الخديو توفيق باشا
ثلاثة عشر عامًا تولى فيها توفيق أمر مصر كان خلالها في زهرة شبابه بين السابعة والعشرين والأربعين، لكنه كان فيها كذلك بين عوامل لا يستطيع مدافعتها والتغلب عليها إلا نابغة محنك، كان فيها بين تركيا الناقمة لضعف سلطانها في مصر، وإنجلترا الطامحة إلى بسط نفوذها نهائيًّا على وادي النيل، وفرنسا المكتئبة لتقلص مكانتها رويدًا رويدًا من أرض الفراعنة، والأمة المصرية المثقلة بديون إسماعيل باشا وظلم حكامها والمتأججة نفوس أهلها بالثورة طمعًا في الاستقلال والدستور، وهو بين هذه العوامل رجل يشعر بضعة أمومته وبحقد أهله عليه، ويود لو أنه كان في مكانة أبيه بطشًا وسلطانًا، ويخضع للأقدار التي لم تهبه من سعة الذكاء ما وهبت غيره، ولتربيته الشرقية البحتة التي اقتضت ألا يغادر مصر وألا يتصل بالمدينة الأوربية اتصال إخوته، وللظروف التي جعلت تتقاذفه منذ ارتقى عرش أبيه فتصدمه بكل واحد من العوامل المحيطة به، لينتهي به الأمر إلى أن يكون في تاريخ مصر صورة غير محبوبة، ولا ممقوتة، صورة مرت في هذا التاريخ فكان أثرها فيه سلبيًّا هو أثر العاجز عن أن يقوم لبلاده أو لنفسه بخير، وليودع العالم في الأربعين من عمره فيلقي بمصائر مصر بين يدي ولي عهده الفتى عباس وما يزال في الثامنة عشرة من عمره.
•••
ولد توفيق باشا في ١٥ نوفمبر سنة ١٨٥٢ ثمرة لبرهة هوى من إسماعيل مع إحدى جواريه التي لم تنل منه إلا حظوة قصيرة ولم تكن له زوجًا، ولم يكن إسماعيل يومئذٍ وارثًا لعرش سعيد أن كان أحمد أكبر العائلة ما يزال حيًّا؛ لذلك لم يلفت مولد توفيق نظر أحد إلا ما كان من زراية أميرات العائلة المالكة لأمِّه، فلما حصل إسماعيل على فرمان وراثة العرش للولد الأكبر انقلبت الزراية للأم حقدًا على الابن، وشارك إسماعيل أهله في عدم عطفهم على توفيق وإن لم يبلغ ذلك من نفسه مبلغ حقده على حليم باشا وارث عرشه على النظام القديم، وثبت عدم عطفه على توفيق وعدم رعايته إياه في عزمه على أن يكون عرشه لحسين من بعده، وقد كان يستطيع ذلك اعتمادًا على أمومة توفيق أو بالتخلص منه كما كان يفعل ملوك ذلك العصر في تركيا، لكنه لم يكن يتعجل النظر في أمر لم يكن في حسبانه وقوعه قبل زمان طويل، وكفاه وجود توفيق بمعزل عنه في قصر له مقتصرًا على إدارة أراضيه.
على أن عزلة توفيق وعدم إغداق أبيه أسباب الرضا عليه جعله ينظر إلى ما صنع أبوه من استدانة ومن إرهاق للمزارعين والفلاحين ومن بطش بالناس جميعًا نظرة مصري لا نظرة ولي عهد؛ لذلك اتصل بطائفة من الناقمين على الحال التي آلت مصر إليها، أمثال السيد جمال الدين الأفغاني واللقاني والشيخ محمد عبده ومن كان يلوذ بهم من أمثال عرابي، وانخرط في سلك الماسونية الذي انخرطوا فيه، فلما اضطر إسماعيل تحت ضغط الدائنين إلى أن يعين نوبار باشا رئيسًا للوزارة المسئولة الأولى وأن يضم إليه مستر ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير، الأول وزيرًا للمالية والثاني وزيرًا للأشغال، ثم لما رأى أن الحال المالية في البلاد تزداد كل يوم سوءًا برغم ما تنزل عنه من سلطته ومن أملاكه، ورأى الشعور العام ضد التدخل الأجنبي يزداد في البلاد كلها، خلع نوبار من الوزارة واتفق مع فرنسا وإنجلترا على تعيين ولي عهده توفيق باشا رئيسًا للحكومة، على أن ولي العهد كان يعلم دقة الموقف كما يعلم بنوع خاص تهيج الشعور العام بإزاء ما كان يعتزمه السير ريفرس ولسن كعضو في لجنة التحقيق الدولية من إعلان إفلاس مصر؛ لذلك لم يجد الوزيران الأوربيان من رئيس الوزارة الجديدة مؤيدًا قويًّا لهما، وعلى أثر إعلان وزير المالية تأجيل دفع الفوائد المستحقة للدائنين في شهر أبريل تقدمت عريضة من العلماء والوجهاء والنواب ورجال الجيش يحتج فيها مقدموها على هذا التصرف ويطلبون إلى الخديو أن يلجأ إلى نوابه للخروج من المأزق، وعلى ذلك استقالت وزارة توفيق من غير أن تفعل شيئًا، وكلف إسماعيل شريف باشا بتأليف وزارة تكون مسئولة حقيقة أمام برلمان تنظم حقوقه وطرق الانتخاب له بحيث يستطيع أن يقوم بما تقتضيه الأحوال وأن يحقق الأماني القومية.
وكان ذلك هو الانقلاب الحكومي الذي أريد به القضاء على سلطة المراقبين وعلى تدخل الأجانب في الإدارة المصرية، والذي انتهى بتركيا إلى عزل إسماعيل باشا في ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩ وإلى إرسال برقية في اليوم نفسه إلى توفيق باشا تعلن فيها إسناد منصب الخديوية المصرية إلى جنابه ويختتمها وزير تركيا بقوله: «والأمر والفرمان في كل حال لمن له الأمر أفندم.»
كانت هذه الضربة الحاسمة غير المنتظرة من جانب تركيا منبهة لكل من يعنيهم أمر مصر وكل من لهم مصالح فيها لكي يقفوا على حذر، ومع أن توفيق باشا فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره الذي أبلغه إليه أسوأ مقابلة بأن صفعه، فإنه شعر من ذلك الحين بأن التركة التي آلت إليه أعباؤها تركة مبهظة مخوفة، ترى ماذا عساه يصنع بإزاء أبيه، وبإزاء تركيا، وبإزاء الدول وتدخلها في شئون مصر، وبإزاء الأمة المصرية المتوثبة للحركة بل للثورة؟
أما إسماعيل فأيقن أن لا مفر له من الانحناء لعاصفة لم يكن يستطيع مواجهتها، وإن لم ينقطع رجاؤه في العود يومًا ما إلى هذا العرش الذي انتزع منه اغتصابًا؛ لذلك قابل الصدمة بكل ما يستطيع رجل في عظمته وفي قوته أن يواجهها به، وأظهر من العطف على ولي عهده ما لم يكن له من قبل به عهد، وفي الأيام التي انقضت ما بين تبوؤ توفيق عرش أبيه وسفر إسماعيل من بلاد عزيزة عليه كانت عواطف الأبوة والبنوة بينهما كخير ما يمكن أن تكون في مثل هذا الظرف العصيب.
اطمأن توفيق إذًا من هذه الناحية، ولقد أظهر من عواطف البنوة ما دفعه للتنازل عن عشرين ألف جنيه من مرتباته السنوية لأبيه كي تبلغ مرتباته خمسين ألف جنيه، ولمناسبة رفع مرتبات البيت الخديو إليه أراد في نفس الوقت أن يظهر للأمة حرصه على مصلحتها ومشاركته إياها في متاعبها المالية، فأمر بإلغاء الراتب المعين لوالدته وحرمه وقدرهما خمسة وخمسون ألف جنيه.
بعد ارتقاء توفيق العرش جعلت تركيا تفكر في الاستفادة من الانقلاب بأن تسترد ما كسبته مصر بفرمان سنة ١٨٧٣ الذي جعلها مستقلة استقلالًا داخليًّا تامًّا فيما عدا سك العملة ودفع الجزية، وقد أثار هذا الخبر في مصر قلقًا غير قليل، على أن فرنسا وإنجلترا عارضتا الباب العالي فيما أظهره من عزمه وأنبأتا ممثليهما في مصر بأنهما معتزمتان فيما إذا لم يكرر السلطان أحكام فرمان سنة ١٨٧٣ في الفرمان الذي يوجهه إلى الخديو توفيق أن تطلبا الاستقلال التام لمصر، وقد اختلف في الأسباب التي دعت تركيا إلى هذا التصرف: أهي كانت تريد بالفعل إلغاء الحقوق والامتيازات التي حصلت عليها مصر في أثناء ولاية إسماعيل باشا؟ أم هي كانت تتذرع بالمطل والتسويف للحصول على مبلغ من المال بدليل أنها قطعت في ذلك الوقت حوالة على مصر أبت الحكومة المصرية قبولها بسبب ارتباكها المالي، على أن هذا التسويف طوع لفرنسا ولإنجلترا أن تتدخلا وأن تطالبا الباب العالي بإبلاغهما فرمان تولية الخديو كوثيقة دولية، وأن تثبتا بذلك حقوقهما في التدخل في شئون مصر للمحافظة على حقوقها بإزاء تركيا استنادًا على ما كان من تدخلهما للمحافظة على مصالح رعاياهما الدائنين للحكومة المصرية، وكان من أثر ذلك أن شعر توفيق بما للدولتين من فضل عليه بسبب محافظتهما على حقوقه وحقوق البلاد التي ولي عرشها.
ولم يصل الفرمان بتولية الخديو الجديد إلا بعد شهرين من ارتقائه عرش أبيه، أي في ١٤ أغسطس سنة ١٨٧٩.
خلال هذين الشهرين كانت خطة توفيق غامضة ما تزال، فهو حين ارتقى العرش كان في زمرة الماسون الذين يناصرون الحرية والعدالة؛ لذلك وجه خطابه إلى شريف باشا لتشكيل الوزارة الأولى في عهده مقدرًا للأمة معتمدًا عليها ذاكرًا «إني عظيم الميل لبلادي، شديد الرغبة في تحقيق آمال الأمة التي أظهرت السرور بولايتي، عازم عزمًا أكيدًا على التماس أحسن الوسائل لإزالة الاختلال المفسد لكثير من المصالح، إلا أن إدراكي لهذه الغاية التي هي موضوع آمالي يتوقف على مساعدة الأمة بجملتها.»
وتحقيقًا لهذه السياسة تألفت لجان من الأوربيين غايتها تقديم العرائض إلى قناصلهم يلتمسون بها من دولهم منع تدخل الأجانب في أحوال مصر وقصر النظر فيها على الوطنيين، ثم إن توفيق باشا تحدث في ذلك الظرف إلى مكاتب التيمس، فأشار بادئ ذي بدء إلى أنه لا يبرح مقيد اليد في العمل حتى يرد الفرمان بتعيينه، لكنه مع ذلك صرح للمكاتب بأنه لا يريد الرجوع إلى تعيين وزراء أوربيين، بل ينبغي أن تكون الوزارة مصرية وطنية يصح أن يعاونها رجال من الأوربيين في الإدارات على أن يكونوا موظفين مصريين لا أكثر، أما سير ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير شخصيًّا فقد صرح توفيق بأنه يعارض أشد المعارضة في رجوعهما أيًّا كانت صفتهما؛ لأن رجوعهما يكون مخالفًا لمصلحة مصر على خط مستقيم، وطلب الخديو إلى الدول في حديثه هذا أن تمهله بضعة أعوام «فنحن في مقام الامتحان فلا يحسن بأوربا أن تمسك عليَّ وعلى مصر طريق النجاح».
وكان من أثر هذه الخطة وتلك التصريحات أن هدأت أعصاب المصريين التي كانت متوترة في الأيام الأخيرة من عهد إسماعيل، فعلى الرغم من عزل الحكومة عشرة آلاف من الجند المجتمعين تحت السلاح وإنقاص الجيش العامل إلى اثني عشر ألفًا وتأخير صرف مرتبات الكثيرين، أمسك الرجاء بالناس عن أن يلجأوا للهياج، لكن نيات توفيق باشا الديموقراطية لم تلبث إلى أكثر من وصول الفرمان بتثبيته على عرشه، ففي مساء اليوم الذي عاد فيه مندوب السلطان الذي كان يحمل هذا الفرمان قافلًا إلى تركيا بعد حفلة تلاوته أقيلت وزارة شريف باشا وألف توفيق باشا وزارة تحت رئاسته مباشرة، والحجة التي روجت تبريرًا لهذا التصرف إنما هي إرادة الخديو تعجيل الإصلاح، أما الحقيقة فعدم رضا توفيق عن ميول شريف باشا الدستورية، ففي الخطاب الذي أرسل به الخديو إلى كل من وزرائه الجدد معنى قصده العودة إلى حكومة الفرد، فيه تكليف لكل من النظار أن يحضر أوراق شئون وزارته ومعلوماتها عند حضوره إلى المجلس لعرضها، على أن توفيق كان يشعر بأن الأمة لا يمكن أن ترضى عن هذه الحال؛ لذلك بعث بتلغراف إلى رياض باشا الذي كان متغيبًا هو ونوبار باشا، أو قل منفيين في أوربا، يستقدمه إليه لعلمه بعدم ميل هذا الوزير إلى حياة الشورى، فلما حضر في أوائل سبتمبر عهد إليه بتشكيل الوزارة وقطع على نفسه العهد باحترام إرادة ٢٨ أغسطس سنة ١٨٧٩ التي قررت مبدأ مسئولية الوزارة وتضامنها، وبعد ثلاثة أشهر من استقرار هذه الوزارة في مناصبها زار توفيق — جريًا على سنة أسلافه — أنحاء ملكه في الوجهين القبلي والبحري وقضى فيهما أشهرًا وعاد منهما في أوائل مايو سنة ١٨٨٠.
وكان الهدوء شاملًا أنحاء مصر في هذه الفترة، لكنه كان هدوء تربص وانتظار، ذلك بأن المسألة الشائكة التي انتهت بعزل إسماعيل كانت تحت البحث منذ أول ولاية توفيق، وكانت لا تؤذن بخير كثير، فعلى الرغم مما أعلنه الخديو لمكاتب التيمس من المعارضة في عودة ولسن ودبلنيير بعد فشل سياستهما المالية في مصر لم تر الحكومة الفرنسية بعد اتفاقها مع حكومة مصر على إعادة المراقبين أن يعين أحد غير مسيو دبلنيير، أما الحكومة البريطانية فأشارت بتعيين السير بارنج (لورد كرومر) وتم تعيين المراقبَيْن في ٤ سبتمبر سنة ١٨٧٩ وباشرا عمليهما، وانتهيا بتقديم تقرير إلى الخديو في أواخر عام تعيينهما يقترحان فيه تعيين لجنة تصفية للدين المصري كله، وبعد محادثات بين الدول صاحبات الشأن تعينت اللجنة في ٣١ مارس برئاسة السير ريفرس ولسن وتعهدت الدول بقبول قراراتها، وإذًا فقد رأى توفيق نفسه بإزاء حالة كان يراها أول جلوسه على العرش مخالفة لمصلحة مصر على خط مستقيم من غير أن يستطيع لها نقضًا.
وقدمت لجنة التصفية تقريرها في ١٧ يوليو سنة ١٨٨٠ فأصدره الخديو فورًا وأطلق عليه اسم قانون التصفية، وعلى موجب هذا القانون بلغ دين مصر ٩٨٧٤٨٩٣٠ جنيهًا، وقد روعيت في هذا القانون، كما روعيت في كل تصرفات ممثلي الدول الأجنبية، مصالح الدائنين الأجانب على حساب نظام الحكم في مصر، وبالرغم مما كان يعلمه المراقبون وغير المراقبين من أن أكثر من نصف هذا الدين لم يدفع إلى مصر لم يفكر أحد في إلزام الدائنين بالتنزل عن شيء من الديون الاسمية التي كانوا يقتضونها من مال المصريين ومن دمائهم، ولما كان تدخل الأجانب مثيرًا لعواطف المصريين في عهد إسماعيل فقد بدأت هذه العواطف تثور من جديد بعد هدأة التربص، وبدأت العاصفة تتكور في الجو لتؤذن بالانفجار عما قريب.
وبدأت نذر الانفجار بما كان من تبرم رجال الجيش تبرمًا سببه امتهان العنصر المصري فيه لمصلحة الأجانب من الأتراك والجراكسة، فلما سرح إسماعيل باشا في أواخر أيامه ألفين وخمسمائة من الضباط أكثرهم مصريون كان إخوانهم يشعرون بالألم من أجلهم ويخشون أن يصيبهم مثل نصيبهم، على أن ارتقاء توفيق إلى العرش واستيزاره شريف باشا هدأ الحالة زمنًا، فقد ظن الناس أنهم حاصلون على هيئة نيابية خير من شورى النواب القديم تراقب الحكومة وتمنع تدخل الأجانب وتعيد العدل إلى نصابه، فلما عُيِّن رياض باشا وعُيِّن معه في وزارة الحربية شركسي قُحٌّ هو عثمان رفقي، يمقت المصريين ويمتهنهم، ولما تكشفت نيات الخديو ووزارته عن العدول عن الحكم النيابي بل عن شورى النواب نفسه، ثم لما بدئ بتنفيذ قانون التصفية وتبين أن حال مصر المالية لم تفد منه خيرًا — لمَّا حدث ذلك كله كان المدنيون وكان رجال الجيش تغلي في صدورهم مراجل الحقد وتأجج نفوسهم بنيران الثورة.
وعجيب أن يحدث ذلك كله بأعين توفيق فلا يراه ولا يقدر مداه، بل يندفع في التيار العجيب الذي اندفع فيه مخالفًا بذلك كل ما أظهره من الميول أول جلوسه على عرش أبيه، فهذا الميل الشديد لتحقيق آمال الأمة وهذا الاعتماد على معاونتها قد انقلب فجأة عقب وصول الفرمان إلى إعادة حكومة الفرد، ثم إلى إسناد الوزارة لنصير قوي من أنصار النظام المطلق، وهذا الحرص على معارضة عودة ولسن ودبلنيير وعلى أن تكون الوزارة مصرية وطنية، وهذه الدعوة لانتظار أوربا نجاح السياسة الوطنية الجديدة قد انقلب فجأة إلى قبول هذين الشخصين وغيرهما من الأشخاص، وإلى ترك التدخل الأجنبي يتوغل في إدارة البلاد، وهذه السياسة المالية التي فشلت على يد ولسن قد انقلبت فجأة سياسة الحكومة المصرية ليصدر على موجبها قانون التصفية، وهذه الانقلابات كلها قبلها توفيق راضيَ النفس مطمئنًّا.
على أن لهذا العجيب في نظرنا تفسيره الواضح: فتوفيق الضعيف قد رأى ما حل بأبيه حين عارض إنجلترا وفرنسا فيجب ألا يعارضهما، وإنجلترا وفرنسا تريدان هذا النظام فيجب أن يريده ليتمخض ذلك كله عن انفجار أو عن ثورة أو عما يمكن أن يتمخض عنه، فليس توفيق الضعيف هو الذي يطالب بالتفكير في هذا، ويكفيه أن يعتمد في بقائه في عرشه على سند الدولتين اللتين استخلصتا له من تركيا فرمان توليته.
وكان يسيرًا أن يرى توفيق نذر الانفجار آتية من ناحية رجال الجيش، ذلك بأنه فضلًا عن تسريح ألوف من الجند ومئات من الضباط في آخر عهد إسماعيل وبالرغم من تسريح عشرة آلاف جندي أول ولايته، فإن تنفيذ قانون التصفية أسفر عن عجز الميزانية اللازمة لنفقات الدولة في سنة ١٨٨١ عجزًا بلغ مقداره ١٦١٠٠٠٠ جنيه، بينما كان متوافرًا في صندوق الدين بعد دفع الفوائد مبلغ ٨١٣٠٠٠ جنيه أنفقت في استهلاك السندات بدلًا من أن يسدد منها ذلك العجز، وقد ترتب على هذا أن بقي كثيرون من الموظفين — ومن بينهم رجال الجيش — لا يتقاضون مرتباتهم، أضف إلى هذا أن رفقي باشا ناظر الحربية أصدر لائحة مقتضاها عدم ترقية المصريين إلى الدرجات التي يستحقونها، بيمنا يرقى الجراكسة إلى أكثر مما يستحقون، ولما كان للضباط المصريين جماعة سرية بين أعضائها أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي وكانوا قد قدَّموا لرياض باشا طلبات بالإصلاح منذ شهر مايو سنة ١٨٨١ لم تنظر الحكومة فيها، فقد قرر هؤلاء دفع أَلَايَات الجيش للاحتجاج على تصرفات رفقي باشا وعلى المطالبة بعزله، ورفعت بالفعل عريضة للخديو متضمنة هذا الاحتجاج.
وكان محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف في وزارة رياض على اتصال بهؤلاء الضباط؛ لذلك تيسر لهم أن علموا بعد احتجاج الجيش أن الحكومة تريد محاكمة الثلاثة الذين ذكرنا أسماءهم، وأنها أمرتهم بالذهاب إلى قشلاقات قصر النيل في أول فبراير سنة ١٨٨١ لتقبض بعد ذلك عليهم، فما كادوا يذهبون وما كاد يقبض عليهم ويجردون من رتبهم ويسجنون حتى كانت ألاياتهم قد حضرت وأنقذتهم من سجنهم بقوة السلاح.
وسار الضباط الثلاثة على رأس ألاياتهم من قصر النيل إلى عابدين وهناك وقف عرابي بين الجند خطيبًا فشكرهم على إخلاصهم له وإنقاذهم إياه، ثم تقدم إلى الخديو يطلب العفو عنه وعن زملائه، وخلع عثمان رفقي من نظارة الحربية، وأردف عبارته هذه بقوله: «إنهم لا يبرحون إلا بنيل بغيتهم.» ولما كان توفيق قد رأى كل الأوامر التي أصدرها إلى ضباط الجند لا تنفذ، ورأى نفسه في مأزق لا يعرف سبيلًا إلى النجاة منه سارع إلى إجابة طلب العصاة وأقال عثمان رفقي من الحربية وعين مكانه صديق الضباط المنتقضين محمود سامي البارودي.
لو أن توفيقًا كانت له سياسة معينة يومئذٍ لما وقع حادث قصر النيل، لكنه كان مضطرب الرأي والسياسة جميعًا لأنه كان يشعر — كما قدمنا — بأن سنده الأخير ليس تركيا وليس الأمة المصرية ما دام حليم باشا وارث العرش على النظام القديم مقيمًا في الأستانة يدس لإلغاء وراثة الابن ويعاونه أنصار من الساسة والأميرات، وما دام هو لا يريد أن يعتمد على الأمة أو ينيلها شيئًا من الحقوق التي تشعرها بكيانها، على أن حادث قصر النيل لم يكف توفيقًا درسًا في وجوب تحديد سياسة يسير عليها لكيلا يكون دائمًا معرضًا للتصادم مع القوى المختلفة المحيطة به، فمع شعوره بأن أباه اضطر للاستعانة بالأمة ولو استعانة صورية ممثلة في مجلس شورى النواب، فقد ظل حفيظًا على مبدأ الحكومة المطلقة ثم إنه إلى جانب هذا كان قد بدأ يتخوف رياضًا لقوته وشدة سلطانه على الرغم من مشاركة رياض إياه في تأييد النظام المطلق؛ لذلك بدأت الوزارة تضعف شيئًا فشيئًا على حين بدأ المتمردون من رجال الجيش يزدادون قوة على أثر انتصار يوم قصر النيل، وينضم إليهم كثيرون من غير العسكريين ويجاهرون جميعًا بضرورة تشكيل مجلس النواب، وكان سامي البارودي من أصحاب هذا الرأي ومن أقوى المحركين لعرابي ومن معه، بل كان هو روح الحركة ومحورها.
وبرغم ضعف الوزارة وشعور الخديو بمعارضة عنصر قوي في البلاد لها فإنه أراد أن يقاوم هذه المعارضة بالشدة؛ لذلك عمد إلى عزل سامي البارودي من وزارة الحربية وإلى تعيين صهره داود باشا يكن مكانه، وأراد داود باشا قمع الحركة، فأمر بمنع اجتماع الضباط وبث عليهم الأرصاد والعيون، ولما عاد الخديو من الإسكندرية أمر الوزير الجديد بإجراء تنقلات بين الألايات شعر معها عرابي وأصحابه بأن المراد تشتيتهم للتنكيل بهم بعد ذلك، فرفضوا تنفيذ الأمر وأبلغوا الخديو بأن الجيش سيحضر بتمامه إلى عابدين لإبداء اقتراحات تتعلق بنظام الحكم في البلاد وبشئون الجيش وتحسين حاله.
ترى ماذا يفعل توفيق بإزاء هذه الحركة وهي حركة تمرد عسكري صريح؟! أتراه يترك الأمر لوزارته فيصرح أن عليها حفظ النظام والأمن؟ أتراه يدعو إليه كبار رجال الدولة وأعيانها في مجلس عام لينظر في الأمر؟ أتراه يأمر بتجريد المتمردين من رتبهم وألقابهم لكيلا يكون لوزارته ولا لغيرها من رجال البلاد عليه فضل ويقف صلبًا ينتظر النتائج كائنة ما تكون؟ كلا، فهذه كلها حلول تحتاج إلى عزيمة وإلى قوة جنان وإلى شعور بالمسئولية واستعداد لمجابهة الخطر وجهًا لوجه، وتوفيق الضعيف لا يملك شيئًا من هذا؛ لذلك عمد إلى وسيلة عجيبة لا يعمد إليها سياسي، أخذ وزراءه وتوجه بهم إلى حيث تعسكر الألايات المتمردة يحقق معهم ويستعطفهم، ثم ذهب بنفسه إلى القلعة حيث ألاي عرابي ليرجوه ألا يفعل ما اعتزم فعله، لكنه وجد عرابي قد سبقه إلى عابدين فعاد هو الآخر أدراجه إليها.
وهناك في ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ قام عرابي على رأس الجيش ممتطيًا جواده مستلًّا سيفه ووقف توفيق في شرفة عابدين يحيط به وزراؤه وقناصل الدول.
وبأمر توفيق أغمد عرابي سيفه وتقدم بمطالبه، وهي إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام، وربما كان التصديق على قانون العسكرية أهم مطالب الجند، وربما اكتفوا به لو أن الخديو أجابهم فورًا إليه وأمرهم بالانصراف لكي تنظر حكومته فيما عدا ذلك من المطالب، لكن الخديو اضطرب لساعته ورفض الطلبات جميعًا مواجهًا خطر النداء بعزله وإعلان الجمهورية في مصر على نحو ما كان يدور برأس عرابي وأصحابه، لكن وزراءه وقناصل الدول أشاروا على الخديو بالعود إلى داخل السراي خشية أن تعجل مواجهة ما بين الرجلين الحوادث، وصار مستر كولفن القائم بعمل المراقب الإنجليزي وقنصلا إنجلترا والنمسا رسلًا بين الخديو وعرابي، وتصلب عرابي التصلب كله وأشار بعض الحاضرين على الخديو — ومن بينهم مستر كلفن — أن يتشبث بالرفض مؤكدين أن لن يصل رجال الجيش إلى أكثر من المظاهرة التي قاموا بها، لكن الخديو أوصله ضعفه وعدم احتياطه إلى التسليم فسقطت وزارة رياض لساعتها ووعد الخديو بتنفيذ باقي المطالب بالتدريج، ودعا إليه شريف باشا كي يشكل الوزارة الجديدة، ورفض شريف بسبب ما أمامه من المصاعب وأخصها تمرد الجيش وعدم طاعته الأوامر، فلما أظهر عرابي استعداده ورجاله للامتثال وللطاعة، ولما جاء عمد البلاد فكفلوا عرابي فيما قاله، ثم لما استشار شريف حكومة تركيا وحكومات إنجلترا وفرنسا وكفل معاونتهم جميعًا، بعد كل هذا شكل الوزارة وأمر الضباط الثلاثة بأن يتفرقوا في أنحاء مختلفة من القطر، وبعث بعرابي إلى رأس الوادي وباشر الحكم في حزم وأناة كانت البلاد يومئذٍ بحاجة أشد الحاجة إليهما.
وآنس توفيق نفسه في عزلة بعدما أذعن إلى الاستعانة بشريف الذي كان قد أقصاه عن الحكم يوم طمع في الحكم المطلق على أثر وصول الفرمان بتثبيته في عرشه، وأحسبه هذه المرة كان يود أن تطول عزلته وأن تظل الحكومة عاملة والأمن مستتبًّا وأن تجري الأشياء في نصابها، فلا تزعجه العسكرية ولا غير العسكرية مرة أخرى، لكنه لم يلبث إلا قليلًا حتى علم أن الباب العالي أرسل وفدًا برياسة علي نظامي باشا، ترى ما هي مهمة الوفد؟ الخديو لا يعلم، وفرنسا وإنجلترا لا تعلمان، والوزارة العثمانية نفسها لا تعلم، لقد أرسله أمير المؤمنين بإرادة شاهانية، فماذا عسى أن تكون هذه الإرادة؟ ونزل الوفد مصر في ١٠ أكتوبر سنة ١٨٨١ بعدما احتجت إنجلترا وفرنسا على تركيا لإرسالها إياه من غير اتفاق معهما ولا مجرد إخطار لهما، وجاء الوفد واحتفل الخديو به وأقام بمصر سبعة عشر يومًا وعاد أدراجه، وكان كل ما فعل أن أكد للخديو ثقة المتبوع الأعظم به، وإن أكد للجيش المصري في حديث دار بين نظامي باشا وطلبة عصمت بمسمع من الجند أن حكومة الباب العالي لا تلوم الجند على ما فعلوا وأنها ترى مصر في طمأنينة وسكينة.
بإزاء تصرف الوفد شعر توفيق كأن الدسائس التي كانت تحاك له خيوطها على ضفاف البسفور بمعرفة حليم باشا تعاونه الأميرات قد آتت ثمراتها، وأنه لولا تأييد إنجلترا وفرنسا إياه لكان معرضًا لمثل ما تعرض له أبوه من قبل، ومن يدري؟ فقد يكون حليم باشا قبل أن تسترد تركيا في فرمان توليته ما شاءت أن تسترده من الحقوق المكسوبة لمصر، فليزدد توفيق إذًا اعتمادًا على فرنسا وعلى إنجلترا، وليخشَ في نفس الوقت تدخلهما، وليضطرب لذلك بين مختلف العوامل، وليترك وزارته تجاهد وحدها للخلاص من حرج الموقف.
ودعت الوزارة لانتخاب مجلس شورى النواب كي تعرض عليه القانون النظامي لمجلس النواب، وافتتحه توفيق بخطاب عرش ألقي في ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٨١ ورد عليه سلطان باشا رئيس المجلس، وعرضت الوزارة القانون النظامي، فاختلف المجلس معها في أمر نظر الميزانية، ذلك أن الحكومة كانت ترى احترامًا للاتفاقات التي تمت بين الحكومة المصرية والدول الأجنبية أن يكون الأمر الأخير في الميزانية للوزارة مع مراعاة إرادة النواب قدر المستطاع في حدود هذه الاتفاقات، أما النواب فكانوا يريدون أن يكون رأيهم الأخير أو يُسارُ على القاعدة الدستورية من حل المجلس أو سقوط الوزارة، ولم يمكن التوفيق بين الرأيين، فكان ذلك سببًا في استقالة وزارة شريف باشا بتاريخ ٤ فبراير سنة ١٨٨٢ وحلول وزارة محمود باشا سامي البارودي محلها مع تعيين عرابي باشا وزيرًا للحربية فيها.
وفي أثناء قيام الخلاف بين وزارة شريف باشا ومجلس شورى النواب أرسلت الحكومتان الفرنسية والإنجليزية مذكرة مشتركة إلى الخديو توفيق باشا تؤيدانه فيها في الخديوية وفقًا للفرمانات، وتعدان سكينة مصر مما يعنيهما لمصلحة رعاياهما، وتعلنان استعدادهما لدفع ما يطرأ على الحكومة الخديوية من الأخطار، وكان منتظرًا أن تحدث هذه المذكرة من الأثر ما يضعف تمرد المتمردين، على أن تركيا احتجت على الدولتين لتخطيهما إياها ومخاطبتهما الخديو مباشرة، كما علم العرابيون أن إنجلترا أبلغت فرنسا أنها برغم هذه المذكرة تعتبر نفسها حرة في الخطة التي تتخذها تنفيذًا لمقاصدها، وقوَّى ذلك من ساعِدهم وجعلهم أقل اكتراثًا للحوادث وتقديرًا لنتائجها، والواقع أن فكرة الثورة التي بدأها الجيش كانت قد انتشرت في أنحاء البلاد جميعًا وأن قمع تيار هذه الروح كان قد أصبح متعذرًا، وبخاصة مع وجود رئيس للدولة ضعيف ضعف توفيق.
واستمر مجلس النواب ينعقد إلى ٢٦ مارس سنة ١٨٨٢ حين صدر الأمر بانفضاض دوره العادي.
وفي أعقاب انفضاض المجلس نظر عرابي إلى ما حوله موجسًا خيفة مما يدبر خصومه له، ولم تك إلا أيام حتى صدرت أوامر الحكومة بالقبض على عشرات الجراكسة ومن بينهم عثمان باشا رفقي بتهمة ائتمارهم به وبزملائه وبالنظام الذي أقاموه، ومحاكمتهم أمام مجلس حربي والحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان، وكان عرابي ومن معه مقتنعين بأن الخديو هو المحرض على هذه المؤامرة، وزادهم اقتناعًا رفض الخديو التصديق على حكم المجلس الحربي، وعلى ذلك استعر الخلاف بين الخديو والوزارة، يصر الوزراء على تنفيذ حكم المجلس ويعترضه رئيس الدولة، وأدى ذلك إلى تخوف فرنسا وإنجلترا على الرعايا الأجانب في مصر، فقرروا إرسال بوارج إلى المياه المصرية للمحافظة على حياتهم ومصالحهم، وأعلنت فرنسا وإنجلترا جميعًا حرصهما على تأييد الخديو في مركزه، وفي ذلك إشارة إلى ما كانتا تتوقعانه من وصول عرابي وأصحابه إلى استصدار قرار من النواب بعزله.
ولما اشتد الخلاف بين الوزارة والخديو دعت الوزارة الهيئة النيابية للاجتماع وتوسط سلطان باشا رئيس المجلس وجماعة من كبار النواب معه يريدون الوصول إلى حل لهذا الخلاف، وكان من الحلول التي قبلها الخديو أن يقال سامي البارودي من رياسة الوزارة وأن يحل محله مصطفى باشا فهمي، لكن مصطفى باشا أبى، وبينما المحادثات دائرة بين النواب والخديو والوزارة كانت البوارج الإنجليزية والفرنسية قد وصلت إلى المياه المصرية، وأعقبتها الدولتان ببلاغ وجهه قنصلاهما في ٢٥ مايو إلى الخديو يطلبان فيه سقوط الوزارة بتمامها، وخروج عرابي من القطر المصري مع ضمان الدولتين رتبه ومرتباته ونياشينه، وإقامة علي فهمي وعبد العال حلمي في الأرياف وإصدار الخديو بعد ذلك عفوًا عامًّا عن جميع من كانت لهم يد في المسألة.
وأبلغ الخديو وزراءه هذا الإنذار، فرفضوه بحجة أن ليس للدول شأن في مخابرة مصر إلا عن طريق الأستانة، على أن الخديو أظهر رضاه عن الإنذار، فاستقالت الوزارة محتجة وقَبِل الخديو استقالتها، ودعا شريف باشا لتشكيل وزارة جديدة، لكن شريف باشا رأى الموقف لا يطاق فاعتذر كما اعتذر عمر باشا لطفي، وفي هذه الأثناء أوفد الباب العالي درويش باشا معتمدًا سلطانيًّا لينظر في الخلاف بين الخديو ووزرائه بل العرابيين جميعًا، فإن هؤلاء كانوا قد انتهوا إلى ضرورة خلع الخديو وتولية البرنس حليم مكانه، وكانوا يطمعون في نجاح هذه السياسة لعلمهم أن تركيا تؤيدها.
وفي انتظار حل المشاكل وتعيين وزارة جديدة وطنية تفاقم الخطب واضطرب حبل الأمن، فاضطر الخديو إلى أن يعين عرابي وحده ناظرًا للحربية ليتولى أمر الأمن في البلاد.
ولم يشر الخديو من جانب المعتمد السلطاني بما يدل على استعداد تركيا إذا اقتضت الحال للتدخل المسلح ولتأييده في مركزه برغم العرابيين؛ لذلك قبل الموقف كما هو وعين وزارة إسماعيل راغب باشا على أن يظل عرابي وزيرًا للحربية، وظل توفيق ووزراؤه في العاصمة، وظلت أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وظل الناس يتحدثون فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور في زمن قريب، وكان أعجب المواقف يومئذٍ موقف تركيا، فقد اقترحت إنجلترا وفرنسا أن ينعقد بالأستانة مؤتمر دولي للنظر في حالة مصر وإقرارها على صورة من الصور، لكن تركيا رفضت رفضًا باتًّا بدعوى أن الحالة في مصر عادية وأن النظام القائم لا خوف عليه، وفيما الحديث بين الدول في أمر المؤتمر وانعقاده دائر وقعت فتنة الإسكندرية في ١١ يونيو سنة ١٨٨٢.
وليس يسيرًا معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الفتنة، أهي كانت حركة فجائية نتيجة تكدس هذا الثغر بالسكان وتزايد الوافدين عليه بسبب الحال غير الطبيعية التي نشأت عن وجود البوارج في مياهه؟ أم هي كانت بتدبير سابق من عرابي وأنصاره كما يزعم بعض الكتاب الإنجليز مؤيدين زعمهم بأن الحكومة تباطأت في قمع الذين أثاروا الفتنة وبكثرة عدد قتلى الأجانب على قتلى المصريين زيادة محسوسة؟ أم هي كانت على العكس من ذلك مدبرة من جانب الإنجليز على ما يذهب إليه عرابي وأنصاره مؤيدين رأيهم بأن أمير الأسطول الإنجليزي كان مأمورًا بالمحافظة على أرواح الرعايا البريطانيين ومصالحهم، على خلاف أمير الأسطول الفرنسي الذي كان مكلفًا بالمظاهرة البحرية لتأييد سلطة الخديو؟ ومهما يكن من هذه الفروض فقد وقعت مذابح ١١ يونيو وحكومة الخديو بالقاهرة، فخف توفيق وعرابي والوزراء في اليوم نفسه وعقدوا مجلسًا عسكريًّا لتحقيق أسباب الفتنة وجعلوا على رأسه عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية الذي اتهمه الإنجليز بالتهاون في قمعها، وبلغوا من اتهامه أن انسحب المحامي الإنجليزي الذي حضر تحقيق المجلس العسكري بأمر القنصلية البريطانية.
وبقي الخديو وحكومته بالإسكندرية يريدون إعادة الأمن إلى نصابه، وكان توفيق يومئذٍ في مركز لا يحسد عليه، فهو لم يكن يأمن جانب تركيا، وكان يعتقد اعتقادًا جازمًا أنها تعارضه وتؤيد المتمردين عليه رجاء الوصول يومًا من الأيام إلى خلعه وإقامة حليم باشا مكانه، وهو لم يكن يأمن العرابيين لما كان يعتقده من بغضهم إياه واتفاقهم مع السياسة التركية في التخلص منه، وهو مع اعتماده على تأييد فرنسا وإنجلترا كان يخشى ألا يتخطى أمرهما التأييد المعنوي، فإذا فوجئا بالأمر الواقع من عزله لم يقوما بعمل لتثبيته في عرشه، ثم هو لم يكن يثق حتى بالجراكسة من وزرائه؛ لأنه شعر بالقوة المصرية تتغلب على كل شيء في البلاد وتبتلعه.
وتجسم الشعور بهذه القوة القومية في رأس عرابي وأعوانه حتى دفعهم إلى تقوية حصون الإسكندرية استعدادًا لدفع الغارة البحرية عليها، ومع أن الدول كانت قد تخطت معارضة تركيا في عقد مؤتمر الأستانة لحل المسألة المصرية وانعقد المؤتمر في العاصمة التركية فعلًا برئاسة لورد دفرين سفير إنجلترا لدى الباب العالي، وكان طبيعيَّا أن يكف الجميع عن تعقيد المسائل في مصر حتى يصدر المؤتمر قراره، فإن تحصين قلاع الإسكندرية استمر، كما أن الأميرال سيمور الإنجليزي أبلغ الخديو بأنه مضطر إذا لم تقف التحصينات إلى ضرب قلاع الإسكندرية بالمدافع، وعلى الرغم من احتجاج ممثلي الدول على بلاغ الأميرال ومن إنكار طلبة عصمت الاستمرار في التحصينات ومن أن تسوية المسألة كانت ممكنة لو أن فرنسا شاركت في الضغط المعنوي على الحكومة المصرية كي تنتظر قرار مؤتمر الأستانة فإن الأميرال سيمور أصر على قراره، وقررت وزارة فريسنيه انسحاب الأسطول الفرنسي إلى بورسعيد.
إني لا أبرح مكاني ولو وقعت الواقعة وأطلقت المدافع على الإسكندرية، فإن لي من رعيتي قومًا أمناء لم يخونوني بل خدموني بأمانة وصداقة، فلا يصح أن أتركهم أوان الشدة لأنجو بنفسي، ولا يليق بي كذلك أن أترك البلاد في وقت الحرب فإن في ذلك عارًا عظيمًا.
واكتفى بالانتقال هو ودرويش باشا إلى قصر الرمل بعيدًا عن مرمى المدافع.
وفي صباح ١١ يوليو سنة ١٨٨٢ أطلقت البوارج الإنجليزية مدافعها على حصون الإسكندرية فجاوبت الحصون بإطلاق مدافعها، على أن الموقعة لم تدم لأكثر من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، إذ صمتت نيران الحصون ودك بعضها دكًّا وشعر العرابيون بأن ما توهموه من قوتهم على مقاومة البوارج الإنجليزية لم يكن إلا وهمًا، على أن ذلك لم يفتَّ في عضدهم ولم يوهن من عزيمتهم إذ اعتقدوا أنهم يستطيعون أن يعسكروا في كفر الدوار ليعودوا بعد زمن إلى مهاجمة الإسكندرية.
وعلى ذلك قرر عرابي ومن معه الانسحاب من الثغر بعد أن أيقنوا من أن الخديو الذي رفض الالتجاء إلى بوارج الإنجليز قد سر لانتصارهم، وأنه لذلك قد صار خصمًا ظاهرًا للثائرين عليهم، وفيما كانت المدينة تحترق بفعل الجماهير الثائرة والعساكر المقيمة مع عرابي عاد الخديو من سراي الرمل حيث كان سجينًا تحت أمر رجال عرابي إلى سراي رأس التين حيث استقبله الجند الإنجليز على بابها وحيث استقبله الأميرال سيمور وعدد من رجاله داخلها.
وكان في الوقت متسع ما يزال لإخماد نار الفتنة في مصر لو أن تركيا لم تكن متأثرة بسياسة فرنسا حريصة على تأييد الثائرين، فقد طلب إليها لورد دفرين — بناءً على تعليمات حكومته — أن تعلن أن عرابي عاصٍ وتؤيد سلطة الخديو واستعدادها لإرسال قوة لقمع العصيان وإعادة النظام، لكن تركيا أبت أن تخطو هذه الخطوة، وطلبت إنجلترا إلى فرنسا أن تشترك معها في الدفاع عن قناة السويس، فأعلن الساسة الفرنسيون أن قنال السويس بمأمن من أن يهدده مهدد، والواقع أن عرابي ومن معه لم يفكر أحد منهم في تحصين بناحية القنال اعتمادًا منهم على حيدته وعلى تأكيد المسيو دلسبس بأن أية قوة محاربة لن تستطيع خرق حياده، ورأت إنجلترا بإزاء ذلك كله أن الفرصة سانحة لأن تخطو خطوة جديدة في وادي النيل بعد خطوتها الأولى التي أتمها دزرائيلي في سنة ١٨٧٥ بمشترى أسهم القناة التي كانت مملوكة لإسماعيل، فقررت التدخل المسلح منفردة، ولم تعبأ بحيدة القناة بل ذهبت أساطيلها المقلة للجيش الذاهب إلى مصر قاصدة بورسعيد والإسماعيلية فاحتلتهما من غير أية مقاومة ولا أي احتجاج، وعسكرت القوة الإنجليزية يوم ٢٢ أغسطس في الإسماعيلية، وفي هذا الظرف وبعد فوات الفرصة أعلنت تركيا عصيان عرابي وأيدت توفيقًا في عرشه، لكن توفيقًا كان قد انضم إلى السياسة الإنجليزية وعزل عرابي من نظارة الحربية واعتبره ثائرًا، وقامت في مصر إذ ذاك حكومتان: حكومة توفيق يؤيدها فريق من المصريين وتؤيدها إنجلترا، وحكومة الثورة تخضع لها البلاد كلها، لكن هذه الحكومة الثانية لم يطل أمرها؛ فقد انهزم عرابي وجنده في موقعة التل الكبير يوم ١٢ سبتمبر ودخل الإنجليز القاهرة في الخامس عشر من هذا الشهر نفسه.
وعاد توفيق إلى عاصمة ملكه في ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٨٢ يصحبه الدوق أوف كنوت والجنرال ولسلي والسير إدورت مالت، وكان توفيق يظن أن قضاء إنجلترا على الثورة باسم تأييد مركزه معناه عوده للحكم وتولي أمور البلاد على ما تجيزه الفرمانات، ولعله لم يخطر بباله أن انتصار إنجلترا في التل الكبير ودخول الجيوش الإنجليزية إلى عاصمة ملكه قد قدر له أن يكون معناه القضاء على سلطته بنقلها من يده إلى يد هؤلاء الذين ثبتوه في عرشه، ولعله لم يخطر بباله أن عودته إلى مقر سلطانه محاطًا بالأمير وبالقائد وبقنصل إنجلترا سينتهي لا ريب إلى أن تكون الحوادث العرابية آخر ما خبأ القدر لتوفيق من نشاط، ولئن كان عرابي سيحاكم وسينفى إلى سيلان فإن ولي عرش مصر لن يكون أعظم من عرابي سلطانًا برغم مقامه في قصوره وسط عاصمة ملكه.
فبرغم تبليغ اللورد دوفرين الباب العالي عقب موقعة التل الكبير أن الحكومة البريطانية تفكر في سحب جنودها من مصر ما دام النظام قد استتب فيها فإن حكومة جلالة الملكة رأت عقب انتصارها على الثوار أن يكون مصير الثوار بيدها لا بيد حكومة الخديو، أليست هي التي تغلبت عليهم وقهرتهم؟ وإذا كان الخديو وأنصاره يرون طبيعيًّا أن يُقضَى على عرابي وكل من معه بالإعدام جزاء فشلهم في ثورتهم، فإن إنجلترا تنظر للأمر نظرة أخرى؛ ولذلك أبلغ القنصل الإنجليزي الخديو ألا يتصرف في أمر الثائرين قبل حضور اللورد دوفرين إلى مصر، وكانت حكومته قد انتدبته «لينصح إلى حكومة الخديو بالوسائل الواجب اتباعها لإعادة سلطة سموه»، وكان أول ما صنعه لورد دوفرين أن طلب الإفراج عن المئات الذين اكتظت بهم السجون باعتبارهم ثائرين عدا خمسة هم: عرابي وطلبة ومحمود سامي ومحمود فهمي وعلي فهمي، ومع أن القوانين التركية للمجالس العسكرية لم تكن تبيح حضور محامٍ عن المتهمين فقد جاء محاميان إنجليزيان هما مستر نابير ومستر برودلي، وبعد صدور الحكم بالإعدام استبدله الخديو عملًا بنصيحة قنصل إنجلترا — ونصيحته عند توفيق أمر محترم — بالنفي المؤبد.
وكان لا بد لانسحاب الجنود الإنجليزية من أن تستريح إنجلترا إلى انتظام الجيش المصري انتظامًا تطمئن معه إلى عدم تهديد الأمن مرة أخرى، وأن تطمئن إلى شيء آخر هو ألا تتعرض مصر لغزو دولة أخرى إياها غزوًا يعرض قناة السويس إلى الخطر، وغير مرة أعلنت إنجلترا استعدادها للجلاء عن مصر وسحب جنودها منها متى اطمأنت إلى هذه الغايات، وهذه ثمانٍ وأربعون سنة مضت منذ الاحتلال ولمَّا تهتد الحكومة البريطانية — على الأقل — إلى ما يطمئنها على ألا تغزو مصر دولة أخرى أو أن تتعرض قناة السويس الدولية للخطر!
على أنها رأت في ذلك التاريخ وبعد مشورة اللورد دفرين أن تنظيم الحكم في البلاد على قاعدة العدل هو أقرب الوسائل لتحقيق الأغراض التي تريد أن تتحقق لتجلو عن وادي النيل، فأمرت، أستغفر الله، فنصحت أن يلغي توفيق قانون مجلس النواب ويستبدل به قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، وأخذت بيدها مقاليد مالية البلاد، ونحَّت فرنسا قدر المستطاع عنها، ودعت إلى عقد مؤتمر لاستبدال نظام التصفية بنظام آخر، وجعلت تتغلغل في شئون الحكم شيئًا فشيئًا حتى وضعت يدها على كل شيء وعلى توفيق من بين ما وضعت يدها عليه.
وسُرَّ توفيق بهذه الحال الجديدة واطمأن أشد الاطمئنان لها، بل لقد بلغ من إخلاصه لإنجلترا أن كان لا يكتم على ممثلها سرًّا من أسرار وزارته، روى أحد الذين حضروا ذلك العصر أن رياض باشا اتفق مع زملائه مرة على أن يعقدوا مجلس وزارة لا يحضره المراقب الإنجليزي كلما أرادوا النظر في شئون تعني مصر وحدها، وأبلغ رئيس الوزارة توفيقًا هذا الخبر، ثم لم يكن بأكثر من دهشة رياض حين نبهه قنصل إنجلترا العام إلى أنه كان يعتقد فيه الصراحة، وروى له ما أخبر هو به الخديو من قبل.
ولم يكن يدور بخاطر توفيق شيء من أمر جلاء الجنود البريطانية عن مصر برغم إلحاح السياسة الفرنسية فيه بعد إذ رأت نفوذها في وادي النيل يتقلص، وكيف تريد توفيقًا أن يؤيد السياسة الفرنسية وقد كانت منضمة للعرابيين ضده في ظروف كثيرة، وكانت تعطف على فكرة تعيين حليم باشا في منصب الخديوية؟! وإذًا فليصنع الإنجليز لتنظيم أمر البلاد ما يشاءون، ليقرروا ثلاثة ملايين من الجنيهات تعويضًا لمن أصابهم ضرر من جراء فتنة الإسكندرية، وليوطدوا نظام الحكم الذي يرون توطيده في مصر، وليوفدوا إلى السودان ما يشاءون من الجيوش لقمع ثورة المهدي، وليقرروا الانسحاب من السودان وإخلاءه فيأبى رئيس وزارته شريف باشا ويقبل نوبار الوزارة والانسحاب — ليصنعوا بمصر ما شاءوا وليعينوا من الوزراء من شاءوا، فلن ينسى توفيق لهم فضل تثبيته على عرشه ولن يكون لهم إلا أخلص المخلصين.
ما أحسب خير أصدقاء توفيق يذهبون إلى أنه كان رجلًا عظيمًا أو خديويًّا مثاليًّا، فالواقع أنه لم يكن من العظمة في شيء، ولقد كان مكتفيًا بزوج واحدة فضرب بذلك مثلًا صالحًا لأهل بلاده، وكان أبًا صالحًا نشيطًا معنيًّا بحسن تربية أولاده، وقد اشتهر بالتقوى ولكنه كان خلوًا من أية ظاهرة للتعصب مما يصطبغ به أتقياء «المسلمين» ووصلت تقواه بينه وبين رعاياه المسلمين وكانت لذلك عاملًا سياسيًّا له بعض الخطر، وكان بالقياس إلى من حوله مستقيمًا وفيًّا، وكان كأكثر أهل بلاده يخاف المسئولية ويجتهد ما استطاع ليلقي كل ما يقدر على إلقائه منها على أكتاف الآخرين، فكان يشكو من كثرة عدد الأوربيين في الحكومة المصرية، فإذا قصد إليه أوربي يلتمس منصبًا أجابه بأنه يكون سعيدًا لإجابة الطلب، ولكن سلطة بريطانيا تمنعه من السير بما يمليه عليه قلبه، وكان عديم النشاط يعوزه الابتكار، ولكنه كان إذا اضطر إلى أن يقر قرارًا أبدى في غير قليل من الأحيان ما يدل على الكرامة وحسن التقدير وبعد النظر، وكان طيب القلب حتى يكاد في بعض الأحايين يبدي من الاعتراف بالجميل عما قدم إليه من خدمة ما يندر أن يكون من صفات حاكم شرقي، وكان يظهر أعمق المقت لكل أنواع التحكم والإرهاق والقسوة، ولم يكن أبدًا مسئولا شخصيًّا عن عمل من هذه الأعمال، وإن كان تباطؤه وإهماله قد اتاح ارتكاب كثير من الظلامات باسمه، ولم يكن متعلمًا تعليمًا عاليًا، وقلَّ أن قرأ كتابًا، ولكنه كان يطلع على الصحف ويتحدث مع رجال من كل طراز ومكانة، وكان متوسطًا في إدراك الحوادث التي تُلقى إليه وفي تتبع المناقشة التي تحدث أمامه، أما من حيث حدة الذكاء فربما كان فوق متوسط أهل بلاده.
وإذا لم يكن عظيمًا في الرجال فهو لم يكن خديويًّا مثلًا، فلو أنه كان رجلًا قوي الإرادة سامي الخلق حاد الذكاء لوضع نفسه على رأس حركة الإصلاح في مصر، ولظهرت سلطته، ولما توقدت غيرة الإنجليز الذين كانوا موظفين في حكومته، على أنه مع ذلك كانت له الفضيلة السلبية أنه لم يكن ملوثًا برذائل الحاكم الشرقي، وهو إذا لم يكن قد قام بالفعل بشيء في حركة إصلاح فكفاه أنه كان مغتبطًا لقيام آخرين بدله بهذه الحركة، وهو إذا لم يكن قد ساق غيره في سبيل الخير فكفاه أنه اتبع الغير في هذا السبيل، وأشهد أني اقتنعت برأيه في أحيان أكثر من التي اقتنع هو فيها برأيي عند وجود خلاف بيننا.
وهذا الحكم يبين للقارئ السبب في أنَّا لم نقف بعد حوادث الثورة العرابية عند شيء من حياة توفيق، فقد كانت حياة عادية لا تتخللها الحوادث لأنه لم يكن له في الحوادث يد ولا تصريف، وبقي كذلك إلى أن توفي في سنة ١٨٩٢ غير محمود ولا مذموم.
•••
والآن فهل على توفيق تبعة في الحوادث الجسام التي حدثت أول أيام حكمه والتي أدت بمصر إلى موقفها الحاضر؟ هذا ما لا يصعب الجواب عليه، فعلى توفيق التبعة إذا كانت على إنسان تبعة ضعف نفسه واضطرابه بين قوى لا سلطان له عليها، وإنما التبعة أكبر التبعة على الحوادث التي أحاطت بتوفيق فكان لضعفه لا يملك تحويرها بما يتفق ومصلحة بلده، إنما التبعة على تركيا، وعلى فرنسا، وعلى إنجلترا، وعلى عرابي، وماذا يستطيع ضعيف قصير النظر كتوفيق أن يصنع بين هذه القوى جميعًا إلا أن يترك نفسه يتقاذفه موج الحوادث ليصل بملكه وبلاده إلى ما وصلا إليه!