صُنع السجادة الحمراء للعالم وحياكتها
هل سمعت يومًا عن رقم ٣٢ شارع تشينج فانج، بكين؟ إنه ليس بقدْر شهرة قصر باكنجهام أو البيت الأبيض أو الكرملين. ولكن حريٌّ به أن يكون كذلك. إنه يُشكِّل موقعَ قوة اقتصادية ليس لها مثيل على الأرجح؛ قوة تؤثِّر على ثروات الأشخاص ليس فقط في الصين وآسيا، ولكن حتى في الجانب الآخر من العالَم الذي تعيش فيه لورين ميلر.
للوصول إلى شارع تشينج فانج، عليك التوجُّه إلى الطريق الدائري الثاني لبكين (يوجد أربعةٌ منها) نحو الواجهات الزجاجية والفولاذية للبنايات في شارع بكين المالي: هذا هو «وول ستريت» الصيني، الذي فُرِغَ منه في الوقت المحدَّد استعدادًا لأولمبياد ٢٠٠٨ في الصين؛ حيث توجد البنوك والهيئات الرقابية التي تتنافس للحصول على مساحةٍ لها فيه. صحيحٌ أن الشكل الخارجي للأبراج يشبه الشركات الغربية المألوفة، فهي مبنية حول ساحات داخلية، على غرار تلك الموجودةِ في أحياء هوتونج القديمةِ التي تحيط بالمدينة المحرَّمة. لكن ما يجري هنا لا يمُتُّ للقِدَم بصلة. إن بورصة الصين قد تكون في شنغهاي، لكنَّ البنايات الخمس والثلاثين التي تُشَكِّل شارع بكين المالي هي أكبر سوق نقدي ومالي في البلاد. تمر تريليونات الرنمينبي، كما تُعرف العملة الصينية، من هنا كل يوم.
يقع المبنى رقم ٣٢، الذي يُعرَف باسم بنك الشعب الصيني، في وسط شارع تشينج فانج. في بكين، في هذا المبنى الصغير نسبيًّا الذي يزداد اكتظاظًا والآخذ شكلَ حدوة حصان، أُنشِئ البنك المركزي للبلاد عام ١٩٤٩. في تسعة طوابق متواضعة، يتضاءل المبنى رقم ٣٢ أمام ما حوله من المباني الأكثرِ حداثةً وتألقًا التي تناطح السحاب، لكنَّ مظهره خدَّاع. فمن هذا المكان المتواضع، يؤثِّر البنك على المصائر الاقتصادية لمليارات الأشخاص حول العالم.
في نظامٍ يتسم بالغموض، سيشق دولارنا، الذي لا يزال بقدْرٍ ما تحت سطوة الدولة وملكيتها، طريقه. بعد تأسيسه في عام ١٩٤٩، ظل بنك الشعب الصيني هو البنكَ الوحيد في البلاد قرابة ثلاثة عقود؛ إذ قدَّم كلًّا من الخدمات المركزية والخدمات التجارية. قُسِّم البنك منذ ذلك الحين إلى بنوكٍ منفصلة: إذ يَصْعُب تعامُل بنك واحد مع اقتصاد هائل كان ينفتح على العالم، حتى مع وجودِ مكاتبَ إقليمية للبنك. كان الضغط المتزايد على شارع تشينج فانج يُشكِّل خطرًا؛ أي إنه كان ضحيةَ نجاحه. في ثمانينيات القرن العشرين، قُسِّم الفرع الخاص بالخدمات المصرفية التجارية لبنك الشعب الصيني إلى أربعة بنوك متخصصة ومستقلة لكنها مملوكة للدولة: هذه البنوك الأربعة الكبرى هي البنك الصناعي والتجاري الصيني، وبنك التعمير الصيني، وبنك الصين، والبنك الزراعي الصيني.
شقَّ دولار لورين ميلر طريقه إلى شركة «مينجتيان» للإلكترونيات التي يقع مقرها في شينزين. يتصارع مصنع الشركة الضخم رأسًا برأسٍ مع الآلاف من المصانع الأخرى، ويتنافس معها من أجل البقاء والازدهار. إن شينزين ليست فقط قلبَ التصنيع في الصين؛ فلقد ظهرت على أنها وادي السيليكون، حيث يلتقي الابتكار والموجات الذهنية بالإنتاج. ولكون مينجتيان جزءًا من ذلك، فإنها لا تحتاج إلى الدولارات. إنها بحاجة إلى الرنمينبي — أو كما تُسمَّى العملة الصينية أيضًا اليوان — من أجل دفْع رواتبِ عُمَّالها، وشراء المُكوِّنات من «هواكيانجبي»، وهي سوق الإلكترونيات الكبرى في الصين والمُكوَّنة من ١٠ طوابق. يمكن للشركة بعد ذلك الاستثمارُ في تطوير منتجات جديدة مثل الطائرات دون طيار والكاميرات. ويمكنها أن تظل مُتقدِّمة بخطوةٍ على «الشنزهاي»؛ وهي المنتجات المُقلَّدة التي تُنتَج بالسرعة نفسِها، ولكن بسعرٍ أرخصَ من المنتج الأصلي.
عندما يقدِّم المسئول المالي في مينجتيان دولار لورين ميلر في أحد البنوك التجارية مقابل العملة المحلية — إما على شكل أوراق نقدية، أو في رصيد البنك الخاص بالشركة — فإلى أين ينتهي بهذا الدولار المطاف؟ في النهاية، يُحكِم البنك المركزي قبضته على العملات التي تدخُل البلاد: يعاود الدولار الأمريكي صعودَ هرم القطاع المصرفي ويصل إلى خزائن بنك الشعب الصيني. لن يكون وحيدًا.
•••
قد تكون الصين لاعبًا جديدًا نسبيًّا في ساحة العولمة، لكنها اعتمدت الدولار بقوةٍ ليمنحها سلطة هائلة في الداخل والخارج. أذهل التقدُّم الاقتصادي الذي حقَّقته البلاد على مدى السبعين عامًا الماضية العالَم، ومن المرجَّح أن تستمر في تقدُّمها. في السنوات الأخيرة، حقَّقت الصين نجاحًا على المسرح العالمي عن طريق — بين عوامل أخرى — صرفِ الانتباه عن منافسيها. ومع بزوغ نجمها الاقتصادي، احتدم صراعٌ مستميت على السلطة في المنطقة.
في آسيا، ظلت اليابان في دائرة الضوء في النصف الثاني من القرن العشرين، فكانت تنتِج سلعًا تحمل أسماءً تجارية مألوفة مثل «سوني» و«تويوتا»، كما أصبحت المُصنِّع المُفَضَّل للأدوات ذات التقنية العالية. لكن يمكن أن تخبو النجوم بالسرعة التي بزغت بها. في حالة اليابان، تسبَّبت الضجة والثقة في الاقتصاد في تضخمه بشكلٍ كبير. ففي مطلع تسعينيات القرن العشرين، كانت اليابان على موعدٍ مع الواقع؛ فقد تراجعت سوق الأسهم، ومن بعدها الاقتصاد. ونالت بعض العواقب كوريا الجنوبية وتايوان. وما تبِع ذلك بالنسبة إلى اليابان كان «عقدًا ضائعًا»؛ أي نموًّا ضعيفًا وفرصَ عمل قليلة. تزامن هذا مع تحوُّل الصين لأكثر البلدان أهميةً في المنطقة.
ومع ذلك، لا تزال اليابان على القائمة (أ) التي تضم الاقتصاد الأفضل. فلا يزال اقتصادها واحدًا من أكبرِ ثلاثة اقتصادات في العالم، وقد بدأ في الازدهار مرةً أخرى. ربما يحتل اسم اليابان عددًا أقلَّ من العناوين الرئيسية — وكذلك شهرةً أقل — لكنها تتصارع في آسيا في هدوءٍ لتحتلَّ الصدارةَ أمام الصين. إنهما يمثلان شراكةً ثنائية وإن كان يشوبها التوتر، فكلا البلدين يعتمد على الآخر بشكلٍ كبير في مجال الأعمال ومن أجل تحقيق النجاح. تقليديًّا، تنتج الصين المكوِّنات الأساسية، التي تستخدمها اليابان في إنتاج الأدوات المتطورة. وفي الوقت نفسِه، تنتِج اليابان المكوِّنات المتطورة التي تحتاجها الصين في صناعة المنتجات، التي تشمل أجهزةَ الهاتف. ويعتمد كل واحد منهما على المستهلكين لدى الآخر في مجال الأعمال. بالنظر إلى تطلعات الصين الخاصة بالتكنولوجيا الفائقة، يمكن لليابان أن تجِدَ نجمها محجوبًا أكثر.
كما رأينا في الفصل السابق، فإن كسْبَ دولار لورين ميلر مرتبطٌ جزئيًّا بإدرار دخل وخلق فرص عمل في الصين وفي الشركة المُصَنِّعة للراديو «مينجتيان». لكن هذه ليست القصة كاملة. فالعلاقة التجارية بين الصين والولايات المتحدة تدور حول المال، لا لمجرد إنشاء علاقة. إنه جزء من معركة الصين لاحتلال مركز الصدارة.
مَن يقف وراء هذا النجاح الاقتصادي الكبير للصين؟ إليكم تشو شياوتشوان. شَغَل تشو شياوتشوان منصبَ رئيس مجلس إدارة بنك الشعب الصيني منذ عام ٢٠٠٢. ونظرًا لأنه درس الهندسة الكيميائية، لم يكن متوقعًا أن يصبح رئيسًا للبنك المركزي. مارسَ تشو شياوتشوان في بداية مسيرته المهنية الزراعةَ قبل أن ينتقل إلى الأوساط الأكاديمية لوضع خطط من أجل إصلاح الاقتصاد الصيني. وبوصفه رئيس المصرفيين في البلاد، فإنه بحلول عام ٢٠١٧ كان قد دام في منصبه مدةً أطول من ثلاثة رؤساء صينيِّين وعددٍ لا يُحصى من المنافسين حول العالم. فما هو سرُّ بقائه؟ يشتهر تشو شياوتشوان بكونه مُحدِّث، الرجل الذي قاد الصين وعُملتها بنجاحٍ إلى العلا. طالما تواجه الصين أحوالًا استثنائية — وعلى الرغم من بعض العثرات — وقد اكتسب تشو لنفسه سمعةً طيبة لكونه الرجل الذي يقود الاقتصاد المُعَقَّد.
إنه منصبٌ ذو سلطة هائلة، لكن زوجة تشو، لي لينج، من المرجَّح أن تضمن بقاء قدميه على أرضٍ صلبة. فحتى وقت قريب، كانت لي لينج شخصيةً بارزة في وزارة التجارة، وكانت مسئولة عن الصفقات التجارية والنزاعات. كان الأمر متروكًا لها لمعرفةِ كيفية استمرار تَدَفُّق السلع الصينية إلى الغرب، حتى عندما تراجع الاقتصاد الأمريكي والإرادة السياسية.
مهَّدت جهود لي لينج في مجال التجارة الطريقَ للمصانع الصينية لتوريد السلع ﻟ «وول مارت» وبيعها للأمريكيين، من أمثال لورين ميلر، والحصول على دولاراتهم. وفي الوقت نفسِه، مكَّن زوجها هؤلاء المصنِّعين من تحقيق الاستقرار والنمو لتلبية هذا الطلب، مما يسهِّل على الشركات في شينزين إيداعَ أرباحها في البنوك وتحويلها الدولار إلى الرنمينبي لدفع فواتيرها. ترتبط التجارة وتطوُّر النظام المالي الصيني ارتباطًا وثيقًا.
•••
منذ عام ١٩٤٩، برزت الصين لتنتزعَ لها مكانًا بجانب نجم العرض: الولايات المتحدة وعملاقها الأخضر. تريد الصين تحقيقَ الصدارة، بشروطها الخاصة. ولكن، من أجل ذلك، فهي تحتاج أن تظلَّ الولايات المتحدة فاعِلًا رئيسيًّا. إنها تستخدم الدولارات وتحوِّلها إلى سلاح ضد صانعها؛ أي الولايات المتحدة. إنها حرب عملات، السلاح الرئيسي فيها هو الدولار في قلب مكيدة معقَّدة.
يتدفَّق الكثير من الأموال إلى الصين، شأنها شأنُ أي شركة مزدهرة. وقد تراكمَ مخزونها من النقود سريعًا على مدى السنوات التي كانت تبيع فيها أجهزةَ الراديو وغيرها من السلع إلى الولايات المتحدة (وإلى بقية العالم). تدفَّق مبلغٌ ضخم إلى بنك الشعب الصيني. ونظرًا إلى أن الصادرات هي المصدر الأساسي لهذه الأرباح، فإنها تُعرف باسم «الاحتياطي الأجنبي». غالبًا ما تحتفظ الصين (وبلدانٌ أخرى) بهذه الأموال بالعملة الأجنبية، عادةً بالدولار أو الين، أو بالذهب، أو في الواقع أي شيء يمكن تحويله بسرعة إلى نقد. تُستخدم هذه النقود في التجارة، أو في حالات الطوارئ، من أجل إنقاذ الاقتصاد. في الصين، تُعتبر ماهية هذه الاحتياطيات ومكانها من أسرار الدولة. يكاد يكون من المؤكَّد أن دولار لورين ميلر سيُحتفظ به إلكترونيًّا، لكن الاحتياطيات الموجودة على هيئة ذهب قد توضع في خزينة في بكين، أو تحت الأعين اليقظة للجيش.
أيًّا كان مكان الاحتفاظ بهذه الدولارات، فمن المؤكَّد أن هيئات شارع تشينج فانج قد تمسَّكت بها بقوة واستخدمتها لبناء قاعدةٍ تستمدُّ منها قوَّتها. اكتسبت الصين ثروتها عن طريق تصدير السلع الرخيصة، ولكن الميزة السعرية هذه لا تتعلَّق فقط بالتكلفة المنخفضة لتصنيع أجهزة الراديو. بل يتعلق الأمر أيضًا بسعر العملة الصينية.
عندما صُرف هذا الدولار في البنك، كان مجرد دولار واحد من بين مليارات الدولارات القادمة إلى الصين من الولايات المتحدة، وهي أموال أكثرُ بكثير من تلك الواردة إلى الولايات المتحدة من الصين. من خلال مطالبة الشركات بإيداع تلك الدولارات، يصبح البنك المركزي فعليًّا مالكًا لجميع الدولارات في الصين. من الناحية العملية، يتعيَّن على الشركات أمثالِ شركة «مينجتيان» شراء العملة الصينية من البنك بالدولار الذي كسبوه؛ أي استبدال عملة بأخرى.
إن سعر الصرف هو ببساطة سعرُ إحدى العملات المُعَبَّر عنه بوحدات عملة أخرى. مع زيادة حجم المعروض من الدولار مقابل اليوان، لا بد أن يصبح اليوان أغلى ثمنًا. إنه مبدأ العرْض والطلب: إذا كان هناك عددٌ معيَّن فقط من اليوان، وكان الجميع يريده، فسيتعين على الناس تسليمُ المزيد من الدولارات مقابل اليوان.
هؤلاء المتعاملون في البورصة الذين يرتدُون قمصانًا مقلَّمة ويلتقطون الهواتف في طوابق التداول ليسوا مجردَ قوالب نمطية مثل التي ظهرت في الأفلام التي تناولت «وول ستريت». إنهم يُوجَدون بشكل منتظم في غرفِ تداول العملات في جميع أنحاء الكرة الأرضية. يحدِّد هؤلاء الرجال وعلى نحوٍ متزايد النساء أسعارَ الصرف، ومطابقة العرْض والطلب على العملات المختلفة للتوصُّل إلى السعر المناسب. إذا كان عدد الأشخاص الذين يريدون شراء الدولارات أكثرَ من الذين يبيعونها، فإن سعرها يرتفع. إذا زادت صادرات الصين إلى أمريكا، فإن الطلب على اليوان يرتفع، ومن ثَم يرتفع سعر الصرف في الصين.
هذا من الناحية النظرية؛ ولكن نظرًا لحتمية تداول جميع الدولارات من خلال البنك المركزي، فإنه بمقدور البنك تحديد سعرها. لسنوات عديدة، عن طريق التدخُّل المباشر للبنك المركزي، ظلَّ سعر الدولار مرتفعًا، في حين ظل سعر اليوان منخفضًا. (لشراء اليوان، كانت هناك حاجة إلى كميةٍ أقلَّ من الدولارات؛ وكذلك كان يتعيَّن على أيِّ شركة صينية تحتاج شراء الدولارات لاستخدامها في التجارة، على سبيل المثال، دفعُ كميةٍ أكبرَ من المعتاد من اليوان.) حقَّق البنك ذلك من خلال تخصيص كميةٍ أكبرَ من اليوان مقابل الدولار بشكلٍ ربما يكون غيرَ معقول.
تتمثَّل إحدى مسئوليات البنك المركزي في ضمان توافرِ ما يكفي من الأموال للحفاظ على استمرار الاقتصاد. فهو يُصدِر الأوراق النقدية والعملات المعدنية، وهي الوقود الذي يحافظ على استمرار دوران عجلة الرخاء. وهو يضمن طباعةَ ما يكفي من الأموال لاستبدالها بالدولار — سعر الصرف — الذي يُفَضِّله. (هذا عملٌ محفوف بالمخاطر. فضخُّ الكثير من الأموال إلى الاقتصاد بسرعة كبيرة يعني الكثيرَ من الأموال في مقابل عددٍ قليل جدًّا من السلع. يزداد الطلب، وكذلك معدَّل ارتفاع الأسعار، مما يعني ارتفاعَ معدَّل التضخم. يتجنَّب البنك ذلك من خلال محاولة التأثير على المعروض النقدي من خلال بعض الإصلاحات الفنية المعروفة باسم «التعقيم». هذا هو المكان الذي يبيع فيه البنك السندات للجمهور من أجل التخلص من الفائض من الأموال.)
يُعتبر تحرير سعر الصرف، المعروف باسم السعر «العائم»، أمرًا شائعًا في معظم أنحاء العالم. يمكن تداول العملات العائمة تداولًا قانونيًّا في أسواق العملات الأجنبية، حيث تُحدَّد قيمتها. لكن الصين مختلفة. لقد أحكم بنك الشعب الصيني قبضتَه على سعرِ الصرف من خلال تنظيم سياساته التجارية وغيرها من السياسات. وبينما بذلت الصين قصارى جهدِها للترويج لقوَّتها التصديرية، تعمَّدت لسنوات عديدة إبقاءَ سعر صرف اليوان عند مستوًى أقلَّ من قيمته الحقيقية. فما الفائدة من إبقاء سعر صرف العملة منخفضًا؟ من المؤكَّد أن سعر الصرف القوي شيء رائع؛ وهو رمزٌ للسلطة والقوة التي ستمكِّن الدولةَ من التغلُّب على كلِّ مَن يظهر على الساحة العالمية؛ وعلامة على الثقة في الاقتصاد. إذن ما سرُّ إحجام الصين عن التقاطِ تاجِ العملاق الأخضر، واستكمال صورتها بوصفها قوةً عظمى؟
مع ازدهار الصادرات الصينية، كان من الممكن أن يؤديَ ارتفاع سعر الصرف إلى جعلِ صادرات الصين تبدو أغلى ثمنًا. فسيكلف شراء هذا الراديو فجأةً المزيدَ من الدولارات. ربما لم يتغيَّر سعره باليوان، لكن سعره بالدولار كان سيتغير. وهذا من شأنه أن يجعل المنتجات الصينية أقلَّ جاذبية إلى حدٍّ كبير بالنسبة إلى المشترين الأمريكيين. فحتى بضعة دولارات إضافية على بطاقة الأسعار كان من الممكن أن تجعل لورين ميلر تُعيد جهاز الراديو إلى الرف في المتجر. فقد تجد أن شراء المنتجات الأمريكية ليس في الواقع مختلفًا من حيث السعر. أو ماذا عن راديو مصنوعٍ في كوريا الجنوبية أو اليابان بدلًا من ذلك المصنوعِ في الصين؟ سيكون ذلك بمثابة ضربة للشركة المُصَنِّعة الصينية، وخسارة للصين أيضًا.
إن تصديرَ الصين منتجاتِها إلى بقية العالم هو بمثابة تذكرة لها لتصبح واحدةً من أكثرِ الاقتصادات ازدهارًا في العالم، ما يؤدي إلى تحويل الدخلِ بشكل فعَّال من لورين ميلر إلى شواطئها. عمل البنك المركزي بجِدٍّ لإبقاء سعر صرف اليوان منخفضًا والصادرات رخيصةً بشكلٍ لا يقاوم لمتسوِّقي «وول مارت». إن سعر الصرف المنخفض يعني سعرًا أرخصَ للصادرات. (كما أنه يجعل الواردات أغلى ثمنًا، مما يقنع الصينيِّين بأن من مصلحتهم شراءَ المنتجات الصينية.) وعلى النقيض من ذلك، يمكن أن يؤديَ الدولار القوي إلى ضعفِ النمو في الولايات المتحدة؛ لأنه يضرُّ بمصدِّريها بجعل منتجاتهم أغلى ثمنًا.
تتمثَّل ميزة التحكُّم في قيمةِ عملةٍ ما بهذا الشكل في أن هذا، بالإضافة إلى احتماليةِ كسبِ ميزة تنافسية، يَعِدُ باليقين، وإلى حدٍّ ما، بالاستقرار. إذ تكون الشركات والمستهلكون على درايةٍ بالأسعار المحتملة في المتاجر. فمن المرجَّح الاستثمار والإنفاق في ظل وجود بعض الثقة فيما سيكون عليه المستقبل.
من مصلحة الصين أيضًا أن تظلَّ قيمةُ الدولار مرتفعة (أو تزداد ارتفاعًا، في الوضع المثالي)، ومن شأن ذلك أن يعزِّز قيمةَ الاحتياطيات التي جمعتها بعناية من عمليات التصدير. وهذا يجعل الصين، أو بالأحرى حكومتَها، أكثرَ ثراءً (نظرًا لتركُّز الثروة في أيدي عددٍ قليل من الناس).
إذا كانت إدارة الصين لعملتها المحلية جعلتها واسطة العِقد، فلماذا لا يقتدي بها المنافسون؟ لا يعني ذلك أن الكثيرين لم يحاولوا (إلى حدٍّ ما لا يزال نحو نصف بلدان العالم يحاولون). فالبنك المركزي وكذلك الأسر يدفعون ثَمن التحكُّم في سعر صرف العملة. إذا كان سعرُ العملة منخفضًا للغاية، فقد تصبح الصادرات أرخصَ ثمنًا، ولكن ستصبح الواردات، أي السلعُ التي تُجلَب من الخارج، أغلى ثمنًا بدرجةٍ كبيرة جدًّا. بالنسبة إلى بلدٍ يضطر إلى استيراد الكثير من طعامه، يمكن أن يكون لهذا آثارٌ مدمِّرة. قد تكون العملة الأضعف جيدةً للأعمال، ولكنها سيئة للأسر.
قد يُنظَر إلى العملة الثابتة على أنها أقوى من اللازم. ولا تحتاج الصين إلى النظرِ خارجَ حدودها لتتذكَّر مثالًا مؤلمًا ومكلِّفًا. ففي تسعينيات القرن العشرين، كان العديد من الاقتصادات الآسيوية الأخرى يُحدِث تأثيرًا على الساحة العالمية. كانت تايلاند وكوريا وإندونيسيا من بين تلك البلدان المعروفة بالنمور الآسيوية: النجوم المُنتَظَرة. فقد تسبَّب ازدهار صادرات تلك البلدان في انتعاش اقتصاداتها. ضخَّ المستثمرون الأموالَ من أجل أن يحظوا بجزء من الغنيمة، ما أدَّى إلى زيادة الطلب على البات التايلاندي. لكن بعد ذلك بدأ الشك في قوة الاقتصاد التايلاندي يتسلل إلى المستثمرين ودفعتهم تلك الموجةُ الكئيبة الهائلة إلى الانسحاب. وهذا يعني انخفاضًا في الطلب على البات، الذي أُديرت قيمته بإحكام مقابل الدولار. عندما يحدُث ذلك، عادةً ما يضخ البنك المركزي أموالَه الخاصة لزيادة الطلب والحفاظ على ارتفاع سعر العملة. ولكن ببساطة لم تستطِع الحكومة التايلاندية وحلفاؤها ضخَّ الأموالِ بالسرعة الكافية للحيلولة دون انهيار البات. تسبَّب ذلك في حدوث اضطرابٍ كبير في أسواق العملات والأسهم في جميع أنحاء المنطقة كما نجمت عنه أزمةٌ مالية طالت آسيا بالكامل. كان لتأثير الدومينو (سلسلة الصدمات) انعكاساته على النمور الأخرى، حتى إنه تسبَّب في حدوث هزَّات اقتصادية في اليابان. يمكن أن تكون محاولة الحفاظ على سعرِ صرفٍ ثابت عملًا مكلِّفًا، وأن يسبب مشكلاتٍ اقتصادية.
قرَّر العديد من البلدان أنه من الأيسر ترْكُ العملة وشأنها وتعويمها بحرية، الأمر الذي يمكن أن يكون مفيدًا في الواقع للاقتصاد بشكل عام. إذا انخفض الطلب على الصادرات الأمريكية انخفاضًا حادًّا، فإن الطلب على الدولار ينخفض هو الآخر، وينخفض معه سعر الصرف. لذا يصبح سعرُ هذه الصادرات أكثرَ جاذبية، مما يؤدي إلى زيادة الطلب مرة أخرى. تُعَدُّ أسعار الصرف المرنة أحد ممتصات الصدمات التلقائية للتجارة (هذه هي النظرية على أي حال. ولكي تُطبَّق على أرض الواقع يجب أن يتماشى الطلب على الصادرات/الواردات مع التغيرات في السعر. وليس هذا هو الحال دائمًا).
إن البلدان التي تلتزم بهذه القواعد، ومن ثَم تسمح لأسعار صرف عملاتها بالتقلب، ترى أن أمثال الصين يقومون بعملٍ شائن. جادل السياسيون سنواتٍ عديدة مُعلِّلين بأن الصين تُبقي سعرَ صادراتها منخفضًا بشكلٍ مصطَنع من خلال الإبقاء على سعرِ صرفِها منخفضًا. فمن المستحيل أن يتمكن مصنِّع أمريكي من منافسة «مينجتيان» على الزبائن أمثال لورين ميلر.
كان يُنظر إلى البنك المركزي الصيني على أنه يمارس سيطرةً شديدة من أجل الترويج للبضائع الصينية، وقد نُشرت عناوينُ صحفية مثيرة في جميع أنحاء العالم نتيجةً لهذه الأفعال. يمكن أن يكون للعملة الثابتة ثمنٌ سياسي. فقد اتُّهمت الصين بأنها «متلاعبة»، وأنها «لا تتعامل بشكلٍ نزيه في التجارة». وهذه ليست مجرد إثارة صحفية في الصحف الشعبية. فقد زعم كبار السياسيين، وصولًا إلى الرئيس الأمريكي، أن العملاق الآسيوي «يغُشُّ»، وأنه يشن «حرب عملات شاملة» تهدُف إلى «تقويض» أمريكا. قد يبدو الأمر وكأنه شجارُ تلاميذ مشاكسين، ولكن هناك بعض الأمور الخطيرة للغاية في هذا الصدد.
لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية وحدَها، بل دول صناعية آسيوية أخرى، هي التي شَعرت أن مصدِّريها قد تضرروا بسبب أفعال الصين. لقد تلاعب العديد من البلدان، ومنها اليابان، بأسعار الصرف الخاصة بها على مرِّ السنين، لكن أداء الصين كان الأكثرَ إثارة. وقد ألقى الأمريكيون باللوم على الصين فيما يتعلَّق بسرقة الأعمال بالخداع، من خلال تقويض منتجيهم والتسبُّب في هذا العجز التجاري الكبير. ومع ارتفاع صوت هذه الشكاوى، خفَّت قبضةُ الصين على سعر الصرف أخيرًا. لكن بدرجةٍ قليلة فقط. تتراوح قيمة اليوان بين ٦,٥ و٧ مقابل الدولار، تمامًا كما كانت قبل عَقد من الزمان. إذن، لا تزال «مينجتيان» تتمتَّع بميزة تنافسية.
على مر السنين، أدَّى اهتمام الحكومة الصينية الشديد بالتحكُّم في سعر صرف عملتها إلى امتلاكها تريليونات الدولارات التي اكتسبتها خلال هذه الفترة. لكن هذه الدولارات لم تكن مخبَّأة تحت مرتبة عملاقة في قبو شارع تشنج فانج. لقد استُخدمت للاستثمار في مستقبل الصين.
•••
ماذا نشتري إذا لم يمثل المال مشكلة لنا؟ إذا كان المبلغ بضعة ملايين فقط، فقد تحلُم لورين ميلر أو مالك شركة مينجتيان بشراء بيوت لقضاء العطلة، وحتى جزيرة في المناطق الاستوائية، وطائرة خاصة أو يخت لتسهيل التنقل. وما الذي يمكن تحقيقه إذا كان المبلغ يساوي أضعاف أسعار كلِّ تلك الكماليات؟ نهاية الجوع أو المرض في العالم؟ لقد قرَّر بيل جيتس، مؤسِّس شركة «ميكروسوفت» التغلُّب على الملاريا؛ إذ استثمر جزءًا كبيرًا من ثروته الشخصية التي تقارب ١٠٠ مليار دولار في هذا المسعى الخيري. لكن الأموال الطائلة التي تحتفظ بها الصين أكثرُ من ذلك. ماذا عن الهيمنة على العالم؟ سيكون الأمر مغريًا، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين ليسوا مثل بلوفيلد. يمكن للمال شراءُ الكثير من السلطة والنفوذ على الحلفاء والأعداء على حدٍّ سواء — حتى لو احتاجت الدولة إلى القليل من التفكير الإبداعي، كما أدركت الصين.
أودعت شركة «مينجتيان» دولارها في البنك الصناعي والتجاري الصيني، مع الإثبات المطلوب لكيفية كسبه، أي من خلال التجارة المشروعة. يُنبئ حُسن هندام يي هويمان المرِح وشَعره الخفيف والنظارة ذات الإطار السلكي بكونه رئيس البنك. إن الأموال الطائلة من عائدات التصدير في الصين تعني أن البنك هو الأكبر في العالَم، ويي هويمان لديه مفتاح الخزائن. لقد تولَّى منصبَ رئيس مجلس إدارة البنك منذ عام ٢٠١٦ فقط، ولكنه شهد ازديادَ ثروات البنك خلال مسيرته المهنية التي استمرَّت ٣٠ عامًا.
سواء كانت لورين ميلر تدَّخر مبلغًا بسيطًا لوقت الضيق، أو كانت إدارة الدولة للنقد الأجنبي تجلس على أكوامٍ من النقود، فهناك شيء واحد ينطبق على كلتيهما. لا فائدة من وجود أموالٍ غير مُستثمرة. لسبب واحد، مع ارتفاع الأسعار، ستنخفض قيمتها كثيرًا، وستشتري سلعًا أقل؛ ستنخفض قيمتها «الحقيقية». لذا من المفيد استثمارُ هذه الأموال.
قد لا يشتري المال السعادة، ولكنه بالتأكيد يشتري القدرةَ على الاختيار. فكلما كان لديك المزيد من المال، زادت الخيارات المتاحة أمامك. أمام أي شخص لديه فائض نقدي — أي مُستثمر — قائمة طويلة ومتنوِّعة من الخيارات. ويعتمد ما يختاره، مثل أي زبون في مطعم، على ميزانيته وذوقه وشهيته.
هل تأمُل في تناول وجبةٍ سريعة، قد تكون شَهيَّة أو قد تصيبك بالغثيان؟ تلك الوجبة هي حق الملكية ويُقصد بها حصة في إحدى الشركات العاملة في عالَم الاستثمار. يمتلك المشتري حصة في الشركة، إضافةً إلى ميزة جانبية يحوزها هي النفوذ، أو حق التصويت. هل شهيتك مفتوحة للنفوذ؟ اشترِ كميةً كبيرة من الأسهم. لست متعطشًا للسلطة إلى هذا الحد؟ إذن فكمية قليلة ستفي بالغرض. إذا ارتفع سعر السهم، فعليك صرفَ أسهمك للحصول على مكافأة مجزية. وبالمثل، يمكن أن ينخفض سعر السهم مُخلفًا مذاقًا سيئًا في فمك.
أما الرهان الأكثر أمانًا، وإن كان أقلَّ إثارة لبراعم التذوق، فهو طبق كلاسيكي: سند حكومي. تستخدم الحكومات السندات لتمويل إنفاقها، مما يزيد الأموال التي تحصل عليها من الضرائب. تعمل السندات الحكومية بنفس الطريقة التي تعمل بها القروض. فأنت تشتري الورقة المالية أو السند، الذي تصدِره الحكومة، وتدفع لك الحكومة فائدة. وعند انتهاء أجل القرض، تسترد أموالك. تميل السندات إلى تقديم أسعار فائدة منخفضة للمستثمرين لأنها منخفضة المخاطر، ولكن، بشكل عام، فإن استرداد أموالك من الحكومة عند انتهاء أجل السندات أمرٌ سهل. إنه اختيارٌ مملٌّ نسبيًّا، ولكنه آمن.
وهناك أيضًا الطبق الخاص: وهو طبق يوليه المطعم اهتمامًا خاصًّا. قد يُطلَب هذا الطبق بشكلٍ مسبق، بل يُدفع ثمنه مقدَّمًا. إنه استثمار طويل الأجل، على سبيل المثال، تمويل مشروع بناء. يتعيَّن على المستثمرين الانتظارُ ليروا ماذا سيحدث، بينما يسيل لعابهم على احتمالية النجاح. بالطبع، قد لا تكون النتيجة مذهلة كما هو مأمول. فهناك دائمًا عنصر المخاطرة.
ليس من الطبيعي أن تجتمع المخاطر والبنك المركزي الصيني معًا. فقد اعتاد البنك المركزي بذْلَ تضحياتٍ بسيطة اليوم ليجنيَ الثمار غدًا. إن الرجل الذي يملي السياسةَ في البنك المركزي، تشو شياو تشوان، لا ينفق هذا الدولار بسهولة. لقد راهنت الحكومة الصينية بثرواتها لكي تصبح خط التجميع العالمي، وهي ترنو ببصرها إلى الدولار، ويبقى موقفها من مكاسبها محافظًا للغاية.
في هذه الحالة، قرَّر البنك المركزي الصيني أن أفضلَ ما يمكن فِعله هو إعادة الكثير من تلك الدولارات إلى الولايات المتحدة. اشتهرت الصين بأنها مشترٍ مهم للسندات التي تصدرها أمريكا، والمعروفة باسم «سندات الخزانة الأمريكية». ظلَّت الصين سنواتٍ تشتهي الطعامَ الذي تتناوله الدول أمثال اليابان، التي كانت تطلب هذا الطبقَ الكلاسيكي فترةً من الوقت. والآن أصبحت الصين قادرةً على تناول هذا الطبق هي الأخرى.
في عالَم الاستثمار، بصفة عامة، تعني المخاطر المنخفضة عائدًا منخفضًا، ولكن حتى الفائدة التي تُقدَّر ﺑ ١ في المائة ترتفع بشكل كبير عندما يحتفظ المستثمر بما قيمته ثلاثة تريليونات دولار من هذه السندات، مثل الصين. ويمكن بيع هذه السندات بسهولة عند الحاجة للأموال.
يُعَد التعامل مع حكومةِ أكبرِ ديمقراطيةٍ في العالم خيارًا آمنًا نوعًا ما. فالمخاطر منخفضة، والعائد جيد، ويمكن استعادة الأموال بسهولة. ولا عجب أن الصين تملِك مثل هذه الحصة الضخمة. لكن قرار الصين هو أكثر من مجرد تخطيط مالي سليم؛ فهناك أسباب استراتيجية لاختيار أمريكا ودولارها على وجه الخصوص.
رُسِّخ مركز الصدارة الذي يحتله الدولار في عام ١٩٤٤ في أحد الفنادق في جبال نيو هامبشاير. فقد انعقد هناك مؤتمرٌ يهدُف إلى إرساء قواعد الاستقرار المالي الدولي. وصيغ الاتفاق — الذي سُمي على اسم موقع الفندق «بريتون وودز» — تحت هيمنة مسئولين أمريكيين. وقد وُضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية الدولية. وهذا يعني أنه أصبح العملة الرسمية للتجارة العالمية؛ أي العملة التي سيجري التعامل بها في الكثير من أنشطة التجارة الدولية. وهكذا أصبح الدولار مرغوبًا فيه من قِبل البلدان الأخرى. رُبطت أو ثُبتت قيمة معظم العملات ضمن نطاق من الأسعار مقابل الدولار. وبدوره، ثُبتت قيمة الدولار مقابل قيمة الذهب. وفُرضت ضوابطُ صارمة على تحويل الأموال للحيلولة دون اضطراب هذا النظام الجامد. أُنشئ صندوق النقد الدولي، جزئيًّا لمراقبة عدد الدولارات التي طبعتها الولايات المتحدة. كان الهدف هو ضمانَ الاستقرار. لكن هذا النظام لم يُكتَب له النجاح.
خُفِّفت ضوابط العملة وأسعار الصرف الثابتة إلى حدٍّ كبير في أوائل سبعينيات القرن العشرين. ومع نمو الاقتصادات وتنوُّعها، ثبت أن الجهود المبذولة للحفاظ على استقرار أسعار عملات هذه الاقتصادات هي جهود معقَّدة ومكلفة بشكلٍ تعجيزي. إن النظام ببساطة لا يمكن أن يستمر. ولم يختلف الأمر تمامًا عما كانت تايلاند ستمر به بعد ٢٥ عامًا.
ومع ذلك، تبقى حقيقة واحدة: وهي حقيقة أن الدولار لا يزال العملةَ الاحتياطية الرئيسية — فهو يشكِّل ٧٠ في المائة من النقد الذي تحتفظ به البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم — وهو العملة الموحَّدة في النشاط التجاري. مع بقاء الدولار متربعًا على عرش العملات، يُنظر إلى السندات الحكومية الأمريكية على أنها الأكثر شهرة والأكثر أمانًا في امتلاكها. ومع ذلك، ثمَّة تكهنات بأن الأهمية المتزايدة للصين تعني أن اليوان قد يحلُّ محلَّ الدولار على قمة شجرة العملات. إن مدخرات الصين توفِّر لها دخلًا آمنًا وثابتًا لدعم سلطتها المتنامية. كما أنه يمنحها القليل من السيطرة على أمريكا.
دعونا ننظر إلى الأمر بطريقة أخرى. لا يكتفي أبدًا المستهلكون الأمريكيون أمثالُ لورين ميلر من السلع الصينية الرخيصة. قد تستخدم الحكومة الصينية بعد ذلك الدولارَ الذي دفعته لورين ميلر لشراء سندات الخزانة الأمريكية. تموِّل هذه السندات الحكومةَ الأمريكية، وتُمَكِّنها من بناء المدارس، ودفع المعاشات التقاعدية لكبار السن، ودفع رواتب الجيش. وهذا يحافظ على تدفُّق الأموال في الاقتصاد الأمريكي، مما يدعَم تسوق لورين الأسبوعي. إذن، الصين «تمتلك» جزءًا من ديون الحكومة الأمريكية، وتموِّل شعبها. يواصل الأمريكيون الإنفاقَ، والصين تدفع الفاتورة.
لماذا تطرح أمريكا الكثيرَ من السندات لإبقاء هذا الوضعِ مستمرًّا؟ الحقيقة أنه ليس أمامها الكثير من الخيارات. فالعمل العسكري، والسكان الذين يتقدمون في السن ويحتاجون إلى معاشات تقاعدية ورعاية صحية، والأزمات المالية؛ لا شيء منها يأتي بثَمن بخس. فعلى مرِّ السنين، كانت الحكومة الأمريكية، مثل العديد من الحكومات الأخرى، في وضعٍ صعب؛ إذ كانت تكافح من أجل جمع أموال كافية من خلال الضرائب لدفع جميع فواتيرها. ومثل معظم البلدان الأخرى، تفضِّل الولايات المتحدة أن تكون قادرةً على ضبط دفاترها. لكن كان عليها أن تقترض، وازدادت ديونها. إن السندات طريقةٌ رخيصة للاقتراض، وهي أرخص بكثير من متوسط قرض البنك الأمريكي. وترغب فيها بشدة بلدان من أمثال الصين.
قد يُطبع هذا الدولار في أمريكا ويُنفق في إحدى فروع «وول مارت» المحلية، لكن الشيء المثير للجدل يتعلَّق بما إذا كان هذا الدولار ملكًا للورين ميلر أو مينجتيان أو الحكومة الصينية.
تدفع لورين ميلر رهنَها العقاري بالدولار، وبفضلِ الصين، من بين أسباب أخرى، فإن التكلفة تظل منخفضة. كيف؟ عندما يزداد الطلب على السندات الحكومية — مثل ازدياد الطلب في الصين على السندات الأمريكية — فإن ذلك يرفع سعر السندات، مما يعني أن الحكومة تحصُل على المزيد من السيولة مقدمًا وتدفع العائد نفسه. لذا فإن الحكومة الأمريكية تدفع فائدةً أقل للاقتراض، ويحصل «المُقْرِض» الصيني على عائد أقل. وينعكس ذلك أيضًا في النظام المالي في صورة أسعار فائدة منخفضة للأمريكيين العاديين على الاقتراض مثل الرهون العقارية. وتساعد تلك الواردات الصينية الرخيصة على إبقاء الأسعار منخفضةً في الولايات المتحدة، مما يساعد أيضًا على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة.
قد تظن لورين ميلر أن أفعالها تتعلَّق بأمريكا فقط، فهي تكسب الدولارات محليًّا وتسلِّمها لمتجرها المحلي الذي يدفع أجورَ موظفيه، وهم جيرانها. لكن خيارات الشراء أمام لورين ميلر تعني أن العوامل الرئيسية التي تحدِّد مواردها المالية — من الدخل إلى الأسعار إلى أسعار الفائدة — يُمارَس التأثير عليها من مسافة آلاف الأميال.
أليست هذه مخاطرةً بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟ فماذا لو قرَّرت الصين إنهاءَ الأمر والتخلُّص من سنداتها؟ هل تتحكَّم بشكل أساسي في الإنفاق الخاص بالاقتصاد الأمريكي؟ هل يمكن إجبار الاقتصاد الأمريكي على الاستجابة لمطالبَ معينةٍ من خلال لعبة القوة الجيوسياسية؟
في عام ٢٠١٦، أعادت الصين توزيعَ مواردها المالية والتخلُّص من سنداتٍ بقيمة ١٨٨ مليار دولار. حدث ذلك في الوقت الذي انتخبت فيه أمريكا الرئيس دونالد ترامب، الذي لم يُخفِ عداوته تجاه الصين. أسرع العاملون بالصحافة المالية إلى صياغةِ عناوين أخبار على شاكلة «أكبر دائني أمريكا يتخلَّصون من سندات الخزانة في تحذير لترامب». لكن تلك السندات وجدت مشتريًا جديدًا بسهولة. فقد انتقلت الديون التي تبلغ قيمتها ثمانية أو تسعة أصفار إلى دائن جديد، ولم تعانِ الحياة في ممرات «وول مارت» وفي المكاتب في جميع أنحاء الولايات المتحدة من أي اضطراب. ربما تكون الصين قد أثبتت نفسها بصفتها المحورَ الأساسي للاقتصاد الأمريكي، لكنها ليست المحور الوحيد؛ أو أن ليس لها بدائل. وكما قال الصحفيون في صحيفة «بلومبيرج» الأمريكية، «لا تقلق. سوف ننجو من أزمة بيع الصين للديون الأمريكية.»
ثمَّة مخاوفُ بشأن زيادة حجم الديون الأمريكية. وقد شجَّع الإقبالُ على السندات الحكومية الأمريكية على مواصلة الاقتراض. ولكن، ولحسن الحظ، لا تزال سندات الحكومة الأمريكية رائجةً في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في الصين. لطالما كانت اليابان من المعجبين بالملاذ الآمن الذي وعدت به سندات الخزانة الأمريكية؛ وكانت الصين تحذو حذوَها فقط. تفوَّقت اليابان على الصين كأكبر جامع لهذه الأوراق المالية في عام ٢٠١٦، مما يعني أنها تمارس حتى سلطة أكبر على الولايات المتحدة.
وفي أعقابهم يأتي أكبرُ حاملي السندات الأمريكية، وهم ليسوا من بين القوى العظمى على الإطلاق. فقد احتُفظ بسنداتٍ تبلغ قيمتها نحو ٢٣٠ مليار دولار في أيرلندا في عام ٢٠١٦. بل إنَّ الأمر لافتٌ للنظر أكثرَ في جزر كايمان. فمنطقة البحر الكاريبي الصغيرة، التي يبلغ عددُ سكانها ٦٠ ألف نسمة، هي موطنٌ لسندات خزانة أمريكية تبلغ قيمتها ٢٦٥ مليار دولار. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، ليس البنك المركزي هو الذي يمتلك هذه السندات، بل شركات. جعلت القواعدُ الضريبية السخية للغاية جزرَ كايمان وأيرلندا تحظى بشعبيةٍ كبيرة بوصفها ملاذًا آمنًا لصناديق التحوُّط والمؤسسات المالية الأخرى، وتحتاج حتى أكثر الشركات المالية نجاحًا إلى وضْع بعض الأموال في أماكنَ آمنةٍ مثل سندات الخزانة الأمريكية. يتناول الفصل الثامن المزيدَ عن تلك الشركات الناجحة في عالم المال.
لكن لماذا يسير الاستثمار في اتجاهٍ واحد فقط، من الصين إلى الولايات المتحدة؟ فلدى حكومة الصين سنداتٌ خاصة بها، كما هي الحال في اليابان ومعظم البلدان الأخرى. لكن الصين كانت تتصرَّف بشكلٍ غيرِ معتادٍ في حظرها لملكية الجهات الأجنبية لسنداتها التي تبلغ قيمتها ٩ تريليونات دولار. فلم تكن لدى المُسَيْطِر رغبةٌ في أن يخضعَ للسيطرة، كان ذلك حتى يوليو ٢٠١٧، عندما أعلنت بكين أنها ستسمح بمثل هذه المبيعات كجزءٍ من خطوةٍ لفتح أسواقها المالية لجذب النقد الأجنبي. قد تكون هذه بدايةً لتحوُّل آخرَ في القوى الإقليمية والعالمية.
قد تكون البلدان متورطةً في علاقةِ تبعية متبادلة مضطربة، ولكن هذا لا يعني أن الصين يمكن أن تجبر الولايات المتحدة على الاستجابة لمطالبها. فهناك الكثير من البلدان الأخرى التي تنتظر الفرصةَ لتحل محلَّ الصين، وتسعى للحصول على النفوذِ والأمن المتمثِّل في امتلاكِ السندات الأمريكية. لكن هذا يوضِّح فقط مدى ارتباطنا في جميع أنحاء العالم. إذ يمكن أن يؤثِّر مسئولو البنوك المركزية في بكين أو طوكيو على مصائرِ أولئك الذين يتجوَّلون في ممرات «وول مارت» تمامًا كما يؤثِّر هؤلاء المتسوِّقون الأمريكيون على المصائر في شينزين.
•••
من خلالِ جمعِ كلِّ هذه الدولارات، منحت الصين نفسَها كميةً هائلة من الثروة والنفوذ خارجَ أراضيها. كلما زادت أرباحها، زادت قوَّتها. ومع ذلك، فهي لعبة دائمة التغير؛ إذ تتنافس بلدانٌ مثل فيتنام وكوريا الجنوبية للتغلُّب على هيمنة الصين على الصادرات.
تواجه الصين مخاطرَ من جميع الجهات. فإذا كانت الولايات المتحدة مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا — وقد يقول البعض إن هذا الارتباط وثيقٌ أكثر مما ينبغي — بالصين، التي تمتلك الكثيرَ من ديونها، فإن الصين مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا أكثرَ من اللازم بالأسواق التي تبيع فيها سِلَعَها. وهذا يجعلها عرضةً للخطر. فهي تعتمد بشكلٍ أكثرَ من اللازم على الدولار. الأمرُ كلُّه يتعلَّق بمصدر النمو، والذي يمثِّل تحديًا يواجه كلَّ بلد. ولكن ما هو النمو؟ وكيف يحدث؟
كي يتحقَّق النموُّ في اقتصادٍ ما، أنت بحاجةٍ إلى زيادة دخْله، أو زيادةِ إجمالي الناتج المحلي. كما يوحي الاسم، فإن إجمالي الناتج المحلي هو إجمالي كلِّ ما يُنتَج في الدولة خلال عام واحد: في المزارع ومواقع البناء والمصانع مثل «مينجتيان،» وفي المكاتب، سواء كانت تحت سيطرة القطاع الخاص أو العام. ثمَّة ثلاث طرق لقياس إجمالي الناتج المحلي: جمع كلِّ ما أُنفق، أو كلِّ ما أُنتج، أو أرباح الجميع. هناك الكثيرُ من الخيارات لزيادةِ نمو إجمالي الناتج المحلي، أو في الواقع، جعْل البلادِ أكثرَ ثراءً. تمامًا مثل ثلاثة توائم متطابقة، فلا توجد طريقةُ قياسٍ أفضل من الأخرى، وقد تُظهِر كلٌّ منها اختلافاتٍ صغيرة. فلا مفرَّ من وجود اختلافات طفيفة عند حساب إنتاج الملايين من الأشخاص والشركات.
ركَّزت الصين على الصناعة والتصنيع. من الجيد جدًّا إنتاج السلع، ولكن مَن سيشتريها؟ قد يعني ارتفاعُ دخل الصين أن عمالها يتمتَّعون بقدرٍ أكبرَ من القوة الاستهلاكية، لكن تأثيرها لا يزال متواضعًا نسبيًّا مقارنةً بالسوق الأمريكية التي تلوِّح بالدولار. من المنطقي تركيزُ الجهود على جذب المستهلكين الأمريكيين: ليس فقط لأنهم قادرون على شراء الكثير، ولكن يمكنهم أيضًا — كما هي الحال مع اﻟ «آيفون»— تحمُّل سعر أعلى دون الكثير من التفكير.
ومع ذلك، فإن المراهنة على المستهلكين الأثرياء في الخارج لتحقيقِ الثراء للصين يمكن أن يكون استراتيجيةً محفوفة بالمخاطر؛ أي سلاحًا ذا حدين. أو لمزيد من الخلط بين الاستعارات، كما يقول المثل في بكين، «يمكن للمياه أن تحمل القارب وأن تقلب القارب أيضًا».
ماذا يحدث إذا توقَّف الطلب على الصادرات؟ في أعقاب الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، تراجعت التجارة العالمية في الفترة بين أكتوبر ٢٠٠٨ ومارس ٢٠٠٩. مقابل كلِّ ست سلع بِيعَت سابقًا، بِيعَ خمس فقط بحلول نهاية شهر مارس. لقد تأثَّر الطلب بشدة على السلع في الولايات المتحدة، بشكل خاص، حيث نشأت الأزمة. كان درسًا: ففي الوقت الذي تكون فيه الحكومة الصينية قادرةً دائمًا على الاعتماد على سوق سندات الحكومة الأمريكية، فإنها لا تستطيع الاعتمادَ دائمًا على إنفاق لورين ميلر جزءًا من راتبها في المتجر في يوم صرْف الرواتب. هذا صحيح، لا سيما إذا كانت لورين تخشى على ميزانية الأسرة في الشهر التالي أيضًا.
أثناء فترةِ الازدهار الاقتصادي، انتشرت المصانع ووحدات التصنيع الصينية انتشارَ الحشائش؛ كانت مصانع الصلب تعمل بأقصى جهد. كانت الصين تنتج أكثرَ مما تستطيع بيعه. ولأن هذه هي الصين، فإن المتضررين كانوا إلى حدٍّ كبير شركاتٍ مملوكة للدولة. لقد ظلَّت الحكومة تعاني تَبِعات الأمر، وأكوامًا من البضائع غير المبيعة. كان يجب أن تنظر إلى جاراتها من الدول لإبقاء نيران النمو مشتعلة. فقرَّرت الحكومة أن الوقت قد حان للمستهلك كي يتحمَّل المسئولية.
ما تريده الحكومة الصينية هو أن يكون شعبُها مثل لورين ميلر. إن الحكومة لا تودُّ أن يكتفيَ الشعب بالإنفاق على السلع الأساسية، مثل الطعام والشراب، ولكنها تودُّ أن ينفق الشعبُ اليوان في بعض الأحيان على المُتَع. هذا النوع من الإنفاق هو الذي يصنع الفارق في نمو الاقتصاد ككل. لقد وصلت الأسر الصينية، في المتوسط، إلى النقطة التي أصبح فيها هذا النوع من الإنفاقِ العابثِ في متناولهم. وهناك مخزونٌ ضخم يجب استغلاله. تكسِب الأسر الصينية الآن نحوَ خمسة تريليونات دولار كل عام.
إنه تحوُّل كبير في عقلية كلٍّ من الحكومة والشعب الصيني، والنتيجةُ هي أنه في الصين، خلال النصف الأول من عام ٢٠١٦، كان مصدرُ ما يقرُب من ثلاثة أرباع النمو هو ما أنفقه مواطنوها. تراجعت المنافسةُ على دولار لورين ميلر المتمثلةُ في تصدير راديو إلى الولايات المتحدة. مع زيادة الدخل، حازت الماركات المتميزة الأجنبية على مبيعاتٍ واسعة في الصين. وقفزت عائداتُ شُباك التذاكر بنسبة ٥٠ في المائة في عام واحد فقط. وأصبح السفر إلى الخارج مغريًا: فقد قام نحو ٧٠ مليون صيني برحلة إلى الخارج العامَ الماضي. والصين الآن هي أكبرُ صانعِ سيارات في العالم. وهي سوقُ سيارات الدفع الرباعي — السيارات الفارهة المُستهلِكة لكمياتٍ كبيرة من الوقود والمرادِفة للنزعة الاستهلاكية الأمريكية — التي حقَّقت نجاحًا سريعًا. علاوة على ذلك، لأول مرة، في عام ٢٠١٥، كان قطاع الخدمات — وفي ذلك المتاجرُ والمطاعم وما شابه ذلك — يمثِّل نصفَ الناتج في الاقتصاد.
يمكن لهذه الحركةِ التجارية المتزايدة في الصين أن تساعد الولايات المتحدة أيضًا، ولكن ربما لن تساعد هؤلاء الموجودين في فلينت بولاية ميشيجان. إن لدى الصين فائضًا تجاريًّا مع الولايات المتحدة يبلغ ٣٦٧ مليار دولار. يُعرَف هذا أيضًا باسم الميزان التجاري المرئي للبلد؛ لأنه يشمل السلعَ المادية التي يمكن رؤيتُها وحسابها بسهولة. ولكن ثمة أشياء أخرى يجري تداولها عبْر الحدود — الخدمات في المقام الأول — والصين لديها رغبةٌ كبيرة في الاستفادة من هذه السلعِ غير المرئية التي تنتجها أمريكا. بادئ ذي بدء، هناك هوليوود: فقد وُوفِق على عرض ٣٤ فيلمًا أجنبيًّا فقط على شاشة السينما كلَّ عام في الصين، لكن أفضل الأفلام الأمريكية — والأفلام الفاشلة — تتصدَّر بانتظام قوائم شباك التذاكر. يمكن أن تتجاوز العروضُ في دُور السينما الصينية نظيرتها الموجودةَ في الولايات المتحدة في غضون بضع سنوات، مما يعكس الحجمَ الهائل للجمهور. تكسِب الولايات المتحدة أيضًا من هؤلاء السائحين الصينيين، الذين استفادوا من ارتفاع دخْلهم وأنفقوا ٢٥٠ مليار دولار أمريكي على السفر في عام ٢٠١٥. أضِف إلى ذلك الإنفاقِ على التعليم وتراخيص البرمجيات والتمويل وبعض المجالات الأخرى، أن الصين هي رابعُ أكبرِ مشترٍ أجنبي للخدمات الأمريكية. في هذا المجال التجاري، حقَّقت الولايات المتحدة بالفعل فائضًا مع الصين بلغت قيمته ٣٧ مليار دولار في عام ٢٠١٦. ومع ذلك، بشكلٍ عام، لا تزال الصين تحقِّق فائضًا فيما يُعرَف باسم «رصيد الحساب الجاري» مع الولايات المتحدة، وهو إجمالي جميع الإيرادات والمصروفات.
ومع ذلك، يجدُر بنا أن نتذكَّر أنه من غير المرجَّح أن تكون معظم الأرقام في الاقتصاد دقيقةً بنسبة ١٠٠ في المائة. إذا جمعنا العجزَ والفائض في ميزانيات بلدان العالم أجمع، فلا بد أن نجدهما متعادلَين. لكنهما ليسا كذلك. فوفقًا لصندوقِ النقد الدولي، حقَّق العالَم فائضًا في الحساب الجاري بنحو ٢٥٠ مليار دولار في عام ٢٠١٥. كيف يكون ذلك ممكنًا، إلا إذا كنا في فورة تسوُّق بين المجرَّات؟ الحقيقة هي أن حساب قيمة السيارات وأجهزة الراديو أثناء شحنها إلى الخارج أمرٌ سهل نسبيًّا، في حين أن التسجيل الدقيق لقيمة كلِّ خدمة تتم هو أمرٌ أكثرُ صعوبة. ثمة عنصرُ خطأ دائمًا في حسابات الأعمال التجارية: فقْدُ النقودِ فعليًّا في الجزء الخلفي من الأريكة.
بدأت النُّخبة في الصين في الإنفاق مثل الأمريكيين، لأنهم بدءوا يكسِبون مثلهم، سواء عند شراء المنتجات والخدمات المحلية، أو الواردات العالية القيمة. من الصعب دائمًا حسابُ ثروات الأثرياء بشكلٍ دقيق، خاصةً في بلدٍ غامض مثل الصين. لكن كان يُعتقد أنه يوجد بالبلاد أكثر من ١,٥ مليون مليونير في عام ٢٠١٦. ماذا عن فاحشي الثراء؟ يوجد في الصين نحو ٣٠٠ ملياردير، ويزدادون بمعدل ملياردير واحد كل خمسة أيام، وفقًا لمصرفيين في بنك «يو بي إس». في إشارة إلى كيفية تغيُّر الاقتصاد العالمي، تنحدر اثنتان من كل ثلاث نساء من صاحبات المليارات العصاميات من الصين. يشكِّل فاحشو الثراء نسبةً صغيرة، ولكنها نسبة لا يُستهان بها من السكان، ومدى تأثير هذه الفئة واضح. من «برادا» إلى «بربري» إلى «شانيل»، يُصنَّع ثلث مبيعات العلامات التجارية الفاخرة الآن في الصين.
في الوقت الذي ينغمِس فيه الأثرياء الجدد في ساعاتهم وحقائبهم الباهظة الثمن، فإن التغيُّر في نمو الصين قد يكون له ثَمن. فقد قفز حجم القروض المعدومة بشكل حادٍّ منذ عام ٢٠١٠. مواقف من هذا القبيل أدَّت إلى أفول نجم الولايات المتحدة وأوروبا بسبب الأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٨. أعرب المعلِّقون الإعلاميون في جميع أنحاء العالم عن قلقهم من أن الصين ربما تكون قد تعلَّمت من نجاحات الغرب لكنها لم تنتبه لإخفاقاته.
وبصرف النظر عن هذه المخاطر، يصبح تأثيرُ القوة الاقتصادية المتنامية للصين أكثرَ وضوحًا مع استمرار استعراض المستهلكين لقوَّتهم المالية ونمو الصين كسوق للبلدان الأخرى. ومع ذلك، فإن استهدافَ الصين لأعدادٍ ضخمة من المستهلكين في الوطن ليس كافيًا لتلبية طموحاتها. مع كل تلك الدولارات المُكتسَبة من الخارج تأتي الفرصة لاكتساب السلطة، وهناك استثماراتٌ تجلِب مكافآتٍ ماليةً أعلى من الأسهم أو السندات. ففي النهاية، هناك حدٌّ لعدد السندات التي يريدها البلد. والأفضل من ذلك هو إمكانية أن يوفِّر هذا الخيار فرصَ العمل والأعمال للشعب، وربما طريقة لاستخدام الآلات التي تُركت عاطلةً عن العمل بعد انخفاض الطلب على الصادرات.
حان الوقت لزيادةِ الاستثمار في الخارج. هذه خطوة سهلة بالنسبة إلى رئيس البنك يي هويمان، الذي شهد استفادةَ الكثير من الشركات الأجنبية من بناء المكاتب والمصانع في الصين. على نحوٍ متزايد، قرَّرت الصين أنها تريد هي الأخرى أن تكون أحدَ هؤلاء المستفيدين، وأن يكون لها دورٌ في مكان آخرَ.
إن روابط التجارة العالمية ليست بالأمر الجديد. فقد كان طريق الحرير الأصلي شبكةً من الطرق التجارية التي أُنشئت منذ ما يزيد على ٢٠٠٠ عام في عهد أسرة هان في الصين. لقد ربط طريق الحرير المناطقَ التجارية في العالم القديم، من الشرق إلى الغرب. وفي القرن الحادي والعشرين، أسدل الرئيس شي جين بينج الستارَ على طريق الحرير الجديد الخاص به لتعزيزِ قوة الصين. وهو يدَّعي أن من المزمع تيسيرَ سبيل سلام وشمولية وتجارة حرة للتخلُّص من الحروب التجارية القديمة وإدخال شكل جديد من الدبلوماسية الاقتصادية. تركِّز الخطة على بناء شبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة وخطوط أنابيب الوقود التي تربط الصين بجنوب شرق ووسط آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، بدعمٍ من الأموال الصينية. هل تبني الصين الجسورَ أم إنها، كما يقول منتقدو البلاد، تستخدم ثرواتها الجديدة لبسط سيطرتها؟
كما هي الحال مع جميع الرحلات الخارجية إلى أماكنَ بعيدة، هذا مشروع مليء بالإثارة، والمخاطر. لقد كانت تلك المخاطر تغييرًا كبيرًا بالنسبة إلى الصين، لكنها تعاملت معه. هذا يعني أن دولارنا ليس مُقدَّرًا له أن يظل حبيس الخزائن في شارع بكين المالي. لقد وُضع في حقيبةٍ وأصبح جاهزًا للمرحلة التالية من رحلته: العودة عبْر سبع مناطق زمنية إلى نيجيريا، حيث يُؤخذ إلى خط السكة الحديدية في رحلة استكشافية.