الجزيئات والإنسان
ذات يوم في أواخر شهر أغسطس عام ١٩٦٣، وضعت رحالي على مسافة ما أعلى جرف صغير بالقرب من الضفة الغربية لبحيرة توركانا (وكانت حينئذ لا تزال تسمى بحيرة رودولف) بشمال كينيا، ونظرت وقد تملكتني الإثارة والرهبة وأنا أنظر إلى حفرية لضرس بشري التقطتها لتوي. كم كان مقدار الشبه بيني وبين صاحب ذلك الضرس؟ وما مدى قرابة هذا الشخص بشعب توركانا الحالي الذي يقطن تلك المنطقة؟ وكم مضى من الزمن منذ كان ذلك الشخص يعيش على وجه البسيطة؟ واجتاحني مرة أخرى ذلك الإحساس العجيب الذي تثيره الخصائص «الغريبة» و«المألوفة» للحفريات. فعلى غرار الديناصورات التي نراها (لا سيما ونحن أطفال) كائنات نصف واقعية ونصف غير واقعية، فإن الحفريات البشرية هي «منا» و«ليست منا» في آنٍ واحد؛ إننا نندهش من أوجه الشبه بينها وبيننا، ونتحير من الاختلافات بيننا وبينها كذلك، لا سيما فيما يتعلق بتلك السمات التي استخدمها أهل العصر الفيكتوري لتصوير أسلافنا على أنهم وحوش تسير في تثاقل.
ولا توجد حفريات تخلب ألبابنا أكثر من الحفريات البشرية، ولا تفتأ الاكتشافات الجديدة تتزاحم اليوم بمعدل مذهل، مما يمنح معنى جديدًا لعبارة ألكسندر بوب المأثورة: «الدراسة المثلى للجنس البشري هي الإنسان.» إن الحفريات البشرية تمنحنا منظورًا إضافيًّا عن ماهيتنا وكيف أصبحنا على هذه الحال. إنها تبين لنا كيف عاش أجدادنا وأين عاشوا، وكيف تنقلوا، وما صنوف الطعام التي اقتاتوا عليها، وكم كان يبلغ حجم أمخاخهم، بل وربما ما إذا كانوا يتكلمون أم لا. إن الحفريات تبين — على الأقل من هيئتها الخارجية — تحولنا من كائن يسير على أربع إلى كائن يسير على قدمين، ومن آكل للعشب إلى آكل للحم والعشب معًا، وتعطينا إشارات فيما يتعلق بنمو التراكيب الاجتماعية، والذكاء، والثقافة.
يقدم لنا سجل الحفريات البشرية كذلك دراسة حالة ثرية بالمعلومات حول جميع فرص علم المتحجرات والمشكلات التي يواجهها. إنه لأمر مفيد — وإن كان محبطًا أيضًا — أن تكتب عن مجال من العلوم يعلم المرء فيه أن البيانات الأولية تتغير بصورة متواصلة كل عام، بل وكل شهر. من ناحية أخرى؛ نظرًا لأن السجل البشري يتعامل مع مادة تنتمي لعصر حديث نسبيًّا به فرصة لا بأس بها للحفظ، ولأن الهيكل العظمي يتألف من عدد هائل من السمات القابلة للقياس، من سعة القحف وحتى أدق تفاصيل الأسنان أو الأطراف، فإن باستطاعتنا تحليل التطور بالعمل على مقياس أكثر دقة وعلى مدار فترة زمنية أقصر (في نطاق عشرات الآلاف من السنين) من أغلب المناطق الأخرى في سجل الحفريات. ونتيجة لذلك، فإن السجل البشري يقدم فرصة رائعة لأن نصبح قادرين في نهاية المطاف على تحقيق إعادة بناء أكثر دقة على مستوى التفاصيل لعلم أنساب الحفريات أكثر من أي مجموعة أخرى من الكائنات.
وهنا — حيث يلتقي علم المتحجرات بعلم الآثار — يمثل أحد المواضع التي يمكن لعلم الجزيئات الحديث أن يُستغل جنبًا إلى جنب مع المعلومات الأخرى الأكثر كلاسيكية عن الحفريات، مع أن النتائج لا تتفق على الدوام. قلة من بقايا الحفريات البشرية تكون حديثة العمر بقدر كافٍ (أي عمرها أقل من ١٠٠ ألف عام) بحيث يمكننا استخلاص أجزاء من حمضها النووي. وبالاستعانة بافتراضات بسيطة عن المعدلات التي تثبت عندها الطفرات في جزيئات حمضَي آر إن إيه، ودي إن إيه، التي تحمل شفرة وجودنا ذاته، من الممكن ليس فحسب أن نتوصل إلى أي الأنواع أقرب صلة لبعضها، وإنما أيضًا أن نضع تقديرات كذلك للمدة الزمنية التي مرت منذ تفرعت السلالات التي أنجبتها. إن التحليلات الجزيئية لا تخبرنا بتوقيت نشأة البشر المعاصرين فحسب، وإنما في استطاعتها أيضًا أن تقدم لنا إجابات عن السؤال القديم عما إذا كان البشر المعاصرون (أي نحن) قضوا ببساطة على كافة الأنواع الأخرى (كإنسان نياندرتال، الذي عاش البشر المعاصرون مع آخر الموجودين من سلالته جنبًا إلى جنب تقريبًا) أم أنهم استوعبوا تلك الأنواع.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت مسألة أنه لا توجد حفريات بشرية معروفة تمثل حقيقة تجريبية، وأيضًا مسألة مبدأ أنه من الممكن ألا تكون هناك أية حفريات بشرية. وكانت مكانة البشر السامية من أقدم المعتقدات اليهودية-المسيحية التي ظلت باقية فيما يتعلق بقصة الخلق. وعلى امتداد القرنين الماضيين، ومع إلحاح سجل الحفريات المتزايد على أهمية التوصل إلى وجهة نظر أن المملكتين الحيوانية والنباتية لا بد وأنهما تغيرتا مع مرور الأزمنة، ظلت هناك نقطتان جوهريتان تقاومان حتى آخر نفس: أن الإله هو المسئول على الأقل عن قوانين الطبيعة التي تتحكم في كل عملية الخلق (حتى لو لم يحدث ذلك في واقعة منفردة)، وأن الإنسان هو من صنع الإله المباشر، فهو مستقل عن الأحداث والعمليات والأسباب الأخرى الموجودة في الطبيعة.
وجاء اكتشاف الحفريات البشرية بوادي نياندر بألمانيا عام ١٨٥٦ كي يغير كل ذلك، ولكي يتزامن أيضًا مع طرح النظرية الداروينية، التي تَعتبر البشر خاضعين للقوانين الطبيعية نفسها التي تسري على ما عداهم في هذا العالم. وجاء الاكتشاف العظيم التالي عام ١٨٩١، عندما شرع يوجين دوبوا — تحت تأثير هومبولت — في البحث عن حفريات بشرية بإندونيسيا وحقق نجاحًا هائلًا باكتشاف إنسان جاوة — أو الإنسان المنتصب — والذي يمثل حلقة مفقودة بين الإنسان والقردة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. ثم بدا أن الاكتشاف التالي للكرومانيون الأوروبي يسد الثغرة بين إنسان نياندرتال والبشر الحاليين. وبعدها في القرن العشرين، تحول الاهتمام نحو أفريقيا ونحو سلسلة من الاكتشافات عن الأطوار الأولى لأسلافنا.
في عام ١٩٢١، عُثر على جمجمة في بروكن هيل (زامبيا)، وبعدها بثلاث سنوات اكتشف رايموند دارت في جنوب أفريقيا أول أسترالوبيثكس أو ما يعرف بالقردة الجنوبية. وجاءت اكتشافات روبرت بروم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين لتضع كلًّا من أسترالوبيثكس وبارانثروبوس بقوة عند جذور أسلاف البشر. وبعد الحرب العالمية جاءت فترة كبرى من الاكتشافات في شرق أفريقيا عند منطقة أولدوفاي جورج وغيرها من المواقع على يد إل إس بي ليكي وزوجته ماري، ثم بعدها على يد ولدهما ريتشارد. وفي سبعينيات القرن العشرين، توصل دونالد جوهانسون وآخرون لاكتشافات مذهلة في إثيوبيا. وخلال السنوات الثلاثين الماضية، أُثري تاريخ أشباه البشر الأولى بقوة مع اندلاع ثورة من الاكتشافات المثيرة في أرجاء أفريقيا وأوروبا وآسيا. وما من سبب يدعونا للاعتقاد أنها لن تتواصل لفترة طويلة.
حتى قبل اكتشاف أولى الحفريات البشرية، كان ثمة أدلة متزايدة قد أظهرت بالفعل أنه يومًا ما سيجري تتبع جذور التاريخ البشري إلى شبكة من العلاقات بين الرئيسيات الممثلة الآن في القردة والسعدانات وأقربائهما من الكائنات الحية. وكان محور ذلك الاعتقاد أن القردة العليا الحية — إنسان الغاب (أورانجوتان) (اكتشف عام ١٧٧٨)، والشمبانزي (١٧٨٨)، والغوريلا (١٨٤٧) — مشابهة تمامًا لنا من الناحيتين التشريحية والسلوكية. وعندما وضعت قردة الشمبانزي وإنسان الغاب للعرض في حدائق الحيوان، وأُلبِست زيًّا يشبه ملابس الأطفال لإقامة حفلات شاي، كان تأثير ذلك على جمهور العصر الفيكتوري صاعقًا. ومنذ تلك اللحظة، وفي حين أن العلاقة بين الإنسان وبين شيء أشبه بسعدان ربما بدت بعيدة، فإنه على حد قول هنري هكسلي، ولو مجازيًّا على الأقل: «لن أخجل من أن يكون جدي الأكبر قردًا.»
إن مصطلح «بشري» يؤخذ على مقاصد عدة لينتهي عند معنى واحد هو نوعنا نحن فحسب؛ أي «الإنسان العاقل»، أو أفراد فصيلة البشريات التي ننتمي إليها، بجانب جميع أقربائنا المنقرضين، وأقربها ينتمي أيضًا إلى «جنسنا»: حفريات إنسان نياندرتال، وإنسان هايدلبيرج، والإنسان المنتصب، والإنسان العامل، وإنسان بحيرة رودولف، والإنسان الماهر. أما الأنواع: إنسان روديسيا، وهومو أنتيسيسور أو الإنسان الطليعي، وإنسان موريتانيكوس، وبضعة أنواع أخرى، فلا تحظى بالإجماع مثل سابقتها.
داروين في حديقة الحيوان
استلقت (جيني أنثى إنسان الغاب) على ظهرها، ثم بدأت ترفس وتصرخ، تمامًا مثل طفلة شقية، بعدها بدت شديدة التجهم، وبعد نوبتين أو ثلاث من الانفعال، قال الحارس: «جيني، إذا توقفت عن الصياح وصرت فتاة طيبة فسوف أعطيك التفاحة.» من المؤكد أنها فهمت كل كلمة مما قاله، ورغم ذلك، فقد بذلت جهدًا كبيرًا — مثل الأطفال — حتى تتوقف عن النحيب، ونجحت في نهاية الأمر وفازت بالتفاحة التي وثبت بها نحو مقعدها ذي المسند وبدأت تأكلها، وعلى وجهها يرتسم الرضا في أقصى صورة يمكن تخيلها.
ويشمل جنس أسترالوبيثكس على: أسترالوبيثكس أفريكانوس، وأسترالوبيثكس أنامنسيس، وأسترالوبيثكس راميدوس، وأسترالوبيثكس أفارينيسيس. ويضم جنس بارانثروبوس: بارانثروبوس بويزي، وبارانثروبوس إثيوبيكوس، وبارانثروبوس روبوستوس، وجميعها عاش خلال الخمسة ملايين عام الأخيرة. وتشكل البشريات والقرود (أو البُنجيدات) رتبة الأناسيات. ومن ثم، فإن كل البشر ينتمون إلى رتبة الأناسيات، ولكن ليس كل ما ينتمي إلى رتبة الأناسيات بشرًا.
تؤكد تحليلات دي إن إيه للأناسيات أن الشمبانزي هو أقرب أقرباء الإنسان. وفي حين أننا ربما نبدو مختلفين عن الشمبانزي من حيث الوجه ونحن كبار، فإن التشابه بين صغير الشمبانزي ومثيله من بني البشر يؤكد بقوة ما تقوله الأدلة الجزيئية. ولكن في الواقع نحن لسنا من نسل أي نوع من الشمبانزي الفعلي؛ وإنما تبين الأدلة الجزيئية أن السلالات المؤدية للبشر المعاصرين (والمنقرضين أيضًا) من ناحية، وللشمبانزي المعاصر من ناحية أخرى، افترقت منذ ما يقرب من ٦ ملايين عام مضت. وهناك ثلاثة اكتشافات حديثة نسبيًّا لكائنات من البشريات شديدة البدائية — أرديبيتيكوس من أثيوبيا (أرديبيتيكوس كادابا ويعود تاريخه إلى ٤٫٢ ملايين عام، وأرديبيتيكوس راميدوس ويعود تاريخه إلى ٤٫٥ ملايين عام)، وإنسان ساحل التشادي من تشاد (بين ٦ إلى ٧ ملايين عام)، وأورورين من كينيا (٦ ملايين عام) — والتي يبدو أنها تؤكد هذه النظرية. ومن الناحية الشكلية، تبدو قريبة من المراحل الانتقالية بين البشر والقردة؛ فهي إما سلف للقردة المعاصرة، أو للبشر، أو لكليهما.
عند النهاية المعاصرة لشجرة العائلة، قدم عدد من الدراسات الجزيئية تواريخ لأقدم سلف مشترك لجميع البشر الأحياء تتراوح بين ٤٠٠ ألف و١٢٠ ألف عام، حيث أشارت أحدث الدراسات إلى تاريخ يعود إلى ١٧٥ ألف عام تزيد أو تنقص بمقدار خمسين ألف عام. ولما كانت تلك التواريخ تقوم على استخدام دي إن إيه الميتوكندريا — والذي لا يورث إلا عن طريق الأم من خلال البويضات — فقد أطلق على تلك النقطة الأقدم في التفرع «حواء».
ولا تستطيع الأدلة القائمة على الدي إن إيه من بلوغ تاريخ قديم سحيق. الحفريات فقط هي التي يمكنها أن تخبرنا عما حدث بين نقطة افتراق الشمبانزي عن الإنسان ونشأة الإنسان المعاصر الحديث. حتى الآن، يتضح أن الفترة الزمنية الواقعة بين ٥ ملايين عام، وحوالي ٢٫٥ مليون عام مضت هيمن عليها في البداية جنس أسترالوبيثكس ثم بارانثروبوس (اللذين عاشا منذ حوالي ٢٫٧ مليون عام إلى ١٫٣ مليون عام). ولم يعثر على أيٍّ من هذين الجنسين خارج قارة أفريقيا. وأقدم أسترالوبيثكس معروف هو أسترالوبيثكس أنامنسيس (٤٫٢ ملايين عام) من كانابوي وأليا باي بكينيا. وكذلك أسترالوبيثكس أفارينيسيس، لا سيما الذي يمثله الهيكل العظمي «لوسي» الشهير من منطقة حضر بأثيوبيا. وقد جرى اكتشاف «لوسي» على يد مجموعة يقودها دونالد جوهانسون عام ١٩٧٤، ولها شكل بدائي من الحركة على قدمين. فلا يقتصر الأمر على أن تركيب مفاصل الورك والركبة تشير إلى اتخاذها وضعا منتصبًا، وإنما آثار الأقدام من لايتولي بتنزانيا، تبيِّن بشكل قاطع حيوانًا يسير على قدمين بنوع من الخطوات الواسعة المتباعدة. وكانت تلك من بين الكائنات الأولى من البشريات التي حققت النقلة من الأحراش إلى الغابات المكشوفة التي كانت في ذلك الحين تتسع رقعتها سريعًا في جميع أرجاء الأقاليم الأفريقية، مدفوعة بمرحلة من برودة المناخ. وكانت أمخاخ تلك الكائنات لا تزال صغيرة نسبيًّا (تتراوح بين ٤٠٠–٥٠٠سم مكعب) مقارنة بجنس الإنسان، لكنها كانت كبيرة جدًّا مقارنةً بالشمبانزي. ويشير نمط اصطفاف الأسنان إلى أن النظام الغذائي كان يشهد تحولًا من نظام نباتي تمامًا يعتمد على الفاكهة والجذور والأوراق إلى نظام مختلط يتضمَّن فرائس حيوانية صغيرة. وكانت تعيش في مجموعات عائلية واسعة.
انبثق خطان تطوريان من كائن مثل الأسترالوبيثكس. كان البارانثروبوس خطًّا جانبيًّا من البشريات، كان فيه البنيان الجسماني ثقيلًا و«قويًّا». ولقد انقرضت منذ ما يقرب من ١٫٤ مليون عام، وكان آخر ممثل لها (حتى الآن) بارانثروبوس بويزي الشهير الذي اكتشفه ليكي (وكان يسمى سابقًا زنجانثروبوس)، الذي أُطلق عليه اسم الإنسان كسار البندق بسبب فكه السفلي الضخم وأسنانه الكبيرة. أما الخط الثاني فهو الذي قاد إلى جنس الإنسان.
أسلافنا المباشرون
على امتداد الثلاثين عامًا الماضية، صارت الصورة العامة للسلف المباشر للإنسان المنتصب واضحة، برغم أنه لا يزال هناك الكثير من الجهد الذي نحتاج إلى بذله في هذا الصدد. ويقدم لنا هذا الموضوع مثالًا طيبًا على الصعوبات التي تبرز عندما يدرس المرء التفاصيل الأدق في أي سلالة أو سلالات حفرية. وما من شك أنه لا تزال هناك ثغرات في الرواية. ونظرًا لأن الاكتشافات الأقدم عهدًا اتجهت أولًا نحو الأنواع الجديدة بل وحتى الأجناس الجديدة، فقد كان من الواجب بذل جهد كبير لتوضيح التصنيفات العلمية القديمة، وكان المجال متخمًا بأسماء مثل بيثاكانثروبوس (إنسان جاوة الذي اكتشفه دوبوا) وسينانثروبوس (إنسان بكين) التي لم يعد يُعتقد أنها صحيحة وقائمة. وتزداد دراسة الحفريات البشرية تعقيدًا من خلال الحقيقة (التي لا تقدر بثمن) القائلة إنه شهريًّا تقريبًا، يتراجع «التاريخ الأقدم» لأي دليل إلى نطاق أعمق في الزمن. فقبل أقل من عشرة أعوام — على سبيل المثال — كان تاريخ هجرة الإنسان خارج أفريقيا هو قبل مليون عام؛ والآن صار منذ ٢ مليون عام. ومع اكتشاف المزيد والمزيد من الحفريات — إذا جاز لنا أن نقتبس مقولة من معلمي العجوز ألفريد شيروود رومر حول أصول الثدييات — «فإن ازدياد المعرفة يؤدي إلى غياب شديد للوضوح.»
ومن بين أكثر المهام صعوبة تثبيت الخطوط الفاصلة بين الأنواع المختلفة. قد يبدو هذا أمرًا ميسورًا عندما تكون لديك أنواع يفصل بينها عشرات الملايين من السنين، ولكن عند المقياس الدقيق للوضوح في سجل الحفريات حيث تتداخل التوزيعات وتبدو السمات التركيبية متداخلة مع بعضها، يصبح الأمر أكثر صعوبة. ويتبيَّن أن التباين على مستوى المجتمع، والنوع، بل وحتى الجنس، صعب القياس. على أية حال، فإن ما يميز حفريات البشريات عن القردة العليا (الأخرى): تقلص في حجم الأسنان، كبر حجم المخ، وقبو جمجمة ذي قبة أعلى، والجوانب المختلفة من الهيكل العظمي المتعلقة بالوقوف منتصبًا على قدمين، وفي مراحل لاحقة، نوع من الثقافة يتضمَّن أدوات مصنوعة بأسلوب بدائي.
أقدم أعضاء جنس الإنسان بتعريفه العام حاليًّا هو إنسان بحيرة رودولف، من مواقع يبلغ عمرها حوالي ٢٫٥ مليون عام تقع شرق بحيرة توركانا بكينيا، والإنسان الماهر، ويتبعهما مباشرةً الإنسان العامل والإنسان المنتصب (بيثاكانثروبوس الأصلي الذي اكتشفه دوبوا).
كيفية تمييز الأنواع
ينص قانون تاترسال على أنه إذا كان في استطاعتك التمييز بين جمجمتين وأنت تبعد عنهما مسافة خمسين خطوة، فهذا يعني أنهما تنتميان إلى جنسين مختلفين، أما إذا كان عليك أن تتفحصهما جيدًا عن قرب حتى تتعرف على الفرق، فإنهما تنتميان إلى نوعين مختلفين فحسب. لكن بالطبع هذا تبسيط مفرط للأمور …
يفصل بعض الباحثين الإنسان المنتصب من النوع الآسيوي عن الإنسان الطليعي و/أو إنسان موريتانيكوس من النوع الأفريقي. تبلغ سعة جمجمة إنسان بحيرة رودولف ٧٠٠–٨٠٠سم مكعب؛ أما عند الإنسان الماهر فهي أصغر وتبلغ ٥٠٠–٧٠٠سم مكعب، أما الإنسان العامل فكان «مخه أكبر»؛ إذ تتراوح سعة جمجمته بين ٦٠٠–١٠٠٠سم مكعب، وعند الإنسان المنتصب ٩٠٠–١٢٠٠سم مكعب.
في توقيت ما يقع بين مليون عام و٨٠٠ ألف عام مضت، نشأ أسلاف الإنسان العاقل، ومن المحتمل أن هذه النشأة كانت من الإنسان العامل عبر الإنسان الطليعي أو (في سيناريو منافس، انظر فيما يلي) من الإنسان المنتصب. يتراوح حجم المخ في الإنسان العاقل المعاصر بين ١٢٠٠ إلى ١٨٠٠سم مكعب؛ أي ١٤٠٠سم مكعب في المتوسط. لكن عندما تضم جميع الحفريات، تجد أن الإنسان العاقل نفسه يصعب تعريفه؛ فالمخ يكون كبيرًا للغاية، والجمجمة مرتفعة ومستديرة، والوجه عمودي: ولكن إلى أي مدى كان المخ كبيرًا والجمجمة مستديرةً والوجه عموديًّا؟ وفي تناقض مع الموجة المعاصرة السائدة في مواضع أخرى من علم المتحجرات التي تقول «بالتوازن المتقطع» كنموذج للتغير التطوري، يميل الباحثون في المواد البشرية إلى رؤية الأمور بمنظور تدريجي، وقد تم التعرف حاليًّا على أنواع عديدة من الإنسان العاقل. ويبدو أن هناك شكلًا عتيقًا قد وجد من حوالي ٢٥٠ ألف عام في صورة مواد حفرية غير حاسمة من عدة مواقع أفريقية. ويأتي أفضل شكل محفوظ للإنسان العاقل «المعاصر الأول» من عينات عمرها ١٦٠ ألف عام من موقع هيرتو بأثيوبيا؛ ويعود تاريخ مواد ذات صلة جاءت من كينيا إلى ١٩٥ ألف عام. وهذا يتفق تمامًا مع بيانات «حواء» الجزيئية.
وأقدم «إنسان عاقل» معاصر بمعنى الكلمة يأتي من كهوف كلاسييس ريفر ماوث بجنوب أفريقيا وكهف قفزة بإسرائيل، ويعود تاريخه في كلا المكانين إلى حوالي ٩٠ ألف عام و١١٥ ألف عام على الترتيب. وشملت السمات المتقدمة في المكانين جمجمة كبيرة الحجم، قحف كروي الشكل، ومقدمة رأس مقببة، لكنه مع ذلك احتفظ بصفات أكثر قِدمًا، مثل اتساع المسافة بين محجري العينين، والأنف الأفطس ومنتصف الوجه المنبسط بقدر يفوق ما يميز السكان الحاليين. فيبدو أن «الإنسان العاقل» كان عبارة عن عمل لا يزال غير مكتمل بعد.
بل إن الأكثر صعوبة العثور على برهان شكلي لأصول ثقافات معقدة، وبالتبعية أول تطور لفكرة التفكير الواعي العاقل (على سبيل المثال، يصعب تحديد بداية القدرة على الحديث بدقة؛ لأن العناصر الغضروفية الرئيسية بالحنجرة لم تُحفظ، برغم أن باستطاعة المرء التوصل إلى بعض الاستدلالات من الصدر وقاعدة الجمجمة). غير أن ثمة بعض المعالم الرئيسية. فصناعة الأدوات دائمًا ما كانت تعتبر (من حيث المبدأ) سمة فريدة تميز جنس «البشر»، والحقيقة أن صناعة الأدوات الحجرية الأكثر بدائية التي تعرف باسم «أولدانية» يبدو أنها بدأت منذ حوالي ٢٫٥ مليون عام، إما في أواخر عهد أسترالوبيثكس أو في عصر الإنسان العامل، وهي تسبق إلى حد ما تطور مخ أكبر بدرجة ملحوظة، والذي وقع في وقت ما في مرحلة افتراق الإنسان الماهر/الإنسان العامل. وتكوَّنت تلك الأدوات من بلطات يدوية بسيطة وشقفات حادة من الصخور تستخدم كسكاكين وكواشط، وهكذا بدأ العصر الحجري. من المفترض أن أولئك البشر الأوائل قد استخدموا في وقت سابق بكثير عن ذلك عصيًّا مشحوذة النصال — وربما كانت ذات أطراف مدببة تُصلَّب باستخدام النيران — كأدوات، غير أن أقدم دليل حفري على السيطرة على النار يعود تاريخه إلى حوالي ٧٩٠ ألف عام مضت (الإنسان المنتصب أو الإنسان العامل).
منذ حوالي ١٫٥ مليون عام مضت، حقق الإنسان العامل ابتكارًا أكثر تميزًا، وهو ابتكار يعد من زوايا عديدة تصورًا مبكرًا لتاريخ التكنولوجيا البشرية. في أدوات الحضارة الأشولية (سكين الجيش السويسري للعصر الحجري القديم)، أزيلت الشقفات من جانبي القلب الحجري (كوارتز، صوان، سبج) بحيث أمكن تشكيل أداة معقدة (بلطة) أكثر تعقيدًا يمكن استخدامها في الطعن والسحق؛ أي سكين، بل وتطورت لتصبح في نهاية المطاف رأس حربة أو رأس سهم. أي ذكاء هذا، وأي تركيبة اجتماعية أو ثقافة تمتع بها هؤلاء البشر الأوائل أصحاب المخاخ كبيرة الحجم؟ ليس في وسعنا الإجابة عن هذا التساؤل. كيف كانوا يتواصلون: بالهمهمات والإيماءات، أم بشيء أكثر تقدمًا؟ أما رسومات الكهوف فيعود تاريخها إلى حوالي ٣٥ ألف عام قبل الميلاد فقط. وأُشير مؤخرًا إلى أن صنع حبات العقود من الأصداف يعود إلى حوالي ٧٠ ألف عام قبل الميلاد. ومن ثم، لا بد أن هناك فجوة هائلة للغاية في الزمن بين تطور ما نعتبره مخًّا معاصرًا بكل ما بالكلمة من معان (وتشريح هيكلي متقدم) وبين بدء الأنماط الحديثة لاستعمال ذلك المخ.
هناك كلمة يجب أن تضاف عن إنسان نياندرتال، والذي لا يزال يستحضر في الأذهان صور رجال أشبه بالقردة متوحشين يمشون في تثاقل. الحقيقة أن البشر في عصر إنسان نياندرتال كانوا شعبًا من صيادين أذكياء ضخام الأجسام قصار القامة وأقوياء، ذوي رءوس ضخمة مطولة وذوي حواف حواجب ثقيلة جدًّا؛ وأنف كبيرة؛ وذقن صغيرة. كانوا يعيشون في تجمعات عائلية في إقليم صغير المساحة يمثل موطنهم. وكان من المعتقد فيما مضى أن إنسان نياندرتال هو سلف الإنسان العاقل؛ إذ كانت الأمور أيسر كثيرًا عندما كان عدد الحفريات المعروف قليلًا! أغلب الآراء الحالية (لكن لا يوجد إجماع) ترى أن إنسان نياندرتال نشأ بصورة مستقلة من إنسان هايدلبيرج، أو من فصيل مستقل من الإنسان المنتصب أو إنسان روديسيا. وتبين الدلائل المستقاة من علم المتحجرات أنه في بلاد المشرق، ومنذ حوالي ١٠٠ ألف عام مضت، عاش كلٌّ من الإنسان العاقل وإنسان نياندرتال في المنطقة نفسها، وربما عاشا معًا في بعض الأحيان. إن كليهما مرتبطان بأدوات حجرية متقدمة وبطقوس للدفن. في أوروبا، ربما كانت القصة مختلفة؛ إذ أعقب وصول الإنسان العاقل (منذ ما لا يزيد على ٥٠ ألف عام مضت) سريعًا انقراض إنسان نياندرتال (منذ ما يقرب من ٣٠ ألف عام). والاحتمال البديهي هو أن الإنسان العاقل تسبب في انقراض إنسان نياندرتال من خلال التنافس على الغذاء، أو أماكن الإيواء، أو ربما عن طريق حرب مباشرة بينهما. غير أنه بالمثل ظل التساؤل يدور طويلًا عما إذا كان البشر المعاصرون تزاوجوا مع بشر نياندرتال ثم بكل بساطة طغوا عليهم وراثيًّا. وقد جرى استخلاص حمض دي إن إيه من عظام إنسان نياندرتال، وحتى الآن، لم تبيِّن التحاليل وجود أدلة على التزاوج فيما بين الاثنين. غير أن العديد من المصادر العلمية الموثوق بها تؤمن بأن ذلك التزاوج لا بد وأنه حدث بينهما، حتى إذا لم نعثر على ذرية من تلك العمليات التزاوجية.
الخروج من أفريقيا
عندما كتب المؤرخ الروماني بليني الكبير (مقلدًا أرسطو) عبارة باللاتينية تعني: «هناك دومًا شيء جديد يخرج من أفريقيا.» لم يكن في مقدوره أن يتخيل إلى أي مدى كانت تلك العبارة في محلها.
بسبب العبء الثقافي الهائل، ابتليت دراسة الحفريات البشرية بعبء أثقل من المواقف النظرية — التي يعتنقها الناس عادة بدون توافر بيانات عملية أو رغم وجود بيانات تشير إلى العكس — يفوق ما تعرضت له باقي ميادين علم المتحجرات. تزخر الدراسات الإنسانية بالبحث عن الأسلاف، وكل اكتشاف جديد نجد نزعة إلى توجيهه إلى موقف محدد — فيما يتعلق بالأسلاف — في اتجاه الخط الرئيسي المتجه نحو الإنسان المعاصر بدلًا من سلوك الطريق المسدود المشابه لكنه الأرجح. فقد كان الاعتقاد لفترة طويلة — على سبيل المثال — أنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من نوع واحد من البشريات في أي وقت من الأوقات. كذلك تشبث علماء المتحجرات الأنثروبولوجيين بنظريات مختلفة عن ترتيب التغير في عمليات التكيف فيما يتعلق بالحركة والأسنان والمخ والثقافة، وعن أنماط تفرعات البشر في الزمان والمكان. وتطرح أحدث نظرية مهيمنة على دراسة الأصول البشرية أن أفريقيا كانت مركز جميع التفرعات التطورية البشرية. وبالفعل، الشيء الوحيد الذي تشترك فيه كل أجناس الحفريات البشرية كان أفريقيا. فلا توجد حفريات بشرية بين الفترة من ٥ ملايين عام إلى ٢ مليون عام معروفة — حتى الآن — من خارج أفريقيا.
في ظل وجود حفريات بشرية، تصبح الفرصة متاحة أمامنا لدراسة التطور بمقياس بالغ الدقة ولأن نضع فروضًا نظرية حول الهجرات السكانية. تفترض نظرية «الخروج من أفريقيا» الشهيرة أن أفريقيا كانت مصدر جميع الأنواع التي استعمرت فيما بعد أوراسيا، بدءًا من الإنسان المنتصب، الذي انتشر خارجًا من أفريقيا نحو آسيا منذ ٢ مليون عام مضت ونحو أوروبا منذ ١٫٣ مليون عام. وتنص الأدلة من الحفريات على أن الإنسان العاقل ظهر منذ حوالي ٢٥٠ ألف عام مضت، غير أن خروجه من أفريقيا لم يحدث قبل حوالي ١٠٠ ألف عام، ولم يستعمر الإنسان «العالم القديم» بأكمله إلا منذ ٣٥ ألف عام فقط. ولأغراض المقارنة، قدرت أحدث التواريخ التي استنبطتها المقارنات الجينية بين السكان المعاصرين الأفارقة وغير الأفارقة عمر آخر سلف مشترك بين جميع نسل الإنسان العاقل غير الأفريقي بحوالي ٥٢ ألف عام، ولكن مع احتمال وجود خطأ تجريبي بزائد أو ناقص ٢١ ألف عام (وهنا يوجد عدم توافق، حيث إن الإنسان العاقل عبر حاجز المحيط إلى أستراليا منذ ما يقرب من ٦٠ ألف عام مضت). هناك أيضًا برهان وراثي على أن أعداد السكان الأولى في المجتمعات غير الأفريقية الأولى كانت صغيرة للغاية، إذ كانت في مرحلة عنق الزجاجة فيما يتعلق بالأصل، ثم مرة أخرى منذ حوالي ٣٥ ألف عام، وهو ما يتوافق من جديد مع خطوة ازدياد حجم المخ وظهور ثقافات معقدة. كان من شأن تقلص أعداد الناس إلى أعداد قليلة جدًّا أن يزيد مستوى التزاوج بين الأقرباء، وربما يفسر هذا ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض الوراثية لدى البشر الأحياء.
كان إنسان هايدلبيرج يعيش في أوروبا وآسيا منذ ٥٠٠ ألف عام مضت، وإنسان نياندرتال كان يعيش في أوروبا قبل الإنسان العاقل بما لا يقل عن ٥٠ ألف عام. وفي نظرية «الخروج من أفريقيا»، تسبب الإنسان العاقل في انقراض هؤلاء البشر الآخرين في سائر النطاق الذي كان يعيش فيه، دون أن يحدث تزاوج بين الجنسين. وفي هذا النموذج، لم تتميز الأعراق المعاصرة من البشر إلا خلال الستين ألف عام الأخيرة تقريبًا. أما وجهة النظر البديلة فهي «نموذج الاستمرارية متعدد الأقاليم»، التي تفترض أن الإنسان المنتصب تحول بالكامل إلى الإنسان العاقل. وبعد أن تنوعت أعراق الإنسان المنتصب، تطورت الأعراق الحالية من الإنسان العاقل بالتوازي من ذلك التنوع الأول. هذا جدل ربما لا يمكن حله من خلال الحفريات وحدها إلا إذا اتضح أن الإنسان المنتصب ينتمي إلى خط موازٍ منبثق من الإنسان العامل وليس إلى الخط الرئيسي الذي يقود إلى الإنسان العاقل على الإطلاق. إن بيانات «حواء الجزيئية» الراهنة توجهنا بقوة نحو سيناريو «الخروج من أفريقيا». ويفضل بعض الباحثين نموذجًا وسيطًا يعتمد على «الاندماج»، حيث يتزاوج فصيل مهاجر واحد من الإنسان العاقل محليًّا مع بعض السكان الأصليين من الإنسان المنتصب.
ثمة ثلاث قضايا مختلفة هنا: الأولى تتعلق بما إذا كان الإنسان العاقل قد انتشر في جميع أنحاء أوراسيا من فصيل واحد ثم تنوع بعدها؛ والقضية الثانية هي هل كان هذا الفصيل أفريقيًّا؛ وأخيرًا أن هذا الافتراض بأكمله يعتمد على دراسة دقيقة لعلم أنساب الإنسان العاقل. الحقيقة هي أنه ليس لدينا مواقع بشرية خارج أفريقيا في الفترة ما بين خمسة ملايين عام إلى مليوني عام مضت تقريبًا؛ ومن ثم من الطبيعي أننا نرى الأحداث باعتبارها نشأت من بعد الخروج من أفريقيا. على أية حال، نظرًا لإيقاع الاكتشافات الجديدة في هذا الميدان، فإن من يراهن على أنه لن يجري العثور قط على تلك المواقع شخص شديد الجسارة. وبإمكاننا أن نكون على يقين أن وجهة نظرنا الحالية تجاه أسلافنا البشر ليست نهائية ولا مكتملة.
قبل خمسين عامًا، كان ميدان التطور البشري ابنًا بالتبني لعلم المتحجرات، تربكه مسألة الافتقار إلى البيانات والتدفق المفرط في النظريات. والآن، يتحول هذا الميدان إلى درس عملي في الاستخدام المشترك للحفريات والجزيئات معًا في إعادة بناء تاريخ تطور السلالات. وربما كان التاريخ التطوري لنوعنا مختلفًا عن ذلك الخاص بالأنواع الأخرى بسبب عامل الذكاء. ولعل أصول الأنواع الأخرى كانت ستبدو على هذا النحو لو نظرنا إليها من خلال الإطار الزمني الصحيح، وهي قصة معقدة تتضمَّن مجتمعات تمر عبر العديد من المآزق والعراقيل، لكنها تهاجر عبر مسافات شاسعة خلال فترات زمنية قصيرة؛ أي نوع ربما نجح في الاندماج واستيعاب أنواع ذات صلة قرابة معه، وربما أبادها تمامًا، أثناء مواصلة التقدم على الصعيدين البنائي والسلوكي. كل هذا في سياق من الدورات البيئية بين الظروف المتطرفة والمتناقضة، مع تقدم الجليد تارة وانحساره تارة أخرى وما ارتبط به من غلق وفتح لممرات اليابسة والبحار من أجل بقاء الكائنات أو هجرتها.