العودة إلى المستقبل
إذا عدنا بالنظر إلى الوراء إلى كيفية تغير فهمنا للحفريات وتاريخ الأرض بمرور الوقت، فإن باستطاعتنا تخمين كيف يمكن أن يتغير هذا الفهم مرة أخرى مستقبلًا. ومن الأقوال المأثورة الشائعة أن هناك علماء يعيشون الآن أكثر من كل أولئك الذين عاشوا في الماضي مجتمعين. والقول ذاته ينطبق أيضًا على الحفريات: فما جُمع من حفريات خلال الخمسين عامًا الماضية يفوق ما جُمع قبل تلك الفترة على مدار التاريخ. ولا بد في نهاية المطاف أن يصل معدل الاكتشافات إلى مستوى ثابت. في غضون ذلك، إذا حكمنا على الأمور من منطلق نمط الاكتشافات التي تمت خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، فمن المؤكد أن هناك منطقة معينة من الدراسة من شأن الاكتشافات الجديدة فيها أن تغير مفهومنا، وهي أول ٢٫٥ مليار عام من تاريخ الأرض والحلقات الحرجة في أواخر الدهر ما قبل الكمبري عندما ظهرت لأول مرة الأنواع الحديثة من الحيوانات والنباتات. ويمكننا أن نتوقع تحسين تقديرات تغير مسار التنوع خلال الدهر الفانروزي، وأن ننقح معرفتنا بأسباب كلٍّ من حالات الانقراض الجماعي والتنوع الجماعي للكائنات. غير أنه من المؤكد أن نسخة خاصة بعلم المتحجرات من قانون مورفي سوف تظل تقف حجر عثرة في طريقنا. وفي جميع الاحتمالات، فإنه في المستقبل، مثلما هو الآن، ستساعد الحفريات الجديدة على الأرجح على مد جذور مجموعات معينة من الكائنات إلى عصور أقدم، أكثر من تقريبها من مجموعات أخرى. وفي مقابل كل فجوة نملؤها في تاريخ الحياة، ستظهر فجوة جديدة مختلفة. حتى ونحن نعثر على المزيد من الحفريات البشرية، فستظل الملاحظة التي أبداها إدوارد إستلن كامينجز سارية: «دائمًا ما تكون الإجابة الأجمل هي التي تطرح السؤال الأجمل.»
حتى الآن، تبين أن نظرياتنا الأكثر عمومية عن الحفريات قائمة وصامدة، إلا أن التفاصيل قد تغيرت. وحتى برغم ذلك، من الصعب أن نكون على يقين لأي مدى تعد تفسيراتنا لسجل الحفريات معرضة للاتهام بأنها محملة بالنظريات بصورة مفرطة. هل يمكننا أن نتخيل إطارًا نظريًّا مختلفًا يجعلنا نراجع أفكارنا؟ على سبيل المثال، إذا قُلب التاريخ رأسًا على عقب، وكان جميع المفكرين الأوائل واكتشافاتهم في الصين أو أستراليا، أو كانت جميعها على أيدي بوذيين مثلًا، كيف كانت رؤيتنا للحفريات والتاريخ ستختلف عن الرؤية الحالية المتمركزة حول أوروبا؟
وربما تتضمَّن الأسئلة التي نطرحها في المستقبل: هل ستكون المعدلات الحالية المرتفعة لانقراض الحيوانات الضخمة أحداثًا بارزة في سجل المستقبل، أم أنها فقط ستسجل وكأنها ضوضاء بسيطة وسط ضجة أكبر، مثل فترة أكثر دفئًا بين العصور الجليدية في مسار تاريخ الحفريات؟ بعد عشرة ملايين عام من الآن — وربما قبل هذا — سوف تكون هناك إجابة على هذا السؤال؛ وهذا أحد أكثر الجوانب تشويقًا في سجل العصرين البليستوسيني والهولوسيني. حتى الآن، يبدو أن فترة المليوني عام الأخيرة — وهي فترة ضغوط بيئية عظمى وتحولات هائلة في مواطن الأنواع (ومن بينها البشر) — كانت فترة اندثارات لا بؤرة لتكوين أنواع جديدة. (لعله سيكون من بواعث السخرية حقًّا أن يكون العصر الذي اكتشفت فيه نظرية عملية للتطور هو نفسه عصر المعدلات شديدة التباطؤ لنشوء أنواع جديدة؛ مما سيجعل التأكيد العملي للنظرية أكثر صعوبة.) ولكن هل كل هذا قراءة صحيحة للسجل؟ وإذا كان كذلك، فكم من الوقت سيستمر النمط قبل أن تبدأ عمليات النشوء في الازدهار من جديد؟ وماذا سيكون الباعث عليها؟ وماذا سيتضح أنه «الحدث الهائل التالي» على المسرح التطوري: نوع آخر من البشر، أم صرصور أفضل، أم فيروس آخر؟
إن سؤال «ماذا بعد؟» مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسؤال أعمق بكثير عن مسار التاريخ التطوري الماضي: هل كان ثمة شيء متأصل في نمط التغير التطوري أنتج الحيوات النباتية والحيوانية المعاصرة، والتي تشملنا نحن البشر بالطبع؟ إذا كان الأمر كذلك، فلو استطعنا بشكل أو بآخر أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء — وليكن مثلًا إلى العصر البرمي — ثم تركناها تسير للأمام من جديد، لانتهينا إلى حيث نحن الآن. إن الرأي القائل بأن النتيجة ستظل كما هي هو الرأي المفضل لدى أولئك الذين يعتبرون التاريخ موجهًا نحو النهاية، وأن الغرض من التغيير التطوري طوال الوقت كان إنتاج بشر (والمفترض بالطبع أيضًا إنتاج الحيات ذات الأجراس، والحلزونات، وفيروس الإيدز). أما الرأي الآخر فيقول إن احتمالات أن يسلك التطور المسار نفسه بالضبط ضئيلة إلى أبعد الحدود. فالتطور كان — بالمصادفة — سينتج مجموعة مختلفة تمامًا من الكائنات؛ فالطيور والثدييات التي نعرفها — ناهيك عن الرئيسيات والبشر — ربما لم تكن ستظهر مطلقًا.
إذا نحينا الاعتبارات الدينية جانبًا من حيث إن كان هناك سبب غير مادي للكون أم لا، فإن الإجابة العلمية على هذه الأحجية أن كلا الرؤيتين للتاريخ صحيحة جزئيًّا. فالصدفة هي القوة المحركة للتطور. ولكن ما يحدث عن طريق الصدفة في كل لحظة من الزمن يعتمد إلى حد كبير على الحقيقة الثابتة لما كان موجودًا وقتها وما كان موجودًا قبلها، لا سيما في السلاسل المتعاقبة المتطورة من العمليات الجينية وعمليات النمو التي تنتج فردًا بالغًا من بيضة واحدة. وهكذا لم يتطور البشر من العناكب، وملايين السنين القادمة من التطور لن تنتج بشرًا بأجنحة الفراشات، ولا حشرات ذات غدد ثديية.
لو لم تكن الصدفة عنصرًا في المعادلة، لأمكننا التنبُّؤ بشكل من سيقطنون العالم بعد عشرة ملايين عام من الآن. وبالطبع، لو كان كل الغرض من تاريخ الأرض والتطور هو إنتاج الإنسان الحديث، فإنه خلال عشرة ملايين عام لا بد بالضرورة أن سجل الحفريات الجديد لن يُظهر أي تغيير على الإطلاق؛ إذ إن عجلة التطور ستتوقف لأن أهدافها قد تحقَّقت. وكما رأينا بالفعل أن البشر قد تغيروا كثيرًا خلال ملايين السنوات الأخيرة، فإن احتمال وقوع المزيد من التغير يبدو قائمًا بنسبة مائة في المائة.
لم يكن تكوين الحفريات ونشوء الطبقات الصخرية شيئًا حدث في الماضي وانتهى. فاليوم، وفي كل مكان حولنا، تتراكم حفريات جديدة محتملة في الطبقات الرسوبية؛ فتحت سطح الأرض مباشرةً هناك أدلة على عمليات مماثلة بدأت ربما من ألف عام أو مائة ألف عام أو مليون عام مضت، وتتواصل العملية. بل وهنا نتساءل، هل تنتج الاتجاهات المناخية السائدة حاليًّا والاستخدامات البيئية مستوى مرتفعًا بصورة غير معتادة من التآكل والترسيب كي يحتوي على تلك الحفريات؟
أيٌّ من كائنات المملكتين الحيوانية والنباتية المعاصرة يرجح أن يحفظ على هيئة حفرية؟ وكما تقول الدعابة القديمة، فإن الطبقات التي تتراكم في أيامنا هذه سوف يطلق عليها في النهاية «التكوين القمامي»، مع تراكمات من القمامة والنفايات التي يلقي بها مجتمعنا الاستهلاكي اللامبالي. وسوف تكون الحفريات المميزة لهذا العصر عبارة عن تركيزات من كريات كبيرة ومجهرية الحجم من مادة ستايروفوم وغيرها من أنواع البلاستيك، وقد بدأت تظهر بالفعل في الرسوبيات البحرية في جميع أنحاء المعمورة. وإذا كنا نتعجَّب من أين جاء كل هذا الإيريديوم الذي يميز الرسوبيات المتراكمة من العصر الطباشيري — وهو عند حدود العصر الثلاثي (وحالات الانقراض) — فسوف يكون خلفنا على الأرض حائرين كذلك بالمستويات غير العادية من الحديد، والألومنيوم، والزجاج والمستويات المرتفعة بصورة غير عادية من المواد المشعة في العصر الهولوسيني. كذلك سيكتشف علماء الآثار في المستقبل — وكذلك المخلوقات التي سترث الأرض بعد أن ننقرض جميعًا — أن أكثر حفريات العصر القمامي انتشارًا عبارة عن حيوانات مستأنسة كالدجاج، والخراف، والأبقار، يتبعها مباشرة الخيول والقطط والكلاب. وفي تناقض درامي مع ترسبات العصر قبل الهولوسيني، سوف تكون البقايا البشرية وفيرة، وكل هذه دلائل على انفجار سكاني هائل بعد عصر جليدي. أما بالنسبة لحالات الانقراض، فإنهم سوف يبحثون عن تفسيرات معقدة لحقيقة أن العديد من أبرز حالات الانقراض كانت في الحيوانات الضخمة، غير أن الارتباط بين ازدياد أعداد السكان من البشر وبين التحولات الكبرى الأخرى في تنوع الكائنات سيكون مذهلًا.
ونظرًا لشغفنا الدائم بدفن الأشياء في حفر داخل الأرض (ليس فقط بعضنا بعضًا، ولكن — على سبيل المثال — النفايات المنزلية التي ندفنها في الرمال وحفر الحصى التي تعود للعصر البليستوسيني، ومحاجر الحجر الجيري التي ترجع للعصر الكربوني، والمناجم من مختلف العصور)، سوف تظهر بقايا ثقافتنا في بعض التكوينات الجيولوجية الغريبة. وسيكتشف علماء طبقات الأرض المستقبليون أيضًا أننا نقلنا كميات كبيرة من الصخور من مكان إلى آخر، ومعها ما بها من حفريات بالطبع.
غير أن بعضًا من أكثر الألغاز صعوبة التي سيواجهها خلفنا على الأرض سوف يتعلق بتوزيع الحيوانات والنباتات. فمن الترسبات التي يعود تاريخها إلى حوالي ٢٠٠ عام، سوف يكتشفون أن أعدادًا هائلة من الكائنات — من الحشائش إلى الخيول — قد توسعت في موطنها فجأة. كيف سيفسرون الظهور الذي يبدو أشبه بمعجزة للأرانب الأوروبية والعصفور الدوري الشائع في أستراليا، أو نبات الذرة في أوروبا؟ وبين الحين والآخر، سوف يكتشف علماء المتحجرات المستقبليون أمرًا تحار له العقول، مثل هيكل عظمي لحيوان من حيوانات حديقة الحيوان، مثلًا فيل هندي في المكسيك، أو تابير في فرنسا، أو نمور في أستراليا، أو كوالا في روسيا. كيف أمكن حدوث ذلك؟ قد يتساءلون أيضًا كيف يمكن أن توجد بقايا حيوان بالغ الندرة مثل الباندا العملاقة في جميع أنحاء العالم، قبل مدة وجيزة من انقراضها؟
سوف تمثل الخيول على الأخص لغزًا مثيرًا للاهتمام في المستقبل؛ لأن سجل الحفريات للخيول الحديثة سوف يكون حافلًا. يوضح السجل الحالي أن الحصان قد انقرض في أمريكا الشمالية منذ حوالي ١٠ آلاف عام، ولم يكن موجودًا قط في أمريكا الجنوبية. ثم أعيد إدخاله إلى أمريكا الشمالية على أيدي الإسبان، ومنذ حوالي مائتي عام كان يزدهر في البرية في القارتين. فهل سيمكن تمييز إعادة إدخال الخيول إلى أمريكا الشمالية في سجل الحفريات، أم سيتم التغاضي عن فجوة العشرة آلاف عام بين آخر الخيول الأمريكية الأصيلة وبين إعادة إدخال تلك الحيوانات إليها باعتبارها خطأً فنيًّا في سجل يسير في سلاسة؟
أما على الجانب الإيجابي، فبعد ٥٠ مليون عام من الآن، ستكون الترسبات الهائلة من المواد العضوية التي تترسب الآن (فيما يخلق مشكلة هائلة) في شكل قمامة ومخلفات الصرف الصحي التي تُلقى في وديان الأنهار وحول سواحلنا، قد كونت احتياطيات جديدة من الفحم والغاز الطبيعي والنفط. الورق وحده سوف يكون مسئولًا عن تكوين ترسبات هيدروكربونية هائلة. أما ما ليس معلومًا فهو سمك تلك الطبقات: كم ستطول الحقبة القمامية. تعتمد الإجابة على هذا السؤال بقدر كبير على التاريخ الجليدي للأرض. فالكثير من سجل العصر الثلاثي لسطح الأرض مفقود من أوروبا وأمريكا الشمالية، بعد أن جرفته التكوينات الجليدية في العصر البليستوسيني. ولو عادت الأنهار الجليدية بقوة وبأعداد هائلة من جديد بعد ١٠٠ ألف عام من الآن، فإن المباني وغيرها من أدلة الحضارة في أوروبا وأمريكا الشمالية سوف تعود مرة أخرى إلى الأرض لتتحول إلى طمي غني بالكربون والبلاستيك والمعادن ثم تترسب من جديد في مكان آخر، على الأرجح في البحار. ويومًا ما، من سيعيد اكتشاف رسوم كهوف العصر الحجري قد يتساءل: ماذا حل بأولئك القوم؟