مخالفة الاحتمالات
وجدتُ أولى حفرياتي وأنا طالب في الدراسات العليا، لكنني كنت أبحث عنها قبل ذلك بوقت طويل. خلال طفولتي، كنا ندفئ منزلنا المعرض لتيارات الهواء الشديدة مستخدمين في ذلك الفحم؛ وكنت أعلم أن الناس يعثرون على الحفريات داخل الفحم، وهكذا اعتدت الذهاب إلى مخزن الفحم وأظل أطرق على الفحم باستخدام مطرقة ضخمة كنت أحتفظ بها هناك، آملًا في العثور على سعفة جميلة تنتمي لنبات سرخسي أو سن لحيوان برمائي مثلًا. (وكانت عائلتي تتسامح مع اكتساء ملابسي بغبار الفحم لأنه كان لا بد من أن يقوم أحد بتكسير الكتل الضخمة من الفحم على أية حال.) إلا أنه أينما عثر الناس على حفريات من العصر الكربوني، لم يكن هذا في الأماكن التي يأتي منها موردنا من الوقود. ومع ذلك ظللت أهشِّم الفحم بحثًا عنها، مدفوعًا بإغراء العثور على كنز مدفون. ولم أتبيَّن إلا بعد ذلك أن أفضل الحفريات توجد داخل طبقات من الطفل الصفحي تقع بين طبقات الفحم وأنه — على أية حال — كان عليَّ أن أشطر العديد من الأطنان من الصخر حتى أعثر ولو على حفرية كبيرة واحدة يمكن تمييزها. وحتى في طبقات الفحم — حيث يعد الفحم في حد ذاته مادة نباتية حفرية (وهذا أمر لا يدركه كثيرون) — فليس لديك أي فرصة.
هناك وأنت في الميدان، تلك اللحظة الساحرة التي تقع فيها عيناك لأول مرة على موضع حفرية ما. في الأحوال العادية، تكون ظللت تبحث لأيام دون أن يحالفك الحظ، ثم بعدها تنظر أسفل قدميك فتشاهد جزءًا من صدفة أو عظمة يلمع داخل الأرض وقد انكشف جزء منها. ربما تقودك سلسلة من الشظايا انزلقت من منحدر صخري إلى حيث يقبع الجزء الرئيسي من الحفرية. والآن صار عليك إخراجها. وبدون أن تخاطر بإحداث أي تلف فيها، فإنك تحفر بحرص من حولها مستخدمًا إزميلًا أو سكينًا حادة. وبالتدريج، تعثُر على حدود ذلك الشيء؛ فهل هو مجرد جزء مكسور، أم أن الحفرية بأكملها تقبع هناك داخل الصخرة؟ ولحظة تلو أخرى، وفي بعض الأحيان ساعة وراء أخرى، بل وأحيانا يومًا بعد يوم في حالة الحفريات الضخمة، تبدأ الحفرية في الكشف عن نفسها. وفي أغلب الأحوال لا تكون شيئًا مميزًا، لكنها في بعض الأحيان تكون جمجمة، أو أمونيت حلزونية متحجِّرة رائعة المنظر، أو عظمة لأحد الأطراف، أو مجموعة من أصداف الرخويات، أو سن سمكة قرش، أو ورقة نبات عتيق. وبمجرد كشفها، فإنها ربما تكون في حاجة إلى مُثبِّت؛ وهو نوع من الطلاء تمكن إزالته بسهولة في المعمل. ويمكن وضع جسم صغير مثل حيوان ثلاثي الفصوص أو سن قرش في كيس بلاستيكي، وتغليفه بمنديل ورقي لحمايته؛ وفي هذه الحالة يكون توفر لفافة من ورق الحمام ذا قيمة هائلة. أما إذا كانت الحفرية ذات حجم لا بأس به، فأفضل شيء صُنع سترة واقية لها من أشرطة من القماش تم نقعها في جبيرة جبسية، تمامًا مثل الجبيرة القديمة التي كانت تستخدم لتجبير السيقان المكسورة. في بادئ الأمر، تجري تغطية القمة ثم تأتي النقطة التي يتعيَّن عندها قلب الحفرية رأسًا على عقب، فتقوم بإدخال سكين من أسفلها … ثم ترفعها برفق، وبهذا تخرج دون أن تتفتَّت. وأخيرًا صارت بين يديك، وجاهزة لإعادتها للمعمل، مميزة بعلامة تحدد رقمها بطريقة منمقة، ثم تدرج في الكتاب الميداني. وبعدها، تبحث في طمع عن المزيد.
ما من سبيل إلى معرفة عدد الحفريات التي تم جمعها على مدى السنوات الماضية. ولا يزال ما بقي من حفريات بين الصخور عصيًّا على العدِّ، وهذه الحفريات في حد ذاتها تمثِّل فقط حفنة بالغة الضآلة من تنوع أشكال الحياة التي عاشت على سطح كوكب الأرض. فكل حفرية تمثِّل جزءًا صغيرًا من كائن كان حيًّا ذات يوم، وعادةً ما تكون من الأجزاء التي كانت صلدة وعصية على التحلل. وبرغم أن الاهتمام الشعبي عادةً ما يكون منصبًّا على عظام الحفريات من حيوانات فقارية مثل الديناصورات والبشر، فإن أكثر أنواع الحفريات شيوعًا هي بقايا هياكل اللافقاريات البحرية والأصداف الكلسية أو تلك من السيليكات للبلانكتون المجهري.
ما الحفرية؟
إن أفضل السبل لمعرفة ماهية الحفريات هي فحص الطريقة التي «تكونت» بها، ولقد صارت تلك الدراسة فرعًا رئيسيًّا من فروع علم المتحجرات.
إن احتمالات حفظ أي كائن في صورة حفرية بعيدة: عدة ملايين إلى واحد. فبمجرد موت أي كائن، ينتهي صراعه المديد — الذي تحركه قوى الشمس — مع عوامل الإنتروبيا، وتبدأ عملية التحلل. فلا توجد سوى فرصة ضعيفة للغاية لدى الكائن كي يعيش في الأرض أو تحت سطح الماء قبل أن تأتي الحيوانات القَمَّامَة كبيرها وصغيرها وتلتهمه أو تقتات عليه البكتيريا والفطريات التي لا ترحم. وفي الطبيعة، هناك من العمليات التي تعمل على التخلص من الكائنات الميتة من البيئة ما يفوق كثيرًا أعداد العمليات التي تعمل على الحفاظ عليها؛ وإجمالًا هذا أمر جيد. فعلى سبيل المثال، هناك حوالي ٧٠٠ ألف يحمور (نوع من الأيائل) تعيش في بريطانيا، إذا كان عمر الواحد منها يمتد إلى خمسة عشر عامًا، فمعنى ذلك أن هناك في المتوسط ما يقرب من ٥٠ ألف أيل منها تنفق سنويًّا. ولو لم يكن هذا هو الحال، لصار هناك وباء متفشٍّ من الأيائل الحية، ولكن لو لم تكن الجيف تتحلل سريعًا، لكنا دُفنَّا سريعًا تحت أكوام من الأيائل الميتة.
وحتى تتكون الحفرية، فإن أي شيء ينجو من الكائن من عمليات التحلل المبكرة عليه عندئذ أن يدخل ضمن طبقة رسوبية تتحول في نهاية المطاف إلى صخرة. وفي الوقت نفسه، سوف تتعرَّض البقايا لتغيرات كيميائية وفيزيائية (عملية التصلد) والتي ستحولها هي الأخرى إلى صخور. والأجزاء الأقرب إلى أن تُحفظ كحفرية من أي كائن هي الأجزاء الصلبة بالطبع؛ أي الأصداف المتحجِّرة للافقاريات مثل الأمونيتات والرخويات، وأجسام الشعاب المرجانية والإسفنج، وعظام وأسنان الهياكل العظمية للفقاريات، والهياكل الخارجية المصنوعة من الكيتين لمفصليات الأرجل مثل ثلاثيات الفصوص والقشريات والحشرات، والأنسجة الخشبية للنباتات. وفي أحيان كثيرة تُحفظ جذوع الأشجار. غير أن الكائنات لينة الأجسام مثل الديدان وقنديل البحر يكون احتمال حفظها في صورة حفريات أقل كثيرًا. ومن الناحية العددية، فإنه من المؤكد أن تكون أكثر الحفريات انتشارًا هي الأصداف مجهرية الحجم لكائنات البلانكتون البحرية والأبواغ صلبة الجدران وحبوب لقاح النباتات.
ولا يحفظ على هيئة حفرية من النسيج اللين الأصلي لأي كائن إلا أقل القليل. فعلى سبيل المثال، لأسماك القرش أسنان ممعدنة شديدة الصلابة، ويشيع العثور على حفريات من أسنان أسماك القرش، إلا أنه يندُر العثور على بقايا الأجزاء الأخرى من أجسادها. غير أنه في ظل ظروف معينة، من الجائز أن تُحفظ مجتمعات كاملة من أشكال الحياة ذات الأجساد اللينة على هيئة حفريات. وحدث ذلك في حالة منطقتي شينجيانج ولاجرستاتن بيرجس شيل اللتين ترجعان إلى العصر الكمبري. آثار المسير التي تحدثها الحيوانات التي زحفت أو حفرت جحورًا في الطمي بالغ القدم تظهر كثيرًا على نحو مدهش. وفي الأصداف حديثة العهد نسبيًّا، نجد الألوان في بعض الأحيان وقد حُفِظت؛ في بعض الأحيان تبقى عناصر الكيمياء الحيوية الأصلية على هيئة أحماض أمينية، بل إن بعض القطاعات من الحمض النووي دي إن إيه يتم العثور عليها في حفريات الكائنات حديثة السن. غير أنه برغم الخرافات التي تشيع بين الناس، فإنه ليس من الممكن إعادة خلق مخلوقات اندثرت من الوجود باستخدام الهندسة الوراثية لجينات الحفريات.
تعد البيئة كذلك أمرًا شديد الأهمية في هذا الصدد: فعملية تحول كائن ما بعد نفوقه إلى حفرية من عدمه أمر يعتمد على كلٍّ من طبيعة الكائن الأصلي كما أنه يعتمد جزئيًّا على الظروف والبيئة التي أحاطت به أثناء حياته وبعد مماته. فالكائنات اللاطئة (كالمرجانيات والرخويات) أقرب إلى أن تحفظ من الكائنات التي تسبح بحرية في ذات المجتمع (الأسماك، والرأسقدميات، والقشريات). والكائنات التي تحيا في بيئات «عالية الطاقة»، مثل جداول المياه المندفعة من فوق الجبال، أو حيثما يكون هناك نشاط موجي هادر، أقرب للتعرض للتدمير بدنيًّا بعد وفاتها من تلك التي تعيش في قاع البحر. الحيوانات والنباتات التي تموت في بيئات مكتظة بالأشجار تقع وسط مهاد ثرية بأوراق الشجر المليئة بالكائنات التي تقتات على تحليل المادة العضوية، ومن المحتمل أن تتحول إلى سماد سريعًا. وداخل التربة، لا يقتصر الأمر على حدوث تحلل حيوي للأنسجة فحسب، وإنما تقوم العديد من كائنات التربة بحفر جحور في جميع أنحاء الكائن النافق فتتسبَّب في اضطراب في كل شيء وتفكك الأنسجة الرخوة. إن الكائنات التي تحيا في كل تلك البيئات يكون احتمال تعرضها للطمر بطبقات من الرسوبيات أقل كثيرًا من تلك التي تنفق داخل دلتا الأنهار أو البحيرات الضحلة أو بالقرب منها. وكذلك الحشرات وغيرها من المخلوقات الأرضية الهشة أقل احتمالًا أن تُحفظ من المحار والفقاريات وفيرة العظام. أما الحيوانات من أمثال الديدان وقنديل البحر والنباتات من أمثال الطحالب والأشنة التي تفتقر إلى أي نوع من الهياكل الصلبة (معادن أو بروتينات أو خشب) فسوف تتحلل أسرع من الجميع. ويطلق على دراسة كل تلك العمليات والظروف في عملية تكوين الحفريات «علم تحلل الكائنات».
قبل الدفن
من الأرض وإلى الأرض: من اللحظة التي يلقى فيها الكائن حتفه، يبدأ سباق محموم بين عمليات التفسخ والتحلل وبين تلك العمليات التي تميل للحفاظ على ما يتبقَّى من الكائن. بادئ ذي بدء، يجب على البقايا أن تنجو من تلك الوقائع السابقة على الدفن والتي تختزل بقايا معظم الكائنات حتى تقترب من التلاشي في بضعة أسابيع فحسب. قد تقتات الحيوانات القَمَّامة على الجيفة، وربما تضع الحشرات بيضها هناك، وتفقس اليرقات وتتغذى على الجيفة المتعفنة. معظم عملية التحلل تتسبَّب فيها البكتيريا، سواء القادمة من داخل الجيفة أو من خارجها. فإذا ظلت البقايا في بيئة رطبة أو جُرفت إلى مسطح مائي — وبالطبع هناك العديد من الكائنات تعيش وتموت في الماء أصلًا — فإن الفطريات الرُّميَّة (المدمرة للأنسجة) ستكون أيضًا سببًا رئيسيًّا في التحلل. والكائنات التي تسقط داخل تربة أرضية، وهي بيئة غنية أصلًا بالمادة العضوية المتحللة أو المساعدة على التحلل ومكتظة بالكائنات التي تزدهر أحوالها فيها، تكون هي الأكثر تعرضًا للتحلل (من سماد وإلى سماد).
ويساعد الدفء على تحلل الأنسجة. وقد تنفصل القطع المختلفة من الجيفة بعضها عن بعض حيث يعمل التحلل على تفكيك المفاصل. وربما تقوم الحيوانات القَمَّامة بتمزيق الجيفة إربًا وتحمل أجزاءها بعيدًا، ثم تأتي تيارات الماء فتوزع القطع بطرق مختلفة على امتداد التيار أو الساحل، وتصل الأجزاء الصغرى لمسافات أبعد. أما أوراق النباتات وحبوب اللقاح — والتي قد تكون بخلاف ذلك مؤشرات قوية على ظروف بيئية معينة — فإنها تتوزع على مسافات شاسعة بفعل الرياح؛ مما يجعل مهمة عالم المتحجرات البيئية صعبة بصورة خاصة.
قد تسجل بعض الحفريات بالفعل عناصر من تلك العمليات السابقة على الدفن. علامات أسنان الحيوانات المفترسة والحيوانات القَمَّامة تظل في بعض الأحيان محفورة على العظام والأصداف. وغالبًا ما تُحفظ الأسماك وقد انفجرت تجويفاتها البطنية نتيجة للغازات التي تنتجها البكتيريا. وربما يشير فرز و/أو توجه الحفريات على مستوى القاع إلى اتجاه التيار وقوته.
العوامل المختلفة التي تسبق الدفن قد تمنع أو تؤخر كل هذا التحلل والدمار والذوبان. وبصفة عامة، أفضل فرصة لدينا لاستعادة معلومات عن المجتمع الطبيعي في الحياة ربما تأتي من خلال جانب مخالف قطعًا للطبيعة من جوانب الوفاة. ربما تموت الكائنات في ظروف سامة للحيوانات القمَّامة والبكتيريا. وأبسط حالة من تلك الحالات ربما تكون عملية التحنيط التي تتم عن طريق التجفيف الهوائي السريع. فالحشرة التي تقع أسيرة في كتلة صغيرة من المادة الصمغية — التي تتحول إلى كهرمان — لأحد النباتات تصبح مخللة بالأساس. أما مستنقعات الخُث — حيث تكون هناك مستويات مرتفعة من أحماض الهيوميك والتانيك التي تعطل عمل البكتيريا أو تحول دونه — فتميل إلى حفظ الجيفة حفظًا جيدًا للغاية، وهي في الأساس مصدر تكوينات الفحم. هناك حالات لبشر حُفِظوا بصورة رائعة في مستنقعات خث حديثة. وكلما كان تطبيق تلك العوامل مبكرًا ولمدة أطول، زادت احتمالات حفظ الكائن الحي سليمًا، وفي العديد من مناطق الحفريات لا تزال هناك عينات فردية محفوظة في مكانها الأصلي.
من بين أبرز الأمثلة على مثل تلك الظروف الخاصة ينابيع النفط العتيقة المحفوظة في تجاويف القطران في رانشو لا بريا بجنوبي كاليفورنيا. اعتبارًا من ما يقرب من ٤٠ ألف عام مضت، تسربت برك من القطران نحو سطح الأرض، وكلما تغطت تلك التسريبات ببرك من مياه الأمطار صارت جذابة بالنسبة للحيوانات الجوالة مثل الخيول البرية (ولم تكن قد انقرضت بعد من أمريكا الشمالية) والجمال والماموث والماستودون. وعندما كانت تلك الحيوانات تعلق بالقطران، كانت تجذب الحيوانات المفترسة مثل السنوريات ذات الأسنان السيفية والأسود الأمريكية، فكانت تلك الضواري تقع هي الأخرى في الشرك. كذلك كانت هناك طيور مثل النسور والكندور والعقاب تحاول الاقتيات على تلك الجيف، فتقع هي الأخرى في الفخ؛ كذلك دخلت مواد نباتية إلى تلك المصيدة. وبالإجمال، حُفِظ في هذا القطران أكثر من ٦٦٠ نوعًا من الكائنات الحية؛ بل إنه يوجد حتى حفرية بشرية، وهي لأنثى يعود تاريخها إلى ٩ آلاف سنة مضت. إن خليط الأنواع، مع كونه منحازًا بشدة نحو الحيوانات المفترسة والحيوانات القَمَّامة التي حاولت الوصول إلى الجيف الواقعة في الشرك والاقتيات عليها، لا يعدُّ دلالة على المجتمع الأصلي. غير أن عملية حفظ الكائنات الواقعة في الشرك كانت مميزة بالفعل.
الدفن وعملية التصلد
تلعب البكتيريا الهوائية دورًا رئيسيًّا في تحلل البقايا العضوية أثناء تواجدها في التربة المكشوفة أو المياه الغنية بالأكسجين. وقد أوليت اهتمامًا كبيرًا في الماضي لفكرة أن البقايا تكون فرصتها أكبر في الحفظ إذا انتقلت سريعًا نحو بيئة ساكنة خالية من الأكسجين (لا أكسجينية). وتخلو التربة والمياه اللاأكسجينية من الحيوانات القمَّامة التي تُرى بالعين المجردة؛ كما أنه في الوحل اللاأكسجيني لا توجد ديدان حفارة ولا غيرها من المخلوقات التي تصنع اضطرابًا بالطبقة الرسوبية (اضطرابًا حيويًّا) أو توصل إليها الأكسجين. هذا هو الموقف — موسميًّا على الأقل — عند قاع البحيرات والأهوار البحرية عالية الإنتاجية، حيث تكون هناك وفرة زائدة من المادة العضوية والتي تستنفد عملية تحللها كمية الأكسجين الموجودة في مياه القاع. إلا أنه يبدو من المرجح أن البيئة المحيطة مباشرة بمعظم الكائنات التي تتعرض للتحلل داخل رسوبيات رطبة تكون لا أكسجينية في معظمها أو بالكلية على أية حال، ويرجع هذا ببساطة إلى أن البكتيريا الهوائية التي تقطن الجوار المباشر لبقايا الكائنات الحية تستهلك معظم أكسجين المنطقة.
أيًّا كانت الظروف التي يموت فيها الكائن الحي، فإن جثته سوف تضيع لا محالة ما لم تندمج في السياق الرسوبي الملائم. ومن بين تلك الظروف الرمال التي تحملها المياه والأوحال والطمي وشلالات الرماد. وأكثر أنواع الحفريات انتشارًا على الإطلاق تلك التي سقطت إلى (أو كانت تعيش في) قاع البحر، وصارت مكسوة بطبقة رسوبية انجرفت فوقها أو هطلت عليها من أعلى. وتوضح ترسبات بحيرات المياه العذبة — مثل أكاناراس فيش بيد الذي ينتمي للعصر الديفوني الأوسط باسكتلندا، أو ترسبات الخليج الإسكوميني المنتمي للعصر الديفوني المتأخر في كيبك، أو تكوين جرين ريفر الذي ينتمي للعصر الإيوسيني بولاية وايومنج، حيث تم العثور على الكثير والكثير من الحفريات الرائعة — توضح في الغالب سلسلة من الطبقات السنوية (طبقات حولية)، بالتبادل مع طبقة غنية بالمواد العضوية غاصت إلى القاع وتحللت نتيجة عمليات النفوق التي تقع بين فصلي الخريف/الشتاء، وتراكم الرسوبيات خلال فترات جفاف المياه في الربيع من الأراضي المحيطة بالمنطقة.
ومعظم الحفريات لا يتم العثور عليها فرادى، وإنما في مجموعات، غير أنه ينبغي توخي الحذر عند تفسير مثل تلك التجمعات؛ فإنها قد تمثل مجتمع حياة أو — وهو الأرجح — أنها ببساطة تراكمت بعد وفاتها في الموضع الذي حُفِظت فيه. في حالة بيرجس شيل، فإن الكائنات على ما يبدو نفقت في بيئة ما ثم انجرفت سريعًا إلى بيئة أخرى. إن أحجار سولنهوفن الجيرية الشهيرة الموجودة في بافاريا وتعود للعصر الجوراسي المتأخر قد تشكَّلت داخل سلسلة من الأهوار البحرية الضحلة شديدة الملوحة، والتي لم يكن بها سوى قدر ضئيل من الحياة اقتصر على الزراقم والمنخربات البلانكتونية. وكان القاع عبارة عن غرين رقيق من الطمي الغني بالكربونات. وكما هو الحال في رانشو لا بريا، فإن الحفريات المحفوظة في سولنهوفن كلها من أشكال من الحياة عاشت في موضع آخر ثم طارت إلى هذا المكان (مثل الأركيوبتركس والتيراصورات)، أو انجرفت إليه. وبمجرد أن حطت الرحال داخل الهور، سرعان ما ماتت ثم هوت نحو القاع فكساها الوحل، ولم تكن هناك أنواع حيوانية من التي تحفر الجحور ولا تيارات مائية كي تزعج الجيفة. فكانت المحصلة تكوُّن حجر جيري بلغ من دقة حبيباته أنه استخدم في صنع ألواح تستخدم في الطباعة الحجرية، كما حُفظَت الحفريات بداخله بصورة رائعة.
يمكن لعملية الدفن أن تقطع الطريق على المراحل السابقة للدفن؛ وهي التحلل والذوبان، وتحول دون المزيد من تمزق بقايا الكائن الحي وانتقالها لموضع آخر. إلا أن البقايا من الجائز أن تظل عرضة للاضطرابات التي تسببها الكائنات التي تحفر الجحور كما سيستمر التحلل البكتيري. ولكن الآن صار من الممكن بصورة أكبر توقع بدء المراحل الأولى من عملية التحول إلى حفريات. وفي ظل ظروف الدفن تلك، يبدأ نظام جديد من التغيرات الكيميائية لكلٍّ من الجثة والرسوبيات المحيطة بها.
البيئة وحفظ الكائنات
كذلك لا يبدو متوافقًا مع المنطق أن جزءًا من جسم حيوان ما يمكنه مقاومة آثار مرور العديد والعديد من السنوات؛ إذ إننا نرى أنه في أغلب الأحوال في نطاق مساحة زمنية لا تتجاوز بضع سنوات تتعرض نفس تلك الأجسام للدمار الشامل. غير أن هذا الاعتراض من الممكن بسهولة الرد عليه بالقول إن الأمر برمته يتوقف على نوع التربة: إذ إنني شاهدت مهادًا من «الطمي» أذابت — نظرًا لرقتها ونعومة عصارتها — جميع الأجساد التي احتوتها بداخلها؛ غير أنني شاهدت أيضًا مهادًا «رملية» حفظت جميع الأجزاء المطمورة فيها.
الكيمياء
أيًّا كانت أجزاء الكائن الأصلي التي بقيت كل تلك المدة — والتي ربما تشمل بعض الأنسجة العضوية، التي تتكون على الأرجح من بعض قطع هيكل معدني مقاوم للتآكل — فإن تغليف تلك البقايا المتحللة داخل الرسوبيات الرطبة يخلق بيئة كيميائية مجهرية ثلاثية الأبعاد. وهنا ينشأ حساء كيميائي موضعي ذو ظروف خاصة من الحموضة أو القلوية، ومركب ديناميكي من المواد الكيميائية التي يخرج بعضها نتاج تحلل البقايا إلى الطبقة الرسوبية، ويأتي البعض الآخر قادمًا من المياه والرسوبيات المحيطة. في أغلب الحالات، يأتي المحرك الكيميائي لهذه التغيرات من تحلل المادة العضوية المتبقية داخل الجيف (أكسدة الفوسفات والنترات، ثم بعد ذلك اختزال الكبريت). من الجائز أن يكون من العوامل الخاصة في عملية الحفظ وجود حصائر أو طبقات رقيقة من الكائنات المجهرية الدقيقة كالبكتيريا تكسو سطح الجيف. وتوفر تلك الأغطية بيئة عضوية تساعد على التمعدن وتنشِّط التركيز الموضعي للفوسفات والكربونات. وفي المواضع التي يحدث فيها ذلك، قد يكون مستوى التفاصيل المحفوظة في الحفرية مرتفعًا.
لما كانت العمليات الكيميائية للتصلُّد تجري داخل محلول مائي (الماء الذي تحتوي عليه الفراغات المسامية التي بالطبقة الرسوبية)، فإن جزءًا كبيرًا من العملية يعتمد على القابلية النسبية للذوبان للمواد التي تدخل في تلك العملية. فالعديد من المواد — ومنها على سبيل المثال، مينا الأسنان — تقاوم بشدة الذوبان في الماء. أما الأملاح المعدنية في العظام فإنها قابلة بنسبة طفيفة للغاية للذوبان في الماء، وأكثر قابلية للذوبان في الماء المالح. وما إذا كانت الأملاح المعدنية ستذوب في المياه المحيطة أم لا، فإن هذا سيعتمد أيضًا على مقدار الأملاح المعدنية التي تحتويها الحفريات بالفعل. في حالة معظم المواد الكيميائية، يكون المقدار الذي سيذوب في مقدار معلوم من الماء محدودًا، ويقال: إن المحلول «مشبع» عند تجاوز نقطة معينة. الكثير من مياه المسام تكون مشبعة بالفعل بالفوسفات والكربونات، وهذا من شأنه أن يؤخر عملية ذوبان الأملاح من الجيف في الماء أو يحول دونها. (من الجائز في ظل ظروف معينة أن يكون المحلول في حالة غير مستقرة من «التشبع الزائد»، ثم تتسبب عوامل تحفيز متنوعة في ترسيب المادة الذائبة خارجه من جديد. وفي تلك الحالة، تضاف أملاح معدنية إلى الحفرية بدلًا من أن تُنزع منها.)
وتتكون هياكل العديد من اللافقاريات من كربونات الكالسيوم؛ والطباشير والحجر الجيري مكونان من كربونات الكالسيوم أيضًا. وفي الهياكل الحية، يوجد هذا المركب في صورتين هيكليتين مختلفتين: «الأراجونايت» في حالة معظم الرخويات وبعض الشعاب المرجانية والإسفنجيات؛ و«الكالسايت» لدى معظم عضديات الأرجل، وبعض الإسفنجيات، والمنخربات، والصدفيات وشوكيات الجلد، وبعض مفصليات الأرجل؛ ولدى العديد من المجموعات تركيب مختلط. نادرًا ما يُحفظ الأراجونايت سليمًا، حيث إنه مركب غير مستقر وعادةً ما يحل الكالسايت محله سريعًا. في عملية التحول إلى حفرية لشيء مثل صدفة الأمونايت، يحدث من جديد أمر أشبه بسباق بين ذوبان الأراجونايت وترسيب الكالسايت.
إذا بدأت عملية الذوبان تمامًا قبل أن يُستبدل المعدن، من الجائز أن تترك الحفرية في صورة قالب طبيعي أجوف داخل الطبقة الرسوبية؛ ولعل هذا الأمر يتطلب معاونة غطاء كاسٍ من الكائنات المجهرية. أما إذا سارت عملية إحلال الكالسايت محل الأراجونايت بصورة مطردة في موقع الحفرية، فمن الجائز أن يُحفظ التركيب المجهري الداخلي للصدفة. وفي بعض الأحيان، يحفظ الأراجونايت الأصلي ثم قد يعثر المرء على الألوان الأصلية للأمونايت المتحجرة التي تعود للعصر الطباشيري. وربما يحل الدولومايت (كربونات المغنسيوم)، أو البايرايت (كبريتيد الحديد) أو السيليكا — في صورة أوبال أو عقيق أبيض — محلَّ كلٍّ من الأراجونايت والكالسايت بصورة كلية أو جزئية.
في الأحوال العادية، تكون هياكل الفقاريات مصنوعة من فوسفات الكالسيوم (هيدروكسي-أباتايت) لا من كربونات الكالسيوم. العظام مادة مركبة تترسب المعادن بداخلها فوق هيكل بروتيني من الكولاجين، وعادةً ما تكون مليئة بالخلايا والأوعية الدموية. في عملية التحول إلى حفرية، ومع بدء عملية التحلل، قد يحل الكالسايت محل الأباتايت. وعادةً ما يفقد الهيكل المجهري للكولاجين وتمتلئ الفراغات المتخلفة عنه بكربونات كالسيوم أعيد تبلورها من مياه المسام. وعادةً ما يلتقط هذا توقيع العناصر الزهيدة مثل الكادميوم والكروم، وعناصر الأرض النادرة مثل الثوريوم واليورانيوم من مياه المسام. وقد تبيَّن أن تلك الحقيقة مفيدة للغاية؛ لأن تلك العناصر الزهيدة من الممكن أن تكشف عن المصدر الذي جاءت منه الحفرية. فعلى سبيل المثال، عادة ما تكون حفريات الأسماك التي عُثِر عليها في مجموعة صخور نيوارك التي تعود للعصر الترياسي المتأخر الموجودة في شرقي أمريكا الشمالية نشطة إشعاعيًّا بسبب احتوائها على مادة اليورانيوم. وفي بعض الأحيان تحل السيليكا (الأوبال) محل أباتايت العظام؛ بل إنه يوجد هيكل كامل لحيوان بليزوصور من أستراليا مكون بالكامل من الأوبال.
عادةً ما تكون هياكل السيليكا لبعض الإسفنجيات، والدياتومات، والراديولاريا في صورة (أوبال-إيه) الذي يذوب في مياه المسام القلوية (منتجًا محلولًا مشبعًا من الأوبال-سي تي المتبلور المجهري) ثم بعد ذلك يعاد تبلوره في صورة كوارتز. إلا أنه قبل أن يصير هذا الأمر ممكن الحدوث، قد يذوب الهيكل الأصلي المصنوع من السيليكا تمامًا أو يحل محله الكالسايت، أو في حالة وجوده في رسوبيات غنية بالمادة العضوية، يحل محله مركب فوسفات الكالسيوم.
في عملية التمعدن، تنفذ المعادن الذائبة في مياه المسام بالطبقة الرسوبية إلى جميع الفراغات المسامية المتبقية داخل الأنسجة مثل الخشب وعظام الفقاريات وتترسب بداخلها. وتفتقر أصداف اللافقاريات إلى مثل تلك الفراغات. المادة النباتية هي الأكثر تعرضًا للتحول إلى سيليكا من النسيج الحيواني، لدرجة أن هناك أشجارًا متحجرة بأكملها. في حالات خاصة مثل الترسبات الحفرية المعروفة باسم رايني تشيرت التي عثر عليها في اسكتلندا وتعود للعصر الديفوني المبكر، كانت بيئة من برك المياه العذبة الضحلة تحاط على فترات دورية بمياه آتية من ينابيع حارة مشبعة بالسيليكا. وهنا، اختصر زمن التحلل العضوي وسمحت عملية التحول السريع إلى السيليكون بحفظ الأنسجة الرخوة. وهناك أنواع أخرى من التمعدن تتضمَّن تكونًا للبايرايت وأنواع مختلفة من مركبات الفوسفات. وكلما بدأت عملية التمعدن أسرع، كانت فرص حفظ تفاصيل الأنسجة الرخوة أفضل.
ربما كان أوضح مثال على النشاط الكيميائي داخل البيئة المصغرة المحيطة بالبقايا المطمورة هو تكون ما يعرف بالعقيدات. وهنا، تتكون عُقَيدة من الكربونات داخل الطبقة الرسوبية المحيطة، وذلك حول نواة من مادة عضوية، فيما يشبه نمو لؤلؤة حول حبة رمال داخل محارة. إن شكل العُقَيدة وتفاصيل تكوينها يعتمد اعتمادًا كبيرًا على موقع الجيفة بالنسبة لمنطقة الترسيب الجديدة وعلى عوامل أخرى مثل إنتاج الميثان أثناء تحلل المواد العضوية. ويتم العثور على متحجرات في مواقع عديدة في جميع أنحاء العالم. وفي أغلب الحالات، لم تكن النواة سوى شذرة من مادة عضوية، غير أنه في بعض الحالات يتبيَّن أن المتحجرة تحتوي على حفرية متميزة. من بين أشهر الأماكن التي توجد بها العُقيدات موقع جوجو فورميشن الذي ينتمي إلى العصر الديفوني بغربي أستراليا؛ وموقع مازون كريك البنسلفاني (الذي يرجع للعصر الكربوني المتأخر) في ولاية إلينوي؛ وقيعان العقيدات المنتمية للعصر الترياسي بمدغشقر؛ وموقع سانتانا فورميشن الذي يرجع للعصر الطباشيري بالبرازيل؛ وموقع فوكس هيل ساندستون بداكوتا الشمالية؛ وفي تكوين لندن كلاي فورميشن الذي ينتمي للعصر الإيوسيني. عند تكون العُقَيدة، يُعتقد أن اختزال المادة العضوية للنواة يؤدي إلى تشبع فائق موضعي للمياه المسامية بالكربونات. وبعدها يعاد ترسب تلك الكربونات حول المحيط الخارجي للعُقَيدة النامية (في صورة معادن السايدرايت أو الأنكيرايت).
برغم حدوث تحلل عام للمواد العضوية في الحفريات الآخذة في التكون، فإنه يحدث في حالات خاصة أن ينقطع مسار ذلك التحلل بحيث — مثلما هو الحال عند تكون الخُث والفحم والنفط — يجري حفظ قدر كبير من المادة العضوية. ينشأ الفحم عن طريق تحلل غير مكتمل لترسبات هائلة الحجم أشبه بالخث من مادة نباتية تراكمت في مستنقعات بالغة القدم بالمناطق الاستوائية وشبه الاستوائية. ويمثل النفط والغاز بقايا مواد هيدروكربونية عُزلت داخل أجساد تريليونات لا تحصى من الكائنات المجهرية البلانكتونية التي عاشت في محيطات سحيقة القدم. وينتقل الغاز والنفط عبر الصخور المسامية ويتراكمان داخلها، ويمكن استخراجهما من تلك الصخور. وفي تلك الأحوال الثلاثة، تكون الحرارة والضغط عاملين ضروريين لتلك العملية.
برغم كل تلك التقلبات، فإن بعض البروتينات — منها الكولاجين على سبيل المثال — من الجائز أن تعمر لمدة زمنية طويلة داخل البقايا الحفرية. وربما تبقى آثار الحمض الأميني لعدة ملايين من السنين (تصل إلى ١٠٠ مليون عام، كما يزعم البعض)، بل إن شذرات من تسلسلات الحمض النووي دي إن إيه من الجائز أن تصمد لمدة تتراوح بين ١٠٠ إلى ١٢٠ ألف عام. وكلما كبر حجم الجزيئات التي حفظت، زاد حجم المعلومات التي من المتوقع أن تحويها. من ناحية أخرى، في بعض الحفريات يكون كل ما تبقى منها هو غشاءً كربونيًّا، وكأنه صورة فوتوغرافية تسجل بأمانة تامة شكل الكائن الحي، فوق الصخرة.
التصخر
تكون عملية تصلد البقايا الحفرية مصحوبة بسلسلة كاملة من العمليات الموازية لما يعرف بالتصخر (أي التحول إلى صخر). يشجع الانضغاط والتخلص من الماء على التحام حبيبات الطبقة الرسوبية معًا والتصاقها، وهكذا قد تتكون بلورات معادن جديدة مثل الفيلدسبار. ويعتمد مقدار تشوه البقايا الحفرية عن طريق انضغاط الصخور اعتمادًا كبيرًا على التوقيت النسبي للأحداث. فإذا سبق التصخر عملية الانضغاط بفترة زمنية كافية، فإن البقايا الحفرية تُحفظ سليمة بأبعادها المجسمة. ولكن الكثير والكثير من الحفريات ينتهي بها الأمر إلى أن تصير مسطحة كليًّا أو جزئيًّا، وغالبًا ما تتشوَّه على نحو عجيب من خلال التشوُّه التشكيلي للحفرية والصخور معًا. ويلعب الضغط والحرارة دورًا رئيسيًّا في التصلد المتأخر، ولكن ليس في جميع الأحوال. فبعض الحفريات بالغة القدم تبدو طبيعية للغاية، في حين أن حفريات أخرى تبدو كما لو أنها قد تعرَّضت لعملية طهي.
الحفريات والصناعة
للحفريات عدد من الاستخدامات الاقتصادية المباشرة، بخلاف إسهامها في العلوم البحتة. تُستخرج الصخور المكونة من دياتومات حفريات مجهرية لنطاق كبير من الاستخدامات، مثل استخدامها في المرشحات (التراب الدياتومي)، بل وحتى في مستحضرات التجميل. يطلق على الفحم والغاز الطبيعي والنفط «الوقود الحفري»، وهي نتاج كائنات كانت حية ذات يوم، برغم تزايد الجدل بأن غاز الميثان ربما يكون من الصخور نفسها بعد التعرض لضغط هائل. وهي جميعها من الهيدروكربونات العضوية، ومصدرها الرئيسي المادة النباتية الميتة؛ في حالة الفحم، جاءت تلك المركبات من ترسبات خُث عتيقة في المياه العذبة ترسبت في مستنقعات؛ أما في حالة النفط، فجاءت من بلانكتون مجهري كان يعيش في البحار.
وكما تسمح «الأنماط المميزة» من الحفريات للجيولوجيين بدقة أن يربطوا بين الطبقات في تسلسل طبقاتي، فإنها يمكن استخدامها لأغراض تنبُّئِية. فقيعان كافة أحواض المحيطات — منذ قديم الأزل إلى اليوم — تراكم طبقات فوق طبقات من الحفريات المجهرية: المنخربات، والصفائح الحبرية، والدياتومات، والراديولاريا. وتشهد الترسبات الطباشيرية — التي يبلغ سمكها آلاف الأقدام من أوروبا إلى أستراليا — لكل من غزارة إنتاجية المحيطات ومقاومة تلك الهياكل المجهرية للتحلل. واليوم، يستخدم مستكشفو صناعتي الغاز والنفط الأنماط التي تميز تلك الحفريات المجهرية عند تحليل العينات من الحفر التي يصنعونها في الأرض. وبهذه الطريقة، تمكن قراءة جيولوجيا المنطقة حتى من عينات تُستخرج من الحفر التي تصنع من على ظهر السفن، والتنبؤ ليس بأماكن تواجد خزانات النفط فحسب، وإنما أيضًا بكميات النفط التي تحتوي عليها.
وتتباين الآراء فيما يتعلق بإجمالي طول المدة الزمنية اللازمة «لتكون حفرية ما». إن عمليات التثبيت الكيميائي والتصلد ينبغي أن تبدأ في غضون أيام من الانطمار، والتمعدن ربما يكتمل إلى حدٍّ كبير في غضون عشرات السنين. أما بالنسبة لحفظ التفاصيل الدقيقة، بل ويصل الأمر فيه لحفظ الأنسجة الرخوة — وهو ما يكسب ما يسمى بترسبات لاجرستاتن أهمية بالغة — لا بد أن تكون المراحل المبكرة قد حدثت بسرعة كبيرة. إلا أنه حتى في تلك الحالة، قد تستغرق عملية التصلب والتصخر التام للرسوبيات المحيطة بها آلاف — وربما ملايين — السنين.
الآثار الأحفورية
مع أن البقايا الحفرية للأجزاء الصلبة من الجسم والحفريات التي نقع عليها في بعض الأحيان لأجزاء رخوة تخبرنا بالكثير والكثير عن الكائن الأصلي، فإن الآثار الأحفورية تعطينا رؤية مختلفة وموازية عن العالم المندثر. وتشمل تلك الظاهرة آثار أقدام الكائن، والأنفاق التي حفرها، وبقايا الروث، والثقوب التي صنعها وعلامات أسنانه، وهي مجتمعة مع ظواهر متعلقة بها مثل طبعات قطرات المطر، وتشققات الطمي، وعلامات التموج والتيارات البحرية، تقدم لنا معلومات بيئية وسلوكية فريدة من نوعها.
معظم الآثار الأحفورية تكوَّنت في مادة لينة أو عندما صنع كائن ما علامة مميزة فوق سطح ما يتَّسم بالصفات الملائمة، والتي يُعدُّ الطمي أبرزها. ولا بد أن السطح لم يكن مبتلًّا بشدة، وإلا ضاع الأثر سريعًا، ولا شديد اللزوجة، وإلا يصبح تحديد العلامة مبهَمًا. ربما بسبب ضخامة الحجم والعمق، فإن مسارات أقدام الديناصورات شديدة الشيوع. وفي أحوال بالغة الندرة، بالطبع، يمكن التعرف على الكائن الذي صنع الأثر من حيث نوعه؛ وهذا لا يكون ممكنًا إلا في ظل وضع نموذجي، كأن يُعثر على الحيوان راقدًا ميتًا في خندقه أو عند نهاية خط سيره، مثلما هو الحال في المثال الشهير لسرطان حدوة الحصان الذي انجرف إلى هور سولنهوفن، ثم مات فجأة في مكانه.
عادةً ما يبين فحص مقطع رأسي لأثر الأقدام أن البصمة ربما تكون انطبعت خلال عدة طبقات رقيقة من الرسوبيات، وأن مستوى القاع الذي يتم شطره للكشف عن الأثر ربما لا يكون هو المستوى «العلوي» الذي يميز الفاصل بين السطح الأصلي وبين طبقة رسوبية ترسَّبت في وقت لاحق. ومعنى ذلك أنه — في حالة بصمة قدم ثقيلة — ربما يتم حفظ الطبعة الأصلية لأثر الأقدام في رسوبيات أعمق، حتى وإن كانت العلامة الفعلية فوق السطح المكشوف قد تعرَّضت للتشوُّه أو المحو.
الاكتشاف والإعداد
من الممكن أن تضيع بقايا أي كائن عند أية مرحلة، وحتى عندما تُحفظ الحفريات، فإنها قد تكون مراوغة على نحو مذهل؛ فقد تكون مطمورة بالعديد والعديد من الطبقات المكونة من صخور أحدث عهدًا حتى إنها قد لا تظهر على السطح مطلقًا إلى الأبد. وربما تتعرض الصخور التي دفنت فيها للدمار من خلال عمليات التآكل أو الاندساس. ولا يمكن العثور على الحفرية والتقاطها إلا عندما ينكشف من جديد المهد الذي ترقد فيه ويخرج إلى سطح الأرض (أن تعمل قوى الطبيعة على تعرية الطبقات الصخرية التي تعلوها أو أن تتم تلك التعرية بيد الإنسان). وفي أوروبا الغربية حيث الطقس لطيف وتعمل الارتفاعات المنخفضة (في أغلب البقاع) على ضمان نمو كثيف للحياة النباتية، فيعتمد اكتشاف الحفريات على التعرية التي تحدث بالمصادفة على امتداد قيعان الجداول، وسفوح التلال المنحدرة، والجروف البحرية وفي المحاجر، وأثناء شق الطرق وإنشاء خطوط السكك الحديدية، وأعمال حفر المناجم. ونجد على النقيض من ذلك أنه في أماكن مثل غرب أمريكا الشمالية، وأستراليا وصحراء جوبي توجد مسطحات من الأراضي المكشوفة نسبيًّا، والتي تتعرض لعوامل التعرية بمعدل أسرع، فتكشف عن عدد أكبر من الحفريات، إن وجد. وأينما ظهرت الحفريات، من الضروري العثور عليها بسرعة نسبية قبل أن تُختزَل من جديد لتصبح حبات رمال بفعل التجوية أو التآكل.
العثور على الأماكن الملائمة والصخور المناسبة للاستكشاف يعد علمًا وفنًّا في آن واحد. وفي كثير من الأحيان، يعتمد اكتشاف موقع ما للحفريات أولًا على الاستكشاف الجيولوجي الأساسي وعلى رسم الخرائط التي رسمها أناس آخرون. فالعديد من المواقع المهمة اكتشفت لأول مرة عن طريق شخص ما وجد قطعة أو قطعتين من الحفريات التي ظهرت على السطح بفعل التجوية. وفي نهاية المطاف، فإن العثور على الحفريات يعتمد على أمرين: الكثير والكثير من البحث وامتلاك «عين ثاقبة». وفي حين أن العامل الأول واضح، فإن الثاني ليس كذلك. فقد كان لدى كبار جامعي الحفريات دومًا القدرة على رؤية الحفريات في أماكن كان غيرهم سيمر عليها مرور الكرام. وهو أمر يبدو أنه ليس من السهولة اكتسابه. وقد اكتشفت — وأنا نفسي لا أمتلك تلك العين الثاقبة — مبكرًا أن أفضل عمليات جمع الحفريات التي قمت بها كانت في دواليب المتاحف حيث تركز عمل خبراء سابقين على مدار مئات السنوات. لكن أولئك الذين يرغبون في دراسة علم ما مثل تركيب مجتمع الحفريات، عليهم أن يخرجوا ويبذلوا الجهد الشاق بأنفسهم؛ لأنه نادرًا ما يتبيَّن للمرء أن آخرين جمعوا الحفريات للهدف نفسه الذي سعى هو إليه.
حتى عند العثور على إحدى الحفريات، والتقاطها بحرص، وإحضارها للمعمل لدراستها، لا يزال هناك الكثير من العمل لإنجازه. ففي المعمل، يتولى أمر الحفرية «مُعِدٌّ» يتوقف الكثير على ما يتمتع به من مهارات تقنية. فينبغي إزالة التغليف الواقي بحرص بالغ؛ لأن الصخرة ستكون قد جفت خلال الفترة الزمنية التي مرت منذ جمع العينة، كما ينبغي أيضًا إزالة أي صمغ أو مثبت وُضِع في الميدان. بعدها يجري إعداد العينة بحرص، ويكون ذلك عادةً بأسلوب ميكانيكي مختبر زمنيًّا حيث تُزال الصخرة المغلِّفة للحفرية ببطء شديد تحت المجهر باستخدام أزاميل وإبر دقيقة جدًّا من الصلب. وفي بعض الأحيان، من الممكن استعمال أدوات ميكانيكية مثل مثقاب الأسنان إذا كانت الحفرية ستتحمل الذبذبات. وفي بعض الأحيان، يُزال الكساء المغطي لها بإذابته بالأحماض. وإذا كانت الحفرية مصنوعة من شيء يتمتع بمقاومة جيدة نسبيًّا مثل السيليكا ومحفوظة داخل حجر جيري، فإنه من الممكن إذابة الحجر الجيري بحرص في حمض مخفف، بحيث يخلف الحفرية المكوَّنة من السيليكا دون أن يمسها بسوء. ويبدو هذا أشبه بعملية بسيطة نسبيًّا، لكنه أمر عسير دومًا كما أنه يستغرق الكثير من الوقت؛ لأن الحفرية نفسها يجب حمايتها بالشمع والورنيش أثناء غمر الحفرية بأكملها داخل حوض من المادة الحمضية. وبعدها تُغسل ثم يجري تكرار العملية برمتها عدة مرات.
وينتهي الأمر ببعض الحفريات داخل طبقات رسوبية مثل الطباشير والليجنايت التي تكون على درجة من اللين بحيث يمكن الحفر واستخراجها باستخدام سكين خلط الألوان التي يستخدمها الرسامون ثم تنظيفها بالماء مع الفرشاة. بينما نجد صخورًا أخرى بالغة الصلادة، لا سيما عندما تكون ملتصقة معًا بمعادن يدخل الحديد في تركيبها، بحيث تكون شديدة المقاومة لأقوى أنواع الأزاميل وللغالبية العظمى من الأحماض عدا أشدها قوة. وفي المتوسط، كلما كانت الطبقة الرسوبية أحدث عهدًا، كانت الحفرية أفضل وأيسر في «تجهيزها». وأقل الطرق اختراقًا لفحص الحفرية هي عن طريق مسحها بالأشعة المقطعية، وإعادة بناء الحيوان بأكمله بواسطة الكمبيوتر. أما أكثرها اختراقًا فهي كسر أجزاء تسلسلية على مسافات بالغة الدقة (٣٠ ميكرونًا، على سبيل المثال)، وتصويرها في كل مرة، ثم إعادة تكوينها باستخدام الكمبيوتر. وعلى أية حال، وفي الغالب الأعم، من الممكن أن تمر أيام، بل وأسابيع، إلى أن تنكشف التفاصيل الكاملة للعينة.