التطور
قد يكون موضوع التطور مثيرًا للجدل عندما لا يتفهَّم الناس أنه من الممكن استخدام المصطلح في سياقات عديدة مختلفة وفي كلٍّ منها يحمل معنًى مختلفًا اختلافًا جوهريًّا. لعبت الحفريات دورًا رئيسيًّا في تقدم جميع جوانب التطور العضوي ولا تزال تلعب دورًا محوريًّا فيما يتعلق بمحاولة فهم أنماط التغير التطوري وأسبابه. أول تلك الأدوار وأهمها، أن الحفريات هي البرهان الموثق على عملية التطور من حيث التغير في الحياة بمرور الزمن: فالكائنات الأولية البسيطة (الأدنى مرتبة) تكملها في الحياة، وفي كثير من الأحيان تحل محلها، كائنات أكثر تعقيدًا (أعلى مرتبة). إن سجل الحفريات يقدم لنا سلسلة من الأنماط المتسقة لتلك التغيرات مع مرور الزمن، يتضمَّن عمليات نشوء وانقراض لا سبيل للحئول دونها، وإحلال وتجديد متواصل للحياة بالمملكتين الحيوانية والنباتية، وهو انعكاس أيضًا للتذبذب في البيئات التي عاشت فيها جميعًا. والأنماط نفسها متوقفة بعضها على بعض؛ ففي أي وقت من أزمنة التاريخ الجيولوجي، ما يوجد الآن يعتمد على ما كان موجودًا من قبل. إن اتساقها يشكل الأساس لاستخدام الحفريات في رسم طبقات الأرض.
وقد نجح فهمنا لأنماط التنوع المتغير في سجل الدهر الفانروزي في الصمود أمام اختبار الزمن صمودًا واضحًا. وعلى الرغم من أنه من الجائز أن تجري مراجعة التفاصيل في كل مرة يبدأ فيها جامع الحفريات في العمل، فإن السمات العامة دائمًا ما يجري تأكيدها. على مستوى الفقاريات، تأتي الأسماك أولًا، ثم البرمائيات والزواحف؛ ثم الطيور والثدييات متأخرة، ثم الإنسان في آخر القائمة (حتى الآن). فلا توجد ثدييات في العصر الأوردوفيشي، ولا ديناصورات في العصر الديفوني، ولا بشر في العصر الجوراسي. ولم تنجح أيٌّ من مجموعات الزواحف العملاقة التي عاشت في حقبة الميسوزوي — مثل الإكتيوصورات — في البقاء على قيد الحياة حتى العصر الثلاثي؛ فلا توجد بليزوصورات حية (باستثناء ما يعتقد في وجوده والمسمى بوحش بحيرة لوخ نيس). ويمكننا الزعم بشأن ماهية العمليات التي ربما تكون أحدثت كل تلك التغيرات، ولكن تبقى البيانات الأولية (أي الحفريات والعصور النسبية لكلٍّ منها) حقائق لا مجرد افتراضات. فلو أننا عثرنا في يوم من الأيام على حفرية بشرية وقد احتضنتها بصورة لا تدع مجالًا للشك أذرع ديناصور (وهو أمر تصوره عادةً خيالات قصص الرسوم المتحركة)، فإن هذا سينفي مفهومنا بالكامل عن العملية التطورية بمرور الزمن بصورة نهائية (وقد كانت هناك محاولات تشوبها الأخطاء من قبل معادي نظرية التطور لتحديد آثار خطى بشرية على امتداد آثار سير ديناصورات في موقع يعود للعصر الطباشيري المبكر بجلين روز في تكساس). ولعل سجل الحفريات يمثل واحدًا من أكثر «الحقائق» التي تخضع للاختبار بصورة مستمرة في العلم. ففي كل يوم، في مكان ما على هذا الكوكب، يحفر أحد علماء المتحجِّرات الأرض ليستخرج حفرية. وكثيرًا ما تتيح لنا تلك الحفريات تنقيح وجهة نظرنا عن جزء من النمط التطوري العظيم للحياة، غير أنها لا تقلبها أبدًا رأسًا على عقب.
أما المعنى الرئيسي الثاني لمصطلح «التطور» فينطوي على العلاقة؛ أي مفهوم أن جميع الأنواع المختلفة من الكائنات، سواءٌ الحية أو الحفريات، يمكن وضعها (على أساس تركيبها وخصائصها الوراثية التي يتم التعرف عليها من حمضها النووي كلما أمكن ذلك) في خارطة واحدة معقدة من التشابه والاختلافات. فطيور الشحرور أكثر شبهًا بطائر السمنة من شبه أيٍّ منهما بطائر نقار الخشب مثلًا وهكذا. إن التطور يفسر تلك الأنماط على أنها تمثل علم الأنساب. وبدلًا من تكوين سلسلة من السلالات المستقلة بعضها عن بعض، فإن جميع الكائنات الحية والحفرية يرتبط بعضها ببعض في نمط من التنوع عن طريق التفرع الذي لا يتسق إلا في حالة وجود صلة قرابة. ويفسر التطور أن هذا التنوع نتج عن عملية الانحدار من نسل أسلاف مشتركين. ومن ثم، فإن الحفريات تعبر عن سلسلة من اللقطات السريعة (لكنها لا تعبر بعد عن فيلم مكتمل) لشجرة عائلة ضخمة؛ أي معرض لوحات فنية للحياة بأسرها.
في الوقت الذي ظهر فيه تشارلز داروين على مسرح الأحداث كي يقدم المعنى الثالث للتطور في صورة آلية فعلية — وهي الانتخاب الطبيعي — كان التطور بمفهوميه السابقين قد أصبح أمرًا مألوفًا بالفعل. وعندما يقول أحدهم إن «التطور ما هو إلا نظرية»، فإنه يقصد بذلك الانتخاب الطبيعي، أما التطور باعتباره عملية تغير عضوية تتم مع مرور الزمن، فهو حقيقة مسلم بها.
أهو فجوة أكثر منه سجلًّا؟
إن علم المتحجرات بصفته علمًا، يجب أن يكون قائمًا على فهم متميز لتركيب الحفريات وهويتها. وعندما نقول إن شيئًا ما نادر الوجود، أو إن شيئًا آخر شائع أو واسع الانتشار، إذا استنتجنا من هذا أن بعض الظواهر تطورت بمعدل أسرع من غيرها، فإننا نكون بحاجة للتأكد من أن انتقاءنا للعينة مكتمل وشديد الدقة من الناحية الكمية.
يقع مفهوم الاستمرارية في قلب جميع أبحاث علم المتحجِّرات. من حيث المبدأ، يجب أن يقدم السجل الجيولوجي وصفًا مكتملًا ومتدرجًا وسنويًّا للحياة على الأرض، معتمدًا في ذلك على الحفريات. أما في الواقع العملي فإنه لا يقوم بذلك. في ترسبات البحيرات قد يعثر المرء على ترسيب حقيقي عامًا بعام لحفريات تمتد بصورة متواصلة على مدى بضع مئات وربما آلاف من السنوات، ولكن ليس ملايين السنوات. فعلى سبيل المثال، تقدم ترسبات بحيرة الحفريات في نيوآرك سوبرجروب بشرق أمريكا الشمالية سجلًّا ممتازًا للتغير المستمر في ممالك الأسماك في نهاية العصر الترياسي.
أدرك تشارلز داروين أن سجل رسم طبقات الأرض وحفرياته — برغم أنه كان في مقدوره (والآن تحقق هذا على نطاق واسع) أن يوثق المسار الإجمالي لعملية التطور — ربما لن يوفر مطلقًا أي دليل قاطع فيما يتعلق بكيفية حدوث التطافر لأحد أنواع الكائنات. إن لدينا فقط سجلًّا غير مكتمل لتاريخ كوكب الأرض والحياة فوق سطحه، قد يكون مفصلًا في موضع، ومرقعًا في موضع آخر، ومفقودًا في موضع ثالث. فلم تعد القطع هائلة الحجم من سجل الصخور قائمة، حيث تم تدميرها في عمليات جيولوجية لا ترحم مثل التجلد وتكتونيات الصفائح. وهناك تتابعات أخرى لم يُعثر عليها، أو طمرت في أعماق سحيقة، حتى إنه لن يكون من الممكن الكشف عنها. وقد أوجز الراحل ديريك أجر — وهو جيولوجي بريطاني كان إلى حد ما يخالف الأعراف الراسخة — الموقف في عبارة خالدة، تصف علم وصف طبقات الأرض بأنه: «فجوة أكثر منه سجلًّا.» وبأنه مثل وصف طفل لشبكة بأنها ثقوب كثيرة متصلة فيما بينها بخيط؛ مما يعني أنه يتوجب علينا أن نستخدم السجل بحذر، مما يعيد صياغة عبارة هاملت: «هناك في السماوات والأرض أشياء أكثر مما حلمنا به في علم المتحجرات الذي ندرسه.»
يبلغ إجمالي أعداد أنواع الحفريات الموصوفة، على مدار الدهر الفانروزي بأسره، حوالي ٢٥٠ ألف نوع. ولما كان هناك ما بين ١٫٥ و٤٫٥ ملايين نوع يعيش الآن وكان الدهر الفانروزي قد دام مدة ٥٤٥ مليون عام، فإن المشكلة تكون واضحة: إن الحفريات التي نعرفها لا تمثل بكل المقاييس سوى نسبة ضئيلة من إجمالي التنوع البيولوجي الذي كان موجودًا. وكما ناقشنا في الفصل الخامس، بعض أنواع البيئات سيكون احتمال أن تمدنا بسجل مميز للحفريات أقل من غيرها بكثير. فعلى سبيل المثال، لدينا سجل فقير عن المرتفعات، والأماكن مرتفعة الطاقة، والبيئات الرسوبية، ومعظم البيئات الاستوائية. وهناك أنواع معينة من الكائنات ليس من المرجح أن تتحول إلى حفريات. (سجل الحفريات فقير بصورة خاصة فيما يتعلق بالحشرات التي تشكل في مجموعها اليوم أكثر من ٥٠٪ من سائر الحيوانات التي تشاهد بالعين المجردة على سطح الأرض.)
عدم اكتمال السجل
وبالقدر نفسه … الذي حدث به الانقراض على نطاق هائل، لا بد من وجود عدد هائل من الأنواع المختلفة الوسيطة على سطح الأرض. فلماذا إذن لا يمتلئ كل تكوين جيولوجي وكل طبقة من طبقات الأرض بمثل تلك الروابط الوسيطة؟ إن علم الجيولوجيا لا يكشف بالطبع عن أيٍّ من تلك السلاسل العضوية المتدرجة بصورة دقيقة؛ وربما يكون هذا هو أوضح وأقوى اعتراض يمكن إثارته على نظريتي. ويكمن التفسير — من وجهة نظري — في كون السجل الجيولوجي أبعد ما يكون عن الكمال.
في الوقت الذي ربما لا نتمكن فيه من معرفة أكثر من نسبة ضئيلة للغاية من «الأنواع» التي عاشت يومًا على ظهر الأرض، فلو أننا حصرنا أنفسنا في المجموعات التي من المحتمل أنها حُفظَت في السجل، مثل اللافقاريات البحرية ذات الأصداف الصلبة، فإن الموقف يصبح جيدًا إلى حد ما. وعند الفئات الأعلى مثل الفصائل والرتب، ربما يكون السجل مكتملًا بنسبة تتراوح بين ٧٠ و٩٠٪؛ وعند مستوى الجنس قد يكون بين ٥٠ و٦٠٪ أو أقل. ومن الممكن استخدام عدد من أساليب الحساب الكمي المعقدة في تقدير مدى عدم اكتمال (ومن ثم معرفة مقدار الاستفادة من) جزء محدد من سجل الحفريات. ويمكننا — على سبيل المثال — قياس معدل اكتشاف أنواع جديدة أو مجموعات أرقى بالمقارنة بالجهود البحثية المبذولة. على سبيل المثال، في المراحل الأولى من جمع الحفريات في موقع مهم مثل سولنهوفن، ربما يزداد عدد الأنواع الجديدة المكتشفة في علاقة مباشرة مع عدد العينات التي يتم جمعها. ولكن سرعان ما تتضاءل نسبة العينات الجديدة المكتشفة، وينخفض معدل اكتشاف أجناس جديدة بسرعة أكبر، ويكون معدل انخفاض اكتشاف الفصائل والرتب أسرع من كل ما سبق.
وتتمتع مسألة الاكتمال بأهمية نظرًا لاحتمالية ألا يكشف سجل الحفريات عن الطبيعة النوعية للتطور فحسب، وإنما أيضًا عن السمات الكمية مثل معدلات التطور وأنماط التنوع بمرور الزمن. إلا أنه في واقع الأمر، القضية المحورية هنا ليست قضية اكتمال السجل في حد ذاته، وإنما مدى كفايته للإجابة عن تساؤلات محددة. ووجهة النظر الواقعية هي أنه بينما لن نتمكن قط من عمل حصر كمي للمدى الكامل للتنوع البيولوجي العالمي في سجل الحفريات، فإنه يمكننا إجراء دراسات دقيقة على أجزاء من السجل وعلى أنواع محددة من الكائنات وفئات معينة من البيئة.
الإنسان ليس معصومًا
هناك نوعان من الشرور يحدِّقان بدراسة البقايا العضوية، وهما برغم اتسامهما بشخصيتين متناقضتين، لا يمحق أيٌّ منهما تأثير الآخر كما يمكن للمرء أن يتوقع للوهلة الأولى: الأول يتكون من رغبة جامحة في العثور على بقايا عضوية مشابهة في ترسبات يفترض أنها متكافئة، حتى ولو كانت تقع على مسافات بعيدة للغاية بعضها عن بعض، والآخر الميل الذي لا يقل عنه قوة نحو اكتشاف أنواع جديدة.
وكل هذا يعني أنه مثلما هو الحال في كل ميدان من ميادين العلم، فإن تعريف القضية في المقام الأول هو أكثر المهام أهمية على الإطلاق. وبعده يمكن توفيق مجموعات البيانات مع القضية. على سبيل المثال، دراسة مجموعة معينة من مواقع الحفريات ربما تجيب عن سؤال يدور حول تطور الكائنات البحرية اللاطئة عبر فترة زمنية معلومة؛ والذي ربما يكشف عن حدوث انقراض واسع النطاق. غير أن هذا على الأرجح لن يجيب عن التساؤل عما يحدث في بحيرة مياه عذبة معاصرة، حيث ربما كان الانتواع في ذروته. إذا اكتفينا بتقدير متوسط ما كان يحدث في كلا البيئتين، فسوف نتوصل إلى استنتاج خاطئ مفاده أن التطور كان يمضي قدمًا بمعدل «طبيعي» نوعًا ما. ومن ناحية أخرى، إذا كان نمط التغيير هو نفسه في بيئتين مختلفتين في آنٍ واحد، لكنا توصلنا إلى اكتشاف عملية ذات ظاهرة أعم.
التنوع العالمي في الدهر الفانروزي
من المفارقات أن أكثر الدراسات الكمية لتنوع الحفريات تعرضًا للمناقشة على نطاق واسع تتعلق بسؤال هو بالتحديد أكثر الأسئلة صعوبة في الإجابة عليه بدقة: كيف تغير إجمالي أعداد الأنواع على كوكب الأرض على مدار اﻟ ٥٤٥ مليون عام وهي فترة الدهر الفانروزي؟ في بداية الحياة على الأرض، من الواضح أنه كانت هناك أعداد أقل من أنواع الكائنات مقارنة بما هو موجود الآن. ومن ثم، من الطبيعي أن نطرح السؤال التالي: هل إجمالي التنوع لا يزال في ازدياد، وإذا كان كذلك، فلماذا؟ أو هل بلغنا الحد الأقصى (المُناظر لما يسميه علماء البيئة «سعة التحمل») منذ عهد بعيد؟ هل هناك أنماط من التأرجح يمكن التعرف عليها في معدلات نشوء أنواع جديدة، وبالتحديد في معدلات الانقراض؟ وإذا سلمنا بأن التنوع العالمي قد ازداد، فهل حدث ذلك عبر زيادات في معدل التنوع، أم أن معدلات الانقراض هي التي تناقصت؟ أم كلاهما؟ وكيف ترتبط عمليات النشوء بعمليات الانقراض بعلاقة سببية، هذا إن كانت بينها علاقة على الإطلاق؟
بل إن السؤال الأكثر صعوبة في الإجابة عليه هو: هل تغير إجمالي الكتلة البيولوجية بنمط أو أنماط محددة مع مرور الزمن؟ بمعنى أنه عندما كانت هناك في الماضي «أنواع» أقل من الكائنات، هل كان هناك عدد أكبر من «الأفراد» يشغلون نفس إجمالي الفراغ البيئي بأكمله؟
تلك أسئلة خلابة ومهمة، لا سيما عندما نتأمل مليًّا في احتمال أن السنوات العشرة آلاف الأخيرة شهدت انخفاضًا في التنوع البيولوجي العالمي. وتمثل الإجابات على تلك التساؤلات أهمية للفلكيين الذين يفكرون في تاريخ المجموعة الشمسية وما وراءها ولعلماء البيئة الذين يشغل بالهم معدل فقدان التنوع البيولوجي المعاصر والمدفوع بالتدخل البشري.
يتمتع تحليل التنوع العالمي مع مرور الزمن بخاصية جذابة؛ ألا وهي أنه من الممكن إيجازه في رسم بياني بسيط. فعندما يضع المرء إحداثيات أعداد الأنواع المختلفة من الكائنات الحفرية التي اكتُشِفت داخل عمود رسم طبقات الأرض (باستخدام الأجناس كبديل ممثل للأنواع، ومركزين على اللافقاريات البحرية اللاطئة ذات الأصداف الصلبة)، تظهر أمامنا صورة خلابة. منذ المرة الأولى التي أجري فيها هذا العمل على يد جون فيليب بأكسفورد عام ١٨٦٠، تبيَّن أن التنوع العالمي قد ازداد مع مرور الزمن (بوتيرة غير متساوية)، حيث تبيَّن أن هناك أجناسًا وفصائل أكثر من الكائنات (وبالتبعية المزيد من الأنواع) تعيش اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لو كانت هذه الصورة صادقة، لكانت بالغة الإثارة؛ فهي تكشف عن عالم حي يشبه كثيرًا عملًا يمضي قدمًا، لا عالم يحتفظ بحالة ثابتة نوعًا ما بلغها في الماضي السحيق. ومن شأن هذا أن يجعلنا نشرع في اختبار مجموعة من العوامل السببية المحتملة. وربما كان معناه أن طبيعة الفئات التقسيمية المختلفة (نوع، جنس، فصيلة) مستمرة في التغير مع مرور الزمن؛ حيث يصبح كلٌّ منها محصورًا أكثر وأكثر عن ذي قبل، بما يسمح بوجود المزيد من الأنواع المختلفة. وربما كان معناه ازدياد رقعة الأجزاء الصالحة للسكنى من الأرض؛ أو أن هناك بيئات معينة صارت أكثر تفرعًا وانقسامًا عن ذي قبل، وصار بها أنواع أكثر وأكثر اختلافًا من مواطن المعيشة، كلٌّ منها يحمل المزيد والمزيد من الأنواع المختلفة (المتخصصة)؛ أو أن كل نوع رئيسي مختلف من الكائنات التي ظهرت — سواء أكانت ثدييات أو حشرات — على سبيل المثال، شغلت موضعها الملائم بيئيًّا الذي كان إما خاويًا فيما مضى أو كان مستعمَرًا بصورة جزئية؛ أو أن شيئًا كيميائيًّا (لعله مقدار الأكسجين الجوي أو ثاني أكسيد الكربون، أو الحديد الذي تحويه المحيطات، أو الكالسيوم) قد تغيَّر على مستوى العالم. ربما تعرضت الدورات المحيطية والجوية لتغيرات، وعلى الأرجح تم ذلك بالارتباط مع تكتونيات الصفائح. وعلى الأرجح، كانت جميع تلك العوامل تنطبق في وقت ما من الماضي.
أدرك فيليبس ومن جاء بعده أن عددًا من العوامل بإمكانها توجيه البيانات الأولية بقوة للتحيز إلى اتجاه بعينه. أظهرت أولى حساباته بالفعل الوصول إلى ذروة التنوع في حقبة الميسوزوي، ودون شك كان هذا بسبب أن حقبة الميسوزوي كانت مُمثَّلة بكثافة في صخور بريطانيا العظمى بشكل فاق حقبتي الباليوزي والسينوزوي. وهكذا أعاد معايرة بياناته وفق سمك الطبقات المتاحة التي جُمعَت منها الحفريات. وبعدها صار جليًّا ضرورة تعديل الأرقام وفقًا لمساحة السطح المكشوفة من الطبقات أيضًا.
كان من الواضح تلقائيًّا أن انحيازًا رئيسيًّا سينجم بالضرورة عن حقيقة أننا سوف نحصل على سجل أفضل من الطبقات الأحدث للأرض؛ نظرًا لأن الصخور محفوظة بشكل أفضل، وكذلك لأننا نعرف الحيوانات والنباتات المعاصرة أكثر مما نعرف تلك الأقدم عهدًا. ويطلق على هذا اسم «جاذبية الحديث»، ولا بد أنه يسهم في انطباع بأن هناك أنواعًا تعيش الآن أكثر من أي وقت مضى. كذلك تتباين الأساليب، حيث يهيمن على بعض أجزاء السجل علماء المتحجرات الذين يميلون إلى «التقسيم»، فهم يسمون أنواعًا جديدة بناءً على اختلافات طفيفة للغاية. بينما تجد أجزاءً أخرى يسيطر عليها من يميلون إلى «التجميع»؛ أي يقومون بالعكس. وهذا مزعج بصورة خاصة للطلاب الذين يدرسون التطور البشري؛ فعلى سبيل المثال، بالنسبة لأحد المؤلفين يعد الإنسان المنتصب نوعًا واحدًا، بينما يعتبره مؤلف آخر ثلاثة أنواع أو أربعة.
يتهددنا خطر التعرض لبرهان الدائرة المفرغة عندما يتعلق الأمر بحدود رسم طبقات الأرض، والتي تحددت معظمها أصلًا اعتمادًا على وجود أو غياب أنواع معينة من الكائنات: فلو أن تلك الأنواع تبين لاحقًا وجودها على الجانب «الخطأ» من الحدود فإنها سوف تُمنح أسماءً مختلفة. وقد افترض دارسون آخرون أن الحيوانات التي تنتمي لأقاليم حيوانية أو نباتية متباعدة جغرافيًّا يجب أن تكون مختلفة، ولهذا فإن الباحثين في قارات مختلفة يصفون أنواعًا جديدة لكيانات كانت قد سميت بالفعل. وهناك مفارقة خاصة هنا عندما يتبيَّن أنه بسبب الانجراف القاري، فإن إقليمين مثل إقليم كندا البحرية وإقليم شمال غرب أوروبا كانتا متجاورين خلال حقبة الباليوزي. بل إن هناك عنصرًا «إمبرياليًّا» في هذا الأمر؛ فالباحثون الذين ينتمون لبلد ما سيطلقون أسماءً على أنواع جديدة من الخارج اعتمادًا على ما يعرفونه هم في وطنهم. فالبريطانيون الذين يعملون في بلد أجنبي ما سيتعرفون على الأنواع بصورة مختلفة عن غيرهم من الفرنسيين أو الألمان. ومن دواعي السرور، أن معظم تلك الممارسات صارت شيئًا من الماضي، لكن هذا يترك لنا مشكلة محو ما كُتب في الماضي.
بعد وضع جميع هذه العوامل معًا في الاعتبار، اتفق أربعة من رواد ذلك الميدان في ثمانينيات القرن العشرين (وهم ديفيد روب، جاك سيبكوفسكي، ريتشارد بامباخ، وجيمس فالنتاين) على وجهة نظر تقول بأن البيانات توضح لنا بصورة صادقة وجود زيادة في التنوع التصنيفي على الأرض بمرور الوقت، برغم أن الزيادة أقل وطأة بكثير مما كان يُعتقد من قبل. لكن اليوم حتى ذلك الرأي الوسطي يبدو متزعزعًا. من الواضح أن البيانات الأولية الحالية في حاجة لمراجعة شاملة، وهي مهمة ضخمة نظرًا لعدد الأنواع الموصوفة وعدد العينات في المجموعات الموجودة حاليًّا. ويجري العمل حاليًّا على تنقيح البيانات الأولية، وتشير تحليلات جديدة بالغة الدقة بالفعل إلى فكرة أكثر منطقية بكثير — وإن كانت أقل إثارة — من فكرة التنوع الذي لا ينفك عن الزيادة. ويبدو الحال — في نهاية المطاف — أن الأرض قد حققت الحد الأقصى من التنوع التصنيفي خلال حقبة الباليوزي الوسطى، وأن التنوع الشامل كان مستقرًّا بصورة جوهرية (مع تأرجح لا يستهان به بمتوسط ما) منذ ذلك الحين.
الجيولوجيا والتطور
ربما تصل بنا دراسة باطن الأرض — لو لم يكن إلى حل مشكلة الخلق العظمى — على الأقل إلى معرفة بعض القوانين التي حكمتها في الحقب المختلفة. لقد ألقت كثيرًا من الضوء على تلك النقطة. إنها تبيِّن لنا أن الكائنات العضوية صارت أكثر وأكثر اقترابًا إلى الكمال منذ بدء الحياة على الأرض وحتى وقت ظهور الإنسان. إنها توضح لنا أنه خلال الفترة الطويلة التي تفصل الإنسان عن الظهور الأول، كان العالم يعجُّ بثورات متعاقبة؛ ولكن منذ ذلك الحين تحقق التوازن بصورة مثالية؛ مما سمح للإنسان بالانتشار في جميع أرجاء العالم.
الانقراض: عالم الملِكة الحمراء
الانقراض هو الحقيقة العالمية الثابتة في علم المتحجِّرات. تعيش جميع الأنواع في بيئة متغيرة، تحكمها — حسبما أشار عالم المتحجرات والمُنظِّر في نظرية التطور المقيم في شيكاغو لي فان فالين (ومن المفارقات هنا أنه استقى استنتاجه الصحيح هذا من تحليل معيب) — «الملكة الحمراء» التي وردت في قصة لويس كارول «عبر المرآة»، فتقول الملكة: «نوع متبلد من البلدان. أما «هنا»، فتحتاج إلى أن تظل تركض قدر الإمكان، كي تظل في مكان واحد. وإذا أردت الذهاب إلى مكان آخر، فعليك أن تركض بضعف سرعتك على الأقل.» وفي الطبيعة، تتطور الأنواع بما يتوافق مع احتياجات البيئة، لكنها في نهاية المطاف دائمًا ما تتخلف عن اللحاق بالركب، فتُستبدل بأنواع جديدة تسقط بدورها في نهاية المطاف. معظم أنواع الحفريات لا تعيش أكثر من ٢ إلى ٤ ملايين عام، والأجناس من ٥ إلى ٢٠ مليون عام (من بين الاستثناءات طويلة العمر الرخويات ذات المصراعين، والشعاب المرجانية، والفورامينيفرا البلانكتونية).
وبعيدًا عن عملية الإحلال والتجديد المتواصلة التي تحدث للأنواع («الانقراض في الخلفية دائمًا») تكشف جميع حسابات التنوع الحفري في الدهر الفانروزي عن سلسلة من السقطات الواضحة (عددها ستة أو سبعة) في إجمالي التنوع العالمي، موزعة على مر الزمان. توضح التحليلات وجود تباين هائل بين معدلات الانقراض والنشوء الجديد خلال تلك الفترات الزمنية القصيرة نسبيًّا من «الانقراض الجماعي». وبسبب انقراض الديناصورات، فإنه في عيون العامة يعد أشهر ضياع للتنوع ذلك الذي جاء مع نهاية العصر الطباشيري. وإذا عدنا أكثر بالزمن للوراء، لوجدنا انقراضًا أصغر في نهاية العصر الترياسي. ومن الناحية العددية، أعظم واقعة انقراض على مر التاريخ حدثت في نهاية العصر البرمي. كان هناك ما لا يقل عن ثلاث حالات انقراض جماعي في حقبة الباليوزي: في العصر الديفوني المتأخر، والعصر الأوردوفيشي المتأخر، والعصر الكمبري المتأخر. وبإضافة المستوى الأصغر من حالات الانقراض (على سبيل المثال، في الأوردوفيشي المتأخر والإيوسيني المتأخر)، حاول بعض المؤلفين إظهار أن حالات الانقراض كانت تقع على فترات يفصل بين كلٍّ منها ٢٦ مليون عام.
ربما أهم ما يمكن أن يقال عن تلك النوبات من الانقراض الجماعي أنها لم تكن عالمية. ففي نهاية العصر الطباشيري، تمكَّنت فقاريات اليابسة برغم ما تبدو عليه من هزال وضعف — مثل السلمندر، والطيور، والثدييات — من عبور تلك المرحلة. ونجت التماسيح والسلاحف من الهلاك، في حين أن الزواحف الضخمة الأخرى، والعديد من نباتات اليابسة، وجميع الأمونيتات لم تكتب لها النجاة. كان الأثر أعظم ما يكون في عالم البحار، كما كان كذلك في الانقراض الذي وقع في العصر البرمي. وُصِفت حادثة انقراض العصر الطباشيري شعبيًّا بأنها قضت على جميع الديناصورات لكنها في الواقع لم تهلك سوى القلة المتبقية من أنواع مختلفة؛ فالديناصورات كفصيل كانت في طريقها للاندثار طيلة الجزء الأخير من العصر الطباشيري. وربما كان هذا ينطبق أيضًا على الفصائل الأخرى وغيرها من حالات الانقراض. أما بالنسبة لعنصر «المفاجأة»، فإنه في حين كان يُعتقد أن حادثة انقراض العصر الطباشيري وقعت على امتداد بضعة آلاف من الأعوام على أقصى تقدير، فإن حادثة الانقراض التي وقعت في العصر البرمي ربما استغرقت مليون عام أو أكثر.
هناك احتمال كبير أن يكون نطاق حالات الانقراض تلك تعرَّض لمبالغة شديدة من خلال انحياز في سجل الحفريات. وإذا كانت تلك الانقراضات الجماعية — من ناحية أخرى — حقيقية، فلا بد أنها وقعت بسبب قوة عملت من خارج (أو عند أقصى نطاق) العمليات التقليدية التي تسير على وتيرة واحدة، وعلى امتداد نطاق زمني قابل للقياس بالزمن البيئي لا بالزمن الجيولوجي. ومن غير المرجح أن جميعها حدثت لنفس السبب. فحالات الانقراض التي وقعت في العصرين الطباشيري والبرمي — على سبيل المثال — كانت مصحوبة بانحسار بحري جماعي ونشاط بركاني بالغ القوة نشر مساحات هائلة من الحمم البركانية على مسافات شاسعة من الأرض (شراك الدكن وسيبيريا، على التوالي). ولا يزال المزيج من التغيرات المناخية (ارتفاع وانخفاض درجات الحرارة)، والتذبذبات الجوية في نسب الأكسجين وثاني أكسيد الكربون، والتغيرات في مستوى سطح البحر، والتغيرات في تنوع المواطن الناشئ عن إعادة الترتيب القاري والنشاط البركاني في مناطق كثيرة، لا يزال يحتل الصدارة في القوائم التي يضعها معظم الناس لأسباب حالات الانقراض الجماعي (الكلي أو الجزئي).
كما جذب تأثير الكويكبات معظم الشهرة وهو يمثل التفسير الشعبي الحالي الذي تسبب في واقعة الانقراض في أواخر العصر الطباشيري. والبرهان الرئيسي على ذلك وجود عناصر غير معتادة مثل الإيريديوم في البيئة الرسوبية المتضررة. ومن المواضع المحتملة فوهة تشيكسولوب بالمكسيك، وهي ناجمة عن اصطدام. ومن المفترض أن حادثة مثل تلك لا بد وأن أعقبها حرائق واسعة النطاق بالغابات وترسب كميات هائلة من كربون الحفريات، غير أن الأدلة على هذا غير قاطعة؛ بل إن هناك شكًّا حتى في التزامن الدقيق للاصطدام والانقراض.
إيقاع التطور وصيغه
قبل عام ١٩٤٤، كانت تهيمن على ميدان علم المتحجرات دراسات قديمة الطراز نسبيًّا في علوم التشكل والتصنيف ورسم طبقات الأرض. بعدها نشر جورج جايلورد سيمبسون كتابه الرائد «الإيقاع والصيغة في التطور»، والذي استعان فيه بتحليلات كمية وأساليب إحصائية لسبر أغوار سجل الحفريات، وتحديدًا، لجعل دراسة الحفريات تقف على قدم المساواة مع دراسة الكائنات الحية.
لا يوجد تحليل أفضل مما تسمح به البيانات الأولية، و(كما أشرت سابقًا) هناك مبرر قوي لتوخي الحذر عند التعامل مع كثير من الأرقام المستخدمة حاليًّا في علم المتحجرات. غير أن سيمبسون أوضح لعلماء المتحجرات أن البيانات التي لديهم كانت في مواضع مكتملة بالقدر الكافي لإنتاج معلومات حول التباين، وهو أحد أحجار الزاوية في فكرة الانتخاب الطبيعي التي طرحها داروين؛ فأنتج أول تقديرات كمية لمعدلات التطور، واستنتج «معدلات تصنيفية للتطور» عن طريق قياس أطوال أعمار مختلف الأنواع أو الأجناس أو الفصائل، أو — أبسط الطرق — عن طريق وضع إحداثيات توزيع أول وآخر ظهور للكائن على مقياس زمني جيد على نحو ملائم. ويمكن التعبير عنها بأنها معدلات أيٍّ من النشوء والانقراض، ويبين البرهان أن تلك المعدلات تتباين بوضوح في داخل السلالات نفسها وفيما بين السلالات المختلفة و/أو على فترات زمنية معينة.
من الممكن تقدير معدلات التطور التشكيلي داخل سلالة ما عن طريق تسجيل الحفريات وتمييزها بسمات تشريحية معينة مثل أبعاد سن ما من الأسنان أو عدد العظام المستقلة لسقف الجمجمة. وينبع هذا العمل مباشرةً من عمل دارسي تومبسون وجوليان هكسلي على رياضيات النمو النسبي، ويؤدي بدوره إلى تحليلات لمعدلات النمو التفاضلية (التمايز الزمني) وغيرها من الظواهر الأخرى الخاصة بالنمو في الكائنات الحفرية. ومن بين الحالات الكلاسيكية التي وثق فيها علم المتحجرات التغير التطوري حالة تطور الخيول، حيث نتج عن أسلافها ذات الأصابع الخمسة، والتي كانت في حجم الكلب تقريبًا في العصر الإيوسيني، سلالات ذات ثلاثة أصابع ثم أنواع ذات إصبع واحد. وخلال عملية الازدياد في الحجم، تطورت أيضًا لدى الخيول أطراف أكثر طولًا بنسب متفاوتة (للركض) وأدمغة أطول وأسنان أطول (لمضغ الحشائش). وقد حدثت تلك التغيرات بمعدلات مختلفة في سلالات متنوعة داخل فصيلة الخيول.
قد أوضح سيمبسون أن المجموعات المختلفة تتباين وتتطور وتنقرض بمعدلات متفاوتة، وأنه من الممكن قياس تلك المعدلات. ولا يزال منهجه قائمًا إلى يومنا هذا برغم أن بياناته مع العديد من حججه توارت خلف النمو الاستثنائي الذي شهده علم المتحجرات الكمي في الخمسين عامًا الأخيرة. وكان هذا متوقعًا، ولكن الغريب أن بعض علماء المتحجرات قد اشتكوا مؤخرًا من أنه هبط بمكانة العلم الذي يدرسونه فجعله مجرد خادم لعلم الأحياء. وهم هنا يغفلون المكانة التي كان هذا العلم يحتلُّها قبل مجيء سيمبسون، والذي ندين له بالفضل العظيم؛ لأنه أوضح أن علم المتحجرات يمكنه في كثير من الأحيان الكشف عن ظواهر غير مرئية في الزمن البيئي، لكنها تحدث بنفس المبادئ. غير أنه ربما يكون من الصحيح كذلك أن سيمبسون — الذي جرؤ أن يعتبر كتابه انصهارًا بين علمي المتحجرات والوراثة — كان أكثر تفاؤلًا منا نحن اليوم بشأن مدى كفاية سجل الحفريات.
شكل التطور
كان يُعتقد دومًا فيما مضى أن سجل الحفريات الأفضل هو ذاك الذي يكشف عن تغير تطوري بطيء وتدريجي، بحيث يوضح تحول أحد الأنواع إلى نوع مختلف اختلافًا طفيفًا أو يتفرع في بطء إلى نوعين. والتطافر الدارويني للأنواع ينبغي أن يكون قابلًا للملاحظة بمجرد التسلق إلى أعلى المكان الذي جرى اكتشافه وجمع العينات بوصة بوصة وعامًا وراء آخر، وهكذا. غير أنه في عام ١٩٧٧، عثر نيلز إيلدريدج (من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي) وستيفن جاي جولد (من جامعة هارفرد) على نمط مختلف. وثَّق الاثنان حالات ظلت فيها الأنواع دون تطور ظاهر (في حالة ثبات تطوري)، لفترات طويلة من الزمن في السجل، ثم فجأة حل محلها أنواع وثيقة القرابة بها (من الواضح أنها من ذريتها)، فأطلقا على ذلك النمط اسم «التوازن المتقطع»، لتمييزه عن التدرج التطوري، معتبرين أن شكل التطور أقرب إلى درجات سلم منه إلى منحدر.
كان التوازن المتقطع مفهومًا ثوريًّا بحق، ويمكن أن يُفسر (على نحو خاطئ) بأنه يشير إلى طراز عتيق من فكرة «التطور القافز» (وهي الفكرة التي تقول بأن التطور يمضي قدمًا بأسلوب الوثبات المتنافرة) ويكشف (بحق) عن لمسة من الماركسية. في حقيقة الأمر، يتفق التوازن المتقطع تمامًا مع نموذج من الانتواع يتضمن العزل داخل نوع من المجتمعات الهامشية التي يكون التغير فيها سريعًا، يعقبه غزو من جديد وإحلال في الإقليم الأصلي الذي كان يسيطر فيه انتخاب يعمل أكثر على تحقيق الاستقرار. وحظيت تلك النماذج بشعبية بسبب الصعوبة التي واجهت العلماء بدونها في تفسير عدم ذوبان الأشكال الجديدة عن طريق التزاوج بين الأفراد في المجتمعات الرئيسية (وهي مشكلة راوغ داروين في التعامل معها عن طريق تبني نسخة معدلة من النظرية اللاماركية في الطبعة الخامسة من كتابه «عن أصل الأنواع»). هناك جانب مشوق من التوازن المتقطع، وهو أنه إذا كان التغير التطوري مركَّزًا في أحداث الانتواع السريع وليس تراكميًّا على امتداد تاريخ تدريجي ممتد لأي نوع، فسوف يمكن تفسير المعدلات التصنيفية المتباينة للتطور، ليس باعتبارها صيغًا مختلفة من التغير، وإنما باعتبارها محصلة مدد زمنية مختلفة لفترات من الثبات التطوري.
يزخر العلم بتفسيرات «خاصة لهذا الغرض تحديدًا» لشرح كل هذا. تشير الأدلة المستقاة من حالات تبدو فيها العديد من الأنواع المعاصرة وكأنها تتعرض لعملية «مقاطعة»، في آنٍ واحد، إلى أن أحداث الانتواع من الجائز أن تكون مدفوعة بواسطة أحداث بيئية خارجية مباغتة نسبيًّا (مرة أخرى ليست تدريجية). تطلق إليزابيث فربا — من جامعة ييل — على هذا الأمر «فرضية التذبذب الإحلالي». في تفسير يتعلق بالنمو، يُتوقع من فئة من المجتمعات تتعرض لضغوط بيئية مستمرة أن تتراكم لديها أعداد من التغيرات الوراثية الطفيفة (غير مرئية في سجل الحفريات). وبمجرد أن تتراكم تلك التغيرات حتى تصل إلى كتلة حرجة، يقع حدث في التحكم الجيني في النمو؛ مما يؤدي بغتة إلى حدوث تغير ظاهر (أو ما نعرفه بالنمط الظاهري).
إن اختبار أيٍّ من تلك الفرضيات يضعنا في مواجهة مشكلة العينات البحثية. من المنطقي أن يتوقع المرء أن يجري تمثيل أي نوع من الأنواع بعدد من المجتمعات التي تحوي نطاقًا من التنوع داخل النوع الواحد. فإذا كان أخذ العينة من مكان بعينه يوضح وجود تغير تدريجي، فقد يعني ببساطة أن الظروف البيئية في ذلك المكان تغيرت ببطء، وأن مجموعة فرعية مختلفة من المجتمعات الموجودة تحركت نحو الفراغ البيئي الذي سحبت منه العينة. أما إذا أظهرت العينة عدم وجود تغيير، فقد يكون تفسير ذلك أن خصائص الكيان الرئيسي للنوع ربما حدث لها نوع من التغير لكن في موضع آخر، في حين تكشف الترسبات المأخوذة كعينة فقط عن مجتمع شاذ ظل ثابتًا في خصائصه.
بمجرد أن انطلق مفهوم التوازن المتقطع — مثلما هو الحال غالبًا — تبعه جدل شخصي مرير بين التقليديين والثوريين (بين «زحف» النهج التدريجي، و«قفزات» نهج التوازن المتقطع). في حقيقة الأمر، من الصعب أن نفهم لماذا يجب أن تكون مجموعة واحدة من علماء المتحجرات هم الأوصياء على «الحقيقة»، أو أن صيغة واحدة فقط من الانتواع هي الصحيحة بالنسبة لسجل الحفريات بأكمله. ربما كان أعظم مكسب جاء من وراء ذلك الجدل أنه كان السبب في بدء جهدين مهمين: تحليل دقيق للأمثلة السابقة التي اعتُقِد أنها تشير إلى التدرجية، والبحث عن ظروف جيولوجية كان فيها المقياس الدقيق للتطور عبر الزمن قابلًا للإثبات في فترة زمنية واحدة متواصلة. والسبيل الوحيد للتعامل مع المشكلة، ثم بعد ذلك معالجة كل حالة على حدة، أن نأخذ عينة من التوزيع الجغرافي الشامل لسائر الأنواع محل البحث، عبر إطار زمني يسير عامًا تلو عام حتى نحلل كلًّا من التنوع الزماني والمكاني لكل المجتمعات المشتملة خلال واقعة الانتواع. وقد تبين أن الدليل القاطع على حدوث انتواع تدريجي أو متقطع يندر الحصول عليه بسبب مشكلات صعوبة التوسع في الحصول على عينات. والرأي الحالي الذي يحظى بإجماع هو أن النماذج المختلفة — التدريجي أو المتقطع أو الجمع بينهما — لا يزال صائبًا على أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة وكائنات مختلفة.
وتوجد هنا مفارقة؛ فمعظم الفلاسفة الأوائل زعموا من قبل أن الأنواع ثابتة ولا تتغير طبيعتها؛ ففي الفلسفة اليهودية المسيحية — على سبيل المثال — كانت الأنواع ثابتة لحظة الخلق. وهناك رأي بديل نراه في كلٍّ من التقدميين المتسامين وفي وجهة النظر التطورية التدريجية، وهي أن الأنواع قد تكون نتاجًا مختلقًا. فربما ما نراه نوعًا في الزمن البيئي مجرد لقطة سريعة التقطت اليوم لكيان ما داخل سياق تدفق متواصل. ولقد دافع معظم أنصار نظرية التطور الأوائل بشراسة عن مفهوم التطافر التدريجي للأنواع. أما التوازن المتقطع — من ناحية أخرى — فيعيدنا إلى مفهوم خضع للمراجعة عن ثبات الأنواع، وهو ما يستحق أن نستعين فيه بعبارة نجم البيسبول الأمريكي خفيف الظل يوجي بيرا: الأنواع لا تتغير إلى أن يطرأ عليها التغيير! وهو مفهوم يتطلب أن نستبدل بالمفهوم التقليدي لتحول الأنواع — أي التغير التدريجي الذي من حيث المبدأ يجب أن يكون ملحوظًا في سجل الحفريات — مخططًا لا يحدث فيه ذلك التغيير.
التحولات التطورية الرئيسية والمشكلة التطورية الكبرى
تُعرف نشأة مجموعة جديدة كبرى من الكائنات بأنها (وتظهر في سجل الحفريات في صورة) تركيبات جديدة واحتلال (الاستيلاء على) مكان بيئي جديد تمامًا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك نشأة فقاريات اليابسة (التي لها أرجل ورئتان) من الأسماك، وكلٍّ من الطيور والثدييات من قطعان (مختلفة) من الزواحف. غير أن مثل تلك الوقائع عادة ما تكون من بين أفقر المناطق توثيقًا في السجل. وهذا يدفع المرء لأن يتساءل عما إذا كانت الندرة النسبية للحفريات الانتقالية تعكس شيئًا مميزًا في العمليات التي تتدخل في التطور، أو هل المشكلة تتلخَّص ببساطة في ملاحظة أخرى في سجل الحفريات.
في نشأة المجموعات الكبرى، يبدو أن التطور قد سار قدمًا بسرعة كبيرة غير معتادة وبقدر منخفض من التنوع. وهذا يطرح تساؤلًا عن الحد الأدنى من عدد وقائع الانتواع المطلوبة لأي من التحولات التكيُّفية الكبرى في التطور التي ينتج عنها نشأة مجموعات رئيسية جديدة (كالطيور أو الثدييات أو الحشرات، أو النباتات المزهرة). فيما مضى، كان من الضروري تفسير أي تحول تطوري رئيسي — وليكن مثلًا من الزواحف إلى الطيور — عن طريق تجميع المئات وربما الآلاف من مثل تلك الأحداث وأعداد هائلة من الأنواع كلٌّ منها لا يختلف سوى اختلاف طفيف عن الآخر. ولكن هذا التفسير «المبني على التراكم» للتطور إما أنه خاطئ أو أنه صحيح بدرجة غير كافية. ويبدو أن العديد من مراحل التغير التطوري تتضمَّن تغييرًا يتم بمعدل لا يمكن تبريره بالتطور التدريجي البطيء. ففي نشأة المجموعات الكبرى، يبدو أن التطور بالغ السرعة، وأن الأشكال الانتقالية كانت أقل تنوعًا وأقل عددًا مما هو الحال؛ سواء لدى مجموعات الأسلاف أو الذرية. ولم يبدأ التنوع واسع النطاق من جديد إلا بعد أن تمت تجربة البنية التكيُّفية والفسيولوجيا الجديدة واختبارهما أولًا.
ويشير هذا إلى وجود فصل رئيسي بين الصيغ الشكلية (التغير في التركيب) والتصنيفية (عدد الأنواع) للتطور، أو — على أقل تقدير — معدل مرتفع من الانتواع والتغير الشكلي في نطاق سلالة محدودة دون حدوث تنوع فرعي. وقد يكون أبسط تفسير لذلك أن كل هذا عبارة عن ملاحظة نتيجة الحصول على عينات من البيئات الانتقالية. فعلى سبيل المثال، في حالة التحول من الزواحف إلى طيور، من الجائز أن الأشكال الانتقالية احتلَّت بيئة تكسوها الغابات، وهي بيئة تفتقر إلى عوامل حفظ الحفريات. ومن الجائز أيضًا أنها كانت محصورة جغرافيًّا في مساحة صغيرة. ومن الجائز أن تكون السرعة الظاهرية للتغير مرجعها ببساطة وجود فجوات في السجل؛ غير أنه من غير المحتمل أن ينطبق هذا التفسير على جميع حالات الانتقال التطوري الرئيسي.
وقد اعتقد داروين نفسه أن حالات الانتقال حدثت بقدر قليل من التنوع على مستوى الأفراد: «الأنواع الوسيطة؛ نتيجة لتواجدها بأعداد أقل من الأشكال التي ترتبط بها، سوف تُهزَم بالتدريج ويُقضَى عليها خلال مسار يحدث فيه المزيد من التعديل والتحسين.» وفي هذه الحالة، تكون الحفريات نادرة في المرحلة الانتقالية، غير أن هذا لا يفسر السرعة العالية للتغير الشكلي.
وربما يساعدنا مفهوم «الابتكار المحوري» في هذا السياق. والابتكار المحوري عبارة عن تغير شكلي أو فسيولوجي أو متعلق بالنمو، والذي قد يكون هو في حد ذاته ضعيف التأثير غير أنه يفتح المجال واسعًا أمام احتمالات جديدة. وهو ينشأ في براءة شديدة في أحد السياقات ثم يتبيَّن أنه أكثر نفعًا في سياق مختلف. وكثيرًا ما يُنظر إلى الريش باعتباره أحد تلك الابتكارات الرئيسية، والذي تطور في بادئ الأمر من أجل التحكم في درجة الحرارة. ونشأت الكائنات رباعية الأطراف من تعديلات طرأت على زعانف الأسماك كي تعيش في المياه الضحلة. ونشأت الرئة من جهاز تنفسي تكميلي و/أو جهاز خاص بالطفو، وهكذا. وفي مثل تلك الحالات، بُذل جزء كبير من العمل الشاق قبل حدوث الانتقال الفعلي.
المفهوم الثاني هو «التقدم الترابطي» (سُمِّي هكذا في إشارة من مؤلفه إلى مفهوم وضعه داروين وهو «التباين الترابطي»؛ ومن أمثلته فكرة أن جميع القطط البيضاء زرقاء العيون تكون صماء). لا يوجد جزء من جسم أي كائن مستقل عن بقية الأجزاء. أول سمكة نجحت في الاحتفاظ بفقاعة هواء داخل أحشائها خلقت في الوقت نفسه احتمالات جديدة في تبادل الغازات التنفسية، وفي التحكم في الطفو، وفي القدرة على السمع تحت الماء. وفي الأحوال العادية، تكون إمكانية حدوث تغيير في عضو ما وفي الأجهزة الفسيولوجية، ومسارات النمو، مقيدة بسبب ارتباطها بأجهزة أخرى، على مستوى الوظيفة والنمو. ولو كان كلٌّ منها بمعزل عن الآخر، لتمكَّن كلٌّ منها من التغيير إلى هذا الحد فحسب دون أن يتجاوزه. وفي التقدم الترابطي، يُفترَض أنه إذا كانت تلك الأعضاء ستتغير معًا، فإن إمكانية الابتكار هنا ستكون أكبر. فعلى سبيل المثال، في رأس الفقاريات هناك عناصر مشتركة في ميكانيكا عمل الفكين، وميكانيكا التنفس، وآليات اتخاذ الأوضاع، وآليات السمع. والتغير الذي يطرأ على أيٍّ منها من شأنه أن يحدث تأثيرًا طفيفًا، أما التغيرات التي تطرأ على عدة أجهزة منها معًا — في ظل نفس المنظومة التكيُّفية — فسوف تصير مُدعمة ذاتيًّا وسوف تُحدث أثرًا أكبر بكثير.
يصبح كلٌّ من «الابتكار المحوري» و«التقدم الارتباطي» أكثر وضوحًا وفهمًا عند ترجمتهما إلى سياق نموي لا في سياق الأفراد البالغة. على سبيل المثال، في عملية تطور الخيول، نشأت حالة الأصابع الثلاثة في الأرجل بالتوازي أكثر من مرة في العصر الميوسيني، وحالة الإصبع الواحد أكثر من مرة في العصر البليستوسيني؛ مما يشير إلى أن القوة المحركة لم تكن مجرد الانتخاب القائم على الأنماط الشكلية لدى الأفراد البالغة، وإنما كانت في صورة تحول ما طويل المدى ومؤثر في مسارات النمو والذي تمخَّض عن صفات مغايرة عمل الانتخاب على أساسها.
من بين عوامل الجاذبية في نموذج التوازن المتقطع أنه ربما يتيح إمكانية حدوث الانتواع بسرعة أكبر مما لو حدث في ظل النموذج التدريجي (بتقصير فترات الثبات التطوري). كذلك فإنه يوجهنا نحو إدراك أن الانتخاب يجب أن يعمل على أكثر من مستوى. وفي وجهة نظر هرمية بالكامل بشأن التطور، تمامًا مثلما أن هناك انتخاب على مستوى كلٍّ من الجين والفرد والمجتمع، هناك أيضًا انتخاب على مستوى النوع، وربما حتى انتخاب على مستويات أعلى. وفي هذه الحالة، ربما يرجع الاختلاف بين — مثلًا — النمط المزدحم للتطور الذي نراه في مجموعات عديدة، والذي ينتج العشرات من الأنواع شديدة التشابه (معظمها من الحشرات والطيور الطنانة)، وبين التنوع المنخفِض لمجموعة ما في حالة انتقالية، ربما يرجع جزئيًّا إلى درجات من الانتخاب تعمل على مستوى النوع وتكون مدفوعة بقسوة الظروف البيئية. ومع تحول المجموعة سريعًا لأن تصبح أكثر كفاءة (من الناحية الشكلية والفسيولوجية والسلوكية) في التعامل مع مجموعة من الظروف الجديدة، تهدأ وتيرة انتخاب النوع ويزداد التنوع.
الحفريات الحية
وضعت نظرية داروين حول الانتخاب الطبيعي موضوع التطور برمته على الخريطة العلمية مباشرة كما خلقت نطاقًا جديدًا من التوقعات لصالح قوة علم المتحجِّرات. غير أن داروين كان مدركًا أن سجل الحفريات لم يقدم دليلًا قاطعًا على نظريته كما كان يود؛ إذ إن به العديد والعديد من الثغرات نتيجة عدم اكتمال السجل الجيولوجي. كانت هناك أيضًا تناقضات في سجل الكائنات الحية. في كتابه «عن أصل الأنواع»، شرح داروين مفهوم «الحفرية الحية» بالتفصيل. الحفريات الحية (وفي المصطلح تناقض ظاهري، إذ لا يمكن لكائن حي أن يكون حفرية) هي الاستثناءات التي تبرهن على القاعدة التطورية؛ إذ إنها تبدو أكثر حصانة من باقي المجموعات الأخرى أمام ضغوط التغيير مع مرور الزمن والانقراض الذي لا يرحم. وعادة ما ينجو نوع واحد (أو بضعة أنواع) من مجموعة كانت فيما مضى أكثر انتشارًا في سجل الحفريات العتيق.
والحفريات الحية هي آخر ما تبقى من سلالات تطورت بمعدلات أبطأ من المعتاد بصورة هائلة. إنها الكائنات الناجية من عقد بالغة القدم على شجرة التنوع العضوي، فتعرض بنيان (وربما بيولوجية وفسيولوجية وكيمياء) زمن بالغ القدم. وغالبًا ما تكون ذات قيمة عظيمة للعلم، لا سيما عندما يتعلق الأمر بإعادة بناء حياة نوع حفري يرتبط معها بصلة قرابة. ويمكننا إجمالًا وضع قائمة تحوي أسماء ما يقرب من ٣٠ إلى ٤٠ نوعًا حيًّا يندرج تحت هذه الفئة. ومن بين الأمثلة التي عرفها داروين عدة أنواع من أسماك المياه العذبة الاستوائية، ومن بينها ثلاثة أجناس من الأسماك الرئوية وكثيرات الزعانف الأفريقية، والكائن الثديي البيوض الفريد من نوعه المعروف بخلد الماء (البلاتيبوس) ذي المنقار الذي يشبه منقار البطة. وكان يرى أنه بالإمكان العثور على أمثلة أخرى في أعماق البحار.
لعل أشهر حفرية حية هي سمكة لاتيميريا كالومناي التي تنتمي لرتبة شوكيات الجوف، وهي سمكة اكتشفت لأول مرة حية في المحيط الهندي (رغم أنها لم تكن على عمق سحيق) عام ١٩٣٨؛ وهي تنتمي لمجموعة عرفت في البداية كحفريات من العصر الديفوني، غير أنه اعتُقِد أنها انقرضت مع الديناصورات. وعند مقارنة لاتيميريا المعاصرة وأسماك النيسيدات الديفونية، وُجِد أن الاختلافات بينهما — في الهيكل العظمي على أقل تقدير — قليلة بشكل مذهل. في حقيقة الأمر، كان من الواجب أن تكون رتبة شوكيات الجوف مثيرة للاهتمام قبل اكتشاف اللاتيميريا بوقت طويل؛ لأنه كان من الواضح بالفعل من المقارنة بين حفريات شوكيات الجوف التي تنتمي للعصرين الطباشيري المتأخر والديفوني أنه لم يتغيَّر فيها إلا أقل القليل. وقد أضاف اكتشاف النوع الحي العديد من الاحتمالات الجديدة للدراسة، ومن الطبيعي أن يستنتج علماء البيولوجية التطورية أن النزعة المحافظة في تطور الهيكل العظمي ربما كانت تشير إلى نزعة محافظة مماثلة في باقي بيولوجية السمكة. وعند دراسة إحدى أسماك شوكيات الجوف الحية، فإن الأمل يحدونا أن نكون بذلك وكأننا ندرس سمكة حية من العصر الديفوني. وقد كانت دراسة الميكانيكا الحيوية للسمكة شوكية الجوف الحديثة التي حصلت عليها أثناء عملي في جامعة ييل عام ١٩٦٦ واحدة من أبرز الإنجازات التي أفخر بها في سجل حياتي العلمية.
إن مفهوم «الحفرية الحية» مفهوم محير من حيث إن سلالة — وليس نوعٌ — هو ما يظل على قيد الحياة بأسلوب محافظ على نحو يدعو للإعجاب. ونحن لا نملك دليلًا يجعلنا نقول مثلًا إن النوع لاتيميريا كالومناي قد نجح في البقاء على قيد الحياة لأكثر من البضعة ملايين عام المعتادة؛ فالجنس لاتيميريا غير معروف كحفرية. وهناك قلة قليلة من الأنواع المنفردة التي يبدو بحق أنها نجحت في البقاء على قيد الحياة في سجل الحفريات — مثل ذلك النوع — مدة أطول من الفترة الزمنية المعهودة.
يجمع بين كل ما يطلق عليه اسم الحفريات الحية شيء مشترك؛ وهو أنها — باعتبارها أنواعًا أو ممثلة لسلالة — تبين وجود معدل بالغ البطء للتطور التركيبي، مصحوبًا بتنوع منخفض نسبيًّا في الأنواع مع مرور الزمن. وفي الوقت نفسه، فإن أقارب تلك المجموعات قد تطورت بصورة طبيعية، نوعًا نوعًا. فهناك أنواع تربطها صلة قرابة بعيدة بشوكيات الجوف والأسماك الرئوية التي تنتمي للعصر الديفوني — على سبيل المثال — كانوا أسلافنا نحن (وأسلاف جميع رباعيات الأقدام التي تعيش على اليابسة).
ولا يعلم أحد لماذا وكيف استمرت سلالات الحفريات الحية. اعتقد داروين أن ضغوط الانتخاب في بحيرات المياه العذبة القديمة في أفريقيا كانت — لسبب أو لآخر — أقل وطأة: «لقد عمرت حتى يومنا هذا، لكونها قطنت مساحة محصورة، ومن ثم لكونها تعرضت لمنافسة أقل حدة.» لكن هذه الإجابة لا يمكن اعتبارها إجابة تامة. فليست كل الحفريات الحية موزعة توزيعًا جغرافيًّا محدودًا؛ فسرطان حدوة الفرس (وهو المتبقي من سلالة تنتمي لحقبة الباليوزي ذات صلة قرابة بالعناكب) منتشر في جميع أنحاء العالم. وبعض الحفريات الحية ربما كان أسلوب حياتها «معممًا» وقادرًا على التكيف (وليس شديد التخصص) مما يسمح لها بمجاراة التغيرات البيئية التي قضت على الكائنات المعاصرة لها. ويجوز أن البعض منها بقي حيًّا من خلال اتباع الاستراتيجية المضادة؛ أي لأنه تكيف مع نمط حياة معين شديد التخصص ظل مكانه في البيئة دون تغيير بمرور الوقت، أو نمط حياة كانت السلسلة المتتابعة من التغيرات التي طرأت على مكانه في البيئة محايدة على مستوى القدرة على التكيف. ومن المحتمل أن معدلات التطور البطيئة في الحفريات الحية — في نهاية الأمر — هي مجرد نتاج مصادفات. ولعل من الواجب على المرء أن يعكس السؤال ويتساءل كيف ولماذا كان التطور يسير على ذلك النحو المتسارع مع كائنات أخرى؟!
الحلقات المفقودة
منذ عصر أرسطو، كان الناس ينظرون إلى العالم الحي باعتباره نسخة ما من «سلسلة الوجود» المستمرة. وقدمت نظرية التطور لهذه الرؤية إطارًا سببيًّا أكَّد على استمرارية الحياة في المكان والزمان وحولتها إلى «سلسلة الصيرورة». إلا أن سجل الأنساب الخاص بالبشر والمستقى من الحفريات يظل مليئًا بالثغرات. وهذه الثغرات مثيرة للاهتمام؛ لأننا نعلم مكانها، وما الذي يجب — بصفة عامة — أن يملأها، فنطلق على تلك الأنواع غير المكتشفة اسم «الحلقات المفقودة». فالحلقة المفقودة هي ذلك النوع أو سلسلة الأنواع المتتابعة الغائبة عن قاعدة بياناتنا بسبب وجود ثغرات في السجل، غير أنها يجب أن تكون موجودة من الناحية النظرية. فقد اكتشفت الزواحف ذات الريش/والطائر ذو الأسنان أركيوبتركس — وهو مثال نموذجي للحلقة المفقودة — بمصادفة سعيدة عام ١٨٦٠؛ مما منح واقعًا جديدًا لعالم نظرية التطور الآخذ في الازدهار. وعلى مر السنين، كرَّس المتخصِّصون في علم المتحجرات قسطًا وافرًا من جهودهم للعثور على المزيد من تلك الحلقات المفقودة.
وإذا شئنا الدقة فإن تعبير «الحلقة المفقودة» تعبير مجازي. ففي الأصل، كان يُستخدم كمصطلح تنبُّئِيٍّ، يُقصد به الإشارة إلى شيء لم يُعثر عليه بعد. ومن هذا المنطلق، يعد نظرية افتراضية. واليوم صار المصطلح يستخدم أكثر لوصف الاكتشاف نفسه، ومن هذا المنطلق صار يعبر عن تأكيد لفرضية جدلية. وفي هذا المفهوم الأخير والأوسع انتشارًا في الاستخدام، صار مصطلح «الحلقة المفقودة» تناقضًا ظاهريًّا آخر يشير إلى اكتشاف كائن ما (وبالتالي لا يعود مفقودًا)، عادةً ما يكون حفرية، يحتل موضعًا وسيطًا في سجل سلالتين ستكونان منفصلتين تمامًا بدونه.
ودائمًا ما كان مصطلح «الحلقة المفقودة» يحظى بأهمية خاصة في عالم علم المتحجرات البشرية حيث تمثل الحفريات المفقودة حلقات الوصل بيننا وبين القردة العليا، ويرجع ذلك إلى حد كبير بسبب كتابات ومحاضرات توماس هنري هكسلي، عالم التشريح والمتحجرات الكبير، والمساند الأكثر وفاءً لتشارلز داروين. ولذلك السبب أيضًا — للأسف — صار المصطلح مادة للاستغلال الشخصي منذ ذلك الحين، فكان ظرفاء العصر الفيكتوري كثيرًا ما يتندَّرون على العمال الأيرلنديين الذين كانوا في ذلك الحين ينشئون الطرق والسكك الحديدية الإنجليزية فيصفونهم بأنهم «الحلقة المفقودة في سلسلة التطور البشري».
هناك في الغالب تداخل لا يستهان به هنا مع مصطلح «الحفرية الحية»؛ فعلى سبيل المثال، عندما اكتُشفت السمكة الرئوية الأمريكية الجنوبية ليبيدوسايرين عام ١٨٣٦، كان يعتقد أنها تمثِّل الحلقة المفقودة بين الأسماك ورباعيات الأرجل؛ وهذا لا يدهشنا؛ إذ إن لديها زعانف ذات فصوص ورئتين، ونوعًا من فتحات الأنف الداخلية أو المنعر. وبالمثل يمثل الحيوان الثديي البيوض خلد الماء همزة الوصل بين الزواحف والثدييات. (للأسف، تبين أن الحفرية الحية لاتيميريا كالومناي مجرد نوع آخر من شوكيات الجوف وليست حلقة وصل مباشرة مع أصل رباعيات الأرجل.)