مقدمة
يحتوي هذا الكتاب على نوعين من التراجم؛ فأما أولهما فيتناول تراجم مصرية لرجال هذا العصر الأخير منذ ولاية الخديو إسماعيل باشا الحكم إلى وقتنا الحاضر، خلا ترجمة لكليوباترة كتبت قبل أن تكتب هذه التراجم جميعًا، أما سائر التراجم المصرية فنشرت في «السياسة الأسبوعية» حين كانت تنشر فيها فصول رجال التاريخ الحديث في مصر، اللهم إلا ترجمة محمود سليمان باشا فقد كتبت لمناسبة وفاته، وترجمة عبد الخالق ثروت باشا فقد كتبت ولم تنشر في غير هذا الكتاب، وربما كانت الترجمة لرجل كثروت باشا عاش بين أظهرنا وكان له دور في حياة مصر في أثناء وجودنا، مما يتعذر أداؤه بما تقضي به الدقة التاريخية وما توجبه من تمحيص ونقد، وكنت أنا شاعرًا كل الشعور بهذه الدقة في أثناء كتابتي هذه الترجمة، لكني إنما تخطيت هذه الاعتبارات لأني أردت أن أضع أمام القارئ صورة — ولو تقريبية — لحياة مصر السياسية في هذا العصر الأخير، وما دمت قد بدأت هذه الصورة منذ عصر إسماعيل باشا الخديو فقد رأيت واجبًا إتمامها إلى آخر عصرنا الحاضر، ثم ما دمت بدأتها بترجمة بعض من كان لهم في حياة مصر السياسية أثر ظاهر فمن حق ثروت باشا أن يكون ختام هذه السلسلة من عظماء الرجال الذين تناولت، على أني رأيت أن أقف في ترجمته عند الوقائع الثابتة وأن أتجنب المغامرة في الفروض والظنون، حتى لا يتعرض ما أكتب عنه لنقد يفسده وإن أمكن أن يظهر فيه نقص كثير.
فأما النوع الثاني فيتناول ترجمة بتهوفن، وتين، وشكسبير، وشلي، من كبار رجال الغرب، وهؤلاء إنما ترجمت لهم لمناسبات خاصة، ولأني أحببتهم منذ زمان طويل حبًّا جمًّا، فلما كانت مناسبات كمرور مائة عام على موت بتهوفن أو على مولد تين أو نحوهما من المناسبات، رأيت واجبًا عليَّ لهذا الحب الذي أضمر لأولئك الرجال حبًّا يعادل ما أفدت من آثارهم وما حققت لي من معاني السرور بها والطرب لها — أن أثبت صورة هذا الحب بإثبات صورة من حياتهم هي الصورة الممتلئة بها نفسي منهم.
وكم وددت لو أني استطعت أن أجعل الكتاب كله تراجم مصرية صرفة، بل لو استطعت أن أظهره في عدة أجزاء تصل التراجم فيها بين عصور مصر المختلفة منذ عهد الفراعنة إلى وقتنا الحاضر، فما أشك في أن كتابًا كهذا يمكن أن يكشف من تاريخ مصر عن صلة عصورها بعضها ببعض وعن جهود المصريين المتصلة منذ أول التاريخ إلى عصرنا الحاضر في سبيل الحق والحرية والعرفان، على أني أعترف بأن عملًا كهذا مما لا يطيقه شخص وحده، ومما لا أطيق أنا بنوع خاص، فإنني لم أتخصص في التاريخ ولم تَمِلْ بي حياتي العملية نحوه إلا بمقدار، ثم إن تاريخ مصر في مختلف عصورها ما يزال مبعثرًا في أطواء الكتب القديمة، لم يُعنَ أحد، ولم تُعنَ الجامعة المصرية نفسها، بالكشف عنه كشفًا علميًّا صحيحًا وبتدوينه على طريقة تجعله عذبًا سائغ المورد لمن يشاء أن يصل إلى الحقائق فيه من غير أن تصده الطريقة السيئة أو اللغة المضطربة أو القصد السيئ، وإذا كنت قد وقفت على تاريخ مصر بشيء من الدقة في العصور الأخيرة فذلك حين كتابة رسالتي للدكتوراه في القانون عن «دين مصر العام»، فقد اضطرني ذلك إلى الانقطاع لدراسة التاريخ الحديث منذ عهد والي مصر سعيد باشا والإكباب على هذه الدراسة شهورًا متوالية وتدوين الملاحظات، والوقوف عند الأشخاص الذين كان لهم في حياة مصر السياسية في أثناء هذا العصر الأخير دور خاص، ولا يزال كثير مما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي ثم لم تقتضِ حاجة رسالتي تدوينه بها عالقًا بذهني ممثلًا أمام خيالي صورة مصر منذ أيام محمد علي، وصور الكثيرين ممن لعبوا دورًا خاصًّا في حياتها، فأما قاسم أمين فقد عنيت بقراءة كتبه وكل ما كتب عنه مذ كنت في مدرسة الحقوق بمصر، فتكونت في نفسي منه فكرة أحسبها دقيقة غاية الدقة، وأتاح لي اشتغالي بشئون مصر السياسية في السنوات الأخيرة أن أضبط صور من ترجمت لهم من هؤلاء جهد ما واتتني به الطاقة.
وإنَّ كتابًا كالذي أشرت إليه حاويًا تراجم أكابر رجال مصر في عصورها المختلفة منذ الفراعنة إلى اليوم، يكون لا ريب جليل الأثر في تكوين صورة تاريخية لهذا الوادي الجميل الذي نعيش فيه، صورة تظهر اتصال الحياة على ضفاف نهره المبارك منذ أقدم الأزمان إلى وقتنا الحاضر، ثم إن مثل هذا الكتاب ليدل دلالة كبرى على بطلان الصورة الزائفة التي يضعها مؤرخو الغرب لتاريخ مصر، فالواقع أن تاريخ بلادنا لم يصُغْه حتى اليوم مؤرخ منصف على طريقة علمية صحيحة، اللهم إلا ما تعلق ببعض جوانب العصر الفرعوني من عصوره، فأما ما بعد ذلك من عصور فقد شوهه الساسة الأجانب لمآربهم الخاصة منذ القدم: شوهه العرب الذين خلفوا الرومان في مصر، كما شوهه نابليون حين قدومه بالحملة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر، ثم كان لكتاب الإنجليز بعد ذلك النصيب الأوفى من تشويهه تشويهًا قائمًا على ذلك الأساس الاستعماري من أن شعب مصر قد ظل محكومًا منذ انتهى عهد الفراعنة بأمم أجنبية عن مصر، بالفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك، ثم الإنجليز، وشعب هذا شأنه — فيما يدعون — لا يعرف لنفسه عليه كرامة يضحي في سبيلها ولا يقدر للعزة القومية معنى يثور من أجل تحقيقه، وما يزال هذا التاريخ هو — مع الكثير من الأسف — التاريخ الرسمي الذي دُرِّس لنا ويُدرَّس اليوم لأبنائنا، هذا، على أن التاريخ الصحيح والتراجم الحقة تنادي بكذب هذه الصورة من حياة مصر على تعاقب الأزمان وببطلانها.
ولست واثقًا من أن تمكنني الفرص من الرجوع إلى تواريخ هذه العصور القديمة وإلى تراجم الرجال الذين عاشوا فيها لأثبت حينئذٍ في شيء من التفصيل أن تاريخ مصر جدير بأن يفخر المصريون به أكثر مما يفخر غيرهم من أبناء أية أمة أخرى بتاريخها؛ لذلك أسارع فأنتهز فرصة نشر هذا الكتاب المشتمل على تراجم بعض رجال مصر في العصر الأخير، وعلى ترجمة كيلوباترة خاتمة عهد البطالسة في مصر، لأبين زيف الصورة التي يصورها الساسة الاستعماريون، ولأظهر للقارئ في كلمات موجزة كيف دل ما تداول على مصر من ألوان الحكم على أن شعبها أعرق الشعوب حرصًا على قوميته وأكثرها تضحية في سبيل الحق والحرية والعرفان.
على أني قبل أن أعالج هذا البيان أود أن أثبت للحقيقة أن بعض الذين أرَّخوا مصر من أهل الأمم المختلفة كانوا حسني النية، ولكنهم خُدعوا بتمويه الساسة، وما أشك في أنهم متى اطلعوا على هذه المقدمة الوجيزة سيعودون إلى الحق يقررونه وسيعترفون لمصر بمكانتها التاريخية السامية.
ولعل ما خُدع به هؤلاء المؤرخون الحسنو النية هو ما تواضع عليه الكتاب من تبويب تاريخ مصر عصورًا أطلقت عليها أسماء أمم غير مصرية، فمن بعد العصر الفرعوني يذكرون عصر الفرس، ثم العصر اليوناني، ثم العصر الروماني، ثم العصر الإسلامي أو عصر العرب، ثم عصر الترك، ثم العصر الأخير عصر الاحتلال الإنجليزي، وتبويب التاريخ على هذه الصورة من شأنه أن يدعو إلى الخطأ وسوء التقدير من جانب من لا يكلفون أنفسهم مؤونة البحث في التفاصيل بشيء من الدقة، والواقع أن هذا التبويب خاطئ في أكثر مناحيه، وإذا كان صحيحًا أن الحكام الذين تولوا أمر مصر في عصور مختلفة لم يكونوا من أصل مصري صميم فلن يغير ذلك من خطأ المؤرخين وادعائهم خضوع مصر لأمم أجنبية عنها، إلا إذا اعتبرنا قيام ملك كملك الإنجليز على رأس أكبر إمبراطورية في الوقت الحاضر — مع أنه من أصل غير إنجليزي — دليلًا على أن إنجلترا والإمبراطورية البريطانية كلها خاضعة للأمة التي يرجع إليها دم مليكها، وهذا لغو من القول، كما أن ادعاء خضوع مصر لأمم أجنبية عنها هي التي يرجع إليها أصل حكامها لغو مثله، وليس هذا المثل الذي ضربنا بالمثل الفرد، فنابليون إمبراطور فرنسا كان من كورسيكا، أي كان أقرب للإيطالية منه للفرنسية، وأكثر الملوك الباقين على عروش أوربا اليوم من دماء غير دماء الشعوب التي ملَّكتهم عليها، وليست هذه الشعوب لذلك أقل حرية واستقلالًا وعظمة مما كانت مصر في أكثر العصور التي تعاقبت عليها.
ولنعد الآن إلى تاريخ مصر نفسه، فالكل يعترف لمصر الفراعنة بأنها كانت أمة عزيزة الجانب مضيئة الحضارة على نحو لا يمكن أن تتسرب إليه الشبهة مع قيام الآثار القديمة شاهدة به محدثة عنه بأقوى عبارة وأفصح لهجة، مع هذا فقد منيت مصر الفراعنة بغزو الرعاة الهكسوس إياها مدة استمرت نحو تسعين سنة، حتى استرد المصريون تاج بلادهم سنة ١٥٨٠ قبل الميلاد، وظلت مصر من بعد ذلك متحكمة في البلاد المجاورة لها ممتدة السلطان على حوض البحر الأبيض المتوسط، وفيه روما واليونان، إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد، هنالك كانت الحضارة الإنسانية على ضفتي النيل قد بلغت من الرقي والترف ما تشهد به الآثار التي ترى أعيننا شيئًا منه.
وهنالك بدأت آشور، ومن بعدها فارس، تفكر في غزو مصر، ومع غلبهم إياها ودخولهم عاصمة ملكها غير مرة فإنهم لم يستطيعوا الاستقرار بها وتولي الحكم فيها إلا فترات قصيرة انتهت في سنة ٣٣٢ قبل الميلاد.
قبيل هذا التاريخ نشأ في شمال اليونان فليب المقدوني وخلفه من بعده الإسكندر الأكبر، وكانت الطبيعة قد وهبتهما — ووهبت الابن بنوع خاص — من المقدرة في القيادة الحربية ما يدخل في باب المعجزات، وحيث يظهر في الناس نصف إله في الحرب أو في الدين أو في السياسة ترى العالم كله يتطلع معجبًا مسحورًا، وقد دوخ الإسكندر روما وآشور والفرس ووصل إلى الهند، ولم تكن أمة من الأمم تستطيع مقاومته، أما أمم أوربا الغربية والشمالية فكانت في تلك الأيام في حال من الهمجية أشبه بحال أواسط أفريقيا اليوم مما يجعلها نكرة على التاريخ، ولا يجعل لأية مقارنة بينها وبين غيرها محل، وجاء الإسكندر إلى الشام ففتحت أمامه مصر أبوابها في سنة ٣٣٢ التي أشرنا إليها؛ لأنها رأت فيه مدوخ الفرس، وكانت بينها وبين الفرس عداوة أشد العداوة، وبقيت مصر في حكم الإسكندر، وإن شئت في حكم اليونان تسع سنوات، إذ مات الإسكندر في سنة ٣٢٣ق.م ثم اختلف قواده من بعده فيما بينهم، وكان بطليموس بن لاجوس من أقدرهم ومن أعرفهم بمصر وأشدهم حبًّا لها.
وإذا كانت مصر بحاجة إلى رجل ذي مواهب حربية ممتازة يستطيع أن يصد بقواها عدوان من يحاول الاعتداء عليها، فقد اطمأنت إلى بقاء بطليموس مستقلًّا بها مستقلة هي به، وحدث ما أراد المصريون من ذلك، فإن هذا البطل من قواد الإسكندر جعل الإسكندرية قاعدة له ومنها حارب الآشوريين والفرس وحارب اليونان أنفسهم، ووطد لمصر سلطانًا أعاد لها ولحضارتها عز الفراعنة الذي اضطرب وتزعزع خلال القرون الثلاثة التي سبقت ولايته عرش إيزيس وأوزوريس.
ومع أن بطليموس الأول هذا كان أشد حرصًا على طقوس الديانة اليونانية التي نشأ فيها فإن ابنه بطليموس الثاني كان مصريًّا في دينه مصريًّا في عاداته مصريًّا في دمه، ولا عجب، فمصر — بعزلتها عن العالم لما يحيط بها من البحر في شمالها والصحارى في سائر جهاتها — هي عالم وحده تخلق الناس فيها خلقًا وتسكب في عروقهم دماء تجري فيها روح النيل وقوة سلطانه؛ ولذلك كان كل الذين أقاموا بمصر إما تمثلتهم مصر فأصبحوا مصريين، أو لفظتهم فلم يطيقوا ولم يطق أخلافهم من بعدهم بها مقامًا.
وبلغ من حب بطليموس الثاني مصر وحب مصر إياه أن أصبحت الإسكندرية عاصمة العالم كله حضارة وعلمًا وإيمانًا، وإن اجتمعت فيها فلسفة اليونان المادية بفلسفة مصر الروحية، ثم نشأت منهما فلسفة مصرية خاصة هي فلسفة مدرسة الإسكندرية، وكانت مصر هي سيدة البحار في ذلك العصر، فكانت سياستها موضع النظر والتأويل في روما واليونان وآشور والفرس وسائر بلاد العالم المعروف حينئذٍ، وتعاقب البطالسة حتى كليوباترة في حكم مصر ثلاثة قرون متوالية، تعاقب البطالسة على عرش مصر بإرادة شعب مصر مستقلين به مستقلًّا هو بهم قائمين باسمه ناشرين على ربوع العالم المعروف يومئذٍ لواءه، فهل يكون نعت هذا العصر من تاريخ مصر بالعصر اليوناني معناه خضوع الشعب المصري لأمة أخرى؟ أو يكون ذلك التصوير باطلًا البطلان كله لأن شعوب العالم ومنها الشعب اليوناني هو الذي خضع لمصر في كل تلك القرون الثلاثة، وكان يرى في الإسكندرية عاصمة الدنيا كلها؟
وفي أواخر عهد البطالسة بدأ نجم روما يعلو في سماء السياسة العالمية، وبدأت روما تطمع في التغلب على مصر بعد أن كانت تخطب ودها وتخشى غضبها، وكما وهبت الأقدار الإسكندر المقدوني المقدرة الحربية التي استطاع بها أن يتغلب على كل شعوب العالم المعروف يومئذٍ، كذلك وهبت هذه الأقدار مثل تلك المقدرة يوليوس قيصر صاحب عرش روما، فلقد ظفرت جيوش قيصر بالشعوب كلها ورفت راية روما على اليونان والشام، وامتدت غزواتها إلى ناحية آشور، ثم سارت شمالًا وغربًا فأخضعت السكسون في ألمانيا والفرنسيين في بلاد (الجول) وأخضعت أهل الجزيرة البريطانية لحكم قيصر، فإذا كانت هذه الأقدار قد عصفت بمصر فلم تكن مصر لذلك متفردة بالخضوع دون غيرها من أمم العالم، وصحيح أن حكم روما لمصر عن طريق حاكم تبعث به إليها ظل متتابعًا قرونًا عدة، لكن الصحيح كذلك أن هذا الحاكم كان يجد أكثر الأمر أشد العنت في حكم البلاد، وكان يتعرض للثورات المتوالية تقوم عليه وتضطر روما معها للاحتماء بالإسكندرية أحيانًا تاركة داخلية البلاد يحكمها أهلها، وتتمكن أحيانًا أخرى من قمع هذه الثورات والتغلب عليها وإخضاع مصر لنير روما قهرًا عنها.
والمؤرخون جميعًا متفقون تمام الاتفاق على أن السكينة والأمن لم يسودا مصر طول هذا الذي يسمونه العهد الروماني، فإن روما كانت — كما كانت بيزانس من بعدها — دائمة الوجل من ناحية مصر من خشية أن ينقطع عنها مدد الغلال التي كانت مصر تبعث بها غذاء لأهل عاصمة العالم في ذلك الحين، ولم تكن أسباب الاضطراب يومئذٍ مقصورة على الناحية السياسية، بل خلق المصريون منها في سائر النواحي ما ارتبكت روما معه وما اضطرت بسببه لارتكاب الفظائع التي لا يزال تاريخها ملطخًا بها، من هذه الأسباب السبب الديني؛ فقد كان الدين المصري القديم بعد اختلاطه بالتعاليم اليونانية قد قصر عن أن يلهم الشعب ما يلهم كل دين من طمأنينة النفس وسعة الأمل، وكانت المسيحية الوليدة في روما قد بدأت تنتقل إلى مصر رويدًا رويدًا، وكان الطبيعي أن يلقى الدين الجديد في مصر قبولًا حسنًا، فقد كان اليهود في مصر كثيري العدد جدًّا، وكانت الديانة اليهودية تتصل في كثير بالديانة الفرعونية القديمة أن كان موسى مصريًّا تلقى الطقوس أيام شبابه على كهنة إيزيس، وكان الاضطهاد الروماني مما جعل الناس أشد إقبالًا على دين يدعو إلى الإخاء والسلام والتسامح، ويعد الجنة المحروم والبائس والمظلوم، على أن خلافًا في الرأي الديني ما لبث أن نشأ في مصر بين المتشبعين من قبل بتعاليم الفلسفة اليونانية والآخذين بروحية الديانة المصرية القديمة، وكم أثار هذا الانقسام الديني من خلاف! وكم اتخذ سببًا خفيًّا للثورة على روما ومحاربتها والتغلب في بعض الأحايين على ولاتها وحكامها واستقلال أهل مصر بالحكم في مختلف ولاياتها.
وكذلك نرى أن مصر قد تمثلت البطالسة وهضمتهم طبيعتها فأصبحوا مصريين كسائر المصريين وإن كانوا من أصل يوناني، فأما الرومانيون الذين أرادوا الاحتفاظ برومانيتهم وحكم مصر على غير إرادة أهلها، فقد ظلوا تناهضهم عناصر الحياة في مصر حتى انجلوا عنها كارهين، وكذلك كانت دورات التاريخ في مصر دائمًا؛ فمن خضع لحكم الطبيعة المصرية القوية في تمثلها من ينزل ربوعها كان له أن يطمع في نعيمها وأن يستريح إلى خيرها ورخائها، ومن حاول محاربة هذه الطبيعة المصرية كانت عليه حربًا عوانًا، لكنها لا تلجأ في حربها إلى العواصف الاجتماعية التي تثور فجأة مرة بعد أخرى، كلا! بل هي تلجأ في الناحية السياسية والاجتماعية إلى مثل ما تلجأ إليه الطبيعة المصرية من شمس وهواء ونهر وأرض ورمال، هذه الطبيعة لا تعصف بشيء أجنبي عنها ولكنها تظل حتى تبليه وتفنيه.
وانتهى حكم الرومان وعقبه العصر الإسلامي لتكتب مصر خلاله صحف مجد في تاريخها كأمة مستقلة ناهضة بأعباء الحضارة في العالم على نحو ما كانت مصر الفراعنة، تاركة من آثار ذلك مثل ما تركوا مما لا يزال شهيدًا على العظمة والجلال وتقدُّم المدنية وارتقاء آثارها من علم وفن إلى أبعد حدود الارتقاء، فقد نهض العرب منذ أوائل القرن السابع الميلادي نهضة روحية بفضل الإسلام أعقبتها نهضة حربية قوية متأثرة بها لا تقل في اندفاعها اكتساحًا لغيرها من الأمم عن نهضة الإسكندر في اليونان وقيصر في روما.
ولم تقف مصر في وجه تيار هذه النهضة أن شامت في الدين الجديد جدة روحية كانت تشعر بالحاجة إليها شعورًا عميقًا، فإن المسيحية — على أنها دين فضل وجمال — قد خالطت طقوسها صور من الزهد والتقشف والانقطاع بما لا يتفق مع طبيعة وادي النيل الدائم الصفو الدائم الابتسام، وهذا التنافر بين ابتسام الوادي وعبوس التقشف، جعل دعاة المسيحية في مصر يبالغون في ميلهم إلى جانب الانقطاع والزهد، ويفضلون العيش في صوامع خشنة فوق رمال الصحراء المحرقة، وذلك لفرط خوفهم من زخرف الوادي وغضارة نعيمه، وبالرغم من قيام طائفة من المصريين المسيحيين تحاول التوفيق بين تعاليم دين عيسى وفيض النيل ببركاته فإن دعاة الزهد والتقشف كانوا أصحاب الغلب.
فلما أذن مؤذن المسلمين بأن التقرب إلى الله لا يصد عن المتاع بالدنيا ونعيمها، دخل المصريون في دين الله أفواجًا، وآوت مصر من العرب حملة هذا الدين وحماته كلَّ من تستطيع أن تؤويه، ولم يكن ذلك عجبًا في أرض الأنبياء، ولا هو كان عجبًا في عصر لم تكن الفكرة القومية فيه قد نمت النمو الذي نعرف اليوم، فالأماكن المقدسة في مكة والمدينة كانت معتبرة في نظر المسلمين جميعًا عاصمة المملكة الإسلامية كما كان الخلفاء الراشدون، ثم أمراء المؤمنين من بعد، معتبرين كلمة الله على الأرض تجب لهم على كل مسلم الطاعة المطلقة.
لكن غريزة القومية كانت قوية في مصر بسبب عزلة مصر عما جاورها، يفصل بينها وبين كل جار من البحار أو الصحارى ما لا يسهل اجتيازه؛ لذلك لم تلبث خلافة الراشدين أن انتهت وأن قام يزيد بن معاوية أميرًا للمؤمنين خلفًا لأبيه حتى بدأت نذر الانتقاض على السلطة المركزية تبدو في مصر برغم أنها كانت حلقة وسطى في سلسلة الفتوحات الإسلامية المستمرة المتوالية ذاهبة إلى الغرب حتى تصل إلى مراكش كي يغزو موسى بن نصير الأندلس منها متخطيًا جبل طارق، ولم يكد حكم بغداد وسلطان الدولة العباسية يستقر ويطمئن حتى بدأت مصر تقوم مستقلة استقلالًا ناجزًا صحيحًا: استقلت أول أمرها حين قامت الأسرة الطولونية بالحكم فيها، ونازع الإخشيديون الطولونيين وغلبوهم واستقلوا بعرش مصر، ثم جاء الفاطميون من ناحية المغرب فأجلوا الإخشيديين وأسسوا بمصر دولتهم بفضل قائدهم جوهر الصقلي الذي أنشأ القاهرة، واعتلى الأيوبيون العرش من بعد الفاطميين.
وفي هذه القرون المتوالية كانت مصر مستقلة بشئونها بالغة في أحيان كثيرة المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية صاحبة الغلب على أمم العالم جميعًا، ولن ينسى أحد من ذلك فضلها العظيم في الناحية العلمية والأدبية، فقد كان الجامع الأزهر منذ أنشأه الفاطميون الجامعة الإسلامية الأولى، سواء كان ذلك في أول عهد الفاطميين حين كانت التعاليم الشيعية تلقى من فوق منابره، أو كان في العهد السني الذي جعل له حتى عصرنا الحاضر المقام الأول بين الجامعات الدينية الإسلامية.
ثم لن ينسى أحد كذلك ما كان لمصر من مجد وفخار في الحروب الصليبية حين تألبت أوربا تريد أن تغلب المسلمين على أمرهم في الأماكن المقدسة بفلسطين، وتضع يدها عليها باسم الصليب؛ فقد كانت الجيوش المصرية المظفرة هي التي صدت أكبر الغارات وأشدها هولًا. واسم صلاح الدين الأيوبي باقٍ على الزمان بقاء الزمان كلما ذكرت تلك الحروب، وهزيمة لويس التاسع في المنصورة وسجنه بها باقٍ كذلك شهيد على مجيد فعال مصر في صد الغارة الصليبية.
وكان هذا كله والدولة العباسية ببغداد لا تزال باقية ولا يزال لها اسم دولة الخلافة مما أدى بطائفة من المؤرخين للوقوع في الخطأ واعتبارهم هذه القرون المتوالية على مصر، وهى متمتعة باستقلالها مقيمة من صروح الحضارة والعلم ما فاق كل ما عرفت بغداد، بعض ما توالى على مصر من ظلم وما ناء به أهلها من مهانة وذل.
وليس بي حاجة إلى العود للقول بأن قيام أفراد من دم غير مصري على عرش مصر لا يدل على أن مصر كانت تابعة لأمة أخرى؛ فالملوك في أكثر الأمم وفي مختلف عصور التاريخ لم يكونوا أكثر الأمر من أهل تلك الأمم إذا أنت تقصيت أصل مولدهم، لكنهم وقد عظموا بها كما عظم بمصر ملوك مصر فقد نسبوا إليها على حين يصر المؤرخون على نسبة ملوك مصر لبلاد غير مصر، والغلو في ذلك إلى حد القول بأن مصر وملوكها كانوا تابعين لدولة أخرى، وهم يقولون: ألم يتولَّ أحمد بن طولون أمر مصر من قبل العباسيين وإن استقل من بعد بها؟ إذًا فمصر ولاية عباسية، والحقيقة أن الخلافة الإسلامية في تلك العصور كانت قد انحلت عنها الصبغة الزمنية وبقيت لها السلطة الروحية وحدها، فكانت تبعية كثير من الدول الإسلامية لها شبيهة كل الشبه بتبعية الدول المسيحية لبابا روما، واستقلال الأمم وسيادتها لا شأن لها بالسلطان الروحي، وإنما مرجع أمرهما إلى السلطان الزمني، فما دام في عاصمة مملكة من الممالك كل أمر هذه المملكة الزمني فليكن لها من الاتصال الروحي بمكة أو بدمشق أو ببغداد أو بروما ما تشاء، فلن يغير ذلك قليلًا ولا كثيرًا من أنها أمة كاملة الاستقلال، والأمر الذي لا ريبة فيه أن الخلافة الإسلامية انحلت عنها السلطة الزمنية انحلالًا فعليًّا من بعد خلافة المأمون ومنذ بدأ المعتصم يضطرب في حكم الدولة العربية وحدها، هذا إلى أن أولئك الذين حكموا مصر من طولونيين وإخشيديين وفاطميين وأيوبيين كان شأنهم شأن طوائف تماثلهم في أكثر بلاد أوربا حضارة ورقيًّا، طوائف جاءت إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وغير هذه من الدول من بلاد أخرى في بعض الغزوات، وكانت في ركاب الغازي ثم اندمجت من بعد ذلك في الشعب، وظل لها مع ذلك من تاريخها ما يحفظ لها في نظام الطوائف أقرب مكان من العرش، فهي أبدًا تتطلع إلى مقامه وكثيرًا ما تصل إلى ارتقائه.
واستمر حكم الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية بمصر من سنة ٨٦٨ إلى سنة ١٢٥٠، ومن بعد هذا التاريخ ازداد انحلال السلطان الروحي للخلافة وزالت الدولة العباسية نفسها من بغداد، واستولى التتار على أكثر ممتلكاتها الآسيوية، أما مصر فقد استمرت تخطو إلى الأمام خطوات واسعة في سبيل التقدم والحضارة، وكان المماليك هم الذين حلوا محل الدولة الأيوبية في الحكم، والمماليك هم بعض هذه الطوائف التي أشرنا إليها والتي تجيء في ركاب الغزاة، ثم تصل في كثير من الأحيان إلى عرش البلاد بإقرار أهل البلاد أنفسهم، وهؤلاء المماليك كانوا قد جاءوا إلى مصر في بلاط حكامها الذين سبقوهم والأيوبيين منهم بنوع خاص.
ظلت الآداب العربية إلى عهد السلاطين البحرية والبرجية الشراكسة حافظة مكانتها التي كانت لها من قبل، وإليهم يرجع الفضل في إنقاذ آداب العربية من غزوات المغول التي كادت تقضي على العلوم والآداب العربية في الشرق، فكانت مصر ملجأ للناطقين بالضاد ممن فروا أمام التتار في العراق وفارس وسوريا وخراسان، وبقيت لغة حكومتها عربية في عهد تينك الدولتين، واستظلت العلوم والآداب العربية بحماية الملوك والسلاطين في مصر، ونبغ فيها طائفة من فطاحل الشعراء والأدباء والعلماء، كالبوصيري صاحب البردة، والسراج الوراق، وابن نباتة المصري، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، والأبشيهي صاحب المستطرف، وابن منظور صاحب لسان العرب، وابن هشام النحوي العظيم الذي يقال فيه إنه أنحى من سيبويه، وابن عبد الظاهر، والنواجي — نسبة إلى نواج إحدى قرى مديرية الغربية — صاحب حلبة الكميت، والقسطلاني المحدث المشهور، وشمس الدين السخاوي صاحب الضوء اللامع، وابن خلكان المؤرخ المشهور صاحب وفيات الأعيان، والصفدي صاحب الوافي، وابن حجر المؤرخ إمام الحفاظ والمحدثين في زمانه، والعيني المؤرخ والمحدث، وابن وصيف شاه، وابن دقماق، والمقريزي صاحب الخطط، والمكين بن العميد، وأبو الفداء المؤرخ الجغرافي المشهور صاحب تقويم البلدان، والذهبي، والنويري صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب، وابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وابن عقيل، وابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة، وجلال الدين السيوطي صاحب التآليف الشهيرة في التفسير والعلوم الشرعية والتاريخ والأدب واللغة وهو آخر من ظهر في ذلك العصر من كبار العلماء بمصر، والدميري صاحب حياة الحيوان، وابن إياس المؤرخ الذي أدرك الفتح العثماني، وقد استضافت مصر في ذلك العصر جماعة من أئمة العلوم والفلسفة في الشرق، كالإمام ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وفيلسوف المؤرخين ابن خلدون.
ونضع كذلك تحت نظر القارئ هذه العبارة من كتاب «صفحات في تاريخ مصر» للأستاذ توفيق حامد المرعشلي، ليرى منها مبلغ ما وصلت إليه مصر أيام المماليك من عظمة في نواحي حياتها الاقتصادية والسياسية، قال: «إن عصر المماليك يعد من عصور الرخاء والنشاط التجاري والاقتصادي بمصر، فكانت الصلة بين مصر ودول أوربا موطدة الدعائم، عقدت المعاهدات مع فرنسا وجمهوريات إيطاليا لحماية التجار الأجانب وترغيبهم في الإقامة بمصر، فراجت الأسواق التجارية وصارت مصر الملتقى التجاري بين الشرق والغرب سواء أكان بمرور التجارة من مصر فالبحر الأحمر إلى الهند، أم من الشام إلى العراق فالخليج الفارسي إلى بلاد العجم والهند وبالعكس من الطريقين، بما عاد على المماليك وخزانتهم وعلى المصريين ضمنًا بالأموال الطائلة التي كانت تجبى من المكوس والحركة التجارية.» فأما رقي الفنون، وفن العمارة منها بنوع خاص، فتشهد به الآثار الكثيرة الموجودة بمصر ومنها المساجد والمنازل الأثرية بمشربياتها وأبهائها البديعة التنسيق الرائعة الجمال.
وليس إنسان يقرأ هذا الذي بلغت إليه مصر في عصر المماليك من سؤدد وعلم وحضارة إلا يقف ذاهلًا: ألم يكن الأثر الباقي في نفوسنا لما تعلمنا عن تاريخ مصر في هذه الفترة أنها تعتبر عصرًا مظلمًا في تاريخ مصر؟ فكيف يذر العصر المظلم كل هذه الآثار المضيئة؟! قد نفهم القول بأن حكومات مصر في ذلك الزمن كانت حكومات استبدادية وأن الفكرة الديمقراطية كانت معدومة يومئذٍ، وإنما كان يقوم نظام الطوائف مقامها، لكن هذا لا يعني شيئًا ولا يخفى ما لتاريخ مصر في أثناء عصر المماليك من سناء ساطع، هو لا يعني شيئًا لأن أمم العالم كله كانت يومئذٍ محكومة على نظام استبدادي تؤيده الطوائف المعزوة رياستها إلى مقام الحاكم بما يجعلها ذات مشورة، إن لم تكن ذات رأي في تصريف الشئون العامة، وما دام هذا النظام قد أنبت كل تلك الثمرات اليانعة التي تفخر بها مصر وتضعها في الغرة من تاريخها، فذلك الدليل على أنه كان النظام الصالح في العصر الذي قام فيه، فليس نظام للحكم يحمد لذاته أو يذم لذاته، ولكنه يحمد أو يذم بقدر ما يؤتي من صالح الثمرات أو من سيئها، وبقي هذا العصر الزاهر في تاريخ مصر من سنة ١٢٥٠ إلى سنة ١٥١٧.
وكما اكتسح الإسكندر الأكبر العالم فعنت له أممه ثم فتحت مصر له آخر الأمر أبوابها، وكما أتاحت الأقدار ليوليوس قيصر أن يصنع بالعالم صنيع الإسكندر من قبل، مما جعل مصر تذعن لسلطان روما مع مداومتها الثورة عليه، كذلك اكتسح الأتراك العالم في القرن الخامس عشر وقضوا على الدولة البيزنطية باستيلائهم على القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ وأوغلوا بعد ذلك في أوربا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، وقد بقيت مصر مرهوبة مهوبة الجناب عندهم برغم ما كان من كل تلك القوة لهم حتى سنة ١٥١٧ حين نزلها السلطان العثماني سليم بعد حرب تم له فيها النصر على السلطان الغوري في موقعة بالشام على مقربة من حلب وعلى طومان باي الذي كان قائمًا مقامه بالقاهرة.
وحكم الأتراك مصر على الطريقة التي حكمتها بها روما، وكان أول ما صنعوا أن أخذوا الخليفة العباسي إلى الأستانة حيث جعله السلطان سليم يتنازل عن الخلافة التي أصبحت من يومئذٍ في آل عثمان حتى قضى مصطفى كمال عليها في سنة ١٩٢٣، ثم جعلوا يوفدون إلى مصر واليًا حرصوا على ألا تطول مدته بمصر من خشية أن ينظم جيشها ثم يقهر الأتراك به ويعيد إلى مصر استقلالها على نحو ما حدث في عهد البطالسة، وأوقفوا ما كان بمصر من مظاهر الحضارة بأن أخذوا إلى عاصمتهم كل رجال العلم والفن والصناعة في مصر، ولم يعوضوها شيئًا، وظل الحال على ذلك إلى أواخر القرن السابع عشر حين بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها إلى تركيا، حينذاك بدأ المماليك، الذين ظلوا طوال مدة ولاية تركيا حكام الأقاليم، يفكرون في استعادة السلطة والاستقلال بمصر، وكان هؤلاء المماليك قد أصبحوا — كما أصبح اليونان والعرب من قبل — مصريين، فكانوا يقفون متكاتفين مع شعب مصر في وجه الوالي الذي تبعثه الأستانة كما كان أسلافهم من قبل يقفون في وجه الحاكم العسكري الذي تبعثه روما، وكان هذا الوالي التركي الذي لم يندمج في مصر ولم يتمثل روحها يظل سجينًا في قلعة القاهرة لا سلطان له على أحد ولا على شيء فيها، وكان المماليك والشيوخ الذين يمثلون الطبقة المتعلمة إذا رأوه على غير ما يريدون بعثوا إليه رسولًا يُطلَق عليه اسم (الأوده باشي) يدخل عليه ويطأطئ الرأس احترامًا له ثم يلمس طرف السجادة ويطويها ويقول مناديًا للوالي: «انزل يا باشا»، ويكون هذا أمرًا للوالي صادرًا له من المصريين لا يستطيع له مقاومة ولا تستطيع تركيا له نقضًا، وبلغ الضعف بالوالي التركي أن كان طوال القرن الثامن عشر واليًا بالاسم لا سلطة له ولا عمل أكثر من إرسال الخراج إلى تركيا، ودفع هذا الضعف علي بك الكبير إلى التفكير في الاستقلال بمصر وتم له من ذلك ما أراد، وظل ثلاث سنوات تلقب فيها بسلطان مصر وخاقان البحرين، على أن سوء سياسة الحكم في تركيا وما كان من تدميرها كل أسباب الحضارة في مصر في أثناء القرن الأول من استبدادها بها، نضح على هؤلاء المماليك فجعلهم يسيرون مع الشعب أسوأ ما يسير مستبد جائر، مما شوه اسم أسلافهم المماليك الذين ارتفع اسم مصر في عهدهم على مكان من العزة لا ينال.
وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة ١٧٩٨ فقاومها المصريون أشد المقاومة حتى انتهت بالجلاء عن البلاد بعد ما نقلت إليها أفكار الثورة الفرنسية وأسباب الحضارة الغربية، وبعد أن فتحت عيون المصريين على حياة جديدة هي التي يدأبون اليوم لتوطيدها واتخاذها وسيلة لعود مصر إلى مجدها وقوتها.
وجاء محمد علي باشا واليًا من قبل تركيا على مصر فقضى على المماليك، ثم استمال إليه علماء مصر وأعيانها ووجهاءها، وفكر طوعًا لإرادتهم في الاستقلال بها، وأعلن ذلك بالفعل وغزا الدولة العثمانية في الشام وفي الأناضول ووصل حتى صار على ثلاث ساعات من الأستانة، وكان مخضعًا سلطان تركيا لولا أن تحالفت معها عليه دول أوربا جمعاء، ووقفت في وجهه برًّا وبحرًا، وقضت على الأسطول المصري في معركة نافارين، وهذا الوقوف من جانب الدول الأوربية في وجه الجيوش المصرية الظافرة لم يكن القصد منه المحافظة على تركيا الضعيفة مخافة أن يهدد وجود حاكم قوي في الأستانة التوازن الدولي كما اعتاد المؤرخون أن يقولوا، فلو أن ذلك وحده كان السبب لكان أقل ما تُجزَى به مصر على انتصاراتها بقيادة محمد علي أن تقوم بنفسها دولة مستقلة غير خاضعة لأحد، لكن الدول أبت على مصر هذا الاستقلال وأصرت على أن تظل ولاية تابعة لتركيا، وإن كانت ولاية ممتازة مستقلة استقلالًا داخليًّا كاملًا، إنما كان السبب الصحيح تخوف أوربا من أن تستعيد مصر قوتها التاريخية المعروفة، وأن تنضم إليها فلسطين وسوريا كما كانتا منضمتين لها في أكثر حقب التاريخ، وأن تتحكم لذلك في حوض البحرين: الأبيض والأحمر، وأن يصبح سلطانها بالفعل خاقان البحرين كما كان علي بك الكبير يدعو نفسه في الفترة القصيرة التي استقل فيها بأمر مصر، ومهما يكن من أثر ذلك في تقوية الحضارة ورفع منار السلام فإن الفكرة الاستعمارية كانت قوية يومئذٍ في نفوس الساسة الأوربيين إلى حد جعلهم يضعون أساسًا لسياستهم القضاء على قيام دولة في مصر لها هاته القوة والسلطان، وهذا وحده هو السر في إبائهم على مصر أن تستقل بإزاء تركيا التي ضعفت كل الضعف عن مقاومة جيوشها، والتي كانت معرضة لأن تقع هي وعاصمتها تحت سلطانها.
على أن هذا العسف من جانب أوربا لم يوهن عزيمة مصر، وقد ظل شعبها طوال القرن التاسع عشر كله متوثبًا يريد تحقيق استقلاله على النحو الذي يستشفه القارئ من تراجم من ترجمنا لهم في هذا الكتاب، وهو هو ذا اليوم قد بلغ من مجهوداته في هذه السبيل مقامًا محمودًا، وهو لا ريب سيكون في المستقبل كما كان في الماضي عاملًا من أقوى عوامل العرفان والحضارة والسلام.