برسي بيش شلي
(١) نشأته الأولى
ظهر السادس عشر من شهر أغسطس سنة ١٨٢٢، في صحو جو جميل، كان لورد بيرون والشاعر لي هنت والبحار ترلوني وقوفًا فوق رمال الشاطئ الإيطالي على مقربة من ليفورنو يحيط بهم عدد من أهل تلك المنطقة، ويقف إلى جانبهم جماعة من الضباط والعساكر الإيطاليين، وكلهم محدق ببصره إلى نار تضطرم قد بوركت بالنبيذ صب عليها وبالملح ألقي فيها ويفوح منها ريح اللحم الإنساني، وكلهم واجم مخلوع القلب ذاهب في تيهاء الهلع والذهول، وظل هذا المنظر المروع أمامهم ثلاث ساعات تباعًا يهز نفوسهم هزًّا فلا يزدادون إزاءه إلا وجومًا وذهولًا، وتندى عين بعضهم بالدمع ثم تذرفه لا تستطيع حبسه، ويبلغ الهلع والروع في أثناء ذلك من لورد بيرون مبلغهما فيلقي بملابسه على الرمل وبنفسه في الموج يسبح خلاله حتى يصل إلى زورقه «البوليفار»، ويحدق ترلوني بالعظام تحترق وباللحم تذيبه النار، ثم يرى القلب مع ذلك كبيرًا كبيرًا، فما يزال منه قلب كامل لم يذب ولم يحترق، فيجذب هذه البقية المقدسة بيده، وتبدأ النار بعد ذلك تخبو رويدًا رويدًا تاركة وراءها حفنة من تراب هي كل ما بقي من رفات قيثارة الشعر الإنجليزي شلي، ويحمل ترلوني الحفنة إلى الأرملة البائسة ماري شلي لتتولى ويتولى هو ولي هنت معها حملها إلى مقابر البروتستانت في روما كي تستقر هناك في أرض غريبة عن ثرى الوطن، ولكن لتسعد مع ذلك باستقرارها إلى جانب رفات عزيزة محبوبة هي رفات وليم شلي ابن الشاعر البكر من زوجه ماري، ويقع هذا المنظر المروع وتنقل تلك الرفات القدسية إلى روما، ولم يكن شلي قد بلغ إلى يوم وفاته في الثامن من أغسطس تمام الثلاثين من عمره، وإن كان قد خلَّف من شعره على الحياة ما لا يزال فخر الشعر الإنجليزي عذوبة وموسيقى يأخذان بالنفس ويملكان على المرء حسه ولبه، ويبعثان إلى كل ما ينشدانه ويترنمان به الحياة والخلد، سواء أكان ما ينشدانه ويترنمان به إنسانًا أم طيرًا أم حيوانًا أم جمادًا أم مجرد خيال لا وجود في الحياة له، ذلك بأن الحياة كانت تسري في كل ما لامس نفس شلي لتبقى قائمة به قرونًا ودهورًا بعد موت باعثها، وكذلك كانت فجيعة الشعر في هذا الشاب الذي خلف الحياة مذ كان على أعتاب الحياة مما يزيد ذكراه قوة وجلالًا، وإن كانت هذه الذكرى في غير حاجة إلى مزيد من قوة أو جلال، فلقد كُتِب لكل بيت من شعر برسي بيش شلي منذ ترنم هو به الخلود وكتب له الجلال.
ولم يكن لورد بيرون لينسى ساعة فراره أمام المنظر المروع ما كان عليه زميله وصديقه من خلق عظيم ونفس بلغت من السمو أرقى سماواته، فهذا الشاعر الشاب، الذي ولد في الرابع من أغسطس سنة ١٧٩٢ وتوفي في الثامن من أغسطس سنة ١٨٢٢، قد حلق به جمال الخلق في سماء الشعر إلى ما لم يرتفع إليه معاصر له، وإلى ما لم يسبقه إليه أحد في رأي كثيرين، وما لم يسبقه إليه غير شكسبير في رأي آخرين، وكان ارتفاعه هذا ليس قائمًا على خياله الملتهب وشاعريته الفياضة وكفى، بل كان قائمًا، فوق ذلك وقبل ذلك، على قوة في النفس قل أن يكون لها نظير، قوة بدأت مظاهرها منذ الطفولة وتجلت في أثناء الصبا وازدادت وضوحًا في صدر الشباب الذي كان — وهو صدر شباب الشاعر — خاتمة حياته، وكانت أجلى مظاهر هذه القوة واضحة في إيمان الرجل برأيه وصراحته فيه وإعلانه إياه وسلوكه سبيل الحياة على موجبه، وإن أدى لذلك ثمنًا فاحشًا أن عده الناس مجنونًا، وأن نفرت منه الجمعية الإنجليزية أشد النفور حتى اضطرته ليهجرها منذ أول شبابه، وليعيش السنوات الخمس الأخيرة من حياته تحت سماء إيطاليا الدائمة الصفو والابتسام، والتي تظل من صور الجمال وبدائع الفن ما يزيد في إلهام الشاعر، هذه الشجاعة وهذا الإيمان اللذان اعتبرا جنونًا هما أساس شاعرية شلي وهما مصدر إلهامه، لكنهما لم يكونا كذلك عند لورد بيرون الأبيقوري المستسلم لسلطان الزهرة الناهل من ورد بناتها جميعًا، الحائز لذلك غاية الإعجاب من أهل عصره وأكبر تقديرهم إياه؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يرى فضائل زميله وأن يقدرها، وكان طبيعيًّا أن يفر من منظر النار تحرق مثوى هذه الفضائل وتذره رمادًا.
وكثيرون ممن عرفوا شلي كانت تأخذهم الدهشة لفضائله، ومن كانت تزيد دهشتهم لشجاعته وصراحته، ذلك أن صورته وتكوينه لم يكونا ينمان عن هذه الفضائل فيه، وإن كانا ينبئان بشاعريته وقوة خياله، فقد كانت في نظرته وفي تقاطيع وجهه وفي جمال شعر رأسه أنوثة عذبة تحدث عن رقة ولين لا عن صلابة وشدة، وكان يضوع منه شذا المحبة والعطف بما لا يلتئم مع القوة على النضال والقسوة فيه، وكان جسمه الطويل النحيل كأنه قصبة هذه القيثارة التي شدت بأجمل الأنغام وتغنت بأحلى الأهازيج، كذلك لم يكن مولده ولا كانت مكانة أهله في الجمعية مما يزيل دهشة من بلغت الدهشة منهم بشجاعة شلي وصراحته في إعلان إيمانه حتى حكموا عليه بالجنون، فقد ولد في أسرة نبيلة جمعت إلى النبل المال، وكانت بطبيعة هذين العاملين محافظة، لتظل من طريق محافظتها ناعمة بمالها ونبلها، كان جده السير بيش شلي بارونًا وكان غنيًّا، وكان لا يفتأ يدأب لزيادة ثروته، وكان أبوه تيموذي شلي قاضيًا وعضوًا في البرلمان، وكان قصرهم بفيلد بليس على مقربة من هورشام أحد أعمال سسكس محاطًا بحدائق وأحراش تدعو إلى المتاع بها والطمأنينة لها، وكان جده السير بيش قد جعله بالوصية وارثه مما يدر عليه إيرادًا سنويًّا ستة آلاف جنيه في ذلك الزمان، سبحان من يدري كم ألف تعادلها في زماننا اليوم! وتلك كلها أسباب دعة وبلهنية وليست أسباب نضال صلب وصراع للجمعية وللحياة فيها لا يعرف الهدوء إليه سبيلًا، لو أن صاحبها أوتي من هبة الشعر ما أوتيه شلي لكان طبيعيًّا أن يسلك الطريق التي سلكها بيرون من الإنجليز وعمر بن أبي ربيعة من العرب، لكن شلي ضرب بالمال والجاه والدعة عُرْض الأفق وترك بيت أبيه وترك أهله جميعًا ولم يقتض من وصية جده إلا بمقدار ما يكفيه حاجة العيش، وانطلق في الحياة هائمًا يجلي بهاء الفضيلة ويؤدي رسالة الجمال، ولم يكن له من أدائها بد، في أنغام قدسية من موسيقى السماء، ويؤديها ذاهلًا عما أحاط بحياته من أحزان ومتاعب متجهًا بكله إلى هذا الوجود المحيط به، مفنيًا نفسه فيه كي يفنى الوجود كله في نفسه فترده إلى العالم وحيًا سماويًّا يختلط بالنفوس جميعًا، ويتنقل على الأجيال إلى ما شاء الخلد أن تكون للإنسانية أجيال تتعاقب.
وكان لجماله ولرقته أثر بالغ في حياته وفي تفكيره وفي شعره، جعله هذا الجمال المزدان بخواتم شعره وعيونه العميقة الزرقة ولونه الناصع النظيف ويديه ورجليه الجميلة التكوين، وما اتصل بذلك من حسن تحسده عليه كل فتاة في مثل سن الطفولة التي كان فيها يوم ذهب به أبواه إلى مدرسة (سيون هوس) في برنتفورد، بالغًا في رقته وظرفه وحلو طبعه، ونبأت هذه الصفات إلى جانب جماله عن نفس حية حساسة تأنف القسوة وتتنزه عنها، وترى في عدم النظام وسوء الاتساق ما يؤذيها ويثيرها.
على أن هذه الصفات جعلت منه في المدرسة سخرية زملائه وموضع عبثهم ولهوهم، مما بعث إلى نفسه غضاضة ومضضًا، فلما انتقل به أهله إلى مدرسة «أيتون» حيث يتعلم أبناء النبلاء وذوي المكانة لم يزدد لنظامها إلا بغضًا ولمعاملة زملائه التلاميذ فيها إلا مقتًا، فقد كان وما يزال من نظام التربية في هذه المدرسة أن يخدم الصغار فيها من هم أكبر منهم سنًّا وأقدم في المدرسة عهدًا، وكان الصغير الخادم عرضة لكل أنواع الأذى والإهانة من كبيره، كان يمسح له أحذيته ويأتمر بأمره في كل حاجة يحلو له أن يأمره بها، ثم كان هذا النظام يقتضي مع ذلك ألا يصبر أحد على إهانة زميل له إياه وأن يدفع القوة بالقوة والعدوان بالعدوان، ولذلك كانوا جميعًا يتقنون لعبة (البوكس) ليدفعوا عن أنفسهم وليردوا اعتداء المعتدي عليهم.
لكن هذا كله لم يرق الصبي شلي فلم يذعن له، لم يرض أن يكون خادمًا ولم يرض أن يجعل حق القوة أساس خلقه، ليكن هو نظام المدرسة الذي تابعته وتتابعه منذ أجيال، فهو لا يؤمن بصلاحه ولا باتفاقه مع الخلق الفاضل والكرامة الإنسانية، فلا يمكن أن يرضى عنه وأن يخضع له، لا يمكن أن يكون خادمًا ولا أن يخالط أولئك الذين يقضون سحابة نهارهم في ملاكمة ومصارعة تقوى بها عضلاتهم وأبدانهم على حساب عقولهم وأرواحهم؛ لذلك اعتزلهم ولجأ إلى وحدة لم تزدهم له إلا احتقارًا، ولم تنجه من سخريتهم وأذاهم ولطمهم ولكمهم.
لكن رقته لم تؤد به إلى ضعف إبائه وأنفته ولم تجعل منه ذلك الطفل المستذل الذي يخضع لسلطان الأقوى ويأتمر بأمره، بل كان يقارضهم سخرية بسخرية واحتقارًا باحتقار، وكان يدفع عدوان أيديهم عليه بعدوان مثله، وإن يك عدوانًا متفقًا مع هذه الأنوثة في تكوينه، عدوان عض بالأسنان وهبش بالأظافر بدل اللكم بقبضة اليد مما كان يتورم له وجهه أحيانًا، وهو لذلك لم يكن يباديهم العدوان ولا يتحكك بهم، بل كان يتركهم في ألعابهم ورياضتهم العنيفة ليأخذ هو كتبًا محببة إليه مما وضع كُتَّاب الثورة في فرنسا وأنصارهم في إنجلترا ومما وضع جماعة اليونان الأقدمين، ثم ينطلق بها بين الأحراش والغياض حتى يصل إلى حافة النهر حيث يجلس فينسى نفسه في المتاع بما في كتبه وبمشهد هذه الطبيعة الساحرة حوله وبتأمله إياها والتفكير فيها، ولعل أشد ما تأثر به من قراءاته كتاب وليم جُدْوِين (العدل السياسي).
وكان وليم جُدْوِين من أشد كتاب ذلك العصر تأثرًا بمبادئ الثورة الفرنسية ودعوتها إلى الحرية المطلقة في التفكير، وما ترتب على هذه الدعوة من خروج على طائفة رجال الدين وتعاليمهم ومن المبالغة في ذلك إلى إنكار الدين نفسه، على أن جُدْوِين يختلف مع كتاب الثورة الفرنسية ورجالها أشد الاختلاف فيما يتعلق بوسائل تحقيق الإصلاح الذي يريد إدخاله على النظم وعلى قواعد الجمعية، فكان يرى العقل والمنطق وحدهما وسيلة الإصلاح، وكان ينفر أشد النفور ويطعن مر الطعن على الالتجاء للعنف ولوسائل القوة وضروب القسوة، ودفعه تفكيره الحر هذا إلى إنكار أكثر القواعد التي تقوم عليها جمعية عصره، دفعه إلى إنكار الملك الخاص إلا بمقدار حاجة الشخص له والطعن لذلك على الثروات الواسعة، ودفعه إلى إنكار الزواج على أنه نظام، لأنه مناط فكرة الملك الخاص، وانتهى من تفكيره إلى وجوب إقامة الجمعية على أساس من العقل وحده، وإلى القول بأن هذه الأسس لو وضعت على صورة صحيحة زال ما يشكو منه الناس من بؤس وشقاء وجريمة، وأضحت العقوبة وصمة في جبين الإنسانية، ولذلك كان لا يكفيه أن يطلب إلغاء عقوبة الإعدام، بل كان يطلب إلغاء العقوبات جميعًا.
في هذه المبادئ التي وضعها جُدْوِين كثير سبقه إليه روسو وتأثر به أهل فرنسا ورجال الثورة فيها، على أن المبالغة هي التي أدت بهم لينكروا حتى الدين الطبيعي الذي دعا روسو إليه وليجعلوا الإلحاد وسيلتهم إلى حرية الفكر، ولعلك إن التمست تفسيرًا لهذا وجدته في تشبث رجال الدين يومئذٍ بسلطانهم تشبثًا كان يزداد كلما شعروا بسلطتهم معرضة للنقص ثم الاضمحلال، على أن واحدًا من هؤلاء الذين دفعهم تعصب رجال الدين للمجاهرة بالإلحاد لم يلبث أن عاد إلى نوع من الإيمان فيه جمال وله جلال، ودعا إليه عن يقين واقتناع لم يكن لرجال الدين حظ منهما، ولقد تأثر شلي في الأيام الأولى من شبابه إلى أبعد مدى بكتاب جُدْوِين ورأى في نظم الجمعية السياسية والاجتماعية والدينية ما لا يتفق مع حكم العقل، واقتنع بأن مرجع هذا كله إلى تشبث رجال الدين بأن يخلعوا على كل دقيقة وجليلة من نظام الجمعية ثوبًا من القداسة يحول دون التفكير في معالجته أو إدخال أي إصلاح عليه، أليس نظام الزواج قد طبع بميسم الدين؟ أليست عروش الملوك قد أحيطت بسياج من القداسة الدينية؟ أليس التملك والتوارث وكل ما هو من شئون هذا العالم الدائم التغير والتطور قد سبك في قوالب الدين التي يقولون إنها لا تقبل التغير ولا التطور؟ لذلك مال شلي إلى ناحية الإنكار على أنه الوسيلة لكل إصلاح ما دام الإنكار هو الوسيلة الوحيدة للحرية في التفكير والشعور والإلهام والإيمان.
إلى جانب هاته المطالعات التي كانت تثير سخرية أبناء أيتون من شلي كانت طبيعته الحساسة الفياضة بالشعر وبما يلهم الشعر من تعلق بما وراء الطبيعة تدفعه إلى دراسات أخرى جعلت زملاءه في المدرسة يطلقون عليه لقب (المجنون شلي)، فقد كان يُعنَى بالسحر والسيمياء ويعتقد في الجن والأطياف ويرى في الهواء والماء شياطين وآلهة كانت تحيا في خياله وتصبح ذات كيان ووجود؛ لكثرة مطالعاته في أساطير اليونان وتاريخهم، واتجه عقله متأثرًا بهذه الناحية من نواحي طبيعته يلتمس أسرار العلم ويريد أن يكشف عن مخبوء قوى الكهرباء والضوء، ولذلك كان شديد الولع بأن يكون لديه معمل كيميائي صغير يرضي طلعته العلمية والسحرية، على أنه كان كلما ازدادت في هذا الباب بحوثه ثبت لدى زملائه جنونه، فلم يستمع له أحد قولًا ولم يرض أحد عن نظرياته الجريئة في الحياة وفي الحب وفي الإصلاح الذي أولع هو به بعد الذي أفاد من مطالعاته، بل كانت كل محاولة من جانبه لإقناعهم برأيه مثار احتكاك بينهم وبينه وسببًا للكمه ولطمه.
وزاده تحديهم إيمانًا بضرورة إصلاح الجماعة وتغيير أسس نظامها ومقومات حياتها، لكنهم لم يكونوا يسمعون لما يريد أن يقوله لهم في هذا برغم أنه لم يفكر في كراهيتهم بسبب ما يصل إليه من أذاهم، وإن كان دائم التفكير في إصلاحهم برًّا بالإنسانية وعطفًا عليها، فلما لم يجد منهم سميعًا جعل من أخواته البنات ومن ابنة عمه هاريت جروف تلميذاته في إجازاته المدرسية يلقي عليهن تعاليمه ويطالعهن برسالته، ولقد كن بطبيعة الحال ألين من زملاء المدرسة عريكة وأسلس قيادًا، وكانت إليزابث كبرى أخواته أشدهن إيمانًا به وتقديسًا له وإعجابًا بكل ما يقوله.
هو يرى الشر في الملوك والأغنياء والقسس، ويرى الخير عند البؤساء والفلاسفة، إذًا فالخير عند هؤلاء والشر في أولئك، وهو يرى الزواج نظامًا تعسًا، وإنما يجب أن تقوم صلات الرجل والمرأة على أساس من الحب المقدس، فالزواج إذًا نظام تعس، وكم كانت شاعريته الوليدة تخلع على صور الحب التي يقصها أمام الفتاتين من باهر الألوان ما يسحرهما عن كل ما سوى الحب مما يقوله ويجعلهما تؤمنان به من غير بحث فيه، أليستا يافعتين تتقدمان إلى الصبا ويبدأ في دمهما مسرى رغباته؟ والحب عنوان هذه الرغبات وطليعتها، وشلي شاب جميل حلو الحديث عذب النفس، له من نوازع الصبا ما لهما ويطير على أجنحة الحب مطارهما.
ولئن كانت ابنة عمه هاريت ترى في حديثه عن الزواج واعتراضه عليه تجديفًا لا تميل إليه نفس الأنثى الحريصة على أن تجد من الجمعية كل حماية وعناية، فلعل الحب الوليد الذي ينشأ بينها وبين شلي يكفل من بعد اعتداله ويدفعه ليعدل عن أوهام الإصلاح في نظام الأسرة المقدس على الزمان، وإن هو لم يعدل من بعد فهي ما تزال بعيدة عن التفكير في الزواج وفي الارتباط به أو بغيره، يكفيها اليوم أن تخرج معه ومع أخته وأن تسمع لعذب حديثه وحلو ترنمه، وأن ترى في نظراته وابتساماته لها ما يسليها عن نظريات يجمل بها أن تعتنقها لتزيده بها تعلقًا ولها ابتسامًا، وكانت إليزابث تشعر في بعض الأحايين أن قد طال بها المقام وأن قد سمعت من نظريات أخيها واستمتعت من عطفه بما يكفيها بقية يومها فتذره وابنة عمها وحيدين يتبادلان نجوى الهوى وحلو حديث الغرام، ثم يعودان متخاصرين يسري إلى جسم كل منهما دفء جسم صاحبه.
وكانت أيام إجازته المدرسية تنقضي في هذه السعادة الكاملة، فهو يدعو إلى مذهبه فتاتين بديعتي التكوين، والفتاتان تؤمنان به وتبادلانه حبًّا خالصًا؛ حب أخت ترى في أخيها نبوغًا تفخر به ويزيدها حبًّا له، وحب فتاة تصبو إلى ما يدفع الحب إليه كل فتاة وفتى من تخليد الحياة في أجيال وأجيال، على أن يكون تخليدًا ترضاه الجماعة وترعاه، فإذا انقضت الإجازة عاد إلى أيتون مترفعًا عن الساخرين منه مكبًّا على قراءاته وبحوثه العلمية والسيمية منتظرًا يومًا يعود فيه إلى تلميذتيه يحدثهما من جديد عن مذهب جُدْوِين، ويتحدث إليهما عما نكب به رجال الدين الجماعة من أسس فاسدة.
وأتم دراساته بأيتون وذهب به أبوه في أكتوبر سنة ١٨١٠ فألحقه بأكسفورد، وفيها تعرف إلى شاب من أمثاله اسمه جفرسون هوج دهش بعد قليل من تعارفهما لكثرة مطالعات صاحبه ولعنايته عناية خاصة بالعلوم والميكانيكا، وقد زادته هذه العناية دهشة حين رأى في غرفة شلي من الأنابيب والزجاجات ومولدات الكهرباء ما جعلها معملًا عجيبًا. لكن هذه العناية لم تكن لتصرفه عن مراجعة هيوم ولوك وفولتير وهولباخ وعن مداومة الدراسة في كتاب جُدْوِين. وكان من دواعي عجب هوج أن يكون لهؤلاء المتشككة كل ما كان لهم من سلطان على ذهن صاحبه المتجه بطبعه إلى ناحية التأملات الروحية، لكن عجبه هذا لم يمنع إعجابه بشلي الذي كان يخرج معه كل صباح يجوبان الأحراش فينطلق شلي مرحًا يجري وينط ويلقي بنفسه مقتحمًا الماء إذا هو صادفته بحيرة من البحيرات ليعود بعد رياضته هذه إلى علمه وإلى تأملاته، ويعود كذلك إلى كتابة القصص والنشرات، فلقد بدأ مع ابنة عمه ومع أخته قصة زاستروزي، وهذا هو يكتب قصة أخرى يجعل عنوانًا لها (القديسة أرفيني) يروي فيها شيئًا من تفكيراته، ثم هذا هو كذلك يضع نشرة يجعل عنوانها (الحاجة إلى الإلحاد) ويوقعها باسم جروميا ستكلي ويعمل لنشرها في كل مكان لينتهي بسبب ذلك إلى طرده من أكسفورد وإلى هجرة بيت أبيه وإلى ما كان بعد ذلك من حياته المشردة.
وكان في وسعه أن يتوقع ما ترتب على هذه النشرة من نتائج، بل لعله توقعها ولم يحفل بها، أو لعل الدافع الذي أدى به لكتابة هذه النشرة لم يكن مما يمكن دفعه أو مقاومته، فقد بعث الناشر ستكديل إلى مستر تموذي شلي خطابًا يخبره فيه بأن ابنه بعث له بقصة القديسة أرفيني وأن فيها من الآراء ما لا يسيغه الجمهور وما يبعث الناس على القيامة ضده، فكتب مستر تموذي للناشر بأنه غير مستعد أن يدفع له شيئًا من نفقات الطبع والنشر، وانتظر حضور ابنه في إجازة عيد الميلاد، فلما حضر ألفى الجو حوله متجهمًا وألفى الناس من أهل هذه البلاد يتهامسون بإلحاده ويَزْورُّون عنه وينأون بجانبهم، وتحدث إليه أبوه ساعيًا أن يقنعه من طريق المناقشة، فإذا برسي أقوى منه حجة وأسطع برهانًا، وإذا الأب يقنع آخر الأمر بأن يقول له في غضب: إني أؤمن لأني أؤمن، على أن غضب مستر تموذي وتهامس الناس وانصرافهم عن شلي لم يؤثر في نفسه ولا دعاه إلى التفكير في أمرهم، لكنما أثر في نفسه وبلغ منها وأثار حزنها ما كان من ابنة عمه هاريت، فهو لم يكن يشك في عمق ما بينهما من حب عمقًا وصل إلى شغاف القلب، فليس يستطيع أمر من أمور الحياة أن يغير أحدهما على صاحبه أو أن يعدل بهما عما تفاهمت نظراتهما عليه من تقاسم الحياة والاشتراك في ورد ما فيها من جمال وسعادة، لكنه ما لبث بعد عودته أن تحدث إلى أخته إليزابث التي ظلت وحدها صادقة الود له، وسألها عن هاريت وشأنها حتى تولاه الجزع حين سمع منها أنها انصرفت عنه كما انصرف عنه غيرها، وأن حبها تطايرت جذوته حين علمت أن أهلها والمحيطين بها لا يرون زواجها من هذا الذي جُنَّت من قبل به وجنَّ بها، وعبثًا ذهب شلي وقابل هاريت وحاول إقناعها، فقد ألفاها أشد حرصًا على المتاع بنعيم الجمعية من ملبس وحلي ورقص منها على الأفكار التي يسبح هو في سماواتها متوهمًا أنه يسعد العالم بإقناعه بها، وألفاها أشد حرصًا على علاقاتها بأبويها علاقة اطمأنت لها منذ مولدها منها على صلتها بشاب لا تدري ما عسى أن يكون المستقبل معه.
تولى شلي الجزع، فكتب باكيًا ثائرًا إلى صديقه هوج خطابًا يذكر له فيه أنها لم تبق له وأنها انقلبت تكرهه لأنه متشكك بعد أن كانت هي من قبل متأثرة بتعاليمه، ويعلن ثورته على التعصب ويقسم أنه لن يعفو عنه، ويعلن أنه، وإن لم يكن يقر الانتقام فهو يرى الانتقام من التعصب عدلًا بل واجبًا، وأنه سيكرس كل لحظة من حياته لمحاربته؛ لأن التعصب هو الذي يهدم الجمعية ويشجع العقائد الفاسدة التي تحطم أقدس الصلات وأرقها وأعزها، وله عن ثورته هذه العذر أنه لم يكن يتوقع أن تحطم تعاليم الدين أشرف عاطفة وأسماها، وأن تستل من بين الجوانح حبًّا قائمًا على التفاهم وحسن إدراك الحياة والتوجه إلى ما فيها من جمال لعبادته والتسبيح بحمده، وكيف كان له أن يتوقع هذا، وقد كان يرى في الحب عاطفة قدسية تسمو بالنفس إلى ما فوق منافع الحياة ومطامعها، وتحلق بها في أجواء أثيرية تشهد منها بدائع هذا الخلق جميعًا متجليًا فيما يقع عليه الحس من صور جماله، والحق أن الحب عند شلي كان له معنى أسمى بكثير من معناه عند غيره، هو لم يكن يرى فيه مجرد رابطة نفعية وشركة للتعاون على حمل عبء الحياة، بل كان يريده امتزاجًا روحيًّا لاستشفاف ما حولنا من جمال هو مصدر الحياة، وشركة في حب هذا الجمال في متباين صوره ومختلف ألوانه، ولعل أجمل ما يستطيع إنسان أن يعبر به عن هذا المعنى ما عبر هو به في قصيدته (أببسيشديون) حيث يقول ما ترجمته: «لم أتصل قط يومًا بهذه الطائفة الكبيرة التي يوجب مذهبها على الفرد أن يختار من بين الجماعة كلها رفيقة أو صديقة وأن يلقي بالباقين، وإن يك لهم ما لهم من جمال وحكمة، في جمود النسيان … فالحب الصادق يختلف عن الذهب والتراب في أنك كلما شاطرتهما أخذت منهما وأنقصتهما، على حين هو يشترك مع الفهم الذي يزداد بريقًا كلما ازدادت الحقائق التي ينبعث نظره إليها، وهو كالخيال يستمد نوره من الأرض والسماء ومن أعماق أهواء الإنسان ومن ألف مرآة وألف ضلع، ثم يملأ الوجود بالأشعة الباهرة يقتل بها جرثومة الخطأ بما يسلط عليها ضياؤه من سهام كأنها أشعة الشمس، ويا ضيق قلب ينحصر حبه، وعقل يقف تفكيره، وحياة تنتهي غايتها، وذهن يقف خلقه عند شيء واحد، وصورة واحدة، يبني لذلك بها قبر خلده.»
إذًا فالدين والعقيدة الاجتماعية والنظام الذي يحصرنا في دائرة هذا الحب الواحد والتفكير الواحد والغاية الواحدة والخلق الواحد، يبني لنا قبر خلدنا، وهو لذلك يفسد أمر الجماعة ويقضي على خير ما فيها من عواطف وأسمى ما فيها من إلهام، فعلى الذين أوتوا ما أوتي شلي من هبة أن يقوموا في وجه هذا الضيق في القلب والعقل والذهن وأن يُصلوها من حربهم نارًا حامية.
وعاد شلي إلى أكسفورد كئيب النفس حزين الفؤاد ثائر القلب والعقل معتزمًا أن يشن الغارة على التعصب وأن يفسح الطريق للتسامح والحب والمغفرة والجمال، وكان أول ما صنع من هذا أن أذاع نشرته (الحاجة إلى الإلحاد) موقِّعًا إياها باسم غير اسمه وموزعًا لها على كل من ضيق التعصب دائرة قلبه وعقله، فقد بعث بها إلى رجال الدين وإلى المعلمين وإلى المشتغلين بالسياسة، ثم عرضها في مكتبة بأكسفورد لم تلبث أن اعتذرت عن عرضها لأول ما احتج أحد رجال الدين عليها، وقد افتتح هذه الرسالة بقوله «الحس أساس كل معرفة»، وسار فيها بلهجة ملتهبة يطعن كل قيود الدين ويحطمها، وأبلغت الجامعة أن شلي هو ناشرها، فسألته فأبى أن يجيب فقررت فصله، واحتج صديقه هوج على هذا التصرف من إدارة أكسفورد، فتقرر فصله هو أيضًا، وترك الصديقان الجامعة عائدين إلى لندن منتظرين فيها تطور الحوادث وتصاريف الزمن، مكتفين فيها بغرفة اعتبرها شلي مأواهما الأخير.
ولما علم مستر تموذي شلي بفصل ابنه من أكسفورد ثار ثائره واستشاط غيظًا وبعث له برسالة يخبره فيها أنه لن يمده بمعونة أو مدد إلا إذا هو رجع إلى فيلدبليس وتلقى فيها الدروس على من يختارهم هو له من الأستاذة، فرد شلي على أبيه يرفض في أدب شروطه، ولم يقنع الأب بهذا الرفض فذهب إلى لندن وقابل برسي وصاحبه هوج وحاول إقناعهما بالحجة ليعدل شلي عما كتب في رسالته عن الإلحاد، ومع ما سلكه من طرق التلطف والمجاملة فقد لقي من ابنه صخرة لا تتزحزح وألفى فيه إباء وقوة عزيمة لم يستطع التغلب عليهما، فتركه عائدًا إلى فيلدبليس من غير أن يعطيه درهمًا، ولعله كان يرجو أن تضطر الحاجة الابن إلى أبيه فينتهي إلى الإذعان، أو لعله كان أشد حرصًا على سمعته منه على فتاه، وعلى أي الحالين فقد ظل شلي مصرًّا على رأيه مرتفعًا عن أن ينزل عنه مستخفًّا بما يتهدده من ضيق ذات اليد، فما كان المال ليوازي عنده يومًا شيئًا إذا هو تعارض مع إيمانه برأيه، وبقي معه هوج أيامًا في لندن ثم غادرها إطاعة لأبيه الذي ألحقه بمكتب محامٍ يتعلم الحقوق فيه، وأقام شلي من بعده في العاصمة الإنجليزية وحيدًا ليواجه الحياة وزعازعها وليستعد لنضال الجمعية التي اضطرته إلى عزلته، مؤمنًا بأنه سينتهي إلى الظفر بها والتغلب عليها.
(٢) هاريت وستبروك
أقام شلي في العاصمة الإنجليزية وهو أقل تألمًا لاختلافه مع أبيه ولمغادرته الجامعة وانقطاعه عن الدراسة المنتظمة منه لتنكر ابنة عمه هاريت جروف له وازدرائها حبه وانفصالها عنه؛ لذلك كان أكثر تفكيرًا في هذا الحب المحطم منه فيما يقيم به أود حياته، وفيمَ عسى يفكر من شئون العيش وقد كان قانعًا بما دون الكفاف حتى لتكفيه بضعة بنسات طعام يومه؟! فأما هاته التي عقت الحب وعقت آراء جُدْوِين وعقت المبادئ السامية جميعًا، فهي اللغز الذي يوجب العناية، وهي الداء الذي يتطلب للبرء منه علاجًا حاسمًا.
وأكب يقلب هذه المسألة على مختلف وجوهها حتى خيل إليه يومًا أنه عثر في حجة منطقية على الدواء الناجع لها والحل الصريح للغزها، هو لم يكن يحب من هاريت جسمها ولا كان يقف إعجابه عند جمالها، بل لئن أعجب بحسنها على أنه بعض صور الجمال الذي زينت به الطبيعة الوجود، فإنما كان حبه منصبًّا كله على سمو ذهنها لإدراك نظرياته ونظريات جُدْوِين في الحياة ونظامها والتسامح وضرورته والحرية وتقديسها والجمال وعبادته، وهذا هو ذهنها قد فتر عن إدراك ذلك كله وهبط إلى مستوى الأذهان العامة وأصبح شيئًا آخر غير جدير بأي حب أو تقدير.
فماذا بقي بعد ذلك منها جديرًا بالحب أو دافعًا للتشبث بها والحرص عليها؟ أو لو عشق إنسان في فتاة جمالها تراه عاشقًا الدود الذي يحول إليه جسمها بعد انتقالها إلى قبرها! وقد دفن من هاريت ذلك الذهن الوضاء المرتفع إلى مراقي ذروة التفكير والذي اتصل من قبل بذهن شلي وروحه، وقد اندست إلى قبره ديدان الأوهام والأباطيل، فلينس شلي هذه العاقَّة إذًا، وليسلكها في سلك البائسات الحقيقات بعطفه ورحمته، لكن، لكن هذه الحجة القاطعة التي أرضت عقل شلي لم تطفئ في قلبه جذوة زادها عقوق البائسة ضرامًا، ولعل مرجع السبب في هذا إلى غدر هاريت لما كان يرجو في صحبتها من تعاون على محاربة الأوهام المفسدة المندسة إلى نفس الجماعة أكثر مما يرجع إلى شيء آخر، فالصحيح أنه لم تكن بينه وبينها صلة حب على نحو ما يفهم هو الحب؛ ولذلك لم يطل في قلبه لاعج الهم ولا ظلت جذوته مستعرة إلا ريثما وجد في هاريت أخرى، لا تقل عن الأولى جمالًا ولا ذكاء، ذلك الاستعداد للسمو معه في سماوات الجمال والإلحاد والتسامح وكل ما دعا كتاب الثورة الفرنسية وتابعهم جُدْوِين في الدعوة إليه.
فلقد كانت أخواته البنات يتعلمن في مدرسة للبنات بحي كلابهام، وكانت رشيدتهن هلن شلي تتناول من أختها الكبرى إليزابث رسائل تبعث فيها بما لديها من نقد كي تعطيه هلن لبرسي لتعوضه بعض الشيء عن إهمال أبيه إياه، وكان برسي يذهب إلى مدرسة البنات هذه يحمل بعض الهدايا لأخواته لأنه كان يأبى أن يستأثر بما تبعث به إليه أخته، وما لبث أن تعرف إلى بنات المدرسة حتى بدأ يفكر في إقناعهن برأيه وحملهن على اعتناق نظرياته ومبادئه، وكانت هاريت وستبروك من أكثر أولئك الفتيات رقة وأحلاهن ابتسامة وأغردهن صوتًا، وكان جمالها يضيء مزدانًا بشعرها الذهبي وخدودها المتوردة وشبابها الضاحك إلى ورود ربيعه، وكانت — على أنها في السادسة عشرة من عمرها — صغيرة القد طفلة النظرة يفيض المرح من وجودها كله ويضوع منها سرور طرب يجعل كل ما حولها طروبًا ضحوكًا، وقد أتقنت القراءة والإلقاء فزادت عذوبة صوتها وتغريده حياةً وروحًا، وعني أبوها مستر وليم وستبروك بأن يجعل منها ضريبة لبنات النبلاء ليجزي الحظ بذلك عما كان هو مفتتح حياته حين كان يعمل في الفنادق؛ لذلك كانت شديدة الحرص على الاتصال ببنات النبلاء زميلاتها في المدرسة، وكانت أشد بأخوات شلي اتصالًا، فلما رأت الشاب النبيل الجميل برسي يتردد على أخواته وقع من نفسها وتوددت إليه وأظهرت أساها لإلحاده وحاولت أن تصده عنه وأن تقنعه بمثل إيمانها وإيمان الجمعية كلها، لكنها ما لبثت أن اتصلت به حتى تأثرت بروحه وحتى رأت فيما يدعو إليه بهاء وجمالًا لا شيء مثلهما أو يقاربهما في تعاليم الكنيسة ورجال الدين، فالحرية الأثيرية الأجنحة الطائرة في فضاء طلق تسبح منه في جمال الوجود ناهلة ورد كل ما فيه من صور هذا الجمال الذي يحمل إليها شذى الحب وعبقه، فيملأ بهما قلب المستمتع بنعيمها من غير أن يثقله بقيد من زواج أو من تملك أو توارث، ومن غير أن يرهقه بالقوانين أو التكاليف، هذه صورة جذابة ليس لها فيما حفظت من تعاليم الدين نظير، إلا أن يكون ذلك في العالم الآخر وبعد انتقالنا من هاته الحياة التي نحسها ونلمسها، ولو أننا تابعنا شلي لاستطعنا أن ننعم بها في الحياة نعيم المؤمنين بها بعد الموت، فما لهذا العصفور الجميل هاريت والتفكير في الموت، وما لها وإكراه خيالها على اقتحام صورة الموت المرعبة إلى ما بعدها لترى ما يخيلون لها من نعيم وهناء وجمال؟! ما لهذا العصفور وهذا الإجهاد ما دام رسول الجمال والحب شلي يضع له الجنة في يديه، جنة لا تقف حدودها عندما يزين من تعاليم ويصقل من صور وآراء، بل تبدو حقيقة ملموسة في جمال صورته، وفي نبله وثروته الواسعة وعذوبة نفسه وطيبة قلبه وحبه الإنسانية كلها حبًّا جمًّا؟ أوليس خيرًا لها أن ترفعها هذه الأيدي الرقيقة الحنون — أيدي شلي — إلى جنات النعيم؛ لذلك ما لبثت أن آمنت بكل ما يقول وأن أصبحت مثله تلميذة لجُدْوِين ولمن أخذ عنهم جُدْوِين حتى أفلاطون، وأصبحت لا تجد سعادة في لحظة أكثر من تلك التي ترى فيها شلي في المدرسة أو التي تذهب له فيها ببيته في شارع بولونيا تحمل إليه ما تعطيها أخته هلن من مال، فقد كانت هلن تبيت بالمدرسة ولا تستطيع الخروج منها في حين كانت هاريت تذهب كل يوم إلى بيت أبيها فتجد الفرصة للمرور بصديقها ووليها وأستاذها ومحبوبها.
وكان لهاريت أخت متقدمة في السن إلى ما فوق الثلاثين اسمها إليزا تقوم منها مقام أمها المتوفاة، وقد سرها ما عرفت من صلة هاريت بشلي، كما سر بذلك أبوها واعتبره خطوة أولى يرقى بها إلى مصاف النبلاء؛ لذلك لم يسؤه يومًا مرضت فيه هاريت أن دعت إليزا بشلي إلى مخدع نوم أختها وأن جلس عند أقدامها إلى ما بعد منتصف الليل، وكان من أثر جلوسه إليها أن برئت من مرضها وأن عادت اليوم التالي إلى صحتها وإلى تغريدها، وأن تزايد من بعد ذلك وجدها به حتى صار هيامًا وتدلهًا، لكن شلي لم يكن ينظر إليها نظرتها إليه، بل كان يرى فيها حياة الروح وسمو الذهن إلى الاقتناع بآرائه ومبادئه مما يعزيه عن روح ابنة عمه هاريت جروف التي دفنت في قبر الأباطيل ونخر فيها سوس الأوهام، كان يرى فيها ضياء جديدًا غير هذا النور الذي خبا، وشريكة فيما يسميه هو الإلحاد في حين هو الإيمان بالعدل والحق والجمال، وإذا هي لم تكن من طائفة النبلاء فلعل في تحررها من قيود هذه الطائفة ما يكفل بقاءها على عقيدتها الجديدة وثباتها في إيمانها الذي أوحاه هو إليها، وما أجمله إيمانًا يتحلى به رأس جميل كله الحياة وكله المحبة وكله العواطف المتأججة.
واطمأنت نفس شلي إلى تلميذته وإلى الحياة وعاوده الرجاء في صلاح الإنسانية كلها، وإن كانت هذه الصلة قد أدت إلى فصلها من المدرسة كما فصل هو من أكسفورد من قبل، وزادته طمأنينته هذه شوقًا إلى أخته إليزابث أشد من عرف من تلاميذه إيمانًا به وحبًّا له، وفيما كان يفكر في الطريقة التي يعود بها إلى فيلد بليس مر خاله الكبتن بلفولد بلندن وتقابل وإياه، وكان الكبتن رجلًا كثير التجوال في مختلف أنحاء العالم، فكان لذلك واسع الصدر متسامحًا لا يطيق أن يفهم كيف يؤدي اختلاف أب وابنه في الرأي إلى تعصب الأب وتصميمه على أن يميت ابنه جوعًا، فأخذ شلي معه إلى داره بككفلد ليعيد الصلة المقطوعة وليكفل للابن عيشه، وكانت في ككفلد مربية هي مس هتشنر رومانية الجمال تتخطى في طمأنينة إلى الثلاثين من عمرها وتدين بالمبادئ الحرة ولكنها تؤمن بالله، فأخذ الشاب نفسه بأن يشفيها مما سماه «هذا المرض» وقبلت هي أن تتلمذ له، مدفوعة أغلب الأمر بسحر جماله وعذوبة روحه أكثر من اقتناعها بآرائه ومبادئه، واستعان الكبتن بلفولد الدوق نورفلك على التوفيق بين شلي وأبيه، فلم يحتج المستر تموذي لأكثر من كلمة الدوق كي يعود برسي إلى أهله وكي يرى أخته إليزابث، وارتضى الأب أن يرتب لابنه مائتي جنيه سنويًّا لا يقيدها شرط ولا يؤثر ترتيبها في حرية شلي بأية صورة من الصور.
ولقد فاضت السعادة بشلي في أثناء سيره من بيت خاله لبيت أبيه لغير شيء إلا إطفاء شوقه لإليزابث، لكنه لم يلبث إلا قليلًا بعدما رآها حتى بهت وعلاه الذهول، هل هذه هي إليزابث التي يعرفها؟ لقد كانت تؤمن بإيمانه وتدين بمبادئه، وكانت عونه على هاريت جروف حين تنكرت له وعقت مبادئه وعادت إلى مثل أوهام العامة وعقائدها، فكيف بها هي الأخرى تفعل فعلة هاريت وتثور به وبمبادئه وتجعل كل همها أن تجيل الطرف فيمن حولها من الشبان وأكبر رجائها أن تجد منهم زوجًا صالحًا؟ أفترى أولئك الفتيات وبنات جنسهن جميعًا ضعيفات غاية الضعف متى تحركت الأمومة في أحشائهن حتى ينزلن خاضعات لسلطانها عن كل شخصيتهن، ويتجهن بوجودهن كله تلبية لرغبات هذه الغريزة فيهن باحثات في أقرب ما يجاورهن عن مستقبل وادع مطمئن للنسل الذي تحمل أرحامهن؟ وهل ينسين ساعة بحثهن هذا كل ما يسمو إليه الحب من معانٍ وما يطمئن المحب إليه راضيًا من تضحيات في سبيل تحقيق هذه المعاني؟ ألا تعسًا لنظام الجمعية الزائف القائم على الكذب والوهم المدعم بالقسوة والدماء! فهو الذي يقضي على أذهان بنات حواء هذا القضاء القاسي.
وعبثًا حاول شلي أن يعيد إليزابث إلى حظيرته العليا وأن يردها كي تفسر النفس على صور من السمو لا يطيقها إلا الموهوبون الذين أرسلتهم الأقدار للرقي بالإنسانية درجات جديدة في سبيل الكمال، وجعلت من جهادهم في سبيل رسالتهم لذة عيشهم وسعادة حياتهم، لقد ذاقت الفتاة ما تقدمه الجمعية من صنوف المتاع وما تقتضي ثمنه إذعان بنيها للنطاق الذي ترى فيه الحفيظ على كيانها، لقد ذاقت هذا المتاع المادي القريب إلى متناول اليد، وها هي ذي ترى في الأمومة صورًا أخرى من المتاع لا سبيل لها إلى نيلها إلا بالاندماج في قطيع الجماعة وتقديس أوهامه وتُرَّهَاته، أفتنأى بجانبها عن هذا المتاع لتقف من الجماعة موقف أخيها وتنظر إليها العيون شزرًا وليسمي القانون متابعتها عواطف قلبها عهرًا؟ كلا، ولئن كان شلي أخًا صادق الأخوة، فأول واجبه أن يبحث لأخته عن زوج نبيل غني جميل تستكمل به كل ما في مادة الحياة من متاع وتؤدي به للأمومة واجبها.
ويئس شلي من أخته كما يئس من قبل من ابنة عمه، فلم تبق له لذة في مقامه بين أهله، وجاءته دعوة من هوج كي يذهب إليه في يورك، وأخرى من فتاتي وستبروك وثالثة من خاله الكبتن بلفولد، ولكنه تردد في قبولها جميعًا ثم فضل عليها دعوة أحد أقاربه إلى بلاد الغال على شاطئ البحر آملًا أن يجد من جمال طبيعة تلك البلاد ومن تلاطم الموج والصغر ما يسُكِّن ثورة نفسه وما يبعث إلى قلبه السلوان عن مصابه في ذهن أخته، وفي مقره الجديد نصب نفسه رسولًا يدعو إلى الحرية والحق والتسامح في رسائل كانت تستنفد أكثر وقته يكتبها إلى هاريت وستبروك وإلى مس هتشنر وإلى هوج وإلى غير هؤلاء ممن يأنس فيهم ميلًا إلى الرقي نحو الكمال، ولم يطل به المقام في عزلته الجميلة حتى تسلم رسالة من هاريت تذكر له فيها أن أباها يريد أن يعود بها إلى المدرسة التي فصلت منها، ويطلب إليها أن تنكر تعاليم شلي كي ترضى ناظرة المدرسة عن رجوعها، وأنها اعتزمت أن تنتحر كي لا تلبي ما يريدونها عليه، فرد شلي عليها يسكن من روعها وبعث إلى أبيها يلومه لما يحاول من إكراه الفتاة عليه، وغضب أبوها لتصرف هذا الشاب الذي كان راضيًا من قبل عنه مغضيًا عن تعاليمه حين كان يحسب أنه سيتزوج ابنته، ثم إذا به كغيره من أبناء النبلاء يغرون الجميلات من بنات الطبقات الأخرى ثم ينأون عنهن ازدراء لمنبتهن، ولم تطاوع هاريت أباها على أن يكون ذلك شأن شلي، فكتبت إليه من جديد تشكو، وذكرت له أنها متأثرة بخطابه، عدلت عن فكرة الانتحار، ولكنها تريد الفرار معه، فترك الغال حين تسلم رسالتها وذهب إلى لندن كي يحاول إقناع أبيها بأن لا حق له في إكراه ابنته على غير ما تريد آملًا أن تبقى الفتاة في رعاية مستر وستبروك مع بقائها مؤمنة بالحياة الجديدة التي اختار هو لها سبيلها، فلما رأته الفتاة تعلقت به وألحت عليه كي يفرا معًا ليقيما حيث يشاء، وحاول هو أن يردها عن رأيها فكان جوابها: لكني أحبك ولا صبر لي على بعدك.
هنا وجم شلي، وزاده وجومًا اللهجة الصادقة القوية الملتهبة التي اعترفت الفتاة فيها بحبها إياه، لكنه هو لم يُحبِبْ منها عذوبة صوتها ولا جمال تكوينها وإنما أحب منها سمو ذهنها وجمال روحها! على أنه اهتز مع هذا لاعترافها، وشعر معه بسموها على ابنة عمه وعلى أخته، إنها تحبه وتريد الفرار معه مزدرية أوهام الجماعة وعقائدها مستعدة للاشتراك معه في نضالها لهدايتها وإصلاحها، فلم يستطع في تداول نفسه بين اهتزازها إعجابًا بهذا الاعتراف وشعورها بأن ليس يشغلها هذا الحب الذي تريد الفتاة أن يبادلها مثله، إلا أن يملس على شعرها وأن يسكن من روعها وأن يعدها بصدق إخلاصه لها وأنه سيكون إلى جوارها عند أول نداء يصله منها، وكفى الفتاة أن تسمع منه هذه الكلمة ليزول عن وجهها شحوب جاءته به أيمان أقسمها أبوها بأن شلي ضلل بها وأنه لا يحبها، وليعود إلى لونها تورده وإلى وجودها شبابه وفرحه.
وكتب شلي يقص على هوج ما حدث، فأجابه صديقه ناصحًا إياه ألا يفر بالفتاة إلا أن يتزوجها، وإذا كان لا يؤمن بالزواج ويرى فيه نظامًا تعسًا، فليس من حقه لذلك أن يشقي فتاة تحبه، فلن تصيبه هو من هذا الفرار خسارة ولن يناله منه أذى، أما هي فستكون إن لم تتزوجه منظورًا إليها بعين الازدراء حيث سارت، مغضوبًا عليها من أبيها، محرومة من عطفه ومعونته، شاعرة لذلك بألم قد يجني في نفسها الطفلة على حبها إياه، فإذا كان شلي لينفذ مبادئه وتعاليمه ولينفصل حين ذلك عنها، فماذا يكون أمرها وأيان يكون مصيرها؟ أفلا يكون بهذا مسلمًا إياها للتعس والشقاء، وتكون التعاليم التي يريد بها سعادة الإنسانية مؤدية بالفتاة إلى البؤس والسقوط لغير ذنب إلا أنها أحبته؟
وصدمت شلي قوة حجج صاحبه فتراجع أمامها وتردد في وعده الفتاة أن يكون إلى جانبها لأول ما تدعوه إليها، لكن الفتاة لم تمهله في تردده بل بعثت إليه بعد أسبوع من تركه إياها تدعوه إليها، ولم تطل في نفسه المعركة بين المبدأ والواجب، فذهب إليها مذعنًا للواجب معتزمًا أن يفر بها وأن يتزوجها تاركًا بين يدي القدر ما يؤول إليه أمرهما من بعد.
وغادرا عاصمة إنجلترا قاصدين عاصمة إيقوسيا وقضيا في سياحتهما أيامًا شعر شلي خلالها بحياة جديدة تسري إلى قلبه وعاطفة حلوة تتحرك بين جوانحه، لقد فر عصفوره معه طائرًا عن العش الأبوي حبًّا له وغرامًا به، فلم يك حديثها معه عن الحب هذا الحديث القديم يسموان فيه إلى التفكير في المعاني التي يريد هو أن يحيط الحب بها، بل أصبح حديث غرامها هي وتدلهها، وأصبح حديثًا دلالة الألفاظ فيه دون دلالة النظرات والبسمات والقبلات، ها هي ذي تستيقظ إلى جانبه فإذا عيونها إليه معسولة ندية النظرة كلها الشوق والهوى، وإذا أذرعها تطوق عنقه وأصابعها تعبث بشعره وقدها الصغير يجتمع كل ما فيه من حياة صاعدًا إلى قلبها كي يبعث بها إلى فمها فتطبعها على فمه قبلة فيها كل قلبها وكل حياتها وكل حبها، وها هي ذي النهار كله تشدو إليه بأغاريد حبها وهواها، ثم ها هي ذي الليل تطوق ثغرها ابتسامة السعادة ويهفو إلى أذنه تردادها لاسمه حين أحلامها بهنائها ونعيمها؛ لذلك لم يكادا يصلان إلى إدنبرة ويختاران فيها مسكنًا حتى أتم زواجه منها وملكه إياها، وكذلك قضيا أيامًا نسي فيها شلي نفسه ورسالته واستسلم فيها بكله إلى المتاع بحب هاريت حبًّا بعث إلى كل ما يحيط بهما من بحر وشجر وجبل وزهر شذى جعلها تضوع بريح الحب هي الأخرى وتزداد على جمالها جمالًا وسحرًا.
ثم آن لشلي أن يعود إلى تأملاته وتفكيره، فإذا هاريت في شغل عنها بحبها له وعبادتها إياه، فإن هي شاركت فيها كانت صدى له يرد إليه تأملاته هو في صوت عذب وحديث حلو؛ لذلك ود شلي — مع اطمئنانه لعزلتهما وسعادته بحبهما — لو أن صديقه هوج كان معهما، وكأنما كانت الأقدار في هذا طوع رجائه، فلم تك إلا أسابيع بعد عودته إلى التأمل والتفكير حتى جاء هوج في إجازة له يقضيها عند صديقه، وقد بهرته روعة جمال هاريت إلى حد كاد معه يمل حديث شلي وبحوثه ونظرياته، وسُرَّ شلي بأن أتاحت له ضيافة هوج خروج هاريت معه للنزهة وتركه هو لقراءته وتأملاته، فلما آن لهوج أن يعود إلى يورك اقترح عليهما أن يذهبا وإياه لها، وسافر ثلاثتهم فلم يجد شلي في يورك جمالًا يغذي روحه الدائمة الظمأ للجمال، وزاده همًّا أن لم يصله من أبيه المال الذي اتفق على أن يبعث له به فسافر إلى ككفلد ليرى خاله الكبتن بلفولد وترك زوجه في حماية صديقه إلى أن يبعث إليها بأختها، ولم يملك هوج نفسه من أن يذكر لهاريت أنه يحبها، فصدته الفتاة عنها وقاومت هجوم هواه يومًا واحدًا أن حضرت أختها في اليوم الثاني فحالت بينهما، ولما جاء شلي وأخبرته بخبر هوج لم يزد على أن لام صديقه على سوء صنيعه، ثم غادر المنزل مسافرًا ومعه زوجه وأختها اللتان رأتا في صنيع هوج ما لا يمكن معه احتمال مرآه، وعاد هوج من مكتب المحامي الذي يشتغل في رعايته فألفى المنزل خلاء وإن لم يخبره بالسفر أحد.
واختار شلي الذهاب إلى منطقة البحيرات إذ كان يقطنها الشاعران الكبيران سوذي وكولردج، وكان شلي قد بدأ يقرض الشعر، فهو يطمع في مثل عظمتهما ويرجو أن يكون من شعراء منطقتهما، ولما كان دوق نورفلك يقيم كذلك في هذه المنطقة، وعلم بمجيء شلي إليها، فقد كتب يدعوه وزوجته إلى قصره، وهناك عرف صديقًا لسوذي ذهب به إلى بيت الشاعر الذي كان يحل من نفس شلي أسمى مكانة وأرفعها، لكن شلي لم يلبث أن تولته الدهشة حين ألفى زوجة سوذي أبعد ما تكون عن إلهام الشعر وإن كانت ربة دار مضربًا للمثل، ولما دار بينه وبين سوذي الحديث بهت مما سمع، فسوذي، هذا الشاعر الفحل، يقول إنه متدين وإنه مسيحي! وهو يحب المال ويطمع في كسبه! وهو يعيش كما يعيش الناس ويفكر تفكيرهم! أليس هذا عجبًا؟! ثم ماذا؟ ثم عثر في مجلة على مقال لسوذي يصف فيه ملك إنجلترا بأنه خير ملك جلس على عرش، وعلم أن سوذي يقصد من هذا إلى أن يخلع عليه الملك ألقابه، إذًا فهو رجل يسخر ضميره لمطامعه ولا يرجو من الحياة إلا ما يطفئ ظمأه لنعيم المادة، إذًا هو لا يستحق احترامًا ولا تقديرًا، ليكن له من ملكة الشعر ماله، فلن توحي ملكة أيًّا تكون باحترام صاحبها إذا نزل بأخلاقه وبعمله في الحياة إلى المستوى الوضيع الذي لا يطمع الناس منه إلا في كاذب الجاه وفي اكتناز المال.
أما سوذي فعجب لأمر شلي وصلابته في رأيه وإن لم ير في ثورته بالدين إلا مرحلة من مراحل التفكير يمر بها الشباب الذكي جميعًا ثم يعودون إلى نوع من الإيمان له روعته وجلاله، بل لقد كان شديد الاقتناع بأن سيكون ذلك شأن شلي؛ لأن نفسه نفس شاعر، ونفس الشاعر لا تطيق الإلحاد وما يصور الإلحاد من عدم، ولأن نفس الشاعر تخلق فلا تستطيع أن تنكر الخلق، ولأنها جميلة فلا معدى لها عن الإيمان بالجمال، ومن يدري أي مصير كان قد أعده القدر لإيمان شلي لو أن منيته لم تعاجله فامتد به العمر حتى رأى من عبث الأقدار بالناس والحياة أكثر مما رأى!!
وكان من حظ شلي ألا يفجعه القدر حتى يسرع إلى أن يعوض عليه فجيعته، فكما عوضه عن هاريت جروف بهاريت وستبروك، كذلك عوضه عن سوذي بمن يؤمن به ألف مرة أكثر من إيمانه بسوذي، فقد عرف إذ ذاك أن وليم جُدْوِين حي يرزق وأنه يقيم بلندن، وأنه يستطيع أن يراه؛ لذلك سارع فكتب إلى مؤلف (العدل السياسي) رسالة كلها الإعجاب به والرجاء في الاستماع له، على أن شلي كان يومئذٍ في شغل بمشروع كبير لم يدع له الفرصة كي يسرع إلى لندن للحاق بأستاذه الروحي العظيم، ذلك أن الكاثوليك من أهل أرلندا كانوا يعاملون معاملة شاذة، سببها أنهم على غير البروتستانية دين المملكة ودين الغالبية، فكانوا محرومين من مناصب الدولة غير معترف لهم بكثير من الحقوق المدنية المقررة للإنسان.
وقد رأى شلي في هذا فرصة سانحة ليعلن حربه على الظلم ولينادي بالمساواة بين الناس جميعًا لا يفرق الدين بين أحد منهم ولا يجعل له فضلًا على غيره، وليشن الغارة على رجال الدين وما يدعون إليه من تعصب، وعلى الملوك وما يحيطون به رجال الدين من رعاية يردها رجال الدين إليهم بدعوة الناس إلى تقديس عروشهم والإذعان لظلمهم واعتباره بعض ما أراد الله لخيرهم، ولهذه الغاية وضع نداء مطولًا دعا فيه إلى مبادئه، وفي مقدمتها التسامح، وإلى هذه الأفكار التي خلفتها الثورة الفرنسية وراءها.
لكن الثورة كانت قد أخفقت في نظر الناس من أهل ذلك العصر؛ لأنها بعدما قامت فداء للحرية والمساواة، وبعدما قدمت من تضحيات، وبعدما قضت عليه من رءوس أطاحتها وثروات عصفت بها؛ لم تبلغ من غايتها أكثر من أن قدمت أبناء فرنسا كلهم طعامًا لشهوات نابليون الحربية وأن أجلسته إمبراطورًا على عرش الجمهورية، وسر إخفاقها في نظر شلي وجُدْوِين وكثيرين من كتاب العصر ومفكريه أنها اعتمدت لتحقيق غاياتها على القسوة والعنف، فمهدت السبيل لنفور الناس منها وتنفسهم الصعداء لانقضاء عهدها، ولو أنها جعلت الرحمة والتسامح وبر الإنسان بالإنسان وتفاهم الأخ مع أخيه أساسًا لها، لحققت على الأرض كل غاياتها وإن احتاجت إلى زمن أطول مما كان يقدر رجالها لنجاحها.
ولهذا دعا شلي إلى مساواة الكاثوليك بسائر الإنجليز في الحقوق والتكاليف طالبًا إلى الكاثوليك أن يتمسكوا بحقهم في هذا من غير أن يلجأوا إلى عنف أو دماء، واتخذ مقرًّا لدعوته في دبلن بيتًا أقام فيه مع هاريت وإليزا، وجعل يوزع على الناس نداءه الحار الملتهب لهذه المبادئ السامية، وقد خيل إلى بعض أصدقائه أن البوليس لا بد أن سيقبض عليه وأن أهل أرلندا سيلتفون حوله، لكن هؤلاء خسروا من رسول حريتهم الذي لم يبلغ بعد العشرين من عمره، ووجدوا فيه وفي زوجه الطفلة الرقيقة موضع دعابة وعطف مما جعل البوليس لا يهتم لهما ولا يعبأ بهما.
والحق أن شلي كان مخطئًا كالذين رأوا معه أن إخفاق مبادئ الثورة الفرنسية يرجع إلى التجائها للعنف والقسوة، فالثورة الفرنسية — ككل ثورة غيرها في العالم — لم تبدأ لتحقيق المبادئ التي أعلن أهلها أنهم يريدون تحقيقها، بل هي بدأت أول أمرها لأسباب اقتصادية بحتة، وكان الذين سبقوها من أمثال روسو وفولتير وديدرو قد نادوا بأن سعادة الناس تتم إذا تحققت المبادئ التي أعلنوها، فلما دكت قوائم عرش فرنسا وأزيح كابوس الجوع وبدأ الذين ألقت إليهم ظروف ذلك العصر مقاليد الأمر يفكرون في الطريقة التي يسعد الناس بها؛ تناولوا المبادئ التي كان الناس من قبل يقرءونها فتلذهم قراءتها من غير أن يؤمنوا بها.
وكان كثير من حكام المصادفة أولئك أقل الناس إيمانًا بفائدة المبادئ التي أعلنوا أنهم يريدون تطبيقها ويحاربون من يقف في سبيلها، لكنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من ذلك استبقاء للسلطة في أيديهم وتخلصًا ممن قد ينازعهم إياها، فهم إذًا متعصبون لمصالحهم كرجال الدين ممن يحاربهم شلي سواء بسواء، لكنهم وحدهم هم الذين يوصلون هذه المبادئ السامية إلى ذهن الجماهير؛ لأن الجماهير لا تفهم إلا اللغة الدموية الوضيعة، لغة القسوة والإرهاب والبطش، ولو أن شلي استطاع أن ينزل من سمائه العليا إلى هذه المرتبة لأحاط الجمهور به ولهتف له ولتابعه ولولغ وإياه في الدم ولابتهج لهذا المنظر الذي يحرك فيه حيوانيته الأولى، ثم لثبت قليل أو كثير من هذه المبادئ في ذاكرته يستظهرها بعد رجوعه إلى وعيه، أما وشلي يخاطبه بلغة السماء ويتحدث له عن حب الإنسان للإنسان وتسامح الإنسان مع الإنسان، فلا مطمع له في أكثر من سخرية الجمهور به سخرية شابها العطف على شبابه وعلى جمال زوجته.
وعبر شلي وصاحبته البحر من جديد إلى بلاد الغال يائسًا من أولئك الكاثوليك الذين لا يفهمون، وظل يتنقل في مختلف بلاد الشواطئ البحرية زمنًا لم يهتد فيه إلى مسكن يسر به، فغادرها متجولًا في نواحٍ مختلفة حتى اهتدى في لنموث إلى منزل أعجبه فأقام به؛ أعجبه لما يحيط به من مناظر شعرية جميلة يزيدها عنده جمالًا عزلتها وقلة اختلاف الناس إليها، وفي هذا المنزل قبلت مس هتشنر دعوته فجاءت لتقيم معه، والحق أنه كان بحاجة إلى صديق روحي يبادله الرأي ويدرك وإياه صور الحياة، فلقد ظلت هاريت طفلة، ولم تزد على ما كانت عليه تلميذة، وكان هو يومئذٍ في بدء نشاطه الشعري يضع أولى قصائده الكبرى المعروفة في ديوانه (بالملكة ماب) أودعها ما وصل إليه من فلسفة، وكان يريد من يردد شعوره ويقدر آراءه، فلما حاول، يريد أن يجد من هاريت ذلك الشخص؛ تبدى له أنها لا تتذوق الشعر ولا تفهم الفلسفة؛ لذلك طار سرورًا من مجيء مس هتشنر وطلب إليها أن تزيد في تهذيب زوجته، ولعل هذه كانت طلائع التباين فيما بينهما تباينًا ينتهي إلى الافتراق وإلى انتحار هاريت غرقًا ويدس إلى حياة شلي همًّا ناصبًا يظهر أثره من بعد في كثير من شعره.
(٣) بعض نثره وشعره
أقام شلي بالمنزل الذي اختاره في لنموث ومعه زوجه هاريت وستبروك وأختها إليزا ومس هتشنر حتى أوائل خريف سنة ١٨١٢، ومن لنموث وجه شلي إلى القاضي لورد اللنبرا خطابًا كان أعظم أثرًا وأشد وقعًا من كل ما حاوله في أرلندا، وكان وما يزال ينبئ عن قوة شلي في النثر بما لا يقل عن قوته في الشعر، فقد حكم هذا القاضي على مستر إيتون بالسجن والتعذيب، لأنه نشر كتابًا يطعن على المسيحية وينكر فيه المعجزات والبعث، ويرى في التثليث نظرية لا يقبلها العقل، ولم يدر بخلد أحد أن يجعل من هذا الحكم موضع طعن أن كانت للأحكام في كل أمة قداستها، على أن كُتَّابًا في فرنسا وفي غير فرنسا ممن يعجب بهم شلي لم يترددوا حين رأوا في الحكم ظلمًا عن أن يكرسوا الكثير من جهودهم لرفع الظلم بالعمل لإعادة النظر في الدعوى، وهذا فولتير جعل من قضية كالا الذي حُكِمَ عليه بالإعدام وبتجريد أبنائه من ثروتهم موضعًا لحملة انتهت بإعادة النظر في الحكم، وبإعادة شرف كالا إليه بعد إعدامه، وإزالة ما ترتب على الحكم الأول من نتائج بالنسبة لأبنائه ووارثيه، والحكم على مستر إيتون أجل في نظر شلي خطرًا، فهو لا يقتصر على إدانة إنسان من الناس بل يدين حرية الفكر والتعبير عنه، ويقيد العقل بقيود تضطر حر الرأي إلى النفاق للجماعة مخافة ما ينزل به من عقاب، وتحول بين الجماعة والاستفادة من تفكير ذوي المواهب الذين تبعثهم الأقدار ليداوموا السير بالإنسانية إلى ناحية الكمال؛ لذلك وجه إلى اللورد اللنبرا خطابه القوي مفتتحًا إياه بقوله: «مولاي، أما وللمركز الذي دعتك بلادك لتقوم فيه ما له من أهمية، فالتبعة المترتبة عليه هي لذلك أعظم خطرًا، ويجب لذلك عليك مداومة النظر في أنك لم تحكم خطأ بالعقاب على فاضل أو بالمكافأة لناقص، وصحيح أن القوانين القائمة تحميك من محاسبة أية سلطة دستورية إياك بسبب الحكم الذي أصدرته على مستر إيتون، لكن ليس ثمة أي قانون يستطيع حمايتك من سخط الأمة عليك وعدم موافقتها على حكمك، وليس ثمة قانون يحول بينك وبين حكم الإعقاب عليك إذا كان للإعقاب أن تعنى بذكر شأنك.» ثم ينطلق شلي مندفعًا: «لكن بأي حق تعاقب مستر إيتون؟! ليس هناك إلا سوابق عتيقة من أيام تحكم الكهنوت وظلمهم هي التي يمكن التذرع بها لإهانة الإنسانية والعدالة هذه الإهانة المزرية.
إن نظام الاضطهاد لا يضارع عجزه ولؤمه إلا اضطراب المنطق فيه، فالمطابع مثقلة بما يسمى (تهكمًا فيما أظن) الأدلة المثبتة للمسيحية، وهي كتب حافلة بالمطاعن والأكاذيب على منكريها، وقوامها أن كل من يرفض المسيحية مجرد من الإدراك والشعور، وسبيلها أن تقرر ما لا دليل عليه، وأن تتخذ من الأباطيل الشائعة المنفرة، مبادئ أولية صحيحة، ومن النتائج المستخلصة من هذه المقدمات المفترضة، بِنًى شاهقة المنطق، ولكن إذا كان الأساس واهيًا فما الحاجة إلى مهندس ينبئنا بتداعي البناء؟ وإذا كانت حقيقة المسيحية لا نزاع فيها فلماذا توضع هذه الكتب؟ وإذا كان الموجود من الكتب كافيًا لإثباتها فما وجه الحاجة إلى جدل جديد؟ وإذا كان الله قد تكلم فلماذا لم يقتنع العالم؟ وإذا كانت المسيحية ينقصها علم أعمق وبحث أشق لإثبات حقيقتها ففيم اللجوء إلى القهر فيما لا يسع سوى العقل الإنساني أن يؤديه على وجه يرضيه؟
من الحقائق التي لا سبيل إلى نقضها أنه لو لم يكن اليهود هجمًا متعصبين، أو لو أن عزيمة بونتياس بيليت كانت كصراحته، لما استطاع الدين المسيحي أن يستفيض، بل لما أمكن أن يوجد، فيا مَن أعزُّ آرائه عليه رهنٌ بمثل هذا الخيط الضعيف، وأعلقُ عواطفه بقلبه مصدرها يعتوره الشك، تعلَّمْ على الأقل التواضع، واعترف بأن من الجائز أن تكون تربيتك وظروفك قد سولت لك التسليم بقواعد لا ينهض عليها دليل ولم تثبت صحتها على وجه مقنع مرضٍ، واعترف كذلك على الأقل بأن فساد رأي أخيك ليس بالسبب الكافي الذي يجعله أهلًا لكرهك، أمن أجل أن إنسانًا مثلك ينكر أن عقيدتك معقولة، يكون حقيقًا بعقاب التعذيب والسجن؟ وإذا سلمنا بجواز الاضطهاد الديني فما أوسع الباب الذي يفتح ويقتحم منه المتعصبون من كل لون على سلم المجتمع وسلامه! وأي وحشية وفظيعة دموية لا تنقلب مباحة؟ ولكني أسأل: أليس ذلك الرجل الذي ينكر صحة عقيدة شائعة أحق بتعظيم المجتمع منه بسخطه وغضبه؟ لأنه إما أن يثبت زيفها وعمقها (وبذلك يقضي على ما هو زائف ولا طائل تحته) وإما أن يتيح لأنصارها الفرصة لإثبات صدقها وجمالها، وهذا — على التحقيق — لا يمكن أن يكون جريمة، فإن من يهب وقته للبحث الحر والتحقيق الجريء في كبرى المسائل التي ترجع في مرد أمرها إلى طبيعتنا الأخلاقية، يكون أجدر بتشجيع المشترعين المتنورين منه بأن يحيق به انتقامهم، وأحب أن تعلم يا سيدي اللورد أن أغلال الحديد لا تقيد ولا تخضع روح الفضيلة، وأنها تسمو فوق وحشية المحابس وقسوتها، وترتفع حرة جريئة إلى حيث لا تقدر روحك أن تحلق وراءها من مقعدك الفخم في القضاء، ولست أدعوك لتحذر أن تنسيك مسيحيتك أنك إنسان، ولكني أعظك أن تستعجل ذلك العصر الذي يقبل علينا مسرعًا في ظل نظام القهر الحاضر، والذي تكون فيه مجالس القضاء حقيرة مأجورة، وتكون السجون منازل لكل ما هو شريف وصادق.
سُقي سقراط السم لأنه اجترأ أن يكافح الخرافات التي كان مواطنوه يلقنونها وينشأون عليها، ثم ما عتمت أثينا بعد موته بقليل أن تبين لها ما في حكمها عليه من الظلم فانتصفت له من متهمه «مليتاس» ورفعت سقراط إلى قريب من مراتب الأرباب.
وصُلب المسيح لأنه حاول أن يهذب طقوس موسى ويستبدل بها ما هو أدنى إلى الإنسانية وأشبه بالخير، ولقد أعلن قاضيه على الملأ اعترافه ببراءة ساحته، لكن الشعب الجاهل المتعصب أبى إلا الفعلة الشنعاء، فسرح براباس القاتل الخائن وقدم المسيح الوديع المصلح قربانًا لإله اليهود الدموي، ثم مضى الزمن وتبدلت الأحوال وتغيرت معها آراء الناس وراح الغوغاء على عادتهم من التطرف يرون في صلب المسيح خارقة، ولم تعوزهم شواهد المعجزات وآياتها — وما أكثرها في عصور الجهالة! — ليثبتوا بها أنه كان من الله، ودارت هذه العقيدة في النفوس مع العصور والتقت بأحلام أفلاطون ومنطق أرسططاليس، واكتسبت القوة والسعة والامتداد حتى تقررت ألوهية المسيح وصارت المنازعة فيها مجلبة للموت، والشك في صحتها جريمة وعارًا.
والمسيحية الآن هي الديانة المقررة، فمن أراد أن ينازع في ذلك فعليه أن يوطن نفسه على أن يرى السفاكين والخونة يتقدمونه في اعتبار الرأي العام، إلا إذا كانت عبقريته كفاء شجاعته وآزره من ظروف الأحوال ما يكفل له أن ترفعه الأجيال المقبلة إلى مصاف الآلهة، وأن تضطهد الناس باسمه وفي سبيله كما اضطهد هو باسم من كانوا أسبق منه إلى الفوز بعبادة العالم.
إن الزمن ليقترب مسرعًا حين يعيش المسلم واليهودي والمسيحي والمؤمن والملحد معًا في جمعية واحدة يتقاسمون متساوين ما ينشأ عن اجتماعهم من فوائد ويتحدون مرتبطين بروابط الإحسان والحب الأخوي، وأرجو لمولاي اللورد أن يرى ذلك اليوم.
ولما أتم شلي خطابه هذا حاول العود لإتمام قصيدته «الملكة ماب»، لكن حياة لنموث بدأت تثقله وتدفع الملال إلى نفسه، ذلك أن الغيرة دبت إلى نفس زوجته من مس هتشنر فرأت فيها منافسًا لها دس الهم إلى حياتها، وربما وجد شلي الوسيلة إلى الدفاع عن ضيفه لو أنه وجد منها ما كان يرجو من مشاركته في تفكيره وإلهامه بما يزيده تحليقًا في سماء الشعر ينهل فيها كل ما يريد من صور ومعانٍ وألوان، وزاد في همه أن رأى هاريت لا تتابعه في جولات خياله وذهنه بما يزيده قوة على قوته وسموًّا على سموه، بل وقفت تتلفت إلى ما حولها تبتغي من متاع الحياة مثل ما ابتغت من قبلها أخته وابنة عمه، حينذاك أيقن شلي أن لا سبيل للبقاء في وحدة الريف واعتزم العود إلى لندن عله يجد في الجماعة مسليًا عن هذه العواطف الوضيعة التي بدأ المحيطون به يشغلون بها ذهنه، وفي مقابلة جُدْوِين منشطًا لروحه في توثبها للعمل على سعادة بني الإنسان إخوته، واختار في العاصمة فندقًا صغيرًا أقام وصحبه فيه، ثم ذهب مع زوجته في يوم من أكتوبر يزور أستاذه في موعد حدده، وكان جُدْوِين يقيم بمنزل صغير يتصل بمكتبة يطبع هو فيها كتبًا للأطفال ويبيعها، ذلك أن مكانته التي بلغها بعد نشره كتاب (العدل السياسي) والتي دعا فيها إلى هدم نظم الزواج والأسرة والنزوع إلى صورة مخففة من الشيوعية كانت قد ضعفت بمقدار عظيم، فلقد كان يوم كتب هذا الكتاب قسيسًا خرج على زمرته وأطلق العنان لفكره، لكنه ما لبث بعد ذلك أن تزوج من ماري ولستنكرافت التي ماتت تاركة له ابنة دعتها باسمها ماري وابنة أخرى من زواجها الأول هي فاني أملاي، ولم يمض على موتها حينٌ حتى تزوج مرة أخرى من جارة له كانت تبدي إعجابها به، وكانت ذات ابنة من زواج أول هي جين كليرمون، وقد اجتمعت الأسرة في انتظار زيارة شلي وزوجته لم يتخلف منها إلا ماري التي تزوجها شلي من بعد، لأنها كانت على سفر في إيقوسيا، وقد ربطت هذه المقابلة الأولى بين شلي وزوجته وجُدْوِين وأسرته بأقوى الروابط، على أن فاني وجين — وكانتا فتاتين ذواتي جمال وعلم — ما لبثتا أن رأتا شلي واستمعتا إليه حتى أظهرتا غاية الإعجاب بجمال نفسه وسمو ذهنه ومتوقد خياله، وحتى شعرت كل واحدة منهما في أعماق نفسها بميل نحوه دفعها إلى التقرب منه والعمل لاجتذابه، وشعر هو من ناحيته بأنهما أكثر من هاريت معرفة وأقدر على تتبع البحوث الفلسفية وتذوق جمال الشعر.
ومن طريق أسرة جُدْوِين تعرف إلى نيوتن، وكانت أسرة متأثرة بتعاليم الثورة الفرنسية وبالثقافة الفرنسية إلى حد ملك لب شلي، وكيف لا تملك لبه ولم تقف عند التهذيب تأخذ منه بأعظم نصيب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فطبقت في كثير من نظم حياتها مبادئ الإنسانية التي أعلنتها الثورة، لم يكن أحد من أفرادها يأكل اللحم وكانوا جميعًا يميلون إلى ناحية الحياة الطبيعية التي دعا روسو إليها بقدر ما تسمح به ظروف الحياة، ومن ذلك أن كانوا يتركون أطفالهم عراة ما داموا في الدار، وقد قارضوا شلي إعجابًا بإعجاب وتقديرًا بتقدير، وشاركتهم في ذلك أخت لمسز نيوتن تدعى مدام دبوانفيل، تربت هي وابنتها في فرنسا ونشأت على تعاليمها، وكذلك استطاع أن يجد في المدينة منجاة من تلك الوحدة التي أثقلت كاهله في لنموث والتي اضطرته إلى هجر تلك البقاع الجميلة المحبوبة التي ألهمته خطابه إلى لورد اللنبرا والتي كان يتمنى لو أتم فيها قصيدته (الملكة ماب).
وزاده أنسًا إلى المدينة وحياتها أن استطاعت زوجته — أو أختها إليزا على وجه أصح — أن تجعل عيش مسز هتشنر معهم محالًا حتى لتطلب هي مغادرتهم شاكية ما أصابها بسبب دعوة شلي إياها من انقطاعها عن المدرسة التي كانت تعمل فيها ومن سوء سمعة زعمت أنها علقت بها لاتصالها برجل هو من الجمعية موضع الريبة.
ولقد اقتطع لها شلي من أربعمائة الجنيه التي كان يعيش عليها مائة كاملة ورتبها لها لتعيش منها برًّا بها وتقديرًا لتبعته في دعوتها، وعلى أثر سفرها عاد إلى جو الأسرة طمأنينته وعاودت هاريت ابتسامتها وعادت هي إلى تغريدها، ومع ما كانت تلمع إليه بعض فتيات جُدْوِين من ميلها إلى التجمل بما لا يتفق مع بساطة الحياة الطبيعية، ومع ما كن يتهامسن به مشفقات على شلي من أنه لم يتزوج الشابة التي تسعده وتلهمه، فقد ابتهج هو بعودها إليه وفتح لها من جديد كل قلبه، ثم زاده بها شغفًا أنها حملت، فود أن يستعيد وإياها ألوان متاعهما السابق؛ لذلك هجر العاصمة ومعهما إليزا وسافرا إلى إرلندة وإلى الغال لا يبتغيان من رحلتهما هداية أحد ولا الدعوة إلى جديد، وإنما يرجوان أن تحدثهما أماكن شهدت غرامهما بأهازيج هذا الغرام لتزيد في أنغامه الثائرة من حنايا جوانحهما ما يزيدهما صبابة وهوى، وكانا سعيدين طوال رحيلهما مطمئنين إلى حبهما، على أن ما دعا في الحقيقة إلى هذه السفرة ثورة قامت بنفس شلي جعلته يحس في أعماق نفسه من غير أن يستظهر أمام بصيرته أن شيئًا قد اندس بينه وبين هاريت يوشك أن يفصل بين قلبيهما وأن يبتر صلة حبهما، وكان رجاؤه أن يعود إلى ملك عصفوره إذا أزال من نفس عصفوره الوهم أن أحدًا ينازعه فيه، وكان رجاء هاريت أن تعود إلى ملك صاحبها وأن تنزل به إلى مستوى الناس الذين يعرفون للحياة المادية قيمتها ويعملون على الاستمتاع بكل مظاهرها على نحو ما يستمتع غيرهم بها.
وتقدم بهاريت الحمل، فلم يك بد من عودهم إلى العاصمة مرة أخرى، ووضعت بنتًا أسموها (يانت) جعلت أمها أشد حرصًا على صلاتها بالجمعية وعلى محاكاتها إياها، وفيم كان زواجها من حفيد البارون شلي صاحب الثروة الضخمة والضياع الواسعة إذا كانت لا تطمع في حياة ضريباتها النبيلات، بل في حياة العامة من الناس؟ ولعلها كانت لا تغلو في هذا الميل لو أن أختها إليزا لم تكن دائبة التحدث لها عنه والعود بها إلى أن ذاك كان كل رجائها ورجاء أبيها من صلتها بشلي.
واضطر هو آخر الأمر إلى الإذعان لمشيئتها، فاقتنى لها عربة ولم يرفض أن يصحبها مرة إلى بائع الحرائر وأخرى إلى صانعة القبعات، ثم ألحت عليه، وعاونتها إليزا في إلحاحها، أن يعمل على استعادة صلته بأبيه، واضطرته، فكتب له يرجو زوال ما بينهما من قطيعة، لكن هذا السعي أخفق بعد أن أصر مستر تموذي على أن يعلن ابنه النزول عن آرائه والعود إلى حمى الجمعية ونظامها، وأحفظ رفض شلي شروط أبيه قلب إليزا وقلب هاريت وزاد فيما بين الرجل وزوجته من شقة خلف كان لا يزيدها تعاقب الأيام إلا انفراجًا، وكان من أثر ذلك أن جعل شلي يجد المسرة في مقامه بين أسرتَي جُدْوِين ونيوتن وفي السفر وحده إلى حيث تقيم مدام دبوانفيل مع ابنتها كورنليا ترنر يقضي في ضيافتهما أيامًا وأسابيع، بل لقد أقام عندهما في إحدى الضيافات شهرين متتابعين تاركًا هاريت وأختها ينعمان بما تشاء أهواؤهما التي هوت إلى مستوى أهواء الجماعة الإنسانية، وكان إعجابه بكورنليا يزداد يومًا فيومًا حتى انقلب حبًّا وحتى فكر في اختيارها رفيقة حياته.
لكن أسرة نيوتن كانت — برغم حريتها في التفكير وتطبيقها صور تفكيرها في طعامها وفي حدود المنزل — أسرة أرستقراطية النزاعات في علاقتها المدنية، فلم يرقها هذا التفكير من جانب شلي في مخالطة كورنليا، وأدرك هو هذا فاكتفى بسعادته بين أولئك السيدات الرشيقات البالغات من عذوبة النفس وسمو الإدراك ما لم يكن يجده إلا في جماعة جُدْوِين، على أنه أدرك وجوب الانقطاع ولو إلى حد عن تكرار زياراته لهؤلاء وأولئك، وأكب حتى فرغ من (الملكة ماب) وقد أودعها كل ما دار في نفسه عن الحياة من خواطر وما وقع عليه في أثناء مطالعاته من معارف وأفكار وجعلها كأنها كتاب الرسالة التي ظن أن القدر ألقى عليه إبلاغها للناس، وكم كان غضبه لتدهور عقلية الجماعة شديدًا حين قابلت (الملكة ماب) بفتور لم تتخلص من أثره بعد أن علا في الشعر نجم شلي، بل لقد ظلت حتى اليوم منظورًا إليها على أنها دون ما أبدع بعد ذلك من معجزات الشعر بكثير.
ولقد كان واجدًا عن فتور الجمهور بإزاء قصيدته عزاء لو أنه وجد في هاريت أو في غيرها عطفًا عليه يقوي عزمه ويشد قلبه، لكن هاريت كانت على العكس من ذلك قد أمعنت في إهماله حتى لم تأب الظهور في الجمعية مستندة إلى ذراع الضابط رايان الذي جعل يتردد عليها بحجة أن له بأختها إليزا معرفة قديمة، وقد حاول شلي أن يسترد قلبها وأن يحول بينها وبين الانحدار إلى أعمق مما انحدرت إليه، لكنه ألفى هذا القلب تحجر فلم تعد تهزه بإزائه عاطفة ولا يحركه نحوه ذكر للماضي ولا رجاء في المستقبل.
وإنه لفي يأسه من هذه الناحية إذ أقبل عليه جُدْوِين يستعينه في متاعب مالية أعانه شلي من قبل في مثلها، وطار شلي إلى داره راجيًا أن يجد في صحبة جين وفاني بعض السلوى عن عقوق هاريت وجحودها قداسة حبهما، ولم يخنه القدر ولا نبا به حظه هذه المرة، فقد طالما تحدث إليه جُدْوِين عن ابنته ماري وذكائها ونشاطها وحبها المعرفة ومثابرتها على النهل من موارد العلم، ولطالما وصفتها له جين وفاني على أن ذكاءها يعدل جمالها، وما كانت أشد حاجة شلي ليجد الملاك الذي يجمع إلى الجمال الذكاء وإلى عذوبة الروح سمو النفس وإلى طهارة الضمير عظمة القلب، والذي يضيء جمال وجهه بما في الوجود من قوى الفضل والخير الكمينة مبعثرة في ثناياه! ما كان أشد حاجته إلى أن يهب كل ما في قلبه من حب للوجود لتلك الجميلة التي تضيء وجهها بكل جمال الوجود! وألفى ماري ساعة وصل إلى بيت أبيها قد عادت من إيقوسيا وجلست بين جين وفاني اللتين قدمتاه إليها وذكرتاه بحديثهما عنها كما ذكرتا له أنهما حدثتا أختهما عنه، ولم تك إلا سويعة تحدثت ماري إليه فيها حتى سحرته عن نفسه، فجعلته يرى في جمالها وشبابها ورقتها تلك الرشاقة النسوية مجتمعة إلى النشاط والطلعة الذهنية التي تميز الشبان اجتماعًا كان يراه دائمًا صورة الكمال الإنساني في خير ما يستطيع الفن أن يكون، والحق أن ماري كانت ذكية الجمال تنطق قسمات وجهها الرقيقة غاية الرقة بما تنطوي عليه جوانحها من أنفة، وتنم عيونها الكستنائية اللون عن شيء من الألم لم يعرف شلي مصدره إلا بعدما علم أنها تزور كل يوم قبر أمها تقرأ عنده كتبها وتستودعه همها وشجنها، وقد أجابت طلبته أن يصحبها كل يوم إلى هذا القدس تنطوي صفائحه على أقدس حب امتلأ قلبها به منذ طفولتها، وأمام هذا القدس ارتبط القلبان اللذان جعلا كل يوم دأبهما الصلاة له، ارتبطا وتعاهدا على أن يكون كل منهما لصاحبه حتى آخر دهر.
ولما علم جُدْوِين بما بين ابنته وشلي حال بينهما ومنعه عن بيته، فأجج بذلك نيران قلبه وجعله يعتزم اصطحابها والفرار وإياها، وأيقن أن لن يؤنبه ضميره من ناحية هاريت بعدما ظهر منها أنها لا تعني بغير ماله، فدعا بها من الريف إلى لندن وأخبرها بعزمه وبأنه جعل لها راتبًا يكفيها عيشها، لكن العصفور رقيق التكوين فلم يحتمل الصدمة فمرض، ثم حاول أن يسترد صاحبه إليه فلم يفلح أن كان قلب صاحبه قد أصبح في ملك غيره.
(٤) ماري جُدْوِين
كانت أبواب أوربا قد فتحت أمام الإنجليز بعد ذهاب نابليون إلى إلبا، فلما أبلت هاريت من مرضها اتفق شلي وماري وصحبتهما جين، أن كانت تشعر بميل نحو شلي، فسافروا إلى سويسرا وجاسوا خلالها حتى لوسرن، على أن مقامهم بين جبالها وعلى شواطئ بحيراتها لم يطل أكثر من ستة أسابيع عادوا بعدها إلى بيت صغير على شواطئ التمس أقام ثلاثتهم فيه، ولقد أدى هذا الفرار ومعاشرة شلي لماري من غير زواج بينهما لمقاطعة جُدْوِين إياه وتحريمه بيته وعلى اللتين فرتا معه، وذلك برغم ما كان لشلي على جُدْوِين من فضل إمداده بالمال في ظروف كان هو وزوجه هاريت في أشد الحاجة إليه، بل لعل هذا الإسراف من جانب شلي كان أهم ما غير قلب عصفوره عليه ودفعها إلى الحرص على أن تمتع من الحياة بما يمتع به غيرها من مثيلاتها مما كان يراه زوجها سخفًا غير لائق بالنفوس السامية، ولم يكن جُدْوِين وحده هو الذي قاطعه، بل قاطعته كذلك أسرة نيوتن ومدام دبوانفيل، وانقطع عليه كل سبيل لرؤية كورنليا ترنر، ولم يبق له من أصدقاء يزورونه غير صديقه القديم هوج وصديق استحدثه في الزمن الأخير يدعى بيكوك.
على أن عزلة شلي مع خليلته وجين لم تحل دون التهاب قلبين بحبه التهابًا دفعهما إلى ما يشبه الجنون، فقد شعرت زوجته هاريت وستبروك من يوم أعلن إليها عزمه على الاتصال بماري جُدْوِين أن ضرام الحب الذي كان قد خبا في قلبها حتى صارت لا ترى عليها من بأس في التحبب إلى أمثال الضابط رايان، تلهبه الغيرة من جديد، وأي شيء أفتك بقلب امرأة من رؤيتها امرأة أخرى تسلبها رجلها وتسلبها معه هناءها ومجدها؟ إنها لترى حقًّا لها أن تعذب من تحب وأن تصد عنه وأن تلاطف غيره، ولترى واجبًا على محبها أن يرى في صدها من علائم الدلال ما يقتضيه مضاعفة التودد لها والإذعان لكل أمرها والتماس الصفح عما دعا إلى هجرها، وإن لم يك شيء قد حدث يوجب التماس الصفح عنه، بل لترى واجبًا كذلك عليه ألا يقتضيها إسعاده أو تهوين الحياة عليه، فإن فعل فهو أثر لا قلب له والأنانية ملء نفسه، أما إن رأى في امرأة أخرى ملاك سعادته فأحبها فتلك الجريمة والطامة الكبرى، وتلك المرأة الغادرة هي أحط من حملت أرض أو أظلت سماء، وكذلك كانت ماري في رأي هاريت، وقد ازدادت لها بغضًا وعن شلي إعراضًا حين بعث إليها يستضيفها عنده في بيت ماري، أفٍّ لهما من منافقين! وأفًّ لهذه اللعينة ماري التي لا تراها هاريت تعدلها رشاقة ولا جمالًا ولا عذوبة صوت ولا حلاوة روح، بل التي لم تؤتَ أي حظ من الجمال، بل التي تستحق أن تسحق وأن تعض بالأسنان وتقطع بالأظافر، ولئن كان شلي قد ضعف أمامها كل هذا الضعف فلتنتقمن منه هاريت شر انتقام.
كان ذلك شأن هاريت، أما فاني أملاي فقد جعلت تحس في بيت جُدْوِين وحدة ممضة مؤذية، وتشعر بنفسها غريبة ليس لها في البيت أم ولا أب ولا صديق، ويلذعها قلبها بذكر ما كان يفيض به إزاء شلي من حب وإخلاص، فها هو ذا شلي قد اختار ماري عليها، وهذه جين قد وجدت في نفسها الجرأة لتصحبهما، أما هي فلم يبق لها في الحياة إلا أن تنظر إلى أشباح اليأس يحيط بها، وأن تتمنى لشلي في نفس الوقت الهناء والسعادة، وكيف تراها تحمل له أي ضغن ولم يكن تفضيله ماري جُدْوِين عليها إلا حلقة من سلسلة سوء الحظ الذي أحاط بها منذ مولدها حتى لجعلها تؤمن بأنها ولدت تحت طالع من النحس لا سبيل لمغالبته، ألم يمت أبوها فتزوجت أمها من جُدْوِين ثم ماتت هي الأخرى تاركة إياها يتيمة الأبوين لا معين لها في الحياة إلا بر هذا الرجل الذي استبقاها عنده رأفة بها وإشفاقًا عليها؟! فإذا فضل عليها شلي أختها لأمها فليس ذلك أقسى ما أصابها به القدر، وبحسبها أن تظل على إخلاصها له ورثائها لما وصل إليه من فقر اضطره ليعيش وامرأتين معه عيش كفاف ودون الكفاف، بل لقد أثقلته الديون حتى اضطر دائنوه إلى أن يلجأوا للقضاء فجعل رجاله يتعقبون شلي يريدون إلقاء القبض عليه كي يفي بديونه أو يسجن، ولولا يقظة فاني وإخطارها شلي بالأمر وفراره من متعقبيه لذهبوا به إلى السجن، ثم لما تحرك قلب أبيه لاستخلاصه بعد الذي كان بينهما من قطيعة وجفاء.
وناء شلي بهذه الوحدة وثقل عليه حملها وأنهكه إلى جانبها هذا العيش الضنك الذي لم يتعود في نعومة أظفاره، فانهدت قواه واندس المرض إلى صدره وأظلمت الدنيا في عينيه ورأى شبح الموت مقبلًا يبتلعه، كم كان من قبل سعيدًا مع هاريت! وكم كان سعيدًا بحديث صديقاته والمعجبات بنبله وجماله وذكائه وسمو روحه! ثم كم كانت السعادة تفيض عنه منبعثة إليه من قلب الرفيقة الجميلة العطوف ماري! وهذا هو يرى نفسه معها منفردًا يتحاشاه الناس ويفرون منه فرارًا ثم لا يكون له عنهم من بديل إلا مرض قاتل. يا لليأس! أيتها الآلهة، آلهة الخير والنعمة والسعادة، أحق أنك جميعًا قد تخليت عن هذا الرجل لغير شيء إلا أنه صديق الفضيلة المخلص ونصير الحرية الصادق! أوحق أنك حكمت عليه بالموت لأن جمعية النفاق والوهم والباطل قد ابتعدت عنه، خشية أن يفضح نوره ما في ظلماتها من رجس وشقاء وجريمة؟! ليكن، فهذه ماري ما تزال تحنو عليه وتبعث إليه من دفء قلبها المملوء حبًّا ما يستبقي خيط الرجاء معلقًا فوق هاوية اليأس.
لكن خيط الرجاء هذا لم يمنعه من أن يرى الهاوية وكل ما حوته، بل لم يمنعه من أن يحدق فيها ببصره ويستمد من مناظرها المؤسية إلهامًا ساميًا أوحى إليه أولى قصائده الوجدانية الكبرى: «الاستور أو روح الوحدة»، وبطل هذه القصيدة شاعر شاب طوف في الآفاق وجاب أقطار العالم أن رأى الوسط الذي يعيش فيه والجو المحيط به لا مهبط فيه لوحي الهدى ولا مبعث لسمو الإلهام، «وأدت به خطاه طائعة مسبح أفكاره السامية إلى زيارة ما خلفت الأيام الخالية من خرائب الآثار، فزار أثينا وصور وبعلبك والبطيح الذي كان مقامًا لبيت المقدس وأبراج بابل المهدمة والأهرام الخالدة ومنفيس وطيبة، وكل ما تخفيه تلال الحبشة السوداء الصحراوية من عجائب النقوش على المسلات والمقابر وآباء الهول المحطمة، وهناك خلال المعابد الخربة حيث تقوم العمد والصور العجيبة لما هو أعظم من الإنسان، وحيث ترقب شياطين الرخام أسرار نيران الزوال، وحيث يعلق السلف أفكارهم الصامتة على صمت الجدران المشتملة إياه هناك، أمهل الخطا مستذكرًا العالم في صباه محدقًا طوال النهار المحرق بهذه الصور الصامتة، وما كان القمر إذ يملأ الصالات العجيبة بظلاله المتموجة ليقفه دون متابعة استذكاره، بل ظل يحدق ويحدق حتى أضاء خلاءَ عقله نورٌ كأنما هو الإلهام القوي جعله يرى من خفايا الزمن يوم ولد ما يهز النفس»، وهناك جاءت له صبية من بنات العرب بطعامه فكبلها غرامًا، لكنه ما لبث أن عاود تَسْيَارَه خلال بلاد العرب والعجم والهند، جوَّابًا ربوع الأرض وأقطارها باحثًا عن الحقيقة، حتى إذا كان يومًا مستلقيًا خلال غابة تظله رأى في أثناء نومه «صبية مبرقعة تجلس إلى جانبه وتتحدث في أنغام مهوبة خفيضة بصوت كأنه صوت روحه حين يستمع إليه في هدأة تفكيره، وكانت المعرفة والحق والفضيلة مدار حديثها، كذلك كانت الآمال الكبرى في الحرية المقدسة وما إلى هذه الآمال من أفكار هي أعز الأفكار عليه، ثم كان الشعر أن كان هو شاعرًا»، وتجلت الصبية له في خلال هذه الآمال والأفكار والمنى فإذا جمال شخصها عدل جمال نفسها، واندفع محاولًا ضمها إليه والإمساك بها، لكنها تراجعت ثم ابتلعها ظلم النوم، ولم تجده محاولته إعادتها إلا أن أيقظته الهزة فإذا القمر ينحدر إلى المغيب وتباشير الضياء ترتفع خلال سجوف الليل، «إذًا ضاعت هذه الصورة الجميلة، وضاعت إلى الأبد في تلك الصحراء الواسعة لا طرق فيها، صحراء النوم الكالح! أفيؤدي باب الموت الأسود إلى جنتك العجيبة أيها النوم؟» وينطلق الشاعر مفكرًا في أثناء تَطْوَافه مستذكرًا صورة النوم الجميلة ملفيًا جمالها في كل ما تخلع الطبيعة على الوجود من جمال، وفيما كان عند اليونان بَصَرَ بزورق لا مالك له فألقى بنفسه فيه ودفعه إلى لج الموج يتقاذفه رجاء أن يجد إلى الموت سبيله، وتدافع الموج والزورق حتى دفع به إلى جبال القوقاز في نهر تحيط به أحراش وغابات، وهو خلال ذلك كله ما يكاد ينجو من خطر حتى يفجَأَه خطر جديد يقرب له الأمل في النجاة بالموت والعود إلى صورته الجميلة التي أراه النوم إياها، وفي هذه السياحة يشدو شلي متغنيًا ببهاء الطبيعة وحلو حديثها العذب إلى نفس بطله الشاعر المشوق للموت حتى يصل ببطله إلى غايته، وفي سياحة الزورق هذه بين موج البحر وفوق لجة النهر يصف شلي في النهر الذي أبدعه خياله ما نقل بصره إلى حسه من آثار حين عوده من سويسرا راكبًا نهير الميز ونهر الرين وما على شواطئهما من بدائع الجمال، ويصف منابع التمس التي زارها بعد عوده إلى إنجلترا وحين هدَّه المرض، ويصف تلك المناظر الساحرة التي تهز القلب والفؤاد، مناظر شواطئ التمس كانت وما تزال مثال جمال قل في الجمال نظيره.
قال شلي مقدمًا قصيدته هذه لقُرَّائه: «والصورة ليست خالية من العظة لأبناء الحياة الحقيقيين، ذلك أن الشاعر في عزلته وانحصار خواطره في نفسه تثأر منه شياطين عاطفة قاهرة ما تزال تطارده وتخب به لتبلغ وإياه إلى الدمار السريع، على أن الذين لا يخدعهم خطأ سخي ولا يدفعهم ظمأ قدسي إلى شك المعرفة، ولا تضللهم خرافة باهرة، ولا يحبون شيئًا على هذه الأرض ولا يتعلقون بأمل وراءها، ويقفون بمنأى عن التعاطف مع أبناء جنسهم، لا يسرون بأفراح الإنسان ولا يأسون لأحزانه؛ هؤلاء وأمثالهم يبوءون بلعنة عادلة، يذوون لأنه ما من أحد يشاطرهم الإحساس بطبيعتهم، فهم أموات الأحياء لا هم أصدقاء ولا عشاق ولا آباء ولا هم من أبناء الدنيا ولا المحسنين إلى بلادهم، وأخلق بالذين لا يحبون بني جنسهم أن تكون حياتهم عقيمة وأن يهيئوا لأرواحهم في كهولتهم قبرًا موحشًا.»
وإنك لترى كل تلك المعاني التي أوردتها المقدمة متجلية في أبهى صورها وأعظمها جلالًا وروعة في هذه القصيدة التي لا تزيد على سبعمائة وعشرين بيتًا، والتي تمثل حياة النفس لعباد الوحدة عشاق الطبيعة، مصورة في ألحان سماوية الموسيقى إلى حد يحملك معه على موج أنغامها حتى لَينسيك فيها جمال الأنغام بديع الصور، ولينسيك إبداع الصور روائع التفكير، ولَتنسيك روعة الفكرة جمال النغم، ثم تتزاوج الأنغام والصور والأفكار فيلد تزواجها صورة الشاعر الشاب شلي في وحدته المنقطعة وأمله المتهدم في الحياة ومواجهته الموت في رعدة تتغلب عليها قوة نفسه، وانتصاره بعد ذلك على الألم وعلى المرض وعلى الوحدة وعلى الموت بهذه القطعة الخالدة من موسيقى شعر الآلهة.
وفيما كان شلي في هذه الحال توفي جده السير بيش وآل إليه بالوصية إيراد سنوي يبلغ ستة آلاف من الجنيهات، ولو أنه لم يكن في شغل بتفكيره وبشعره، ولم يكن ينظر إلى مزيد المال على أنه جريمة تدفع إلى النقص وتزري بالفضيلة؛ لناصب أباه الخصومة حتى يصل إلى كل ما أوصى به جده، لكنه لم يرد الانقطاع لعرض الدنيا إذا وجد ما يسد حاجته ويكفيه شر دائنيه؛ لذلك قبل أن يرتب له أبوه من ذلك الميراث كله ألف جنيه في السنة تكفيه وتكفي ماري، وتكفي من يلوذون به من صحبه، وردت إليه هذه الطمأنينة المادية شيئًا من سكينة النفس كان في أشد الحاجة إليه ليتغلب على مرضه، وتغلب بالفعل عليه، وبدأ في سماء المجد يتألق له نجم إن لم يكن ساطعًا سطوع نجم بيرون، فقد كان موضع التقدير من بيرون نفسه، على أن الأقدار لم تكتب لنفسه طول سكينة يومًا من الأيام، فقد بدأت ماري على جمال حكمتها ورجاحة عقلها تحس الغيرة لوجود جين معهما في البيت، وزاد لهيب هذه الغيرة ضرامًا حين حملت فلم تستطع ملازمة شلي مما جعل جين تصحبه في جولاته وتعود وإياه متوردة الخد فياضة القلب بما يبعثه شلي إلى كل ما يتصل به ومن يتصل به من جمال الوجود، وما عسى أن يصنع شلي بإزاء غيرة ماري إلا أن يطأطئ لإرادتها ويخضع لمشيئتها، وبخاصة أن جعلها الحمل في حال عصبية تثير معها كل مناقشة إياها لمشيئة تعلنها دموعًا تذرف وأنات ألم تقطع النياط الحساسة لقلب محبها الصادق الإخلاص، والذي لا يرى مع ذلك في الحب معنى الأثرة الذي يذكي الغيرة، بل معنى التسامح التام والاشتراك مع كل من في الوجود في الإحساس والعاطفة، واضطرت جين لمغادرة المنزل وفي نفسها من الحب لشلي ما بغَّض ماري إليها ودفعها للتفكير في الانتقام لأنفتها الجريحة، ولم يعوزها طول بحث لتدبير الانتقام، فإذا كانت ماري تعتز بخليلها شلي وما له من نبل ومجد ومال فلتتخذ هي خليلًا لها أعرق من شلي نبلًا وأعظم مجدًا وأكثر مالًا، وليكن هذا الخليل لورد بيرون نفسه، ولم تلق في تحقيق غايتها عنتًا؛ فلم يكن بيرون ينظر للحب نظرة شلي ولا كان يعبأ بالعفة ولا بطهر القلب، على أن ماري استراحت حين علمت بنجاح صاحبتها ولم يبق بعد عندها موضع للغيرة منها.
وظلت ماري في سكينتها حتى وضعت طفلًا لثمانية أشهر من الحمل فلم تقدر له الحياة، ولم يطل بها الحزن عليه أن حملت مرة أخرى وأن وضعت غلامًا أسمته باسم أبيها وليم، ولكنها برغم سعادتها بهذا الطفل الثاني وبرغم شعورها بكل ما في الأمومة من مزيد في الحياة، جعلت تحس وحدتهما وسط الجمعية الإنجليزية تزداد وطأتها ثقلًا عليها وعلى برسي، وأكثر من الشعور بالوحدة كان شعور آخر يهيج غيرتها بمقدار ما يهيج آلام زوجها ويبعث إلى نفسه نوعًا من لذع الضمير طالما حاول إخفات صوته، ثم ظل مع ذلك دائبًا على تعذيبه، فقد أصبح هجره هاريت موضع حديث الناس وموضع لغو أصدقائه، وكان إجماعهم منعقدًا على أن البائسة لم تأتِ إثمًا ولم تجنِ ذنبًا، وإنما الذنب والإثم على شلي الذي هجرها وتبدل بها غيرها، وظن أن لم تبقَ له جريرة عندها ما دام قد ضمن لها ولأبنائها منه رزقها، وألح بالزوجين هذا الشعور فانتهيا إلى استحالة المقام بإنجلترا وضرورة هجرها إلى حيث لا يعلم قصتهما أحد، وإذ كانت هواجس ماري قد هدأت من ناحية جين وكانت هذه وحدها هي شريكة حبهما وصلتهما منذ نشأتهما، فقد سمعا إليها حين اقترحت عليهما السفر إلى سويسرا للمقام عند ضفاف الليمان على مقربة من جنيف، وزاد ماري اطمئنانًا إلى اقتراح صاحبة سرها أن علمت أنما حملها عليه اعتزام بيرون أن يسافر إلى تلك الناحية فرارًا من اتهام الجمعية الإنجليزية إياه بمعاشرة أخته أوجستا، فلن تعود بين جين وشلي إذًا أية صلة ما دام بيرون سيقوم منها مقام شلي من ماري، وإذًا فليسافر ثلاثتهم إلى ضاحية جنيف ولينتظروا هناك مقدم النبيل العظيم.
ووصل الجوار ثم وصلت الصداقة ما بين بيرون وشلي، وزاد الصلة بينهما أن ظلت جين مقيمة عند شلي مترددة آناء الليل وأطراف النهار على بيرون، على أن أمتن ما قوى صلتهما كان الوسط الذي يعيشان فيه، وسط سويسرا الشعري البديع الذي يوحي إلى النفس والقلب والفؤاد ما يملؤها شعرًا ويزيدها للجمال قدرًا، وكان هذا الوسط، أول تعارفهما، في أجمل فصوله، فقد نزلا جنيف إبان بشائر الربيع في مختتم أبريل ومفتتح مايو حين تبدأ حياة الطبيعة يقظتها من سنة الشتاء، وحين تبدو أوراق الشجر في خضرتها الجديدة ما يزال لها كل صباها وكل ما للصبا من بهاء وروعة، وحين الثلوج ما تزال تغطي قمم الجبال وتكسو عوالي سفوحها كساء يتباين ضياؤه في أثناء النهار ويكسوه شفق المغيب كما يكسوه مطلع الشمس، من الأحمر القاني إلى الأحمر المتورد، بما يملأ خيال الشاعر بأجمل الصور، وحين تنعكس سفوح الجبال وقممها الرفيعة على سطح مياه البحيرات حين يكون هذا السطح هادئًا، فإذا دفعت الريح الموج متلاطمًا فوقه رأيت السفوح وأشجارها والقمم وثلوجها تموج متلاطمة هي الأخرى، قوَّى هذا الوسط صلة الشاعرين أن وجدا فيه خير مسرح لخيالهما المتوقد، وإن شعرا في شغاف قلبيهما بحب له يزداد استعارًا كلما ازدادا من هذا الجمال الساحر نهلًا، وذلك فرق ما بين حب الطبيعة وحب المرأة، بل هو فرق ما بين حب المرأة وحب كل جمال غيرها في العالم، حب المرأة أناني أثر غايته الحيازة والملك والمذلة والاسترقاق، فكل شركة فيه تنتهي إلى الجريمة، عهرًا كانت الجريمة أو غيرة، وتنتهي إلى القتل وما هو شر منه، أما حب الجمال في غير المرأة فهو الحب الذي يفهمه شلي وينادي به ويدعو إلى الشركة فيه، هو تقديس الجمال في كل مظاهره والاشتراك في هذا التقديس ليزداد بالاشتراك سموًّا وجلالًا، وكم كان لجمال سويسرا واشتراك شلي وبيرون في تقديسه من أثر في شعرهما، على أنه مع ذلك لم يقرب بين روحيهما؛ لأن كل واحد منهما كان يختلف عن الآخر في نظرته إلى الحياة تمام الاختلاف، فقد كان عقل شلي وقلبه وشخصه وكل وجوده شعرًا خالصًا، كان لا يعرف شهوات الإنسانية، ولا يخلط بنفسه وضيع عواطفها، وكان لذلك يرى جمال الكمال ملموسًا محسوسًا، وكان يصور كل ما يقع عليه حسه وكل ما يجيش بقلبه في أنغام من الشعر والنثر لا أثر لغير روح الجمال وعبادته فيها.
وإنك لتعجب حين رجوعك إلى ديوان شعره وإلى رسائله وكتبه إذ ترى كل سانحة من السوانح وكل منظر من المناظر وكل ما اتصل بشلي في يقظته وفي نومه، قد اكتسى ثوب الجمال، وإذ ترى هذا الجمال مصورًا أنغامًا قدسية يختلط عليك حين تقرؤها أشعر هي أم موسيقى أم رسم وتصوير! أما بيرون فكان شاعرًا، ولكنه كان إنسانًا له كل شهوات الإنسان قوية غالبة عليه متحكمة فيه، وكان يرى الجمال من خلال هذه الشهوات فيشدو به في شعره ساميًا بهذه الشهوات نفسها إلى سماء الشعر مُلبِسًا إياها شفوف الجمال، وكان بيرون مشغوفًا بالمجد تتسلط عليه شهوته إلى حد أشفق معه عليه شلي كما أشفق عليه لضعف روحه ونزوله إلى مراتب الإنسانية الوضيعة برغم ما أنعمت به آلهة الشعر عليه من جمال في النفس وسمو في الفكر، وكم حاول أن ينزع به إلى غير ما تدفعه إليه شهواته، وأن يجذبه إلى ناحيته، ناسيًا أن ليس في مقدور إنسان تحوير طبعه، ولم يتغير عليه بعدما افترقا، بل جعل يراسله طمعًا في إنقاذه من براثن شهواته التي كانت في نفس الوقت مصدر كل وحيه وإلهامه.
وبرغم ما امتلأ به قلب شلي من جمال سويسرا فقد كان دائم الحنين إلى بلده، وكان حنينه قويًّا منذ أول مغادرته شواطئها وإن كانت هي التي ألجأته إلى هجرها والفرار منها، قال في خطاب بعث به إلى صديقه بيكوك يعبر عن تحنانه: «إنكم لتعيشون على شواطئ نهر مطمئن بين تلال خفيضة تغطي الغابات سفوحها، ثم إنكم لتعيشون في بلد حر لا يحول بينكم وبين ما تعملون قهر، وتطمئنون فيه إلى ما يقع في ملككم، وما بقيت هنالك ممالك وما بقيت اعتبارات الأثرة التي تنطوي فكرة المملكة عليها، فأنا واثق من أن إنجلترا أكثر الممالك حرية وتهذيبًا، ولعلك كنت حكيمًا في اختيار طريق حياتك، على أني إن عدت واحتذيت مثالك فلن آسف على ما رأيت من ممالك أخرى، فلدينا — لا ريب — كثير من الخبيث والطيب، وكثير يُزدرَى وكثير يمكن السمو به نحو الكمال، لكن ذلك كله لا يعرفه ولا يحس به من لم يبرح حدود وطنه، وما دام الإنسان على ما هو عليه فإن التجربة التي جربها لن تدعوه لاحتقار الأمة التي ولد فيها، بل على العكس من ذلك، هو لن يقدر ما يربطه بوطنه من حب حتى يجعله الغياب عنه أشد شعورًا بجماله، فشعراؤنا وفلاسفتنا وجبالنا وبحيراتنا، وقرانا ومزارعنا التي لا شبيه لها عند غيرنا؛ كل هذه روابط لن تنبَتَّ ولن تتحطم أو أصبح ولا إدراك عندي ولا حسَّ لي.»
وربما فات شلي أن يذكر شيئًا آخر يربطه بإنجلترا ولا يقل عن كل ما ذكر قوة، ذلك عصفوره هاريت وابنته يانت وابن هاريت المنسوب إليه وإن أنكر هو أبوته، فلقد كان كثير التفكير في أثناء وجوده على شواطئ ليمان في هاته التي ترك وإن كان يعلم أنها في طمأنينة مادية بما أجراه عليها من رزق وما يجريه أبوها عليها من رزق مثله، وكان يعلم من أخبارها أنها ساء سلوكها وانحدرت إلى مستوى يقرب من الدعارة، فكان يحس على نفسه في ذلك بعض التبعة، ويحاول إقناع نفسه بما يزحزح التبعة عنه، ولئن كانت هاريت قد أساءت إليه أفليست يانت ابنته ويجري في عروقها الدم الذي يجري في عروقه؟ لكنه لم يكن يستطيع الإسراع إلى مغادرة سويسرا وماري متعلقة بها جريحة القلب من سوء صنيع مواطنيها بصاحبها وبها؛ لذلك اقتنى — بالاشتراك مع بيرون — زورقًا جعلَا من رياضتهما عليه فوق لج الليمان مستوحى لإلهامهما، وكثيرًا ما كانت تصحبهما ماري وجين، فتتغنى هذه الأخيرة بصوتها الحلو الرقيق توقع أنغامه على موجات هواء الجبال العذب الصافي ما يزيد الهواء والبحيرة والجبال جمالًا وما يزيد إلهام الشاعرين روعة وقوة.
على أن جين كانت قد حملت من بيرون منذ كانا في إنجلترا وآن لها وهم في سويسرا أن تضع طفلة دعتها كلارا اللجرا، من يومئذٍ بغضت إلى نفس بيرون، وازداد لها بغضًا حين تحدث إليه شلي فيما يريد أن يصنع بالطفلة وبأمها، وكان بيرون في هذا الظرف غليظ القلب مغاليًا في التبجح باحتقار خليلته واحتقار النساء جميعًا واعتبارهن متاعًا لشهوة الرجال إلى حد لم تطقه الذكية الأنوف ماري، ولم تطق معه البقاء على مقربة من هذا الذي يدعوه الناس نبيلًا فإذا نبله قِحَة، ويحسبونه شاعر الحب فإذا حبه شهوة وإذا شعره غلظة كبد حتى على ابنته، واقترن هذا الشعور عندها بعاطفة البر بأبيها، وذكرت تعاليمه السامية وآراءه في المودة والتسامح والحب، وشاركت شلي في فكرة العود إلى الوطن، فكتب إلى بيكوك يطلب إليه أن يستأجر له دارًا (فيلا) على شواطئ النهر وبين الأحراش والغياض.
وعادوا إلى لندن وفي عزم شلي أن يستقر بوطنه طول حياته، غير ذاكر أن لا سلطان لأحد من الناس على مصيره، جاهلًا ما خبأته الأقدار له من فواجع تَقُضُّ مضجعه وتضطره إلى المقام بقية أيامه بعيدًا عن إنجلترا، فقد كانت فاني أملاي تراسلهم حين كانوا بسويسرا، وكانت رسائلهم لها تبعث إلى حياتها البائسة خيطًا من نور الأمل في رؤيتهم يومًا من الأيام، فلما عادوا إلى لندن وعاشوا فيها عيش يسار استمتعت به جين مع وجود أمها في بيت جُدْوِين ترهق فاني وتعذبها في حين كانت فاني أحق بهذا اليسار إلى جانب أختها ماري، ولما كانت لا تستطيع الالتجاء إلى بيت شلي لتعلق قلبها به تعلقًا يجعلها لا تطيق المقام إلى جنب ماري؛ بعثت إليهم صباح يوم من سنة ١٨١٧ بخطاب من برستول تقول فيه: «إنني ذاهبة إلى مكان أرجو ألا أعود منه أبدًا.» فسارع شلي بالسفر إلى برستول ومنها عرف إلى أين سافرت الفتاة، وذهب إلى الفندق الذي نزلت به فألفاها انتحرت بالسم وتركت خطابًا تذكر فيه أن بؤسها كان سبب اختزالها أيامها وقضائها على حياتها.
وهز هذا الحادث قلب شلي وأعصابه، وزاده اهتزازًا ما ذكرته مسز جُدْوِين من أن فاني انتحرت لفرط حبها إياه حبًّا ضاع كل أمل في أن يجد ما يحييه، وعن هزة قلبه يعبر في أبيات ستة يقول فيها: «أصابت الرعشة صوتها ساعة رحلنا وما كنت أدري أن القلب الكسير مبعثها، فرحلت ولم أُعنَ بما ألقت من كلمات، إيه أيها البؤس! إن هذه الدنيا الفسيحة كلها ميدانك.» على أن قلبه بلغ غاية الاضطراب لحادث آخر ليس دون هذا الحادث شناعة ولا قسوة، ذلك أن هاريت بلغ من انخراطها في اللهو أن حملت من أحد عشاقها وأن تقدم بها الحمل وأن شعرت إذ ذاك بما يتهددها من عار يسقطها أمام شلي، ويرفع ماري في نظر الجمهور عليها، ويوقع على رأسها ما كانت تزعم أنها تدبره من أسباب الانتقام، فذهبت إلى نهر ألقت بنفسها فيه، فماتت منتحرة هي الأخرى، ولم يكن بين انتحارها وانتحار فاني إلا أيام، وذكرت التيمس خبر انتحارها وسببه من غير أن تذكر اسمها، وكان هذا الخبر أقسى مما يستطيع شلي أن يطيق: دعارة، فحمل، فانتحار، يا للعار! ويا بؤس أبنائه بأمٍّ تلك خاتمتها! ويا بؤسه هو بحياة تسير مسرعة بالذبول إلى أوراق الربيع منها فتهجره ابنة عمه هاريت جروف وتعقه أخته إليزابث ويغتبط للتخلص من مس هتشنر وتتجافاه كرنلياترنر وتنتحر بسببه فاني أملاي وهاريت وستبروك! ترى ألم يأن لهذا البؤس أن ينتهي وللقدر أن تهدأ عليه ثائرته؟
لكن لا! فقد طلب حضانة أبنائه من هاريت فخالفه في ذلك أبوها وتقاضيا فأنصف القضاء الجد، بحجة أن عقيدة شلي فاسدة ويخشى أن ينشئ أبناءه عليها، وإنما خفف من هذا الحكم أن عهد القضاء بالحضانة إلى من اختاره شلي مطمئنًّا على إقامته في تربية أبنائه.
وأتاح له انتحار هاريت أن يعقد على ماري وأن تعود لذلك صلته بجماعة جُدْوِين، وكان العوز قد ألح بمؤلف (العدل السياسي) حتى صار عالة على شلي هو أيضًا وحتى جعله يعود إلى الاستدانة من جديد، ولم يكن جُدْوِين وزوجه وحدهما هما اللذان كفل شلي في ذلك الظرف، بل أعان صديقه لي هنت وكان له خمسة أولاد من زوجه ماريان، وأعان صديقه بيكوك كي يتابع كتابة روايات رأى شلي في كتابتها خيرًا وإصلاحًا للجماعة، مع ذلك كله، مع الاضطراب المالي ومع انتحار فاني وهاريت في أيام، ومع منازعة وستبروك إياه في حضانة أبنائه، فقد تحصن شلي بإرادته الصلبة وحاول أن يقهر كل هذه الآلام ويتغلب على كل المتاعب.
وشلي — على رقته وإيثاره وعبادته الجمال وتعلقه بأنغام الشعر — كان ذا عزيمة لا تعرف المستحيل ولا تقف في سبيلها عقبة من العقبات، تحصن بهذه الإرادة وحاول أن يظهر أمام الجمعية وكأن لم تفجعه فاجعة ولم تغير الحوادث التي مرت من نفسه، فابتاع بيتًا ظريفًا في مارلو أقام فيه مع ماري وابنه وابنته منها ومع جين وابنتها من بيرون، على أن الإرادة الصلبة والعزمة القوية تستطيعان مغالبة الوجود وقهر المستحيل ما دامت الروح التي تحركهما وتصدران عنها مطمئنة قوية لم يندسَّ إليها ما يضعفها ويزعزع ركنها.
فأما إن ضعفت الروح واهتزت قوتها المعنوية فقل على الإرادة وعلى العزيمة وعلى كل قوة من قوى النفس السلام، وقد هدَّت الحوادث التي مرت بشلي من روحه فتضعضعت وضعفت، وشعر بهذا الضعف فانطلق ملتمسًا الوحدة كي يخفي عن الناس ضعفه، والأنوف المعتز بقوة نفسه لا يشعر بجرح ينال منه مبلغ شعوره بأن يراه الناس ضعيفًا مثلهم خاضعًا لتصاريف القدر خضوعهم، في هذه الساعات التي ينال المرض فيها من جسم ذلك الأنوف أو تنال الحوادث من نفسه، يود لو أن الإنسانية كلها ولو أن أقرب الناس إليه من ذويه وأهله لم يكن حوله منهم أحد ليطلع على ضعفه أو يشاهد هبوط نفسه.
وجعل شلي يذهب إلى جزر التمس المنقطعة يقضي فيها نهاره وشطرًا من ليله، يشاهد الطيور السابحة في الماء والمحلقة في الجو، ويحاول استعادة سكينته بالتحليق في عالم الشعر واستمداد القوة الروحية من وحيه، ولم يكن يرجو في استمداده هذه القوة غير ما كان يطمع فيه أول صباه من تحقيق سعادة بني الإنسان، فقد زادته الحوادث التي كرت عليه إيمانًا بأن نظام الجماعة الفاسد هو الذي دفع إلى هذه الكوارث المتوالية وتلك المآسي الفاجعة التي تذهب اللب وتصدع القلب، وكانت قصيدته الكبرى الثانية — ثورة الإسلام — والتي كان يصقل فيها من قبل أن تفجأه الحوادث تباعًا، قد فرغ منها أو كاد، فوضع قصيدة أخرى أسماها «لاون وستنا» ضمنها مسارح أفكاره في ذلك الظرف العصيب من حياته، وضعها في أثناء تلك الجولات في أحضان الوحدة مقتضيًا نفسه أن يكون فيها مثال سمو فوق المرض والألم وكل أسباب الضعف الإنساني الذي لا يليق بأمثاله ممن يؤمنون بأنهم يقبضون بيدهم على ناصية الوجود.
ولم تكن جولاته ولا كان شعره ليرد إليه طمأنينة نفسه أو ليدفع عنه غائلة همومها، بل لقد جنت هذه الهموم على صحته وردت إليه مرض صدره وجعلته يفكر جادًا في وسيلة البرء من علته، كتب إلى جُدْوِين في ٧ ديسمبر خطابًا يصف له فيه حاله، جاء فيه: «وكانت صحتي أسوأ بالفعل، فإن مشاعري لتهبط أحيانًا إلى حد الذهول والموت، ويبلغ بها التوتر أحيانًا أخرى إلى حد غير طبيعي من التهيج، ولأقتصر على مثل مما يعذبني خاصًّا ببصري، فإن أوراق الحشيش وغصون الأشجار البعيدة لتبدو لناظري بدقة مكرسكوبية، فإذا أقبل المساء غرقت في بحار من الهبوط وضعف الحياة وبقيت مستلقيًا — في كثير من الأحايين — ساعات على المضجع وأنا بين النوم واليقظة فريسةَ تَهَيُّجٍ ذهني مؤلم أشد الألم، ذلك أمري إلا في قليل، أما الساعات التي خصصت للبحث فقد اخترتها بعناية من بين الساعات التي أستطيع المقاومة فيها، على أن ذلك كله ليس هو سبب تفكيري في السفر إلى إيطاليا طمعًا في أن تنقذني منه، كلا، بل لقد عاودتني نوبة صدرية، ولئن كانت قد انتهت الآن غير تاركة وراءها أثرًا لوجودها إلا أن هذا العرض دلني على حقيقة المرض الذي يؤويه صدري، ومن مصلحتي أن يكون هذا المرض بطبعه بطيئًا، وإن الإنسان إذا عُنِيَ بتتبع تقدمه استطاع التغلب عليه والبرء منه في جو دافئ، فإذا عاد هذا المرض على صورة واضحة أصبح واجبًا عليَّ أن أسارع بالذهاب إلى إيطاليا، على أنَّا إنما نسافر حين يصبح السفر واجبًا محتومًا، لمخالفة هذا السفر لمقاصدنا أنا وماري متأثرين بعواطفنا نحوك، وأحسبني في غنى عن أن أذكرك، فضلًا عن آلام الذين يعيشون بعد موت عزيز عليهم، بسلسلة النتائج السيئة التي تترتب على موتي، وإنما يحملني على هذه الصراحة القاسية ما بدا لي من أنك لم تدرك حقيقة مقصدي، فليست الصحة وإنما هي الحياة التي أبحث عنها في إيطاليا، ولست أبحث عنها من أجلي، فأنا أشعر بالقدرة على نفسي إزاء مثل هذا الضعف، وإنما أبحث عنها من أجل أولئك الذين تفيض عليهم حياتي سعادة ومنفعة وأمنًا وكرامة، ومن بينهم من ينقلب عليه أمر هذا كله إلى النقيض إذا أنا مت.»
وما يشير إليه شلي من سوء فهم جُدْوِين إياه هو تأويل جُدْوِين سفر صهره إلى إيطاليا بأنه الفرار من معونته المالية، على أن ماري لم تبرح إنجلترا حتى كفلت لأبيها عن طريق شلي رزقًا يقيه في شيخوخته، كما كانت طوال إقامتهم في إيطاليا لا تنفك تعينه بتخصيص ما يقع لها ثمنًا للروايات التي تكتبها لمعونته، وبدفع شلي ليزيد في هذه المعونة جهده، ولعل إحساسها بحاجة شلي إلى السفر كانت أشد من إحساسه هو، فقد أثقلتها جين وابنتها وطمعت حين وجودهما على مقربة من بيرون أن يضمها إليه، على أنهم ظلوا ينظمون شئونهم ويبيعون دارهم في مارلو ويقتضون الناس فيها ما يستطيعون اقتضاءه منهم حتى استطاعوا إعداد أهبتهم للسفر، وسافروا في منتصف مارس سنة ١٨١٨ قاصدين ميلانو ليذهبوا بعدُ منها إلى البحيرات الإيطالية آملين أن يجد شلي في شمسها وهواء الجبال عندها ورِقَّة الطبيعة المحيطة بها ما يشفي صدره ويرد إليه سكينة نفسه.
(٥) سِنُو حياته الأخيرة بإيطاليا
غادر شلي إنجلترا قاصدًا إيطاليا في مارس سنة ١٨١٨، غادرها مستصحبًا زوجه ماري وابنيهما وليم وكلارا، ومستصحبًا كذلك جين كليرمون التي كانت تطمع في أن ترى ابنتها من بيرون فتروي غلة قلبها الظمئ شوقًا لها، ومرُّوا بليون فجبال الألب حتى نزلوا ميلانو، ومن هناك قصدوا البحيرات الإيطالية التي كانت منذ القدم مغنى الشعراء وملهمة الموسيقيين والمصورين ورجال الفن جميعًا، وأعجب شاعرنا بهذه البحيرات و«بكومو» منها بنوع خاص، حتى رأى أن ليس يعدلها أو يزيد عليها جمالًا غير بحيرات كلارني الأرلندية، على أنهم لم يجدوا في منطقة البحيرات الدار التي تعجبهم فعادوا إلى ميلانو حيث وجد شلي في كنيستها ملجأ تطمئن له روحه التي كانت ثائرة من قبل على كل كنيسة وعلى كل دين، وكنيسة ميلانو جديرة بأن تطمئن النفس لجمال ظاهرها وهيبة داخلها هيبة تبعث إلى النفس طمأنينة الإسلام للحياة ولما بعد الحياة، لكن أمر شلي لم يقف عند حد الإعجاب بجمال كنيسة ميلانو وهيبتها، بل إن نفسه التي كانت جموحًا ثائرة على كل شيء قد وجدت في آلام الحياة وصدماتها المتوالية ما هد من ثورتها وما أراها ضعف الإنسان وعجزه التام أمام الوجود، فعاد إلى نوع من الإيمان بعظمة الوجود ممثلًا في الكنائس والبِيَع وبيوت الله جميعًا، وجعل يرى فيه ملجأ يحتمي به الإنسان من ضعفه، بل يستريح فيه إلى هذا الضعف ويطمئن له.
ومن ميلانو كتب شلي إلى بيرون في شأن اللجرا منبئًا إياه بوجود أمها معهم، ورد عليه بيرون معلنًا — في صراحة وقحة — أنه لن يرى لجين وجهًا ولن يسمح أن تعرف إليه طريقًا، ورأى شلي أن لا وسيلة للتخفيف ولو بعض الشيء من حدة صاحبه إلا أن يذهب إليه في البندقية، وغادر ماري وابنيهما وذهب مستصحبًا جين التي ألحت في السفر رجاء أن ترى ابنتها ولو خلسة من غير أن يعلم بيرون بوجودها، وتقابل الشاعران وتحادثا في الأمر حديثًا انتهى بيرون معه إلى السماح بأن تقيم الطفلة مع أمها وشلي في دار بناحية «إست» شهرين كاملين على ألا يكون لجين بعدهما مطلب عنده أو رجاء فيه، وأعجب شلي بالمدينة السابحة غرقى في لجة الإدرياتيك وبجزرها وكنائسها وبهوائها العطر بأريج الحب المتغني والهًا فترات من الليل بأناشيده، الذاهب في المتاع به إلى حدود الاستغفار عنه بإقامة الكنائس الكثيرة علها تسع ذنوب أهل المدينة جميعًا، وعلَّ إحداها تكون أقرب من الأخرى إلى دعاء مستجاب.
ورأى بعد الذي عرضه بيرون وبعد ذهابه وجين وابنتها إلى إست أن المكاتبة بينه وبين ماري أصبحت لا تكفي فدعاها لتقيم معهما، ومن هناك عرفت ماري البندقية وتعلقت بها وبرمال الليدو ومصيفها، على أنها ازدادت من بعد بهذه الرمال تعلقًا أن خلفت فيها ذكرى فاجعة هي الأولى في حياتها، فإن شهري «إست» ما كادا يقاربان التمام ليعود شلي ورهطه إلى ميلانو حتى كانت ابنته كلارا قد مرضت، وبرغم ما بذلت أمها من عناية بها ظل المرض متابعًا سيره حتى رأوا ضرورة الذهاب إلى البندقية لاستشارة طبيب رجوا أن يكون أكثر من طبيب «إست» حذقًا ومهارة، لكنهم ما لبثوا أن وصلوا هناك حتى كانت الفتاة في آخر لحظاتها وحتى أسلمت روحها البريئة الطفلة قبل أن يحاول طبيبها الحيلولة بينها وبين بارئها، وذهب شلي وذهبت ماري يحملان الجسم الصغير إلى الليدو فدفناه في رماله المختلطة صفرتها البهيجة بزرقة الموج المحيطة بها والدائمة الصفو برغم ما تحوي من أجداث ورموس يخلع عليها جلالها جمالًا.
وجرحت أمومة ماري جرحها الأول وعرف الحزن إلى قلبها السبيل، لكنها سرعان ما تعزت وظهرت بمظهر القوي الذي لا يتزعزع حتى تمر به أعاصير القدر، وكان مظهرها هذا بعض تعاليم أبيها، فنحن في الحياة نؤدي للحياة واجبها بالبر بالإنسان والعطف عليه، وبتخليد النوع والقيام على تربيته، وبنشر العرفان والنور والعمل لتمتلئ بها القلوب جميعًا، وبالجهاد في سبيل الحرية كي تتمتع بها البشرية كلها، وما أحسنَّا أداء هذا الواجب فمن حقنا أن نكون سعداء أيًّا كانت النتيجة التي يسفر عنها عملنا، وكل شر لا سلطان لنا عليه ولا قوة لنا في دفعه لا موضع للأسى من أجله، وثكل الوالد ولده بعض ما لا سلطان لنا عليه من أعاصير القدر، فليكن موقفنا منه موقف إباء وكرامة لا موقف ضعف وحزن، ليكن موقفنا منه موقفنا من خصم يناوئنا ليبتز مالنا، أفترانا إذا ابتزه فأتلفه خاضعين له متخاذلين أمامه؟ أم أنَّا على العكس من ذلك نزداد أمامه كبرًا وأنفة؟ كذلك ظهرت ماري أنوفًا لم يعرف الهم ولا عرفت الدموع إلى عينها ولا إلى قلبها سبيلًا، ولعل هذه التعاليم لم تكن وحدها مصدر شجاعتها ومبعث قوتها، فهذا ولدها وليم ما يزال في أحضانها فلها فيه عزاء، وها هي ذي ما تزال — كما لا يزال شلي — في مقتبل العمر وقوة الشباب، فما يزال لهما في المستقبل وأبنائه وبناته وسعادته رجاء، وكلارا التي فقدت كانت ما تزال بعدُ طفلة يُعَدُّ عمرها بالشهور، فلا موضع للأسى عليها حتى عند أشد الناس تخاذلًا أمام الحزن إلا بمقدار.
فأما شلي فقد احتمل موت طفلته في سكينة، ثم احتمل نفسه وأهله وسافر وإياهم من البندقية، وكان يشعر بأن المقام في شمال إيطاليا — وبخاصة عند مقدم الشتاء — ليس مما يبعث إلى نفسه السكينة وإلى صدره دوام ما يرجو له من عافية وبُرء، فساروا منحدرين جنوبًا حتى وصلوا إلى روما حيث زار شلي من آثار المدينة الخالدة ما زاده قدرًا لشعر فرجيل ولشعر دانتي، وبعد إقامة قصيرة بها قصدوا إلى نابولي، وهناك على شاطئ خليجها الساحر البديع ألقى شلي عصا تَسْيَاره آملًا أن يجد فيها الطمأنينة التي تيسر له الانخراط في خيالاته وتأملاته وتتيح له أن يتم قصيدته (بروموتيه الطليق) ينادي فيها كما نادى في قصيدة (الملكة ماب) بمبادئ الحرية والفضيلة، ويضع فيها الإنسان بإزاء قوى الطبيعة وما وراء الطبيعة، وقد قيدته كلها بقيودها، فإذا هو يحاول من طريق إرادته ومن طريق حرية فكره أن يحطم هذه القيود، وأن يتغلب على هذه القوى، وأن يقف منها جميعًا موقف المتحكم فيها المُسيِّر لها، ثم إذا محاولته تنتهي به إلى الفوز على القوى جميعًا بفضيلة صدق العزيمة والإيمان بالحرية وتقديس الحياة والجمال فيها وبالحب الطاهر الذي لا يعرف الأثرة، وإنما يشترك فيه الإنسان وسائر ما في الكون إجلالًا وتقديسًا لما أبدعت الحياة في الكون من جمال وجلال، وهو يضع قصيدته هذه في صورة الرواية التمثيلية جاعلًا أشخاصها آلهة الأولمب وعلى رأسهم جوبتر، ومن حولهم الأرض والمحيط وعذاراه والكون وأرواحه والكواكب وأفلاكها والوقت وانسيابه، و(بروموتيه) بإزاء ذلك كله يجاهده وينتصر عليه، وهو هنا يخالف الأسطورة القديمة التي تجعل هذا البطل وقد كبلته الآلهة وألزمته قيده بسبب محاولته مناجزتها والتغلب عليها بالعقل والحيلة، وإن كثيرين من النقاد ليذهبون إلى تفضيل هذه القصيدة من قصائد شلي على كل ما سواها ويعتبرونها الدرة من شعره، فأما آخرون فيذهبون إلى تفضيل رواية (سنسي) إذ يرتفعون بها إلى مقام روايات شكسبير، على أن (بروموتيه) قد نسجت على غير طراز (سنسي)، فبينا هذه الأخيرة — على ما سترى — تعبر عن حب آثم يقع في الحياة بين أب وابنته إذا بتلك تتخذ من الكائنات كلها ومن الوجود وما فيه بعض مسرحها، وهي في هذا قد سارت على طراز قصيدة ملتون (الفردوس المفقود) وإن اختلفت عنها قوة بأن ارتفعت عليها في بعض المواضع ولم تصل إلى رفعتها في مواضع أخرى.
ولم يطل بشلي المقام في نابولي، وكأنما كانت يد القدر التي قست به حين مقامه على أرض وطنه، فجعلته لا يطيل المكث فوقها إلا ليعود إلى الارتحال عنها محمَّلا همومًا وآلامًا ما تزال لم يهدأ ثائرها عليه برغم ما كان يبدع في الشعر من آيات ليست القصائد الكبرى إلا بعضها، فلقد مرض ولده وليم أثناء كانوا في طريقهم عائدين إلى روما، وخيل إلى ماري أن الأمر يسير وأن القدر لن يفجعها فجيعتين متواليتين ولن يسلبها هناءة الأمومة، وهي — بعد حب الصبا — كل ما للمرأة في الحياة من عزاء، وعاد الطبيب الطفل فنصح إليهم أن ينتقلوا به شمالًا، لكنهم لم يكادوا يتهيأون للرحيل حتى أصابت الطفل نوبة من الدوسنطاريا ألزمتهم المكث إلى جانبه، وبقي شلي ستين ساعة ممسكًا بيد طفله خائفًا أن يفر الطفل منه إلى غيابات الأبد، ذلك بأنه كان طفلًا ذكيًّا عطوفًا رقيقًا، وكان جميل الصورة إلى حد سحر النسوة الإيطاليات بزرقة العينين زرقة جذابة وبشعره الذهبي المتموج تموج الحرير الناعم نعومته، ثم إنه كان قد أصبح وحيد ماري بعد موت أخته كلارا، فالفجيعة فيه تُحيِي من قلبها الفجيعة الأولى وتسدل على وجهها الضحوك وعلى ثغرها العذب الابتسام سحابة كآبة وهم يصيب شلي منهما حظ غير قليل، وكان لشلي في القدر رجاء التصرف بحكمته إزاء طفل لم يقترف ذنبًا يجزى من أجله بالموت بله المرض وآلامه وتباريحه، لكن المرض والموت وكل ما يصيبنا في هذا العالم من خير وشر ليس في نظر القدر جزاء عمل من أعمالنا، ولكنه لوح كتابنا لا مفر لنا من الإذعان له والسير في خطواته؛ لذلك لم يعبأ بما كان مرجوًّا عند شلي ومات الطفل ودفن في مقابر الإنجليز بروما، هذه المقابر التي أعجب بها شلي وتمنى لو يدفن فيها، ولم يكن يومئذٍ يعلم أن ما بقي من رفاته سيرقد هناك إلى جانب جثمان طفله.
مات وليم فانهارت عند ماري كل تعاليم أبيها وأسلمت للألم نفسها ولم تطق للوجود جَلَادًا، سكب الهم ظلمته في قلبها واتشح الوجود كله بالسواد أمام بصرها ورسم الحزن على ثغرها وفي نظرتها صورة اليأس والبؤس وشرد لبها إلى قفار الانتحار، وصورت لنفسها خاتمة كخاتمة أختها فاني أملاي، وعبثًا حاول شلي تعزيتها بالترويح عنها بأن انتقل بها إلى الريف من روما وأسكنها قصرًا جميلًا يحيط به الزهر والشجر، وما بهجة الزهر وخضرة الشجر أمام قلب كسير وبصر حزين؟! إنها كلها تنقلب سوادًا وتزيده على همه همًّا وأسى، بل تصبح ضحكات الزهر بعض سخرية القدر، وابتسامة الخضرة شماتة بنا في مصابنا، وعبثًا حاول أبوها لما علم عمق حزنها أن يردها إلى صوابها وإلى تعاليمه، فالصواب والتعاليم والمنطق والعقل أوهام وصور ما تلبث أن تطير وتتلاشى إذا هي ارتطمت بقسوة الواقع، وأي واقع أشد قسوة من الموت، بل من الثكل، ثكل الأم لوحيدها ولأمومتها؟ وشلي وحبه وحنانه أصبح هو الآخر مملولًا، ثم نسي كما نسي غيره أن لم يبق من الوجود أمام ماري إلا حزنها مجسمًا في ذلك القبر الذي أوت إليه رفات وليم، فإذا ناداها شلي قائلًا: «أين ذهبت يا عزيزتي ماري تاركة إياي وحيدًا في هذا العالم القفر؟ إن صورتك الساحرة ما تزال هنا إلى جانبي، لكنك أنت قد فررت عن طريق الوحدة المؤدي إلى صوامع الحزن المظلم.» إذا ناداها شلي هذا النداء لم تزد على أن تمعن في التماس صوامع الحزن تاركة إياه يبحث عن عزائه في خير دواء لكل ألم وخير بلسم لأبلغ جرح، في العمل المتصل لأداء ما ألقت عليه الأقدار رسالته كي يشدو بها إلى العالم أنغامًا سماوية، وأعانته سماء إيطاليا الصفو على متابعة تفكيراته وشدوه، على أن القدر الذي قسا كل هذه القسوة بماري لم يلبث أن دس إليها من عنده بلسم عزاء، فقد حملت وأحست في أحشائها روح الأمومة من جديد، لكنها كانت في خشية من معابثة القدر فظلت على عبوسها وإن زالت سحابة الهم التي كانت تظلها مما جعلها تنظر للحياة مرة أخرى نظرة رجاء، ولما اقترب موعد وضعها ارتحل بها شلي إلى فلورسنا لتكون في رعاية طبيب صالح، ثم إن في جو فلورنسا الجميل ما يضاعف الرجاء لمن لديه ولو قبس من رجاء، فيها أجمل ما في إيطاليا من الآثار، ويضوع ريحها بأسماء دانتي، وسافانارولا، وجيوتو، ودونانلو؛ لذلك كانت للزوجين خير موئل، فيها وجد شلي خير ما يلهم شاعريته التواقة للجمال تلتمسه في كل مظاهر الفن والطبيعة، وفيها وجدت ماري مزيدًا من رجائها، حتى إذا وضعت وألفت نفسها أمًّا من جديد في ذراعيها طفل حملته أحشاؤها عاودت ثغرها أول ابتسامة من يوم مات وليم، ودعت الوليد برسي فلورنس شلي، اعترافًا بفضل زوجها في تقويتها على اجتياز محنتها، وبفضل فلورنسا التي عادت إليها فيها أمومتها وحياتها ورجاؤها.
ولما جاء الشتاء وقرس البرد في المدينة «الجميلة» نصح الطبيب إلى شلي بالسفر إلى بيزا، فذهب بأهله إليها وأقاموا بها، وهنا تألفت حول شلي جماعة يعيش كل منهم عيش العزلة، فلما وجدوا هذا الدائم الترحال استقر بينهم أحاطوا به، وانضم إليهم قسيس لقبه أهل البلد بشيطان بيزا واسمه الأستاذ المبجل باكشياني، وكان قسيسًا قليل الدين وأستاذًا لا يعلم الناس شيئًا وزير نساء ومحبًّا خدمة معارفه، وكل من يمر ببيزا كان يصبح من معارفه، وقد قص هذا الشيطان على شلي قصة استدعت كل التفاته، ذلك أن للكونت فيفياني — أحد كبار أعيان بيزا — فتاتين من زواج أول، وأنه لما تزوج ثانية بعد وفاة زوجه الأولى ذهب بفتاتيه إلى الدير أن كانت زوجه شديدة الغيرة منهما لفرط جمالهما، وكان جمال كبراهما (إميليا) رائعًا روعة جمال الملائكة، كما كان ذكاؤها حادًّا وخيالها متوقدًا بما يبعث إلى كل نفس أشد الإعجاب بها والإشفاق عليها، وكان قصد أبيها من الذهاب بها وبأختها الدير أن يقيما فيه حتى يتزوجهما من شاء من غير أن يمهره الأب عنهما شيئًا، فلما سمع شلي بالقصة هاجت في نفسه كل عواطفه القديمة، أليس هو يريد الكمال مجسمًا في أنثى لها جمال المرأة وعقل الرجل؟ وهذا هو قد ضل تقديره الكمال في هاريت جروف وهاريت وستبروك، وها هي ماري جُدْوِين وإن كانت ما تزال من خير النسوة اللواتي عرف إلا أنها أصبحت أمامه جسمًا محسوسًا ذا حدود وأبعاد وذكاء متجليًا له كل ما فيه من حكمة وشعر، فلم يبق إذًا فيها المجهول الذي يبحث هو دائبًا في الكشف عنه والوصول إليه، فلنر إذًا ما عسى أن تكون إميليا فيفياني هذه من صور الكمال وما عسى أن تلهمه من رائع الشعر والحكمة.
ولمح القسيس الشيطان هذه النوازع في نفس شلي فعرض عليه أن يصحبه إلى الدير، وما لبثت الفتاة أن دخلت عليهما المَنْظَرَةَ حتى سحر شلي وذهب به قوامٌ رخص في لدونة واعتدال تخلع عليه ثياب الدير البسيط زينة وانسجامًا وتزيد بهاء ما فيه من جمال في كل انثناء ونتوء، ومشيهةٌ هي للعين أنغام تموج في النفس والخيال فتهزهما وتبهرهما، وشعرٌ فاحم السواد مُلقًى على أكتافها ليزيد وجهها البديع القسمات وضوحًا وبهرًا، وعيونٌ دعجاء تفيض نظراتها حبًّا شهيًّا فيه قوة تلتهم من تقع عليه التهامًا، وجبينٌ مصقول، وأنفٌ أقنى، وثغرٌ عذب، وشفاهٌ تحدث عن فيض الرغبة، وإلى هذه الأنوثة القوية الجذابة بريق ذكاء يبدو بصيصه من حدق عيونها السوداء قويًّا ملتهبًا، وألفت الفتاة ساعة دخولها المنظرة عصفورًا في قفص، فتوجهت إليه بهذه الكلمات: «أيها الصغير المسكين، إنك لتموت اكتئابًا، فما أشد إشفاقي عليك! ألا كم تتألم حين تسمع أسراب أمثالك تناديك ثم تطير مع الرياح من غيرك إلى بلاد مجهولة! أنت مثلي محتوم عليك أن تقضي هنا في سواد حظك، أواه لو كنت أستطيع إنقاذك!» وانطلقت مرتجلة مثل هذه العبارات بصوت عذب ساحر تزيده اللغة الإيطالية بموسيقاها سحرًا وعذوبة، وزادت أنشودتها للطائر الحبيس بهر شلي فاستأذنها أن يعود إليها وأن يستصحب زوجته وأختها، فرضيت طيبة النفس.
وتزاوروا وتكاتبوا وأبدت ماري إعجابها بجمال إميليا وتقدير شلي إياه على أنه الجمال الأسمى، أما شلي فانطلق من فوره يضع قصيدته (إببسشديون) يصف فيها الجمال والحب ويدعو فيها إميليا لتذهب وإياه إلى قصر قديم في جزيرة أبدعها خياله بين جزر الإدرياتيك ليعيشا هناك وليسبحا بين جمال تلك الجزيرة وأشجارها وأنهارها في عزلة لا ينغصها عليهم أحد من الإنس، وإنك لتقرأ القصيدة وتبلغ أبياتها أربعة وستمائة بيت فلا ترى فيها أكثر من هذا الذي ذكرنا، لكنك تراه أثيريًّا يطير بك في عالم الجمال وينسيك نفسك بموسيقاه وحلاوة صوره وبديع خياله وينساب إلى روحك عذبًا سلسبيلًا، فلا تزداد إلا تعلقًا به وتقديرًا إياه، وفي ختام القصيدة يقول: «اذهبي أيتها الأبيات الضعيفة فاسجدي عند قدمَي سيدتك وقولي: إنني سيدة عبدك فمري أمرك فينا وفيه، ثم تنادين مع أخواتكن من سائر شعري واسجعن متغنيات: «عذب في الحب حتى ألمه، لكن جزاءه في هذا العالم قدسي لأنه إن لم ينلنا في الحياة تبعنا إلى ما وراء قبرنا»، وأنت لا ريب ستحيين في حين أكون أنا قد أويت إلى هناك، فأسرعي فوق قلوب العباد حتى تقابلي ماريتا وفانا وبريموس وسائر صواحبك، ثم أهيبي بهن أن يحب بعضهن بعضًا وأن يبارك بعضهن بعضًا، ودعي فيما وراءك قطيع الخاطئين الطاعنين على غيرهم بخطاياهم وتعالي فكوني ضيفي، فإنما أنا ضيف الحب.»
وقبل أن يتم قصيدته، تزوجت إميليا من غني اسمه بيوندي قبل أن يعقد عليها من غير أن يمهرها أبوها، فلما علم الشاعر بأمرها أسقط في يده ولم يطق إتمام قصيدته، فها هي ذي رمز الحب في طهارته قد فعلت فعلة ابنة عمه هاريت جروف وفعلة النساء جميعًا ممن عرف، ها هي ذي سقطت إلى مستوى القطيع تاركة إياه يعض البنان ندمًا على خطئه في أمرها ويصب عليها اللعنة أن أضاعت عليه وحيه وإلهامه.
وفيما كان شلي في هيامه بإميليا كان بيرون يتخطى خليلة إلى خليلة حتى انتهى إلى أجمل نسوة البندقية وتدعى جيوكشولا، وكانت من عائلة نبيلة ومتزوجة رجلًا نبيلًا، لكن صلة المرأة بخليل لم تكن في البندقية يومئذٍ أمرًا إدًّا، حتى في نظر زوجها، على أن هذه السيدة اضطرت للسفر مع هذا الزوج إلى رافنا ومن هناك دعت بيرون ليترك البندقية ويقيم عندها، فلما تلكأ بعثت إليه تخبره بأنها مريضة فطار إليها وأقام إلى جانبها، وكما انتقل هو من البندقية فقد نقل ابنته اللجرا إلى بولونيا، فلما علمت جين كليرمون بأمر ابنتها بعثت إلى بيرون تستعطفه أن يبعث بها إليها، فرد عليها ردًّا غليظًا يقول لها فيه إن التربية في بيت شلي على أساس النباتية في الحياة المادية والإلحاد في الحياة الروحية مما لا تطمئن له نفسه، ورفض أن يسلم البنت لها، فجن جنونها وبعثت إليه بخطابات قاسية اعتذر له عنها شلي في خطاب بعث به إليه يقول فيه إن جين أم، وإنه وإن لم يطلع على ما تكتب لوالد ابنتها إلا أنه يرجوه أن ينظر إليها بعين الرحمة والمغفرة، لكن بيرون رأى في هذا كله ما أغضبه، فأراد أن ينتقم لنفسه من شلي، وكان قد وصله خطاب من قنصل إنجلترا في البندقية، يقول له فيه إن الناس يتهمون شلي بمعاشرة جين، وإن مربية كانت في خدمة شلي تذيع أن جين حملت منه فأجهضها في نابولي حين كانت زوجه في روما، وتنفيذًا لانتقامه بعث بيرون يستدعي شلي إلى رافنا «لأمور خطيرة»، فلما كان عنده أطلعه على خطاب القنصل مما هاج ثائرة شلي وجعله يكتب إلى زوجه يطلب إليها أن تكذب ما تذيع خادمهم الخؤون، وأظهر بيرون اقتناعه بما كتبت ماري وإن لم يقم بأي مجهود لدى القنصل في البندقية يبدد به ما علق بذهنه من أكاذيب.
وزار شلي اللجرا في الدير الذي بعث بها إليه أبوها، في بانيو كافالو، فألفاها كبرت ولكن النحول بدا عليها، ومع نحولها بدت وسط الأطفال قريناتها في جمال جذاب يدل على أنها أرق منهن وأرقى منبتًا، غير أن حياة الدير كانت بحيث تعرض صحتها بل تعرض حياتها للخطر.
وكانت خليلة بيرون معتزمة السفر إلى سويسرا، فطلب بيرون إلى صديقه أن يكتب إليها، ولو لم تسبق له بها معرفة، ليقنعها بالعدول عن فكرتها والذهاب إلى فلورسنا أو إلى بيزا، وفاضت السعادة بشلي حين علم أنها قبلت الذهاب إلى بيزا للمقام على مقربة منهم، ولم يُبدِ بيرون اعتراضًا أن كانت جين قد تركت تلك المدينة إلى فلورنسا حيث قامت بأمر التعليم في إحدى مدارسها، ولم يلبث اللورد أن نزل المدينة الصغيرة التي يقيم فيها شلي حتى أبدت جمعيتها كل الإعجاب به، فصار قصره مقصد المتأنقين في حين بقي شلي الرسول الروحي لأهل المدينة جميعًا، وكانت حياة بيرون حياة ترف لم يطقه شلي، فقد كان يسهر الليل كله ثم ينام في الصباح إلى ما بعد الظهر ويذهب من بعد ذلك للصيد ويعود إلى سهره ثم إلى مكتبه ليدبج قصائده التي استوقفت أنظار إنجلترا كلها فكانت تلتهمها التهامًا، وكان حقًّا على شلي أن يحتمل هذه الحياة زمنًا كان يعتبر صاحبه فيه ضيفًا عليه في بيزا، لكنه ما لبث أن رأى ماري تريد الانخراط في سلك هذه الجماعة المترفة حتى صدف عنها وعاد إلى حياته البسيطة الأولى، ووجد في أسرة إنجليزية مقيمة ببيزا ما يسر له الابتعاد عن بيرون وجماعته، تلك أسرة وليمز وزوجه جين، وكانت جين وليمز رشيقة هادئة النفس موسيقية الصوت يريح وجودها أعصاب من يتصل بها، وكان صوتها حلو الغناء مما أتاح لشلي أن يذهب وهو معها في أحلامه الشعرية وكأنه يسير وسط حديقة غَنَّاء، وزاده إعجابًا بجين وليمز ما دأبت عليه ماري من الشكوى من أنها لا تجد من أسباب المسرة في الحياة ما يجد غيرها.
وكان لأسرة وليمز صديق بحار من الأشقياء يدعى ترلوني، وقد دعوه إلى بيزا، فاشترط أن يكونوا سبب تعارف بينه وبين شلي، وبينه وبين بيرون بنوع خاص، فوعده وليمز بهذا ولم يكن عليه عسيرًا، وجاء ترلوني فانضم إلى عصبتهم، ولما ربطت المعرفة بينه وبين شلي برباط وثيق طلب إليه أن يبني له ولوليمز يختًا يشتركان فيه، واختار لنفسه ولوليمز بيتًا على الشاطئ قريبًا من بيزا فأقاما فيه ومعهما ماري وجين، وجعل شلي من يخته مركبًا لرياضته ولخيالاته وأحلامه، وشعر بالسعادة تفيض عنه وبآلهة الشعر تواتيه بإلهامها من كل جانب.
والحق أن آلهة الشعر لم تَضِنَّ على شلي بإلهامها يومًا من الأيام، لكنها كانت في هذه الفترة وخلال الأربع السنوات والنصف التي أقامها في إيطاليا أشد بإلهامها فيضًا، حتى ليدهش الإنسان حين يرجع إلى ديوانه متى استطاع أن يكتب هذا الشعر الملائكي كله، ثم ليزداد دهشة إذا رجع إلى رسائله وإلى نثره فرآها لا تقل عن إلهامه الشعري غزارة فيض ولا قوة عبارة ولا ملكًا لعالم الجمال وكل ما حوى، ولو أنك أردت أن تحصي ما كتب من شعر في هذه الآونة وحدها لبلغ عشرات الألوف من الأبيات بل مئات الألوف! وليس يقف ما كتب من هذا عند قصائده الكبرى كقصيدة (بروموتيه) و(سنسي) و(ساحرة الأطلس) و(إببسشديون) و(قناع الفوضى) و(أدوناييس) و(هلاس) وغيرها وغيرها، بل إن له لمقطوعات يقر مترجموه جميعًا بأنها أبقى الشعر الإنساني كله على الدهر، وهذه المقطوعات التي يتحدث بها مرة إلى قبرة، وأخرى عن سحابة، وغيرها عن شجرة حساسة، وأخرى إلى النيل وعشرات ومئات غيرها — هي لا ريب خير ما تغنَّى به شلي معبرًا به عن صلته بمملكة الجمال في الوجود، ولقد تغنَّى في هذه المقطوعات كما تغنَّى في مواضع كثيرة من قصائده الكبرى، فخلع على كل ما تغنى به حياة لم تكن لتحسبها له، فإذا بك وقد قرأت شلي محسًّا بها لامسًا إياها معترفًا بأنك أنت الذي كنت عاجزًا عن رؤيتها بحسك واكتناهها بقلبك، وليس شعره وحده هو الخالق حياة جديدة في الوجود، بل إن لنثره من هذه القوة ما لشعره، وإن كانت موسيقى شعر شلي مما يزيد في قوة خلقه حياة وقوة.
ولشعر شلي جوانب شتى لمح القارئ بعضها فيما قدمنا له من ترجمته، فثم جانب من حياته هو وتغنيه بما كان يرجوه فيها، و(روح الوحدة) و(إببسشديون) وكثير من مقطوعاته تعبر عن هذا الجانب خير تعبير، تترنم القصيدة الأولى بيأس الشاعر وآلامه وركوبه زورق الحياة على لجة الوجود ملتمسًا في العدم راحة من آلامه، واجدًا في خيالات الحب لهذه الأعرابية التي مرت به ثم تبعه طيفها عزاء نفسه عن بعض هذه الآلام حتى تسكن إلى الموت سكونها الأخير، وقصيدته الثانية هي قصيدة الجمال والحب مجسمين في إميليا فيفياني، أما الكثير من مقطوعاته فيتضوع بشذا الحب والجمال ويترنم بموسيقاهما على صورة لم تعرف في شعر شلي، فلقد كان من عباد جمال المرأة والذين يجدون فيه تمثال الكمال الإنساني مجسمًا، وكأنما كان جسمه يصبو إلى هذه الأجسام التي تتمثل فيها الروح الإنسانية بكل نوازعها معنى الجمال الإنساني، لكنه كان يسبح من عبادته هذا الجمال في خيال قسرته عليه فضيلته وألزمته إياه آراؤه ومبادئه؛ لذلك لم يكن يدع لصبوة جسمه أن تنزلق مع تيار الغريزة باحثة عن الاتصال بمن صبا إليه، بل كان يدع هذا الاتصال لعقله ولخياله ولشعره يصوغ من الاتصال آي الحكمة وأهازيج الجمال، وهو هنا يختلف عن بيرون وعن كثيرين من الشعراء الذين يجدون في صبوة الجسم إلى الجسم — شفاء لغريزة تخليد النوع — كل ما يسعى إليه الحب، بل كل ما يحرك في النفس هذه العاطفة، وهذا المعنى الذي تراه صريحًا جليًّا في شعر شلي هو الذي كان ينتهي باليأس إلى نفوس كل من أحببنه من النسوة، وبما يشبه اليأس إلى نفس ماري أكثرهن ذكاء وأسماهن حكمة، فالمرأة التي ترى في فضيلة شلي معنى من معاني الرواقية والزهد في الحياة والرغبة عنها تشعر بنقص في الحياة على حين خلقتها الطبيعة لتزيد فيها وتستزيد منها.
على أن جمال المرأة وإن زان كل جمال في الوجود وتوَّجَه فليس ما في الوجود سواه من جمال أقل إلهامًا لنفس الشاعر وتحدثًا إلى قلبه، بل إن كثيرًا من جمال الوجود ليخلع على المرأة جمالًا وزينة بمقدار ما تزينه هي وتجمله، ولئن كنت ترى هذين اللونين من الجمال مقترنين أكثر الأحايين في نفس أكثر الشعراء، إلا أن لجمال الوجود مكانة خاصة من نفس شلي تكاد تجعل الجمال لذاته آية إيمانه في الحياة، وهو في هذا أصدق من كثيرين غيره نظرة وأدق حسًّا، وهو لهذا كان يريد أن يفصل المرأة كمثال للجمال والمرأة كمخلدة للنوع، وكان يبحث فيها عن الجمال في مثله الأعلى، وكان لذلك لا يرى لجمال الجسد قيمة ما لم يصحبه روح جميل هو الآخر.
وفيما سوى هذا الجانب من جوانب شعر شلي كانت المدينة الفاضلة غاية قصده من أكثر قصائده، المدينة الفاضلة بما فيها من إخاء وتسامح وحرية وتبادل محبة، المدينة الفاضلة المنزهة عن دنيا الشهوات، السامية إلى مكانة هي وحدها الجديرة بالإنسانية المهذبة، و(الملكة ماب) و(بروموتيه) و(سنسي) نفسها اندفاعات صادقة في الدعوة إلى هذه الغاية العليا، وحرب شعواء على الجمود وعلى التعصب، وعلى ما يؤدى إليه الجمود والتعصب من تحكم الشهوات الدنيا في الروح الإنسانية تحكمًا ينتهي بها إلى فسادها وذلها، ولعل هذه الصورة التي صورها الشاعر من آثار الجمود والتحكم أشد ما تكون وضوحًا في (سنسي) منها في أية قصيدة أو رواية أخرى، فقصة هذه الرواية التي وضعها الكثيرون من النقاد والكتاب في صف روايات شكسبير، أن الكونت سنسي بلغ من كراهية ابنته وابنه من زوجة متوفاة أن حدثته نفسه بالفتك بعفاف ابنته بياتريس، وشعرت الفتاة بالكريهة التي يريدها أبوها عليها فدبرت مع أخيها وزوج أمها مؤامرة للتخلص من حياة ظالمهم جميعًا، وإنما لجأوا إلى الائتمار بحياته بعد أن لجأوا إلى البابا وإلى كبراء روما فلم يجدوا منهم منصفًا، وكشف الأب المؤامرة فشكاهم إلى قداسة الباب فأمر بإعدامهم وفقًا لإرادة الكونت الذي اشترى من القداسة العليا العفو عن كثير من جرائمه بثمن زاد على مائة ألف من الجنيهات، ولو أن العدل أخذ مجراه في هذه المؤامرة لكان (سنسي) هو الخليق بأن يُجزَى أشد الجزاء، لكن في إعدامه إعدامًا للأموال الطائلة التي كان يغدقها على الخزانة البابوية، فليعدم الفقراء، وإن كانوا أنصار الفضيلة، ولتبق الجماعة على حياة الرذيلة ما دامت تفيد منها، ثم لتثر الفضيلة على لسان شلي في أشعار هذه الرواية الخالدة ثورة تدك عرش الظلم وتهز قوائم الظالمين.
وهو هذا الدفاع عن الحرية وعن الفضيلة ومحاولة الارتفاع بجمال المرأة ليكون مثالًا لهما هو الذي كان يفرق بين شلي وبيرون، ويجعل من كل واحد ند صاحبه، وطبيعي أن كان إقبال الجمهور يومئذٍ على شعر بيرون، فالجمهور أسير الشهوات يلتمسها في واقع الحياة، ولئن صح إن كانت ألسنة الخلق أقلام الحق، فلبيرون أن يزهي على صاحبه وأن ينظر إليه مشفقًا عليه، لكنه كان في الخيال كما كان في الواقع يستشعر الغيرة منه، وكأنما كان يجري به خياله إلى لجج المستقبل يلتمسها فيتبين خلالها ما أعده لشلي من عظمة وخلد ينافسان خلده وعظمته ويدعو الكثيرين لتفضيله عليه.
وكان حب شلي للجمال ودفاعه عن الحرية أثرًا من آثار طيبة قلبه وحبه الناس وبره بأصدقائه، وقد عرف في أثناء مقامه بكازاماني بالقرب من بيزا أن صديقه لي هنت في عوز فدعاه إلى إيطاليا، واتفق ولورد بيرون أن يصدر هنت جريدة في إيطاليا يكون لها امتياز السبق إلى نشر قصائد بيرون، وفيما كان هنت في طريقه إلى بلاد الشمس والضياء، كان شلي سعيدًا بيخته سعيدًا بزورق صغير صنع له كي ينقله وصاحبه وليمز من اليخت إلى بيته أن كانت مياه البحر لا تسمح برسو اليخت على الشاطئ، وكان كثيرًا ما يستلقي في أثناء رحلاته على الماء تاركًا السفين يلعب به الموج ذاهبًا هو في تيهاء تأملاته وأحلامه، فإذا عاد إلى داره التمس في مجاوراته مكانًا منعزلًا بين الغياض والشجر وقضى نهاره يقرض من شعره الموسيقي الساحر ما يهبه للحياة وللحرية تارة ولزوجه ماري طورًا ولجين وليمز التي أصبحت ربة شعره في هذه الفترة الأخيرة أكثر الأحايين، وكثيرًا ما كان ينقضي النهار وهو في عمله عند جذع شجرة اتخذها وسط الغابة مكتبًا، ناسيًا في أثناء ذلك طعامه وشرابه، مكبًّا على خياله وشعره، حتى لكانت زوجه وكان صاحبه ترلوني يذهبان إليه ينتشلانه من عالمه الجميل السعيد ويردانه إلى الحياة التي يعيش فيها على طريقته من التقشف والزهد.
ووصل لي هنت، فذهب شلي وقابله في ليفورنو، ومن هناك ذهب به إلى بيرون في بيزا ليتموا الاتفاق في شأن الجريدة التي تحدث شلي لصاحبه الشاعر الكبير عنها، ومع ما بعث به فقر هنت وسوء حال أولاده من التقزز إلى نفس بيرون، فقد ظل به شلي حتى انتهى بإلزامه أن يقوم بعمل من أعمال البر لرجل أخلص للأدب وللشعر حياته، فلما آن له أن يرتحل عائدًا إلى بيته فوق سفينته عصفت ريح جعلت السفرة مخوفة، حتى لقد تردد ترلوني الذي قضى فوق لج البحر حياته في أن ينصح لهما بالسفر، لكن شلي كان إذا اعتزم فعل، فاصطحب صديقه وليمز وغلامًا معهما وأقلعوا يوم الاثنين الثامن من أغسطس سنة ١٨٢٢ وانتظرتهما زوجاهما في ذلك اليوم الذي انقضى من غير أن تقفا لهما على خبر، وانقضى الثلاثاء والأربعاء بعده فجن جنونهما وطاش صوابهما وذهبتا إلى ليفورنو باحثتين عنهما، وعلم ترلوني بحال الزوجتين فأيقن أن صاحبيه هلكا في زورقهما، وأخذ نفسه بالبحث على شاطئ البحر ما بين ليفورنو وكازاماني حتى إذا كان الرابع عشر من أغسطس عثر الغائصون بجثة عبثت الأسماك بوجهها وإن لم تُخفِ معالمه، وألفى ترلوني في جيب الجاكتة كتاب إسكيلوس فلم تبق لديه ريبة في أنها جثة شلي، ثم لم يطل بالغائصين البحث حتى عثروا بجثة وليمز، ودفنهما ترلوني في الرمل ثم ذهب مكتئبًا حزينًا إلى كازاماني، وحاول أن يدخل فخانته قواه فجعل يدور حول المنزل حتى لمحته خادم، أخبرت سيدتها بالأمر، فما لبثتا أن رأتاه حتى تبدد كل وهم من رجاء بقي عندهما وحتى انهدتا إلى الأرض صعقتين قضى عليهما الترمل والهم.
ولما أفاقتا ذكرت ماري ما كان يرجو زوجها أن يدفن في مقابر الإنجليز بروما، لكن نقل الجثة من بيزا إلى روما غير جائز بحكم قانون البلاد إلا أن تحرق الجثة وتنقل بقية التراب منها، ففي ظهر السادس عشر من شهر أغسطس سنة ١٨٢٢، وقف لورد بيرون والشاعر لي هنت والبحار ترلوني فوق رمال الشاطئ الإيطالي على مقربة من ليفورنو يحيط بهم عدد من أهل تلك المنطقة، ويقف إلى جانبهم جماعة من الضباط والعساكر الإيطاليين، وكلهم محدق ببصره إلى نار تضطرم قد بوركت بالنبيذ صب عليها وبالملح أُلقِيَ فيها ويفوح منها ريح اللحم الإنساني، وكلهم واجم مخلوع القلب ذاهب في تيهاء الهلع والذهول، وظل هذا المنظر المروع أمامهم ثلاث ساعات تباعًا يهز نفوسهم هزًّا فلا يزدادون إزاءه إلا وجومًا وذهولًا، وتندى عين بعضهم بالدمع ثم تذرفه أن لا تستطيع حبسه، ويحدق ترلوني بالعظام تحترق واللحم تذيبه النار، ثم تبدأ النار بعد ذلك تخبو رويدًا رويدًا تاركة وراءها حفنة من تراب هي كل ما بقي من رفات قيثارة الشعر الإنجليزي شلي، ويحمل ترلوني الحفنة إلى الأرملة البائسة ماري شلي لتتولى ويتولى هو ولي هنت معها حملها إلى مقابر البروتستانت في روما كي تستقر هناك في أرض غريبة عن ثرى الوطن، ولكن لتسعد مع ذلك باستقرارها إلى جانب رفات عزيزة محبوبة هي رفات ابنه وليم، ويقع هذا المنظر المروع وتنقل تلك الرفات القدسية إلى روما، ولم يكن شلي قد بلغ إلى يوم وفاته في الثامن من أغسطس تمام الثلاثين من عمره، وإن كان قد خلَّف من شعره على الحياة ما لا يزال فخر الشعر الإنجليزي عذوبة وموسيقى تأخذان بالنفس وتملكان على المرء حسه ولبه، وتبعثان إلى كل ما تنشدانه وترنمان به الحياة والخلد، سواء أكان ما تنشدانه وتترنمان به إنسانًا أو طيرًا أو حيوانًا أو جمادًا أو مجرد خيال لا وجود في الحياة له، ذلك بأن الحياة كانت تسري في كل ما لامس نفس شلي لتبقى قائمة به قرونًا ودهورًا بعد موت باعثها.