يوم سيئ في العمل لسادة العالم
إيميلي مورجان على مكتبها عند الساعة السابعة صباحًا. تتصفَّح بحماسةٍ المعلومات على شاشة الكمبيوتر الخاص بها بينما تمسك في يدها الأخرى فنجان قهوة، وكانت قد فرغت من قراءة الصفحات الوردية لجريدة «فايننشال تايمز» أثناء رحلتها في مترو الأنفاق بلندن. إنها تعمل في طابَق المداولة في أحد البنوك الكثيرة الموجودة في الحي المالي. وفي هذا الوقت يكون الهواء مفعمًا بالترقُّب، والكافيين، وبرائحة شطائر اللحم.
يجلس مئاتٌ من زملائها على مكاتبهم في صفوفٍ منظَّمة، وتومض عدةُ شاشات ببيانات سريعة التغيُّر، تلقي الضوءَ على التحديثات. إنهم يمضون الوقتَ بينما تحل الساعة الثامنة صباحًا، عندما تفتح أسواق بورصة لندن، لتنتقل الجنيهات — والدولارات — من يدٍ إلى أخرى بمعدَّل أعلى بكثير من أن يُحصى. يسود الأجواءَ نوعٌ من التوتُّر الصامت.
إيميلي عاملةُ مبيعات تتعامل مع عملاء البنك الذين يملكون كميةً كبيرة من النقود التي يريدون استثمارها. والأشخاص المشابهون لها قد يعملون نيابةً عن صناديق التقاعد، أو البلدان الغنية، أو البنوك الأخرى.
إنها «الوسيط» الذي يربط المتعاملين لدى البنك بعملائها: وهي في هذه الحالة تتوسَّط بين هانز وصندوق التقاعد الخاص به. سيحصل هو وإيميلي على نصيحةٍ من زملائها — المحللين والاقتصاديين — الذين تعمل كرتُهم السحرية على استكشاف الاستثمارات الأكثر ربحًا. ثم تمرَّر طلباتها إلى المتعاملين، الذين يعكفون كما هي الحال في أي سوق على تقييم العرْض والطلب، وإبلاغها بالسعر الحالي. إذا كان السعر مناسبًا، فإن الصفقة تستمر. وبثقة هانز فيها بوضع دولاراته معها، فإنها تريد شراءَ بعض الأصول الأمريكية من البنوك الأمريكية. ويمكن لهذا البنك بالتأكيد أن يسلِّم الأموال بنقرة واحدة، وكما سنرى، فإن هناك مشترين ينتظرون لاقتناصِ هذا الدولار نفسِه.
•••
تشير الساعات الجدارية أعلى مكتب إيميلي إلى التوقيت في طوكيو ونيويورك وسيدني وبيونس آيرس. ليست لندن العاصمةَ المالية لأوروبا فحسب، بل إنها العاصمة المالية للعالم بأسْره. فهي تقع في وسط النطاقات الزمنية للعالم: بعد خمس ساعات من توقيت نيويورك، وقبل تسع ساعاتٍ من توقيت اليابان. واللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية للأعمال اليوم؛ حتى الآن.
إن الدولار الذي يقدِّمه هانز لا يشكِّل سوى واحد من تريليونات الدولارات التي تمرُّ عبْر لندن يوميًّا. فالمال هو المُزلِّق الذي يُمَكِّن من سيرِ الاقتصاد العالمي بسهولة، وهو الوقود الذي يحافظ على استمرارية سبل العيش. وإدارة هذه الأموال عملٌ كبير جدًّا في المملكة المتحدة. تلتقي غالبية أموال العالم في لندن، وقد حدَث ذلك طَوال تاريخ المدينة الطويل والمميز.
«السكَّر والتوابل وجميع الأشياء الجميلة» هي سطرٌ من نشيد أطفال إنجليزي يعود إلى القرن التاسع عشر. وهو جواب عن سؤال: «ممَّ تُصنَع الفتيات الصغيرات؟» وهذا يصفُ بسهولةٍ ما وراء النظام المالي العالمي. في عام ١٦٠٠ أُسِّست شركة الهند الشرقية في لندن، لتجمع بين التجار الذين يبحرون حول العالم في عصر الاكتشاف الجديد. كان الهدف تسهيلَ نقل البضائع من الشرق الأقصى والاتجار فيها، وفي ذلك الحرير والملح والشاي. وقد عُرفت بأنها «شركة مساهمة» لامتلاكها العديدَ من المساهمين الذين يمتلك كلٌّ منهم جزءًا (حصة) من الشركة وبمقدورهم الاستفادةُ من نجاحها. وعلى خلاف المعتاد، فإنه إذا انهارت الشركة فإن المستثمرين لا يكونون مسئولين عن المخاطرة، فمسئوليتهم مقتصرة على قيمة حصتهم.
بعد عامين أنشأ الهولنديون شركةَ شرق الهند الخاصة بهم. سُمح للعامة بشراء حصص هذه الشركة وبيعها في السوق: بورصة أمستردام. كانت القدرة على المتاجرة بهذه الحصص هي ما جعل الشركة أكثرَ جاذبية للمستثمرين، مما ضمِن لها تدفُّق الأموال من أجل تحقيق النمو والازدهار. أُسِّست سوق لندن للأوراق المالية في القرن التاسع عشر. وبعيدًا تمامًا عن قاعات التداول اليوم، فإن أصلها يعود إلى مقاهي المدينة، حيث كان النبلاء يجتمعون لعدة سنوات من أجل النظر في قوائم أسعار السوق، واستثمارات التداول. كانت كلتا شركتي الهند الشرقية ناجحةً تجاريًّا (مع مُضي الشركة البريطانية قُدمًا كي تحكم الهند)، وكانت الإرثَ الذي مهَّد الطريقَ لمؤسسات الرأسمالية والمالية الحديثة، وهو النظام الذي تنمو قوَّته بالصناعة المالية.
ومع توسُّع الإمبراطورية البريطانية، أصبحت مدينةُ لندن القلبَ المالي للعالم، ولكن المالية العالمية الحديثة لم تبدأ حقًّا إلا في عام ١٩٨٦ عندما حدثت صدمة — «الانفجار العظيم» — عندما رفعت المملكة المتحدة القيودَ عن أسواقها المالية. وهذا يعني أنه لن يكون ممكنًا بعد الآن تداول الأسهم وجهًا لوجه على أرض سوق لندن للأوراق المالية باستخدام «المزايدة العلنية المفتوحة». وبدلًا من ذلك أصبحت المتاجرة الإلكترونية هي السائدة، وخُفِّفت القيودُ على مَن يستطيع المتاجرة — والثَّمن الذي يستطيع المتاجرة به.
لقد أصبحت لدينا التكنولوجيا التي بفضلها صارت التعاملات المالية في النظام المالي العالمي أسرعَ في القرن الحادي والعشرين، الذي يربط بين الأفراد والأموال على مستوًى كبير وغير مسبوق. وقد زالت القيود بين عشية وضحاها، مما أدَّى إلى مزيدٍ من التنافس. مُنحت المؤسسات الأجنبية دورًا أكبرَ في لندن. وأُزيلت القيود إلى الدرجة التي لا يضاهيها أحد، باستثناء الولايات المتحدة. وراجت لندن بوصفها مركزًا ماليًّا. لم تبلغ مساحة المدينة مدةً طويلة سوى ميل مربَّع، حيث يقع برج لندن في الشرق، و«بلاكفرايرز» في الغرب. ومع تضاعُف عدد المؤسسات المالية، تغيَّرت هذه الحدود لتشمل مقاطعةَ «كناري دوارف» في الشرق، التي كان بها العديد من المستودعات في الماضي، كما امتدَّت المدينة غربًا حتى حدودِ المناطق السكنية الأرستقراطية في بلجرافيا.
بحلول عام ٢٠١٦، أسهمت الصناعة المالية بنحو ١٨٠ مليار دولار في المملكة المتحدة سنويًّا، وأدَّت إلى احتفاظ أكثر من مليون شخص بعملهم. ومن ثَم أصبح هذا القطاع هو الأكثرَ ربحيةً في الاقتصاد، وقد مكَّن ذلك متاجرَ بيع الرفاهيات بالتجزئة وأسواق العقارات الفاخرة من الحفاظ على نشاطها، وأيضًا وَفَّر للحكومة مصدرًا ثابتًا للضرائب. وهذا أدَّى إلى ازدهار لندن ومنطقة الجنوب الشرقي ازدهارًا لا تشهده بقيةُ المملكة المتحدة. جعل هذا الازدهار الكثيرَ من الناس شديدي الثراء، وتوافد موظَّفو البنوك المهرةُ من جميع أنحاء العالم ليسكنوا في لندن. وفي هذه الأيام أصبح امتلاكُ مكتب في لندن خيارًا بديهيًّا لأي بنك أمريكي؛ لأنه يمكنه من خلاله العمل في مختلف أنحاء أوروبا. وتُعَد الرسوم والأرباح التي تكتسبها هذه البنوك من التعامل مع العملاء في الخارج بمثابة «صادرات» المملكة المتحدة من الخدمات المالية.
لم يغيِّر الانفجارُ العظيم حجمَ القِطاع المصرفي وانتشاره في لندن فحسب، بل إنه غَيَّر أيضًا الأفراد العاملين في هذا القطاع. ومع نهاية ثمانينيات القرن العشرين، استُعيض بشباب مبتهجين بقمصان مخططة يتناولون الشامبانيا عن الرجال من الطبقة المتوسطة العليا الأنيقة ذات الملابس الرسمية. وصل الشباب الصغار الطموحون إلى لندن. وانتهى زمن العادات الصارمة لآبائهم، الذين وُلدوا وترعرعوا في ظل الحرب العالمية التي ندُرت فيها الأموال والموارد؛ وعادت الوفرة. دُفِع لهؤلاء الشباب مبالغُ ضخمة من أجل كسب مبالغَ أضخمَ. كانوا يرغبون في العيش في شققٍ فاخرة والاستمتاع بحياة اجتماعية مبهجة وامتلاك بيوت على الشواطئ. لم يُصدِّق تجار السيارات الفاخرة ولا سماسرة اليخوت هذا الحظ الوافر.
وفي «وول ستريت» كان التباهي أكبرَ. فقد سُمِّي مطاردو الدولار الطموحون هؤلاء في رواية توم وولف المثالية «مشعل الأباطيل» التي تتخذ من نيويورك مقرًّا لها باسم «سادة الكون». وهم ليسوا بالضرورة من العائلات الثرية، فالوعد بثرواتٍ لا يمكن وصفُها قدَّم حافزًا أكبرَ للأشخاص الذين ينحدرون من خلفياتٍ أقلَّ ثراء. أصبح الجشَع صفةً إيجابية فجأة، كما قالت الشخصية الرئيسية في الفيلم الشهير «وول ستريت» عام ١٩٨٧، وذلك على جانبي المحيط الأطلسي (أي في أوروبا وأمريكا). ومع تطوُّر لندن وازدهارها، أصبحت الأجيال الجديدة من التجار أكثرَ تنوعًا — وزادت مشاركة النساء في التجارة. ولكن إيميلي لا تزال من الأقلية. فأقلُّ من شخصٍ بين كلِّ خمسة من العاملين في الخطوط الأمامية في مجال التجارة من النساء.
ومع وجودِ ثروات من شأنها أن تغيِّر حياةَ مَن هم في قمة هذا القطاع، يتطلب الأمر من الأفراد أن يتنافسوا لإيجادِ فرصةِ عمل وبناء مستقبل مهني لهم. إن إيميلي على دراية بأن أعداد الأشخاص الذين يحقِّقون تقدُّمًا في هذا القطاع تتناقص. فما يهمُّ هو عدد الأصفار التي يمكن أن تضيفها في ورقة الرصيد البنكي. فيُقصى ١٠٪ من الموظفين الأقل أداءً بانتظام من دون أيِّ تردُّد. وتحمي إيميلي كلَّ دولار تحصل عليه، كما توطِّد العلاقات مع عملائها. فإبقاؤهم في حالة جيدة يعني توجيههم نحو الاستثمارات الأكثر ربحيةً، وإغراءهم باستراتيجيات جديدة، ومنتجات مبتكرة تفوق ما هو متاح في أي مكان آخرَ، ويجعلهم يحصلون على مزيد من الأموال. لا يختلف عملُ إيميلي كثيرًا عن عمل الرجال الأنيقين الذين كانوا يتقابلون في مقاهي المدينة في القرن الثامن عشر: من أجل استغلال المال في جني مزيد من الأموال.
وحتى تترسَّخ دعائمُ الأسواق المالية، هناك حاجةٌ إلى بيئة آمنة ومستقرة، كالتي تمتَّعت بها لندن في القرن الثامن عشر (وكذلك أمستردام). فكان الإبداع الأساسي هو تقسيم مخاطر الاستثمار بين أصحاب رءوس الأموال المتعددين. وفي هذه الأيام، لكي ينجح كلُّ هذا، فإن هناك حاجة إلى بنية تحتية تنظيمية وقانونية معقَّدة، مع وجود اتفاقية ومعايير عالمية. ولكن لا تزال بعض المجالات غير مفهومة جيدًا، كما تظهر الفرص الجديدة طوال الوقت.
•••
لدى إيميلي العديدُ من خيارات الاستثمار التي تستطيع تقديمها لصندوق المعاشات التقاعدي الألماني، وقد أصبحت هذه الخيارات أكثرَ تعقيدًا وغيرَ معتادة على مر السنين. فالعدد الهائل من خيارات الاستثمار في الاقتصاد العالمي متزايد التعقيد هو أحد الأسباب التي تجعل الكثيرين منا لا يعرفون ما الذي يحدُث (ولا حتى ما يجب فِعله بمالنا الخاص) — وما الذي يجعل حتى الكثيرَ من البنوك والحكومات تجد صعوبةً في مراقبة جميع الأسواق المالية وخيارات الاستثمار.
يمكن لإيميلي أولًا تقديمُ خيار الاستثمار التقليدي، الأسهم والحصص (والتي تُعرف أيضًا باسم حقوق الملكية) — وهي تلك الشرائح الصغيرة من الشركة التي بيعت لأول مرة في أمستردام ولندن. وفي هذه الأيام تُباع في الغالب للمستثمرين بوصفها جزءًا من الاكتتاب الأولي العام، الذي، كما يوحي الاسم، يعني أن أيَّ شخص يمكنه شراءُ جزء صغير من الشركة. بالنسبة إلى الشركات، فإن تحوُّلها إلى شركة «عامة» بهذا الشكل يشكِّل طريقةً قوية لجمع المزيد من أموال الاستثمار، على الرغم من أن هذا يعني بالفعل أنه يجب على الشركة في هذه الحالة الاستجابةُ لطلبات أصحاب الأسهم. وقد أحدث عملاقَا التكنولوجيا «تويتر» و«جوجل» تأثيرًا كبيرًا عندما طرحا حصصَهما في السوق بهذه الطريقة.
هناك عددٌ من المستثمرين على نطاق صغير يمتلكون حصصًا في الشركات، وهذا يعني نظريًّا أن أيَّ شخص يمكنه أن يمتلك جزءًا من شركة. في ثمانينيات القرن الماضي، شَجَّعت خصخصة المرافق العامة في المملكة المتحدة — لأهداف واعتبارات سياسية منها زيادةُ كفاءة هذه المرافق وجعلها تخضع للمساءلة — العامةَ على امتلاك حصص في هذه الشركات. كان الهدف هو إشراك الأشخاص العاديين في النظام المالي، وكذلك تشجيع حسِّ ريادة الأعمال. ولكن لا يزال أغلب مالكي حصص الشركات هم مؤسسات استثمارية كبيرة مثل صناديق معاشات التقاعد.
إن القيمة السوقية للشركة هي المجموع الإجمالي لأسهمها. إذا كان هذا الرقم كبيرًا بما يكفي، فإن الشركة ستندرج تحت «مؤشر» أساسي في الدولة، الذي يُعَبِّر عن أسعار أسهم الشركات التي طُرحت للاكتتاب العام بهذه الطريقة. ففي المملكة المتحدة يشمل مؤشر «إف تي إس إيه ١٠٠» شركاتٍ يعرفها الجميع على مستوى العالم مثل العمالقة «فودافون» و«إتش إس بي سي». وتندرج الشركات الأقل ضخامة قليلًا تحت مؤشر «إف تي إس إيه ٢٥٠» الذي لا يزال معروفًا جدًّا في لندن، ولكن بدرجةٍ أقل على مستوى العالم. لدى غالبية الدول مؤشرٌ واحد على الأقل. تمتلك الولايات المتحدة «متوسط داو جونز الصناعي» (الذي يشمل أسعارَ أسهم ثلاثين شركة فقط)، و«ناسداك المركَّب» الذي يشمل الكثير من شركات التكنولوجيا، وكذلك «إس آند بي ٥٠٠» واسع الانتشار (الذي يشمل ٥٠٠ شركة). تمتلك فرنسا وألمانيا واليابان مؤشرات «كاك ٤٠» و«داكس» و«نيكي ٢٢٥»، بينما تمتلك الصين والهند «شنغهاي المركَّب» و«مومباي سينسكس»، وهما الأحدث. جميعُ هذه المؤشرات عبارة عن قياس قوة شركات دولها — أو ضَعفها. وكما هو الحال في سعر الصرف، فإن المؤشر يُعَد طريقةً أخرى لمعرفة القوة الاقتصادية لدولةٍ ما.
يقدِّم مديرو الاستثمار في الغالب صناديقَ مكوَّنة من مجموعة من الأسهم من هذه المؤشرات، وهو الخيار الشائع والأسهل للمستثمرين. فهم يأملون في الحصول على الأموال من حصة أرباح الشركة التي تدفعها للمساهمين، ويأملون أيضًا أن تزداد قيمة الحصص، بحيث تصبح ذات قيمة أكبرَ في حال رغبتهم في بيعها.
قد تنتقل الأسهم عدةَ مرات من شخصٍ لآخر، ويقوم المستثمرون ببيعها وشرائها لعدة أسباب. وكما هو الحال في تجارة النفط، فإن هناك «أساسيات» محدَّدة: وهي الأسباب التي تؤثِّر على ارتفاع سعر سهم عن سهم آخر، مثل زيادة الأرباح زيادة غير متوقَّعة بالنسبة إلى شركةٍ ما، أو تغيير مديرها. قد يتفاوت سعر السهم في «وول مارت» حسب حجم متوسط سلة العملاء.
وبالتأكيد فإنه ليس من السهل دائمًا الحصولُ على المعلومات الضرورية التي تتعلق بأداء شركةٍ ما. فلدى الشركات معلوماتٌ أكثرُ عن أدائها مقارنةً بالمعلومات لدى المستثمرين. ولذلك فإنه حريٌّ بالمستثمرين اللجوءُ أحيانًا إلى التخمين. وهذا مثالٌ على ما نسميه «عدم تناسق المعلومات». وبالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات نفسَها لا يمكنها التنبؤ بالمستقبل. فلا يمكننا أبدًا الحصول على معلومات دقيقة وكاملة.
في كثير من الأحيان يتعلق الأمر بالمشاعر: شعور غريزي حول مستقبل الشركة. قد يعتمد ذلك على تفسير الحقائق المتوافرة: مثل الشعور بأن تخطيطَ آخرِ متجرٍ ﻟ «وول مارت» سيكون مربكًا للعملاء. قد لا يكون الأمر حتى متعلقًا بالتوقعات حول الشركة، ولكنه يتعلَّق بالقطاع أو بالاقتصاد ككل، أو الشعور حيال سوق البورصة كله.
سيحاول المستثمرون أيضًا التنبؤ بما سيفعله المستثمرون الآخرون. وهذا النهج قد دفع الاقتصاديين إلى تشبيه سوق البورصة بالكازينو؛ إذ يقوم جميع اللاعبين بمحاولة تخمين الحركة التالية للاعبين الآخرين، وأن يكونوا أكثرَ ذكاءً منهم. وبالتأكيد فإن هذه المشاعر ليست صحيحة دائمًا. وقد شُبِّه ذلك أيضًا بعمليةِ تخمينِ نتيجةِ مسابقاتِ ملكاتِ الجمال؛ إذ يراهن المقامرون على الصورة — من بين مجموعة صور — التي ستُعَد الأكثر شعبية، وليس على المتسابقة التي يشعرون شخصيًّا أنها الأكثر جاذبية. وبالتأكيد فإن هذه المشاعر ليست صحيحة دائمًا هي الأخرى.
كلُّ هذا يعني أن الأسواق قد لا تعكس القيمةَ الحقيقية للاقتصاد أو للشركة، ومن ثَم لن تعكس بدقَّةٍ الوضعَ الحقيقي. بعبارة أخرى، فإنها غير فعَّالة دومًا.
وكما هو الحال في متجر المقامرة أو الكازينو، فإن المعنويات هي سيد الموقف — وهذه المعنويات هي التي تحدِّد كيف يُنظر إلى السوق ككل. فعندما يكون المستثمرون متفائلين، ويكون من المتوقَّع عامةً أن تزداد أسعار الأسهم، فإنها تسمَّى سوقًا صاعدة. ولكن إذا ظهرت علاماتٌ تُنذر بحدوث أزمة، يُقال إن الدببة قد خرجت، وعندما تنخفض سوق البورصة بنسبة ٢٠٪ أو أكثر على مدى ١٨ شهرًا، فإنها تُسمى سوقًا هابطة.
عندما يحدُث هبوط واضح في أسعار الأسهم، فإن كاتبي العناوين الرئيسية في الصحف يفضِّلون استخدامَ كلمة «الانهيار» ليخبرونا عن مدى التراجع في قيمة الأسهم. وهي واحدة من أكثر الكلمات الشائعة المُستخدَمة استخدامًا مُفرِطًا وغير دقيق من بين المصطلحات المالية. يحدُث انهيار سوق البورصة عندما تخسر سوقٌ ما، على سبيل المثال «إف تي إس إيه ١٠٠»، أكثر من ١٠ في المائة من قيمتها خلال يومين. ويحدُث هذا عادةً بسبب حدوث أزمة اقتصادية أو مالية، تتضخَّم فيما بعدُ بسبب الهلع. وهي صدمةٌ زلزالية استثنائية يتأثَّر بها ليس فقط المستثمرون، ولكن العالَم بأسْره. والأمثلة تشمل الكسادَ الكبير في عام ١٩٢٩ والأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨.
الأمر الأكثر شيوعًا، وإن كان لا يزال مؤلمًا هو التصحيح، وذلك عندما تنخفض أسعار الأسهم بنسبة ١٠ في المائة خلال فترة من الزمن. وهذا قد يحدُث أيضًا نتيجةً لصدمة اقتصادية، أو نتيجةً لشعور المستثمرين بأن توقعاتهم كانت عالية، وأنه حان الوقت لجعلها أكثرَ واقعية. يحدُث التصحيح عادةً بعد حدوث فقاعة، وهي التي تحدُث عندما تتضخم الأسعار كثيرًا، وتزداد حماسة المستثمرين وتفاؤلهم بإفراط.
كل هذا لا يحمل أيَّ جديد. ففي عام ١٧١١، تأسَّست شركةٌ عُرفت باسم «ساوث سيز» وقد اشترت «حقوق» التجارة في البحار الجنوبية، وهي المياه التي تحيط بأمريكا الجنوبية. وبتحفيزٍ من نجاح شركة الهند الشرقية، التي كانت أسهمها نادرةً، صار المستثمرون في لندن يرغبون في الاستثمار في شركة «ساوث سيز»، وتحقيق المكاسب التي لم يستغلها أحدٌ بعدُ والتي اعتقدوا أن الشركة ستحققها. ظهرت فجأة العديد من الشركات الطموحة الأخرى، بسبب رغبتها في امتلاك الأسهم. لم يلاحظ المستثمرون أن شركةَ «ساوث سيز»، وبسبب ضَعف إدارتها في الأساس، كانت تفرِط في الوعود، ولم تقدِّم سوى القليل على أرض الواقع، مع فقدان السفن، وتعفُّن البضائع. في حقيقة الأمر، كانت الشركة تروِّج لشائعات حول نجاحها باستمرار من أجل زيادة سعرِ أسهمها. وعندما ظهرت الحقيقة، عرف الأشخاص أنهم كانوا يدفعون مبالغَ ضخمةً مقابل أسهمٍ وعدت بعوائد قليلة، وأنهم اشتروها فقط لأنه بدا أن الأشخاص الآخرين يريدون شراءها. في عام ١٧٢٠، انهار سعر السهم، واختفت «فقاعة ساوث سيز».
وقبل أقل من قرن من تلك الأحداث، أدَّى الطلب الشديد على إحدى الأزهار التي كانت قد عُرضت مؤخرًا، وهي زهرة التوليب الباهظة الثمن، إلى تكهناتٍ محمومة في هولندا. فقد أنفق الأشخاص العاديون جميعَ مدخراتهم لشرائها، ظنًّا منهم أن بيعها سوف يجلِب لهم الثروة؛ لأنه قد بدا أن جميع الأشخاص يريدونها. ولكن السوق انهارت، وانهار معها اقتصاد البلاد.
واليوم، قد يستنتج قراءُ الصحف اليومية أنه قد لا يوجد شيء إيجابي أبدًا يتعلق بأسواق الأسهم، وأنها دائمًا تقف على حافة الهاوية. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تُوضع أموالنا التقاعدية فيها؟ فمستقبل أي شخص لديه معاش تقاعدي — الآن أو في المستقبل — هو على الأرجح مرتبطٌ بهذه الأسهم. إذا كنت تمتلك سهمًا فأنت على الأرجح تمتلك جزءًا صغيرًا من واحدةٍ من أكبر الشركات، ومستقبلك مرتبط بمستقبلها.
وقد ارتفعت مؤشرات الأسهم في المتوسط بنحو ٧ بالمائة سنويًّا منذ عام ١٩٥٠ في الولايات المتحدة (وهذا يختلف من مكانٍ لآخر حسب الدولة وتوقُّعاتها). ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى كون فوائد الشركة عمومًا تميل إلى الارتفاع، كما سنعرف في الفصل التاسع. وفي السنوات الأخيرة، ارتفعت الأرباح وأسعار الأسهم بوتيرةٍ أقلَّ سرعة، وهو أحد الأسباب التي أثَّرت سلبًا على صناديق المعاشات التقاعدية في الغرب. ولكن أسواق البورصة تستمر في الارتفاع عمومًا. كل ما هنالك أن عناوين مثل «الأسهم على ما يرام، شكرًا»، و«زيادة قيمة الأسهم بمقدار مليارات اليوم» ليست عناوين مثيرة.
إن جميع أسواق الأسهم تنطوي على درجةٍ من المخاطرة، على الرغم من أن المخاطرة تعتمد بالتأكيد على كلٍّ من الدولة والشركة. فربما يُنظَر إلى اقتصادٍ ناشئ أسرع نموًّا، مثل الهند، بأن أمامه آفاقَ نموٍّ أكبرَ لشركاته وأسهمه مقارنةً بحالِ أسواقٍ قديمة مستقرة مثل الولايات المتحدة، على الرغم من ارتباط ذلك بمخاطرة أكبرَ. وفي كل دولة، تكون بعض الشركات — كالشركات التي تنتج الغذاء أو الطاقة أو المستحضرات الدوائية — أقلَّ تأثرًا بتذبذبات الاقتصاد ككل، ومن ثَم فهي أقلُّ خطورة. فحتى في الأوقات الصعبة، لا يمكن للناس التوقُّف تمامًا عن تناول الطعام، أو تدفئة منازلهم، أو معالجة أمراضهم. وهناك أنواعٌ أخرى من الشركات أكثرُ ارتباطًا بتذبذبات الاقتصاد. فمبيعات الحقائب الفاخرة مثلًا تشهد تراجعًا كبيرًا في أوقات الكساد. ومن المثير أن مبيعات أحمر الشفاه عادةً ما ترتفع بوتيرةٍ أسرعَ عند حدوث كساد، فمستحضرات التجميل الرخيصة نسبيًّا ترفع المعنويات من فورها؛ فهي لمسة رفاهية ميسورة التكلفة، حتى عند محدودية المال.
ومع أخذ كلِّ هذه الأمور بعين الاعتبار، يمكن لهانز فيشر أن يضعَ جنيهات صندوق التقاعد تلك عن طريق إيميلي مورجان في الأسهم البريطانية. أو يمكنه اللجوءُ إلى الخيار المفضَّل القديم، وهو السندات، كما تفعل الحكومة الصينية والعديد من المستثمرين. أو يمكنه ببساطة الاستثمارُ مباشرةً في العملة نفسِها.
ربما يكون هناك سببٌ عملي لدى مستثمر كبير يدفعه إلى شراء عملة أخرى. فإذا كان لدى البرازيل مثلًا معدَّل فائدة مرتفع، فإنه يمكن للصندوق شراءُ عملة برازيلية، والاستمتاع بعائدٍ أكبرَ من خلال وضْعِ تلك النقود في حساب إيداع هناك. إن تحويل النقود بهذه الطريقة، من عملة دولة ذاتِ معدَّل فائدة أقل، يُعرف باسم «متاجرة المناقلة». وتحتفظ تلك العملة بالمستوى نفسِه من السيولة؛ أي إنه يمكن الحصول عليها وإنفاقها بسهولة. ويمكن للمستثمر أن يتنازل عن جزءٍ من هذه السيولة من أجل عائدٍ أكبرَ من خلال استثمار ذلك المال في الأصول البرازيلية؛ الأسهم أو السندات مثلًا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم معاملات العملات في الأسواق المالية تحرِّكها المعنويات والمضاربة. اسأل تاجرًا عن السبب وراء التحول الأخير في سعر الصرف، وقد تحصُل على إجابة غامضة: «الشراء العربي» أو «البيع الياباني». فرياح الرأي هي التي تتحكَّم في كل شيء، ويمكن أن تغيِّر اتجاهها وسرعتها في لحظة، حسب اتجاهات الأسواق فيما يتعلَّق بتوقعات معدلات الفائدة أو النمو في دولةٍ ما، أو حتى تجاه استقرارها السياسي. فكل تصريح يصدُر عن مسئول أحدِ البنوك المركزية أو أي قدْر ضئيل من البيانات الاقتصادية يكون موضعَ تحليل ودراسة؛ كما كان الحال مثلًا في هبوط الروبل الروسي عام ٢٠١٤.
المقولة القديمة حول تجار الأسواق تقول إنهم «يشترون بِناءً على الشائعات، ويبيعون بِناءً على الحقائق». فأن تكون قادرًا على التنبؤ بالمستقبل وأن تحدِّد اتجاه تلك العواصف وأن تتمكَّن من تحقيق الأرباح قبل غيرك هو كل شيء. يمكن القول إن العواطف تقود أسواقَ الصرف الأجنبي تمامًا مثل الحقائق المجردة المبنية على أسسٍ موضوعية. ولذلك فكما هي الحال في الأسهم، فإنه يمكن القول بأن العملات تعمل في سوقٍ تفتقر إلى الفعالية. فلا يعرف التجار أبدًا الصورةَ الكاملة حول اقتصادٍ ما، وتبقى المعلومات التي لديهم ناقصة. وذلك يعني أنه لا أحدَ يعرف ما الذي يشتريه عندما يشتري دولارًا أو جنيهًا أو يورو، ولا يعرف حتى إذا ما كان يدفع قيمةً عادلة مقابله.
يبدو أن جميع هذه الخيارات تتضمَّن بعضَ المخاطرة، كما أنها تبدو معقَّدة، ولكنها خيارات الاستثمار الأساسية، الخيارات القديمة الأكثر تفضيلًا. ولكن هناك أيضًا المزيد من الخيارات. قد يختار المستثمرون الأكثرُ مغامرةً الاستثمارَ مباشرةً في «المشتقات المالية».
يشمل مصطلح «المشتقات المالية» عددًا ليس بالقليل من المنتجات المختلفة. المشترك بينها هو أنها حرفيًّا تشتقُّ قيمتها من شيء آخرَ. فهي تشبه الكعك المُحلَّى في عالم الاستثمار: فهي مغرية، لكنها تفتقر إلى القيمة الغذائية الحقيقية. وهي أدواتٌ طُوِّرت من أجل السماح للمستثمرين بجني الأموال عن طريق أموالهم، ولكنها، على سبيل المثال، على خلاف الأسهم، لا تمثل استثمارًا فعليًّا، أو أيَّ شيء حقيقي على الإطلاق. وبطريقةٍ ما، فهي مجرد وعود — وأحيانًا تكون هذه الوعود جوفاء.
لنأخذ «الخيارات المالية» على سبيل المثال: فالخيار هو الحق في شراء (أو بيع، ولكننا سنستخدم عمليةَ الشراء كمثال الآن) الأسهم، أو السندات، أو البضائع، أو العملات الأجنبية في تاريخٍ ما بسعرٍ ما. لكنك لست مضطرًّا إلى شرائها، وهذا هو الفرقُ بينها وبين العقود الآجلة كعقود شراء النفط؛ إذ يكون المشتري ملزمًا بدفع السعر المتفق عليه في اليوم المتفق عليه. وهي تحمل مخاطرةً لكلا الطرفين. فبائعو ومشترو الخيارات المالية يراهنون أساسًا على ما يعتقدون أنه سيكون حال السوق في المستقبل، وبهذا فإن هذا الخيار يحمل مخاطرَ الخسارة.
استُحدثت المشتقات المالية في الأصل من أجل تقليل التعرُّض للمخاطرة؛ فهي تكاد تكون شكلًا من أشكال التأمين. لنأخذ خيارًا ماليًّا وليكن مثلًا شراء عدة براميل من النفط في خلال ثلاثة أشهر مقابل ٨٠ دولارًا أمريكيًّا للبرميل. إذا بيع الخيار مقابل ٢٠ دولارًا، فإن المشتري أصبح في مأمن من خطرِ ارتفاع أسعار النفط مقابل السعر المنخفض البالغ ٢٠ دولارًا، ويكون البائع قد ضمن ٢٠ دولارًا في جيبه في حال انهيار الأسواق. ومن المرجَّح أن يُقدِم المستثمرون على عدة رهانات من هذا النوع على سلعٍ مختلفة، من أجل توزيع المخاطر أو التحوُّط منها. وقد أصبح هذا فنًّا دقيقًا ومربحًا لدرجةِ أنه أدَّى إلى انتشار صناديق التحوُّط. يستخدم مديرو الصناديق معادلاتٍ واستراتيجياتٍ دقيقة، شديدة التعقيد، من أجل استخراج أكبر قدْر ممكن من الأموال من متاجرتهم. فشغلهم الشاغل هو جني الأموال، وليس الأصول الفعلية التي يشترونها، وهم يدرُسون الأسواق وأوضاع الشركات — من الاستحواذ إلى الإفلاس — بحثًا عن فرصٍ لجني الأموال. إنهم المقامرون المخضرمون الذين يراهنون على نتيجةِ كل مسابقة من مسابقات الجمال، ويمكنهم جني أموال طائلة من جرَّاء ذلك.
كان الغرض من المشتقات المالية هو التخلص من عنصر المخاطرة في الأسواق، ولكن في العديد من الحالات تُستخدم بغرض المضاربة، مما يزيد في الحقيقة من المخاطر. ففي الأسواق المالية (الكازينو الكبير)، حتى الخيارات والمشتقات المباشرة لم تكن مثيرةً بما يكفي لصناديق التحوط والبنوك وعملائها الأكثر ميلًا للمغامرة. أراد الكثيرون في بداية هذه الألفية إجراءَ المزيد من التجارب؛ لذلك استحدثوا أنواعًا أكثرَ من المشتقات. وهو عملٌ إبداعي، يطوِّر أدواتٍ مالية تُباع بضغطة زرٍّ. صحيحٌ أنها مجرد معادلات وأرقام على الشاشة، ولكن قد يكون لها تأثيرٌ كبير على أرض الواقع.
من الجدير بالذكر أن المشتقَّين المعروفَين باسم التزامات الديون المضمونة ومقايضات التخلُّف عن السداد اللذين كانا شائعَين بين البنوك في بداية القرن لم يخضعا للمراقبة. وهذا يعني أنهما لم يكونا خاضعين لإشراف المشرِّعين. وكان هذا خطأً كبيرًا؛ لأن هذه الحبوب السامة الصغيرة لوَّثت النظامَ المالي بكامله. كان الأساس وراء كل ذلك هو الدولارات، ولكن ليست دولارات صندوق التقاعد الألماني الكبير، ولا مصنع الأسلحة، ولا حتى مُنتِج النفط. لقد كانت الدولارات التي يمتلكها مالكو المنازل في أمريكا — أو لِنَقُل الدولارات التي لا يمتلكونها.
•••
تقع مدينة أورلاندو الموجودةُ بولاية فلوريدا على بُعد ٤٠٠٠ ميل من لندن، التي تقع على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي. وقد جذب مناخها المعتدل العديدَ من الأشخاص، ومنهم بولا ميلر، ابنةُ عم لورين، متسوقة «وول مارت» التي تحدَّثنا عنها. في عام ٢٠٠٢، انتقلت بولا إلى ولاية فلوريدا، ولكن سرعان ما شعرت بعدم الارتياح. ومثلها مثل الكثيرين في الولايات المتحدة، شجَّعت معدلات الفائدة المنخفضة والقواعد المتساهلة بولا على الحصول على رهن عقاري، بغض النظر عن امتلاكها عملًا أو أي نوع آخرَ من الدخل المنتظم. لم يكن المُقرِض مهتمًّا بالتحقق.
لماذا كان المال رخيصًا وسهلًا هكذا؟ لقد لعِب ألان جرينسبان («المايسترو»)، محافظ البنك المركزي الأمريكي، المُسمى أيضًا بنك الاحتياطي الفيدرالي، آنذاك، دورًا في حدوث ذلك. ففي عام ٢٠٠١، بدا الاقتصاد الأمريكي مضطربًا وتعثَّر الطلب من الخارج في أعقاب الأزمة الآسيوية. ثم جاءت الهجمات الإرهابية في ١١ سبتمبر. اضطربت الأسواق، وزادت المخاوفُ من اضطراب الاقتصاد هو الآخر. خفَّض البنك المركزي المعدلات الأساسية التي تستخدمها البنوك في الاقتراض بعضها من بعض. فقد كانت تمثل ٦٪ في بداية العام، وأصبحت ١,٧٥٪ فقط في نهايته. ومع زيادة المخاوف، ازدادت حدةُ الخفض في المعدلات، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى توافر القروض. فقد ازداد إنفاق المستهلكين، الذي يمثِّل ركيزةَ الاقتصاد، وشجَّع الائتمان على ذلك. لم تُرفع هذه المعدلات من جديد حتى عام ٢٠٠٤، وإن كان ذلك بعد فوات الأوان. ألم ينتبه المايسترو لمتطلبات وظيفته، ولم يُقدِّر مخاطرَ هذا الائتمان الرخيص السهل؟ كما سنرى، هذا ما حدث على الأرجح. كانت الوحوش، التي أدَّت في النهاية إلى هذه الأزمة، تتربص في الخفاء: إنهم المقترضون المفترسون الذين موَّلوا أحلامَ بولا، وقد شجَّعهم على ذلك ضَعف التنظيم والنظام الذي روَّج بقوةٍ لملكية المنازل.
وفي هذه الأثناء، كانت بولا تعيش حُلمَها الأمريكي في منزلٍ كانت تعتبره منزلها. لم يكن الأمر يتعلَّق فقط بامتلاكها منزلًا. بل إن قيمته كانت ترتفع؛ لذلك كانت تشعر أنها أصبحت أكثرَ ثراءً، وأكثرَ تساهلًا في إنفاق المال. لقد كانت تعتبر المايسترو منقذها.
كان المقرضون سعداء أيضًا. صار بمقدورهم إقراضُ حتى العملاء غير المستحقين للائتمان ممن اعتقدوا أن الظروف ستتحسن كثيرًا. فقد وجدوا طريقةً أخرى لتحقيق مكاسب من خلالهم. جُمعت قروض الرهن العقاري — الالتزامات التي يحتفظ البنك بها — مع الرهون العقارية من الولايات الأخرى لتشكيل أداةٍ مالية تُدعى «الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري» التي يمكن بيعُها إلى المستثمرين الذين «سيمتلكون» الدَّين بالطريقة نفسِها التي تمتلك بها الصين الديون الأمريكية عند شرائها السندات الحكومية. جُمعت الديون معًا لأن البنوك اعتقدت أن هذه طريقة فعَّالة لتوزيع المخاطر، وتجميع الأنماط المختلفة من العملاء من الولايات المختلفة، التي يوجد فيها طلبٌ متفاوت على الإسكان. وحتى لو كانت مجموعة المقترضين تتكوَّن من عملاء لديهم نقاطُ ائتمان منخفضة وحياة مهنية غير مستقرة، فإن احتمالية خسارتهم جميعًا لوظائفهم ضئيلةٌ نسبيًّا مقارنةً باحتمالية أن يحدُث ذلك لشخص واحد فقط.
لقد كانت عمليةً مالية معقَّدة أشبهَ بتحويل الحجارة والمِلاط إلى منجم ذهب. فلماذا التوقُّف عند هذا الحد؟ جمَع المقرِضون كذلك قروضَ السيارات وديون البطاقة الائتمانية في صورة حُزَم. شكَّلت هذه الحُزَم المختلفة التزامات الديون المضمونة. ومن خلالها، يلتزم بائعُ التزاماتِ الديون المضمونة بالدفع إلى المشتري إذا تخلَّف المقترِضون، مثل بولا، عن سداد أقساطهم. وفي المقابل، قُسِّمت التزامات الديون المضمونة هذه وغُيِّرت على نحوٍ متكرر، مما أنشأ التزاماتِ ديونٍ مضمونة مدعومة بالتزامات ديون مضمونة. وكما هي الحال في السندات الحكومية، لم يكن هناك انخفاضٌ في عدد الذين يريدون «امتلاك» — أو بالأحرى دعم — الديون الأمريكية، حتى لو لم يفهموها. فدَين أمريكا رائجٌ في جميع أنحاء العالم وصولًا إلى الصين وما بعدها. الجميع يريد أن يقرِض الأمريكيين، أو «يمتلك» ديونهم بعبارة أخرى. يعتبر الاقتصاد الأمريكي واحدًا من أكثر الرهانات أمانًا.
قدَّمت التزامات الديون المضمونة عوائدَ سخيةً للمستثمرين، وقد عُدَّت آمنة؛ وذلك يعود جزئيًّا إلى الوكالات التي تهدُف إلى تصنيف هذه المخاطر، وهي وكالات التصنيف الائتماني.
ونشأت حول هذه الديون المضمونة سياساتُ التأمين — مقايضات التخلُّف عن السداد — التي يمكن أيضًا بيعُها. يمكن لإيميلي مورجان وفريقها بيعُها إلى المستثمرين: البلدان الغنية وصناديق المعاشات التقاعدية في أنحاء العالم. شهدت صناديق التحوُّط تدفُّق المزيد من الأموال. كان يعني بيعُ هذه القروض أن بإمكان المقرضين محوَ قروضهم من الميزانيات العمومية ونقل المخاطرة الائتمانية المرافقة لها. كان معنى ذلك أنهم يستطيعون تحمُّل تكاليف تقديم مزيد من القروض لمالكي المنازل، وقد اقترضوا بالفعل مزيدًا من الأموال من البنوك الأخرى للقيام بذلك. ومع زيادة التعطُّش لمقايضات التخلُّف عن السداد هذه، تطلَّع المقرضون إلى مالكي المنازل المستقبليين الأقل أمانًا. وكان الإسراف الزائد في هذا الجانب هو الحالة الطبيعية.
إن تعقيد المنتجات المالية، في نظامٍ مبهم إلى حدٍّ بعيد، جعل الحكمَ على المخاطرة أمرًا مستحيلًا. لم تكن السوق قادرةً على التصرف بفعالية؛ إذ لم تكن معتمدةً على «الأساسيات». كانت غير مستدامة.
وبذلك، توقَّفت الحفلة حتميًّا. فخلال الفترة بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٦، قفزت أسعارُ الفائدة الأمريكية من ١٪ إلى ٥,٢٥٪ بينما حاول البنك المركزي خفضَ معدَّل النمو. لقد كان قلِقًا من نمو الاقتصاد والتضخم بمعدلٍ غير مستدام. وقد وجدت بولا ميلر نفسَها فجأةً عاجزةً عن سداد قرضِها. وانخفض الطلب. وأدَّى ارتفاع سعر الفائدة إلى تراجع اندفاع الناس نحو الحصول على قروض جديدة، ومن ثَم انخفضت أسعار العقارات. تخلَّف الناس عن سداد أقساط الرهن العقاري وتناقصت قيمةُ بيوتهم؛ إذ لم يرغب — أو يستطِع — أحدٌ شراءها.
وبدت قروضُ الرهن العقاري للعملاء الذين لديهم نقاط ائتمان منخفضة التي احتفظ بها المستثمرون أخبارًا سيئةً للغاية. وبحلول عام ٢٠٠٧، كانت هناك قروض بقيمة ١.٣ تريليون دولار أمريكي لأشخاصٍ يفتقرون إلى الموثوقية الائتمانية. وتكشَّفت عوراتُ التزامات الديون المضمونة. واضمحلت قيمتُها يومًا بعد آخرَ. بدا وكأن المستثمرين لم يفهموا حقًّا مدى سوء الاستثمار مع بولا؛ أو في سوق إسكان أورلاندو. ٤ من كل ١٠ من جيرانها لم يتمكنوا من دفْع ديونهم. وقد تكرَّر هذا السيناريو في جميع أنحاء أمريكا بدرجاتٍ متفاوتة. فكان الذين اشترَوا التزامات الديون المضمونة غافلين عن المصيبة. فهم لم يطَّلعوا على الأمور عن كثَب، وحتى لو فعلوا، فالأمر كان معقدًا بدرجةٍ يصعب التعامل معها.
كان أحد البنوك البريطانية هو الذي أطلق جرسَ الإنذار المبكر حول الأزمة التي تنشأ على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. في فبراير ٢٠٠٧، كشف بنك «إتش إس بي سي» النقابَ عن خسائرَ ضخمةٍ في القسم الخاص بالرهن العقاري الأمريكي. وبعد ستة أشهر، صدم بنك «بي إن بي باريبا» الفرنسي المستثمرين بتجميد ثلاثة من صناديقه الاستثمارية. وتعلَّل بعجزه عن وضعِ قيمة للأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري فيها؛ لأنه لم يكن يريدها أحدٌ.
إذا كانت البنوك لا تعرف ما إذا كان لأموالها أيُّ قيمة، فكيف يمكنهم الثقةُ بقدرة المنافسين على الوفاء بالديون؟ يزدهر النظامُ المالي من خلال اقتراض البنوك بعضها من بعض، الذي يشكِّل غالبيةَ أموالها. وفي كل مستوًى من مستويات الاقتصاد، يشكِّل المال والائتمان حلقةً من الثقة — من الإيمان فعليًّا — وحالما تنكسِر هذه الحلقة، يشهد الاقتصاد تراجعًا.
ومع تنامي المخاوف والشكوك، توقَّفت البنوك عن إقراض بعضها بعضًا، نظرًا إلى أنها لم تضمن استعادةَ أموالها. ومع تأثُّر النظام بأكمله، تعيَّن على كل بنك حفظُ أمواله الخاصة، لعجزه عن الاقتراض من أي مكان آخر.
ثم حَلَّت «الأزمة الائتمانية». ووجدت بنوكٌ عديدة نفسَها تعاني لتجميع النقود من أجل البقاء. وكان «ووتشوفيا» و«أوهايو سيفينجز» و«واشنطن ميوتشوال» و«بنك يونايتد» و«ليديان برايفت بنك» و«بنك أتلانتيك» من بين أكبر المقرضين في فلوريدا خلال الفقَّاعة. لقد سحبتهم الأزمةُ الائتمانية نحو القاع.
وبطبيعة الحال، لم يقتصر الألم على الولايات المتحدة فحسب: فالعمليات المصرفية تمتد إلى ما وراء الحدود الجغرافية. أدَّى تسلسل الأحداث العالمي إلى سلسلةٍ من الخسائر المالية. لم يكن بنك رويال بنك أوف سكوتلاند واحدًا من أكبر البنوك في العالم فحسب، بل كانت موازنته أكبرَ — بمقدار ٣ تريليونات دولار أمريكي — من إجمالي الناتج المحلي للمملكة المتحدة بأكمله. لقد صُدم وزير المالية البريطاني أليستير دارلينج عندما صرَّح رئيس بنك رويال بنك أوف سكوتلاند أن البنك على بُعد ساعاتٍ فقط من نفاد النقد لديه. يحصل البنك على قسمٍ كبير من أمواله من الاقتراض، ولكن عليه أيضًا ضمانُ وجود احتياطيات لدفعها لعملائه إذا تطلَّب الأمر. اقتُرحت خطةُ إنقاذ حكومية على وجه السرعة.
كانت البنوك والمؤسسات في جميع أنحاء العالم في حاجةٍ للإنقاذ على حد السواء. لم يكن الأمر ببساطة مجردَ استخدام لأموال الممولين بهدف إنقاذ أعمال البنوك. لكنها كانت منظمات تمتلك عملياتٍ تؤثِّر على مصائر مَن هم خارجها. خاطر الأشخاص العاديون بخسارةِ أموالهم وبيوتهم؛ كانت المؤسسات «أكبرَ من أن تفشل». ولكن في ١٥ سبتمبر ٢٠٠٨، أفلس أحدُ أكبر بنوك «وول ستريت» وهو بنك ليمان براذرز: البنك الذي يبلغ من العمر ١٥٠ عامًا ويحتفظ بأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري بلغت قيمتُها في وقتٍ من الأوقات ٥٠ مليار دولار أمريكي. وكما هي حال سعر سهم بنك ليمان براذرز، فإن هذه الأوراق المالية لا تكاد تساوي شيئًا.
وتضخَّمت كرةُ الثلج طبقةً تلو أخرى بالمشتقات المالية المُبالغ في تقديرها، وغير المفهومة بالقدْر الكافي، تلك المشتقات التي كانت منسوجةً في شبكة معقَّدة مع عادات الاقتراض لدى الأمريكيين العاديين. لقد كانت في الأساس مصمَّمة للحماية من المخاطرة ومن الخسائر. ولكن المشتقات المالية أصبحت أدوات مضاربة تُستخدم في كثيرٍ من الأحيان لتحمُّل المزيد من المخاطر بهدف زيادة الأرباح والعوائد. وفي حالة بنك ليمان براذرز، كانت النتيجة هي المحوَ المالي. وبالنظر إلى أن البنك لم يكن بأي حال من الأحوال كبيرًا على الفشل، كانت تكلفة إنقاذه باهظةً للغاية.
سعَت الحكومات سعيًا محمومًا خلال عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ لوقفِ هذا الركود. ولكن الثغرات التي اعترَت النظام المصرفي كانت تعني أن مواطني لندن وأورلاندو صار يجمعهم القلقُ والبلاء المحتمَل. وحيثما يحل القلق، يعاني الاقتصاد. ويتوقف الناس عن الإنفاق. وحين تقلُّ أموال البنوك، فإنها تتوقف عن الإقراض وتسحب الدولارات بعضها من بعض ومن العملاء. وأدَّى هذا الهلع الذي أصاب «وول ستريت» إلى انهيارٍ في الثقة والإنفاق في «مين ستريت» في الولايات المتحدة.
وهذا يعني أنه إذا لم يتحرك المال في جميع أنحاء النظام، يتوقَّف كل شيء. وإذا لم يكن الناس يرغبون في الإنفاق والمتاجرة وإقراض بعضهم بعضًا، فإن الأنشطة تتوقَّف ويصبح الانهيار الاقتصادي هو النتيجةَ المحتملة.
ومع تداول دولارات أقل، تتقلَّص الدخول وتُفقد الوظائف، خصوصًا في الغرب، حيث كان العملاء سابقًا قادرين على الاقتراض لتمويل إنفاقهم. كان التعافي مؤلمًا. وبعد خمس سنوات من أزمةِ الرهن العقاري في عام ٢٠١٢، صار حال بولا ميلر كحال نحو نصف مالكي الرهن العقاري في فلوريدا؛ حيث كانت لا تزال تمتلك منزلًا ثمنه أقلُّ من قيمة القرض الذي حصلت عليه لشرائه. بعبارة أخرى، كانت مَدينة بما هو أكثرُ من قيمة منزلها، ولكنها كانت من بين القلة المحظوظين. ففي محاولةٍ لإدارة الخسائر بما يكفي لمواكبة الدفعات، كانت لا تزال تحتفظ بمنزلها على الأقل. ولكنها كانت لا تزال متأزمةً وغاضبة. مَن الذي يستحق أن تلقيَ باللائمة عليه؟
كان من السهل الإشارةُ إلى هؤلاء الأسياد الجشعين. توقَّع ألان جرينسبان الذي كان يقود البنك المركزي الأمريكي أن تنظِّم البنوك أنفسَها بأنفسِها. لكن ذلك لم يحدُث. كان من الصعب مراقبةُ تلك المشتقات. لقد كان من المفترض أن تراقب وكالات التصنيف الائتماني مستوى الخطورة وتحدِّده، ولكنها كانت متهمة بأنها تخضع لسلطة البنوك، وأنها تغض الطرْف عن ممارساتها. وهكذا أفلتت البنوك أيضًا باستخدام أنماطٍ من الأموال الأشد خطورة والمُبالغ في تضخيمها والمشكوك فيها من أجل تجميع الاحتياطيات التي تحتاجها لضمان قوَّتها. وجدت البنوك نفسَها أيضًا «أكبرَ من أن تفشل». وعندما أدَّت الأزمة المالية إلى تبخُّر هذه الأموال، تكشَّفت الحالة المزرية للتمويل الأساسي لدى العديد من البنوك.
أصبح التنظيم الرقابي فجأةً هو الكلمة المستخدَمة في الولايات المتحدة وأوروبا. فقد فُرضت قوانينُ أكثر صرامة، تتحكم فيما تحتاج إليه البنوك من رءوس أموال موجودة تحت تصرُّفها من أجل ضمان ملاءتها المالية. وعلى نحوٍ مماثل، شُدِّدت القواعد التي تتعلق بما يستطيع العملاء اقتراضه وما تستطيع البنوك إقراضهم إياه. وتُحقِّق أكثرَ من الكفاءة الائتمانية للعميل. وهذا قد يكون أكثرَ أمانًا بالنسبة إلى النظام المصرفي، لكنه يضع أشخاصًا مثل بولا أمام مخاطرةِ عجزِها عن شراء منزل جديد. قد يصعُب تحقيق التوازن بين المخاطرة وتلبية الحاجة إلى مسكن.
فقدَ نحو ثمانية ملايين أمريكي وظائفهم في أواخر عام ٢٠١٠ بسبب انكماش الاقتصاد. وحتى الشركات الشهيرة — مثل جنرال موتورز وبعض الخطوط الجوية — كان ينفد ما لديها من نقود. دائمًا ما نقول إنه عندما تعطس أمريكا فإن بريطانيا تصاب بالزكام، تعبيرًا عن مدى الارتباط بينهما. ومن هنا فإنه من المؤكَّد أنه مع انكماش اقتصاد الولايات المتحدة لأكثر من ربعين متتاليين، دخلت المملكة المتحدة في الركود هي الأخرى. فزادت البطالةُ بأسرعِ معدَّل لها قرابة عَقدين. وانتشر الألم إلى أوروبا وآسيا. وحتى الصين ترنَّحت كما رأينا.
وبحلول عام ٢٠١٠، بدأت الأحوال الاقتصادية تتحول نوعًا ما بالنسبة إلى غالبية الناس. وعاد الاستقرار المالي إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولكن التداعيات الاقتصادية ظلَّت ماثلة. كانت المخاوف تتنامى حول التأثير على الأموال الحكومية؛ إذ أصبح ثَمن خطة الإنقاذ والحاجة إلى دعم الأسر الفقيرة واضحًا. وبدلًا من تقديم المساعدات لهذه الأسر، قرَّرت بعض الحكومات أن تكبح جِماح الإنفاق لسداد الديون التي نتجت عن الأزمة. وبينما كان هذا القرار سياسيًّا إلى حدٍّ كبير في المملكة المتحدة مثلًا، كان في اليونان بمثابة خطوة تهدُف إلى استرضاء أسواق السندات التي أصابها الهلعُ لضمان استمرار قدرة حكومتها على الاقتراض بسعر مقبول. في كلتا الحالتين، وجد المموِّلون أن هناك ثمنًا باهظًا يجب أن يدفعوه لقاءَ المساعدة التي تلقَّوها هم والبنوك مؤخرًا.
وشهدت الحكومات ارتفاعَ عجزها السنوي، وكان عليها اقتراض المزيد. وتضاعَف حجم الدَّين الحكومي البريطاني في أعقاب الأزمة المالية. وكان التقشف هو الكلمة الشائعة حينذاك. وللاحتفاظ بدائنيها — مشترِي سنداتها — ادَّعت الحكومات أنها بحاجة إلى إظهار سيطرتها على مواردها المالية. يمكن القول إن العاملين في القطاع العام رأوا رواتبهم قد تجمَّدت، وكان ذلك جزئيًّا في صالح المستثمرين في مواقعَ أخرى.
شهدت كلٌّ من إيميلي مورجان وبولا ميلر الأزمةَ عن كثَب، ولكن مصيريهما كانا مختلفين للغاية. ربما كان المقترِضون يُعوِزهم الشعور بالمسئولية، ولكن نسبة كبيرة من اللوم تقع على عاتق المقرِضين الذين خدعوهم، ونمط الأنظمة المعيبة الذي سمح بذلك. تعرَّض المصرفيون للهجوم لكن مكافآتهم ظلَّت قائمة. وفي الوقت نفسِه، شعر بقيةُ السكان بتأثيرات التقليصات الحادة في الإنفاق الحكومي. وعمومًا، بلغ معدَّل نمو الاقتصاد البريطاني نحو ١٪ سنويًّا في المتوسط منذ الأزمة، وهو أقلُّ من نصف معدل نموه السابق. وحل الاستياءُ وعدم المساواة محلَّ التهور. وسيتعين على الممولين الآن ومستقبلًا دفعُ ثَمن مقامرة المتداولين والإهمال غير المتعمَّد من جانب المشرعين.
في المملكة المتحدة وفي جميع أنحاء أوروبا، ازداد هذا الشعور أكثرَ مع توافد الناس من المناطق الأفقر في أوروبا بحثًا عن عمل. قد تكون إيميلي بحالة جيدة، ولكنَّ آخرين كُثرًا كانوا مرتابين وخائفين. شعروا أن حياتهم كانت تسير حسب رغبات المصرفيين و«الأوروبيين الأرستقراطيين» بأجندات مختلفة. وكما أشارت العناوين، أراد الناس «استعادةَ السيطرة». وكانت هذه المشاعر تتفاقم تفاقمًا من شأنه أن يسيطر على العالم.
•••
وفي ٢٣ يونيو من عام ٢٠١٦، أي بعد نحو عَقد من اندلاع الأزمة المالية، ضربت المملكة المتحدة موجةٌ زلزالية أخرى، عندما صوَّت ١٧٤١٠٧٤٢ بريطانيًّا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، متجاوزين بذلك ١٦ مليون شخص كانوا يرغبون في البقاء فيه. كانت نتيجةً لم يتوقعها سوى قلة قليلة. استيقظت إيميلي مورجان وزملاؤها على مستقبلٍ لم يكن في توقعاتهم. وانهار الطلب على الجنيه الإسترليني. لقد هبط إلى أدنى مستوياته منذ ٣١ عامًا، مع هروب المستثمرين نحو منطقة الدولار الأمريكي الآمنة.
أُثيرت مخاوفُ بشأن مستقبل الاقتصاد البريطاني. لا يمكن لأحد القولُ بالتأكيد ما إذا كانت المملكة المتحدة ستغدو أفضلَ أم أسوأ في نهاية المطاف. كانت الأسواق والمؤسسات تتوقَّع اضطرابًا شديدًا قصير الأمد، مع نقاشات واتفاقيات شاقة يتعين التوصُّل إليها في مئات المجالات. الأمر المؤكَّد الوحيد الذي حقَّقه هذا التصويت هو الشكُّ في المستقبل. والشك يصيب الأسواق بالتوتر. قد تكون هناك كازينوهات مليئة باللاعبين الذين يودون المراهنة، ولكن هذه الرهانات توضع بِناءً على شروطهم. فالنظام المالي — كما شاهدنا في أزمة ٢٠٠٨ — قادرٌ على امتصاص الصدمات الكبيرة في نهاية المطاف، لا سيما إذا حصل على دعمٍ حكوميٍّ كافٍ. ولكن حتى بالرغم من أن المتداولين مغامرون محنكون، تصيبهم حالةُ عدمِ اليقين بالقلق. وفي مواجهة التطورات غيرِ المتوقَّعة قد تتجمَّد الأسواق أو تصاب بالهلع وهو الأسوأ. يمكن لهذه الموجات الكبيرة من المشاعر والتوقعات أن تعاقبَ البريطانيين وعُملتهم إذا بدأ الناس يتشككون في مستقبل الاقتصاد، كما حدث في روسيا.
وبمنظور الاتحاد الأوروبي، بعد أزمة منطقة اليورو، كان هذا آخرَ شيء احتاج إليه فيما يتعلق بالثقة. اعتاد الاتحاد الأوروبي لعقودٍ مطالبةَ الدول بالانضمام إليه، أو على الأقل المشاركة في حُلم اليورو. وأدَّت مشكلات اليونان إلى التكهُّن بشأنِ ما إذا كانت منطقة اليورو على وشْك الانهيار، ولكن ذلك بدا مشكلةً محلية صغيرة. غير أن المملكة المتحدة كانت قد قدَّمت أوراق الانفصال. وكما هي الحال في جميع حالات الانفصال الصادمة، فإن التعامل بتحضُّر كان صعبًا. وقد تعهَّد الاتحاد الأوروبي، الذي أصيب بجروح عميقة، بالتعامل مع الموقف بغلظة، لأسباب ليس أقلها أنه لا يريد أن تحذوَ دول أخرى حذوَ المملكة المتحدة.
بمجرد أن قدَّمت المملكة المتحدة أوراق الانفصال، وبمجرد أن فُعِّلت المادة (٥٠)، صار أمام المملكة المتحدة نظريًّا عامان فقط لإكمال المفاوضات في مئات المجالات. وهذه الأنواع من الصفقات تستغرق سنواتٍ وربما عقودًا للاتفاق عليها. تغطي محادثات التجارة كلَّ شيء بدءًا من حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعيشون في المملكة المتحدة ومرورًا بحجم فاتورة التسوية الخاصة بالانفصال ووصولًا إلى قواعد المتاجرة في البضائع المصنَّعة. وهي تغطي جميعَ القطاعات بدءًا من الخدمات المالية ومرورًا بالملاحة الجوية وانتهاءً بالزراعة. وبموجب قواعد الاعتراف المتبادَل، أصبحت المملكة المتحدة نقطةَ التجمع المركزية لمالية العالم، أو بعبارة أخرى، بوابة المؤسسات المالية الأمريكية والآسيوية إلى الأسواق الأوروبية، الحارس على الدولار. وقد هدَّد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ذلك، خصوصًا مع منافسة فرانكفورت وباريس على الأعمال التجارية. وفي مواجهةِ هذا الشك، يمكن لبنك إيميلي مورجان كما هي الحال مع الكثيرين أن يختار مكتبًا في دبلن أو أمستردام يستطيع من خلاله الاستمرار في التعامل مع الاتحاد الأوروبي.
في حال عدم وجود اتفاقية بخصوص المملكة المتحدة فيما بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يتعيَّن على المملكة المتحدة اتباعُ قوانين منظمة التجارة العالمية، كما تفعل عند المتاجرة مع الدول الأخرى. وهذا قد يعني عودةَ التعاريف الجمركية والفحوص الجمركية والحصص وربما ارتفاع الأسعار وزيادة زمن الانتظار بالنسبة إلى الواردات ومرورها عبْر الحدود. وبالتأكيد فإن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي يعني أن المملكة المتحدة أصبحت حرةً في التطلع إلى شركاء آخرين في التجارة وفق شروطها الخاصة. ومع أنها لا تستطيع البدءَ في التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الخاصة بها حتى نهاية محادثاتها في عام ٢٠١٩، فإن الأعمال التجارية الفردية قد تُشعِر بعدم قدرتها على تحمُّل مجرد الجلوس والمراقبة من بعيد. فتلك الأعمال بحاجة إلى بناء بعض العلاقات الخاصة بها. قد توجِّه اهتمامها صوب الغرب: الولايات المتحدة هي أكبرُ سوقِ تصدير بالنسبة إلى المملكة المتحدة في قطاعات متنوعة بدءًا من الطاقة ومرورًا بصناعة الأفلام والتكنولوجيا ووصولًا إلى العمليات المصرفية.
يعمل سايمون جروفر في شركة كيمياء حيوية طموحة تطوِّر المنتجات التي تحسِّن من إنتاجية المحاصيل. وهذه المواد الكيميائية الحيوية قد تشكِّل اختلافًا حيويًّا بالنسبة إلى كبار المصدِّرين الزراعيين، كالولايات المتحدة أو الهند، المتطلعين إلى إطعام أعداد متزايدة من السكان والاستفادة من ذلك. يقع المقر الرئيسي للشركة شرق لندن في كامبردجشاير، التي يعتبرها كثيرون ردَّ المملكة المتحدة على وادي السيليكون. تحرص شركة سايمون على ترسيخ علاقاتها في السوق الأمريكية، بسبب خشيتها مما ينتظر أوروبا. يحزم مدير المبيعات سايمون أمتعتَه، لجذب بعض العملاء المحتملين في تكساس. وبطبيعة الحال، سيشتري دولارات.
كان شراء دولار واحد في عام ٢٠١٧ أغلى بكثير مما كان عليه في العام الذي سبقه، بسبب انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني بعد استفتاء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وتحوطًا من المخاطر المحيطة بالاستفتاء، أصدرت شركة سايمون بوليصةَ تأمين ضد هبوط الجنيه، أو أبرمت عقدًا لشراء مبلغ ثابت من الدولارات في تاريخٍ ثابت، أو حصلت على خيار لفعلِ ذلك. تُبرِم الشركات الكبيرة في جميع أنحاء العالم هذا النوعَ من عقود التحوُّط. وفي المملكة المتحدة، فهي تعني بشكل عام تأخيرَ هبوط الجنيه الإسترليني الذي كان له تأثيرٌ في ارتفاع أسعار الواردات في المتاجر والمحال الكائنة في الشوارع الرئيسية. ولكن هذه العقود عادةً ما تستمر عدةَ أشهر فقط. وبعد ذلك يجب على الشركات أن تمرِّر تكلفةَ الواردات الأعلى أو أن تتضرر أرباحها. وهذا يعني أنه بعد عدة أشهر من الاستفتاء، شهد المتسوقون البريطانيون بعضَ ارتفاعات الأسعار لأكثر من عَقد من الزمان عند شراء الأحذية أو القمصان.
يحتاج سايمون إلى النقود، التي سيحصُل عليها عند الوصول. ومع ذلك يشعر بأنه تعرَّض للاحتيال، بسبب الطريقة التي تغيَّر بها سعر الصرف. ففي عام ٢٠١٦، كان يمكن أن تكلف ١٠٠ دولار أمريكي سايمون مبلغًا قدره ٦٥ جنيهًا إسترلينيًّا، أما في عام ٢٠١٧ فقد ارتفعت التكلفة إلى ٨٠ جنيهًا إسترلينيًّا. ولا وجهَ لمقارنة ذلك بعام ٢٠٠٧ عندما كان المسافرون يحصلون على أكثرَ من دولارين أمريكيين مقابلَ الجنيه الإسترليني الواحد. فالجنيه الذي كان يستطيع به حينذاك القيامَ برحلة ٥ نجوم في هيوستن، صار يكفي بالكاد نفقات الإقامة في فندقٍ صغير شديد الرطوبة بإحدى الضواحي في عام ٢٠١٧.
وعلى العكس من ذلك، فإن ضَعْف الجنيه يجعل المملكة المتحدة صفقةً مربحة للزوار: بلغ عدد زائري المملكة المتحدة نحو ٣,٧ ملايين شخص في عطلة عيد الفصح في أبريل ٢٠١٧ وهو رقم يزيد بمقدار ٧٠٠ ألف شخص عن السنة السابقة. ومع زيادة أعداد الزائرين، زاد إنفاقهم، حيث أنفقوا ملياري دولار أمريكي على الفنادق والمطاعم والتسوق، وكان ذلك قبل الزيادة الكبيرة التي يشهدها عادةً فصلُ الصيف. وعلى العكس من ذلك، سافر عددٌ أقل من البريطانيين إلى خارج البلاد.
تلك كانت مكاسبَ قيمةً للمملكة المتحدة. فقد شَكَّلت السياحة نحو ٩٪ من إجمالي الناتج المحلي البريطاني حتى قبل عام ٢٠١٦. تعني زيادةُ أعداد الزائرين زيادةً في الطلب على الجنيه الإسترليني. وإذا كان ضَعف الجنيه الإسترليني يساوي صادرات بريطانية أكثرَ جاذبية، ألا ينبغي لهذا الطلب على الجنيه الإسترليني أن يدفع قيمته مجددًا إلى الأعلى؟ نظريًّا نعم. عمليًّا، نميل عامةَ إلى الاستمرار في الإنفاق على الصادرات وعلى السفر، حتى لو ازداد السعر، ويكون طلبنا غير مرن نوعًا ما، وننفِق ببساطةٍ المزيدَ.
وفي كل الأحوال، فإن العملة اللازمة لهذا النوع من التجارة والسياحة لا تشكل في واقع الأمر سوى جزءٍ صغير جدًّا من الصفقات بالعملات الأجنبية التي تتدفَّق إلكترونيًّا عبْر غرف التداول العالمية. وهذه الصفقات النقدية الواسعة هي التي تصنع الفارقَ في النهاية، وتحرِّكها آراء المستثمرين وتكهناتهم. فبعد استفتاء الاتحاد الأوروبي، ساور المستثمرين القلق بشأن مستقبل المملكة المتحدة الأقل إشراقًا، مما جعل استثماراتهم هناك أقلَّ جاذبية، ومن ثَم قلَّل ذلك من الطلب على عملتها. وهذا أدَّى إلى ضَعف الجنيه الإسترليني. هذه التداولات، التي تحفِّزها التحولاتُ المستمرة في توجهات المستثمرين، هي التي يمكن أن تؤديَ إلى حركات واسعة في العملة بشكل يومي، أو حتى كل دقيقة.
وفي هذه الأثناء، فإن دولارنا الأمريكي — الأغلى ثمنًا حاليًّا — بانتظار سايمون في الولايات المتحدة.