قاسم بك أمين
ذلك بأن روح قاسم كانت روح أديب، كانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التي لا تعرف الطمأنينة ولا تستريح إلى السكون، وكانت الروح المشوقة التي لا تعرف الانزواء في كن للبحث والتنقيب حيث تنسى نفسها وتستبدل بكنها ما في حياة الكون وحركته من نشاط وجمال، بل كانت عيونه الواسعة تريد أن ترى جدة الوجود الدائمة تتكرر مناظرها فتطبع على صفحات نفسه وحيًا وإلهامًا أكثر مما تؤدي إليهما المباحث الجافة منطقًا وجدلًا، وكانت هذه المناظر تذكي شعوره الحساس بجمال الحياة، وتدعوه إلى الحرص على متاعه بها وعلى دعوته غيره لهذا المتاع، وذلك لا يؤتاه إلا رجل فن جميل لا يقف عند التلذذ لنفسه بنعم الحياة، بل يعبر لغيره عن معاني هذه النعم، وكما يعبر الموسيقي بالنغم والمصور بالنقش والمَثَّال بالنحت والشاعر بالوزن، كذلك الكاتب الأديب يجد في وصف ما في الحياة من مختلف ألوان الجمال ما يعبر عن شعوره به وما يدعو غيره إليه، وحياة قاسم كانت كلها متجهة إلى هذه الدعوة، وكانت متجهة إليها بقوة آخذة بنفسه متغلبة عليه حالة منه محل الإيمان بها إيمانًا صادقًا.
ولد قاسم مصريًّا يجري في عروقه دم كردي، أورثه إياه جده الأمير الكردي، وولد في أسرة متوسطة اليسار لم يفسدها ترف الإكثار ولم تَجنِ عليها آثار الحاجة، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة ١٨٨٥، وليس في ظروف صباه شيء غير عادي إلا أنه كان جم الحظ من الحياء مما ألزمه العكوف على نفسه وعلى درسه، وليس في حياته بعد ذلك شيء من المجازفات التي تجذب لأصحابها أنظار الجماهير، بل ظل منذ أتم دراسته إلى أن عاجلته منيته سنة ١٩٠٨ وهو في ريعان قوته قاضيًا ثم مستشارًا بمحكمة الاستئناف.
لكنه كان مع حيائه الجم عيوفًا يحترم نفسه وكرامته كما يحترم الغير وحريته، فلم يجرب عليه أحد ضعة ولا ضعفًا، ولعل أقدس ما كان يجله من مظاهر الحرية حرية الرأي، وتلك ظاهرة كثيرًا ما تلقاها في ذوي الحياء، فهم مع احترامهم لغيرهم ولحريته ومع مبالغتهم في هذا الاحترام إلى حد يهون معه عليهم أحيانا أن يتحملوا سوء استعمال الغير لهذه الحرية إلى حد يضايقهم، تراهم إذا أراد مريد حبس رأيهم أو محاربته توترت كل أعصابهم وانتفضوا انتفاضة الليث تبدو أنيابه ومخالبه ووقفوا مستميتين يذودون عن رأيهم ويستهينون في سبيل ذلك بالمال والجاه وبالحرية والحياة وذلك سر نجاحهم دائمًا، على أنهم لذلك لا يصدرون عن الرأي إلا بعد تمحيصه وتقليبه على مختلف وجوهه والاقتناع به اقتناعًا يحل منهم مكان الإيمان، وهذا ما عبر عنه قاسم في مقدمة كتابه «تحرير المرأة» حين قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها وتنبهني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.»
وهذا الخلق فيه هو الذي جعله منذ عودته من دراسة الحقوق بفرنسا إلى خاتمة حياته قاضيًا ممتازًا، فهو لم يقضِ يومًا لينال حظوة عند أحد أو ليصفق الجمهور له، ولم يكن من بين القضاة الذين قال عنهم: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.» ولم يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء أو أحكام المحاكم مما يعتبره أكثر القضاة حجة لا محيد عنها، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه، وهذا هو ما جعله ميالًا للرأفة في قضائه نافرًا أشد النفور من حكم الإعدام، فقد كان يرى «أن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب»، وأن «معاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر»، وأن «التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله»، وأن «الخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، والحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان»، فإذا كانت الجماعة لم توفق بعد لإدراك هذه الأفكار وكانت قوانينها التي وُكِّل إليه تطبيقها كقاضٍ ما تزال تجري على سنة القصاص والانتقام وما تزال دموية متوحشة، فلا أقل من أن يتحاشى الإعدام وهو أشد ما فيها وحشية، وهو العقوبة الوحيدة التي لا سبيل لعلاجها إذا ظهر خطأ القاضي أو ثابت الجماعة إلى رشدها ورأت تعديل أساس عقوباتها بجعل العقوبة للإصلاح لا للقصاص أو أخذت بمذهب العفو والتسامح.
وكذلك كان رأيه في قضائه المدني، لم يكن يتقيد بالإجراءات إذا رأى العدالة توشك أن تهدر لأن واحدًا من هذه الإجراءات لم يراعَ المراعاة الواجبة، ثم كان أشد القضاة ميلًا لمصالحة المتخاصمين ولإحلال التسامح محل النضال والحسنى مكان الشر والسوء، وهو في هذا ككثير من القضاة والمفكرين الذين أحدثوا بأحكامهم جديدًا في العدالة وفي التشريع، والذين خطوا بنصوص القوانين إلى معانٍ تتفق مع الرقي الإنساني الذي يصبون إليه ويودون لو يتحقق، وأنت إذ تقرأ أحكامه تشعر فيها بهذه المعاني التي ربما خيل إلى رجال القضاء بالمهنة أنها إلى الأدب والخيال أقرب منها إلى النصوص المقدسة، والتي كانت مع ذلك وسيلة التطور التشريعي في سبيل بلوغ العدالة منازل الكمال.
وفي ظننا أن الدعوة إلى تحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لم تكن كل برنامج قاسم الاجتماعي، وإنما كانت حلقة منه هي أعسر حلقاته وأعقدها، ذلك بأنه لم يقصر عليها كل جهد حياته، بل اشتغل منذ سنة ١٩٠٦ بالدعوة لإنشاء الجامعة مع صديقه سعد زغلول وشغل بهذه الجامعة وبتوطيد أركانها إلى أن وافته منيته بعدما أعد كل العدة لافتتاحها وقبيل هذا الافتتاح بأشهر معدودة، وتدل كلماته على أن برنامجه كان أوسع من مجرد تأسيس الجامعة وتركها تسير حسب ما توجهها الرياح، وعلى أنه كان يريد أن يجعل من الجامعة خطوة لبرنامج أوسع نطاقًا يتناول ثورة في اللغة والأدب كالثورة التي أحدثها كتاباه في تعليم المرأة وفي رفع الحجاب.
ومن نافلة القول تكرار الكلام عن برنامجه في تحرير المرأة، فقد تناول الكتَّاب هذا البرنامج بالشرح والتحليل منذ أكثر من عشرين سنة، وكل ما يمكن لقارئ كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» أن يقف عنده اليوم في شأن برنامجه ما اضطر إليه من تحفظ يجعل أهل هذا الجيل يرون صيحة قاسم التي كانت يوم ظهرت قوية مرعبة أن هزت أركان عادات أهل عصره لا تزيد اليوم على أنها صورة للآراء والعادات المتداولة، ونسخة من آلاف ما يكتب من نوعها وما يزيد أكثر الأحيان في تقدمها وسبقها.
ومعنى هذا أن دعوة قاسم آتت كل ثمرها فصارت بعض عقائد الناس وآرائهم، وإذا كان شيء مما دعا إليه كتنظيم تعدد الأزواج وكجعل الطلاق بإذن القاضي ما يزال موضع النظر، فإن الرجاء منعقد بتمامه عما قريب، كما أنه لم يبق من يعترضه إلا الجامدون والذين في قلوبهم مرض.
وإنك إذ تقرأ في كتابيه ما كان صادرًا عنه هو غير متأثر بجدله مع غيره أو ببحوثه الفقهية التي التجأ إليها لتبرير مذهبه بإزاء الشريعة الإسلامية، إذ ذاك ترى العاطفة الحية الحساسة، عاطفة المحبة والرحمة والتسامح والسلام هي السائدة في كل نواحي الكتاب، وهي مقدمة كل أسبابه ونتائجه، وهل الحياة إلا محبة ورحمة وتسامح وسلام؟! وهل في الحياة أجمل من المحبة والرحمة والتسامح والسلام؟!
وقاسم يريد بالناس أن يستمتعوا بجمال الحياة وبالحياة كلها استمتاعًا كاملًا، وهو لا يريد هذا على أنه مجرد دعوة لمثل أسمى قد تصل الإنسانية إليه وقد لا تصل، ولكنه يريده حقيقة تتم، وهو يريده لنفسه بمقدار ما يريده للناس، وأكثر مما يريده للناس، وأنت ترى هذا في كلماته التي لم تنشر للناس إلا بعد موته والتي كان يرصد فيها أفكاره الخاصة لنفسه، ترى في هذه الكلمات مبلغ إيمانه بالجمال وبالحب وبالفن الجميل، وترى مبلغ ألمه لعدم تقدير بني وطنه بدائع الطبيعة وتصوير رجال الفن لهذه البدائع، قال: «وصلنا قصر اللوفر وكنا أربعة من المصريين لنمتع النظر بأبدع ما جادت به قرائح أعاظم الرجال في العالم، فبعد أن تجولنا في غرفتين جلس أحدنا على أحد الكراسي قائلًا: أنا اكتفيت بما رأيت وها أنا ذا منتظركم هنا، وقال الثاني: أتبعكما لأني أحب المشي وأعتبر هذه الزيارة رياضة لجسمي، وسار معنا شاخصًا أمامه لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى اليسار وما زال كذلك حتى وصلنا قاعة المصاغ والحلي، وحينئذٍ تنبهت حواسه وصار ينظر إلى الذهب ثم صاح: «هذا ألطف ما في هذه الدار»، ووصلنا إلى تمثال إلهة الجمال الفريدة في العالم أجمع فسألت دليلنا: ماذا تساوي هذه الصورة إذا بيعت؟ فقال إنها تساوي ثروة أغني رجل في العالم، تساوي كل ما يملكه الإنسان، تساوي ما يقدره لها حائزها ويطلبه ثمنًا لها إذ لا حد لقيمتها.»
•••
ومثال الجمال عند قاسم مجسم في المرأة، وإذا كانت الموسيقى وكان التصوير وكان التمثيل وكان كل مظهر من مظاهر الفنون الجميلة محببًا إليه فإن مصدر الوحي الذي تصدر عنه هذه الآثار جميعًا هو المرأة، هي التي تجعل للطبيعة وما فيها جمالًا لأن عيونها تقع عليها، وهي تلهم الرجل هذا الجمال لأنها تحب الزهر وعطره والنسيم وأرجه والقمري وشدوه ولأنها تحب كل جميل.
وقد لا ترى ذلك واضحًا صريحًا في كتب قاسم، ولكنك تراه واضحًا في عباراته الملتهبة عن العشق والحب، وفيما قدمنا من عباراته في تحرير المرأة وفي الكلمات ما ينهض دليلًا على رأينا، وأكثر منه في الدلالة قوله: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» وقوله: «الحب إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجًا ضروريًّا كاحتياج العليل إلى الشمس والغريق إلى الهواء، نار تلهب القلب لا يطفئها البعد ولا يبردها القرب بل يزيدها اشتعالًا، نظرة في عيون محبوبته تملأ قلبه فرحًا وتجعله يتخيل أنه ماشٍ في طريق مفروش بالورد أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية، فوق فوق قريب السماء.»
وهو — وذلك إيمانه الصحيح — قد رأى أن المرأة التي تستطيع أن تلهم الرجل كل هذه المعاني السامية وأن تفيض على الفنان بالوحي وعلى غير الفنان بأسباب السعادة التي تحبب إليه الحياة والعمل فيها ليست هي المرأة الجاهلة المحجوبة؛ لذلك دعا دعوته لتحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لتكون مبعث السعادة للناس جميعًا.
•••
لكن هذا الوحي والإلهام لا يكون إلا إذا استعد الرجال لتلقيه، وإذا كان لدعوة قاسم أن تنجح في ميدان تحرير المرأة وأن تجعل من المصرية مثلما كانت أخت رينان أو زوجة جون ستوارت ميل أو شبيهاتهما من النساء اللواتي أوحين إلى النوابغ ما غير وجه التاريخ، فلا بد من إعداد الرجال لتلقي هذا الإلهام السامي ولإبرازه فيما يجب أن يبرز فيه من قوة، وذلك لم يكن ممكنًا والتعليم العالي — كما كان يومئذٍ — مقصور على أن يعد موظفين للحكومة وللأعمال الحرة ممن لا يرون العلم إلا وسيلة للكسب «ويعملون على مبدأ (اكسب كثيرًا واتعب قليلًا) وليس فيهم العامل المحب لعمله أو فنه والعاشق الذي تحتل شهوة العمل كل قلبه وتتمدد فيه وتملؤه برمته»، أمثال هؤلاء لا يوحي إليهم جمال العالم فكرة جديدة ولا يرتجون من الحياة إلا اعتزازًا بمنصب أو بمال طائل يحصلونه، وهؤلاء لا يمكن أن تنهض أمة بهم لترقى إلى سبيل الكمال، فأما الفئة التي «تطلب العلم حبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول، الفئة التي يكون مبدؤها التعليم للتعلم» والتي تحس جمال الحياة في مختلف مظاهره، الفئة التي ترى في المرأة الجميلة المهذبة معوانًا على النهوض بالجماعة، هذه الفئة لا تكون إلا حين توجد الجامعة وحين يوجد التعليم الجامعي، وهذه الفكرة هي الأساس الذي دعا قاسمًا للتعاون مع صديقه سعد زغلول ومع أركان نهضة مصر ليؤسسوا الجامعة المصرية التي استظلت لجنتها برياسة سعد باشا زغلول حتى ترك منصبه كمستشار في الاستئناف وعين وزيرًا للمعارف فحل محله قاسم أمين في رياسة اللجنة إلى أن عاجلته المنية.
وقد ظل قاسم عاملًا مع أصحابه مجدًّا يستنهض الهمم ويجمع الأموال ويهيئ كل أسباب نجاح الجامعة، وقد بين فكرته عنها في خطاب ألقاه بمنزل المغفور له حسن باشا زايد بالمنوفية لمناسبة وقفه خمسين فدانًا للجامعة قال فيه: «إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا ولا تعلن عن نفسها، عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقاتهم وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم وفتحوا البلاد ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم، فيحسن بنا أن نقتدي بهم فنهجر القول ونعتمد على العمل.
نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة أو الالتحاق بوظيفة، بل نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم، نود أن نرى من أبناء مصر — كما نرى في البلاد الأخرى — عالمًا يحيط بكل العلم الإنساني واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفًا اكتسب شهرة عامة، وكاتبًا ذاع صيته في العالم، وعالمًا يرجع إليه في حل المشكلات ويحتج برأيه، أمثال هؤلاء هم قادة الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمدبرون لحركة تقدمها، فإذا عدمتهم أمة حل محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدجالون.
إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم ذاته هو عيب عظيم فينا يجب أن نفكر في إزالته، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا وأهملت تربية قلوبنا فأصبحنا ماديين لا نهتم إلا بالنتائج في جميع أمورنا، حتى في الأشياء التي يجب بطبيعتها أن تكون بعيدة عن الفوائد كعلاقات الأقارب والأصحاب.
إن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه، وإن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون، أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مُصَادمة كل صعوبة، من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها فيصير شاعرًا بليغًا أو عالمًا حكيمًا أو وليًّا طاهرًا أو نبيًّا كريمًا.
ولي أمل عظيم أن يكون إنشاء الجامعة المصرية سببًا في ظهور شبيبة هذا الجيل وما يليه على أحسن مثال.»
كان أول أمل لقاسم من إنشاء الجامعة إذًا هو الأمل العلمي البحت، هو تكوين فئة للبحث وراء الحقيقة شوقًا إليها وحرصًا على كشف ما يحيط بهذا العالم من الأسرار، وهذه الحقيقة لا يصل إليها أولئك المشغولون بأسباب الرزق العاكفون على السعي لها والدأب في سبيلها، وإنما تصل إليها بيئة علمية يتصل الطالب فيها بالأستاذ اتصال دراسة واتصال بحث، اتصال تعليم واتصال تضامن في زيادة ثروة الإنسانية العلمية، هذه الثروة النورانية التي تضيء ما حولها لتهتك حُجُب الجهل وما يجره وراءه من جمود وتعصب ونفاق، والتي تهدي الإنسانية سبيل السعادة بما تكشف لها من جمال الوجود، ولعل أكبر رجاء قاسم كان أن يتناول هذا البحث آداب مصر بغية الوصول إلى تركيز أدب قومي صالح يجدد الأدب العربي الذي كان متداولًا إلى عصره، وقد كانت لقاسم في تجديد اللغة والأدب آراء لا تقل تقدمًا عن آرائه في مسألة المرأة وتحريرها، وكان يرى «أن اللغة العربية مرت عليها القرون الطويلة وهي واقفة في مكانها لا تتقدم خطوة إلى الأمام، بينا أخذت اللغات الأوربية تتحول وترتقي كلما تقدم أهلها في الآداب والعلوم حتى أصبحت النموذج المطلوب في السهولة والإيضاح والدقة والحركة والرشاقة، وصارت أنفس جوهرة في تاج التمدن الحديث»، وفي كلماته كثير عما كان يراه من أوجه النقص في اللغة ووسائل علاج هذا النقص قال: «لم أر بين جميع من عرفتهم شخصًا يقرأ كل ما يقع تحت نظره من غير لحن، أليس هذا برهانًا كافيًا على وجوب إصلاح اللغة العربية، لي رأي في الإعراب أذكره هنا بوجه الإجمال وهو أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل، بهذه الطريقة — وهي طريقة جميع اللغات الإفرنجية واللغة التركية أيضًا — يمكن حذف قواعد النواصب والجوازم والحال والاشتغال … إلخ، بدون أن يترتب عليه إخلال باللغة إذ تبقى مفرداتها كما هي.»
ولم يكن جزعه على الأدب بأقل من نفوره من جمود اللغة، فكم نعى على الكتاب والشعراء اقتصارهم على «تكرار أفكار الغير التي حفظوها كما يحفظ الأطفال القرآن»، وكم أسف على الفتور العقلي الذي يجعلك «إذا اجتمعت في اليوم بعشرين رجلًا من معارفك تسمع من التسعة عشر الآخرين ما سمعته من الأول، ولا تجد في الجريدة التي تقرؤها أو تسمع من الصاحب الذي تقابله فكرة غريبة أو تعبيرًا جديدًا أو أسلوبًا مبتدعًا، لا تجد النابغة الذي يدهشك ويجذبك بعجائب جنونه»، وكم استهجن الأساليب التي تقتصر على المحسنات اللفظية ودعا إلى جدة تخرج بالكاتبين من ذلك النوع البالي الذي لا يعرف البحث والتحليل والتسمع على النفس والمشاعر ووصف بدائع الطبيعة مكتفيًا بالعبارات المحفوظة التي توارثوها عن كُتَّاب العرب أيام مجدهم، وإنك لتجد فيما خلَّف قاسم صورة من هذا الأدب الجديد الذي يدعو هو إليه والذي غزا ميدان التحرير والكتابة فأصبح أدب هذا العصر الحاضر، ولئن كنا ما نزال نرجو للأساليب الجديدة ثروة وقوة فإن فضلًا كبيرًا يرجع لقاسم في هذه الجدة التي دعا إليها، والتي كان يرجو أن تبدع فيها الجامعة التي جاهد في إنشائها، والتي قامت بعد موته قوة تقربها من المثل الأعلى الذي يرجوه.
واختطف الموت فجأة قاسمًا وما يزال في ربيع قوته، مات بالسكتة القلبية بعد أمسية قدم فيها طالبات رومانيات في نادي المدارس العليا، مات وهو في ميدان هذا الجهاد الشاق الذي خاض غماره وحمل أعباءه بقوة وعزيمة لم يتطرق إليهما كلال، فقد وقف الرأي العام في وجهه على أثر نشر كتاب تحرير المرأة، ولم يكن هذا الرأي العام مقصورًا على السواد ولا على الجامدين، بل ساير هؤلاء كثيرون ممن يزعمون أنهم يفهمون الرأي واحترامه والحرية وقداستها، بل ممن كانوا مقتنعين بصواب رأي قاسم، وبلغ الأمر أن حرم قصر عابدين عليه، ولم يثبطه شيء من هذا ولم يبالِ بذم الناس «بل وجد فيه نوعًا من حماسة الغضب منبهًا لأعصابه منشطًا لقواه مغريًا إياه بالاستمرار والثبات»، ورد على خصومه بكتاب «المرأة الجديدة» ثم قام بالمجهود العظيم الذي قام به في إنشاء الجامعة، وكان في إبان ذلك كله ساكن النفس مطمئن الضمير محبًّا للحياة وجمالها غير بخيل على نفسه بحظ من ذلك يناله في رفق ما كان بعيدًا عن مصر، فإذا عاد إليها اقتصر على أصدقائه القليلين الذين كانوا «يخففون عليه حمل الحياة ويرغبونه في بقائها».
مات فجأة في ليل ٢٣ أبريل سنة ١٩٠٨ فأثار خبر وفاته في نفوس الناس جميعًا، أصدقائه وخصومه، رنة حزن وأسى، واجتمع لتشييع رفاته كل ذوي الرأي في مصر، وكانت جنازته مظهرًا صامتًا لإجلال الوطن وتقديره العاملين من رجاله، وغادر هذا العالم تاركًا وراءه ذكرًا باقيًا هو ذكر الصدق والإخلاص لبلاده لم يبتغ عليهما في حياته أجرًا من جاه أو نشب، فكان أجره عليهما الخلود بعد موته في ضمير الأجيال المتعاقبة، ذلك بأنه رفع لواء الحرية الصحيحة والعدل في أسمى معانيه، وبعث إلى الروح المصرية حياة جديدة تكفل لها بلوغ ما ترجوه بين جماعة الأمم المتحضرة.
وفي يقيننا أن مجهود قاسم من أبقى المجهودات على الحياة، وأن الصحائف المعدودة التي كتبها ستظل أبدًا موضع إجلال العصور واحترامها.