الخديو الأول إسماعيل باشا
لئن صح أن كان لولاية محمد علي حكم مصر أثر مباشر في تاريخها الحديث، وصح أن كان لشق قناة السويس أثر مباشر كذلك في توجيه هذا التاريخ وجهة خاصة، فالذي لا ريب فيه أن أكبر الأثر الذي خضعت وما تزال تخضع له مصر حتى الآن إنما ترتب على حكم إسماعيل باشا، فأكبر مظاهر الحضارة التي تراها اليوم في مصر يرجع إليه: إليه يرجع فضل إنشاء السكك الحديدية وتنظيم البريد، وله الفضل الأول في النظام القضائي القائم في مصر حتى اليوم، وله أكثر من ذلك كله الفضل الأكبر في شعور الأمة المصرية بقوميتها وبكيانها، ثم إن عليه تبعة الارتباك السياسي الذي لا تزال مصر تجاهد بكل قواها للخروج منه، وتبعة الاضطراب المالي الذي شل حركة البلاد سنوات طويلة وهو ما يزال إلى اليوم باقي الأثر، وعليه أكثر من ذلك كله تبعة تسليم البلاد ماليًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا إلى أيدي الأجانب.
فهذه الستة عشر عامًا التي رأته على عرش مصر (من سنة ١٨٦٣ إلى سنة ١٨٧٩) والتي شهدت من مظاهر النشاط المعمر، ومن فضائح الظلم المخرب، ومن البذخ والإسراف اللذين لا يعرف التاريخ ولا تعرف الأقاصيص لهما نظيرًا، والتي انتهت بسقوط عاهل مصر العظيم بعد أن جاهد أمته فأجهدها، وبعد أن جاهد أوربا فأخضعته لها، وبعد أن جاهد القدر فهوى به عن عرشه وأخرجه من مصر حسيرًا ينظر إلى شواطئها تبتعد عنه بعين دامعة وقلب كسير، هذه الستة عشر عامًا هي التي جرَّت إلى مصر مظاهر الحضارة الأوربية، وهي التي جرَّت على مصر الخراب، وهي التي أيقظت في شعب مصر الروح الاستقلالية التي لم ينسها يومًا من الأيام، وهي التي أجَّجت في نفوس المصريين نيران كراهية الاستعباد والظلم والحرص على الحرية والعدل.
ولم يكن عجيبًا أن تترك هذه الأعوام الستة عشر في مصر كل هذا الأثر وإسماعيل باشا كان حاكم مصر المطلق، فقد كان بشخصه بطلًا من أبطال الأقاصيص، وكانت أيام حكمه أسطورة لا يُسلِّم العقل بها لو رواها التاريخ عن عصر قديم، كان إسماعيل ساحرًا أعظم السحر، ذكيًّا أشد الذكاء، وسيم الطلعة حاد النظرة ماضي العزيمة جذابًا لكل من اتصل به، وكان مع ذلك قصير النظر شرهًا في كل مطامعه وشهواته مغامرًا في سبيلها مجازفًا لا يهون منها أي حذر، وكان فيه من دم محمد علي إقدام لا يعرف التردد، وبطش لا هوادة فيه، وقسوة لا يتسرب إليها أمل في رحمة، وكانت هذه الصفات كلها بالغة منه فوق ما تبلغه من أذكياء الناس والباطشين منهم، ثم إنه كان مولعًا أشد ولع بالمظاهر الاجتماعية للحضارة الأوربية، وإن غاب عنه الجانب المعنوي منها، وهو الجانب الذي يحركها ويمدها بكل ما فيها من قوة؛ لذلك سخَّر ذكاءه وإقدامه ليجعل لعرش مصر مظاهر العروش الأوربية، وليكون قصره كقصر لويس الرابع عشر إن لم يكن أبهى منه وأزهر، وليقول عن مصر إنها أصبحت قطعة من أوربا، وفي سبيل ذلك أنشأ كثيرًا وخرب كثيرًا وأثقل كاهل مصر بدين ما تزال تنوء إلى اليوم به، وما تزال تحتمل بسببه نقصًا في سيادتها وذبولًا في استقلالها وعزتها.
وكان عباس الأول والي مصر يومئذٍ، وقد حدث خلاف بينه وبين أفراد العائلة ومن بينهم سعيد باشا على اقتسام التركة، فذهبوا إلى الأستانة يحتكمون إلى جلالة السلطان، وفض السلطان النزاع بأن أوفد اثنين من رجاله إلى مصر سوَّيَا الخلاف، وعاد أفراد العائلة العلوية خلا إسماعيل الذي ظل بالأستانة وعين فيها عضوًا بمجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة ١٨٥٤ تولى سعيد باشا أريكة مصر خلفًا لعباس الأول، فاستقدم إسماعيل وجعله على رئاسة مجلس أحكام مصر في مثل وظيفته التي كان يشغلها بالأستانة، ولم يكن إسماعيل يومئذٍ وليًّا للعهد، بل كان أخوه أحمد أكبر رجال العائلة، وكان بذلك صاحب عرشها بعد سعيد، لكن أحمد توفي وآلت ولاية العهد لإسماعيل، من يومئذٍ جعل سعيد يخشى وجوده على مقربة منه فجعل يوفده في مهمات خاصة إلى البابا وإلى نابليون الثالث وإلى الباب العالي بالأستانة، وفي سنة ١٨٦١ نشبت فتنة بالسودان فبعث به على رأس أربعة عشر ألف مقاتل لقمعها، ونجح إسماعيل في ذلك وعاد وله في أعين الشعب مقام كريم، ولما توفي أخوه أحمد وآلت إليه ولاية العهد ساءت العلاقة بينه وبين عمه الوالي إلى حد أنه لما توفي سعيد باشا في ١٨ يناير سنة ١٨٦٣ ونودي به واليًا مكانه حدد للتشريفات بالقاهرة نفس الساعة التي كانت محددة لسير جنازة سعيد بالإسكندرية، فلم يحتفل بالدفن احتفالًا رسميًّا ولم يحفل بالمشهد أحد.
وقد انتعشت النفوس بأكبر الآمال لأول ولاية إسماعيل باشا الحكم، أن كان الناس في سعة بسبب انتظام جباية الضرائب أيام سعيد وارتفاع أسعار القطن ارتفاعًا عظيمًا ترتب على حروب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها، وأن أبدى إسماعيل من الحرص على حضارة مصر وإصلاحها ما جعل الرجاء في المستقبل عظيمًا، وكان أول ما صنعه إسماعيل مما استراحت له النفوس أن نشر في الناس على أثر ارتقائه العرش برنامجًا خلابًا كله المبادئ الحرة والوعود المغرية بخير الأمل والإصلاحات الواسعة على أحدث النظم الأوربية، وفي هذا البرنامج وعد بإلغاء السخرة والرقيق والاتجار به، وبإصدار قوانين خاصة بالتعليم وبتحديد مخصصات والي مصر، وتوقع الناس أن ينفذ هذا البرنامج وأن تخطو مصر الخطى الواسعة التي تترتب حتمًا على تنفيذه لما بدا على إسماعيل بعد عودته من دراسته بأوربا ومن سياحاته الكثيرة فيها من الحرص على تنمية ثروته الخاصة، وزاد الناس رجاء في ذلك ما كانت عليه حال البلاد إجمالًا من الانتظام والطمأنينة.
لكن إسماعيل حرص — إلى جانب نشر هذا البرنامج — على نشر حالة الخزانة المالية وبخاصة فيما يتعلق بالديون التي خلفها سلفه سعيد باشا، ومع أن هذه الديون لم تكن تزيد في التقديرات الرسمية التي عرفت إلى حين موت سعيد على أربعة ملايين من الجنيهات، فقد ظهرت في البيان الذي نشرته حكومة إسماعيل باشا أحد عشر مليونًا ومائة وستين ألفًا من الجنيهات، والسبب في نشر هذا البيان ليس مجرد الحرص على تحديد ما للدولة وما عليها، فمثل هذا الحرص لم يكن معروفًا في ذلك الوقت، وإنما السبب أن إسماعيل باشا كان يرى ما يقتضيه تنفيذ برنامجه العظيم من طائل النفقات مما لا سبيل إلى الحصول عليه من غير طريق الاقتراض؛ لذلك أراد أن يبين للناس وللأوربيين خاصة أن سلفه الذي لم يصنع شيئًا لحضارة مصر أكثر من هذا الجيش الذي اختاره من طوال القامات، والذي كان يصحبه أنى ذهب، هو الذي بدأ سنة الاقتراض وهو الذي اقترض هذا المبلغ العظيم من غير فائدة للبلاد.
والواقع أن مطامع إسماعيل كانت عظيمة تنوء بها موارد مصر، فقد أراد أن يصل إلى ما رمى إليه جده محمد علي من استقلال البلاد، لكنه كان يعلم أن تحقيق ذلك بالسيف غير ميسور، وأنه على كل حال عرضة لأن يصطدم من معارضة أوربا بما اصطدمت به انتصارات مصر أيام جده، وكان يعلم كذلك ما للرشوة من أثر في وزراء الباب العالي، فإذا هو سخا بيده استطاع أن يحصل على هذا الاستقلال شيئًا فشيئًا، ثم إنه رأى من جهة ثالثة أن لا سبيل للحصول على المال اللازم لهذه الغاية ولسداد أطماعه وشهواته إلا أن يظهر أمام أوربا حاكمًا غربيًّا يريد الإصلاح بالفعل، فنشر البرنامج المشار إليه ونشر قائمة بديون سعيد، وأبدى من مظاهر العطف الإنساني على رعاياه ما جلب إليه أنظار أوربا، من ذلك أنه لم يوافق على الاستمرار في تنفيذ اتفاقية قناة السويس التي عقدت في عهد سلفه سعيد باشا بينه وبين المسيو فردينان دلسبس، لأنه رأى شروطها قاسية بالنسبة لمصر وبالنسبة للعمال المصريين الذين كانوا يرهقون في حفر القناة أشد إرهاق، يسامون الخسف ويضربون بالكرابيج ويطعمون الزقوم، ويكادون لا يقتضون عن عملهم أجرًا، ولما استحر الخلاف بين إسماعيل وشركة القنال ارتضى الطرفان تحكيم نابليون الثالث.
ولسنا نستطيع أن نفهم هذا التحكيم إلا على أنه نوع من الكبرياء والغرور، فنابليون الثالث إمبراطور فرنسا، وشركة القنال على صفتها الدولية كانت ما تزال في كل مظاهرها شركة فرنسية تعني إمبراطور فرنسا حمايتها، فتحكيمه مع ذلك نوع من الكبرياء والغرور معناه أنه لا يجوز لغير رأس من أكبر الرءوس المتوجة أن تنظر في خلاف بين إسماعيل والشركة الدولية العالمية، وانتهى التحكيم بإلزام مصر بأن تدفع للشركة تعويضًا عن عدم تنفيذ شروط الاتفاق أربعة وثمانين مليونًا من الفرنكات، أي ثلاثة ملايين وثلاثمائة وستين ألفًا من الجنيهات، فإذا أضيفت نفقات الدعوى وما قامت به الحكومة المصرية من أعمال النشر والإذاعة وما كان يتقاضاه القائمون بهذه الأعمال من باهظ النفقات لم يكن غلوًّا تقدير ما خسرته مصر في هذه الحركة بأربعة ملايين من الجنيهات.
وبعد زمن وجيز من ولايته الحكم جاء جلالة السلطان عبد العزيز إلى مصر ومعه الصدر الأعظم فؤاد باشا، فكانت هذه أول فرصة عرضت لإسماعيل كي ينفذ ما جال بخاطره كوسيلة لبلوغ الغاية التي صبا إليها من قبل جده محمد علي، ولم يكفه ما أقامه لجلالة السلطان من أعياد فاقت في الفخامة كل ما يتصوره خيال السلطان الشرقي، بل نفح الصدر الأعظم بمبلغ زهيد مقابل الخدم التي أداها أو يمكن أن يؤديها لبقاء علاقات المودة والصفاء بين والي مصر وجلالة السلطان، هذا المبلغ الزهيد هو ستون ألفًا من الجنيهات.
على أن تباشير الخير التي جعلت المصريين يستقبلون ارتقاء إسماعيل العرش بالبشر والتهليل لم تدم طويلًا، فقد انتهت حرب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها وعادت أسعار القطن فانحدرت من ستة عشر جنيهًا للقنطار إلى ثلاثة جنيهات أو ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، وفتكت بالزراعة المصرية آفات أنقصت من دخل الضريبة العقارية واضطرت الحكومة معها لشراء الماشية والغلال لتموين الأهالي، مما خسرت معه ما يزيد على مائة وعشرين ألفًا من الجنيهات، ثم إن إسماعيل كان مغرمًا أشد الغرام بتملك الأطيان حتى لقد بلغت مساحة «دوائر» العائلة المالكة في سنة ١٨٦٥ ما يزيد على خمس الأطيان المنزرعة في مصر الوسطى وفي الوجه البحري.
ذلك كله مضافًا إلى حاجات الميزانية العادية، وما احتاجت إليه الإصلاحات العامة التي بدأ إسماعيل بالقيام بها تنفيذًا لبرنامجه، جعل الالتجاء إلى الاقتراض أمرًا لا مفر منه، وقد بدأ إسماعيل فعلًا بالاقتراض منذ ولي الحكم، فلما انقضت على ولايته سنة وبعض السنة كان الالتجاء إلى المرابين في مصر غير كافٍ لحاجاته، وكان لا بد من الاقتراض من بيوتات مالية كبيرة في أوربا، ولم يجد إسماعيل عنتًا في استصدار تصريح بالاقتراض من الأستانة، وبذلك استطاع في ٨ سبتمبر سنة ١٨٦٤ عقد أول قروضه وقدره ٥٧٠٤٠٠٠ جنيه.
كيف صور إسماعيل لنفسه برنامج الإصلاحات العامة؟ وما هي الطريقة التي أراد أن ينقل بها مصر من بلد شرقي بعيد عن مظاهر الحضارة الأوربية إلا القليل الذي جاء مع نابليون والبعثة الفرنسية، والذي دخل إلى مصر سدًّا لحاجات محمد علي الحربية؟ هي صورة غاية في البساطة، يجب أن نقيم مدنًا أوربية النظام في طرقها وفي عمارتها وفي بساتينها، فما يلبث المقيمون بها أن يصطبغوا بالحضارة الأوربية.
ويجب أن ندخل أحدث المخترعات والنظم كالسكك الحديدية والبريد والتلغراف، فما يلبث الناس أن يفهموا هذه الاختراعات والنظم وأن يصيروا كأصحابها، ويجب أن نعلِّم جماعة من النشء ليكونوا واسطة احتفاظ بمظاهر الحضارة هذه، أما الشعب فلم يكن إسماعيل يأبه له كثيرًا لأنه كان كغيره من الحكام الشرقيين إلى يومئذٍ، وككثير من الحكام الغربيين إلى زمن غير بعيد قبله، يعتبر مصر كما اعتبرها جده من قبل مزرعة له، مركز الشعب فيها مركز العبد أو الخادم، وقد أراد إسماعيل أن يصل لتحقيق فكرته من الحضارة والإصلاح في سنوات مما لم تصل أوربا لتحقيقه إلا في قرون، فبدأ تنظيم القاهرة على نظام باريس وغير باريس من مدائن أوربا الكبرى يخطط فيها الشوارع ويقيم القصور وينشئ الدواوين ودور الحكومة ويغرس البساتين، وجعل من جانبه يعيش عيشة بذخ لم يتهيأ لخيال شاعر ولا قصاص من قبل، وطبيعي أن اقتضى القيام بذلك كله من النفقات ما تلاشى معه قرض سنة ١٨٦٤ أسرع التلاشي وما كثرت معه الديون السائرة التي كان يقترضها من المرابين الأجانب المقيمين بمصر كثرة اضطرته للتفكير من جديد في الالتجاء إلى أوربا كي يعقد قرضًا آخر.
ولم يكفه قرض واحد، بل كان وزيره نوبار باشا يتفاوض له مع كل البيوتات المالية وعقد له في ثلاث سنوات ثلاثة قروض: قرض سنة ١٨٦٥ وقدره ٣٣٨٧٠٠٠ جنيه، وقرض سنة ١٨٦٦ وقدره ثلاثة ملايين من الجنيهات، وقرض سنة ١٨٦٧ وقدره ٢٠٨٠٠٠٠ جنيه، لكن هذه الملايين كلها لم تكن شيئًا مذكورًا إلى جانب النفقات الباهظة التي كان يقوم بها إسماعيل باشا.
وماذا تريد من رجل أقل أطماعه أن يصل ليكون ملكًا على بلاد مستقلة استقلالًا داخليًّا على الأقل؟! وكم كلفه ذلك من باهظ الرشوة يدفعها للكثيرين من رجال الباب العالي بالأستانة! ولقد كانت أول خطوة خطاها في هذا السبيل أن حصل في سنة ١٨٦٦ على فرمان من جلالة السلطان بجعل الوراثة في أبنائه بدلًا من جعلها في أكبر العائلة كما كانت من قبل، ثم حصل كذلك على ضم سواكن ومصوع لمصر بعدما سلخا عنها من بعد حكم محمد علي.
ثم إنه من بعد أن حَكَّم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في الخلاف بينه وبين شركة قناة السويس أصبح صديقًا حميمًا للشركة، وأصبح ينتظر اليوم الذي يعلن فيه افتتاح القناة، ليدعو العالم كله كي يشهد هذا التحوير البديع لنظام الطبيعة تحويرًا من شأنه أن يغير سير الوجود الاقتصادي والتجاري تغييرًا خطيرًا، وكانت سنة ١٨٦٩ هي السنة التي حددت لهذا الافتتاح، وكانت قروض السنوات الثلاث السالفة الذكر قد نفدت كلها، وتزايد الدين السائر مع ذلك تزايدًا جعل إسماعيل يفكر في الحصول على المال للظهور بالمظهر اللازم في حفلة الافتتاح تفكيرًا جديًّا استغرق كل مواهبه وكل ذكائه.
وفي هذا السبيل سافر في سنة ١٨٦٧ إلى أوربا وزار باريس ولندره واستضافه نابليون الثالث والملكة فكتوريا، وكان معه في هذه السياحة وزيره نوبار باشا المطلع على دخائل مفاوضات البيوتات المالية والقدير بدهائه وخبثه على القيام بأعمال في السياسة جسام، وفي هذه الزيارة بُدئ الحديث في مسألة تعديل نظام الامتيازات الأجنبية، فقد كان إلى يومئذٍ كما كان إلى يوم إلغائه في تركيا قائمًا على القاعدة القانونية التي تقرر أن المدعي يقاضي المدعى عليه أمام قضاته، وكان من أثر ذلك أن شعر الأجانب أنفسهم بالارتباك في مقاضاة بعضهم بعضًا، فاستقر رأي إسماعيل ووزيره على إقامة نظام المحاكم المختلطة في مصر، على أن يشمل اختصاص هذه المحاكم الشئون الجنائية كذلك، ومنذ هذه الزيارة التي قام بها إسماعيل لأوربا في سنة ١٨٦٧ فتحت مسألة تعديل النظام القضائي في شأن الأجانب، وظلت المفاوضات فيها مستمرة بعد ذلك ثماني سنوات حتى كللت بالنجاح في سنة ١٨٧٥، لكن هذه المسألة لم تكن الجوهرية يومئذٍ، إنما المسألة الجوهرية كانت الحصول على المال لسداد الديون السائرة فيما أعلنه إسماعيل باشا المفتش وزير مالية إسماعيل، ولتحضير حفلة افتتاح القناة في رأي المستر كيف الذي حقق أسباب ديون إسماعيل في سنة ١٨٧٠ كما سنرى، وقد نجح إسماعيل في عقد قرض تم توقيعه سنة ١٨٦٨ قيمته الاسمية مبلغ ١١٨٩٠٠٠٠ جنيه والمتحصل الحقيقي منه مبلغ ٧١٩٣٣٣٤ جنيه، وقد قبل إسماعيل ضمن شروط هذا القرض أن يمتنع عن الاستدانة لمدة خمس سنوات مقبلة، مما يدل على أنه كان في أشد الحاجة إلى المال، وكان افتتاح القناة في ذلك الظرف هو شاغل إسماعيل الأكبر.
فلقد حرص على أن يدعو إلى هذه الحفلة كل الرءوس المتوجة في أوربا وأكبر عدد من ذوي المقام والمكانة في العالم، وكان أكبر همه من هذا أن يشهد هؤلاء جميعًا كيف نقل مصر من بلاد شرقية أفريقية فجعل منها بلادًا غربية متحضرة، وفي الحق أنه أعد لهذا المظهر خير عدته، فقد بنى في القاهرة قصورًا تضارع أفخم قصور المدائن الأوربية العظمى: بنى قصر الجيزة الذي انقلب في العهد الأخير حديقة للحيوانات، ووصل بينه وبين القاهرة بكوبري قصر النيل، وبنى قصر الجزيرة الذي آل أخيرًا إلى الأمراء آل لطف الله، وبنى غير هذين من القصور الشاهقة ومن دواوين الحكومة ما تعتز بمثله مدائن أوربا، ثم أعد مسرح الأوبرا وكلف الموسيقي الإيطالي الكبير فردي فوضع أوبرا عايدة لتمثل في أثناء حفلات الافتتاح، وأنشأ حديقة الأزبكية في وسط القاهرة أسوة بالحدائق العامة في العواصم الكبرى.
وليتيسر للزائرين وبخاصة الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث زيارة آثار الفراعنة اختط طريق الأهرام في أشهر معدودة، هذا إلى ما مد من خطوط السكة الحديدية، وإلى ما شيد من مدينة الإسماعيلية على ضفة القناة، كما أنه كان قد أنشأ في مختلف أنحاء القاهرة كثيرًا من المدارس الجديدة، كما أعاد المدارس التي كانت قد أنشئت في عهد جده محمد علي باشا واضمحلت من بعده: فأنشأ مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة للبنات ومدارس كثيرة أخرى في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وكذلك كان من حقه أن يفخر بهذه المنشآت العظيمة وأن يريها لملوك أوربا ليعلموا أنه أكثر حضارة من متبوعه الأعظم سلطان تركيا، وأنه إذا طلب يومًا أن يستقل بحكم مصر فطلبه لا شيء من المبالغة فيه.
وسافر من جديد إلى أوربا سنة ١٨٦٩ وعاد بعد ما دعا كل الرءوس المتوجة إلى حضور الاحتفال بافتتاح القناة، وقد أجاب الدعوة منهم عدد غير قليل، ثم تم افتتاح القناة في خمسة أيام، ففي ١٦ نوفمبر سنة ١٨٦٩ ركب المدعوون بواخرهم وعددها ثمانٍ وستون ترفرف فوقها أعلام مختلفة ويتقدمها (النسر) سفين الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث التي جاءت بالنيابة عن زوجها، وقطعوا المسافة من بورسعيد إلى الإسماعيلية في ذلك اليوم، وبعد أن أقيمت في الإسماعيلية أعياد استمرت يومي ١٧ و١٨ نوفمبر ركب المدعوون من جديد بواخرهم يوم ١٩ وبلغوا السويس يوم ٢٠ نوفمبر، ولم يكتفِ إسماعيل بهذا بل طاف بضيوفه العظام أنحاء مصر يظهرهم على ما جدد فيها من حضارة تضارع حضارة أوربا، وقد كلفته هذه الأعياد الباهرة — حسب التقديرات الرسمية — أربعة ملايين من الجنيهات.
وانتهت الأعياد وأضواؤها الباهرة وابتساماتها الخلابة وأجال إسماعيل بصره يريد متابعة أعماله فإذا خزانة الدولة قفر، وإذا هو في أشد الحاجة إلى المال، ولم يكن يستطيع أن يقترض وهو مقيد في عقد سنة ١٨٦٨ بألا يعقد قرضًا جديدًا قبل مضي سنوات خمس، فلجأ إلى المرابين من جديد ولجأ إلى وسيلة تشبه ما يسميه الفلاحون اليوم (البيع على الوجه)، فكان يبيع آلاف الأرادب من الغلال قبل زرعها ويقبض ثمنها، فإذا جاء موعد التسليم أعطى ما يجبى من الضرائب غلالًا ثم اشترى الباقي بأسعار أعلى بكثير من الأسعار التي باع بها، ولجأ إلى غير ذلك من الوسائل المخربة حتى اضطر جلالة سلطان تركيا برغم ما أصاب وزراؤه من أموال إسماعيل أن يبعث له يحظر عليه الاقتراض بغير تصريح سابق منه.
لكن ذلك كله لم يوهن من عزيمة إسماعيل الصلب ولم يثن من إرادته، يجب أن يوجد المال للقيام بمشروعاته ولمضاعفة هذا البذخ الذي كان يعيش فيه، والذي اضطره لنثر الذهب من الأبواب والنوافذ نثرًا، وهل تراه يرضى أن يقول لرجل من أتباعه الذين يتولون تسليته أو لجارية من مئات الجواري اللاتي كانت تترنم بأصواتهن قصوره: إن سيدكم قد عرف أخيرًا كلمة المستحيل، كلا، ليس هذا من خلق إسماعيل، فليعقد إذًا قرضًا ترهن أملاكه الخاصة لسداده، وعقد بالفعل قرضًا خاصًّا في سنة ١٨٧٠ قيمته الاسمية ٧١٤٢٨٦٠ جنيه والمبلغ المتحصل منه بالفعل خمسة ملايين جنيه.
وكانت هذه الأعمال، وكان إسراف الحكومة في مصر، وكانت نفقات إسماعيل ومن حوله، تجعل كل مبلغ ضئيلًا لا يقوى على سدادها، لكن إسماعيل باشا بدأ يرى هول الديون التي استدانها وبدأ يشعر بأن من الواجب التفكير في السعي للتخلص منها، ولعله كان مخلصًا في سعيه، وإن كانت كل الوسائل التي ابتدعت لجلب المال لم تنجح في أكثر من أن زادت الخديو مطامع وسرفًا، وأول ما أبدع من الوسائل قانون المقابلة، وخلاصته: أن ديون مصر إلى يومئذٍ كانت تبلغ ستة أمثال الضريبة العقارية، فإذا دفع الملاك ضعف الضريبة المضاعفة يعفى الملاك أبدًا من نصف الضريبة التي عليهم، وقد دفع كثير من كبار الملاك والباشوات الضريبة المضاعفة بطلب ولي الأمر، وبدأت الحكومة فعلًا تسدد الدين السائر، لكنها لم تمضِ عليها سنة واحدة حتى كانت قد استدانت من جديد بسندات أصدرتها مكفولة بضريبة المقابلة ما قيمته اثنا عشر مليونًا من الجنيهات.
ولما كان موعد الخمس السنوات المحدد في عقد قرض سنة ١٨٦٨ قارب الانتهاء رأى إسماعيل أن يستأذن الباب العالي في قرض جديد يوحد به ديونه، واتفق فعلًا مع بيت أوبنهيم الذي أصدر قرض سنة ١٨٦٨ على أن يصدر قرضًا جديدًا قيمته اثنان وثلاثون مليونًا من الجنيهات لهذا التوحيد، على أن كل ما حصلته الحكومة المصرية من هذا المبلغ كان ٢٠٨٤٠٠٧٧ جنيه، وكان الدين السائر وحده قد بلغ يومئذٍ ثمانية وعشرين مليونًا.
ثم إن الخديو كان قد اضطر إلى إنفاق مبلغ ضخم في الأستانة للحصول على فرمان سنة ١٨٧٣ الذي وطد الوراثة في بكر الأبناء على نحو ما صدر به فرمان سنة ١٨٦٦، والذي أتم لمصر استقلالها الداخلي حتى لم يبق لتركيا إلا أن تسك العملة باسم سلطانها وتتقاضى الجزية آخر كل سنة، وزاد هذا المبلغ في مقدار الديون السائرة زيادة جعلتها تجاوز مقدار القرض الجديد بما يوازي نصفه؛ لذلك لم يفلح القرض في سداد الدين السائر، واستمر إسماعيل على طريقته يصدر سندات جديدة أسماها في هذه المرة سندات الرزنامة، وقد حصلت الحكومة من هذه السندات ٣٣٣٧٢١٠ جنيه فلم تكفِ هي الأخرى مضافة إلى الدين الجديد لسداد الديون السائرة، ولم يبق أمام إسماعيل إلا بيع أسهم الحكومة في قنال السويس، ولقد عرضها للبيع في السوق العالمي، لكن إنجلترا جعلت المسألة ماسة بسياستها ووقفت في وجه فرنسا واشترت الأسهم من إسماعيل بمبلغ أربعة ملايين من الجنيهات وتمت الصفقة في عام ١٨٧٥.
وفي هذا العام الذي أطل فيه الخراب محدقًا بعينيه البشعتين في وجه إسماعيل تم تنظيم المحاكم المختلطة بعد معارضة غير قليلة من جانب فرنسا، وافتتحها إسماعيل وهو ما يزال يأمل في أن أعمال الحضارة التي قام ويقوم بها في مصر تسمح له أبدًا بأن يجد من الدائنين من يثق به، ناسيًا أنه كان قد رهن كل إيرادات الدولة وكل أملاكه الخاصة، وأن الثقة به تزعزعت في كل مكان؛ لذلك ما بزغت شمس سنة ١٨٧٦ حتى كان وقت الحساب قد آن، وحتى أُطفئت أنوار هذه الأعياد الدائمة وهذا النشاط العجيب الذي نشره إسماعيل لا في مصر وحدها بل في أرجاء كثيرة قريبة من مصر ونائية عنها: في السودان وفي تركيا وفي فرنسا وفي إنجلترا وفي كل بلد حلَّت به رحاله أو كان له دائنون فيه.
سنة ١٨٧٦، نعم هي السنة العصيبة في حياة إسماعيل لأنها السنة التي بدأ فيها الصراع العنيف بينه وبين أوربا مجتمعة، والعجيب أنه واصل هذا الصراع وما يزال واثقًا من نفسه ومن حيلته؛ لذلك كان إذا اضطر إلى الإذعان يومًا لم يكن ذلك منه حرصًا على الوفاء ولكن انتظارًا لفرصة النكث والأخذ بالثأر، لكن خصومه كانوا أقوى منه أضعافًا برغم أنه كان في داره، وعلى الرغم من كل الوسائل التي لجأ إليها فقد انتهى آخر الأمر فأسلم نفسه للمقادير التي قضت بخلعه وإبعاده عن بلاده بقية حياته.
ومن عجيب سخر القدر من الناس أن إسماعيل هو الذي ألقى لأوربا بأول فكرة للتدخل في شئونه وشئون مصر تدخلًا ينتهي في أمره هو إلى الخلع، وفي أمر مصر إلى الخضوع لنير أوربا أولًا وإنجلترا أخيرًا، ذلك بأنه لما ثقل حمله وأيقن أن لا وسيلة إلى الاقتراض من جديد إلا أن تثق به أوربا أجال نظره صوب صديقته الصدوق فرنسا فألفاها ما تزال مهيضة الجناح من أثر هزيمتها سنة ١٨٧٠، عند ذلك فكر في مصادقة إنجلترا وانتهز فرصة مرور ولي عهدها بمصر فطلب إليه أن يعين إنجليزيًّا مستشارًا للمالية المصرية، وكان جواب ولي العهد أن ذلك من شأن القنصل الإنجليزي، فبعث القنصل بخطاب إلى حكومته كطلب إسماعيل، وأهملت إنجلترا الخطاب حتى اشترت أسهم القناة، يومئذٍ ذكرت الخطاب من جديد فأرسلت إلى مصر ببعثة لفحص شئونها المالية وعلى رأسها المستر ستيفن كيف.
ولم يترك إسماعيل باشا وسيلة لاسترضاء المستر كيف ولجنته إلا بذلها، وقدمت اللجنة تقريرها إلى الحكومة الإنجليزية فامتنعت عن نشره بحجة أن النشر يزيد مركز الخديو حرجًا، ولقد نشر التقرير من بعد فتبين أنه لا يزيد المركز سوءًا، وأنه على العكس من ذلك يبين للناس أن ما اقترضته مصر إنما أنفق أكثره في أعمال مثمرة إن لم تظهر نتائجها بعد، فهي على كل حال ضمان يمكن أن يعتمد الدائنون عليه، على أن التقرير استظهر دقة حال مصر وأشار بأن لا بد من توحيد ديونها على قاعدة جعل الفائدة لها جميعًا ٧ في المائة، ولم يعجب إسماعيل هذا الرأي وأراد المقاومة بتأجيل الدفع ولو كان من نتيجة ذلك إشهار إفلاسه أسوة بمتبوعه الأعظم سلطان تركيا، لكن سرعان ما أدرك خطر ما اندفع إليه فتلافاه بأن أصدر قانونًا في ٢ و٧ مايو سنة ١٨٧٦ بتوحيد الدين وبإنشاء صندوق خاص بعملياته، وصندوق الدين تعين الحكومة المصرية أعضاءه من الأجانب بالاتفاق مع دولهم، وهذه أول خطوة من خطى التسليم والخضوع لأوربا ولتدخلها في شئون مصر الداخلية.
على أن الدائنين لم يرتضوا القواعد التي بُنِيَ عليها توحيد الديون فضجوا بالشكوى وطلبوا تعيين لجنة جديدة لفحص حالة مصر المالية، فذهب المستر جوشن والمسيو جوبير مندوبين عن الدائنين لإجراء هذا الفحص، وكان من أثر فحصهم أن صدر دكريتو ١٨ نوفمبر سنة ١٨٧٦ يفرق بين ديون الحكومة المصرية وديون إسماعيل الخاصة، ويزيد في اختصاص صندوق الدين، وينشئ منصبي المراقبين العامين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، يراقب أحدهما كل إيرادات الدولة، ويراقب الآخر كل مصروفاتها، وينشئ كذلك إدارة للسكة الحديدية مكونة من إنجليزيين ومصريين وفرنسي واحد، على أن يكون الرئيس إنجليزيًّا، وبهذا الدكريتو أصبحت الحكومة المصرية في يد صندوق الدين والمراقبين الأجانب، وأصبح إسماعيل صورة لا يطلب منها إلا أن تكف عن الأذى، وبدأت هذه النظم الجديدة بالعمل وبدأ إسماعيل يشعر بتلاشيه وانحدار سلطانه المطلق إلى هاوية الفناء.
أين كان الشعب المصري في أثناء ذلك كله؟ لم يكن في نظر إسماعيل شيئًا إلا أنه العبد المطيع الذي يفعل ما يؤمر به والبقرة الحلوب التي تدر الضرائب لإقامة الميزانية، ولم تكن للحكومة ميزانية معروفة، وإنما كانت ميزانيتها ما تتطلبه شهوات عاهلها الذكي القاسي، ولتحصيل هذه الميزانية غير المحدودة كان يكفي أن يقول إسماعيل: «أريد» لتتحرك كل الحكومة كي تنفذ إرادته، والناس على دين ملوكهم، فكان كل موظف في الحكومة كإسماعيل شهوةً وقسوةً، وكان ما يطلبه إسماعيل يُجبَى من الناس أضعافًا مضاعفة سدًّا لشهواته وشهوات هؤلاء الجباة الجناة، والناس يجب أن يدفعوا أو يكوي الكرباج والسوط جلودهم ويدمغ جباههم، ويجب أن يدفعوا أو يلقى بهم في غيابات السجن يذوقون فيها أشد العذاب، ولم لا؟! أليس عزيز مصر وولي أمرها يريد، وأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، فمن عصى فعليه اللعنة وله العذاب، وأي عذاب وأية لعنة! كان رجال الحكم يومئذٍ من غير المصريين إلا قليلًا، فلم تكن بينهم وبين مصر وشيجة رحم أو عاطفة مودة أو قربى تحرك في نفوسهم بإزاء المصريين المساكين معنى من الرحمة أو الإنسانية، بل كانوا من الأكراد والجركس والأرمن والألبانيين، وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، على عقولهم أقفالها، لا يعصون إسماعيل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لذلك كان طبيعيًّا ألا يتحرك الشعب لتدخل الأجنبي في شئونه، ولماذا يتحرك؟ أليس حكامه هؤلاء أجانب عنه كالذين تدخلوا في شأن الحكم سواء بسواء؟ واختلاف العقيدة لا يكفي ليقوم شعب هدَّه الظلم وأضعف نفسه لينصر ظالمه على مخالفه في العقيدة، وبخاصة إذا انتظر من هذا المخالف رفع الحيف ووقف الظلم والأذى.
وبدأ إسماعيل يشعر بهذا ويحسه في أعماق نفسه، جلس حسيرًا في قصره مغلولة يده يشهد بعيني رأسه ما جر إليه بذخه وإسرافه من خراب، وسمح لأذنه أن تسمع لأول مرة ما يضج به الناس من ألم وشكوى، وماذا يعني الناس من قصور تشاد وحدائق تغرس وجسور تمد فوق النهر وألحان تعزفها الحسان، إذا كان ذلك كله يشاد من دمائهم ويمد على أكتافهم؟! وزاد إسماعيل شعورًا بالكارثة أن استنفدت أقساط الدين كل الضرائب التي جمعت على النحو الذي كانت تجمع به من قبل من وسائل الإرهاق، ولم يبقَ منها شيء يدفع للموظفين ولا للجيش.
ورأى الدائنون بأعينهم هذه الحال البشعة فاتفق الرأي على تعيين لجنة جديدة لفحص جديد، وفي سنة ١٨٧٨ تعينت لجنة الفحص العليا أنشأها دكريتو ٢٧ يناير من تلك السنة، وفي ٣٠ مارس صدر دكريتو آخر يجعل للجنة أوسع السلطة، وتشكلت من مسيو دلسبس رئيسًا ومن مستر ريفرس ولسن نائب رئيس، ومن أعضاء صندوق الدين الأربعة، وبدأت اللجنة فحصها تحركها فكرة أساسية هي وضع قرار اتهام إسماعيل، وبعد انتهائها من الفحص قدمت تقريرًا مبدئيًّا كانت الفكرة السائدة فيه وجوب تحديد سلطة الخديو واعتباره مسئولًا عن حرج مركز مصر، واقترحت لذلك إجراء إصلاحات في التشريع المالي بالنسبة للضرائب، وأن تخصص إيرادات أملاك الخديو كلها ومساحتها ٩١٧٠٠٠ فدان لسداد ما يكون من عجز في الميزانية.
تردد إسماعيل بادئ الرأي في قبول هذه المطالبة، لكنه رأى تردده لا يفيد شيئًا بعد أن أصبح الأمر كله للمراقبين ولصندوق الدين، وأنه إذا قبل ما اقترح عليه فقد يفتح ذلك أمامه بابًا جديدًا للاقتراض من جهة، ويترك له الوقت من الجهة الأخرى في تدبير وسيلة للخلاص من هذه المراقبة التي غلت يده، وتحت ضغط نوبار باشا أعلن إلى المستر ريفرس ولسن في يوم ٢٣ أغسطس سنة ١٨٧٨ قبوله اقتراحات اللجنة، وفي ٢٨ أغسطس أُصدِر الأمر العالي المشهور بإنشاء وزارة (يحكم هو معها وبواسطتها وتكون متضامنة في مسئوليتها) وشكل نوبار باشا هذه الوزارة واستعان فيها بالمستر ريفرس ولسن.
ومنذ طلب نوبار باشا إلى المستر ريفرس ولسن معاونته في الوزارة قام الأخير بالمفاوضة لعقد قرض جديد تسد منه الديون السائرة ويسد عجز الميزانية، وقبل أن يوقع عقد القرض أصدر إسماعيل دكريتو ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٧٨ ينزل أعضاء العائلة الخديوية للحكومة بموجبه عن أملاكهم العقارية وقدرها ٤٢٥٧٢٩ فدانًا خلا العقارات، واعتبرت هذه الأملاك ضامنة للقرض الجديد الذي دُعِيَ باسم قرض الدومين أو قرض روتشيلد.
وفي شهر أكتوبر أصبح المستر ولسن وزيرًا للمالية والمسيو دبلنيير وزيرًا للأشغال العمومية، وألغيت بذلك المراقبة الثنائية على إيرادات الدولة ومصروفاتها على أن تعود إذا عزل هذان الوزيران الأوربيان من منصبيهما من غير موافقة إنجلترا وفرنسا، وجعلت هذه الوزارة المختلطة جل همها أن تسدد الديون وأن تتلافى عجز الميزانية، والواقع أن الديون السائرة بلغت مبلغًا ضاق دونه القرض الجديد على الرغم من أنه بلغ ثمانية ملايين، وكذلك وقفت الوزارة المختلطة بعد ثلاث سنوات من المراقبة المالية موقف الحكومات التي سبقتها، وعجزت أن تواجه حرج المركز بخير مما واجهته غيرها من قبل، ولجأت إلى الضغط والاضطهاد اللذين لجأت إليهما أشد الحكومات عسفًا واستبدادًا، وزاد الموقف حرجًا أن رأى وزير المالية الإنجليزي الاستغناء عن ألفين وخمسمائة ضابط من غير أن يدفع لهم متأخرات رواتبهم لأكثر من سنة كاملة، هنالك هاجوا وقاموا ومن بينهم أحمد عرابي في ١٨ فبراير سنة ١٨٧٩ بمظاهرة خطيرة وأحاطوا بنوبار وولسن وأهانوهما وأوسعوهما ضربًا، ولما نمى الخبر إلى إسماعيل جاء بنفسه، فلما رآه الضباط وأمرهم بالانصراف لم يعصِ أمره منهم أحد، مما دل على أن له في تدبير هذه الفتنة يدًا، وقد ثبت بعد ذلك أنه كان المدبر لها بالفعل بأن أوعز إلى أكثر الضباط إقدامًا وجرأة بالقيام بها.
وكان من الضباط الذين قاموا بهذه المظاهرة ومن الذين استغنى عنهم ريفرس ولسون عدد غير قليل من المصريين الصميمين، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى استمرار الحركة في المستقبل والذي كان نواة الثورة العرابية، فإن الموظفين والضباط من الشركس والأتراك والأرمن وغيرهم — ممن كان بيدهم الأمر فكانوا يسومون المصريين الخسف وسوء العذاب — شعروا بفشلهم وبعجزهم إذا بقيت الخصومة بينهم وبين المصريين قائمة، ثم إن ريفرس ولسن تقدم بسبب آخر أدى إلى تحرك العناصر القومية الصميمة في البلاد، فقد طلب إلى الحكومة أن تعلن أن مصر مفلسة كي تعامل معاملة المفلس في شأن ديونها، هنالك اجتمع نواب البلاد وأعيانها وكبراؤها وموظفوها الدينيون والمدنيون والحربيون وقدموا للخديو برنامجًا ماليًّا يخالف برنامج ولسن محتجين على القول بإفلاس مصر، ولم تكن يد إسماعيل بعيدة عن وضع هذا البرنامج، ثم لم يكتفِ النواب ببرنامجهم الذي تقدموا به، بل تقدموا كذلك بعرض للخديو يبينون فيه استياءهم من الوزارة لعدم اكتراثها بآرائهم، وانضم الخديو لهذه الحركة وعضدها؛ لأنه رأى فيها الوسيلة الوحيدة لعود بعض سلطته إليه بعد أن تقلص ظلها وانتقلت إلى أيدي الأجانب، وبلغ من تعضيده إياها أن رفض النواب الارفضاض لما جاء رياض باشا وزير الداخلية يعلن إليهم انتهاء الدورة، وكذلك أصبح هذا المجلس الذي خلقه إسماعيل في سنة ١٨٨٦ صورة يوهم بها الدول الأوربية أن مصر أصبحت بالفعل جزءًا من أوربا وقد شعر بوجوده وقدر مكانته، فقد احتج في ٢٩ مارس سنة ١٨٧٥ على الوزارة المختلطة لأنها لم تكن تعترف بوجوده وبمسئوليتها أمامه، وفي ٥ أبريل طلب إلى الخديو تعديل قانون الانتخاب وإعلان مسئولية الحكومة أمام مجلس النواب، ولم يقف عند ذلك بل احتج على بقاء الوزارة المختلطة وبالتالي على وجود ولسن ودبلنيير فيها، ولم يلبث إسماعيل أن أبلغ هذا الاحتجاج حتى عزل الوزارة وعهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وفي الشهور الثلاثة التي انقضت بين توليها وخلع إسماعيل بدأت بوضع قانون للانتخاب، كما نشرت في ٤ يونية لائحة مجلس شورى النواب الأساسية، وفيها تقرر الحصانة البرلمانية وتحدد عدد النواب وتنص على المسئولية الوزارية، ومع أن هذه الوزارة كانت جادة في عملها، ومع أنها سبقت هذا التشريع النيابي بتشريع مالي صدر به دكريتو بتاريخ ٢٢ أبريل سنة ١٨٧٩ يكفل للأجانب حقوقهم ويقر المراقبة الثنائية وصندوق الدين في اختصاصهما الواسع، فإن أوربا بدأت تشعر بأن مصر على وشك انتقال خطير ليس من العسير تقدير مدى نتائجه، وإن خيرًا للمصالح الأوربية الوقوف في سبيله، فبدأت ألمانيا والنمسا بالاحتجاج في ١٨ مايو على دكريتو ٢٢ أبريل بدعوى أنه مخالف لتعهدات مصر الدولية، وألقتا مسئولية هذه المخالفة على الخديو، وفي ١٨ يونيو احتذت وزارتا باريس ولندرة مثال ألمانيا والنمسا، وقد حاول إسماعيل القضاء على هذه الحركة الدولية فطلب موافقة الدول على الدكريتو، لكن حركته هذه لم تنجح.
وكانت الدول قد سئمت هذا الصراع الطويل مع إسماعيل، ولعلها كذلك خشيت بعد انضمامه للأمة وإظهاره العطف كل العطف على مطالبها أن تقوى الحركة القومية المصرية وأن يصبح إسماعيل مثلما كان جده محمد علي مكانة وقوة سلطان؛ لذلك رأت أفضل السياسات أن ينزل عن العرش، لكن إسماعيل لم ينظر إلى المسألة هذه النظرة، وأراد أن يلجأ إلى جلالة سلطان تركيا آملًا أن يكون لما قدمه له من طائل الأموال وعظيم التضحيات بعض الأثر، وهنا خاب فأله، فقد بعث الباب العالي في ٢٦ يونيو تلغرافًا بعزل إسماعيل عن العرش وبرفع ولده توفيق مكانه، وعلى أثر ذلك أقلع إسماعيل من الإسكندرية قاصدًا إيطاليا وقلبه خافق وعيونه هامية بالدمع، وأقام في إيطاليا زمنًا ثم انتقل إلى الأستانة إذ أقام بها في قصر «أمر جيان» على شواطئ البوسفور حتى جاء أجله في ٢ مارس سنة ١٨٩٥.
•••
وكم دار بخاطره في هذه السنوات الأربع عشرة التي انقضت بين عزله وأجله أن يعود إلى نضال يسترد به عرشه، وكان أول ما صنع من ذلك أن بعث إلى السلطان بالأستانة على أثر وصوله إلى نابولي رسالة حارة يذكر له فيها ما أجرى من عظيم الإصلاح في وادي النيل، وما قام به من فتح السودان إلى خط الاستواء حيث خفقت الراية العثمانية من تلك الأنحاء في ربوع لم تخفق من قبل قط عليها، لكن السلطان لم يعبأ بخطابه ولا أجابه عنه، بل نسي كل ماضي إسماعيل وما أغدقه على الأستانة ورجالها من مال وأنعم، وما باله يعبأ به وقد أصبح لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا يملك لمتبوعه العظيم رشوة ولا هدية، وأصحاب العروش لا يعنون إلا بصاحب القوة ما داموا يهابون قوته ويطمعون في خيره ومعونته، ونال ذلك من نفس إسماعيل، ولكنه حملها على الصبر حتى كانت الثورة العرابية في مصر، هنالك حز الألم في نفسه واذَّكر أنه لم يفكر في مقاومة كالتي قاومها اليوم هؤلاء المصريون الأبطال، ولو أنه قاوم فربما كان له من الأقدار عون يستبقي نجمه عاليًا، أما ولم يفعل فليس له أن يرجو من الأقدار مددًا وهي لا تمد الضعيف أو الخائف، وإنما تحارب في صف الشجاع المقدام.
ومنذ دخل الإنجليز مصر محتلين خيَّمَ اليأس على كل آماله في استعادة ملكه، فظل في إيطاليا حتى انتقل إلى الأستانة ليلقى فيها منيته، وليكون فيها أسير عطف الأتراك الذين طالما تمتعوا بما أغدقه عليهم من مدد ومال أيام ولايته.