أشياء نعرفها وأخرى نجهلها
إن علم المتحجرات علم مشوق ومفعم بالإثارة؛ لأننا لا نزال لا نعرف «سجل الحفريات» معرفة كاملة. فكل حفرية ما هي إلا تمثيل جزئي للكائن الحي الأصلي؛ والحفريات التي يتم جمعها معًا تمثل بصورة غير مكتملة مجتمعاتها الأصلية أو سلالاتها. كذلك فإن أفكارنا عن الحفريات غير مكتملة أيضًا؛ فلا يزال أمامنا الكثير لكي نتعلمه منها عن تاريخ الأرض وعن النظرية المحورية العظمى لسائر علم الأحياء: نظرية التطور. إن سجل الحفريات مليء بالكائنات المنقرضة التي تتجاوز أقصى ما توصل إليه خيال أفلام الخيال العلمي بكثير. وهو أيضًا مليء بالثغرات بنفس القدر تقريبًا. بعض الأنواع تم التعرف عليها من آلاف العينات، والبعض من حفنة من العينات. وسوف تتواصل الاكتشافات الكبرى، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إما لفتح خطوط جديدة من الفكر أو دحض الأفكار القديمة. فكل حفرية جديدة تعادل نقطة بالغة الصغر في صورة هائلة الحجم؛ صورة متطورة لعوالم بالغة القدم كانت تحيا ذات يوم. فالحفريات سبيلنا الوحيد نحو إعادة اكتشاف تلك العوالم.
يوجد سوء فهم شائع لسجل الحفريات يتمثل في الاعتقاد بأنه يوثق لعملية سلسة من التنوع البيولوجي المتطور التدريجي. في حالة بعض المجموعات، من أمثال الثدييات والطيور، وبعض التحولات الرئيسية مثل أصل الفقاريات رباعية الأرجل (البرمائيات والزواحف والطيور والثدييات؛ وأستخدم على امتداد صفحات هذا الكتاب المصطلحات بمفهومها الشائع قديم الطراز) ونشوئها من الأسماك — وحتى في حالة أصل البشر — فقد أدت الاكتشافات التي وقعت مؤخرًا إلى تقدم واضح في فهمنا للأمور وسدت العديد من الثغرات.
غير أن سجل الحفريات مليء أيضًا بمجموعات من الكائنات التي ظهرت إلى الوجود فجأة، وازدهرت أحوالها، ثم اختفت مرة أخرى. وعلى الرغم من أننا ربما نكون على علم بالمجموعة الكبرى (الشعبة أو الطائفة) التي تنتمي إليها، فإن آباءها في سلسلة التطور لا يمكن تمييزهم في السجل حسبما نعرفه الآن ويبدو أنها لم تخلف ذرية. وتتضمن أمثلة تلك المجموعات التي تبدو لا أصل لها بعضًا من أنجح أشكال الحياة القديمة، مثل الأنواع الغريبة التي تنتمي إلى حقبة الباليوزي المسماة بالقرشيات الشوكية، وأسماك مدرعة بدروع ثقيلة تسمى لوحيات الأدمة (ذوات الصفائح)، ولافقاريات شديدة التميز وإن كانت متوافرة بأعداد غزيرة مثل الجرابتوليتات وثلاثي الفصوص، وعشرات من المخلوقات الأقل شهرة. وعلى هذا الصعيد، لا يزال أمامنا الكثير من العمل للقيام به.
قراءة الصخور
بعد أن رسَّخ روبرت هوك وستينو لفكرة أن الحفريات لا بد وأنها بقايا لكائنات كانت حية ذات يوم، صار جمع الحفريات تدريجيًّا علمًا منهجيًّا، واكتسب أهمية هائلة في الجيولوجيا العملية. وقد مكَّنتنا المبادئ الثلاثة العظيمة التي وضعها ستينو: ألا وهي «التراكب» و«الأفقية» و«الاستمرارية الجانبية»، من فتح السجل الجيولوجي كالكتاب: لقد جعلت الحفريات قراءة صفحات هذا الكتاب وترقيمها أمرًا ممكنًا.
منذ القرن الثامن عشر فصاعدًا، وفي الوقت الذي بدأت فيه البنية الداخلية للأرض تصبح أكثر وضوحًا أمام أنظارنا نتيجة لعمليات التعدين الأعمق وتعبيد الطرق وحفر القنوات وإنشاء السكك الحديدية؛ سرعان ما صار جليًّا أن هناك أنواعًا من الصخور ترتبط بحفريات بعينها. فالطبقات الفحمية التي تعود للعصرين الكربوني والإيوسيني — على سبيل المثال — تحوي مجموعات مختلفة تمامًا من الحفريات. وقد شوهد أن العمود الطبقاتي (نسبة لعلم طبقات الأرض) يتكون في نهاية المطاف من طبقة مركبة فوق أخرى من الصخور التي تحتوي كلٌّ منها على نمطها الخاص من الحفريات، وأكثر تلك الحفريات نفعًا هي الحفريات الدقيقة مثل المنخربات (وهي كائنات بلانكتونية مجهرية الحجم أحادية الخلايا، ولا تزال الأنواع الحديثة منها تعيش في المحيطات، وقد ترسبت هياكلها بالمليارات في قاع البحر).
يمكن لتلك الأنماط الخاصة من الحفريات أن تعطينا إشارات عن الفوارق الزمنية والمكانية. على سبيل المثال، قاعان للحفريات قد يكونان في العمر نفسه تقريبًا، لكن لو كانت الظروف البيئية والترسيبية الأصلية مختلفة — على سبيل المثال إذا كان أحدهما قاع بحيرة عتيقة والآخر شعابًا مرجانية — فإنهما سوف يحتويان حفريات مختلفة تمامًا. لكن العكس صحيح أيضًا، ومفيد بصورة استثنائية. إذا كان لدينا بروزان من الصخور، يبعدان بعضهما عن بعض ببضعة أميال، ولديهما نفس النمط من الحفريات، فمن الممكن أن نكون على يقين من أنهما من نفس العمر وترسَّبا في الأصل في ظروف مشابهة.
ومن معدل اتساق «بصمات» توزيع الحفريات في الطبقات الرسوبية، اكتشف ماسح الأراضي ومشيد القنوات الإنجليزي ويليام سميث (١٧٦٩–١٨٣٩) أن باستطاعته تتبع الصخور الجوراسية نفسها البارزة في سومرست، حيث شارك في تشييد قناة تسير باتجاه مائل في اتجاه الشمال الشرقي إلى ساحل بحر الشمال مباشرةً. وبعد أن جاب طول البلاد وعرضها يجمع الحفريات وعينات الصخور، صنع أولى خرائط الجيولوجيا السطحية لبريطانيا.
قوانين ستينو
علاوة على ذلك، تمكَّن سميث في كثير من الأماكن أيضًا من رسم خريطة للطبقات الجيولوجية تحت السطحية. ولتلك الخرائط قيمة لا تقدر بثمن. فإنها تتنبَّأ بأنواع الصخور التي ستكون تحت السطح حتى لو كان السطح مغطَّى بالنباتات، وهي تُعلم قارئها بما تحويه تلك الصخور — خام حديد أو فحمًا أو أحجارًا للبناء — أو الظروف التي تسمح بإنشاء خطوط سكك حديدية ولا تسمح بشق القنوات. ولهذا كله، كانت للحفريات أهمية جوهرية.
بُنِيَ المقياس الزمني الجيولوجي بأسره كما نعرفه اليوم — بدءًا من الدهر ما قبل الكمبري وحتى العصر الهولوسيني — في الأصل على الاختلافات بين تلك الأنماط من الحفريات؛ ما إذا كانت تقسيمات كبرى مثل حقبة الباليوزي أم اختلافات في أدق التفاصيل. هناك بطبيعة الحال مشكلة الحركة الدائرية إذا كنا نستخدم الصخور لتأريخ الحفريات، والحفريات لتأريخ الصخور. وإذا كان من الممكن أن ينشأ نوع ما مرتين بصورة مستقلة، فسنكون قد تعرضنا للخديعة. لحسن الحظ، بعض الصخور يمكن تحديد تواريخها باستخدام القياس الإشعاعي، ومن ثم تقدم لنا العمر الدقيق والمعايرة المستقلة للأعمار النسبية التي تتوفر من خلال سجل الحياة الحيوانية والنباتية.
مع إدراك وجود العمود الطبقاتي باعتباره تسلسلًا زمنيًّا فريدًا في نوعه، صارت الأنماط الإجمالية في سجل الحفريات واضحة. لقد كُشِف النقاب عن تاريخ الحياة على الأرض، وصار معلومًا أنه «مطَّرد»، على الأقل من حيث إنه بدأ بكائنات بسيطة (ما يطلق عليها «الأدنى مرتبة») ثم سار قدمًا عبر زيادة أبدية في التنوع والتعقيد. ولعل أكثر جانب يحكي لنا الكثير عن سجل الحفريات الجديد هذا أن الغالبية العظمى من الكائنات المسجلة فيه لم يعثر عليها بين الأحياء على الأرض في أيامنا هذه. وكلما غصنا إلى أعماق أكبر في الطبقات الصخرية، ظهرت المزيد من الكائنات المنقرضة؛ ليس فقط أنواعًا منقرضة وإنما مجموعات كبرى بأكملها (ثلاثيات الفصوص، على سبيل المثال). لم تقدم كل تلك الاكتشافات حقائق جديدة كي يتدارسها العلماء فحسب، وإنما تسببت في حراك هائل للخيال الشعبي؛ فلقد كان هناك عوالم أخرى بأكملها نشأت ثم اندثرت قبل عالمنا.
من وجهة نظر علم المتحجِّرات، يُنظر إلى الممالك الحيوانية والنباتية الحية على أنها أحدث فصول رواية التغير العضوي التي بدأت فصولها منذ ما لا يقل عن ٣٫٥ مليارات عام. وبمجرد تطور الحياة، في كل عصر من عصور تاريخ الأرض، كانت الحياة تترك بصمة جديدة؛ في المقياس الزمني الجيولوجي المألوف لنا — بعد معايرة تواريخه بأساليب النظائر المشعة — صارت حفرياته الآن تعرِّف الوحدات المكونة له كبيرها وصغيرها.
إن الخطوط العريضة لمسار الحياة المتغير على الأرض عبر اﻟ ٥٤٥ مليون سنة الماضية من الدهر الفانروزي («الحياة الظاهرة») معروفة جيدًا. وإذا سرنا «للوراء» في الزمن من عصرنا الحالي، فسنجد أن معظم مجموعات الكائنات الحية التي نألفها اليوم يمكن توضيح أنها قد نشأت في العصر الطباشيري وتنوعت خلال اﻟ ٦٦ مليون عام الماضية: حقبة السينوزوي (ومعناه «الحياة الحديثة»). كان ذلك العصر عصر تنوع هائل بين الممثلين الأوائل للثدييات والطيور والأسماك والحشرات والحشائش والأشجار المزهرة والنباتات التي تطوَّرت مع الحشرات التي كانت تلقحها.
إذا نظرنا للوراء أكثر إلى حقبة الميسوزوي («الحياة المتوسطة») لرأينا عالمًا مختلفًا تمامًا، انقرض قاطنوه؛ ومن بينهم مجموعات كاملة مثل الإكتيوصورات والبليزوصورات، والزواحف الطائرة، والأمونيتات. في هذا العصر المسمى ﺑ «عصر الزواحف»، كانت أشجار الغابات في الغالب من الصنوبريات والسيكاسيات. وبالطبع كانت هناك الديناصورات، والتي لا يزال أحد فروعها يعيش إلى اليوم على هيئة طيور. بعض الأنواع المألوفة من الحيوانات مثل التماسيح والسلاحف كانت مُمثلة تمثيلًا جيدًا، وكانت المجموعات المعاصرة من الأسماك تبدأ في التنوع. وكانت الأنواع المختلفة من الثدييات البدائية موجودة اعتبارًا من العصر الترياسي المتأخر فصاعدًا.
وإذا عدنا للوراء أكثر وأكثر، نحو الحقبة الكربونية من أواخر حقبة الباليوزي (حقبة الحياة القديمة)، فإننا ندخل أكثر في العالم الأقدم. على اليابسة، كانت هناك غابات استوائية ذات أشجار ضخمة من بينها أنواع تتصل بصلة قرابة بنباتات أذناب الخيل ورجل الذئب، التي وفرت لنا بقاياها الفحم، وكذلك المستنقعات التي كانت موطنًا لحشرات عملاقة ورباعيات أرجل برمائية عجيبة. وفي البحار ترسبات هائلة من الحجر الجيري كانت تتكون. لكن كان هناك عالم أكثر بدائية من ذلك في العصر الديفوني السابق، والذي غالبًا ما كان يطلق عليه «عصر الأسماك». وهذا العصر تحديدًا دون غيره هو الذي أودُّ زيارته مستخدمًا آلة الزمن؛ حيث المساحات شبه القاحلة التي بالكاد عاش فيها أقدم أسلافنا من البرمائيات ذات الأرجل الأربع حياة محفوفة بالمخاطر عند الحواف السبخية للقارات وحول البحيرات والمستنقعات داخلها. في ذلك العصر أيضًا خاطرت أولى النباتات الوعائية والحشرات عديمة الأجنحة بالخروج إلى اليابسة، بعيدًا عن الأنهار والبحار التي كانت تهيمن عليها مجموعة متنوعة من الأسماك الغريبة ذات الدروع الثقيلة، من بينها أسماك مفترسة يبلغ طولها ٢٠ قدمًا.
ثم نعود للخلف أكثر حيث العصور: الكمبري، والأوردوفيشي، والسيلوري، والتي غالبًا ما كان يطلق عليها مجتمعة «عصر اللافقاريات»، حيث هيمنت عليها ثلاثيات الفصوص وعضديات الأقدام والجرابتوليتات الغريبة، ومخلوقات أكثر غرابة تسمى مخروطيات الأسنان أو كونودونت (ويعثر عليها عادةً متمثلة في أسنان متفرقة)، والتي ربما كانت من الحبليات؛ مما يشير إلى أن أسلاف جميع الفقاريات تطورت بالفعل في العصر الكمبري.
لم تقع أيٌّ من تلك الأحداث في فراغ جيولوجي-جغرافي-بيئي: فمنذ البداية الأولى، كان على المفترس والفريسة، والمستهلك والطعام أن ينخرطا فيما يعادل الآن سباق التسلح. فكلما طور الطرف الثاني وسائل دفاعية جديدة ينجو بها من الافتراس، كان يتبع ذلك ابتكار الطرف الأول أساليب جديدة لقهر تلك الوسائل الدفاعية. فعلى سبيل المثال، تتمثل أحد أعجب سمات الحياة في العصر الثلاثي في تطور بلورات صلبة من السيليكا في الحشائش، والتطور الذي تبعه لأنواع الأسنان لدى الحافريات (الماشية والغزلان والجياد، على سبيل المثال) والقوارض للتعامل مع تلك المواد الصلبة.
كانت كل تلك التغيرات بين الكائنات الحية مصحوبة — بل وتحركها بشكل جوهري — بتغيرات فيزيائية تعمل على نطاق عالمي حقيقي. تتكون قشرة الأرض من عدد من «الصفائح التكتونية» التي تتحرك في الأنحاء فوق طبقة الدثار شبه السائلة التي تقع أسفلها. وفي الدهر البروتيروزوي، كانت جميع الصفائح القارية على الأرجح ملتحمة في قارة واحدة عملاقة. وبحلول العصر الأوردوفيشي، كانت هناك قارة واحدة كبرى — هي جوندوانا — تتكون في الأساس من أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا، وقد ضمت بعضها إلى بعض، تقع في مكان ما من المحيط الجنوبي العظيم، في حين كانت آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية معزولة إلى حد ما في نصف الكرة الشمالي ومغطاة بالبحار إلى حد كبير. وبحلول العصر الديفوني، التحمت أوروبا الغربية وشرق أمريكا الشمالية على هيئة كتلة شمالية كبرى من اليابسة تسمى لورينشيا؛ وبنهاية العصر الديفوني، كانت القارات تتقارب معًا في قارة كبرى عملاقة (سميت بانجيا). بعدها، وفي منتصف حقبة الميسوزوي، بدأت تنفصل عن بعضها مجددًا، وانفتح الأطلنطي، واقتربت القارات من اتخاذ أوضاعها الحالية.
لا تزال تداعيات تلك الحركات العالمية موضع تحليل. غير أنه من الواضح أن تكتونيات الصفائح تمثل مجموعة كبرى من العوامل في توجيه التطور العضوي من خلال إنتاج السياق البيئي لقدر كبير من التغير التطوري. لقد أثر تكون الجبال، وفتح أحواض المحيطات وغلقها، ونشأة البحار القارية الضحلة واختفاؤها، والتغيرات التي طرأت على مستوى سطح البحر، على المناخ (ولا تزال تؤثر عليه) من خلال توازن بيئات اليابسة في المناطق الاستوائية والمعتدلة والقطبية، وأنظمة تيارات المحيطات الكبرى (على سبيل المثال، من غير الممكن أن يكون هناك ما يعرف بتيار الخليج قبل أن يصير المحيط الأطلنطي مفتوحًا)، والحركة الدورانية للغلاف الجوي (من المحتمل أن نشأة جبال الهيمالايا هي أصل الرياح الموسمية).
مما لا شك فيه أن سجل الحفريات سوف يواصل التغير؛ سوف تُكتشف العديد من الأنواع الجديدة من الكائنات، وسوف نتمكَّن من اقتفاء أثر الأنواع المعروفة حتى أعماق الزمن السحيق. غير أنه يبدو من غير المرجح أن يثبت كذب الصورة العامة لتغير الحياة على الأرض خلال الأزمنة الحديثة نسبيًّا من الدهر الفانروزي (آخر ٥٤٥ مليون عام). إلا أنه لا تزال هناك العديد من التحديات عندما يتعلق الأمر بالأزمنة الأقدم.
البداية
توجد أكبر ثغرات سجل الحفريات في البدايات. لا توجد صخور في قشرة الأرض يزيد عمرها على ٣٫٩ مليارات عام، فكل الصخور السابقة على ذلك تعرضت لإعادة تدوير من خلال العمليات الأرضية. وتعرف الفترة الزمنية التي مرت بين نشأة الأرض منذ حوالي ٤٫٥ مليارات عام وبداية العصر الكمبري — أي منذ ٥٤٥ مليون عام — بالدهر ما قبل الكمبري، والمقسم إلى ثلاثة دهور (الهاديان؛ ثم الأركي الذي بدأ قبل ٤ مليارات عام مضت؛ ثم أكثرها حداثة، البروتيروزوي منذ ٢٫٥ مليار عام، ويعني «الحياة الأولى»).
هناك قدر بسيط من الأدلة — أغلبها لا يزال مثار جدل — يسجِّل وجود بكتيريا وربما حياة ميكروبية أخرى في صخور الدهر الأركي من أستراليا وجنوب أفريقيا يعود تاريخها إلى ٣٫٥ مليارات عام مضت. كانت الأنواع الرئيسية من البكتيريا هي الزراقم أو البكتيريا الزرقاء: ويشير الاسم إلى لونها الأخضر الضارب إلى الزرقة، لا إلى إنتاجها للساينانيد. لا تزال الزراقم موجودة بوفرة إلى اليوم، إلا أن هناك فجوة قدرها مليار عام على الأقل بين نشأة الأرض وتلك العلامات الأولى على وجود الكائنات الحية. وعند نقطة ما خلال تلك الفترة الفاصلة، نشأت الحياة على الأرض في صورة جزيئات بسيطة نسبيًّا تتكاثر ذاتيًّا، ثم مضى الأمر قدمًا حتى تكون شيء يشبه الفيروسات والبكتيريا المعاصرة.
بين ٣٫٥ ملايين عام مضت وبداية العصر الكمبري، ظهر نوع جديد من التنظيم في صورة طحالب وحيدة الخلية. تواجدت تلك الكائنات في بُنًى أشبه بالهضاب تسمى الرقائق الكلسية الطحلبية (ستروماتولايت) تتكون من طبقات من الزراقم والطحالب أحادية الخلايا والرسوبيات. وتوجد اليوم مستعمرات مماثلة في برك المياه الضحلة الاستوائية مثل خليج القرش في أستراليا الغربية، بل وربما تضم تلك الأنواع نفسها.
ومعنى وجود الزراقم والطحالب أحادية الخلايا في الدهر البروتيروزوي أنه — لأول مرة في التاريخ — تحقق التمثيل الضوئي. التمثيل الضوئي هو العملية التي تستغل بها جميع النباتات اليوم الطاقة القادمة من الشمس كوقود لتصنيع السكريات وغيرها من الكربوهيدرات من الجزيئين البسيطين: ثاني أكسيد الكربون والماء. وتمكَّنت تلك الأشكال «المنتجة الأولية» الشبيهة بالنباتات أو «ذاتية التغذية» من اصطياد طاقة الشمس غير المحدودة واختزانها. وفي نهاية المطاف، قدمت بذلك قاعدة لسلسلة الغذاء، وذلك في أعقاب تطور مجموعة جديدة من الكائنات الحية غيرية التغذية، التي نسميها الحيوانات؛ والتي تطورت بحيث تحصل على طاقتها عن طريق افتراس الكائنات ذاتية التغذية. وبهذا أصبح المشهد جاهزًا لظهور نظم بيئية معقدة تتغذى فيها الكائنات بعضها على بعض.
هناك جانب مهم من خصائص التمثيل الضوئي، وهو أن النباتات تطلق من خلاله الأكسجين. وهناك سمة رئيسية في معظم الكائنات غيرية التغذية — وجميع الأنواع المختلفة من الحيوانات التي نعرفها اليوم — وهو أنها في حاجة إلى الأكسجين كي تتمكن من تفتيت الجزيئات المعقدة حتى تطلق منها الطاقة التي تحتاج إليها (أي كي تعكس عملية التمثيل الضوئي). ومن ثم، فإن الأكسجين الذي تخرجه النباتات هو الذي يهب الحياة للحيوانات. وقبل ما بين ٢٫٥ و٢ مليار عام، يبدو أنه كانت هناك تركيزات منخفضة نسبيًّا من الأكسجين الحر في الجو. ويشير إلى ذلك تكون ترسبات «الحديد الشرائطي» على مستوى العالم، والذي يتكون من تبادل معادن حديد (ماجنيتايت) مع حجر الشرت (ثاني أكسيد السليكون). وكان من الواضح أن تلك الظاهرة هي محصلة عملية دوارة تتضمَّن الحديد المذاب (المشتق من تجوية الرسوبيات) والبكتيريا المنتجة للأكسجين في المحيطات الأولى.
واتَّحد الحديد مع الأكسجين وترسَّب على هيئة طبقات من الماجنيتيت يبلغ سمكها بضعة ملليمترات، ويقال إن العملية توقفت بسبب نفاد مخزون الأكسجين. ومنذ حوالي مليار عام مضت، يوضِّح انخفاض حادٌّ في ترسيب الحديد الشرائطي أن هناك مستويات أعلى بدرجة واضحة من الأكسجين الجوي قد تراكمت.
ومن المفارقات، أن الأكسجين الذي نعتبره نحن الحيوانات ضروريًّا للحياة، هو في واقع الأمر سم كيميائي ما لم يروض ويُستَغَل. لقد قتلت المستويات العالية الجديدة من الأكسجين الجوي معظم الأنواع الأقدم من البكتيريا والطحالب. وكان هذا مصحوبًا بانفجار جديد للتطور في صورة أنواع مختلفة من الكائنات عديدة الخلايا الأكثر تعقيدًا بكثير والتي تستخدم الأكسجين بأسلوب جديد. حتى ذلك الحين، كانت معظم الحياة على الأرجح مركزة في البحار الضحلة والحواف الساحلية: ولكن في ذلك الوقت تقريبًا بدأنا نجد نوعًا جديدًا من الطحالب الصغيرة وحيدة الخلية تسمى أكريتارش التي كانت تعيش في المحيط المفتوح، وهو ما كان يعني انفتاح منظومة بيئية عالمية رئيسية أخرى، وهذا بدوره أدى إلى المزيد من إنتاج الأكسجين.
تأتي أكثر المعلومات التي تصيبنا بالحيرة بشأن تنوع الحياة في العصر الكمبري المبكر من عدد قليل من المواقع (تسمى لاجرستاتن، أو «القنوات الأم») حيث حُفظت أشكال ذات أجساد رخوة. من بين تلك، يعد أهمها موقع بيرجس شيل الذي يعود للعصر الكمبري الأوسط في بريتيش كولومبيا (اكتشف عام ١٩٠٩)، وموقع شينجيانج الأقدم منه قليلًا (عمره ٥٢٥ مليار عام) ويقع في مقاطعة يونان بالصين (اكتشف عام ١٩٨٤). يوجد عدة أنواع من الطحالب عديدة الخلايا وما لا يقل عن ١٢ مجموعة رئيسية مختلفة من الحيوانات، من بينها شُعَب مألوفة مثل الإسفنجيات، والجوفمعويات (اللاحشويات)، والرخويات، والديدان المقسمة (الديدان)، ومفصليات الأرجل (أقارب القشريات والحشرات)، وشوكيات الجلد (أقارب نجم البحر وقنفذ البحر)، بل وحتى مجموعة متنوعة من الحبليات (أقاربنا نحن البشر) قابعة في مكان ما بالقرب من قاعدة شجرة الحياة الفقارية. من الصعب قراءة العديد من تلك الحفريات (ومن ثم فإنها مثيرة للجدل)، وبعضها قد أُعطي أسماءً ملائمة مثل أنومالوكاريس وهالوسيجينيا. والأكثر إثارة للاهتمام أن الأمر لم يقتصر على بدء التنوع العظيم في الكائنات الحية التي نعرفها اليوم، وإنما نشأت كذلك العديد من السلالات (بل وربما شُعَب بأكملها)، وازدهرت، ثم انقرضت بعد ذلك في الدهر ما قبل الكمبري والعصر الكمبري. وكانت الفترة ما بين ٦٠٠ و٥٠٠ مليون عام مضت واحدة من أشد الفترات في تجريب سبل جديدة للحياة كحيوان أو كنبات وما قابل ذلك من انتخاب العديد من المجموعات واصطفائه.
اختار الجيولوجيون الأوائل تثبيت بداية العصر الكمبري عند النقطة التي اكتشفوا فيها أول تفجر ظاهر للحياة على الأرض (بعد أن حُدد الدهر ما قبل الكمبري خطأً باعتباره عصرًا بلا حياة). إلا أن هناك عددًا قليلًا من المواقع التي تربط بين السجل المتناثر الخاص بالدهر البروتيروزوي والدهر الفانروزي الأكثر ثراءً، حيث عثر على سجل حفري مذهل؛ وهو سجل من الثراء والامتلاء بحيث لا يمكننا أن نعرف ترتيب الأحداث التطورية التي أنتجته إلا عن طريق التخمين. فالحياة الحيوانية الإيدياكارية (وسميت بهذا الاسم تيمنًا بأكثر المواقع أهمية بتلال إيدياكارا بجنوب أستراليا)، ويتراوح عمرها بين حوالي ٥٦٥ إلى ٥٤٠ مليون عام مضت، يصعب جدًّا — بل ومن المثير للجدل — تفسيرها. بعض علماء المتحجرات يعتقدون أنها تشمل طبعات لقناديل بحر ورخويات وديدان ومفصليات أرجل أولية وشوكيات أرجل، وربما إسفنجيات. بينما يعتبرها آخرون نطاقًا من أشكال لا تزال صلات قرابتها غير واضحة، لكنها في الأساس لا تنتمي بصلة قرابة للسلالات المعاصرة. من بين العناصر اللافتة للنظر في الحياة الحيوانية غياب الأنواع المفترسة؛ فجميع حيوانات إيدياكارا تبدو من ساكنات القاع العالقة والتي تتغذى على فتات، وقد هلك معظمها مع بداية العصر الكمبري.
من الواضح أن الهيكل الصلب لم يتطوَّر في أي سلالة تنتمي إلى الدهر البروتيروزوي من الكائنات عديدة الخلايا (وهي جملة مختصرة تعني في عرف علماء علم المتحجرات «لم نعثر على أيٍّ منها بعد»). ويبدو أنه عند نقطة ما قبل ٥٤٥ مليون عام مضت، شجع محفز بيئي على تطور نمو أنسجة صلبة — وكانت عادة معادن تقوم على عنصري الكالسيوم أو السيليكون — وسمح ذلك ببقاء سجل حفري أفضل. وهناك دليل — على الأقل — على حدث بيئي كبير عالمي النطاق وقع في الدهر البروتيروزوي ربما كان ضالعًا في تنشيط عملية تكون الأنسجة الصلبة. إذ في الفترة بين ٧٠٠ و٦٠٠ مليون عام مضت، بدا أنه حدثت نوبة واحدة أو أكثر من نوبات البرودة العالمية. ولم تتمخَّض تلك النوبات فقط عن تكون المساحات الجليدية الهائلة، وإنما ربما أيضًا عن تجميد كامل للأعماق لدرجة أنه حتى البحار التي عند خط الاستواء كستها الثلوج. وفي ظروف مثل تلك، لم يكن ممكنًا للحياة أن تستمر إلا في أماكن مثل الينابيع الحارة وفوهات البراكين التي في أعماق البحار. وسواء امتدت تلك البرودة لتحول الأرض بأسرها إلى «كرة من الثلج» مثلما يفترض البعض، أم أنها كانت مجرد «كرة من الجليد الهش»، فلا بد وأن تأثير ذلك على الحياتين الحيوانية والنباتية وهما لا تزالان في مهدهما كان كبيرًا. ولعل الدفء الذي أعقب التجمد كان مدفوعًا بارتفاعات في تكتونيات الصفائح؛ مما أحدث زلازل وبراكين أطلقت كميات هائلة من غازات الاحتباس الحراري. وقد أدى ذلك إلى تجوية كاملة للصخور مما أطلق كمية هائلة من كربونات الكالسيوم والفوسفات إلى المحيطات؛ وهو الكالسيوم الذي تكونت منه الهياكل العظمية.