دوافعها الظاهرية.
ومع ذلك فنحن نفهمها، في هذه الخلاصة المستمدة منها، على أكمل نحو.»
٩
والموسيقى في رأي شوبنهور صورة للإرادة، كما أن الأصوات
الموسيقية تُناظِر مراحلَ معيَّنة في تطوُّر الطبيعة؛ فأخفض
الأصوات الهارمونية، وهو «الباص» أشبه بالطبيعة الخام غير العضوية،
التي يرتكز عليها وينشأ ويتطوَّر منها كل شيءٍ آخر، والأصوات
الأربعة تُناظِر العالم المعدني والنباتي والحيواني، بحيث يكون
اللحن هو «أعلى مظهر موضوعي للإرادة، يناظر الحياة العقلية وفاعلية الإنسان.»
١٠ وكما أن اللحن ارتباطٌ مقصود ذو دلالة من بدايته إلى
نهايته، فإن لنظيره في الإنسان مثل هذا الارتباط؛ إذ يعكس الماضي،
ويستبق المستقبل في حنينه العقلي إلى الكلية والاستمرار.
وبينما كانت النظريات المالية في القرن الثامن عشر تُقلِّل من
قيمة موسيقى الآلات، فإن القرن التاسع عشر قد جعل قيمة موسيقى
الآلات الخالصة تسمو على قيمة الكلمة المنطوقة. وقد كتب إ. ت. أ.
هوفمان
E. T. A. Hoffmann
(١٧٧٦–١٨٢٣م) شاعر الرومانتيكية، يقول في نقده لسيمفونية بيتهوفن
الخامسة: «عندما يتحدث المرء عن الموسيقى بوصفها فنًّا مستقلًّا،
فعليه دائمًا أن يقتصر في تفكيره على موسيقى الآلات …»
١١ وقد أعرب فيلكس مندلسون
Felix
Mendelssohn (١٨٠٩–١٨٤٧م) موسيقي الرومانتيكية،
على أن آراءه الجمالية في رسالةٍ قال فيها: «إن الأفكار التي
تعبِّر عنها المؤلَّفات الموسيقية الجيدة ليست أغمض، وإنما هي
أوضح، من أن تعبِّر عنها الكلمات.» وكان يعتقد أن الموسيقى الجيدة
«لا تصبح أكثر دلالةً أو معقوليةً عن طريق التفسيرات الشعرية،
وإنما تُصبِح أقبل دلالة ووضوحًا.»
١٢
والواقع أن فلسفة شوبنهور تحمل طابع العصر الرومانتيكي في
الموسيقى بوضوح؛ فهو يُنبئنا بأن «الموسيقى لو اتحدَت بالكلمات
أكثر مما ينبغي، وحاولَت أن تتشكَّل وفقًا للحوادث، لكانت بذلك
تُحاوِل أن تتكلم بلغةٍ غير لغتها. والواقع أن أحدًا لم يتحرَّر من
الخطأ بقَدْر ما تحرَّر منه روسيني، ومن هنا كانت موسيقاه تتكلم
لغتها الخاصة بوضوح وصفاء إلى حدٍّ لا تحتاج معه إلى كلمات، وهي
تُحدِث تأثيرها الكامل عندما تؤديها الآلاتُ وحدها.»
١٣ وإذن فليست للكلمات إلا قيمةٌ ثانوية، بل هي تكون
أحيانًا دخيلة على اللحن المتصل أو فقرة الغناء المتموِّج الصادح
Coloratura، ويضيف شوبنهور في فصل
له بعنوان «في ميتافيزيقا الموسيقى» قوله: «بقَدْر ما يكون من
المؤكَّد أن الموسيقى، بدلًا من أن تكون مجرَّد تابع للشعر، هي
فنٌّ مستقل، بل هي أقوى الفنون جميعًا؛ وبالتالي فهي تبلُغ غاياتها
بوسائلَ خاصةٍ بها تمامًا. بهذا القَدْر نفسه لا تكون الموسيقى في
حاجة إلى كلمات الأغنية أو حوادث الأوبرا … فالكلمات هي، وستظل
دائمًا، إضافة غريبة بالنسبة إلى الموسيقى، لها قيمةٌ ثانوية، وإن
تأثير اللحن أقوى وأصدق وأسرع إلى حدٍّ لا متناهٍ من تأثير
الكلمات؛ لذلك فإذا أُدمجَت الكلمات بالموسيقى، فمن الواجب أن يكون
لها مركزٌ ثانوي بحت، وأن تتكيَّف تمامًا تبعًا لها.»
١٤ ومن ذلك انتهى شوبنهور إلى أن الموسيقى قادرةٌ دون شك
بوسائلها الخاصة «على التعبير عن كل حركة للإرادة، وكل شعور،
ولكننا بإضافة الكلمات نتلقى، إلى جانب هذه، موضوعاتِ هذه المشاعر
والدوافعَ التي أثارتها.»
١٥ وكما أن الكُلي يمكن أن يتمثَّل في موضوعٍ يجسِّده،
بلغة الفلسفة، فكذلك يمكن أن يندمج المضمون الغامض للموسيقى، في أي
لحن، بالمعنى العيني لكلمةٍ مثل الشعور.
ولقد أعلن ريشارد فاجنر Richard
Wagner (١٨١٣–١٨٨٣م) ولاءه ظاهريًّا لهذه الفلسفة
في الموسيقى، غير أن من السذاجة الاعتقاد بأن فاجنر، الذي حاول
إدماج الفنون بمزج النص باللحن، ثم وضع هذا كله في مقابل أوركسترا
هائل في ضخامته، كان يأخذ آراء أمير التشاؤم (شوبنهور) مأخذ الجد؛
فأساس فلسفة شوبنهور الموسيقية هو الاعتقاد بأن اللحن له الحق في
أن يُوجَد بذاته، مستقلًّا عن النص والأحداث التي تدور على خشبة
المسرح. أما فاجنر فقد اعتَرضَ بشدة على هذه الفلسفة كما مارسها
الإيطاليون، ومن هنا كان غير متسقٍ مع ذاته عندما قَبِلها عند
شوبنهور.
ولقد كان الفيلسوف الذي
أدرك بوضوحٍ ما في موقف فاجنر هذا من التناقُض هو فريدرش نيتشه
Friedrich Nietzsche (١٨٤٤–١٩٠٠م)
غير أن نيتشه ذاته قد وقع في تناقُضٍ صارخ عندما حمل على
الرومانتيكية ووصفها بالانحلال، في الوقت الذي كانت فيه آراؤه
الجمالية في الموسيقى لا تقل تمشيًا مع العصر الرومانتيكي في
الموسيقى عن آراء شوبنهور؛ فهو كذا الأخير يرفع قيمة اللحن فوق
الكلمة المنطوقة، ويقول في لهجة تذكِّرنا بهيردر إلى حدٍّ ما:
«علينا أن ننظر إلى الأغنية الشعبية على أنها المرآة الموسيقية
للعالم، وعلى أنها اللحن الأصلي، باحثًا لنفسه عن ظاهرةٍ حالمة
موازية، ومُعبرًا عنها في الشعر. وعلى ذلك فاللحن له الأولوية، وهو
كليٌّ شامل؛ وبالتالي فهو يقبل تعبيراتٍ موضوعية تختلف باختلاف
النصوص التي تُضاف إليه.»
١٦ وهو يواصل كلامه قائلًا: «إن مناقشتنا كلها تنصَب على
تأكيد أن الشعر يعتمد على رُوحِ الموسيقى مثلما أن الموسيقى، في
سيادتها المطلقة، لا تحتاج إلى الصورة والمفهوم، وإنما «تقبلهما»
فقط، بوصفهما عنصرَين مصاحبَين لها؛ فليس في وسع قصائد الشاعر
الغنائي أن تعبِّر عن شيءٍ لم يكن من قبلُ كامنًا في ذلك الطابع
الكلي المُطلَق للموسيقى، الذي دفعه إلى التعبير المجازي. ومن
المستحيل أن تعبِّر اللغة تعبيرًا كافيًا عن الرمزية الكونية
للموسيقى؛ لأن الموسيقى ترتبط في علاقةٍ رمزية بالتناقُض الأصلي
والألم الأصلي في قلب الوحدة الأولى؛ وبالتالي فهي ترمُز إلى مجالٍ
يتجاوز كل الظواهر ويسبقها. والأصح أن نقول إن كل الظواهر، بالنسبة
إليها، هي مجرد رموز. ومن هنا فإن اللغة بوصفها أداة الظواهر
ورمزها، لا يمكنها بأية حالٍ أن تعبِّر عن الأعماق الباطنة
للموسيقى. وكل ما تقدر عليه اللغة، عندما تُحاوِل محاكاتها، هو أن
ترتبط بها ارتباطًا سطحيًّا، على حين أنه لو اجتمع للشعر الغنائي
كل ما في الدنيا من فصاحة. فلن يُقرِّبها منا خطوةً واحدة.»
١٧
وهناك تشابهٌ ملحوظ بين مفهومَي الديونيزية والأبولونية عند
نيتشه، وبين شوبنهور السابق بين الموسيقى والفنون التصويرية أو
التمثيلية، وفي «ميلاد التراجيديا» فِقرةٌ تشهد بهذا التشابُه، وإن
يكن نيتشه قد اقتصر فيها على الإشارة إلى شوبنهور دون أن يذكُر اسمه.
١٨ فقد كان نيتشه ينظر إلى الموسيقى على أنها وسيلة
يستطيع بها الإنسان أن يُعيد تقويمَ قِيَمِه، وأن يحوِّل هذا
العالم الأصم إلى مجالٍ أروع وأفضل يعيش فيه الإنسان، مؤقتًا على
الأقل؛ ذلك لأن الموسيقى في رأيه هي قبل كل شيء فن الانفعال؛ أي
إنها ديونيزية بطبيعتها. والفنان ولا سيما الموسيقي، هو الذي
يستطيع في مجاله الخاص، أن يطهِّر المجتمع الفاسد؛ فالموسيقي يمكنه
أن ينقلنا إلى أجواءٍ أنقى وأصفى بأن يزيد فنه كمالًا عن طريق
تحقيق أمانينا ورغباتنا بالخيال في إطارٍ شكلي، وبذلك يُساعد على
إضفاء الانسجام والنظام على حياتنا المتخبِّطة في الفوضى.
ومن رأي نيتشه أن فاجنر قد وقع في خطأٍ آخر؛ إذ حاول أن يُخلِّص
البشرية بشخصيةٍ لا طعم لها، هي شخصية «بارسيفال» الساذجة التي لم
تعرف الحُب ولا الخطيئة. أما شخصية «كارمن» فهي على الأقل قد
أحبَّت وخَسرَت المعركة. وقد عاب نيتشه على فاجنر أنه لجأ إلى
الخيال الرومانتيكي وتمسَّك بالأيديولوجية المسيحية في الوقت الذي
كان من الواضح فيه أن آخر مسيحي قد مات على الصليب، وأن المسيحية
بوصفها أسلوبًا في الحياة، مبنيةٌ على قيمٍ زائفة. أما بيزيه
Bizet فقد عرض الحياة بطريقةٍ
واقعية على مشاهديه؛ فأحد الموسيقيين قد انتهى به الأمر إلى أن
يُدير ظهره للحياة، أما الآخر فقد واجهَها مباشرة. وهكذا أصبح
فاجنر هو الفنان الزائف الذي يتعامل مع الخداع والتظاهُر، وذلك إذ
يمجِّد الإرادة في تريستان، ثم يقضي عليها في بارسيفال الزاهد. أما
بيزيه فهو الفنان الحقيقي الذي واجهَت شخصياته الحياة وسعَت إلى
تحقيق ذاتها في عالمٍ مليء بالفوضى.
وفي النهاية، اتفق نيتشه مع أفلاطون في قوله: «ما أكذبَ
الشعراء!» واتهم كل الفنانين بأنهم يحتَمون بالسلطان؛ إذ إنهم
«كانوا في كل العصور خدمًا مطيعين لمذهبٍ أخلاقي أو فلسفة أو
عقيدة». وإذ وصل نيتشه إلى هذا الحد من المرارة، فقد رأى أن
الإنسان الأرقى وحده (السوبر مان) هو القادر على أن يعيد تقويم كل
القيَم التي نحيا بها، وكان في ذلك تفنيدٌ لرأيه الأصلي القائل إن
الفن هو في أساسه «تأكيدٌ إيجابي للحياة، وتمجيدٌ وتأليهٌ لها».
وقد اتفق شوبنهور على أن الموسيقى تُتيح لنا مهربًا، وفتراتٍ من
الهدوء والسلام، ولكن على حين أن الموسيقى كانت في رأي شوبنهور
تُتيح الانتقال من الإرادة إلى التخيُّل، ومن الرغبة إلى التأمُّل،
فإنها عند نيتشه تمكِّنُنا من أن نسمو فوق عالمنا الأصم المتخبط
إلى عالمٍ وضَّاء، يعبِّر عن رغباتنا وآمالنا.
القسم الثاني: فاجنر وهانسليك
تأثَّر فاجنر، في المراحل الأولى من حياته الفنية، بالفيلسوف
لودفيج فويرباخ
Feuerbach
(١٨٠٤–١٨٧٢م). وكان فويرباخ قد هاجم اللاهوت المحافظ في أيامه
بالقول إن للمسيحية أصلًا بشريًّا، وإن الفلسفة لا تزيد كثيرًا على
لاهوتٍ متنكر. ولقد كان هذا التفسير الطبيعي للمسيحية، الذي صوَّر
الخالق بأنه مجرَّد مثلٍ أعلى متغير خلَقه الإنسان، واحتفظ به لكي
يلبي حاجةً جمالية ودينية؛ كان متمشيًا مع الثورة التي قامت في
ألمانيا في أواسط القرن التاسع عشر، ضد الأوضاع الاجتماعية
القائمة، والعقيدة التقليدية، والقوالب الفنية العتيقة. ولقد كان
فاجنر في كتابه «العمل الفني في المستقبل» (١٨٥٠م) قد اقتبَس
العنوان ذاتَه من كتاب فويرباخ «أصول فلسفة المستقبل» (١٨٤٣م)،
وكانت تَصدَّره في طبعته الأصلية التي نُشر فيها بوصفه بحثًا
مستقلًّا، رسالةٌ كتبها فاجنر إلى فويرباخ، تبدأ بقوله: «لن أستطيع
أن أهدي بحثي هذا إلى أحدٍ سواك يا سيدي العزيز؛ إذ إنني إنما
أُعيد به إليك ما هو ملكك.»
١٩
وبعد ذلك بوقتٍ قصير، نبَّه نيتشه فاجنر إلى أهمية فلسفة شوبنهور
الجمالية، وسرعان ما تحوَّل فاجنر من ديالكتيك فويرباخ إلى فكرة
الإرادة عند شوبنهور، ولكن فاجنر بمُضي الوقت، غيَّر فلسفته الفنية
مرةً أخرى؛ إذ تخلى عن الإرادة في سبيل الاستسلام المسيحي؛ فبينما
كانت «تريستان» تمثِّل الإرادة وتحقيقها، كانت «أفول الآلهة
Gotterdammerung» وبارسيفال
٢٠ تمثِّل القدرية والاستسلام اللذَين ظهرا في المراحل
النهائية لفلسفة شوبنهور، واللذَين صوَّرهما فاجنر على أنها هزيمة
الشهوة والطمع وانتصار الأخلاق المسيحية عن طريق فضائل البراءة
والرحمة. أما نيتشه، الذي كان قبل ذلك قد حوَّل فاجنر من فويرباخ
إلى شوبنهور، والذي كان هو ذاته من أنصار فلسفة الإرادة، فقد سأل
فاجنر بتهكُّم في كتابه «أصل نشأة الأخلاق
The
Genealogy of Morals» إن كان بارسيفال «يمثِّل
ردَّةً وعَودًا إلى المُثُل العليا المسيحية المريضة الجهولة»، ثم
تحوَّل إلى فانجر، نصير الرومانتيكية، والرجعي في عقيدته الذي كان
في الأصل يقف في صف فويرباخ في موقفه من الأسطورة المسيحية، فقال:
«وأخيرًا نرى تحولًا إلى إلغاء الذات ومحوها من جانب فنانٍ كان حتى
ذلك الحين يكرِّس كل ما في إرادته من عزمٍ لعكس هذا؛ أعني لأعلى
تعبيرٍ فني ممكن عن الروح والبدن. ولم يقتصر على ذلك فنُّه، بل
طبَّقه في حياته أيضًا. وما عليكم إلا أن تذكُروا مدى حماسة فاجنر
في اقتفاء أثر فويرباخ؛ فقد رنَّ شعار فويرباخ عن «التعلق الصحي
بالحسيات» في آذان فاجنر في ثلاثينيات هذا القرن وأربعينياته، كما
رنَّ في آذان كثيرٍ من الألمان … وكأن فيه الخلاص. أتُراه إذن قد
غيَّر رأيه في هذا الموضوع؟ إذ يبدو على أية حال أنه أراد بمُضي
الوقت أن يغيِّر تعاليمه في هذا الموضوع … ولا يتجلى هذا فقط في
أبواق بارسيفال تُدوِّي على المسرح، بل إن في تلك التخليطات
الكئيبة المتشنجة الحائرة التي أنتجها في سنواته المتأخرة مئات
المواضع التي تتجلى فيها مظاهرُ رغبةٍ خفية وإرادة، إرادة منكسرة،
قلقة، مستترة، هدفُها الدعوة إلى الرجوع القَهقَرى، وإلى تحويل
العقيدة، وإلى المسيحية، وروح العصور الوسطى، والقول لأنصاره: كل
شيء زائلٌ غرير! فلتَلتمِسوا الخلاص في عالمٍ آخر … بل لقد ذهب إلى
حد الإشارة ذات مرة إلى «دم المخلص».»
٢١
أما إدوارد هانسليك Eduard
Hanslick (١٨٢٥–١٩٠٤م) فكان يُعارِض إدماج فاجنر
للفنون، والمفهوم الرومانتيكي في توحيد الموسيقى والشعر. وقد اتفق
مع هربارت على أن الموسيقى لا تنقل المعاني، وإنما هي تتألَّف من
نماذجَ نغمية تطور ألحانها الرئيسية بطريقةٍ محددة، وعلى أنه ليس
من مهمة الموسيقى أن تكون وسيلةً لتصوير شيء أو رواية قصة، أو
التعبير عن حالاتٍ انفعالية. والواقع أن الموسيقي الرومانتيكي كان
يحاول أن يصوِّر النطاق الكامل للمشاعر الإنسانية في موسيقاه،
كردِّ فعلٍ على النزعة الذهنية الجافة للمذهب العقلي في القرن
السابع عشر، غير أن المعاني الانفعالية في الموسيقى إثمٌ وجريرةٌ
في نظر أنصار الموسيقى الخاصة كالفيلسوف هربارت والناقد
هانسليك.
ولقد كتب هانسليك في كتابه «الجميل في الموسيقى
The Beautiful in Music» يقول:
«إذا أردنا أن نقرِّر إن كانت الموسيقى تتصف بصفة التحدُّد، ونبحث
في طبيعتها وخصائصها، وفي حدودها واتجاهاتها، فمن الواجب ألا نأخذ
في اعتبارنا أي شيءٍ سوى موسيقى الآلات؛ فما تعجز موسيقى الآلات عن
الوصول إليه، يتجاوز أيضًا نطاق الموسيقى بمعناها الصحيح؛ إذ إن
موسيقى الآلات هي وحدَها الموسيقى الخالصة المكتفية بذاتها … ولفظ
«الموسيقى» بمعناه الصحيح ينبغي أن تُستَبعد منه المؤلَّفات التي
تُلحَّن فيها الكلمات … بل إن من الواجب أن تُستَبعد من مجال
الموسيقى المؤلَّفات التي يُقدَّم لها بنصوصٍ مكتوبة، أو ما يُسمى
بالموسيقى ذات البرنامج؛ فاتحاد الموسيقى بالشعر، وإن كان يزيد من
قدرتها، لا يوسِّع حدودها.»
٢٢ وبعد صفحاتٍ يضيف هانسليك: «إن السبب الأكبر في عجز
الناس عن كشف عناصر الجمال التي تَحفِل بها الموسيقى الخالصة هو أن
المذاهب الجمالية القديمة كانت تحُط من قَدْر العنصر المحسوس،
وتُخضع الموسيقى لاعتبارات الأخلاق والشعور، أو ﻟ «الفكرة» في مذهب هيجل.»
٢٣
وإذن فقد كان هانسليك يعُد الموسيقى فنًّا مكتفيًا بذاته، لا
يشير إلى أي شيءٍ خارج نطاق النغم الخالص والإيقاع؛ فليس في مقدور
الموسيقى أن تصوِّر شخصياتٍ أو موضوعاتٍ مادية أو تفسِّر مذاهبَ
فلسفية، وإنما تقتصر الموسيقى على مجال الصوت. وكان يرى أنه إذا
كانت النماذج الصوتية المتحرِّكة بعد تطويرها لحنيًّا هي التي
تؤلِّف مضمون الموسيقى، فإن الشكل والمضمون واحد في الموسيقى؛ إذ
ليس للموسيقى مضمون بخلاف نماذجها الصوتية الخالصة. وإذن فالأفكار
التي يصوِّرها الموسيقي هي أفكارٌ موسيقية خالصة. وعندما يخطر
اللحن بذهنه يكون لحنًا خالصًا، ولا يمثل شيئًا سوى ذاته فحسب،
وليست الفكرة الموسيقية إلا فكرةً نغمية، لا فكرة منطقية يتعيَّن
ترجمتُها في البدء إلى لغة الأنغام، وليس لفلسفة الفن الموسيقي
شأنٌ بالحياة الشخصية للموسيقي، أو غرامياته، أو عداوته، وإنما هي
تتعلق بإنتاجه فحسب، من حيث ما تدُلنا عليه الموسيقى ذاتها.
ولقد كان هانسليك من أنصار الموضوعية في فلسفته الجمالية، شأنه
شأن كل أصحاب النظرة الخالصة إلى الفن، فكان يرى أن العمل الموسيقي
يكون جيدًا أو رديئًا بناءً على صفاته الكامنة؛ فالعمل الفني
مستقلٌّ بذاته، وينبغي ألا يُترك للتقدير الذاتي للمستمع الذي
يحكُم على الموسيقى وفقًا لحالته النفسية. ولا بد للتجربة الجمالية
من نشاطٍ عقلي؛ إذ إن هانسليك قد رفض الرأي الرومانتيكي القائل إن
الموسيقى هي قبل كل شيءٍ تعبيرٌ عن الشعور، فلا يمكن تحديد القيمة
الفنية للموسيقى على أساس تأثيرها في المشاعر، وإنما الواجب أن
يصدُر هذا الحكم بواسطة العنصر الروحي والعقلي في الإنسان، ولا
يمكن أن تكون الموسيقى تجربةً جمالية لدى الشخص الذي يستخدمها
عاملًا جانبيًّا مساعدًا في أحلام يقظته، وإنما هي بالنسبة إليه
مخدِّر فحسب. ومن هنا فإن «فالسات» شتراوس لم تعُد موسيقى بمجرد أن
رقص الناس على أنغامها.
ولقد كان جلوك يجعل للشعر الأسبقية على الموسيقى، على حين أن
موتسارت رأى أن من الواجب أن يكون الشعر ابنًا مطيعًا للموسيقى.
أما الموسيقيون الرومانتيكيون فقد تحدَّثوا عن «لغة للموسيقى» تجمع
بين الشعر والغناء. وأما فاجنر فقد اعتقد أنه حقق الاندماج بين
الفنون على أكمل نحوٍ في الدراما الموسيقية. وعلى هؤلاء جميعًا
ردَّ هانسليك بقوله: إن الموسيقى فن مستقل قائم بذاته.
وقد كتب هانسليك يقول: «لقد تسبب روبَّرت شومان
Robert Schumann في أضرارٍ جسيمة
بقضيته القائلة إن المبادئ الجمالية لأحد الفنون هي مبادئ الفنون
الأخرى، ولكن المادة وحدها هي التي تختلف.» وفي مقابل ذلك يقول
جريلبارتسر
Grillparzer٢٤ برأيٍ مخالف تمامًا، ويتخذ الموقف الصحيح إذ يقول:
«لعل أحدًا لم يضُر بالفنون كما أضَر بها الكتاب الألمان عندما
أدرجوها كلها تحت اسمٍ جامع هو الفن، ولا جدال في أن بين الفنون
أمورًا كثيرة مشتركة، ولكنها مع ذلك تتباين تباينًا شاسعًا، لا في
الوسائل التي تستخدمها فحسب، بل في مبادئها الأساسية أيضًا. ومن
الممكن إبراز الاختلاف الأساسي بين الموسيقى والشعر بوضوح بالقول
إن الموسيقى تؤثِّر في الحواسِّ أولًا، وبعد أن تثير الانفعالات،
تصل إلى العقل آخر الأمر. أما الشعر فإنه يبعث في البداية فكرةً
تثير بدورها الانفعالات، ولكنه لا يؤثِّر في الحواس كنتيجةٍ نهائية
لأعلى صورة أو أدناها. وإذن فالموسيقى والشعر يسيران في طريقَين
متضادَّين تمامًا؛ إذ إن أحدهما يُضفي على المادي صبغةً روحية،
والثاني يُضفي على الروحي صبغةً مادية.»
٢٥
ولم يَغِب عن ذهن الناقد هانسليك أبدًا أن التجربة الجمالية هي
في أساسها تجربةٌ انفعالية، ولكنه رفض بشدة الرأي القائل إن
«القيمة النهائية للجميل تتوقف دائمًا على شهادة المشاعر.» والواقع
أن السمات الأساسية لنظريات شوبنهور الجمالية تتمثَّل في هذا
الناقد الذي عاش في فيِنَّا أكثر مما تتمثَّل في منظم احتفالات
بايرويت (فاجنر). فقد اتفق هانسليك مع شوبنهور على أن موسيقى
الآلات أرفع من الموسيقى التي يُضفي عليها النص صبغةً عقلية
تصورية. كذلك كان يردِّد آراء لشوبنهور في قوله: إن الموسيقى لا
تستطيع بذاتها أن تمثِّل أو تعبِّر عن مشاعرَ محدَّدة، أو تصوِّر
الحب أو الأمل أو الغضب أو الكراهية أو الغَيرة أو اليأس. وانتهى
مع شوبنهور إلى أن موسيقى الآلات تسير تبعًا لقواعدَ موسيقيةٍ
محددة، وليست تعبيرًا عن مشاعر الموسيقار أو انفعالاته، كما تصوَّر
الرومانتيكيون.
وقد رفض هانسليك الفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى محاكاة
للطبيعة. وكان ينظر إلى السُّلم الموسيقي الغربي الحديث على أنه من
صنع الإنسان، وأوضح أن الأصوات الطبيعية لا تُطابِق السُّلم
الدياتوني. وقد تساءل عن حق «من الذي سمع في الطبيعة مسافةَ
الثالثة أو تآلُف السابعة مع الخامسة (وهي الدرجة المسيطرة في
السلم الدياتوني dominant seventh
chord)» كذلك ساير شوبنهور في قوله إن لموسيقى
ليست نسخةً أو صورةً للإرادة الشاملة، أو بتعبير أفلاطون، ليست
محاكاةً للطبيعة الكونية، وإنما هي تعبيرٌ عن الإرادة ذاتها، بحيث
إن الكون يكشف عن روحه في الموسيقى ومن خلالها؛ فالموسيقى عند
هانسليك، كما كانت لها عند شوبنهور، حياةٌ خاصة بها، وعالمٌ خاص
بها، يبعث فيه النظام في الفوضى، ويكون اللحن فيه أشبه باكتمال
الحياة البشرية.
ولقد كان هانسليك من أنصار الفصل القاطع بين الفنون. وفي رأيه أن
الموسيقى ذات البرنامج؛ أي تلك التي تُحاكَى فيها الأصوات الطبيعية
بالموسيقى كما هي الحال في مصنف «الفصول» لهايدن أو السيمفونية
الريفية لبيتهوفن، يمكن أن تكون لها قيمةٌ بوصفها محاكاة، أو
بوصفها مادةً لحنية، ولكن لا يمكن أن تكون لها القيمتان معًا؛
فمحاكاة الظواهر الطبيعية تُضيف إلى الموسيقى عنصرًا تصويريًّا،
والموسيقى الخالصة لا تعود خالصةً عندما تترك مجال عروض الأفكار
الموسيقية، وتبدأ في تصوير ظواهرَ طبيعية، أو تمثيل حالاتٍ شعورية
بكل ما يُتيحه النظام النغمي من واقعية.
القسم الثالث: الموسيقى في العصر الرومانتيكي
كانت الفلسفة الجمالية للرومانتيكية تنظر إلى الجمال على أنه لا
يخضع أو يدين لشيء إلا لذاته. وقد سارع الشعراء والفلاسفة
والموسيقيون — فيما عدا القليل منهم — إلى اعتناق هذا المثل الأعلى
الرومانتيكي في الفن، بوصفه تمهيدًا لعالمٍ أفضل يُساعِد الفن على
تحقُّقه. قد أعلن الشاعر نوفاليس
Novalis (١٧٧٣–١٨٠١م) أن «الرياضة
تبدو في الموسيقى ملهمةً كالمثالية الخلاقة». وعرض «هوفمان» رأيًا
أشبه بمذهب وحدة الوجود، يقول فيه: «إن روح الموسيقى تتغلغل في
الطبيعة كلها.» ثم طبَّق ميتافيزيقاه الشعرية على سمفونية بيتهوفن
الخامسة (من مقام دو الصغير) فأضاف أن الموسيقى هي أكثر الفنون
رومانتيكية إن لم تكن هي الفن الرومانتيكي الوحيد. ولم يكن
الفلاسفة بأقل نزوعًا إلى الصوفية؛ فقد عزا شلنج
Friedrich Schelling (١٧٧٥–١٨٥٤م)
إلى الموسيقى صفاتٍ روحية، وقال رودلف لوتس Rudolf
Lotze (١٨١٧–١٨٨١م) إنه يستطيع أن يرى في الموسيقى
حركات الكون، وإنها تُميط اللثام عن أحداث الدراما الكونية. وكان
هيجل قد ميَّز العصر الكلاسيكي من العصر الرومانتيكي بطريقةٍ
بسيطة، هي أن الموضوع في المذهب الكلاسيكي يُسيطر على الشكل أو
القالب، على حين أن الشكل أو القالب في الرومانتيكية هو الذي
يستوعب الموضوع في داخلِه.
ولقد كان الموسيقي الرومانتيكي يعُد نفسه ثوريًّا، ونبيًّا يدعو
إلى عصرٍ جديد في الفن يستطيع فيه أن يُصلِح حياة الإنسان. وكان
يرى أن فلسفته الجمالية يمكن أن تحل محل الدين، وأن فنه قادر على
أن يكون بديلًا للأخلاق التقليدية الذليلة. وفي هذه الظروف ارتفعَت
الموسيقى، بين سائر الفنون، إلى مكانةٍ لم تبلغها من قبلُ على
الإطلاق؛ فقد أصبح الفن الموسيقي، ذلك الفن الذي وصَفَه شوبنهور
بأنه تعبيرٌ عن الإرادة الكلية، لا مجرد صورةٍ لها، يسود جميع
الفنون الأخرى، وحاول الشعراء والمصوِّرون إدخال عناصرَ موسيقيةٍ
في الوسائط التي يستخدمها كلٌّ منهم. وقد لخَّص وولتر باتر
Walter Pater (١٨٣٩–١٨٩٤م) أهم
خصائص الفلسفة الجمالية للعصر الرومانتيكي بقوله إن جميع الفنون
ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الأوضاع السائدة في الموسيقى؛ حيث يستوعب
الشكل المضمون تمامًا.
ولقد كان المؤلِّف الموسيقي في القرن الثامن عشر، يُعَد صانعًا
محترفًا يعمل في خدمة الدين أو تحت إمرة سيده. أما في القرن التاسع
عشر فقد رفض الموسيقي مركز الصانع المحترف، وكان يكتب موسيقاه في
ظل حريةٍ شخصية قلَّ أن يتمتَّع بها الفنانون في أي عهد. وقد طوَّر
الموسيقيُّ فن السيمفونية، ووسَّع نطاق الأوبرا، بحيث أصبَحَت
عرضًا رائعًا عبَّر عن وحدته في أغانٍ فنية (ليدر) وعاطفية عميقة.
وهدفنا في هذا القسم أن نوضِّح كيف عبَّر الموسيقيون الخلاقون في
العصر الرومانتيكي عن أنفسهم من خلال الموسيقى؛ لذلك سنقدمهم حسب
آرائهم الجمالية وقومياتهم.
بدأَت الأوبرا الرومانتيكية في ألمانيا على يد كارل ماريا فون
فيبر Carl Maria Von Weber
(١٧٨٦–١٨٢٦م) بالأوبرا الشعبية «در فرايشوتس Der
Freischutz» (١٨٢١م)، وقد ظهَرَت قبل «در
فرايشوتس» أوبرا «أوندينه Undine»
لهوفمان وأبرا «فاوست Faust» للويس
شبور Louis Spohr (١٧٨٤–١٨٥٩م)،
ولكن لا يمكن وصفُ أيٍّ منها بأنها رومانتيكية في موسيقاها بالمعنى
الصحيح. بعد عامَين أخرج فيبر أوبرا «أويرانتي
Euranthe» التي وصَفَها بأنها
«أوبرا بطولية رومانتيكية عظيمة في ثلاثة فصول». ولقد كان المثَل
الجمالي الأعلى لفيبر هو جعل الأوبرا فنًّا تمتزج فيه الموسيقى
والشعر والتمثيل، وهو المثَل الأعلى الذي بلغ أوجَ اكتماله في
الدراما الموسيقية عند ريشارد فاجنر.
ولقد كان فرانتس شوبرت Franz
Schubert (١٧٩٧–١٨٢٨م)، وهو أكثر الرومانتيكيين
رومانتيكية، ومُنشِئ الأغنية الفنية
Lied الألمانية، كان يفوق بيتهوفن
ذاتَه في خلق ألحانٍ جميلة، وأدَّت ألحانه الدافئة، الزاهية،
المنسابة إلى زيادة تأثير مجموعةٍ كبيرة من أجمل المقطوعات الشعرية
الألمانية؛ فقد ألهمه تبجيله لجوته أن يصنع ألحانًا لكثيرٍ من
أشعاره. غير أن جوته لم يكن يُبادِل شوبرت تقديره لعبقريته؛ ذلك
لأن شوبرت كان يرى أن للحن السيادةَ المطلقة على الكلمة المنطوقة،
على حين أن جوته كان يعتقد أن الموسيقى ينبغي أن تكون خاضعةً للنص
في الأغنية الفنية (ليد).
ولقد كان الميل الكلاسيكي البسيط الكامن في الموسيقي فيلكس
مندلسون متعارضًا تعارُضًا تامًّا مع ميول معاصريه؛ برليوز، وليست،
وفاجنر؛ فعلى حين أن هؤلاء الثلاثة كانوا يسعَون إلى تحقيق
مؤثِّراتٍ موسيقية جديدة، وعملوا على تضخيم الأوركسترا، فإن
مندلسون، الذي ظل طوال حياته تابعًا مخلصًا لموتسارت، قد استمر
يكتب بأسلوبٍ كلاسيكي بسيط. والواقع أن عبادته للحن، وحاسة الإتقان
والكمال التي كان يتصف بها، قد أضفَت على موسيقاه طابعًا عذبًا
منسابًا يقترب أحيانًا من سحر شوبرت. ولقد كان مندلسون، شوبرت،
ابنًا للعصر الرومانتيكي قبل كل شيء، وعندما سُئل عن كلماتٍ
لمجموعته «أغنيات بلا كلمات» أجاب بأن الكلمات تَعجِز عن التعبير
عن موسيقاه، ومن هنا كان قوله: «إن اللفظ لا يعني للشخص المعيَّن
ما يعنيه الآخر، وإنما القطعة الموسيقية وحدَها هي التي تثير نفس
الحالة النفسية.»
وكان روبرت شومان Robert
Schumann (١٨١٠–١٨٥٦م) هو خليفة شوبرت في إبداع
الأغنية الفنية الألمانية (ليد). وكان شومان يرى في الأصل أن
موسيقى الآلات قادرة على التعبير عما يستحيل التعبير عنه، وعلى
التوغل في أعمق البشر؛ ولذلك قال، بطريقة رومانتيكية واضحة، إن
الكلمات والنصوص تُضفِي على هذه المشاعر طابعًا عقليًّا تصوريًّا؛
فالكلمات هي الأغلال التي تكبِّل المشاعر. ومن هنا ظل شومان، طوال
الأعوام الثلاثين الأولى من حياته، يعمل على التعبير عن هذه
المشاعر الموسيقية في مؤلفاته، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى فن شوبرت
وشعر هينه Heine، وألَّف عددًا
كبيرًا من الأغنيات الفنية (ليدر) ذات الطابع الرومانتيكي
الصرف.
أما فرانتس ليست
Franz Liszt
(١٨١١–١٨٨٦م) فكان ذا نزعةٍ إنسانية اجتماعية، كما كان موسيقيًّا
تقدميًّا، فضلًا عن كونه رجل كنيسة.
٢٦ ولقد أشار ليست إلى باخ على أنه القديس توما في مجال
الموسيقى؛ ذلك لأن القديس توما قد جمع بين الإيمان والعقل في مركبٍ
واحد، وكذلك اعتقد ليست أن باخ قد سار بالشعور والعقل إلى وحدَتهما
النهائية في فن الموسيقى. وقد أمضى ليست حياتَه وهو يُحاوِل تحقيق
وحدةٍ أوثق بين الموسيقى والشعر، وكان ينظر إلى الشعر على أنه
الحافز إلى الإبداع الموسيقي، ولكنه كان يعتقد أنه بعد تحقيق
الوحدة بين الكلمة واللحن، وبين العقل والشعور، فمن الواجب أن
تُترك الموسيقى حرة؛ لكي تمجِّد هذه الوحدة، وتسمو بها إلى أعلى
قمم الوجد الرومانتيكي؛ ففي رأيه أن المؤلف الموسيقي يمزج في
موسيقاه بين أسرار الكون وبين منطق الفيلسوف، وهو قد تصوَّر أن
معقولية المفكِّرين المنطقيين ووَجْد الصوفيين ينعكسان على الفن
الموسيقي الإلهي.
ولقد كان ليست يتميز بطبيعةٍ مزدوجة؛ فالعزلة التي كان يتوق
إليها والتي اهتدى إليها أخيرًا في كنَف الكنيسة، تقف مع شخصيته
الخلَّاقة بوصفه مؤلفًا موسيقيًّا على طرفَي نقيض؛ ذلك لأن موسيقاه
نابضة بالحياة والحركة، وتَحفِل بالموضوعات الشعبية. وقد كان يؤدي
ألحانه أمام الجمهور بروحٍ من التعاطُف معهم، وكان في الوقت ذاته
يحرص على إظهار مقدرته الخارقة على العزف على البيانو، ويمضي في
ذلك إلى حدٍّ يقربُ من الاستعراض المكشوف. وكان ليست يُناصِر كل
قضية لها صلةٌ بالموسيقى ويؤيد الاتجاهات التحرُّرية في الحكم،
وذلك بتقديمه معوناتٍ سخية إلى الموسيقيين المكافحين، وبذل جهوده
لتشجيع التقدُّم الاجتماعي.
ولقد كتب روبرت فرانتس Robert
Franz (١٨١٥–١٨٩٢م) أغنياتٍ فنية (ليدر) على طريقة
شوبرت وشومان، وإن كانت أغنياتُه أقل جرأةً وأقرب إلى الطابع
الحالم. كما أنها كانت تتفاوت من ألحانٍ شعبية إلى أغنياتٍ فنية
كلماتها من تأليف الشاعر هينه.
ولقد وصف الكثيرون موسيقى أنطون بروكنر Anton
Bruckner (١٨٢٤–١٨٩٦م) بأنها تعبيرٌ عن إيمانه
الكاثوليكي المتحمس. ونظرًا إلى أنه كان مشهورًا بالتتلمذ على
فاجنر، فإن الناقد هانسليك لم يجده ندًّا لموسيقيِّه المفضَّل
برامز، ولكن الأمر الذي فات هانسليك هو أن موسيقى ذلك الفنان
العميق التديُّن قد تخلَّصَت من العناصر الشاعرية والوصفية التي
شاعت لدى الرومانتيكيين، واستعاضت عنها بالتطوير الموضوعي لأفكارٍ
موسيقية، هي دون شكٍّ ناشئة عن مشاعرَ دينية، ولكنها معروضة بوصفها
موسيقى خالصة.
أما يوهان شتراوس Johann Strauss
(١٨٢٥–١٨٩٩م) فكان يقدِّم في مقطوعاته من نوع الفالس تصويرًا
موسيقيًّا للروح المرحة المزعومة لفيِنَّا التي لم تكن سعيدةً إلى
الحد الذي صوَّرَتها به موسيقاه في السنوات الأخيرة من القرن
التاسع عشر.
ولقد كان يوهانس برامز Johannes
Brahms (١٨٣٣–١٨٩٧م) يبحث عن الوحي في المؤلَّفات
البوليفونية لباخ، وفي سيمفونيات بيتهوفن، وأغنيات شوبرت وأفكار
شومان الجمالية. وقد ظل، بفضل استخدامه للقوالب التقليدية وتبجيله
للماضي، أقرب إلى فلسفة الكلاسيكيين منه إلى فلسفة الرومانتيكيين
الذين حاولوا أن ينشَقوا تمامًا على الماضي. غير أن برامز كان
مسايرًا للرومانتيكيين في التجائه الدائم إلى استخدام ألحان شعبية؛
ذلك لأن الرومانتيكيين كانوا قوميين متحمسين. وفي هذا الصدد كان
برامز واحدًا منهم؛ فقد مجَّد برامز قوميته الألمانية بتوزيعاتٍ
غنائية متعددة لألحانٍ شعبية، ودعم الأسس اللحنية لسيمفونياته
وكونشرتاته بألحان من الحقول ومعارج المدينة. والواقع أنه كان
أبرعَ الناس جميعًا في إدماج مثل هذه الألحان الموسيقية الحسية في
المؤلفات الأوركسترالية. ولعلَّ القليلينَ فقط هم الذين يقفون
أندادًا لرشاقته في الكتابة للصوت البشري.
وفي موسيقى المؤلف الرومانتيكي المتأخر، جوستاف مالر
Gustav Mahler (١٨٦٠–١٩١١م) نجد
اتجاهاتٍ لحنية متأثِّرة بموتسارت وشوبرت، وكذلك مجاميع صوتية
عميقة الرنين، تثير شعورًا دينيًّا يذكِّرنا ببروكنر. غير أنه لم
يكن يَحفِل كثيرًا بالقالب الكلاسيكي إذا كان يعوق انسياب أفكاره
الموسيقية، وكان ميالًا إلى الإفراط في الشجن أحيانًا عندما يصُب
انفعالاته في تقديم عرضٍ موسيقي لأحداث حياته الخاصة. ولقد كانت
مؤلَّفاته مُفرِطة الطول، تعبِّر عن حالاتٍ نفسية تتفاوت من الكآبة
والانكسار إلى النشوة الخالصة. وكانت موضوعاته الرئيسية تتسم بنفس
القلق الذي تتسم به روحه؛ إذ إن هناك نزعةً صوفية تأملية عميقة
تتغلغل في أعماله؛ فهو في موسيقاه يستطلع عجائب الطبيعة ويتساءل:
ما مصير الإنسان؟
وعلى حين أن كثيرًا من القصائد الشعرية التي لحَّنَها فرانتس لا
تكاد تستحق البقاء في أغنيات، فإن القصائد التي لحَّنَها هوجو فولف
Hugo Wolff (١٨٦٠–١٩٠٣م) كانت
تتميز بذوقٍ أدبي رفيع. وقد أثرى فلف نصوصه المختارة بمشاعره
الموسيقية العميقة بفضل براعته الفائقة في الكتابة للصوت البشري
والبيانو المصاحب له. وقد بدأ فلف حياته متحمسًا لفاجنر، ولكنه
انقلب على الفلسفة الفنية للدراما الموسيقية «بما فيها من طيفٍ
حزين لفيلسوف شوبنهوري واقف بالكواليس»، كما كتب في رسالةٍ مؤرخة
في عام ١٨٩٠م، وأشار إليها رومان رولان. ومع ذلك فقد كان فولف
ذاته، في نظر خصوم فاجنر، متهمًا باتباع بعض الأساليب الفاجنرية،
وقد أشاروا للتدليل على ذلك إلى هارمونياته المعقدة، وتلويناته
الكروماتية المجدِّدة. أما في نظر فولف، فإن الهارمونيا والتلوينات
الكروماتية كانت مجرد وسيلةٍ لتحقيق تأثيرٍ جديد، أو لونٍ غير
مألوف، وإن يكن أنصار برامز لم يَرَوا في أعماله إلا اضطرابًا في
الهارمونيا، وتشتتًا في اللحن، وافتقارًا إلى الإيقاع. والواقع أن
كل ما فعله فولف هو أنه وصل بالرومانتيكية إلى أكمل مظاهرِ
تطوُّرها بتوسيع قدرات الموسيقى على التعبير وتصوير المشاعر. وهكذا
أصبَحَت موسيقاه حلقةَ اتصالٍ تربط بين موسيقى «تريستان» وبين
المدرسة اللانغمية (atonal) في
فيِنَّا في القرن العشرين.
ولكي نتبع الاتجاهات الجمالية في موسيقى الجماعات القومية
المختلفة في العصر الرومانتيكي، فعلينا أن نرجع القهقرى، زمنيًّا،
أكثر من نصف قرن قبل ميلاد هوجو فولف، لنتحدث عن الموسيقيين في
جزءٍ آخر من العالم؛ فقد رأينا أن مندلسون قد عرَّف الرومانتيكيين
بموسيقى باخ، والبوليفونية في عصر الباروك، غير أن الموسيقي
والناقد الفرنسي «هكتور برليوز Hector
Berlioz» (١٨٠٣–١٨٦٩م) كان ينظر إلى باخ وأسلوبه
المعقد في «الكنترابنط» على أنه بقية من بقايا ماضٍ موسيقي متحذلق،
وكان أهم ما يشغل برليوز هو اللحن، أعني تلك الفقرات اللحنية
الطويلة الخالصة التي تُحلِّق إلى قِمَم الفخامة وتُثريها مجموعاتٌ
متنوعة من الآلات التي أضفت على الموسيقى لونًا وبريقًا لم يُسمع
في الأوركسترا من قبلُ. ومن هنا كان قوله: «إنني أحرص دائمًا على
إغداق اللحن على مؤلفاتي عن سَعَة.» وكان للكلمة المنطوقة في نظرية
برليوز الجمالية مكانةٌ ثانوية؛ فقد وجدَت روحه الرومانتيكية في
الأوركسترا وسيطًا تعبيريًّا قادرًا على غناء أعذب المعاني
العلوية، وعلى أن ينقل إلى السامع مجموعاتٍ نغمية قوية موحية،
ويُحرِّك مشاعره بعمق.
ولقد كان فردريك شوبان Frederic
Chopin (١٨١٠–١٨٤٩م) شخصًا معتل الجسم، يشعر
بشقاءٍ دائم، ولكنه صاغ من حياته المضطربة صورًا موسيقية ذات جمالٍ
شفَّاف خارق. وكان شوبان هو الأستاذ الأعظم لتلك الآلة
الرومانتيكية، البيانو، وفي هذه الآلة صَب مشاعره الجريحة في
موسيقى واضحة الأصالة، تتميَّز بالبلاغة والنفاذ إلى الأعماق،
وتجمع بين روعة المظهر وعمق المعنى. وقد وجدَت أحواله النفسية التي
تراوحَت بين الانقباض المظلم، والانبساط الوضَّاء، تعبيرًا عنها في
هارمونياتٍ لامعة، وفي تنافراتٍ حادة وتقلباتٍ لحنية مستمرة. ولم
تكن موسيقاه إلا صورةً شاملة لمشاعره. ولقد كانت تجمُّعاته
النغمية، وإيقاعاته المركَّبة مشابهةً لما نجده عند هوجر فولف من
حيث إنه كان رومانتيكيًّا مجددًا مهَّد الطريق لموسيقى القرن
التالي دون أن يشعُر.
ولقد كان الموسيقي البلجيكي سيزار فرانك Cesar
Franck (١٨٢٢–١٨٩٠م) ومعاصره النمسوي بروكنر أبرز
المؤلفين الموسيقيين الدينيين في العصر الرومانتيكي، ولكن إذا كان
بروكنر قد وجَد في هانسليك ناقدًا يحمل عليه، فإن فرانك لم يلقَ من
معاصريه إلا التجاهل المُخجِل؛ فقد وصف «جونو» سيمفونيته بأنها
«إثبات للعجز بُولغ فيه إلى حد الإطالة المعاندة.» وقد مات فرانك،
كما عاش، موسيقيًّا منعزلًا، على الرغم من أن الكثير مما قاله كان
يستحق التقدير، وإن تحتم على هذا التقدير أن ينتظر جيلًا
جديدًا.
وفي موسيقى «كامي سان صانس Camille Saint
Seens» (١٨٣٥–١٩٢١م) الذي امتدت حياته حتى الربع
الأول من القرن العشرين، وجدَت الرومانتيكية أنقى تعبيرٍ عنها في
سيمفونياته. أما قصائده السيمفونية التي نسجَها حول أفكارٍ أدبية،
فهي تقليدية القالب، وأما أوبراته فقد لحَّنَها على نصوص من
«الكتاب المقدس» ومن الأدب الكلاسيكي. ولقد كان سان صانس شاعرًا أو
باحثًا أو موسيقيًّا ألَّف في جميع فروع الموسيقى على وجه التقريب.
وفي الوقت الذي كان فيه عالمٌ موسيقي جديد قد ظهر بالفعل، ظل هذا
الموسيقي الباريسي يكتب في مطلع القرن العشرين بنفس أسلوب القرن
التاسع عشر.
ولقد كانت باريس هي المركز الثقافي للعالم، وإليها كان يفد
الموسيقيون من كل حدَب وصوب، بعضُهم جاء يستلهمها الوحي، وغيرهم
أتى لاجئًا سياسيًّا، وغير هؤلاء وأولئك أقبل لتؤدَّى فيها
موسيقاه. ومن صالونات هذه المدينة العالمية وقاعاتها الموسيقية،
ودور الأوبرا فيها انبعثَت موسيقى أثْرَت الحياة الثقافية للحضارة
الغربية؛ ففي باريس استحدث جاكومو مايربير Giacomo
Meyerbeer (١٧٩١–١٨٦٤م) الأوبرا الكبيرة (جراند
أوبرا)، وجلب الأوبرا الرومانسية إلى فرنسا عندما عرض لأول مرة
أوبرا «روبير الشيطان Robert le
Diable» (١٨٣١م)، وقد أُعجِب شعب باريس بهذا
الألماني الذي كان يكتب «آريات» وثنائيات (دويتو) غنائية أجمل
وأقوى عاطفةً من الإيطاليين أنفسهم. وتعجَّب الباريسيون من مقدرته
على فهم أذواق الفرنسيين وإدماجها في أوبراته، بل إنه زاد في عدد
أوركسترا الأوبرا، واستحدث وسائل إخراج مسرحيةٍ جديدة لتقوية
التأثير الدرامي.
وقد وفد إلى باريس موسيقيٌّ
آخر أقام بها، وأصبح معبودًا لها، هو مؤلف الأوبريت الرومانتيكية،
جاك أوفنباخ Jacques Offenbach
(١٨١٩–١٨٨٠م)، وقد أخذ أوفنباخ على عاتقه مهمة إصلاح الأوبرا كوميك
الفرنسية (Opera-comique) التي
أعلن أنها قد فقدَت روح المرح الأصلية فيها، وسحرها القديم، حين
حاولت أن تقلِّد «الجراند أوبرا» الناجحة، فأعاد إلى الأوبريت
طبيعتَها المرحة، واختَصَر مدَّتها، وبسَط نصَّها المكتوب، وزاد
حوادثها نشاطًا. وقد اعترض أوفنباخ على إفراط أوبرات مايربير في
تصنُّعها العاطفي ومجافاتها للواقع، كما انتقد بنفس القوة الدراما
الموسيقية عند فاجنر. وقد ألف أوفنباخ أوبريتات على موضوعاتٍ
كلاسيكية قلبَها هَزْلًا وسخرية، وتهكَّم في أوروباتاته على الحياة
السياسية والاجتماعية في عصره. ومع ذلك فقد امتدَحه الفيلسوف
نيتشه، فوصَفَه بأنه كلاسيكي في عصرٍ رومانتيكي، ومؤلِّف ألحانٍ
ساحرة تُوائم النص الكلامي.
وكان جاسبارو سبونتيني
Gasparo Spontini (١٧٧٤–١٨٥١م)
وجاك فرانسو آليفي
Jacques Francois
Halévy (١٧٩٩–١٨٦٢م) ومايربير يؤلِّفون أوبراتهم
حول شخصيةٍ بطولية على طريقة الإيطاليين. أما شارل فوانسو جونو
Charles F. Gounod (١٨١٨–١٨٩٣م)
وجورج بيزيه
Georges Bizet
(١٨٣٨–١٨٧٥م) فقد استعاضا عن الموضوع البطولي بموضوعٍ أكثر
إنسانية، وكانا أكثر اهتمامًا بالنص من الإيطاليين. وتمتاز أوبرات
جول ماسنيه
Jules Massenet
(١٨٤٢–١٩١٢م) وجوستاف شاربنتييه
Gustave
Charpentier (١٨٦٠م)
٢٧ بعذوبة ألحانها، حتى حينما كان شاربنتييه يُصوِّر
انفعالاتٍ إنسانية متعارضة، ولكن كلود أشيل ديبوسي
Claude Achille Debussy
(١٨٦٢–١٩١٨م) جعل الموسيقى خاضعةً للنص في أوبرا «بلياس ومليزاند
Pelleas et Melisande» وعاد إلى
مبدأ جلوك، مؤكدًا أهمية الجانب الدرامي والشعري من
الأوبرا.
وفي إنجلترا، أثبت الموسيقي الأيرلندي السير آرثر سليفان
Arthur Sullivan (١٨٤٢–١٩٠٠م) أنه
خليفةُ أوفنباخ بفضل ما كان يتميَّز به من روح الإصلاح الاجتماعي،
وبفضل أسلوبه الموسيقي في كتابة الأوبريت. وكانت أعماله تتضمَّن
سخريةً سياسية واجتماعية، وتقليدًا ساخرًا للأوبرا الكبيرة
(الجراند أوبرا)، وقد تضمَّنَت المؤلَّفات التي اشترك فيها سليفان
مع جلبرت Gilbert وصفًا جريئًا
للفوارق العسكرية والطبقية التي كانت سائدةً في إنجلترا في القرن
التاسع عشر، وسخريةً صريحة منها. وكان سليفان يستخدم أسلوب التحويل
السريع الذي ينتقل به من تصوير المشاعر الرومانتيكية الشديدة الحزن
إلى تصوير المرح. وكان يؤلِّف ألحانه عادةً بأسلوبٍ بسيط، ولكنه
عندما كان يرغب في الكتابة بطريقةٍ أكثر جديةً وفخامة، كان كفئًا
لهذا العمل بدَوره.
وفي الوقت الذي كان فيه جلبرت وسليفان يُنتِجان أوبرتاتٍ مرحة
لإنجلترا التي كان نبع الإبداع الفني فيها شحيحًا، كان الفيلسوف
هربرت سبنسر Herbert Spencer
(١٨٢٠–١٩٠٢م) يقف في صف العصر الرومانتيكي في بلاده، وذلك في ردِّه
على آراء موطنه تشارلس بيرني Charles
Burney (١٧٧٦–١٨١٤م)؛ ذلك لأن بيرني هذا، الذي كان
كاتبًا مرموقًا ومؤرخًا موسيقيًّا محترمًا، قد أصدر على الموسيقى
أحكامًا غريبة، منها أنها فنٌّ حسي له قيمةٌ جمالية منحطة؛ لذلك
فإن سبنسر، في دفاعه عن قيمة الموسيقى، جعلها أعلى الفنون الجميلة
مَرتبةً في فلسفته التركيبية، ووصَفها بأنها «الفن الذي يُرفِّه عن
البشر أكثر من أي فنٍّ آخر».
وفي إيطاليا كان جواكينو أنطونيو روسيني
Gioacchino Antonio Rossini
(١٧٩٢–١٨٦٨م) وفينتشنزو بلِّيني Vincenzo
Bellini (١٨٠١–١٨٣٥م) وجايتانو دونتيتستي
Gaetano Donizetti (١٧٩٧–١٨٤٨م)
يؤلفون الأوبرا وفي أذهانهم جمال اللحن والغناء الزخرفي المطوَّل.
ومن المؤكَّد أن النصوص الكلامية لهذه الأوبرات كانت تُكيَّف بحيث
يتسنَّى إخراج مشاهدَ درامية تُتيح للمُغَنِّين الرئيسيين في
الأوبرا إظهار مواهبهم الصوتية. وقد اقتفى جوزيبي فردي
Giuseppe Verdi (١٨١٣–١٩٠١م) أثَر
هؤلاء المؤلفين الموسيقيين، لكنه تجاوز السابقين عليه في أوبراته
المتأخرة؛ فقد ابتدع أوبراتٍ ذات طبيعةٍ أعمق وطابعٍ فني أكثر
تماسكًا. والواقع أن فردي قد رفع الأوبرا الإيطالية إلى مستوًى من
القيمة الجمالية يُكذِّب رأي فاجنر القائل إن الأوبرا الإيطالية
ليست عرضًا مسرحيًّا جيدًا.
ولقد كرَّس فردي فنَّه وحياتَه ذاتها لتحقيق الوحدة الإيطالية،
فأدمج في أعماله الفنية أغنياتِ الشعب وروحَ الثورة. وكانت الأوبرا
هي وسيلته للاتصال بالشعب الإيطالي. وقد اتخذ من الصوت البشري؛ أي
من الأنغام «الذهبية» لصوت التينور، والمطوَّلات الرنانة لصوت
السوبرانو، والأنغام الدافئة للكونترالتو، والضخامة العميقة لصوت
الباص، أدواتٍ لتشجيع الروح القومية، والوصول إلى قلوب مستمعيه
الإيطاليين. ولم يكن للأوركسترا عنده من دَورٍ سوى تكملة الأصوات
البشرية، بينما كان اللحن هو المسيطر على كل شيء. ومع ذلك فقد كان
فردي أكثر اهتمامًا بنصوص أوبراته من السابقين عليه، وكان شكسبير
هو الشاعر المُلهِم له، وبيتهوفن رائده الموسيقي، وكان هو نفسه
تجسيدًا للأغنية الرومانتيكية ذاتها.
وعند نهاية القرن التاسع عشر استهل بيترو ماسكاني
Pietro Mascagni (١٨٦٣م)
٢٨ وروجيرو ليونكافالُّو
Ruggiero
Leoncavallo (١٨٥٨–١٩١٩م) المدرسة الواقعية في
الأوبرا، وهي المدرسة التي صوَّرَت المأساة البشرية في قالبٍ
موسيقي درامي. وعلى العكس من ذلك صبَغ جاكومو بوتشيني
Giacomo Puccini (١٨٥٨–١٩٢٤م) عنصر
المأساة بصبغةٍ رومانتيكية، وقد أضفَت موهبتُه اللحنية وحاسَّته
المسرحية الغريزية على أوبراته توازنًا بين الغناء والنص، وبين
المغنِّي والأوركسترا، وهي كلها أمورٌ طالما تاق إليها فاجنر، ولم
يستطع بلوغها أبدًا في دراماته الموسيقية الضخمة.
وفي عام ١٨٦٠م نالت بوهيميا استقلالها
٢٩ الذي طالما سعَت إليه من النمسا، فعبَّر بدريتش
سميتانا
Bedrich Smetana
(١٨٢٤–١٨٨٤م) الثوري البوهيمي النشيط عن روحه القومية المتحمسة
بمجموعة من القصائد السمفونية التي تمجِّد وطنه. كذلك احتفظ
سميتانا في أوبراته، التي كانت أشهرها «العروس المبدولة
The Bartered Bride» بعادات أمته
وموسيقاها. وكانت أهم قوالب الآلات عنده هي القصيدة السيمفوني،
الذي كان أستاذه ليست قد استخدمه بنجاحٍ كبير والرباعية الوترية.
ولقد أبدع سميتانا مثل بيتهوفن، أعظم مؤلفاته الموسيقية في السنوات
التي اقترب فيها من الصمَم، فكتب يقول: لستُ أريد أن أكتب رباعيةً
بأسلوبٍ تقليدي، وإنما أودُّ أن أصوِّر حياتي بالموسيقى. وكانت
أعمق مؤلفاته هي تلك التي أبدَعها بدافع القلَق والندَم، أو بدافع
السرور وحُبه لبلاده. وقد عبَّر عن هذه المشاعر في موسيقى للآلات
كانت، كما يقول الرومانتيكيون، أبلغَ من الكلمات.
وثاني الموسيقيين التشيكيين العظام هو أنطونين دفوراك
Antonin Dvorak (١٨٤١–١٩٠٤م) الذي
كتب موسيقى لم تكن معتمدة على نصوصٍ شعرية، فكانت موسيقاه تُؤلف
بوصفها غايةً في ذاتها، بحيث يستخدم خياله الخصب في تطوير الألحان،
وفي وضع إيقاعاتٍ متوثبة، ومجموعاتٍ نغمية رنانة. ومعظم موسيقاه
ذات طابعٍ مطلَق لا يدَّعي أنه اعترافٌ شخصي كما هي الحال عند
سميتانا، وإنما هي موسيقى بالمعنى الرومانتيكي التقليدي تُعَد
غايةً في ذاتها.
وفي الشمال كان يعيش جمهوريٌّ متحمس، هو إدفارد جريج
Edvard Grieg (١٨٤٣–١٩٠٧م) الذي
جعل حياته مثالًا لمعتقداته، وموسيقاه وسيلةً للتغني بما يؤمن به.
ولقد كانت هارمونياته رقيقة، وألحانه بسيطة، وكانت الحساسية
الانفعالية للشمال متغلغلة في موسيقاه. وقد حفزه جمال الريف وصراعه
إلى ألحانٍ غنائية ذات جمالٍ تأمُّلي أخَّاذ.
ولقد كانت الموسيقى الإيطالية والموسيقيون الإيطاليون يسيطرون
على روسيا في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر، فإن
الصقالبة لم يُصبِحوا قوميين في موسيقاهم فحسب، بل لقد ظهر فيهم
مجموعةٌ من الموسيقيين الوطنيين الذين أكسبوا الموسيقى مقامات
وتجديداتٍ إيقاعية لم تعرفها أوروبا من قبلُ. ولقد كانت الفلسفة
السلافية في الموسيقى مبنية على الواقعية الجمالية، وبهذا المعنى
يمكن أن تُعَد ردَّ فعلٍ على رومانتيكية الموسيقيين الألمان
والإيطاليين. وكان ميخائيل إيفانوفتش جلنكا
Michael
Ivanovich Glinka (١٨٠٤–١٨٥٧م) أوَّل موسيقيٍّ
وطني يتخلص من سيطرة التراث الإيطالي عندما أنتج الأوبرا الوطنية
«حياة للقيصر
A Life for the Czar»
٣٠ (١٨٣٦م)، والأوبرا الأسطورية «روسلان ولودميلا
Russlan and Ludmilla» (١٨٤٢م).
وقد أعطت هاتان الأوبرتان القوة الدافعة الأولى للروح القومية في
الموسيقى الروسية. وكان الطابع الغنائي للأسلوب الصوتي الإيطالي لا
يزال ماثلًا في موسيقاه، غير أن هارمونياته وألحانه روسيةٌ صرفة،
كما أن تلوينه الأوركسترالي ثريٌّ مشرق إلى أبعد حد.
وقد أصبح ألكسندر سرجيفتش دارجوميجسكي A. S.
Dargomijsky (١٨١٣–١٨٦٩م) حامل لواء القومية
الروسية في الموسيقى من بعد جلنكا، وكانت أوبراته مكتوبة بأسلوبٍ
خطابي أو بطريقة الأغنية الكلامية (البارلاندوا) التي تُستخدَم
فيها الأنغام الموسيقية لتعميق تعبير الكلمة الروسية؛ إذ لم تعُد
روسيا بحاجة إلى الاعتماد على اللغات الأجنبية أو الموسيقى الغربية
في حياتها الفنية. وكانت جماعة «الخمسة» المشهورة، التي كانت تجتمع
في بيت دارجوميجسكي، ابتداءً من عام ١٨٥٩م، متشبِّعة بروح القومية
الفنية هذه، فعَمِلَت من أجل رفع شأن المدرسة الموسيقية الروسية.
وكانت هذه الجماعة تتألف من بالاكيريف
Balakirev وكوي
Cui وبورودين
Borodin وموسورجسكي
Moussorgsky وريمسكي كورساكوف
Rimsky Korsakoff. وقد عَمِلَت هذه
الجماعة إلى جانب رعايتها للموسيقى الروسية الجديدة، على مقاومة
المؤثِّرات الألمانية التي جلَبها أنطون روبنشتين
Anton Rubinstein (١٨٢٩–١٨٩٤م) إلى
روسيا عندما كوَّن جمعيَّته الموسيقية ومعهده الموسيقي الذي أحضر
له أساتذةً من الألمان. وكانت الموسيقى الألمانية عندئذٍ تعني
الموسيقى الفاجنرية، مهما حاولَت هذه الجماعة القومية أن تُوصِد
أبوابها في وجه المؤثِّرات الفاجنرية الضارة، فإن موسيقاها لم
تستطع أن تتخلَّص تمامًا من تأثير فاجنر.
على أن الروس الخمسة كانوا يختلفون مع فاجنر في دور الأوركسترا
وعلاقة الكلمة بالنص، فكانوا يَرَون مع جلنكا ودارجوميجسكي، أن
للكلمة الأسبقية على الموسيقى، فإذا أراد الروسي أن يعرف ما يدور
في الأوبرا، فعليه أن يعرف ما يُقال فيها. ولما كان هذا الروسي
أميًّا من الوجهة الموسيقية، فقد كان من الضروري تأكيد وسيلة
الاتصال التي يشترك فيها الروس جميعًا، وهي اللغة ذاتها. وإذن
فمهمة الأوركسترا هي تعميق الكلمة.
وكان القيصر ألكسندر الثاني (١٨١٨–١٨٨١م) قد حرَّر العبيد الروس،
ومنَح الفنون كلها نوعًا من الحرية النسبية، فأصبح التعبير عامةً
أكثر تحررًا، وبدأ الشاعر والموسيقي في الكتابة والغناء تمجيدًا
لوطنهم، لا لبلادٍ أخرى بعيدة عنه. وقد عمل ميلي ألكسيفتش
بالاكيريف (١٨٣٧–١٩١٠) وهو من تلاميذ جلنكا، والموسيقي المحترف
الوحيد من الخمسة، عمل بجدٍّ في سبيل إنشاء مدرسةٍ موسيقية روسية
إلى أن انطوى على نفسه في عزلةٍ دينية صوفية. كذلك فإن سيزار
أنطونوفتش كوي (١٨٣٥–١٩١٨م) قد شجَّع الثورة الفنية، بوصفه عضوًا
في الخمسة، من خلال الموسيقى والأدب، ولم يكن يُطيق صبرًا على تلك
الشخصيات الموسيقية أو الأدبية التي تقدِّس التقاليد الموروثة في
الفن تقديسًا مبالغًا فيه. أما ألكسندر بورفيريفتش بورودين
(١٨٣٤–١٨٨٧م) فإن شهرته تقوم على تلك الأوبرا التي عُرضَت بعد
وفاته، وهي «الأمير إيجور Prince
Igor»، ولقد كان «مودست موسورجسكي» (١٨٣٩–١٨٨١م)
أكثر الموسيقيين الخمسة أصالة، وأقواهم أثَرًا — بعد جلنكا — في
خلق مدرسةٍ روسية للموسيقى القومية. وقد كانت إيقاعاته الجريئة،
وهارمونياته المتغيرة، وتنافراته الحادة تصوِّر العالم الروسي
المحيط به، أما أسلوبه فكان شخصيًّا، وكان يعني بالنسبة إليه
وسيلةً منظمة لتصوير طبيعة الشعب الروسي وحياته بطريقةٍ واقعية،
وعندما كان يجد القوالب أو المقامات الموسيقية التقليدية تعجز عن
التعبير عما يراه ويُحس به، فإنه كان يتخلى عن التقاليد الشائعة،
ويستعيض عنها بوسيلةٍ للاتصال الموسيقي تُتيح له التعبير المناسب.
وكان شعاره الفني هو أن الموسيقى وسيلةٌ للاتصال لا غاية في
ذاتها.
ويُنبئنا نيكولاي أندريفتش ريمسكي-كورساكوف (١٨٤٤–١٩٠٨م) في
ترجمته الذاتية لحياته أن «الخمسة» كانوا ينظرون إلى أساطين
الموسيقى القدامى على أنهم سُذَّج عفا عليهم الزمان «فقد كانوا
ينظرون إلى يوهان سباستيان باخ على أنه مُتحجِّر، بل على أنه مجرد
طبيعةٍ موسيقية رياضية لا مشاعر فيها ولا حياة، يؤلِّف موسيقاه،
كآلة صماء.» ومع ذلك فقد وجد كورساكوف من الضروري، وهو في
الثلاثينيات من عمره، أن يبذل مزيدًا من الجهد في دراسة فن
الأساطين القدماء، حتى يستطيع استخدام التأليف الموسيقي أداةً أكثر
فعالية في التعبير عن مشاعره بمزيدٍ من العمق. وقد أفضت به رغبتُه
الحارة في تحقيق ذاته بوصفه مؤلفًا موسيقيًّا إلى أن يصبح أستاذًا
في التوزيع الأوركسترالي والتلوين النغمي الذي يتميَّز بالفخامة
المثيرة الشائقة. بفضل تمكُّن كورساكوف من فن التأليف الموسيقي على
هذا النحو، أمكَنَه أن يصل بالآراء الجمالية لجماعة الخمسة إلى
اكتمالها التام، الذي كانت فيه مدرسةً قومية موسيقية تتغلغل جذورها
في الألحان الشعبية للناس والأرض، وتتغنى بتمجيد بلادها والتطلُّع
إلى مستقبلٍ أفضلَ لها.
ولقد كان بيتر إليتش تشايكوفسكي
Peter Ilich
Tchaikovsky (١٨٤٠–١٨٩٣م) شأنه شأن «الخمسة»
وطنيًّا متحمسًا يتغنى بحب بلاده. وعلى الرغم من أنه كان يزدري
«الخمسة» لأنه كان تلميذًا لروبنشتين، فقد شارك «الخمسة» تحدِّيَهم
للأقطاب القدماء، ولا سيما باخ؛ فباخ قد روَّض انفعالاته، أما
تشايكوفسكي فكان يعيش تحت رحمة هذه الانفعالات، وقد حوَّل باخ
حياته المضطربة
٣١ إلى موسيقى منظمة، أما تشايكوفسكي فكان يُطلق العِنان
لمشاعره في موسيقى غنائية باكية، كما أن باخ قد تحكَّم في القوالب
التي طوت مشاعره في داخلها وقمعَتْها، أما تشايكوفسكي فلم يكن
دائمًا يرعى القوالب التقليدية عندما كانت مشاعره تبحث عن مخرج
للتعبير عنها. ومما له دلالته النفسية أن أخصَب فتراته الخلاقة
كانت تلك التي اعتلَّت فيها صحته أو تمالكَتْه فيها الكآبة والحزن.
ومن المؤكَّد أن تشايكوفسكي ينتمي إلى الموسيقيين الرومانتيكيين
المتأخرين، بفضل أسلوبه الغنائي الحزين، وإيقاعاته المندفعة،
والتلوين الأوركسترالي لموسيقاه. وخلاصة نظرته الجمالية إلى
الموسيقى هي أن يبُث الموسيقي مشاعره، ويجعلها معبِّرة عن أحاسيسه
إلى حدٍّ يقرب من الإغراق المُفرِط في الانفعال.
وقد أصبح ألكسندر سكريابين A.
Scriabin (١٨٧٢–١٩١٥م) عضوًا في جماعةٍ دينية
وفلسفية غامضة بدأَت في روسيا بوصفها حركةً تجديدية في مستهل هذا
القرن. وكان مثله الجمالي الأعلى هو توحيد الفنون في إطارٍ ديني
يُعبِّر فيه الجمال عن الحقيقة الأزلية. ولقد كشفَت الموسيقى التي
ألَّفها في الجزء الأخير من حياته، عندما كان عضوًا في هذه الجماعة
الغيبية، عن سعيه إلى التعبير عن أفكاره اللاهوتية الصوفية
هذه.
أما سرجي رخمانينوف Sergei
Rachmaninoff (١٨٧٣–١٩٤٣م)، فقد وفد إلى أمريكا
بعد الثورة الروسية. وقد كتب موسيقاه في قالب الكلاسيكيين، وسادتها
النزعة الذاتية الغنائية عند الرومانتيكيين. وعلى الرغم من أن
حياته اقتربَت من أواسط القرن العشرين، فإنه لم يُبدِ رغبةً متحمسة
في الأخذ بالتجديدات الموسيقية أو المذاهب المالية الحديثة؛ إذ إن
ما أراد التعبير عنه لم يكن يتصف بالأصالة التي تكفي لحفزه إلى
التماس وسائلَ جديدةٍ في التعبير.
وأخيرًا، فإن الموسيقي الروسي، وكذلك الموسيقي في مختلف البلدان
التي تحدَّثنا عنها في هذا القسم، كان على وجه العموم يخلق موسيقاه
في جوٍّ من الحرية الفنية التي كان أسلافه خليقين بأن يحسُدوه
عليها. وفي الوقت الذي ظل فيه الفلاسفة يعرفون طبيعة الموسيقى
ومعناها بمذاهبهم العقلية المنظَّمة، نجد الموسيقي في العصر
الرومانتيكي قد ظل سائرًا في طريقه الحُر الطليق يكتب من الموسيقى
ما يلائم حاجاته وأحواله النفسية.