الحفريات في الخيال الشعبي
على مدار سنوات القرن الثامن عشر، كان جميع المثقفين في أوروبا والأمريكتين معتادين على نطاق عريض من الحفريات، وكان العديد من هؤلاء يمتلكون صوانًا زاخرًا بعينات الحفريات في منازلهم. غير أنه كان من المرجح أن حفرياتهم يتمُّ تصنيفها ضمن فئة «أحجار متشكلة»، وهي فئة كانت حيادية فيما يتعلق بأصولها. على أنه بمجرد أن صار من المقبول لعموم الناس أن الحفريات عبارة عن بقايا عضوية، اكتسبت تلك الحفريات دورًا مهمًّا في الثقافة الشعبية علاوة على دورها في الدراسة الفلسفية الجادة.
في منتصف القرن التاسع عشر وحتى أواخره، أصبح الافتتان العام بالحياة القديمة واقعًا بفضل — بل وربما هو ما ساعد على تحقيق — الشعبية التي حظيت بها المطبوعات زهيدة التكلفة التي كانت تحتوي على صور توضيحية جيدة، والتي كانت تطرح في الأسواق للجماهير، مثل كتاب كاميل فلاماريون بعنوان «العالم قبل الطوفان»، الذي نشر بباريس عام ١٨٨٦، وتطوير المتحف الشعبي. وعلى مدى مائتي عام، قدَّمت الحفريات الأساس لنوع من العلوم يسهل الحصول عليه. وازدهرت الظاهرة بحق مع اكتشاف الديناصورات ومجموعة واسعة التنوع من الزواحف الأخرى — التي كانت ضحمة في معظم الأحيان — التي تنتمي لحقبة الميسوزوي. وكانت المرة الأولى التي تعرفت فيها على هذه الأدبيات الشعبية من خلال رواية لآرثر كونان دويل من أعمال الخيال العلمي ألفها عام ١٩١٠، وهي رواية «العالم المفقود»، برغم أني لا أستطيع أن أتذكر أنني قد دار بخَلَدي أي طموح لأن ألعبَ دور بطل الرواية البروفيسور تشالنجر.
كان للحفريات دومًا جاذبية للأشخاص غير العاديين والمثيرين للاهتمام، لا سيما البروفيسور ويليام باكلاند بجامعة أكسفورد، وهو الرجل الذي كانت أسرته في عشرينيات القرن التاسع عشر تحتفظ بدبٍّ في مقر عمدة كرايست تشيرش، والذي كان طموحه طيلة حياته أن يسلك طريقه عبر أمثلة من المملكة الحيوانية بأسرها (غير أنه لم يعثر قط على طريقة للاستفادة من حيوان الخلد أو الذبابة المنزلية). كان ولع باكلاند بالحيوانات الأليفة غير المألوفة عاملًا مساعدًا في حل لغز الترسبات الحفرية التي عُثر عليها في كهف كركديل في يوركشير. أدرك باكلاند أن الكهف كان عرينًا للضباع، وكان باحثون قلائل آخرون ينتمون لذلك العهد سيفترضون في بادئ الأمر أن الحفريات في تلك الترسبات لم تنجرف إلى داخل الكهف بواسطة الطوفان الذي ورد في الإنجيل، وإنما كان يمثل تجمعًا لحياة كائنات ما. ولم يكتفِ باكلاند باستنتاج أن الكثير من العظام المهشمة التي وجدت في الترسبات في الكهف كانت الضباع هي التي كشفت وجودها، وإنما تصادف أن كان تحت يده حيوان ضبع مستأنس (إلى حد ما) كي يختبر عليه تلك النظرية؛ ومن ثم صار أول عالم متحجرات تجريبي في العالم.
كان باكلاند محاضرًا مشهورًا غيَّر كثيرًا من المفاهيم السائدة في موضوع الحفريات ثم رُقِّي لاحقًا خلال حياته المهنية ليشغل منصب عميد دير ويستمنستر. في الوقت نفسه، وفي مكان لا يبعد سوى مائة ميل عن هذا المكان، ولكنه ينتمي إلى عالم مختلف تمامًا، عاش شخص آخر فعل أكثر من هذا كي يدشن عصر شعبية الحفريات. كانت ماري آننج (١٧٩٩–١٨٤٧) — بدافع الحاجة الاقتصادية — واحدةً من أوائل جامعي الحفريات المهنيين المتفرِّغين لتلك المهنة على مستوى العالم. لقد كانت هي — على ما يبدو — من باعت أصدافًا بحرية على شاطئ البحر. في صغرها، كانت تجمع الحفريات على الشاطئ كي تبيعها للزائرين من الطبقة الأرستقراطية، مثلما فعل غيرها من سكان لايم ريجيس. بعد وفاة والدها ريتشارد — وكان نجارًا عاطلًا عن العمل — صارت الفتاة، ابنة الثانية عشرة من العمر، تقضي معظم أوقاتها على الشاطئ وفي الجروف الواطئة، باحثة عن حفريات.
تقدِّم لنا ماري آننج نموذجًا جيدًا للتقارب الذي يتم في الوقت المناسب بين الناس والأماكن. كانت منطقة لايم ريجيس قد تحوَّلت إلى منتجع ساحلي شهير مع مطلع القرن، وكان من بين عوامل الجذب التي تتمتع بها الجروف الصخرية، والتي كانت الأمواج والطقس السائد بها ينتجان مجموعة متنوعة من الحفريات المشوقة. كانت الأمونيتات (أو «أحجار الأفعى»؛ وهي كائنات تمتُّ بصلة قرابة لحيوان النوتيلوس الذي ينتج اللؤلؤ) شائعة، بالإضافة إلى الفقرات المنفصلة وما كان يبدو أشبه بأسنان التمساح. وتتكون جروف بلو لياس بمنطقة لايم ريجيس من طبقات من الطفل الصفحي والمرل الغني بالحجر الجيري الذي ترسب أصلًا (منذ ما بين ١٩٥–٢٠٠ مليون عام) على السواحل البحرية الضحلة. وكانت الحفريات المتواجدة داخل الحجر الجيري محفوظة دون أن تتحطم، وكان الناس يبحثون عنها هي تحديدًا.
ماري آننج
«… الأمر غير العادي الذي ميَّز هذه الشابة هي أنها جعلت نفسها على معرفة كاملة ودقيقة بالعلم، حتى إنها في اللحظة التي كانت تعثر فيها على أي عظام كانت تعرف إلى أي قبيلة تنتمي … إنها مثال رائع على الموهبة الربانية؛ فلا بد وأن تلك الفتاة الفقيرة التي لم تتلقَّ تعليمًا كانت مباركة؛ إذ إنها من خلال الاطلاع والتطبيق وصلت إلى درجة من المعرفة، حتى إنها اعتادت على مراسلة ومحادثة أساتذة وغيرهم من البارعين في هذا المجال، وقد أقرَّ جميعهم بأنها تعي من هذا العلم قدرًا يفوق ما لدى أي شخص آخر في المملكة.»
تتميز الجروف الصخرية هناك بكونها ملساء. ربما كان السبب في ذلك أن العواصف أدت إلى تعرية طبقة جديدة من الحفريات؛ ولعلها كانت موجودة هناك طيلة الوقت ولم ينتبه إليها أحد. على أية حال، بين عامي ١٨١١ و١٨١٢، استخرجت ماري آننج وشقيقها إكتيوصورًا ضخمًا كاملًا تقريبًا (ليس أول إكتيوصور في العالم، لكنه كان أول ما وُصِف وصفًا دقيقًا من قبل الباحثين)، باعته بمبلغ ٢٣ جنيهًا استرلينيًّا لأحد الملاك من أهل المنطقة. ثم تبيَّن أن الإكتيوصورات — وهي نوعًا ما النسخة من الزواحف المقابلة للحيتان ذات الأسنان الشبيهة بالدلافين — مصدر جميع أسنان التماسيح. وبعدها اكتشفت أول زاحف طائر إنجليزي (تيراصور)، وأول بليزوصور (مجموعة من الكائنات رُسخت إلى الأبد في أذهاننا على أنها تتضمن وحش بحيرة لوخ نيس)، وحيوانًا يمت بصلة قربى لأسماك القرش ويبدو أنه يمثل حلقة الاتصال مع أسماك الورنك والشفنين البحري. وتدافع الأثرياء لشراء تلك الكنوز الجديدة، وتنافس علماء المتحجِّرات بدورهم للحصول على فرصة لدراستها ووصفها، ورغم ذلك عاشت ماري آننج دومًا في فاقة، كما أن المنظومة الطبقية القاسية جعلتها دومًا على هامش علم المتحجرات الفكري.
ليست الاكتشافات المهمة وحدها التي تأتي بالجملة، وإنما العلماء كذلك. ففي عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبينما كانت ماري آننج تكتشف كنوزًا مذهلة في لايم ريجيس، ظهرت مدرسة جديدة كاملة من الباحثين المتمكنين في علم المتحجرات الذين قاموا بدراسة هذه الكنوز. ففي إنجلترا، كان هناك طبيب من ساسكس يدعى جيديون مانتل، وهنري دي لا بيش (الذي صار لاحقًا أول مدير لهيئة المساحة الجيولوجية البريطانية)، والمبجَّل ويليام كونويبرر، وباكلاند بالطبع. في هذه الأثناء، وفي فرنسا، ظهر البارون جورج كوفييه — أستاذ علم التشريح بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس، والذي يقال إنه مؤسس علم المتحجرات الفقارية بصفته مجالًا دراسيًّا مهنيًّا — وسيطر على المشهد بمعرفته الموسوعية وآرائه الرصينة الواثقة.
قدم باكلاند وصفًا رسميًّا لأول ديناصور في عام ١٨٢٤. وحقيقة الأمر أن د. روبرت بلوت وصف في عام ١٦٦٧ عظمة فخذ جزئية ضخمة (ضاعت أو فقدت الآن) من الأجزاء التي تنتمي إلى العصر الجوراسي في قرية كورنويل في مقاطعة أكسفوردشير. فقرر بلوت — الذي لم يكن يعلم كنهها — أنها تعود لإنسان عملاق ممن ورد ذكرهم في الإنجيل. وبتشجيع من كوفييه، درس باكلاند مجموعة جديدة من المواد الحفرية، وأوضح أنها جاءت من نوع عملاق من الزواحف فأطلق عليها اسم ميجالوصور (أي العظاءة العملاقة). وسرعان ما حذا حذوه مانتل — الذي عثر على إجوانودون في أحد المحاجر بغابة تيلجيت في ساسكس. كان كلا الحيوانين يبلغان من الطول أكثر من ٣٠ قدمًا. ومن الواضح أن الميجالوصور حيوان مفترس مخيف، في حين أن الإجوانودون — كما يبدو من أسنانه — حيوان آكل للعشب. في عام ١٨٣٢، عثر مانتل على ديناصور آخر أطلق عليه اسم هايلياصور (عظاءة الغابة). وبعدها بعشر سنوات أدرك عالم التشريح ريتشارد أوين أنه كانت توجد فئة كاملة مستقلة من تلك المخلوقات، ليست عظاءات على الإطلاق ومختلفة كلية عن الأنواع الأخرى من الزواحف، والتي أطلق عليها اسم ديناصوريا (وتعني كمصطلح تقني العظاءة المروعة، ربما على أساس أن كلمة صوريان اللاتينية يمكن أن تعني أيضًا: حيوان زاحف).
وقد نفت تلك الزواحف المنقرضة غير العادية — وإن كانت حقيقية بصورة استثنائية — التي تنتمي إلى حقبة الميسوزوي أخيرًا أي احتمال لأن تكون هي أو أي حفريات أخرى مجرد أحجار متشكلة: أي قطع من الصخور تحاكي شكل الكائنات الحية. وقد جرى توثيقها قبل عقود من تأليف تشارلز داروين لكتابه «عن أصل الأنواع»، وقبل أن تصبح أي نظرية أو آلية مترابطة منطقيًّا حول التطور مقبولة على نطاق واسع، ومع ذلك حاول البعض اعتبارها كالوحوش الخرافية الهائلة من أمثال «البهيموث» الذي ورد ذكره في العهد القديم. وبرغم غرابتها — أو ربما لهذا السبب — استوعب الخيال الشعبي الإكتيوصورات، والتيراصورات، والبليزوصورات والديناصورات دون مشقة. والحقيقة أنه بدلًا من تفسيرها على أنها منافية للتعاليم الواردة بالإنجيل، كان من السهل على الناس اعتبارها متوافقة تمامًا مع سلسلة الوجود المستفيضة. وجاء عقد العشرينيات من القرن التاسع عشر ليمثل ذروة شعبية حركة علم اللاهوت الطبيعي، الذي يهتم بدراسة عجائب الطبيعة باعتبارها آيات على عظمة الإله وقدرته. اعتبر المبجل كونويبرر (الواصف الأصلي للبليزوصور الذي اكتشفته ماري آننج) أن البليزوصورات تمثِّل حلقة الوصل بين الإكتيوصورات والتماسيح، وأنها «البرهان المؤكد على الثراء غير المحدود لإبداع الخالق». وبالطبع استبعد أفكار هؤلاء «الذين تخيلوا على نحو مثير للسخرية أن حلقات الوصل (بين نوع وآخر) … تمثل انتقالات حقيقية»، واعتبرها أفكارًا «قميئة غير سوية».
غير أن آثار الضجة التي أثارتها النظرية لا تزال موجودة: فلم يكن من الممكن تجاهل الإشارة إلى وجود عمليات طبيعية عالية القدرة تعمل في باطن الأرض وفي أعماق الزمن. كانت الأدلة التي يظهرها سجل الحفريات بالفعل واحدة من مصادر إلهام نظريات إرازموس داروين عن التطور. وقد كان على درجة من اليقين من أهميتها حتى وصل الأمر به إلى وضع بعض الأصداف الحفرية فوق شعار النبالة الخاص بعائلته الذي وضع حديثًا، وبجوارها عبارة تقول باللاتينية ما معناه: «كل شيء من الأصداف.»
الديناصورات
في عام ١٨٠١، قام تشارلز ويلسون بيل — وهو فنان موهوب، بل وموهوب أكثر في العرض، ومبتكر فكرة إنشاء متحف التاريخ الطبيعي المعاصر وديوراما المتحف — بالتنقيب واستخراج اثنين من حيوان الماستودون ضخمين وشبه مكتملي الأجزاء، مع أجزاء من ماستودون ثالث من نيوبرج بنيويورك. وعند وضعها للعرض على الجمهور بفيلادلفيا، نال الماستودون الذي اكتشفه بيل شهرة واسعة وساعد في خلق حالة من الافتتان بالحفريات بين جماهير العامة. غير أن الديناصورات جاءت في نهاية المطاف لتحتل صدارة المشهد. وقد أسهم اسمها في حد ذاته في خلق تلك الصورة الذهنية لها، غير أن شهرتها مرتبطة أيضًا ارتباطًا وثيقًا بحقيقة أنها هائلة الحجم وشديدة «الاختلاف»، في حين أن المستودون في نهاية الأمر، كان مجرد نوع مختلف من الفيلة.
ومنذ البداية، روَّج بعض العاملين في مجال الديناصورات لاكتشافاتهم (ومن ثم لأنفسهم) بأساليب لم يتبعها العاملون في مجال الحفريات الأخرى (أو أنهم فشلوا في تحقيق شيء). أدرك ريتشارد أوين — على سبيل المثال — أن الديناصورات كانت خيارًا بديهيًّا للعرض في المعرض العظيم الذي تُقيمه بريطانيا عام ١٨٥١. وأعيد تركيب الديناصورات بحجمها الطبيعي على يد النحات والمروج الرئيسي للحدث بنجامين ووترهاوس هوكينز لصالح كريستال بالاس الكبير في هايد بارك حيث سيقام المعرض العظيم، ثم نُقلت بعدها لموقع دائم بجنوب لندن. وعندما أقيمت وليمة عشاء شهيرة عام ١٨٥٣ احتفاءً بإعادة التشييد النصفي للإجوانودون، قطع علم المتحجرات شوطًا كبيرًا نحو الحالة الإعلامية المعاصرة التي يعيشها الآن.
طقس نوفمبر الذي لا سبيل لترويضه. كانت الطرقات ممتلئة بالوحل كما لو أن المياه قد غادرت لتوها تاركة سطح الأرض، وما كان من المستغرب وقتذاك أن تلتقي ميجالوصورًا، طوله أربعون قدمًا تقريبًا، يتهادى في مشيته كالعظاءة الضخمة في شارع هولبورن هيل.
ولم ينظر علم المتحجرات الشعبي وقتها مطلقًا إلى الوراء، لا سيما عندما انتقل مركز النشاط إلى الولايات المتحدة. اكتُشفت أولى الديناصورات الأمريكية (أسنان متفرقة من العصر الطباشيري العلوي) في قاع نهر جوديث بولاية مونتانا على يد بعثة هايدن الاستكشافية بين عامي ١٨٥٥ و١٨٥٦. وبعدها في عام ١٨٥٨، عُثِر على أول هيكل عظمي شبه مكتمل لديناصور في حفرة لاستخراج الطمي بنيو جيرسي. ارتحل ووترهاوس هوكينز إلى فيلادلفيا لتركيب أجزاء هادروسورس الذي اكتشفه د. جوزيف ليدي ثم عرض قوالب مصبوبة له للبيع لمتاحف العالم. وقد سبب الهيكل الذي ركبه ضجة، حتى إن أكاديمية العلوم الطبيعية فرضت رسومًا مقابل دخول المتحف كي تحد من حجم الإقبال عليه. وعُرِضت نسخة منه في المعرض الأمريكي المئوي عام ١٨٧٦، ثم لاحقًا بمتحف مؤسسة سميثسونيان.
غير أن ذروة الاكتشافات العظيمة جاءت مع فتح الغرب الأمريكي. ومن جديد، اجتمع العديد من الباحثين حول الموضوع نفسه. وقام عدد من المستكشفين جامعي الحفريات بإمداد الرجل النبيل ليدي (الذي وُصف ذات مرة بأنه آخر الرجال الذين يعلمون كل شيء) بحفريات من الغرب، وكان من بين من أمدوه بالحفريات فرديناند هايدن. غير أنه سرعان ما خبا نجمه أمام نجم مجموعة من المغامرين الباحثين المتحمِّسين الذين حصلوا على تمويل جيد، والذين — حتى عندما كان المجال يتسع للجميع — دخلوا في منافسة شرسة على الحفريات في الغرب الأمريكي. وخلال ٣٠ عامًا، جمع أوثنيل تشارلز مارش من جامعة ييل، وإدوارد درينكر كوب من فيلادلفيا — وهما أكبر متنافسين بين الباحثين وجامعي الحفريات — ما يقرب من ١٢٠ ديناصورًا مختلفًا من مناطق الغرب الأمريكي الوعرة. وقاما معًا كذلك بجمع ما لا يعد ولا يحصى من الأنواع الأخرى من الحفريات (برغم أنهما كانا يميلان للبحث عن المواد المثيرة وتجاهل ما سواها، مع أنها كانت لا تقل عنها تشويقًا وإثارة مثل أسنان الثدييات البدائية).
وتعد قصة كوب ومارش واحدةً من أعظم الملاحم العلمية؛ فهي في بعض منعطفاتها مرحة، وفي أحيان أخرى مستهجنة بل ومأساوية. غير أنه ما من شك أنها تدل على مدى إصرارهما. في عام ١٨٧٥، لم يكتفِ مارش بوجوده بمنطقة بلاك هيلز بداكوتا الجنوبية يتفاوض مع قبيلة السو الهندية للحصول على تصريح منهم بجمع الحفريات، وإنما سرعان ما صار نصيرًا في واشنطن لزعيم القبيلة المعروف باسم «السحابة الحمراء» ضد الإهمال الذي يتعرض له من قبل الوكالة المسئولة عن الهنود الحمر بالولايات المتحدة. وفي عام ١٨٧٦، وبعد مرور بضعة أسابيع فقط على معركة «لتل بيج هورن» وهزيمة كاستر، كان كوب يقوم بجمع الحفريات في مونتانا، معتمدًا على أنه «ما دام كل فرد قادر على القتال من قبيلة السو سوف ينضم إلى المقاتلين البواسل تحت لواء الزعيم «الثور الجالس» … فلن يكون ثمة خطر علينا.» كانت عمليات الاستكشاف والمغامرة محورية من أجل اقتفاء أثر الكنوز العلمية التي يزخر بها الغرب، كما أن تلك الأراضي نفسها ظهرت أمام الجمهور في أعمال فنية من الرسوم والمطبوعات لفنانين من أمثال ألفريد بيرستاد، وتوماس موران، وكارل بودمر، وجورج كاتلين.
مع مطلع القرن العشرين، امتدت عمليات التنقيب عن الحفريات في الغرب الأمريكي حتى أراضي كندا الوعرة، التي لا تقل وحشة عن الأراضي الأمريكية. وأسرف تشارلز ستيرنبرج — وهو شخصية جذابة عمل لصالح كلٍّ من كوب ومارش ثم بعدهما لصالح الحكومة الكندية — في جمع الحفريات في وادي رد دير فالي بألبرتا. وتُعرض الحفريات الرائعة التي استخرجت من تلك المنطقة حاليًّا بمتحف تيريل في درامهيلر، بمقاطعة ألبرتا.
ومن حيث الاهتمام الشعبي، فقد استولت الديناصورات على صدارة المشهد وأزاحت جانبًا التيراصورات والإكتيوصورات بذلك الاكتشاف البلجيكي المذهل لمقبرة جماعية لحيوان الإجوانودون عام ١٨٧٨. وفي عام ١٨٩٧، رسخ مقال كُتب بأسلوب شاعري ومفعم بالصور التوضيحية نُشِر بجريدة «أمريكان سينشري» تحت عنوان «العظاءات العملاقة القادمة من عصر الزواحف» — واقتبسته في العام التالي الصحيفتان المصغرتان «نيويورك جورنال» و«نيويورك وورلد» — أقدام الديناصورات باعتبارها ظاهرة في الثقافة الشعبية.
في عام ١٨٩٥، اشترى المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي مجموعات حفريات خاصة من كوب المُفلِس تحت سمع وبصر أكاديمية فيلادلفيا، وجعل مدير المتحف هنري فيرفيلد أوزبورن (وكان هو نفسه عالم متحجرات) الديناصور أحد عوامل الجذب للمتحف ووضع صورته في واجهة العرض. في عام ١٩٠٢، اكتشفت بعثة بقيادة بارنوم براون أول ديناصور من نوع تيرانوصور ركس. وبعدها وفي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، توسع المتحف توسعًا هائلًا بإرسال سلسلة من البعثات الاستكشافية (ولم ينسَ تزويد أفرادها بكاميرات سينمائية)، تحت قيادة الجسور روي تشابمان أندروز (النسخة الأولية من شخصية «إنديانا جونز» السينمائية) مرتديًا حذاء ركوب الخيل شديد اللمعان، إلى صحراء جوبي. كان هدفهم الأصلي هو البحث عن حفريات للإنسان الأول؛ غير أنهم وقعوا بدلًا من ذلك على اكتشافات مذهلة للديناصورات المقرنة وأعشاش لا يزال البيض بداخلها.
وحتى لا يُهزم متحف كارنيجي في بيتسبرج في تلك المعركة، قرر — مستندًا إلى الدعم المالي من مؤسسه الذي يحمل المتحف اسمه — بدءَ جهوده البحثية الكبرى الخاصة به، مثلما فعلت جميع المتاحف الكبرى الأخرى التي كانت تشتري من جامعي الحفريات لو لم تطلق بعثاتها الخاصة بها. واليوم، وبعد مرور ٧٥ عامًا، امتد البحث عن الديناصورات الأكثر أهمية (وغيرها من الحفريات) بنجاح للعالم بأسره، من القطب الشمالي وحتى الأرجنتين، ومن الصين إلى جرينلاند، ومن أستراليا حتى أفريقيا. ومن المشوق حقًّا أن زيادة شعبية علم المتحجرات أعاد الحياة إلى الاكتشافات المتعلقة بالديناصورات في بريطانيا، لا سيما في جزيرة وايت. وأينما كان الموضع الذي يجمع منه أي شخص حفريات، فإن الديناصورات على الأرجح هي أكثر ما يجذب اهتمام الصحافة والإعلام.
آخر شعلات الحركة الرومانسية
قلة من العلوم تلك التي نجحت في أن تحافظ على جديتها مثل علم المتحجرات وفي الوقت نفسه تظل متاحة للناس على نطاق واسع. وربما يرجع قدر كبير من شعبيتها إلى صورة عالم المتحجرات التي تنطبع في الأذهان باعتباره مستكشفًا ومن ثم «لاعبًا» في عالم يبدو محاطًا بالسحر والتشويق في آنٍ واحد. إن الصورة الشعبية السائدة لعالم المتحجرات أنه شخص قوي صاحب نظرة فردية. فالمستكشف النبيل يضع نفسه في مواجهة مع البرية ثم يعود حاملًا أشياء لا يصدقها عقل.
جزء كبير من تلك الصورة صحيح وينبع بصورة جزئية من حقيقة أنه مع نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دخلت الديناصورات — ومعها جزء كبير من علم المتحجرات — إلى أسطورة الغرب الأمريكي. فلم تعد الاكتشافات المهمة هي تلك التي يقوم بها رجال متأنِّقون يرتدون حللًا وربطات عنق (وربما ينزعون ستراتهم) يوجهون حفنة من العمال داخل أحد المحاجر الصغيرة في إنجلترا أو نيو جيرسي، وإنما صار جمع الحفريات «عملًا تنقيبيًّا واعدًا». فأصبح بإمكان رجل على صهوة جواده ومعه أداة تنقيب — وبندقية بالطبع — القيام بمغامرة استكشافية في الغرب، وعلى غرار أبناء عمومته من الباحثين عن الذهب، يعود محملًا بثروة طائلة جلبها من بين الصخور. هذه صورة تحمل في طياتها قسطًا وفيرًا من الإثارة مقارنة بواقع الرجل — أو السيدة — الذي يرتدي معطف المختبر الأبيض، ويستخلص في دأب تفاصيل بالغة الدقة من بين صواني عينات المتاحف، وينشغل بالأساليب الإحصائية المعقدة وكيمياء الرسوبيات أكثر من انشغاله بإقامة معسكرات حول النيران في الأراضي الوعرة. بصرف النظر عن أن النسبة الغالبة من علم المتحجرات كانت تجري في ظروف أقل سحرًا، وتهتم بالكائنات غير المثيرة للاهتمام مثل الجرابتوليتات وعضديات الأرجل. وبعد فترة طويلة ظل فيها علم المتحجرات علمًا معمليًّا في أغلبيته، صُوِّر على أنه نزعة فردية جامحة ومغامرة تعود على صاحبها بالثراء.
وهكذا، بعد مطلع القرن العشرين، أصبح علم المتحجرات يندرج تحت عنوان رئيسي مزدوج: العلم المعملي الرسمي المتجسد في تطوير الجامعات البحثية، وجذوة الحركة الرومانسية التي تخبو. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، وفي فصل الصيف من كل عام، يتخلص الأساتذة الذين ينتمون لأعرق المعاهد البحثية من ستراتهم الداكنة وربطات العنق ليرتدوا الثياب العادية من قمصان وجينز، والأحذية ذات الرقبة الخاصة بالمنقِّبين. ثم يأتي الخريف من كل عام ليعودوا بما جلبوه من حفريات إلى معاملهم. لقد كان كل واحد منهم يلعب دور أوثنيل تشارلز مارش، أو روي تشابمان أندروز، أو (حديثًا) إنديانا جونز. ولا تزال الحفريات — في عيون العامة وكثير من علماء المتحجرات، سواء كانوا متخصصين أو هواةً — تمثِّل ذلك الاندماج الرائع بين رومانسية القرن التاسع عشر ووضوح العلم المعاصر القاسي الذي لا هوادة فيه.