القسم الأول: الأصداء الأفلاطونية في العالم الحديث
قال الفيلسوف ألفرد نورث هوايتهد
A. N.
Whitehead (١٨٦١–١٩٤٧م): إن تطوُّر الفلسفة
الغربية كان إلى حدٍّ بعيد مسألةَ إضافةِ هوامشَ وحواشٍ إلى
أفلاطون. وبالمثل كان التفكير الجمالي في الموسيقى في الحضارة
الغربية تنويعًا على النغمة الأفلاطونية الأصلية، مع زخارف
أرسططالية؛ ذلك لأن الآراء الموسيقية التي أبداها أفلاطون في
محاوَرتَي «الجمهورية» و«القوانين» قد ظلت على الدوام هي المعتقدات
الجمالية التي كانت الكنيسة والدولة تُقدِّران على أساسها فلسفاتها
الموسيقية طوال العصور في العالم الغربي. ومن المؤكد أن هناك
تشابهًا قاطعًا في المفاهيم الموسيقية بين الفلسفات القديمة
والوسيطة والحديثة للمذاهب الدينية ونظم الحكم السياسية المتسلطة،
وكذلك نظم الحكم الديمقراطية، ولكن إلى حدٍّ أقل؛ ففي الكنيسة
الكاثوليكية لا تزال فلسفة أفلاطون الجمالية في الموسيقى سائدةً
حتى يومنا هذا، وخيرُ شاهدٍ على ذلك فتوى البابا بيوس العاشر عن
الموسيقى الدينية (١٩٠٣م).
١
ففي هذه الوثيقة المشهورة، المتعلقة بالوظيفة الصحيحة للموسيقى
من حيث هي جزءٌ مكمل للطقوس الدينية الرسمية لمذهب الكنيسة إلى أن
الوظيفة الرئيسية للموسيقى الدينية هي تجميل النص، وتأكيد الكلِم
المقدَّس؛ فالمهمة الكبرى للموسيقى الدينية «هي أن تكسو النص
الشعائري الذي يُراد للمؤمن أن يفهمه برداءٍ لحني مناسب، وهدفها
الصحيح هو زيادة فعالية النص حتى يتسنَّى له أن يُحرِّك في نفس
المؤمن مشاعر التقوى بمزيدٍ من اليسر …»
٢
فمن الواجب أن تتصف الموسيقى الدينية «بالقداسة والطهر». وينبغي
أن تكون خصائصها ملائمةً لشعائر الصلاة، وأن يُستبعَد منها كل
«دنس» سواء أكان ذا طابعٍ لحني أم كان متعلقًا بطريقة أدائها. كذلك
ينبغي أن تكون الموسيقى الدينية «سليمة القالب» إذا شاءت «أن
تُمارِس في أذهان مستمعيها تلك الفعالية التي تهدفُ الكنيسة إلى
بلوغها، بسماحها بفن الأصوات الموسيقية في مجال الشعائر الدينية.»
٣ ومن الواجب أن تتصف الموسيقى الدينية ﺑ «الشمول»؛ فعلى
حين أنه يُصرِّح لكل أمة بأن تُدخل موسيقاها القومية في الكنيسة،
فمن الواجب أن تخضع هذه الموسيقى للمقتضيات الأساسية للموسيقى
الدينية، المتعلقة بالشعائر الكاثوليكية، حتى يمكن أن تُقبل موسيقى
البلد الواحد بوصفها موسيقى دينية في البلد الآخر.
وأضاف واضعو هذه الفتوى أن تلك الصفات الثلاث تتمثَّل على أكمل
نحو في الأناشيد الجريجوريانية التي ظلَّت تُعَد دائمًا أرفعَ
أنموذج للموسيقى الدينية «فكلما اقترب العمل الموسيقي المخصَّص
للكنيسة في حركته ووحيه ومذاقه من القالب الجريجوري ازداد بذلك
اقترابًا من الصبغة الدينية والشعائرية، وكلما تنافر مع هذا
الأنموذج الأرفع، كان أقل جدارةً بأن يؤدَّى في المعبد.»
٤ وإذن فالكنيسة الكاثوليكية تريد أن تستخدم الأناشيد
الجريجورية، وهي النوع الوحيد من الأناشيد الذي ورثَتْه من آباء
الكنيسة الأولين، مرةً أخرى على نطاقٍ واسع لممارسة الشعائر
الجماهيرية للعبادة. وتقول هذه الفتوى إن الدراسات الأخيرة أعادت
للأناشيد الجريجورية تكامُلَها ونقاءها الأصليَّين،
٥ وإن من الواجب في الوقت الحالي بذل جهودٍ خاصة لتشجيع
استخدام الناس لهذه الأناشيد التقليدية «حتى يقوم المؤمن مرةً أخرى
بدور إيجابي في المهام الكنسية، كما كانت الحال في العهود القديمة.»
٦
وتذكُر هذه الوثيقة أن البوليفونية الكلاسيكية، ولا سيما في
مدرسة روما التي بلغَت أوج كمالها خلال القرن السادس عشر في
مؤلَّفات بالسترينا، تتصف بكل الخصائص الموسيقية التي تُوجَد في
الإنشاد الديني؛ ﻓ «البوليفونية الكلاسيكية تتفق اتفاقًا رائعًا مع
الأناشيد الجريجورية … ومن هنا تبيَّن أنها تستحق مكانًا إلى جانب
هذه الأناشيد، في أداء المهام الرسمية للكنيسة …»
٧ وعلى ذلك فمن الواجب استرجاع الموسيقى البوليفونية لكي
تؤدِّي مهامَّ كنسية هي زيادة روعة الاحتفالات والطقوس
الدينية.
وتُقرِّر الوثيقة أن كنيسة روما كانت تؤيد تقدُّم الفنون على
الدوام، وقد سمحَت بإدخال الموسيقى الجديدة في شعائر العبادة «مع
إبداء الاحترام اللازم للقوانين الشعائرية»، كذلك تُرحِّب الكنيسة
بالموسيقى الحديثة في شعائرها إذا كانت تتماشى مع حاجات العبادة،
وتفي بمقتضيات الشعائر «ومع ذلك فلما كانت الموسيقى الحديثة قد
ظهَرَت لكي تخدم أساسًا أغراضًا غير دينية، فمن الواجب مراعاة
الحرص الشديد إزاءها، حتى لا تنطوي المؤلَّفات الموسيقية ذات
الأسلوب الحديث، التي يُسمَح بها في الكنيسة، على أي عنصرٍ ديني،
وحتى تتحرَّر من آثار العناصر التي اتُّبِعَت في المسرح ولا تتشكل
حتى في صورها الخارجية بأسلوب المؤلَّفات العلمانية.»
٨
وتحظر الوثيقة تمامًا أي غناء باللغة القومية عند أداء المهام
الشعائرية. كما تؤكِّد الكنيسة ضرورة غناء النص الشعائري بالطريقة
التي تحدِّدها السلطات الكنسية «دون تغيير للكلمات أو قلبٍ لها،
ودون تكليفٍ لا داعي له، ودون تجزيء للمقاطع، وإنما يجب أن يكون
الإنشاد دائمًا مفهومًا للمُصلِّين السامعين.»
٩
وينبغي ألا تكون السيادة للغناء المنفرد إلى الحد الذي يؤدِّي
إلى فقدان الجزء الأكبر من الترتيل الشعائري لطابع الغناء الجماعي.
وللمنشدين في الكنيسة وظيفةٌ شعائرية، ولمَّا لم يكن في وسع النساء
الاضطلاع بهذه الوظيفة، فلا يمكن السماح لهن بالاشتراك في المجموعة
الغنائية، ولا ينبغي أن يُسمَح إلا لذوي التقوى والخُلق الفاضل من
الرجال بالاشتراك في هذه المجموعة. وحتى لا تؤدي رؤية المصلين
لأفراد المجموعة إلى صرف أنظارهم عن الطقوس التي تؤدَّى بالمذبح،
فمن الواجب إخفاء المجموعة الغنائية عن أنظار جمهور
المصلين.
ثم تنتقل الوثيقة على الكلام عن استخدام الآلات في الكنيسة،
فتقول: «على الرغم من أن الموسيقى اللائقة بالكنيسة هي الموسيقى
الغنائية الخالصة، فإن الموسيقى المصحوبة بالأرغن مُصرَّح بها
أيضًا. ويجوز أيضًا السماح، في بعض الحالات الخاصة، وفي الحدود
اللائقة، ومع اتخاذ الاحتياطات اللازمة، ببعض الآلات الأخرى، على
ألا يكون ذلك إلا بإذنٍ خاص من راعي الكنيسة … ولمَّا كان من
الواجب أن تكون للغناء المكانة الرئيسية دائمًا، فإن على الأرغن أو
أية آلةٍ أخرى أن تقتصر على دعم الغناء، ولا يجوز أبدًا أن تطغى
عليه. ولا يُصرح بمقدماتٍ موسيقية طويلة تسبق الترتيل، أو بفواصلَ
موسيقيةٍ قاطعة. ومن الواجب أن يكون صوتُ الأرغن، بوصفه آلةً
مصاحبة للغناء في المقدمات، وفي الفواصل الموسيقية وما شابهها،
خاضعًا لخصائص هذه الآلة، بل إنه يجب أن يتصف بكل الصفات الخاصة
بالموسيقى الدينية، كما أوضحتُ من قبلُ. ويُحظر استخدام البيانو في
الكنيسة، كما يُحظر استخدام الآلات التي تُحدِث ضجيجًا أو تبعث في
النفوس شعورًا بالاستخفاف كالطبول والصنوج
Cymbals والأجراس وما شابها، ولا
يُسمح على الإطلاق للفرق النحاسية بالعزف في الكنيسة، وإن كان من
الممكن في حالاتٍ خاصة بإذن من راعي الكنيسة، السماح بآلاتٍ نحاسية
محدودة العدد، وتُستخدم استخدامًا لائقًا، وتكون متناسبة مع حجم
المكان، بشرط أن تكون القطعة المؤلَّفة، والموسيقى المصاحبة،
مكتوبةً بأسلوبٍ جادٍّ ملائم، وأن تكون متفقةً في كل النواحي مع
الأسلوب الخاص بالأرغن. أما في المواكب التي تسير خارج الكنيسة
فيجوز أن يُصرِّح راعي الكنيسة لفرقةٍ نحاسية بالعزف، على شرط ألا
تعزف مقطوعاتٍ غير دينية.»
١٠
وتُصرِّح الوثيقة على نحوٍ قاطع بأن من الخطأ الفادح أن تخضع
الشعائر للاعتبارات الموسيقية في أداء المهام الكنسية؛ إذ إن
الموسيقى ليست إلا تابعةً متواضعة للشعائر الدينية. كما تنصح
الوثيقة الأساقفة بأن يؤلِّفوا في أسقفياتهم لجنةً مكوَّنة من
أشخاصٍ لهم درايةٌ واسعة بالموسيقى الدينية، يقومون بالإشراف على
هذه الموسيقى في كنائسهم «ولا يقتصر عملهم على التأكيد من أن
الموسيقى صالحةٌ في ذاتها، وإنما ينبغي أن يتأكَّدوا من أنها
متناسبة مع قدرات المغنِّين، وأنها ستؤدَّى دائمًا بطريقةٍ سليمة.»
١١
وتطالب هذه الوثيقة المشهورة الخاصة بالموسيقى الدينية، ببذل
الجهود في سبيل نشر معرفة الأناشيد الجريجورية عن طريق مدارس
الإكليروس وبواسطة المؤسسات الكنسية، كما تُطالِب بإنشاء مدرسة
للغناء الديني Shola Cantorum بين
القساوسة لتعليم البوليفونية الدينية والموسيقى الشعائرية. ومن
الواجب تعليمُ طلاب اللاهوت مبادئ الموسيقى الدينية وقوانينها،
وتعريفُهم بالنواحي الجمالية للفن الكاثوليكي الديني.
وينبغي إعادة المدارس الغنائية القديمة لتعليم الأطفال والكبار
الموسيقى الدينية، كما ينبغي بذل الجهود لإعانة وتشجيع المدارس
العليا للموسيقى الدينية؛ إذ إن «مما له أهميةٌ قصوى أن تقوم
الكنيسة ذاتها بالاتفاق على تعليم المشرفين على مجموعاتها
الغنائية، وعازفي الأرغن والمغنِّين فيها، وفقًا للمبادئ الصحيحة
للفن الديني.»
١٢
وقد أكَّد البابا الحالي بيوس الثاني عشر
١٣ في وثيقته البابوية الرسول الإلهي
Mediator Dei (١٩٤٧م) أكَّد من
جديد الآراء الموسيقية للبابا بيوس العاشر، مع الدعوة إلى نوع من
الموسيقى الدينية يكون تقيًّا حافلًا بالمعاني حتى يجمع الناس
سويًّا ويُقرِّبهم من الرب. ولم يسمح البابا بيوس الثاني عشر إلا
ببضع إضافاتٍ على الطقوس الدينية، كترتيل الأناشيد الحديثة، وعزف
الموسيقى المعاصرة، ولكنه يحُثُّ على مراعاة الحذَر في اختيار
الموسيقى الجديدة واستخدامها في الشعائر الدينية، ولكي يضمنَ
البابا بيوس الثاني عشر أن الموسيقى الحديثة التي تدخُل الكنيسة
تتمشَّى مع الأهداف الروحية للعقيدة الكاثوليكية، فإنه يؤكِّد
ضرورة توقيع السلطات الكنسية جزاءاتٍ على أي انحرافٍ عن الأساليب
الموسيقية التقليدية.
القسم الثاني: الموسيقى والكنيسة والدولة١٤
أصدَرَت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في
فبراير عام ١٩٤٨م، قرارًا تحتج فيه على بعض الموسيقيين السوفييت
الذين كانت أعمالهم الفنية تنحرف عن التعاليم الجمالية للفلسفة
السوفييتية وأيديولوجيتها. وقد صدر هذا القرار في صورة تنديد
بأوبرا «الصداقة العظيمة
Friendship
Great» (الموسيقى من وضع نوراديلي
V. Nuradeli والنص من وضع مديفاني
Mdivani)، وهي الأوبرا التي عُرضَت
بمسرح البولشوي في الاتحاد السوفييتي أثناء الاحتفال بمرور ثلاثين
عامًا على ثورة أكتوبر.
١٥ وقد بدأ النقد بالتنديد بهذه الأوبرا على أساس أنها
غير سليمة في موسيقاها وموضوعها، وأنها على وجه الإجمال عملٌ غير
فني. غير أن بضعة الأسطر التالية لم تترك مجالًا للشك في أن اللجنة
المركزية قد اغتنمَت فرصة الحكم على هذه الأوبرا الخاصة لكي
تُوجِّه حديثها إلى كل الموسيقيين والنقاد السوفييت.
على أن العقيدة الحالية التي وضعها السوفييت ليست بالجديدة،
وإنما هي فلسفةٌ في الفن كانت تظهر في أعقاب عددٍ من الثورات
الدينية والاجتماعية في تاريخ العالم الغربي؛ فلو تتبَّعنا هذه
التعاليم الجمالية إلى أصلها، لوجدنا أن هذه النظريات ذاتها إنما
هي جزءٌ من أنموذجٍ متكرر يعود بنا إلى الوراء من الشيوعية الحديثة
إلى عهد الإصلاح الديني الأوروبي، إلى الكنيسة في العصور الوسطى،
وأخيرًا إلى أفلاطون ذاته.
وأهم عنصرٍ في فلسفة أفلاطون في الموسيقى — وهو أيضًا من النقاط
الرئيسية التي كانت تدعو إليها الكنيسة والدولة — هو أن الموسيقى،
بوصفها مبحثًا تعليميًّا ثقافيًّا، ينبغي أن تُستغل لتحقيق روحٍ
أخلاقيةٍ سليمة. ولقد كان أفلاطون ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفع
من الفنون الأخرى. وعلى أساس أن للإيقاع واللحن تأثيرًا أقوى في
أعماق النفس البشرية، وفي حياة الإنسان الانفعالية. وقد انتهى
أفلاطون من ذلك إلى أن تعوُّد الإنسان الاستماعَ إلى الأساليب
الموسيقية الصحيحة يُساعِده دون وعي منه على تنمية العادات السليمة
التي تُتيح له تمييز الخير من الشر.
وقد أعرب أفلاطون في محاورة «الجمهورية» عن اعتقاده بأن
المقامَين الأيوني والليدي ينبغي أن يُستبعدا من الدولة؛ لأن لهما
طابعًا مُخنثًا ناعمًا رخوًا. أما المقامان الدوري والفريجي،
اللذان يتسمان بالروح العسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما.
١٦ وبعد أن ربط أفلاطون بين تعاليمه الموسيقية وبين
المبادئ الأخلاقية برباطٍ وثيق، طبَّق هذه التعاليم بطريقةٍ عملية
صارمة، لكي يحمل بشدة على الشعراء المغنِّين الذين كانوا ينشرون
نوعًا بدائيًّا من البوليفونية كان يلقى رواجًا في أيامه، فوصف هذه
البوليفونية بأنها نشازٌ لا ينجُم عنه إلا اضطرابُ الذهن، ودعا
الشاعر اليوناني إلى تأليف أنشودته الموسيقية على نحوٍ من شأنه أن
يُتيح غناءها «نغمة نغمة»، لا عن طريق «أنغام معقَّدة متنوعة» كما
يحدث «عندما تُصدِر الأوتار صوتًا، ويغنِّي الشاعر أو مؤلِّف اللحن
صوتًا آخر». ويُوجِّه أفلاطون تحذيره قائلًا: «إن التوافقات
والهارمونيات التي تجمع بين مسافاتٍ أكبر وأقل، وبين أنغامٍ بطيئة
وسريعة، أو عاليةٍ ومنخفضة» وكذلك التنويعات المعقَّدة عندما
تُكيَّف تبعًا لأنغام الليرا
Lyre،
تؤدِّي قطعًا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المتعارضة تولِّد الاضطراب.»
١٧ والنتيجة التي يُتوصَّل إليها من ذلك هي أن التنوُّع
والتعقُّد في الإيقاع واللحن أمرٌ ينبغي تجنُّبه؛ إذ إنه خليقٌ بأن
يبعث كآبةً وحيرةً ذهنية قد تبتعد بالناس عن النظام الطبيعي
للأشياء إلى عالم الخيال واللامعقول.
وهناك مفكِّرٌ آخرُ قريب العهد بنا، هو تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠م)
الذي نادى بمذهبٍ أخلاقي في الفن، يرتكز على إدانة المجتمع وفنونه
من جهة النظر الاجتماعية والدينية. وقد أدرَجَت روسيا السوفييتية
ضمن تعاليمها الموسيقية كثيرًا من آرائه الأفلاطونية، حتى إن
الكثير مما كان مجرَّد نظريةٍ جمالية في كتابات تولستوي، قد أصبح
واقعًا سياسيًّا في نقطة الاعتراض الأولى التي ذكَرَت فيها اللجنة
المركزية أن الأوبرا «مضطربة غير متوافقة، تتألف كلها من تنافُرات
ومن مجموعاتٍ صوتية تمجُّها الأذن»، كذلك تُذكِّرنا اللجنة
المركزية بأفلاطون إلى حدٍّ بعيد عندما تُواصِل كلامها في نفس هذا
الاتجاه، فتقول: «فيما بين السطور والمناظر الفردية التي تتخذ
ظاهريًّا شكل ألحان تنفُذ على حين غرة أصواتٌ متنافرة غريبة تمامًا
عن الأذن البشرية، تبعث في نفس السامع إحساسًا بالضيق.»
١٨ ولا شك أن التشابه في وجهة النظر بين هذه الفِقرة وبين
الفِقرات التي اقتُبسَت من قبلُ مُلفِتٌ للأنظار بحق.
وهناك وجهُ شبهٍ آخر يشد على وجود أصداءٍ أفلاطونية في الموسيقى
السوفييتية؛ فقد كان أفلاطون يرى أن الشعر الغنائي والنغم لا
ينفصلان، ولكنه أكَّد أن القيمة الأخلاقية للنص بإخضاع القالب
الموسيقي للشعر. وقد عارَضَ بشدةٍ أولئك الموسيقيين الثوريين الذين
ظهروا في أيامه، والذين حاولوا بالفعل تأليفَ موسيقى بلا كلمات؛ إذ
إنه «عندما لا تكون هناك كلمات، يكون من العسير إلى أبعد حدٍّ
إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يُحاكِيان أي
موضوع ذي قيمة.»
١٩
وبالمثل كتب كالفان بلهجةٍ تذكرنا إلى حدٍّ بعيد بالفِقرة
المشهورة في «اعترافات» القديس أوغسطين، فقال: إن «من الضروري
مراعاة الحذَر الشديد، حتى لا يكون انتباهُ الأذن إلى تحوُّلات
الأنغام أقوى من انتباه الذهن إلى المعنى الروحي للكلمات.»
والواقع أن هذا البحث في موضوع النص والموسيقى كان يتخذ من آنٍ
لآخر صبغةَ مشكلةٍ جمالية، ومن هنا فليس من المستغرب أن يهتم به
السوفييت في ضوء حاجاتهم المباشرة؛ فقد جاء في بيان اللجنة
المركزية: «إن الاتجاه الشكلي في الموسيقى السوفييتية أدى إلى ظهور
ميلٍ متحيز إلى القوالب المعقَّدة لموسيقى الآلات، والسيمفونيات،
والموسيقى بغير نصٍّ كلامي، بين المؤلِّفين الموسيقيين السوفييت …
وهذا كله يؤدي حتمًا إلى ضياع أسس الثقافة الغنائية، والتمكُّن من
فن الدراما، وإلى أن ينسى المؤلِّفون الموسيقيون كيف يكتبون للشعب.»
٢٠
أما الموضوع الثالث لبحثنا فهو مسألة التجديد في الموسيقى؛ فقد
شن أفلاطون حملةً شديدة العنف على التجديد الفني. وعلى أساس اعتقاد
أفلاطون بأن التغيُّر الفني يؤدي بعض الوقت إلى الفوضى في الدولة،
كتب في «الجمهورية» يقول: إن أي تجديدٍ فني يُنذِر بأشد الأخطار
على الدولة، وينبغي حظره. ويقول: إن تغيُّر أساليب الموسيقى يؤدي
إلى تغيُّرٍ مصاحبٍ لها في قوانين الدولة ذاتها.
٢١
ولم تكن الاعتبارات الجمالية هي التي دفعَت القديس أوغسطين إلى
إيثار مزامير داود البسيطة على الموسيقى ذات الانزلاقات الكروماتية
التي كانت قد بدأَت تجد طريقها إلى شعائر الكنيسة في أيامه، وإنما
كان يخشى أن يؤدِّيَ إدخال الموسيقى الجديدة البعيدة عن حاجات
الكنيسة إلى إلحاق أشد الأضرار بمصالح الكنيسة، وتهديد استقرار
الشعائر الكنسية باستحداث تغيُّراتٍ مستمرة مضطربة.
كذلك أراد كالفان أن تكون موسيقاه الدينية بسيطةً معبِّرة عن
تواضع النفس. وكانت حُجَّته في ذلك هي أن الإصلاح الديني ما هو إلا
إنكارٌ للتبهرج والطقوس المعقَّدة التي تتميز بها الكنيسة
الكاثوليكية. وإذن فمن الواجب حماية الموسيقى البروتستانتية من
إنتاج أولئك المغرورين الذين لا يؤلِّفون الموسيقى لتمجيد الرب،
وإنما لكسب الشهرة لأنفسهم فحسب؛ فالموسيقى جزءٌ لا يتجزأ من
العقيدة الجديدة، ولا يمكن أن تظل بمعزلٍ عنها. وليس لمؤلف
الموسيقى الشعائرية الحق في تبديد طاقته في أي نوعٍ من الإبداع
الموسيقي، فيما عدا ذلك الذي يضمن تحقيق البروتستانتية
وتقدُّمها.
وقد سار السوفييت في ذلك الطريق أبعدَ من ذلك؛ إذ رأوا أن
التغيير الفني لغرض التجديد وحده إنما هو تبديدٌ لا طائل تحته.
إنما الواجب أن يكون ذلك التغيير موجهًا نحو غايةٍ اجتماعية
بنَّاءة؛ فاللجنة المركزية تقول: «إن الكثير من الموسيقيين
السوفييت، في سعيهم وراء التجديد الذي أساءوا فهمه، قد فقدوا في
موسيقاهم الصلة بحاجات الشعب السوفييتي وذوقه الفني، وأغلقوا على
أنفسهم الأبواب إلا من فئةٍ محدَّدة من المتخصِّصين ومحترفي التذوق
الموسيقي، وقلَّلوا من أهمية الدور الاجتماعي الأساسي للموسيقى،
وضيَّقوا معناها، فقصروه على إرضاء الأمزجة المنحرفة لأصحاب
النزعات الفردية في الفن …» «وقد بلغَت الأمور حدًّا كبيرًا من
السوء في ميدان تأليف السيمفونيات والأوبرات. وحين نقول ذلك، فنحن
إنما نتحدث عن أولئك المؤلِّفين الموسيقيين الذين يقتصرون على
الاتجاه الشكلي المضاد للروح الشعبية. ويتبدَّى هذا الاتجاه بأجلى
مظاهره في أعمال مؤلِّفين موسيقيين كالرفاق ديمتري شوستا كوفتش
وسرجي بروكوفيف، وآرام خاتشاتوريان، وف. شيبالين، وج. بوبوف، ون.
مياسكوفسكي وغيرهم … مثل هذه الموسيقى تتميَّز بإنكار المبادئ
الأساسية للموسيقى الكلاسيكية، والدعوة إلى اللامقامية والنشاز
والتنافُر الهارموني، وكأن هذه هي علامات «التقدم» و«التجديد» في
نمو القوالب الموسيقية، كما تتميَّز برفض مبادئَ أساسيةٍ في
التأليف الموسيقي كاللحن
melody،
والميل إلى التجمُّعات الصوتية المضطربة المريضة، التي تُحيل
الموسيقى إلى تخليط في الأصوات، وإلى تكديسٍ فوضوي لها.»
٢٢
والخلاصة إذن أن أفلاطون كان قد ذهب إلى أن المقامات والأنغام
الموسيقية المضبوطة بدقة، والتي تؤثِّر في الانفعالات تأثيرًا
فعالًا نظرًا إلى بساطتها المباشرة هي وحدها المفيدة. ولو استمع
الإنسان إلى النوع الصحيح من الموسيقى لساعده ذلك على أن يبعث
التوافق الإيقاعي بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي. أما التخليط
الصاخب فيجعل النفس تصطدم بالنظام المثالي للأشياء، فمن الواجب إذن
أن يُطرد من المجتمع أولئك الشعراء المغنُّون الذين يؤلِّفون
موسيقى تتعارض مع النظام الطبيعي؛ إذ إنهم محطِّمون للنفس، ونُذُر
سوءٍ بانهيار المجتمع.
وقد اتخذَت هذه الآراء الفلسفية دلالةً دينية في أعمال أولئك
الموسيقيين الدينيين الأوائل الذين تشبَّعوا بروح الرهبة،
فدفعَتْهم إلى تأليف موسيقى لتمجيد الرب والكنيسة، وأخذ هؤلاء على
عاتقهم أن يطرحوا مشاعرهم الشخصية وميولهم الموسيقية جانبًا لكي
يُلبُّوا حاجات الكنيسة.
وكان لوثر، شأنه شأن السابقين عليه، يعتقد أن من الضروري
الالتجاء إلى كل وسيلةٍ ممكنة لتعبئة القوى الانفعالية والنفسية
للإنسان. وقد وضع لوثر، بوصفه هو ذاته مؤلفًا موسيقيًّا، وكذلك
بوصفه زعيمًا لحركة الإصلاح الديني، مذهبًا جماليًّا في الموسيقى،
كان بطبيعة الحال أوغسطينيًّا في ملامحه العامة، ولكنه كان
واقعيًّا إلى حد أنه جعل من الفن مجرد أداةٍ لخدمة الدين، ولكي
يعمل لوثر على تحقيق هذا الهدف، أحل اللغة الألمانية محل اللاتينية
التي كانت مستخدمة في الشعائر الكاثوليكية، واستعاض عن الأناشيد
الجريجورية المعقَّدة بموسيقى أبسط وأقل غرورًا، كانت أقرب إلى
الأغاني الشعبية الألمانية.
٢٣
أما كالفان فنظر إلى آراء لوثر على أنها متحررة أكثر مما ينبغي،
وكما سبق لأوغسطين أن حذَّر المسيحيين الأوائل طالبًا إليهم أن
يصمُّوا آذانَهم عن الألحان الوثنية المنبعثة عن المسرح الروماني،
فكذلك حاول كالفان أن يحتفظ بنقاء البروتستانتية بمحو أية آثارٍ
باقية احتفظ بها لوثر من الموسيقى الكاثوليكية الشديدة التنوُّع
والتعقيد. على أنه قد اتفق مع لوثر على أن شعائر الصلاة ينبغي أن
تكون مفهومةً للجميع؛ ولذلك كانت الشعائر عنده تُقام باللغات
المحلية.
وبعد حوالي ثلاثمائة عامٍ
من ذلك التاريخ، حاول تولستوي في روسيا القيصرية أن يُحقِّق
إصلاحاتٍ اجتماعية ودينية مبنية على المبادئ المسيحية؛ ففي كتابه
«ما الفن؟» نجد فِقرة تجمع داخلها الآراء الجمالية الموسيقية
لأفلاطون وأوغسطين ولوثر وكالفان. وكما كانت هذه الفِقرة تلخيصًا
للآراء الجمالية ذات الطابع الأخلاقي عند السابقين عليه، فقد كانت
أيضًا تنبؤًا بالآراء الجمالية الموسيقية السائدة في روسيا اليوم.
في هذه الفِقرة يقول تولستوي: «وإذن ففي المستقبل سيكون مختلفًا كل
الاختلاف، في شكله وموضوعه، عما يُسمَّى الآن بالفن؛ فالموضوع
الوحيد لفن المستقبل سيكون مشاعر تدعو الناس إلى التآلف، أو مشاعر
من النوع الذي كان يؤلِّف بينهم بالفعل. وأما أشكال الفن أو
قوالبه، فسيكون من شأنها أن تكون في متناول يد الجميع. وعلى ذلك
فإن معيار الامتياز في المستقبل لن يكون ضيق نطاق المشاعر
واقتصارها على البعض وحده، بل سيكون على عكس ذلك، عمومية هذه
المشاعر وشمولها. ولن يكون هذا المعيار هو ثقل القالب وغموضه
وتعقُّده، كما يظن الآن، وإنما سيكون إيجاز التعبير ووضوحه
وبساطته. وعندما يصل الفن إلى هذه المرحلة، فعندئذٍ فقط لن يعود
عاملًا على تلهية الإنسان أو الحط من شأنه، كما هو الآن …» وفي
موضعٍ آخر يُضيف تولتسوي قوله: «إن ألحان المؤلِّفين المحدَثين
خاويةٌ تافهة إلى حدٍّ يبعث على الدهشة، ولكي يعمل الموسيقيون
المحدَثون على زيادة التأثر الذي تتركه هذه الألحان الخاوية، تراهم
يكدِّسون تحولاتٍ سليمة معقَّدة على كل لحنٍ تافه، لا على النحو
المعروف في بلادهم فحسب، بل أيضًا بالطريقة المميزة لدائرتهم
المقفَلة ومدرستهم الموسيقية الخاصة. إن اللحن (الميلودي) — كل لحن
— حر، ويمكن أن يفهمه الناس جميعًا، ولكنه ما إن يرتبط بتوافُقٍ
هارموني خاص، حتى يغدُوَ فهمه مقصورًا على الناس المدرَّبين على
مثل هذا التوافُق، ويصبح غريبًا، لا على الناس العاديين من قوميةٍ
أخرى فحسب، بل أيضًا على كل من لا ينتمي إلى الدائرة الخاصة التي
عوَّد أفرادُها أنفسهم على أنواع معيَّنة من التنظيم الهارموني.
وعلى هذا النحو تدور الموسيقى كالشعر، في حلقةٍ مفرغة؛ فالألحان
التافهة التي تقتصر على دائرةٍ ضيقة تثقل بتعقيداتٍ هارمونية
وإيقاعية وأوركسترالية لكي تزداد جاذبيتها، ولكن هذا لا يزيد
نطاقها إلا ضيقًا، وبدلًا من أن تصبح مفهومةً للجميع على نطاق
العالم بأَسْره تعجِز عن أن تكون مفهومةً حتى على المستوى القومي
ذاته؛ أي لا يفهمها الشعب كله، بل بعض الناس فحسب.»
٢٤
وتتفق اللجنة المركزية مع تولستوي في هذه المبادئ الجمالية
اتفاقًا تامًّا؛ فهي بدورها تؤكد أن الموسيقى ينبغي أن تكون
واقعيةً لا مجردةً أو منعزلةً عن الشعب وعن حاجات الحياة
السوفييتية. وتقول اللجنة المركزية: إن هذه الوظيفة للموسيقى قد
ضاعت؛ لأن المؤلف الموسيقي لأوبرا «الصداقة العظيمة» لم يستغلَّ
كنز الألحان والأغاني والأنغام الشعبية، وكذلك الألحان الشعبية
الراقصة، التي يزخر بها الفن الخلَّاق لشعوب الاتحاد السوفييتي.
غير أن محور الحُجَّة التي تستند إليها اللجنة المركزية هي أن
«ابتعاد بعض الموسيقيين السوفييت عن الشعب قد وصل إلى حدٍّ
انتشَرَت فيه بينهم «نظرية» فاسدة مؤدَّاها أن عجز الشعب عن فهم
موسيقى كثيرٍ من المؤلفين السوفييت المعاصرين يرجع إلى أن الشعب،
على ما يقولون، لم «ينضج» بعد إلى الحد الذي يُتيح له فهم موسيقاهم
المعقَّدة، وأنه سيفهمها بعد مائة عام، وأنه لا داعيَ للقلق أو
الانزعاج إن كانت بعض المؤلَّفات الموسيقية لا تجد لها مستمعين.»
وتُواصِل اللجنة المركزية كلامها فتقول: «وهذه النظرية الفردية
البحتة التي هي معادية في صميمها للروح الشعبية قد مكَّنَت بعض
المؤلِّفين والباحثين الموسيقيين من أن يزيدوا أنفسهم عزلةً عن
الشعب وعن نقد المجتمع السوفييتي، وأن يحبسوا أنفسهم بين جدران قواقعهم.»
٢٥
وبعد عامٍ من نشر جريدة «إزفستيا» لقرارات اللجنة المركزية، ألقى
ديمتري شوستاكوفتس
Dimitri
Shostakovich (المولود سنة ١٩٠٦م) خطابًا في
نيويورك دلَّ على تأثير هذه القرارات، فقارَن بين الفلسفات
الموسيقية للمؤلفين الغربيين وبين الواقعية الفنية التي تتصف بها
موسيقاه وموسيقى بروكوفييف، واتهَم سترافنسكي، بوصفه ممثلًا
للموسيقيين الغربيين، بالشكلية المنحلة التي لا تؤدي إلا إلى تدهور الموسيقى.
٢٦
فقد أشار شوستاكوفتش أولًا إلى أن سترافنسكي كان موسيقيًّا
يُنتظر له مستقبلٌ باهر، حتى انشَق على تراث المدرسة الروسية
القومية، وانضَم إلى معسكر «الموسيقيين الرجعيين من أنصار
الاتجاهات التجديدية» ثم اتهم سترافنسكي بأنه يتجاهل الحاجات
الموسيقية للجماهير، وأشار إلى تصريحات سترافنسكي التي يقول فيها:
«إن الجمهور بالنسبة إلى الفن، هو لفظٌ كمِّي لم آخذه أبدًا، ولو
مرةً واحدة، بعين الاعتبار.» كما يقول فيها: «إن الجماهير العريضة
لا تضيف إلى الفن شيئًا، ولا يمكنها أن ترفع مستواه، والموسيقي
الذي يهدف عن وعي إلى اجتذاب الجماهير لا يمكنه أن يحقق هذا الهدف
إلا بخفض مستواه. إنني أهتم بروح كل فردٍ يستمع إلى موسيقاي، لا
بالشعور الجماهيري للجماعة.» ثم تساءل شوستاكوفتش: كيف يتسنى لمثل
هذه النزعة الذاتية أن تساعد على النهوض بحياة الشعب؟ كيف يمكن
لهذه الموسيقى المُنحَلة أن تخدم فكرةً سياسية؟ ثم يواصل كلامه
قائلًا: إن سترافنسكي يردُّ على هذه الأسئلة ردًّا بليغًا، وذلك في
تصريحات بسيطة يقول فيها: «إن موسيقاي لا تعبِّر عن أي شيء واقعي.»
ويقول: «إن موسيقاي لا تحكي شيئًا.» ولكن شوستاكوفتش يحذِّر
مستمعيه قائلًا: إن في هذا الإعلان الذي يؤكِّد انعدام المعنى
والمضمون في الموسيقى، تتمثل الفلسفة الانحلالية المميِّزة لموسيقى
سترافنسكي، والتي تسود التفكير الجمالي الموسيقي في البلاد
الرأسمالية.
ثم ينتقل شوستاكوفتش إلى إيضاح ما يعنيه السوفييت بالواقعية في
الموسيقى، فيميِّز بين النزعة الطبيعية والنزعة الواقعية؛
فالمحاكاة الطبيعية في الموسيقى هي محاكاة بيتهوفن لصوت الطائر في
«السيمفونية الريفية» ومحاكاة شتراوس لأصوات الخِراف في «دون
كيخوته». ويلاحظ شوست كوفتش أن هذا النوع من المحاكاة الموسيقية قد
ظهر في أكثر صوره تطرُّفًا عند أولئك الموسيقيين الذين يقلِّدون
صفير القطارات وضجيج الآلات الصناعية. والواقع أن الموسيقيين الذين
يؤمنون بفلسفة الفن للفن إنما يخلطون بين معنى المحاكاة الطبيعية
ومعنى الواقعية في الموسيقى. ولقد تعلم الموسيقيون ذوو النزعة
الشكلية كيف يُصوِّرون كل أنواع الأصوات في الموسيقى، ولكن
شوستاكوفتش يشكو من أنهم نسُوا كيف يعبِّرون عن انفعالات البشر
ومشاعرهم وتجاربهم ويصوِّرنها بدقة. ونظرًا إلى انعزال الموسيقيين
من أصحاب النزعة الشكلية عن حياة الجماهير، فإنهم نسُوا فن وصف
مشاعر الناس وتجاربهم. أما الواقعية في الموسيقى فتعني «التعميم من
تجربة الحياة الكبرى، وفي الوقت ذاته إفراد ما له أعظم الأهمية في
عملية الحياة؛ فالأمر هنا إنما يتعلق بالفنان من حيث هو عنصرٌ
تقدمي في المجتمع البشري، ومُربٍّ ومُعلِّم، يُعيد في أعماله تأكيد
القيم الأخلاقية والجمالية. والمسألة هنا هي أن من الضروري
للموسيقى ألا تعود وسيلةً للترويح، وألعوبةً في أيدي المتحذلقين
والمحترفين والمتخصصين الفنيين، وأن تصبح مرةً أخرى قوةً اجتماعية
كبرى تخدم البشرية في كفاحها من أجل التقدُّم وانتصار
العقل.»
ويضرب شوستاكوفتش أمثلة للمبدأ الواقعي السوفييتي في الموسيقى
بأعمال مثل كنتاتة (غنائية) بروكوفييف (١٨٩١–١٩٥٣م)، ألكسندر
نيفسكي Alexander Nevsky وكنتاتة
«زدرافتسا Zdravitsa»، وأوبرا
«الحرب والسلام». وهو يُعلِّل نجاحه الخاص من حيث هو مؤلِّفٌ
موسيقي سوفييتي بأنه كان في الماضي يوثِّق روابطه بالشعب الروسي عن
طريق موسيقاه «فقد كنت أسعى إلى الاهتداء إلى لغة يمكن أن يُفهم
معناها. وعلى العكس من ذلك فإني في أعمالي التي انحرفتُ فيها عن
الموضوعات اللحنية الكبيرة والصور المعاصرة — ولا سيما تلك الأعمال
التي ألَّفتُها في سنوات ما بعد الحرب — فقدتُ اتصالي بالشعب،
وأخفَقتُ. ولم تكن أعمالي هذه تلقى استجابةً إلا من دائرةٍ ضيقة من
الموسيقيين المحترفين، غير أنها لم تلقَ ترحيبًا من الجماهير
الضخمة للمستمعين.»
القسم الثالث: الموسيقى بوصفها تعبيرًا
كتب الفيلسوف جون ستيوارت
مل (١٨٠٦–١٨٧٣م) يقول: «لشدَّ ما كانت تؤرِّقني فكرة إمكان استنفاد
التجمُّعات الموسيقية؛ ذلك لأن الأوكتاف لا يتألف إلا من خمسة
أصوات ونصفَي صوت، وهي أصوات لا يمكن أن تُجمع … إلا بعددٍ محدود
من الطرق التي ليس فيها ما هو جميل سوى نسبةٍ بسيطة منها. وقد بدا
لي أن معظم هذه التجمُّعات الجميلة لا بد أن تكون قد كُشفَت من
قبلُ، بحيث لا يعود هناك مجال لظهور مجموعةٍ طويلة متعاقبة من
الموسيقيين أمثال موتسارت وفيبر، الذين يمكنهم أن يكتشفوا لنا
كنوزًا جديدةً رائعة من الجمال الموسيقي، كما فعل هذان بالفعل.»
٢٧ ولقد كانت مخاوف مل راجعةً إلى إمكان استنفاد النظام
الهارموني المقفَل؛ إذ إنه كان ينظر إلى مفهوم الجمال في الموسيقى
من خلال القيم التقليدية، غير أن موسيقيِّي النصف الثاني من القرن
التاسع عشر كانوا بالفعل قد بدءوا يتجاوزون النظرة إلى الجمال في
الموسيقى، من خلال ذلك العدد المحدود من الطرق التي تُجمع بها
الأصواتُ الكاملة الخمسة ونصفا الصوت في الأوكتاف.
فقد استخدَم فاجنر عن وعيٍ التنافر الهارموني لزيادة جمال
التعبير؛ ذلك لأنه كان يرى أن الجمال في الموسيقى هو التعبير، وأن
التوافق أو التنافر ما هما إلا طرفان لهما فعاليةٌ انفعالية، ولا
يمكن التمييز بينهما إلا على نحوٍ أكاديمي بحت. وقد قبل ديبوسي
الوجه من أوجه تفكير فاجنر الجمالي؛ إذ إنه بدوره كان يستهدف زيادة
ثراء عالم الخيال عن طريق الموسيقى، فوسَّع نطاق العلاقات
الهارمونية، واستخدم التنافر دون تمهيدٍ أو حلٍّ له، وأدخل أنغامًا
غريبة عن التآلف الأصلي (الكورد
Chord). وقد طعَّم ديبوسي موسيقاه
بتلوينٍ شرقي وبالمقامات القديمة، وكان يتنقل بين السلالم بحريةٍ
تامة دون اهتمام بنوعها. والأمر الذي كان يهمُّه هو بعث حالةٍ
نفسيةٍ معينة؛ ولذلك استخدم كل درجات السلم، وجميع التآلفات
الهارمونية التي تنتمي إلى الديوانَين الكبير والصغير، ووزَّعها
لكي يبعث التأثير الذي يودُّ أن يُحدثَه فيما بين الرومانتيكي
الألماني فاجنر والتأثيري الفرنسي ديبوسي، حدثَت ثورةٌ كاملة في
الطابع الجمالي والأسلوب الفني للموسيقى. والواقع أن الأساس
الجمالي للموسيقى الحديثة في القرن العشرين إنما يرجع إلى العبقرية
الخلاقة لهذَين المؤلِّفَين الموسيقيَّين اللذَين أثبتا عدم وجود
مُبررٍ لمخاوف الفيلسوف من أن تكون الموسيقى نظامًا مقفلًا له
إمكانياتٍ محدودة في إنتاج أنغامٍ جميلة. وسوف نبيِّن في العرض
الذي سنقدِّمه لموسيقانا الحالية، الطريقة التي عبَّر بها
الموسيقيون الخلَّاقون في مختلف البلاد عن أنفسهم.
كان إريك ساتي Eric Satie
(١٨٦٦–١٩٢٥م) هو الأب الروحي لجماعة «الستة Les
Six» في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وكان
نطاق أفكاره الموسيقي يمتد من الهَزْل المتعمَّد إلى الفلسفة
التأملية. وقد اختار مقتطفات من محاورات أفلاطون ولحَّنها في أكثر
أعماله طموحًا، وهو الدراما السيمفونية «سقراط»، وقد أصبح ساتي
المعبود المختار للطليعة الموسيقية وللوجوديين في الفلسفة؛ إذ إن
هؤلاء جميعًا قد نسبوا إليه فضل الوصول بالاتجاه المضاد لفاجنر في
الموسيقى الفرنسية إلى القمة، واستخدام هارمونياتٍ جريئة قبل
ديبوسي ورافل Ravel
(١٨٧٥–١٩٣٧م).
إن كل عصر في الموسيقى يلتمس لنفسه معبودًا يتخذه مصدرًا
للإلهام؛ فالرومانتيكيون قد جعلوا من بيتهوفن معبودهم المُلهِم،
أما الموسيقي الألماني ماكس ريجر Max
Reger (١٨٧٣–١٩١٦م)، فتحوَّل إلى باخ؛ لكي يستلهمه
روح البوليفونية من جديد؛ فقد اعتقد ريجر أنه وجد في باخ مثلًا
رائعًا للتجرُّد الكلاسيكي الذي يصلُح ترياقًا يعوِّض تأثير
الانفعالات المتدفِّقة عند الرومانتيكيين، وكان ما يهتم به ريجر هو
القيم التكنيكية للنغم والقالب، فدفَعَته حماسته للتجرد الخالص إلى
إساءة فهم معبوده باخ بتأكيد الرمز الموسيقي بدلًا من الانفعال
الذي يمثله الرمز.
ولكن ريشارد شتراوس Richard
Strauss (١٨٦٤–١٩٤٩م) لم يكن يُشارِك مواطنه ريجر
فلسفته الجمالية المتجردة الخالصة، ولقد كان يشترك مع ريجر في
تمكُّنه التام من التكنيك الموسيقي، ولكنه — على خلاف ريجر — كان
يستخدم هذا التكنيك في استطلاع إمكانيات الآلات الموسيقية والقالب
الموسيقي، حتى يستطيع نقل مشاعره وأفكاره بطريقةٍ وصفية شديدة
الفعالية. وتتميز موسيقاه بالتوفيق بين عناصر مختلفة، وبالواقعية
التصويرية. وهي تُحلِّق أحيانًا في قممٍ لحنية تبدو المؤلفات
الرومانتيكية الجديدة لفاجنر معتدلةً بالنسبة إليها. ولقد كان
شتراوس يشترك مع فاجنر ومالر في العجز عن الإيجاز؛ فهو مُطِيلٌ
كثير الكلام.
أما فيروتشيو بووزني Ferruccio
Busoni (١٨٦٦–١٩٢٤م) وهو موسيقي وعازف على البيانو
وباحثٌ نظري إيطالي ألماني، فقد احتج مثل ريجر على رومانتيكية
القرن التاسع عشر، وطالب بالعودة إلى الوضوح والمنطق المنظم
اللذَين كانت تتسم بهما كلاسيكية القرن الثامن عشر في الموسيقى.
وعلى حين أن ريجر أصبح تلميذًا لباخ، واعترف بذلك، فإن بوزوني
تحوَّل إلى موتسارت الذي نظر إليه على أنه صاحبُ أعظم أسلوب في
الموسيقى. وأدت عودة ريجر وبوزوني إلى النزعة الشكلية للمذهب
الكلاسيكي، وانصرافهما عن الرومانتيكية الانفعالية، إلى ظهور مذهبٍ
موسيقي جمالي في القرن العشرين بلغ قمته في النزعة الكلاسيكية
الجديدة عند «هندميت Hindemith»
وسترافنسكي.
ولقد كان كتاب بوزوني «الخطوط العامة لمذهبٍ جمالي جديد في
الموسيقى Sketch on a New Esthetic of
Music» (١٩٠٧م) كان هذا الكتاب دفاعًا عن القوالب
الخاصة والأسلوب الواضح الذي كان مُولَعًا به، في صورة فِقرات
وجُملٍ منفصلة؛ ففي هذا الكتاب أعلن معارضته للاعتقاد القديم بأن
الموسيقى محاكية للطبيعة، وسَخِر من الفكرة الرومانتيكية القائلة
إن الموسيقى محاكاة للحياة، وإنما الموسيقى بالنسبة إليه طريقةٌ
ذات أسلوبٍ منظم للتعبير عن الأحوال النفسية والانفعالات. ولقد
كانت آراء فاجنر الجمالية بعيدة عن الصواب في رأيه، كما كانت في
رأي هانسليك. وقد سَخِر في أوبرا «أرليكنو
Arlecchino» التي وضع هو ذاتُه
موسيقاها من الرومانتيكيين، وذلك في صورة تهكُّم على المجتمع
والأخلاق والحرب والفلسفة والدين، وقبل ذلك كله، على فساد طريقة
الرومانتيكيين في استخدام قالب الأوبرا.
وانتهى بوزوني من ذلك إلى أن موسيقى الرومانتيكيين وصفية إلى
حدٍّ مفرط، وأكد أن موسيقاهم تنطوي على عناصرَ غريبة عن الروح
الحقيقية للموسيقى (وخص بالذكر مؤلَّفات ريشارد شتراوس، الذي كان
في قصائده السيمفونية يستخدم الموسيقى لأغراض الوصف الواقعي، كوصف
صوت طاحونة الهواء وهي تدور، وأصوات الخِراف). أما هو فرأى أن
الموسيقى ينبغي أن تظل نغمًا وقالبًا خالصَين؛ فليست مهمة الموسيقى
هي إثارة الانفعالات، وإنما هي تكوين تجمُّعاتٍ نغمية مرتبة
عقليًّا، وقوالب مبنية على أسلوبٍ منظم.
وكان بوزوني ينظر إلى الرومانتيكية على أنها مذهبٌ جمالي في
الموسيقى يرفع من شأن الانفعالات ويكتم صوت العقل. وقد اتفق هيجل
على أن الكلاسيكية هي انتصار الشكل (أو القالب) على الموضوع،
والعقل على الانفعال. كما وافق على ملاحظة «جيته» القائلة إن كل ما
هو صحيٌّ كلاسيكي، وكل ما هو مريضٌ رومانتيكي. وقد وجدَت آراؤه
تعبيرًا موسَّعًا عنها في كتابات أوزفالد شبنجلر
Oswald Spengler (١٨٨٠–١٩٣٦م) الذي
ذهب إلى أن الموسيقى ذات البرنامج إنما هي مفهومٌ رومانتيكي ينتمي
في الواقع إلى فن الرسم لا إلى الموسيقى. ومن هنا كتب شبنجلر يقول:
«إن كل فن رومانتيكي إنما هو أغنية الموت
(
Swan-Song)، وهو التعبير الأخير
عن مدنية، وما هو إلا ألوان الخريف الزاهية التي تسبق سقوط
الأوراق، أو الكتابة على الحائط
٢٨ التي تُنذر بالدمار، أو المُذنَّب المشتعل
٢٩ الذي يُنذر بقرب الفوضى والانحلال.»
ولم يكن بوزوني يشارك شبنجلر تشاؤمه التاريخي، وإنما كان كتابه
في علم الجمال شهادةَ إيمانٍ بقرب حلول عهدٍ جديد في الموسيقى.
وكان الهدف الذي يسعى إليه بوصفه موسيقيًّا وباحثًا نظريًّا، هو
تطوير إمكانيات نظامنا النغمي، وتشجيع التجريب على آلاتٍ
جديدة.
أما الموسيقي الفنلندي جان سيبيليوس
Jan
Sibelius (وُلِد في ١٨٦٥م)
٣٠ فقد وصفه معاصروه بأنه مؤلِّفٌ موسيقي ذو أصولٍ شعبية،
يستمد الوحي من الطبيعة، ويصوِّرها بأسلوبٍ رومانتيكي. وقد أعرب
سيبيليوس، بطريقته الخاصة، عن اعتقاده بأن المبادئ الجمالية للمذهب
الكلاسيكي هي طريق المستقبل. وكتب هارون كوبلاند
Aaron Copland يقول عنه: «إن
سيبيليوس موسييى شعبي بطبيعته … فلديه كَلفٌ دائم بالعودة إلى
أسلوبٍ ريفي يستلهم فيه الوحي الشعبي، وإلى أن يكرِّر ذاته في
موضوعاتٍ لحنية وصِيَغ فنية، ويضعنا دائمًا في نفس الجو الانفعالي.
على أن هذه اتجاهات لا يمكن أن يتصف مؤلفٌ موسيقي من الدرجة الأولى
بواحدٍ منها.»
٣١ وفي مقابل ذلك كتب الناقد أولن داونز
Olin Downes يقول: «الحقيقة أن
أعظم أقطاب الكلاسيكية الجديدة في الموسيقى الحالية هو سيبيليوس،
وليس سترافنسكي بمحاكاته الزائفة للأقطاب القدماء، ولا هندميت
بإحيائه الحديث للكنترابنط القديم والقوالب الخاصة في موسيقى الآلات.»
٣٢
ويتمثل الاتجاه الكلاسيكي الجديد بوضوح في أعمال الموسيقي
الإنجليزي رالف فون وليامز
Ralph Vaughan
Williams (وُلِد عام ١٨٧٢م)،
٣٣ وذلك في اهتمامه بالقالب واستخدامه للكنترابنط؛ فهو
يترجم المشاعر المثيرة للخيال والصور الشعرية إلى تجمُّعاتٍ نغمية
يقصد منها التعبير عن المشاعر الموسيقية ولا شيء غيرها، مهما بدا
وقعها على الأذن غريبًا. على أن الأمل المشرق للموسيقى الإنجليزية
إنما هو في بنيامين بريتن
B.
Britten (المولود في ١٩١٣م)؛ فهو بدَوره يُعرب عن
«ولاءٍ أبدي لباخ»، وهو بدوره يُساير باخ في رأيه القائل إن الصوت
البشري هو الآلة الموسيقية النهائية، وإن آلات الأوركسترا تكون
أفضل كلما كان صوتُها أقرب إلى الصوت البشري. ولكن على الرغم من
إيثار بريتن للصوت البشري، فإن عظمتَه تظهر أيضًا في موسيقاه
الأوركسترالية، وفيما ألَّفَه من موسيقى الغرفة
Chamber music. ولقد كانت أوبرا
«بيتر جرايمز
Peter Grimes» التي
وضع موسيقاها تحقيقًا فعليًّا لأمل «فيبر» الجمالي في جعل الأوبرا
مزيجًا من الشعر والغناء والتمثيل. وبذلك تحقَّقَت في أوبرات
بنجامين بريتن العودة إلى اندماج الفنون عند اليونانيين.
أما حالة الموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن خير وصفٍ
لها هو ذلك الذي قدَّمه توماس جيفرسون — إذا جاز لنا أن نعود
مؤقتًا إلى الوراء قرابة قرنَين من الزمان — في خطابٍ بعث به إلى
صديقٍ له كان يراسله في باريس، وفيه يقول: «إن كانت هناك نغمةٌ
أحسُد عليها أي شعب في العالم، فهي موسيقى شعبكم؛ ذلك لأن الموسيقى
هي الانفعال الأثير لديَّ. غير أن القدَر شاء أن أعيش في بلدٍ
تعاني الموسيقى فيه حالة من الهمجية تدعو إلى الرثاء …» وحتى في
القرن الماضي، عندما كانت أوروبا تنعم بعصر الرومانتيكية العظيم
كتَب رالف والدو إمرسون (١٨٠٣–١٨٨٢م) يقول عن الموسيقي الخلاق:
«لكم يبدو لي الفنانون الموسيقيون في المجتمع متحيِّزين ضيِّقي
الأفق، وكأنهم خصيان مشوَّهون … إن السياسة والإفلاس والصقيع
والمجاعة والحرب، كل ذلك لا يهمُّهم، وإنما يجعلون شغلهم الشاغل
حكَّ أوتارٍ أو نفخَ أبواق.»
ولقد كانت بداية أول مدرسةٍ
أمريكية في الموسيقى مقترنة بظهور أعمال جورج تشادويك
George W. Chadwick (١٨٥٤–١٩٣١م)،
وتشارلس مارتن لوفلر C. M.
Loeffler (١٨٦١–١٩٣٥م)، وإدوارد ألكسندر ماكدويل
E. A. Macdowell (١٨٦١–١٩٠٨م). وقد
ظهر تأثير الأوروبيين بوضوح في أفكارهم الموسيقية والقوالب التي
استخدموها، على الرغم من كل محاولاتهم تصويرَ الطبيعة الأمريكية
بلونٍ محلي. وفي موسيقى تشارلس آيفز C.
Ives (١٨٧٤–١٩٥٤م) التي أعقبَت الأعمال السابقة
تظهَر أفكارٌ أكثرُ أصالة وتعبيراتٌ أشدُّ جرأة. ومنذ ذلك العهد
بلغَت أمريكا سن الرشد موسيقيًّا، وفتحَت أبوابها لإيواء
الموسيقيين الذين فرُّوا من الثورة الروسية ومن الاضطهاد النازي،
والذين أقاموا في الولايات المتحدة ليزيدوها ثراءً بموسيقاهم، وذلك
بوصفهم مؤلِّفين ومعلِّمين موسيقيين في آنٍ واحد. ومنذ بداية القرن
العشرين قل اعتماد أمريكا على الموسيقيين الأوروبيين الذين كانت
تتخذهم أنموذجًا لها. واستطاع روي هاريس Roy
Harris (المولود في ١٨٩٨م)، وروجر سيشنز
Roger Sessions (١٨٩٦م) وولتر
بيستن Walter Piston، وفرجيل
طومسون Virgil Thomson (١٨٩٦م)،
وراندال طومبسون Randall Thompson،
وهارون كوبلاند Aaron Copland
(١٩٠٠م) بوصفهم مؤلِّفين موسيقيِّين ومعلِّمين ونُقَّادًا، أن
يستهلُّوا عهد إحياءٍ موسيقي في هذا البلد، ازدادت قوَّتُه بفضل
تدَفق الموسيقيين الأجانب وتقدُّم عصر العلوم. والواقع أن أمريكا
تدين لهؤلاء الرجال بالكثير، حتى رغم كونهم هم أنفسهم يدينون
بالفضل لأوروبا. ويمتاز هؤلاء بنضج في الأفكار يُثري الفن الموسيقي
بأصالته ونضارته. وهم يُبدِعون موسيقاهم بطريقةٍ مباشرة، وببساطةٍ
كلاسيكية، وكأنهم يؤلفون أنشودةً وطنية.
أما الجيل التالي من الموسيقيين فلا يسمح لأية أغلالٍ موسيقية
بأن تقيِّد أفكاره ورغبته في التعبير؛ ذلك لأن مارك بلتسشتين
Marc Blitzstein (المولود في
١٩٠٥م) ووليام شومان W. Sohuman
(١٩١٠م)، وصامويل باربر Samuel
Barber (١٩١٠م)، وبول باولز Paul
Bowles (١٩١١م)، ولينارد برنشتين
Leonard Bernstein ينظرون إلى
النغم والقالب على أنهما وسيلةٌ للاتصال وأنموذجٌ له، ينبغي أن
يتغير وفقًا لحاجات التعبير، وهم متمسكون بالرأي الجمالي القائل إن
الفنان إذا ما قال أشياءَ قديمة، فمن الواجب أن يقولها بطريقةٍ
جديدة، أما إذا كانت لديه القدرة أن يقول شيئًا جديدًا، فإن من
واجبه ألا يقوله بقوالب الماضي، بل ينبغي أن يقوله بأية طريقةٍ
يمكن أن يُقال بها في الموسيقى.
أما تلك الصيحة التي يردِّدها كثيرٌ من النقاد والفلاسفة
المعاصرين من أن الموسيقى الحديثة متنافرة ومُنحَلة، فهي ليست
جديدة في تاريخ الفنون؛ فقد كان الانتقال من عصرٍ موسيقي إلى آخر
يقترن دائمًا بالسخرية والاحتقار من جانب المحافظين والتقدُّميين
معًا. ولقد سبق أن قال فولتير إن الأذن البشرية تحتاج إلى جيلٍ
بأكمله؛ لكي تعتاد أسلوبًا موسيقيًّا جديدًا. وقد يكون في هذا
القول مبالغة، غير أنه في جملته صحيح. كذلك قيل إن تفضيل مؤلفينا
الموسيقيين المعاصرين للأسلوب الموضوعي اللاشخصي في الموسيقى يعني
أنهم يتجنَّبون أية شبهة للأحاسيس في فنهم. وهذا القول لا يقل
بطلانًا عن اتهام الموسيقى المعاصرة بالانحلال؛ فالموسيقي المعاصر
يقول ما يريد أن يقوله بطريقته الخاصة، وهذه الطريقة التي يعبِّر
بها عن نفسه مختلفة عن الطرق التي كانت متَّبَعة في الماضي. وليس
لنا أن نتوقع من الموسيقي الذي يعيش في أيامنا هذه أن يعبِّر عن
نفسه بقالب وأسلوب موسيقى عصر الباروك، مثلما ينبغي ألا نتوقع من
الشاعر المعاصر أن يكتب بلغة وأسلوب الشعراء في عصر
إليزابيث.
إن الموسيقي الحديث يخلُق وفقًا لمعيارٍ عملي للقيم الموسيقية؛
فهو يقول ما يريد، أو ما يتحتَّم عليه أن يقوله بأية طريقةٍ يمكنه
بها أن يجعل موسيقاه فعالة. ولا شك أن الناقد الذي يستمع إلى هذه
الموسيقى للمرة الأولى، ويحاول تقويم هذا التعبير الجديد عن
المشاعر، ليس في موقفٍ يُحسد عليه؛ فعليه أن يتذكَّر أن كل جديد
ليس بالضرورة جيدًا، وليس كل تغيُّر تقدُّمًا، ولكن ينبغي أن يدرك
أيضًا أنه إذا قدَّر الموسيقى الجديدة بمعاييرَ قديمة، فقد يصبح في
العصر الحالي بمثابة الناقد «أرتوزي»
٣٤ في عصره.
القسم الرابع: فلسفةٌ جماليةٌ جديدة للموسيقى
أدرك أرنولد شونبرج Arnold
Schonberg (١٨٧٤–١٩٥١م) قرب مطلع هذا القرن أن
النظام الدياتوني، بديوانَيه الكبير والصغير، قد أخذ يتحلل ويتفكك
طوال ما يربو على خمسة وسبعين عامًا، وأن الفلسفة الجمالية
للموسيقى الغربية، المبنية على مبدأ المقامات التي يتألف منها
الديوانان، قد أخذَت تنهار؛ ذلك لأن التلوين الكروماتي الذي حفلَت
به موسيقى الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر قد عمل على هدم
النظام النغمي الذي كان يكوِّن جزءًا أساسيًّا من مفهوم التركيب
المنطقي الموسيقي في الغرب، وهو المفهوم المرتكز على النظام
الدياتوني؛ لذلك وضع شونبرج نظامًا مؤلفًا من اثنتَي عشرة نغمة
(وهي مجموع النغمات وأنصافها في السلم) يحُل محَل النظام الدياتوني
المتداعي، عن طريق إيجاد مجموعةٍ جديدة من العلاقات (هي الصف
النغمي tone row) يكون لكل نغمة من
الأنغام الاثنتَي عشرة فيها مركزٌ متساوٍ، بدلًا من المركز المميز
لنغمة الأساس (الأولى) والنغمة المسيطرة (الخامسة) في النظام
الدياتوني. والواقع أن هذا النظام لم يتخلَّ عن مفهوم «المقامية
Tonality» كما زعم نُقَّاده، وكل
ما في الأمر أنه خلق نوعًا جديدًا منها.
ولقد كانت موسيقى شونبرج ومدرسته ردَّ فعلٍ على رومانتيكية القرن
التاسع عشر، وكان من رأي هذه المدرسة (المسمَّاة بمدرسة فيِنَّا)
أن اللغة الهارمونية واللحنية للسُّلم الدياتوني كانت تلجأ على
نحوٍ متزايد، كلما فُقد تماسُكها الموسيقي بالتدريج، إلى عناصرَ
غير موسيقية؛ ذلك لأن الموسيقى حين بدأَت تفقد بالتدريج قدراتها
على تصوير فكرةٍ موسيقيةٍ خالصة، نظرًا إلى أن بناءها المنطقي كاد
أن تُستنفد إمكانياته، أخذَت تزداد اعتمادًا على الأساليب الأدبية
والوصفية التي يعُدُّها صاحب النظرة الخالصة أساليبَ غيرَ موسيقية
في أساسها. وهكذا يرى شونبرج أن الفلسفة الجمالية للموسيقى في
القرن التاسع عشر أصبحَت تحتِّم، أولًا، ظهور أساسٍ جديد لمفردات
اللغة الموسيقية (من حيث الهارمونية والإيقاع والمقام)، وتحتِّم
ثانيًا فهمًا جديدًا لمشكلات وضع منطقٍ موسيقي سليم؛ ففلسفة شونبرج
الجمالية في الموسيقى ترتكز على الرأي القائل إن على الموسيقى أن
تسعى إلى هدفٍ واحد يطغى على أية أهدافٍ ثانوية يمكن أن تسعى
إليها، وهو وضع منطقٍ موسيقي واضح يكون معناه مفهومًا للمستمعين
بفضل جمال هذا المنطق ووضوحه، وإلى هذا الرأي ترجع جذور الموسيقى
المعاصرة في عمومها.
ولقد كتب شونبرج يقول: «لقد كانت الضرورة هي التي أملت طريقة
التأليف بالأنغام الاثنتَي عشرة؛ فخلال المائة عام الأخيرة طرأ
تغيرٌ هائل على مفهوم الهارمونية بفضل تطوُّر التلوين الكروماتي.
وكان أول التطورات هو تحول الفكرة القائلة إن نغمةً واحدة أساسية،
هي الجذر، تتحكم في تركيب أعمدة التآلفات الهارمونية وتنظِّم
تعاقُبها؛ أي مفهوم المقامية
tonality إلى الفكرة القائلة
بالمقامية الممتدة extended
tonality، وسرعان ما أصبح من المشكوك فيه إن كان
هذا الجذر الهارموني قد ظل هو المركز الذي ينبغي أن يُردَّ إليه كل
توافُقٍ (هارموني) وكل تعاقُبٍ توافقي. كذلك أصبح من المشكوك فيه
إن كان لنغمة الأساس، أو الجذر الهارموني حين يظهر في بداية
التأليف، أو في ختامه، أو في أي موضعٍ آخر معنًى إيجابي. والواقع
أن الهارمونية عند ريشارد فاجنر قد أحدثَت تغيرًا في منطق
الهارمونية وفي قوَّتها الإيجابية. ومن نتائج هذا التغيُّر ما
يُسمَّى بالاستخدام التأثُّري
impressionistic للتوافُقات، كما
كان يمارسه ديبوسي بوجهٍ خاص؛ فكثيرًا ما كانت هارمونياته، التي لا
يُوجد لها معنًى إيجابي، تخدم غرضًا تصويريًّا هو التعبير عن
الأحوال النفسية والصور، وهكذا فإن الأحوال النفسية والصور، رغم
كونها خارجةً عن المجال الموسيقي الخالص، قد أصبحَت عناصرَ بنَّاءة
مندمجة ضمن الوظائف الموسيقية. وأدَّت إلى نوع من الفهم (أو الوعي)
الانفعالي. وعلى هذا النحو أُنزلَت المقامية عن عرشها عمليًّا، إن
لم يكن نظريًّا. وربما لم يكن هذا وحده كافيًا لإحداث تغيُّرٍ جذري
في أسلوب التأليف الموسيقي، ولكن هذا التغيُّر أصبح ضروريًّا عندما
حدث في نفس الوقت تطوُّر انتهى إلى ما أسمِّيه تحرُّر التنافر
الهارموني؛ ذلك لأن الأذن أخذَت تعتاد تدريجيًّا عددًا كبيرًا من
التنافرات الهارمونية، وبذلك تخلَّصَت من الخوف من تأثيرها «الذي
يصدم الإحساس» ولم يعُد المرء يتوقع إعدادًا هارمونيًّا لتنافرات
فاجنر أو حلًّا هارمونيًّا لتآلفات شتراوس المتنافرة، ولم يعُد
المرء يفزع من هارمونيات ديبوسي غير الوظيفية، أو من الكنترابنط
المتنافر لدى الموسيقيين المتأخرين. هذه الحالة أدَّت إلى استخدام
التنافُر الهارموني على نحوٍ أكثر تحرُّرًا مما كان الموسيقيون
الكلاسيكيون يستخدمون به تآلفات «السابعة الناقصة» التي كان يمكنها
أن تسبق أو تلحق أي تآلفٍ هارموني آخر، سواء أكان متوافقًا أم
متنافرًا، وكأنه لا تنافُر هناك على الإطلاق.»
«وإذن فما يميِّز التنافر من التوافق ليس ازدياد درجة الجمال أو
نقصها، وإنما ازدياد درجة القابلية للفهم أو نقصها.»
٣٥
ولقد كان ألبان برج Alban Berg
(١٨٨٥–١٩٣٥) أبرع موسيقيي فيِنَّا الذين اجتذبَتْهم أفكار شونبرج
الجمالية في الموسيقى. وأعظم أعماله هي الأوبرا «فوتسك
Wozzeck» المبنية على رواية كادت
أن تُنسى تمامًا لجورج بوخنر الذي مات منذ أكثر من مائة عام في
الرابعة والعشرين من عمره. وألبان برج هنا يعبِّر عن مرارة الشباب،
وعقم الحياة، ويأس الإنسان، بالغناء والأوركسترا، وذلك بانفعال
وروحٍ درامية تقرِّب بين مأساة الحياة وبين جلال الفن.
ذلك لأنه يستخدم آراء شونبرج الجمالية في طبيعة المقامات
الموسيقية، والقوة الدرامية لفاجنر، وألحان مالر الآسرة، في تصوير
عقل فوتسك المشوَّش، الذي لا يجد مهربًا من الحياة إلا في الموت.
ولا جدال في أن الموسيقى هنا جديدةٌ وفعالة وذات تأثيرٍ درامي
عميق. ومع كل ذلك فمن الممكن أن يُنظر إلى أوبرا «فوتسك»، في
التاريخ الموسيقي على أنها آخر الأوبرات الرومانتيكية في القرن
العشرين؛ ذلك لأن نَصَّها الكلامي يتعلق بالمرضى والمخبولين
والموتى. وهي أوبرا غريبة، متشنجة، إن لم تكن مغرقة في الخيال،
تمثل الانحلال الرومانتيكي الذي جعل جوته يرفع صوته محذرًا،
وشبنجلر يصدِّق عليه في ملاحظاته القائلة: إن الرومانتيكي يمثل كل
ما هو مريض، وهو حشرجة الموت للحضارة الغربية. ولكن مهما قيل عما
تتضمَّنه أوبرا برج من سبر الأغوار الباطنة للذهن بطريقةٍ نفسية
مريضة، فإن لموسيقى «فوتسك»، وكذلك أوبرا لولو
Lulu التي لم تتم، دلالةً جمالية
عميقة تتكشف لمن يستمع إليها بصبر وأناة؛ فقد كان قبل كل شيء
إنسانيًّا يستخدم مواهبه الفنية في تصوير الشر والقبح كما يتمثلان
في المجتمع. ولا شك أن اسم الرومانتيكية يحتاج إلى إيضاح لغوي حين
يُطبَّق على موسيقاه؛ إذ إنه لم يقدِّم إلى سامعيه عن طريق موسيقاه
مهربًا من الواقع، وإنما وضعهم أمام شهوة الإنسان وجشعه وجهًا
لوجه، وقال ما كان لديه من خلال تلك التجديدات النغمية التي خلقها
أستاذه شونبرج. وقد عبَّر عن مشاعره بتجميع المقامات المختلفة في
الأسطر اللحنية التي تؤدَّى في وقتٍ واحد
(Polytonality)، وبتجميع الإيقاعات
المختلفة بعضها مع بعض
(Polyrythms)؛ ففي «فوتسك» و«لولو»
يُضفي دلالةً جمالية على النظام الاثنَي عشري. وقد أثبت برج، على
نحوٍ أقوى مما أثبت شونبرج، أن الاحترام التقليدي للعلاقة بين نغمة
الأساس والنغمة المسيطرة يمكن أن يحُل محلَّه سُلَّم تكون فيه لكل
نغمة أو صوت في السلم نفس الأهمية التي لكل نغمة أو صوتٍ آخر،
وبذلك ساوى في الأهمية كلَّ درجات السُّلم الموسيقي. كذلك لم يَرَ
أي سببٍ يمنع المؤلف الموسيقي من أن يبدأ موسيقاه بأية نغمةٍ
يريدها في السُّلم، وينتهي بأية نغمةٍ يشاء.
والحق أن أولئك الذين نشَئوا منَّا على موسيقى «الكلافير المعدل»
٣٦ Well Tempered
Clavier» والذين يفخرون بأنهم يستمعون في فاجنر
إلى ما كان أسلافنا يَعجِزون عن سماعه، هؤلاء يجدون موسيقى برج
جديدةً تروع آذانهم، ويرَوْنها ذات رنينٍ نغمي، ونبراتٍ إيقاعية
متواترة. ومن جهةٍ أخرى، فإن الكثيرين منا قد تكيَّفوا موسيقيًّا
مع عصرنا مثلما تكيَّف أجدادنا مع عصرهم. وهكذا نظل نقدِّر موسيقى
برج كما نقدِّر موسيقى بيتهوفن. ونسمع من يشكو من أن تنافُرات برج
الخشنة إن هي إلا تخليطٌ بحت، وأن سطوره الغنائية لا يمكن غناؤها،
ولكنا لا ندرك مدى ضجر ربَّة الموسيقى كلما سمعَت هذا الاتهام؛
فبرج ليس أكثر تخليطًا اليوم مما كان مونتيفردي في أيامه. والواقع
أنه يعود في الأوبرات «فوتسك» و«لولو» إلى النظريات الجمالية
الموسيقية التي دعا إليها مونتيفردي، وذلك إذ يؤكِّد الكلمة
المنطوقة في الأوبرا باستخدام فكرة الكلام المرتَّل التي حاول
شونبرج استخدامها في مؤلَّفه الغنائي «بييرو لونير
Pierrot Lunaire» وكان نجاحه في
هذا المؤلَّف أقل من نجاح تلميذه برج.
ويتفق إيجور سترافنسكي Igor
Stravinsky (المولود في ١٨٨٢م) مع شونبرج على أن
السُّلم الدياتوني قد استنفَد أغراضه. وقد أظهر في البدء اهتمامًا
بنظام شونبرج الاثنَي عشري، ولكنه بدلًا من أن يستخدم نظامًا
جديدًا، كما فعل شونبرج باستخدام نظامٍ اثنَي عشري صارم، قد نحا
نحو استعمال المقامات المتعددة تؤدَّى في وقتٍ واحد لكي يُحدث
أنواعًا جديدة من التآلفات الهارمونية والتأثيرات الموسيقية. ويرى
سترافنسكي أن استخدام شونبرج للأنغام الاثنتَي عشرة بطريقته
المُفرِطة في التنظيم لا يمكن على الإطلاق أن يكون حلًّا يؤدي إلى
بناء نظريةٍ جمالية جديدة. وإنما يعتقد أن لكل قطعةٍ موسيقية
خصائصَها الفريدة في ذاتها، ولها منطقها الخاص الذي يجعلها مختلفةً
عن كل القطع الأخرى. وهو يرى أيضًا أن فاجنر قد طبَّقَ منطقًا
موسيقيًّا موحَّدًا على كل مؤلفاته الموسيقية، فلم يدرك ما عرفه
شوبنهور، وما أشار إليه سترافنسكي ذاته في المحاضرات التي ألقاها
بجامعة هارفارد من أن الموسيقى فنٌّ قائم بذاته، ينبغي ألا يتخلى
عن استقلاله في سبيل تحقيق المزج بين الفنون.
وقد قدَّم سترافنسكي في أوبرا «الملك أوديب
Oedipus Rex» برهانًا عمليًّا على
اعتقاده الجمالي بأن الكلمات ينبغي أن يكون لها قيمتها بوصفها
أصواتًا فحسب، ويجب ألا تُحوِّل انتباهنا عن الموسيقى ذاتها؛ فهو
لا يهتم بالمعنى الذهني للنص، وإنما يودُّ أن يشعر السامع بأصوات
الأسطر الغنائية وإيقاعاتها فحسب. وهذا بعينه ما فعله إرنست كرينيك
Ernst Krenek (١٩٠٠م) كما أن
شونبرج كان يرى أنه في «كل موسيقى تلحَّن شعرًا، لا يكون لدقة
تصوير الحوادث تأثيرٌ في قيمتها الفنية تمامًا، كما أن دقة الشبه
بين الشخص وصورته الفنية أمر لا أهمية له.»
ولقد كان لإيجور سترافنسكي تأثير في جيلَين من الموسيقيين يفوق
في قوَّته ومداه تأثير كلٍّ من فاجنر وديبوسي؛ فقد كانت موسيقاه،
منذ بداية حياته الفنية تتسم بطابعٍ غريبٍ جذاب يرجع إلى تلك
الألحان التي كان يقتبسها بحرية من الأغاني الشعبية الروسية. كذلك
لم يكن يتردَّد في الاستعانة بموضوعاتٍ لحنية وضعها غيره من
المؤلفين الموسيقيين. والواقع أنه يمتاز بقدرةٍ رائعة على إدماج
العناصر المقتبسة في مؤلَّفاته الخاصة، بحيث يصبغُها تمامًا بطابعه
الشخصي الخاص. كما أن الطابع الدينامي لموسيقاه، وهو الطابع الذي
يرجع أساسًا إلى إيقاعاته القوية، كثيرًا ما يكون أصله راجعًا إلى
موسيقى الجاز. وإنه ليبدو من المفارقات أن يقتبس مؤلِّف موسيقي من
غيره على هذا النطاق الواسع، ويظل مع ذلك بقدْرٍ كبير من الأصالة
وقوة التأثير. والتعليل المرجَّح لهذه المفارقة هو أن غيره من
الموسيقيين يُبدِّدون الجزء الأكبر من طاقاتهم في إخفاء ما
يقتبسونه، على حين أن سترافنسكي يصرِف معظم طاقاته في التصرف
بموسيقى الآخرين على النحو الذي لم يمكنهم هم أنفسهم أن يتصرفوا
بها، من حيث التطوير الإيقاعي واللحن.
ولقد لقِيَت المؤلفات الأولى لسترافنسكي من الغضب والثورة ما لم
تلقَه إلا مؤلفاتٌ قليلة في تاريخ الموسيقى؛ ذلك لأن تعدُّد
مقاماته، وتنافراته الجريئة وإيقاعاته البدائية، قد أذهلَت سامعيه
وحيَّرتهم؛ فالتنافر عند سترافنسكي، كما كان عند فاجنر وديبوسي، لم
يعُد قيمةً هارمونية تستخدم مَعْبرًا بين عمودٍ توافقي وآخر، أو
تيسِّر الانتقال من مقامٍ إلى آخر، وإنما كان التنافر عند هؤلاء
الموسيقيين الثلاثة يعني استخدام أي عمودٍ هارموني بأيةٍ طريقة
ممكنة للحصول على التأثير الموسيقى المطلوب. ولم يكن الإيقاع نبرًا
صوتيًّا ثابتًا، وإنما كان نبضًا حيًّا لا يظل ثابتًا أبدًا، بل
تتغير سرعته على الدوام. ولم يكن سترافنسكي يفعل في بلاده، وبصورةٍ
معدلة، إلا ما فعلَه كثير من الموسيقيين المبدعين في القرون
الماضية لكي يعبِّروا عن مشاعرهم بالموسيقى. غير أن الفلاسفة
والنقَّاد كعادتهم، لم يتبيَّنوا ذلك على الفور. ولقد كتب الفيلسوف التوماوي
٣٧ جاك ماريتان
Jacques
Maritain يقول بعد عدة سنوات من التفكير: «إنني
آسف إذ تحدَّثتُ عن سترافنسكي على نحوِ ما تحدَّثت؛ فكل ما سمعتُه
كان «طقوس الربيع
Le Sacre de
Printemps» وكان ينبغي أن أدرك عندئذٍ أن
سترافنسكي إنما كان يدير ظهره لكل ما نجده مموَّجًا عند فاجنر.
ولقد أثبت سترافنسكي منذ ذلك الحين أن العبقرية تحتفظ بقوَّتها
وتُضاعفها بتجديدها في الضوء. والواقع أن مؤلَّفاته ذات التنظيم
الرائع، التي تزهو بما لديها من حقيقة، تُعلمنا اليوم أعظم درسٍ في
العظمة والطاقة الخلَّاقة، وهي أفضل ردٍّ على ذلك الجمود أو
التقشُّف الكلاسيكي الصارم الذي هو موضوع بحثنا؛ فنقاؤه وإخلاصه
وقوَّته الروحية الرائعة هي بالنسبة إلى المنظر الضخم الخدَّاع
لبارسيفال أو «التترالوجيا»
٣٨ بمثابة معجزة موسى بالنسبة إلى ألاعيب السحرة المصريين.»
٣٩
ولقد كان بيلا بارتوك Bela
Bartok (٨١–١٩٤٥م) مثل سترافنسكي، ينظر إلى كل
قطعةٍ موسيقية على أنها عملٌ فريد له مفهومه الجمالي الواضح الخاص.
ولم يكن بارتوك يؤلِّف موسيقاه تبعًا لأي نظامٍ خاص به أو بغيره،
وإنما كان العنصران الضروريان في فلسفته الموسيقية هما تطوير
الفكرة الموسيقية، ومعالجة تطوير هذه الفكرة جماليًّا. غير أن
التكهن بما ينوي بارتوك عمله في تطوير الفكرة الموسيقية أو بنوع
المفهوم الحمام الذي قد يضعه لتجسيد الفكرة في سياق القطعة
الموسيقية، أو في معالجة القطعة بأكملها، هذا التكهن قد يكون عند
بارتوك أصعَب منه حتى عند سترافنسكي ذاته. على أن هناك أمرًا
مؤكدًا هو أن لكل قطعةٍ موسيقية أبدَعها طابعًا فريدًا خاصًّا بها
وحدها، ولا يمكن أن تكون مجرد تكملة لاتجاهٍ سابق، أو تنويعًا
لفكرةٍ رئيسية أو تحويرًا لمفهومٍ جمالي وضَعه من قبلُ في عملٍ
سابق. لقد كان من المُحال أن يُخلق على هذا النحو إلا موسيقي يتمتع
بفيضٍ لا ينفد من الأفكار الناضجة، مثل بارتوك. والواقع أن وضوح كل
إنتاجه وتميُّزه يكشف عن عقليةٍ موسيقية منظمة، تُضفي على أفكاره
ومشاعره اتجاهًا محدَّد المعالم.
إن موسيقى بارتوك بناءٌ منطقي رائع، وكل قطعة فيها تتميز في
ذاتها بالإبداع الفني. هذا أمرٌ لا شك فيه، غير أن هذه الموسيقى،
إلى جانب مزاياها الفنية الكفيلة بأن تُكسِب صاحب النظرة الخالصة
متعةً جمالية، تتضمن عنصرًا يجتذب المشاعر بقوة. ولقد كان للوحدة
المنطقية والنهائية للعمل الفني، بالنسبة إلى بارتوك وسترافنسكي،
من الأهمية ما للتأثير الانفعالي بالنسبة إلى السامع. ومع ذلك فمن
الخطأ الاعتقاد بأن أيًّا منهما قد نسي لحظةً واحدة تلك الحقيقة
الأساسية، وهي أن الموسيقى ذات جاذبيةٍ انفعالية قبل كل شيء؛ فقد
حاول بارتوك أن يؤثِّر انفعاليًّا في سامعيه بنفس الطريقة التي كان
هو ذاته يتأثر بها عند سماعه، مثلًا، للموسيقى الشعبية المجرية
والرومانية، وموسيقى البلاد المجاورة. ولم يكن بارتوك يهتم
بالدلالات الاجتماعية التي كان الفيلسوف هيردر يجدها في تلك
الموسيقى الشعبية، أو يعبأ بارتباطاتها المباشرة من حيث المعنى،
وإنما كان ما يهمُّه في هذه الألحان الشعبية هو أنها تعبيرٌ
موسيقي. وقد حاول هو ذاتُه في موسيقاه أن يعبِّر عن فكرةٍ موسيقية
متولِّدة عن الانفعال الذي ينادي انفعالًا آخر، بطريقةٍ واضحةٍ
مباشرة كانت تتسم بروح كلاسيكية بالمعنى الصحيح.
ولقد كان بأول هندميت Paul
Hindemith (المولود في ١٨٩٥م) من أبرز الشخصيات في
حركةٍ ألمانية تُعرف باسم «موسيقى الاستعمال
gebrauchsmusik» وذلك خلال السنين
الأولى من اشتغاله بالتأليف الموسيقي. والمقصود بموسيقى الاستعمال
نوعٌ من الموسيقى التي تُكتب لكي يشارك فيها الجميع، في مقابل
الموسيقى التي تُكتب ﻟ «ذاتها»؛ فأصحاب وجهة النظر الأولى يهتمُّون
بالحاجات الموسيقية للجماهير، على حين أن أنصار وجهة النظر الثانية
يؤمنون بتلك العقيدة الذاتية المُفرِطة التي كان يؤمن بها أوائل
الرومانتيكيين الألمان. وعلى ذلك فقد أكَّد قادة حركة موسيقى
الاستعمال العنصر المضاد للرومانتيكية في موسيقاهم، وضربوا هم
أنفسهم من الأمثلة ما ساعد على إنزال العازف الموسيقي البارع من
العرش الذي كان يعتليه في القرن التاسع عشر. وقد حاول أعضاء هذه
الحركة أن يقدِّموا للجماهير نوعًا من الموسيقى يمكنها فهمه
وأداؤه، وذلك حتى تصبح الموسيقى فنًّا عمليًّا يجمِّل الحياة
اليومية للناس، وكانت موسيقى الاستعمال تتميز بقوالبَ متوسِّطة
الطول، وببساطة ووضوح في الأسلوب، وصغر المجموعات التي تؤديها،
وتجنُّب الصعوبات الفنية حتى يتسنَّى أداؤها لمجموعات لم تتلقَّ
تدريبًا محترفًا.
ولقد كانت موسيقى الاستعمال ردَّ فعلٍ اجتماعيًّا وجماليًّا على
الرومانتيكية، ونظرًا إلى أن الحكومة الألمانية التي أعقبَت الحرب
العالمية الأولى كانت ذات ميولٍ اشتراكية، فإن رد الفعل الذي كانت
تمثِّله هذه الحركة على النزعة الفردية المتطرفة عند الرومانتيكيين
المتأخرين قد قوبل بارتياحٍ وعطف. كذلك أبدى العنصر الطليعي في
حركة موسيقى الاستعمال اهتمامًا بحركة إحياء باخ بين أصحاب النزعة
الكلاسيكية الجديدة في أوائل العشرين، ومن هنا فإنهم لم يقتصروا
على اقتباس طريقة باخ في التعبير الموسيقي المباشر، بل إنهم
تحدَّثوا عنه بوصفه واحدًا من الدعاة القدماء لموسيقى الاستعمال،
بذل جهوده من أجل تلبية الحاجات الموسيقية للشعب. وقد أوضح أعضاء
حركة موسيقى الاستعمال أن باخ لم يكتب لجماعةٍ من الصفوة، أو لقلةٍ
مختارة، وإنما كان يكتب لشعب الكنيسة بأكمله، أو للجمهور العام.
وهو لم يخلق موسيقاه لكي يستمتع هو ذاتُه بها، إذا ما دفعَته روحه
إلى التأليف، ومتى دفعَته إلى ذلك، وإنما كان يكدَح من يوم إلى
يوم، كما يفعل أي صانع ماهر، لكي يؤدِّي التزاماته نحو مجتمعه
وكنيسته.
ولقد أخفقَت حركة موسيقى الاستعمال بعد وقتٍ ما، غير أن «هندميت»
ظل يحتفظ في كتاباته المتأخرة بالمفاهيم الجمالية لهذه الحركة؛ فقد
ظلت الموسيقى بالنسبة إليه صنعة، لا فنًّا مستمدًا من وحي إلهي.
٤٠ وهو ينظر إلى كتابة الموسيقى على أنها عملٌ إيجابي
بنَّاء؛ فالموسيقى تُصنع، وليست مستمدة من الإلهام فحسب. هذا ما
كان هندميت خليقًا بأن يقوله، وإن يكن يبادر فيضيف إلى ذلك أن خلق
الموسيقى يبدأ بالانفعالات، وتنتهي مهمته بإثارة
الانفعالات.
كذلك كان هندميت فيما مضى مهتمًّا، لفترةٍ ما، بالآراء الجمالية
لشونبرج، ولكنه تخلى بعد ذلك عن أسلوب الاثنَي عشر صوتًا، وتحوَّل
إلى كتابة موسيقى يظهر فيها بوضوح النظام المقامي بالمعنى
التقليدي. وهو يتميز أيضًا بأنه أكثر المؤلفين الموسيقيين في القرن
العشرين اهتمامًا بالموسيقيين السابقين على باخ، وفي معظم الأحيان
تكون البوليفونية المعقدة في موسيقاه محاكاةً لفن الكنترابنط في
القرن السادس عشر، حين كانت الموسيقى صنعة لا فنًّا، وحين كانت
تُخاطب الكثرة لا القلة.