رامبو (١٨٥٤–١٨٩١م)
عبرت عما لا سبيل للتعبير عنه.
***
(١) خصائص عامة
حياة لم تتجاوز السابعة والثلاثين عامًا، موهبةٌ شعرية تفجَّرت في سن الصبا ثم لم تلبث أن توقفت بعد أربع سنوات، صمت ٌأدبيٌّ مطلق، ضياع بين أوروبا والشرق الأدنى وأواسط أفريقيا، حيرةٌ متصلة بين أعمالٍ متباينة تقلب فيها بين جيوش الاستعمار، والمحاجر، وشركات التصدير، تجارة البن والجلود في عدن، السفر مع القوافل لشراء الأسلحة وبيعها لنجاشي الحبش، كتابة التقارير للجمعيات الجغرافية عن مناطق لم تكتشف في الصومال، رحلاتٌ دائمة مع الحر والبرد والجوع والشقاء، علاقةٌ جنسية شاذة مع شاعرٍ آخرَ كبير (بول فيرلين)، مرض التيفوس، بتر ساق، موتٌ مبكر في مرسيليا، تطورٌ شعريٌّ مذهل في غضون أعوامٍ قليلة تفوق فيه الشاعر على نفسه وتراثه وخلق لغةً شعريةً أصيلة لم تزل حتى اليوم هي لغة الشعر الحديث، تلك هي بعض الحقائق البارزة في حياة رامبو وشخصيته.
والعنف في حياته يتفق تمام الاتفاق مع أدبه. إن إنتاجه قليل، ولكن لعل الكلمة الوحيدة التي تصدق عليه أنه أشبه بالانفجار. لقد بدأ بالقصائد التقليدية، وانتقل منها إلى الشعر الحر، ثم انتهى إلى قصيدة النثر الموقَّعة غير المتساوقة مثل قصائده الطويلة «الإشراقات» (١٨٧٢-١٨٧٣م) و«فصل في الجحيم» (١٨٧٣م)، وفي هذه الأشكال المختلفة التي مر بها — ومهد لها السابقون عليه — تسري عاصفة من الشعر النابض المفعم بالحركة، الذي يستغل الموضوعات والأشياء على هواه ليؤكد حريته قبل كل شيء. ونستطيع في الصفحات القادمة أن نهمل التقسيم المألوف لهذا الإنتاج إلى شعر ونثر، لنعتمد على تقسيمٍ آخر لعله أقرب إلى روح هذا الإنتاج وحقيقته: وهو النظر إليه في المرحلة الأولى التي تنتهي في حوالي منتصف سنة ١٨٧١م وهي مرحلة الشعر المفهوم، ثم المرحلة الثانية التي يتصف شعره فيها بالغموض والإغراب.
نستطيع أن نقول بوجهٍ عام إن أدب رامبو يحقق الأفكار النظرية التي خطط لها بودلير في ترجماته وكتاباته النقدية. ومع ذلك فهو يقدم صورةً مختلفة كل الاختلاف. إن ألوان التوتر الحاد التي عرضنا لها عند الكلام على «زهور الشر» وقلنا إنها بقيت بغير حل على الرغم من إحكامها وترتيبها قد بلغت أشدها عند رامبو وأصبحت ألوانًا من النشاز المطلق. فالموضوعات التي يطرقها شعره لا تكاد تتصل ببعضها إلا على نحوٍ قد يُحدِس به القارئ ولكنه لا يستطيع أن يقطع فيه بالرأي اليقين، وهي في معظم الأحيان تختلط ببعضها البعض أشد الاختلاط وتمتلئ بالثغرات والفجوات. إن حقيقة هذا الشعر لا تكمن في موضوعاته، بل في غليان انفعالاته، وهو منذ سنة ١٨٧١م لا يقدم للقارئ أفكارًا أو معاني مفهومة، بل مجرد شذرات، وخطوطٍ متكسرة، وصورٍ حسيةٍ حادة، ولكنها في نهاية الأمر صورٌ غير واقعية. ثمة اختلاطٌ شامل يسري في نغم هذا الشعر الذي تتألف من ألحانه المتناغمة أو المتنافرة وحدة تتجاوز المعنى والمفهوم. إن الشاعرية أو الفعل الشعري يتحول عن المضمون والعبارة إلى نوع من الرؤية الديكتاتورية المتسلطة التي تستلزم بدورها تكنيكًا غير عادي في التعبير. وليس من الضروري أن يترتب على هذا التكنيك تحطيم بناء العبارة ونظامها المألوف. فالغريب أن رامبو (على عكس مالارميه) يلجأ نادرًا إلى هذا، على الرغم من طبعه الانفعال المتفجر. إنه يكتفي بإفراغ مضموناته المضطربة المشوَّشة في جمل قد تصل في بساطتها إلى حدٍّ بدائي.
(٢) ضياع وضلال
لا غرابة إذن في أن يُحيِّر هذا الشعر ويربك. إن رسالة رامبو — كما قال الكاتب الناقد جاك ريفيير في سنة ١٩٢٠م — هي أن يحيِّرنا ويضلَّنا. وأجمل ما في هذه العبارة هو اعتراف صاحبها برسالة رامبو. وليس ريفيير هو الوحيد الذي قال هذا. إن شاعرًا كبيرًا آخر — هو بول كلوديل — يقول في رسالة وجهها إليه بعد قراءاته لقصائد رامبو «الإشراقات»: «أخيرًا استطعتُ أن أخرج بنفسي من العالم المنفر، عالم «تين» و«رينان»، من هذه الآلية البشعة التي تُسيِّرها قوانينُ صارمة وهي مع ذلك قوانين يمكن معرفتها وتعليمها. لقد كانت هذه القراءة إلهامًا كشف لي عن وجود يسمو فوق الطبيعة.» وكلوديل يهاجم هنا النزعة الوضعية العلمية التي قامت على الاعتقاد بأن في الإمكان معرفة العالم والإنسان معرفةً كاملة، فأدت من حيث تدري أو لا تدري إلى خنق الطاقات الفنية والنفسية التوَّاقة للبحث عن الأسرار. ولذلك فليس عجيبًا أن يكون الشعر الغامض الذي ينطلق بقارئه من عالم جرَّده العلم من الألغاز والأسرار إلى عالم المخيلة الذي يموج بهذه الألغاز والأسرار بمثابة رسالة تُعين المتلقي على التحليق في سمائه، ولعل هذا هو سر تأثير رامبو على الشعراء الذين جاءوا بعده. إن عالمه غير الواقعي المضطرب يحمل لهم الخلاص من الواقع الضيق. صحيح أنه لا ينتهي بهم إلى حقيقةٍ عالية تسمو فوق هذا الواقع بل إلى مثاليةٍ فارغة أشد تطرفًا من تلك التي وجدناها عند بودلير وأكثر عدمية. ولكنه كان ولا يزال نوعًا من التحرر والخلاص على كل حال، مهما كان من ضباب الألغاز والأسرار التي أغرقها فيها.
ويزداد إحساس القارئ لرامبو بالضياع والضلال كلما تبين له أنه ينطلق من لغة لا تستطيع أن تجرحه وتصدمه وتروعه فحسب، بل تملك كذلك القدرة على أن تشجيه بالنغم العذب الساحر. ولقد يبدو له في بعض الأحيان وكأن الشاعر يهيم في ملكوتٍ سماويٍّ رائع، أو كأنه ينحدر من عالمٍ آخر، تحيط به هالة من النور والفرح والصفاء … يقول عنه «جيد» إنه غابة شوك متوهجة، ومالارميه يصفه بأنه ملاك يعيش في المنفى. وتختلط أحكام الكتاب والنقاد على إنتاجه الزاخر بالعناصر الشاذة المتنافرة.
ويغالي البعض فيصفه بأنه أعظم الشعراء، ويحط البعض الآخر منه فيجعل منه مراهقًا شاذًّا نُسجت حول حياته وشعره الأساطير. ولا شك أن الدراسة المنصفة تستطيع أن تتجنب هذا التطرف من كلا الجانبَين، ولكنها لا تملك أن تقف موقف الحياد من المبالغات التي وقع فيها الفريقان، ولا بد أن تفسرها بأنها نتيجةٌ ضرورية للتأثير القوى الذي انبعث من شعر رامبو. ومهما يكن حكمنا عليه فلن نستطيع أن نتجاهل ظاهرة رامبو الذي أضاء واختفى كالشهاب القصير العمر، ولم يزل نوره يضيء سماء الشعر.
(٣) رؤية في رسالتين (شذوذ مقصود، موسيقى نشاز، فراغ)
والدعوة التي تحملها الرسالتان تتلخص في أن الشاعر ينبغي أن يجعل من نفسه رائيًا أو بصيرًا، ولكن كيف يصبح الشاعر كذلك؟ كيف يتسنى له أن يستحضر الرؤى؟ يجيب رامبو إجابته المشهورة: بإحداث بلبلةٍ متصلةٍ حادة في حواسه، بالانغماس «الديونيزي» المقصود في كل تجربةٍ حسية ووجدانيةٍ ممكنة. وما غايته من بلبلة الحواس وتعمُّد تشويهها؟ الغاية هي معرفة الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء الظواهر الخارجية والتعبير عنها. إن الرائي يستنفد كل سمٍّ وكل شراب لكي يحافظ على الجوهر واللباب، إنه يصبح بين الناس المريض الأكبر والمجرم الأكبر والملعون الأكبر، والعارف والرائي الأعظم! ذلك لأنه يصل إلى المجهول! وعندما يصيبه مس الجنون ويبوء بالعجز عن فهم رؤاه تكون هذه الرؤى قد أصبحت ملكة لديه؛ هو إذن بروميثوس جديد سرق النار الخالدة حقًّا لا خيالًا، أو مسيحٌ جديد منتظَر يتوقف على ظهوره مستقبل الحياة ومستقبل الإنسانية.
لعل هاتين الرسالتَين أن تكونا تنويعات على فكرة بودلير عن التماثل الشامل التي سبق الكلام عنها. بل إن رامبو يرى أن بودلير نفسه هو «الرائي الأول، ملك الشعراء إله حقيقي». وطبيعي أن مثل هذا الهدف الطموح لا يقاس إلا بالشعر الذي ألهمه وقد كانت «السفينة السكرى» — التي ستجد نصها فيما بعدُ — هي أعظم إلهام تمخض عنه خطاب الرؤية.
وليس جديدًا على الشاعر أن يطمح إلى منزلة الرائي والبصير والعراف. فالفكرة كما قلت فكرةٌ قديمة انحدرت إلينا عن الإغريق.
وقد رجع إليها أصحاب النزعة الأفلاطونية في عصر النهضة، ثم عرفها رامبو وهو بعدُ تلميذٌ صغير من إحدى مقالات «مونتني» التي تناول فيها فكرة أفلاطون عن المسِّ أو جنون الإلهام الذي يصيب الشعراء (وقد عرضها بوجهٍ خاص في محاورة فايدروس). وليس ببعيد أن يكون رامبو قد تأثر في هذا الصدد أيضًا بفيكتور هيجو. المهم على أية حال أنه فهمها فهمًا جديدًا، وأنه فسر الرؤية تفسيرًا يختلف اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه عند اليونان.
إن هدف الشعر في رأي رامبو هو «الوصول إلى المجهول»، أو هو في عبارةٍ أخرى «رؤية ما لا يُرى، وسماع ما لا يُسمع.» ويعلم القارئ أن هذه الأفكار ليست جديدة كل الجدة؛ فهي موجودة كما رأينا عند بودلير، وهي تستخدم هنا وهناك للدلالة على المثالية الفارغة، أو المتعالي (الترانسندانس) الخالي من كل معنى. ورامبو لا يحددها عن قرب، بل يكتفي بالتعريف السلبي للهدف الذي تتجه الرؤية نحوه. فهو أحيانًا «غير المألوف» أو «غير الواقعي»، وهو في كل الأحيان ذلك «الآخر» الذي يخلو من أي معنًى إيجابي. وأشعار رامبو تؤكد هذ؛ فأنت تلمس نزعتها العاصفة المتفجرة للانطلاق وراء الواقع، ثم تلمس تحويلها أو تشويهها للواقع إلى صورٍ مفككة، صور غير واقعية حقًّا، ولكنها لا تدل على معنًى متعالٍ أصيل. إن المجهول يظل عند رامبو كما كان لدى بودلير قطب توتر فارغ من المضمون، ورؤيته الشعرية تتغلغل في حطام الواقع — الذي مزقه الشاعر عن عمد! — لتبصر السر المظلم. فما هو موضوع هذه الرؤية؟
يجيب رامبو على هذا السؤال بعبارة مشهورة: … «لأن «أنا» شيءٌ آخر، عندما تبعث الحياة في الصفيح فيتحول بوقًا، فليس للصفيح فضل في هذا. إنني أعاين ازدهار تفكيري، أنظر إليه، أتسمع صوته. إنني ألمس الوتر، وما هو إلا أن تهتز السمفونية في الأعماق. من الخطأ أن يقال: أنا أفكر. لا بد أن يقال: إن هناك من يفكرني.»
ولكن لنعدْ مرةً أخرى إلى فكرتنا الأصلية لنسأل: كيف تصل الأنا إلى تجريد ذاتها من كل قوة؟ يقول رامبو: عن طريق الفعل. ولكن ما هي طبيعة هذا الفعل؟ الجواب: الإرادة والذات هما اللتان تقومان بتوجيهه: «أريد أن أكون شاعرًا، وإني لأعمل جاهدًا لأن أكونه.» والعمل هنا جهدٌ إرادي دءوب مُضنٍ يحاول به الشاعر، مهتديًا بالعقل «أن يشوش حواسه ويشيع فيها الاضطراب.» بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول: «إن المهم هو أن يصنع الشاعر لنفسه نفسًا مشوهة، متشبها في ذلك برجل يزرع البثور في وجهه ويرعاها حتى تكبر.» والدفعة الشعرية لا تنبعث إلا «بمسخ» الذات «وتقبيح» النفس. وما الهدف من كل هذا العناء؟ الهدف هو بلوغ «المجهول». والشاعر الذي ينظر في المجهول هو «المريض العظيم، والمجرم العظيم، والمحتقر العظيم، وهو كذلك أعظم العارفين.»
إذن فلم يعد الشذوذ قدرًا يحتمله الشاعر في صمت وشجاعة، كما كان الحال عند روسو والرومانتيكيين. إنه الآن رغبةٌ مقصودة في «الابتعاد» و«الانطلاق» و«الخروج». والأدب، والشعر بوجهٍ خاص، مرتبط بالمجهود الذي تبذله الإرادة «لمسخ» الذات أو تشويه النفس؛ لأن هذا المسخ وهذا التشويه هما اللذان يسمحان بالاندفاع الأعمى نحو الأعماق البدائية الدفينة أو الانطلاق نحو المتعالي (الترانسندنس) الفارغ من كل معنًى وحقيقة. وما أبعدنا الآن عن ذلك الشاعر أو الرائي الإغريقي الذي تتملَّكه ربات الفن وتصيبه الرؤية بمسِّ الإلهام أو عبقري الجنون!
إن الأدب الذي يأتي عن هذا الجهد الشاق سيصبح الآن «لغةً جديدة» أو «لغةً جامعة»، وهذه اللغة تختلط فيها عناصر الإغراب والعمق والتنفير والنشوة، يستوي أن يكون لها شكل أو لا يكون، ويستوي فيها الجميل مع القبيح. إن مقياس قيمتها هو الانفعال والموسيقى، هي عند الشاعر الذي لا يكف عن الحديث عنها «موسيقى مجهولة»، وهو يسمعها في «القلاع المبنية من العظام»، في «الأغنية الحديدية المنبعثة من أسلاك البرق»، وهي «نشيدٌ مشرق عن محنة من نوعٍ جديد». هي موسيقى عميقة امَّحى فيها كل أثر «للعذاب الشجي» الذي طالما تغنى به الرومانتيكيون. وكلما نغمت موسيقى هذا الشعر الأشياء والكائنات انبعث منها صراخ وزئير يخترمان الغناء والنشيد؛ إنها موسيقي نشاز أو هي نشوز موسيقي.
ولكن لنرجع مرةً أخرى إلى الرسالتين؛ ستستوقفنا عبارات جميلة كهذه العبارة: «إن الشاعر يحدد مقدار المجهول الذي يجيش في روح عصره الشاملة.»
ثم يأتي الكلام عن الشذوذ فيعلن في برنامجه أن الشاعر هو الشذوذ الذي أصبح معيارًا. ويصل إلى القمة حين يقول: «إن الشاعر يبلغ المجهول، وإذا لم يستطع في نهاية الأمر أن يفهم رؤاه، فيكفي أنه تمكن من رؤيتها.» قد تقضي عليه وثبته الهائلة في محيط الأشياء التي لم يُسمع بها ولم يُعرف لها اسم، ولكن سيأتي عمالٌ آخرون مخيفون فيبدءون من تلك الآفاق التي تحطم هو نفسه عليها.
من هو الشاعر إذن؟
هو ذلك الذي يعمل على تفجير العالم بالمخيلة الطاغية المستبدة التي تنطلق إلى المجهول وتتحطم عليه. فهل يا ترى أحسَّ رامبو أن القوَّتَين المتعاديتَين في عالمنا الحديث، وأقصد بهما العامل في الصناعة و«العامل» في الشعر يمكن أن يتلاقيا في الخفاء، ربما لأن كليهما مستبدٌّ متسلط على الأرض والنفس على حد سواء؟
(٤) قطيعة مع التراث
هذا التمرد الذي يعلنه رامبو في أشعاره وفي برنامجه الطموح يرتدُّ أيضًا إلى الوراء فيصبح تمردًا على التراث. والمتمرد على التراث قد ينجح في تحطيمه أو مقاطعته ولكنه لا ينجو أبدًا من تأثيره ولا يستطيع الإفلات منه. فالمعروف أن رامبو كان في صباه وشبابه شديد النهم إلى القراءة، وأشعاره زاخرة بأصداء من أدباء عصره أو أدباء القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإن حدة النغم في هذه الأصداء شيء يأتي من رامبو نفسه ولا يأتي من النماذج التي تتردد في وجدانه. إن كل ما يتلقاه من التراث الأدبي قديمه أو حديثه يتحول عنده إلى شيءٍ جديد كل الجدة، شيء ينتج عن زيادة في دفء الانفعال تصل إلى حد الغليان، أو تطرف في برودته إلى حد التثلج … ولذلك فلا يعتدُّ كثيرًا في الحكم على شعره بالأصداء المنبعثة من التراث، كل ما هناك أنها تؤكد حقيقة تصدق على رامبو كما تصدق على غيره: ما من أديب يبدأ من العدم.
إن رامبو يغير ما يقرؤه ويحوله إلى شيءٍ آخرَ مختلف تمام الاختلاف، ولعل هذا هو الدليل على موقفه من التراث بوجهٍ عام. إنه لا يكتفي بمقاطعته والتمرد عليه، بل يمقته ويعلن كراهته له، ويكفي أن نذكر كلامه في رسالة الرؤية الثانية عن لعنة الأسلاف، ويكفي أيضًا أن نتذكر ما يؤثر عنه من سخرية بمتحف اللوفر، ودعوته إلى إحراق المكتبة الأهلية في باريس! وقد تبدو هذه الأقوال صبيانية، ولكنها تتفق مع الروح الشائعة في آخر أعماله «موسم في الجحيم» الذي يشهد حقًّا بأن صاحبه لا يزال شابًّا، ولكنه يشهد كذلك بأنه تخطى مرحلة الصبا.
على أن انعزال رامبو عن جمهور القراء وعن عصره الذي عاش فيه بهذه الصورة المثيرة قد أدى كذلك إلى عزلته المثيرة عن الماضي، ولا ترجع هذه العزلة إلى أسبابٍ شخصية بقدر ما ترجع إلى طبيعة العصر نفسه، فيبدو أن طغيان الروح التاريخية والتطرف في الاهتمام بالجمع المتحفي كانا عبئًا كبيرًا على كاهل العصر؛ مما أدى إلى انقطاع الاتصال الحي بالتراث، بل إلى مهاجمة كل ما يتصل بالماضي والنفور منه. ولا زالت آثار هذه الظاهرة ملموسة في الأدب والفن في القرن العشرين.
وتصل نزعة التقبيح إلى قمتها في سوناتة بعنوان «فينوس أنا ديومين» كتبها في ٢٧ يوليو سنة ١٨٧٠م، إذ تتحول فيها الأسطورة الإغريقية الجميلة عن ميلاد فينوس من زبد البحر إلى شيءٍ غريب ومخيف:
فينوس
إن مضمون القصيدة يبين المفارقة الحادة مع عنوانها؛ فها هي ذي فينوس الجميلة الحالة قد استحالت امرأةً بشعة، يطفو رأسها المقروح من مغطس من الصفيح، وتستقر رقبتها الغليظة الكالحة فوق ظهر مقوس حفر عليه الاسم الرائع المهان، وبين الفخذين قرحة تنشر رائحة لا شأن لها بالطيب والعطور! وقد حاول بعض الشراح أن يجد في القصيدة سخرية ببعض قصائد شعراء البارناس (وهم جماعة من الشعراء الفرنسيين كانوا يميلون إلى التغني بالأساطير القديمة). بيد أنها سخريةٌ مفزعة لا دعابة فيها؛ فالشاعر يهاجم الأسطورة نفسها، بل يهاجم التراث والجمال بوجهٍ عام. وهو يفرغ في هذا الهجوم شحنةً هائلة من رغبته العارمة في التحوير والتغيير والتشويه، ولكن الغريب حقًّا أن هذه الرغبة في التشويه تملك من المقدرة الفنية ما يمكِّنها من أن تجعل من القبح أسلوبًا له منطقه الخاص.
وتزداد السخرية المُرة بالجمال والتراث في قصيدةٍ أخرى بعنوان: «ما يقال للشاعر عن الزهور»، إنها تهزأ بالقصائد التي يتغنى فيها الشعراء بالورود والزهور والسوسن والزنبق، فهناك نباتاتٌ أخرى تلائم الشعر الجديد: فلا تتغنَّ أيها الشاعر بالزهرة والكرمة، بل بالدخان، وأعواد القطن، وأمراض البطاطس. إن دمعة شمعةٍ واحدة أصلح للشعر من ندى الزهرة الحية أو الميتة، والنباتات الغريبة النادرة أنسب مما تراه في وطنك، وتحت سماءٍ سوداء في زمن الرعب والحديد ينبغي أن تكتب قصائد سوداء، تبزغ فيها القافية كالملح أو كالمطاط السائل، إن أسلاك البرق هي قيثارتها، وسيأتي إنسان يعزف عليها نغم الحب العظيم، إنسان «يسرق منا المغفرة المظلمة.»
(٥) الحداثة وشعر المدينة
ربما استطاعت الأبيات السابقة أن تعطينا فكرةً عن موقف رامبو من الحداثة، وهو شبيه بموقف بودلير. فكلاهما يكره الحداثة إذا كانت تدل على التقدم المادي أو التطور العلمي، وكلاهما يتشبث بها بقدر ما تعطيه من تجاربَ جديدة، تدفعه بخشونتها وسوادها على أن ينشئ فيها قصائدَ خشنةً سوداء.
مدينة
لست بالمواطن العابر الساخط كل السخط في عاصمة يعتقد الناس أنها حديثة لأن كل ذوق معروف قد استبعد من أثاث بيوتها الداخلي والخارجي كما استبعد من خريطة المدينة. لن يمكنكم أن تعثروا هنا على أثرٍ واحد للخرافة. إن الأخلاق واللغة قد ردَّا إلى أبسط تعبير لهما، أخيرًا! هذه الملايين من الناس الذين لا يشعرون بالحاجة إلى معرفة بعضهم البعض، يمارسون التربية والحرفة والشيخوخة، بصورة بلغت من التشابه حدًّا يجدر معه أن تصبح أعمارهم أقصر بكثير مما يثبته التعداد المجنون لشعوب القارة. وهكذا أُطلُّ من نافذتي وأرى أشباحًا جديدة تدور في دخان الفحم الأزلي الكثيف — ظل غاباتنا، ليل صيفنا! — وآلهة انتقام جديدة، أمام كوخي، الذي هو وطني وقلبي كله، وإذ كان كل شيء هنا يشبه هذا، ينشج الموت الذي خلا من الدموع، خادمنا النشيط وعبدنا، وحب يائس، وجريمة فاتنة في وحل الطريق.
مدن
أي ذراعَين جميلتَين، وأي ساعةٍ حلوة ترد على هذه المدن التي يزورني منها نوم ليالي وأوهى حركاتي؟
من العسير حقًّا أن يحاول الإنسان فهم هذه الصور المختلطة أو البحث عن المعنى الذي تنطوي عليه؛ ذلك لأن معناها كامن في اضطراب صورها لقد خلقها خيالٌ منفعلٌ جياش، وغلفها بضبابٍ شامل من المشاهد الغريبة المتشابكة التي يصعب تفسيرها، وإن كان من الممكن إدراكها بشكلٍ محسوس وتلمس أوجه الشبه بينها وبين بعض العناصر المادية والنفسية التي تتكون منها الحياة الحديثة في المدن الكبرى. ولا شك أنها صورٌ مخيفةٌ مفزعة، ولكن لها تأثير السحر على نفوسنا، وربما يكون السبب في هذا أنها تقترب في كثير من الأحيان من صور الحياة اليومية التي نعيشها في المدن الكبرى، مدن الرعب والأسفلت!
(٦) ثورة على التراث المسيحي
ثورة رامبو على المسيحية جزء من ثورته على التراث بأكمله. إنها ثورة لا تهدأ، بل تبدأ بالعذاب وتنتهي بالعذاب. إنه يتمرد على كل شيء لا يستطيع أن يتخلص منه. والدين، ككل موروث، يفرض سلطانه على من يثور عليه، بل إن عبئه يزيد على رافضيه أكثر من المؤمنين به، وهذا العذاب، عذاب من لا يقدر الإفلات من عبء التراث، أوضح ما يكون في شعر رامبو. فنصوصه تبين كيف يبدأ متعذبًا بالثورة عليه، وكيف ينتهي متعذبًا بالعجز عن الإفلات منه، وعذابه هذا جزء من عذابه في البحث عن «المجهول»، عن ذلك «المتعالي الأجوف» الذي لا يستطيع أن يكشف عنه إلا بتحطيم الواقع وتفتيته.
عرف رامبو كل هذا، وسجل هذه المعرفة في شعره، فهو في المرحلة الأولى يوجِّه هجومه العنيف على المسيح والمسيحية، ويحلل النفس المسيحية تحليلًا سيكولوجيًّا يكشف عن محنتها وشقائها. ففي قصيدة «قداس العشاء الرباني الأول» (يوليو ١٨٧١م)، نراه يكتب عن فتاةٍ صغيرة تدخل الكنيسة لتحضر المناولة الأولى وتسمع ثرثرة القسيس، وتنسج أحلام المراهقة المتعبة التي تستسلم لثورة رغباتها الدفينة، وتلقي ذنب الكبت الذي تعانيه على العذراء والمسيح.
ولكن الشاعر يذهب إلى أبعد من هذا. فهو يكتب في حوالي سنة ١٨٧٢م أو سنة ١٨٧٣م قطعةً نثرية تبدأ بهذه الكلمات: «بيت صيدا، المغطس ذو الأبهاء الخمسة» وتعتمد على ما ذكر في إنجيل يوحنا عن شفاء السيد المسيح لأحد المرضى عند بركة بيت صيدا. ولكنه يغير في قصة هذه المعجزة تغييرًا شاملًا فالمرضى والعجزة ينزلون في الماء الأسود العكر، ولكن لا يهبط ملاك، ولا يشفيهم أحد، ويقف المسيح مستندًا إلى أحد الأعمدة، وينظر صامتًا إلى المرضى الذين يستحمون، ويرى وجه الشيطان الساخر يطل من وجوههم، وينهض أحد هؤلاء المشلولين فيخرج من الماء ويتَّجه نحو المدينة في خطًى واثقة، من الذي شفاه؟ أهو السيد المسيح؟ ولكنه لم يقل كلمةً واحدة! ولم ينظر إلى المرضى نظرةً واحدة! أهو الشيطان؟ ولكن النص يصمت ويكتفي بأن يضع المسيح على مقربة من المريض. على أن القارئ قد يخرج بفكرةٍ آخرة؛ قد لا يكون المسيح هو الذي شفى المريض، وقد لا يكون الشيطان. ربما تكون قوةٌ علوية لا يعرف أحد عنها شيئًا. ربما تكون تلك الحقيقة الجوفاء من كل معنًى، ذلك المتعالي الأجوف.
بيد أن رامبو يقول كلمته الأخيرة عن المسيحية في مجموعته النثرية المشهورة «موسم في الجحيم» (أبريل – أغسطس ١٨٧٣م): ويتألف النص من سبع قطعٍ نثريةٍ طويلة، تمضي لغتها في خطواتٍ متعددة وحركاتٍ مفاجئة. إنها أشبه بدفعاتٍ قوية، تبدأ عبارة دون أن تختمها، وتبني أكوامًا من الكلمات المحمومة التي تركض هنا وهناك بغير اتجاه، وتلقي أسئلة بلا جواب، وتنثر في النص ذلك الجنون الساحر المريع الذي يصنعه تغير الفصول.
وموسم في الجحيم أشبه ما يكون بمراجعة يقوم بها الشاعر لكل المراحل الفنية التي مر بها. ولكنه كذلك أشبه بمجموعة من القفزات والكبوات المتصلة، فهو لا يكاد ينفض عنه مرحلة حتى يعود فيسقط فيها، وتكون النتيجة حيرةً مربكة لا تستقر، فما أحبه الشاعر مرة فهو يكرهه الآن، ثم لا يلبث أن يحبه مرةً أخرى، لكي يكرهه من جديد. وما يثبته في جملة يعود فينفيه في جملةٍ تالية، ثم يكرره في ثالثة. وإذا تمرد مرة رجع فتمرد على تمرده … حتى تأتي الخاتمة فتجرف شلال المتناقضات في هوةٍ واحدة: وداع الشاعر لكل حياةٍ عقلية أو روحية، ويأسه من الحب ومن كل يدٍ صديقة.
… أحيانًا أرى في السماء شطآنًا مترامية تغطيها أممٌ بيضاءُ سعيدة. ثمة سفينةٌ ذهبيةٌ كبيرة فوق رأسي ترفرف أعلامها الملونة في نسيم الصباح. لقد خلقت كل الأعياد، كل الانتصارات، كل المآسي. حاولت أن أبتكر أزهارًا جديدة، نجومًا جديدة، بشرًا من لحمٍ جديد، ولغاتٍ جديدة. اعتقدت أن في استطاعتي اكتساب قدراتٍ خارقة. حسنًا! عليَّ أن أدفن خيالي وذكرياتي. يا له من مجد جميل ذهب؛ مجد فنان وقصاص!
أنا! أنا الذي سميت نفسي ساحرًا أو ملاكًا، ونفضت يدي من كل أخلاق، قد رددت للأرض كي أبحث لنفسي عن واجب وأعانق الواقع المجعَّد! يا لي من فلاح!
هل خدعت؟ أيكون الحب الرحيم بي شقيقًا للموت؟
مهما يكن الأمر فسوف أطلب الغفران لأنني عشت على الكذب. ولأمضِ إلى الأمام!
ولكن ما من يدٍ صديقة! وأين ألتمس العون؟ …
ذلك إذن هو مجمل هذه المقطوعات الحائرة المحيرة؛ تشرد في العالم المألوف، عالم الأشياء والنفوس والعقول وتحديد لموقف الشاعر من التراث الديني. إنها تذكر المصطلحات المسيحية هنا وهناك: الجحيم، الشيطان، الملاك، ولكنها تتأرجح بين المعنى اللفظي والاستعاري، ولا تثبت إلا على معنًى واحد، هو معنى الثورة العمياء والتمرد الجامح. يدل على هذا وصف رامبو نفسه لها بأنها «صحائفُ قبيحة من مذكراتي عن اللعنة، مقدمة للشيطان». أو قوله في مقطوعة منها «دم شرير»: «الدم الوثني يعود!» الروح قريب؛ لماذا لا يساعدني المسيح ويمنح نفسي النبل والحرية؟ آه، لقد فات الإنجيل، الإنجيل. الإنجيل! ثم يقول: «إنني أغادر أوروبا، أريد أن أسبح، أكسر العشب، أصطاد، أدخن بصورةٍ خاصة، أعبُّ خمورًا قوية كالمعدن المصهور، كما كان يفعل الأجداد الأعزاء عندما كانوا يجلسون حول النار. سأرجع، بأعضاء من حديد، ببشرةٍ غامقة، بعيونٍ وحشية. عندما يبصرون قناعي سيعتقدون أنني من جنسٍ قوي. سأملك الذهب؛ سأعيش عاطلًا وضاريًا. النساء يرعين هؤلاء المرضى المتوحشين العائدين من المناطق الحارة. سأهتم بالسياسة، وأنقذ نفسي.» غير أنه يقول في عبارةٍ سابقة من نفس المقطوعة: «أنتظر الله في نهم.» وفي عبارة تأتي بعد هذا: «ما كنت مسيحيًّا أبدًا. أنا من جنس يغني في العذاب.» وهو يدعو «لذات اللعنة» ولكنها لا تستجيب. وينادي المسيح والشيطان، ولكنهما لا يسمعان، ومع ذلك يحس بقيودهما حول جسده وروحه: «أعلم أنني في الجحيم، وإذن فأنا فيه!» الجحيم هو العبودية في ظل شريعة تسأل وتجيب. والوثنيون ليس لهم جحيم، ولذلك تمتنع عليه الوثنية أيضًا.
وقد يتصور الإنسان أن الشاعر يعاني من المسيحية كما يعاني من جرح. ولكن سرعان ما تتحول ثورته إلى سخرية، ويصبح عذابه تهجمًا وسقوطًا في آنٍ واحد. ربما كان هذا هو ما يقصده من قوله إنه في الجحيم. والكلام عن الجحيم يدل على نوع من الارتباط بالتراث المسيحي، ولكنه يدل كذلك على نوعٍ غريب وجديد، ويحس القاري «لفصل في الجحيم» أن الشاعر يكاد يسأل نفسه بشكلٍ خفي: أليس الاضطراب في العالم الحديث وفي باطن الإنسان نفسه نوعًا من القدر المسيحي؟ ولكن الشاعر لا يجيب على السؤال ولا يحل المعضلة. ويحسُّ القارئ من ناحيةٍ أخرى بموضوعٍ آخر يطرقه الشاعر بإلحاح؛ الهجرة من القارة الأوروبية، والهرب من «مستنقعات الغرب» وحماقته، من البرهنة على ما هو واضح وطبيعي، وعدم الانتباه إلى أن البرجوازي الضيق الأفق قد ولد يوم ميلاد المسيح. ويبرز هذا الموضوع في ثنايا المقطوعات السبع، ويسير في اتجاهٍ محدد، وتمضي خلال الخريف، والشتاء، والليل والتعاسة؛ «ديدان في شعري وكتفي وقلبي». ثم يأتي القرار بعد الضياع الأخير: معانقة الواقع المغضَّن، الهروب من أوروبا العجوز إلى شطآن البحار وغابات الوحوش، بداية حياة من العمل الحازم القاسي …
ولقد برهن رامبو على صدق هذا القرار. أوغل في البحث عن المجهول بأقصى طاقته، وفعل في سبيل ذلك ما لم يفعله شاعرٌ سواه، ولكنه لم يصل في النهاية إلى شيء واضح عن طبيعة هذا المجهول. ولذلك أعلن استسلامه أمام صراعات الوجود العقلي وتوتراته التي لم يجد لها حلًّا وعدل عن هذا الطريق بعد أن أدرك خيبته، وراح يجترُّ موته الباطن، وصمته حيال العالم الذي فجَّره بنفسه. كان التراث المسيحي هو أعتى عقبة صادفته. لقد عجز عن إشباع جوعه الهائل إلى حقيقة تسمو فوق الواقع الذي بدا له ضيقًا محدودًا ككل ما هو أرضى. وكان من نتيجة الحريق الذي أشعله رامبو في الواقع والموروث أن انهارت المسيحية أمام عينَيه.
وإذا كان بودلير قد استطاع أن يصنع من لعنته نظامًا متسقًا، فقد تحولت اللعنة على يدي رامبو إلى عماءٍ مضطرب، ثم إلى صمت مطبق.
ولذلك فلا يستطيع أحد أن يصدق ما روته شقيقته إيزابيل من أنه مات مؤمنًا، بعد أن تأكد الباحثون من كذب هذه الرواية.
(٧) طرح النزعة البشرية
إذا أردنا أن نفهم رامبو فلا بد من الفصل بين الذات الشعرية والذات التجريبية لديه. إن «الأنا» التي تتحدث في شعره — شأنها في هذا شأن الأنا التي تتحدث في أزهار الشر — لا صلة لها بالأنا والشخصية أو النفسية، أعني أن شعره ليس تسجيلًا لحياته التي عاشها، أو تجاربه النفسية التي كابدها. ولعل هذا هو أهم مظاهر الحداثة في شعره، بل لعله أن يكون بداية هذه الظاهرة العامة التي نلاحظها بوضوح في الجانب الأكبر من الشعر الحديث — وبخاصة في شعر أزرا باوند وسان-جون بيرس — ألا وهي ظاهرة الانفصال بين الذات الشعرية والذات الشخصية.
صحيح أن تجارب رامبو الغريبة في صباه وشبابه قد تفيد في شرح نصوصه من الناحية السيكولوجية، ولكنها لا تكاد تصلح في شيء لبيان ذاته الشعرية. فعملية طرح النزعة البشرية التي تكلمنا عنها من قبلُ قد زادت وضوحًا في شعره، وأصبحت الأنا ذات الأصوات المتعددة المتنافرة ثمرة ذلك التحول الذاتي الذي أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك الأسلوب التخيلي الذي تنبع منه مضامين شعره وصوره.
قد تضع هذه الأنا على وجهها مختلف الأقنعة، وقد تمتد فتسع مختلف الشعوب والأزمنة والبقاع. وقد نجد رامبو في بداية كتابه «فصل في الجحيم» يتحدث عن آبائه وأجداده الغاليين. ولكننا لا نلبث بعد قليل أن نتبين أنها مجرد كلمات؛ إذ نقرأ بعد سطورٍ قليلة: «لقد عشت في كل مكان، ما من أسرة أوروبية لا أعرفها.» ثم بعد قليل: «إنني أتذكر تاريخ فرنسا، أكبر بنات الكنيسة. كان من الممكن أن أسافر إلى الأراضي المقدسة كواحد من رقيق الأرض، في رأسي شوارع السهول الشفابية، ومناظر من بيزنطة، وأسوار القدس …» هذه عبارات تصدر عن خيالٍ حركي، لا عن رغبة في كتابة حياةٍ شخصية. إن هذه الأنا الشعرية أو الذات الفنية تتغذى على صورٍ حمقاء، وأثارات تأتي من عالم الشرق أو من عالم البدائيين، وتتسع فتشمل الأفلاك ومختلف أشكال الوجود، وتتحول إلى ملاك أو شيطان أو ساحر.
ومما يؤكد انفصال الذات الشعرية عن الذات التجريبية أن رامبو نفسه يفسر قدرة العقلي والروحي على أساس العوامل غير الشخصية المتصلة بعصره وبالحداثة بوجهٍ عام. إنه يقول في ختام النص السابق: «الصراع الروحي شبيه في ضراوته بمعركة تنشب بين الرجال.»
إن الشاعر يعلم أنه سقط في قرارٍ عميق، أعمق من كل من سقط قبله أو يسقط بعده؛ وهو لذلك يستطيع أن يرى آفاقًا أبعد، ويحمل الموت معه أينما ذهب. لكنه يعلم أيضًا أنه لن يفهمه أحد، ولديه الكبرياء التي تجعله يقول إن «لهذا العذاب الغريب سلطةً مقلقة.» ومع هذا كله فهو عدوٌّ لدود لما يسمى عند الرومانتيكيين «بالقلوب الحساسة»، وهو معتز بأن تفوقه يرجع إلى أنه ليس له قلب، حريص على التخلص من ضعفه البشري بحيث يستطيع أن يقول في إحدى قصائده: «هكذا تحرر نفسك من إعجاب الناس، من الطموح الدنيء ثم تحلق …» (ص١٣٢).
أمن الممكن أن تلهمني الصفح عن رغباتي الممزَّقة على الدوام، وأن تعوِّض نهايةٌ مريحةٌ أوقاتَ الحرمان، وأن يعينني يوم أيام النجاح على النوم فوق عار خيبتي المقدورة؟ (آه أيها النخيل! أيها الماس! — أيها الحب! أيتها القوة! — أسمى من كل الأفراح والأمجاد! — في كل الأشكال — في كل مكان، شيطان، إله — شباب هذا الكائن. أنا!).
أمن الممكن أن تحب مزاعم الخرافات العلمية والحركات الداعية إلى الأخوة البشرية كما لو كانت محاولاتٍ تدريجية لإعادة الحرية الأولى؟
لكن مصاصة الدماء التي تجعلني رقيقًا ومحبوبًا تأمرني أن أستمتع بما تتركه لي، وإلا فلأكن أكثر حماقة وسخفًا.
أن يتمرغ الإنسان في جراحه، في الهواء وفي البحر، في ألوان التعذيب، في صمت المياه والرياح القاتلة؛ في أشكال العذاب التي تضحك بصمتها الأجوف المخيف.
ويبدو من عنوان القصيدة كأنها تشير إلى حالةٍ نفسيةٍ محدودة. غير أن قراءتها تبين أن هذه الحالة لا وجود لها. فالقلق فقد وجهه المألوف. بل إن القارئ ليسأل نفسه: أهذا القلق موجود؟ إنه يشعر بعاطفةٍ شديدة غير محدَّدة، يختلط فيها الرجاء والاندحار والفرح والسخرية والسؤال — القصيدة تقول ما تقوله على عجل ولا تلبث أن تعبره إلى شيءٍ جديد — حتى تصبَّ الكلمات في الجراح والعذاب والتعذيب والصمت — دون أن يدري الإنسان من أين جاءت هذه الكلمات أو ماذا تعنيه، إنما هو خليط من الصور والانفعالات غير المحددة — مثلها في ذلك مثل الكائنَين الأنثويَّين اللذين تشير إليهما القصيدة إشارةً عابرة. قد يكون الانفعال كله نوعًا من القلق، ولكنه انفعال تحرر من الإطار المألوف الذي يضم معالم الحياة الشعورية، بحيث لا نستطيع أن نسميه باسمٍ بشريٍّ مألوف كالقلق.
وليس أدلَّ على طرح النزعة البشرية من أن رامبو يظهر الناس إذا جاء ذكرهم في شعره في صورةٍ ممسوخة أو في صورة مخلوقاتٍ غريبة مجهولة الأصل. وإذا ذُكرت بعض أعضاء الجسد وجدنا علاقتها بالجسد في مجموعه علاقةً شاذةً غير مألوفة. إنه يركز الضوء على هذه الأعضاء بمفردها، ويثقل وصفه لها باصطلاحات من علم التشريح تزيدها موضوعية. ونستطيع أن نضرب مثلًا لما نقول بقصيدةٍ هادئة مثل قصيدة «النائم في الوادي» (أكتوبر سنة ١٨٧٠م) التي تنطوي على سخريةٍ هادئة بالحرب التي اشتعلت في سنة ١٨٧٠م بين الفرنسيين والبروسيين. ولنقرأ القصيدة أولًا قبل أن نشرع في تحليلها:
فالقصيدة تبدأ من وادٍ صغير يكسوه العشب ويزيد ويفور بالشعاع، لتنتهي فجأة بالموت. ولغتها تتبع نفس المسار، فتبدأ بأبياتٍ هادئة النغم وتنتهي بعبارةٍ موضوعيةٍ محايدة — أشبه بالتقرير — نعرف منها أن الجندي النائم ميت. ومع السطور ننحدر في بطء إلى هذه الحقيقة التي تبرز في النهاية فجأة وعلى غير انتظار. ومضمون القصيدة هو الانتقال من النور إلى الظلام. ولكن هذا الانتقال يتم بغير مشاركةٍ وجدانية، بل في هدوء وبرود. إنها لا تتكلم عن الموت، بل تستخدم نفس الكلمة التي لجأت إليها في البيت الأول. هناك «ثغرة من الخضرة» وهنا «ثغرتان في جانبه الأيمن». والميت صورةٌ خالصة في عين الشاعر أو القارئ الذي ينظر إليه. والانفعال الذي يمكن أن يجيش به القلب من رؤية هذا المشهد لا وجود له. لقد حلَّ مكانه أسلوبٌ فني يضع الثقب الذي تحدثه الرصاصة في موضع الموت، موت الإنسان. بهذا يحيل الحركة إلى سكونٍ مفاجئ. أم ترى نستطيع أن نقول إن هذا السكون نفسه يحركنا أكثر من أي شيء سواه؟ أتكون هنا مفارقة من مفارقات الشعر الحديث؟
(٨) تفجير الحدود
كثيرًا ما تنزع الذات الشاعرة عند رامبو إلى التوغل في آفاقٍ خياليةٍ بعيدة. إن البحث عن «المجهول» يلحُّ عليه ويدفعه إلى التعبير عن «هاوية السماء الزرقاء» التي عبر عنها بودلير من قبلُ. وتزدحم هذه السماء العالية بالملائكة، ولكنها في نفس الوقت قرار الهزيمة، هوَّة الفشل، نبع لهيب تتلاقى فيه البحار والحكايات الخرافية، والملائكة نفسها نقط من الضوء الحاد تلمع وتختفي، علامات على البعد والاتساع والعلو والرحابة، لكنها ملائكة بلا إله ولا بشارة. إن المحدود داخل في دائرةٍ رحبة أشمل منه. والقصائد المبكرة تشهد على هذا، ويكفي أن نذكر منها قصيدته الرائعة المشهورة عن أوفيليا (١٥ مايو ١٨٧٠م) لنرى منها كيف يرتفع الجزء إلى الكل، ويذوب المحدود في اللامحدود:
أوفيليا
١
٢
٣
أوفيليا هذه لا تمت بصلة لبطلة شيكسبير المعروفة.
إنها تطفو على سطح الماء، فينفتح حولها فضاءٌ رحب غير محدود، تتألق في سقفه النجوم الذهبية التي يتحدر منها غناءٌ غامض، وتهبُّ الرياح من أعالي الجبال، وينشج البحر كحشرجة ميت، ويطوف فوقها رعب اللانهاية والكون الشاسع المخيف. لقد ارتفعت فصارت شخصيةً باقية ترمز للصفاء والجمال الحزين المجروح. فها هي ذي ألف سنة تنقضي منذ أن سبحت على النهر، وها هي ذي ترسل أغنيتها الباكية منذ ألف سنة، أغنية الجنون الذي يصيب أصحاب الرؤى العظيمة العميقة ويفقدهم القدرة على الكلام.
هذه النزعة للارتفاع بالقريب الداني إلى أفقٍ رحبٍ بعيد تتخلل أعمال رامبو كلها. وكثيرًا ما تتركز العاطفة في جملةٍ واحدة، تصل في بعض الأحيان إلى درجةٍ شديدة من السرعة والحماس: «لقد شددت الحبال من برج إلى برج، وباقات الورد من نافذة لنافذة، والسلاسل الذهبية من نجمة لنجمة، وها أنا ذا أرقص» (ص١٧٨). لكنه رقص المتخبطين بغير هدف (أشبه برقصة بودلير بعد أن رأى في المدينة الصاخبة أشباح «العجائز السبعة» وعاد مفزوعًا إلى بيته وأغلق الباب وراءه، وراح في حمى الذهول والخوف يستعيد صور البؤساء الممسوخين: «عبثًا حاول عقلي أن يمسك المجداف، العاصفة أخذت تهزأ بكل جهوده، ومضت روحي، سفينة بضائع عجوز، ترقص وترقص، بلا شراع، فوق بحر مخيف بلا شطآن!»).
لكن البعد والرحابة لا يرتفعان دائمًا، بل يدمران في نهاية المطاف، استمع إلى قصيدته النثرية «ليلية شعبية» التي تبدأ بهذه الكلمات: «العاصفة تفتح فجوات أوبرالية في الجدران، تزعزع أركان السطوح المتآكلة، تبدد معالم المساكن، تعتم النوافذ …»
والقصيدة تكاد تكون عنوانًا على طريقة رامبو في التأليف؛ فهي تزدحم بصورٍ متفجرة من كل مكان، وتكرر في الخاتمة ما بدأت به: «العاصفة تقوِّض معالم المساكن.»
وهناك قصيدةٌ متأخرة (دموع، مايو ١٨٧٢م) تفيض بالألغاز الغامضة، ولا ينفع في حلها أن نرجع إلى العنوان، الذي لا صلة له بموضوعها، ولا إلى صورها أو مضموناتها المتعددة، وربما تكون أفضل وسيلة لتذوقها وتفسيرها أن نتتبع اتجاه حركتها بدلًا من الوقوف عند صورها المتحركة، بل ربما تكون أفضل وسيلة لتذوق الشعر الحديث بوجه عام.
والقصيدة تتحدث عن رجلٍ يشرب وهو جالس بالقرب من أحد الأنهار، ونلاحظ منذ البداية أنه يشعر بالاشمئزاز من الشراب. ثم يحدث شيءٌ غريب: تهب العاصفة لتغير وجه السماء، ونرى على الجانب الآخر من النهر أراضي سوداء، وبحيرات، وأعمدة تحت ليلٍ أزرق ومحطات سكك حديدية. وتنحدر المياه فوق الغابات، وكتل الثلج في المستنقعات ونسأل أنفسنا، ماذا حدث؟ إن قطعةً محدودة من الأرض قد تحوَّلت فجأة إلى قطعة من السماء تشارك فيها الأرض بدورها، وينتهي النص بكلماتٍ مختلطة على لسان الشارب، وتأتي الخاتمة التي لا تختم شيئًا، بل تجدد اللغز الغامض. ومع ذلك فقد ندرك أمرًا واحدًا، هو الفعل الذي يذيب المعالم ويفجر الحدود حين تنفذ فيها الأبعاد المترامية الغاضبة. وإليك القصيدة نفسها (مايو ١٨٧٢م):
دموع
وتتردد كلمات العطش والجوع في لغة رامبو. وقراء التصوف يعرفون أنهما من الكلمات التي استخدمها المتصوفون دائمًا — كما استخدمها دانتي — للتعبير عن شوقهم للاتحاد بالذات العلية. غير أن رامبو يستخدمهما للدلالة على حالة من الظمأ الذي لا يُروى والجوع الذي لا يُشبع.
ويكفي أن نتذكر النهاية التي يختتم بها قصيدته الجميلة «كوميديا العطش». فالكائنات كلها، الحمام والوحوش والأسماك والفراشات، تحس بالعطش. ولكن ما من واحد منها يستطيع أن يذوب هناك حيث تذوب السحابة التائهة:
ويكتب رامبو في نفس السنة قصيدته «أعياد الجوع». ولكنها أعياد إنسان لا يحس إلا بطعم الأرض والأحجار، ولا يأكل غير الهواء والصخور والفحم والحديد! يقيم احتفاله في هواءٍ أسودَ مسموم، وتحت سماء زرقاء تدق الأجراس، ويأكل الحصى التي كسرها شحاذ، وأحجار الكنائس القديمة، والخبز المخزون في الأودية المعتمة:
ليس جوع المعدة الخاوية فحسب، بل هو الشقاء. إنه لا يشبع أبدًا، لأن الطريق إلى الزرقة، أي إلى السماء، طريقٌ مسدود؛ ولذلك فهو يعضُّ الحجر، ويلتهم العشب، ويحتفل بعيد الجنون الغاضب المظلم، عيد اللعنة والشقاء: «إن العطش المريض يملأ عروقي بالظلام …»
(٩) السفينة السكرى
فالصور العديدة التي نراها في قصيدة فيكتور هيجو إنما تخدم عاطفةً تافهة تتحمس للتقدم والخير والإخاء والسعادة. أما «السفينة السكرى» فهي تعبر عن حرية إنسانٍ وحيدٍ فاشل؛ حريته الضارية المدمرة. وإذا كانت بعض صورها متأثرة بقصائد أو أعمالٍ أدبيةٍ أخرى، فإن بناءها وحركتها تدلان على سبق رامبو وأصالته، وإذا تذكرنا قصيدة «أوفيليا» وجدنا هذه القصيدة تبالغ إلى حد التطرف فيما تناولته تلك؛ وأعني به الارتفاع بالجزئي المحدود حتى يذوب في أفقٍ كليٍّ لا محدود.
هناك سفينة أو — إذا شئنا الترجمة الحرفية — قاربٌ كبير يحمل الأحداث جميعًا. والأحداث تعبر تعبيرًا ضمنيًّا لا يمكن إساءة فهمه عن الذات الشاعرة. أما الصور الواردة فيها فهي من القوة بحيث لا يمكن أن نتبين التشابه بين القارب والإنسان إلا من اتجاه حركة القصيدة في مجموعها. والمضامين المتحركة التي تحملها هذه الصور هي نفسها جزئياتٌ تفصيليةٌ مرئية ومرسومة بدقةٍ شديدة. وكلما زادت غرابة الصور وبُعدها عن الواقع، كلما نزعت لغتها إلى الحسية. أضف إلى هذا أن الصنعة الشعرية تجعل من النص كلمةً واحدة عن الذات التي يرمز لها ولا بد أن رامبو كان جريئًا في ذلك إلى أبعد حد. يدل على هذا أنه قرأ القصيدة على صديقه الشاعر «بانفيل» فعاب عليها هذا أنها «للأسف» لا تبدأ بهذه الكلمات. «أنا قارب …» ولم يدرك بانفيل أن الاستعارة هنا ليست مجرد أداة للتشبيه، بل تخلق وحدة بين الذات والقارب. وكل من يقرأ الشعر الذي جاء بعد رامبو يعرف أن الاستعارة المطلقة تغلب عليه. ولقد ظلت كذلك هي الطابع الأدبي الغالب على رامبو، مما سنصفه فيما بعدُ «باللاواقعية الحسية».
إن «السفينة السكرى» تنطلق انطلاقةً واحدة وفريدة، صحيح أنها تبطئ من سرعتها هنا وهناك، ولكن لتستأنف انطلاقها أشد عنفًا وقوة، حتى تصل في بعض المواضع إلى ما يشبه الانفجار المحموم. ويبدأ الحدث في هدوءٍ نسبي، إذ ينزلق القارب هابطًا مع النهر. غير أن هذا الهدوء قد سبقته دفعةٌ قوية، فالقارب أو السفينة لم تعد تكترث بملَّاحيها الذين قتلوا على الشاطئ قتلةً فظيعة … ولا يلبث كل شيء ثابت أن يتحلل ويتفكك بسرعةٍ مذهلة. وإذا بالهبوط الهادئ مع تيار النهر يتحول إلى رقصة القارب المحطَّم في عباب العواصف والبحار، والطواف بكل البلاد والأراضي الممكنة، رقصة تدور في أعماق الليالي الخضراء، وفي لجة العفن والأخطار، تحت شعار الموت و«الفسفور الذي يغني»، يندفع إيقاعه في أثير خلا من ذوات الجناح، ويحفر ثقوبًا في سماء ذات جدرانٍ حمراء، حتى يأتي التحول الأكبر، وهو الحنين إلى أوروبا، لكنه حنين لا يشتاق إلى وطن من الأوطان. وتتمثل للقارب صورةٌ مثاليةٌ بريئة، صورة طفل يلعب في أريج المساء على شطِّ مستنقع. إلا أن هذه الصورة تظل حلمًا عاجزًا؛ ذلك لأن القارب قد استنشق رحابة البحار وخلجان النجوم، وعرف أن أوروبا قد ضاقت عليه. وبمثل ما انطوى الهدوء الذي بدأت به القصيدة على دفعةٍ قوية، فإن النهاية المتعبة التي تختتم بها تنطوي على التوسع المخيف الذي اشتملت عليه المقطوعات السابقة. إنه هدوء العجز، هدوء القارب الذي يتحطم أخيرًا على صخور اللامحدود، وهدوء القارب الذي لم يعد يقنع بالمحدود.
والقصيدة تتميز بالبساطة الشديدة في بناء عباراتها، والوضوح والتنظيم فيما تعبر عنه. والانفجار الذي يحدث فيها لا يتم في تركيب الجمل بل في التصورات التي تحتوي عليها. بل إن هذا الانفجار ليزداد دويًّا كلما زاد التنافر الشكلي بينه وبين روابط الجمل والعبارات.
أما التصورات والأفكار نفسها فهي أشبه بتفجراتٍ تنبثق عنها المخيلة لا تحدث من مقطوعة إلى مقطوعة فحسب، بل من بيت إلى بيت، وقد تتم أحيانًا في داخل البيت الواحد، فتضيف إلى البعد والضراوة بعدًا أشد، وضراوةً أقسى وأمرَّ. أما الصور فهي فيما بينها غير متماسكة؛ ما من صورة منها تخرج بالضرورة من الصورة السابقة عليها أو تؤدي إلى الصورة اللاحقة لها، حتى ليستطيع الإنسان أن يبدل في ترتيب المقطوعات كيفما يشاء، أو يستبدل بعضها بالبعض الآخر. ويزيد من حدة هذا كله أن بعض الصور تنشأ عن امتزاج الأضداد المتباعدة، والتوحيد بين أشياء لا يمكن التوحيد بينها من الناحية الواقعية والموضوعية كالجمع بين الجميل والقبيح، وبين العفونة القذرة والفتنة المعطرة، أو استخدام بعض الاصطلاحات الفنية الغربية، وفي مقدمتها اصطلاحات الملاحة البحرية. وكأنما يشير هذا كله إلى العماء المختمر داخل إطارٍ ثابت من التراكيب اللغوية المتينة.
ومع ذلك يبدو أن هذا العماء لا يخلو من التنظيم والترتيب.
إن اتجاه الحركة هنا — كما أكدنا من قبلُ — أهم بكثير من الصور أو المضمونات المتحركة نفسها، وحركية القصيدة أو ديناميتها، هي التي تتيح للصور أن تظهر مفكَّكة كيفما تشاء ووقتما تشاء، لأنها هي التي تحمل الحركات المستقلة بنفسها. أما هذه الحركات فتسير في خطواتٍ ثلاث: الاندفاع والتمرد، الانطلاق إلى اللامتناهي غير المحدود، السقوط في الهدوء الذي يتبع التحطم والدمار. وهذه الخطوات أو الحركات الثلاث لا تسري على «السفينة السكرى» وحدها، بل تصدق كذلك على شعر رامبو كله. إن «العماء» الذي ذكرناه كثيرًا في مضموناته يستعصي في معظم تفاصيله وجزئياته على التفسير، ومع ذلك فالوسيلة الوحيدة لتفسيره — إن لم يكن لفهمه — هي النفاذ إلى اتجاه حركته، ومحاولة إدراك هذا الاتجاه بدلًا من الوقوف عند الصور التي تحمله؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يصبح هذا الشعر في معظمه شعرًا تجريديًّا، أي أنه يضحي بالقيمة الواقعية لمضموناته بل يحطمها إلى حد الغموض والإلغاز لصالح حركته الخالصة. ولا بد من إدراك هذه المسألة إذا أردنا أن نجد مدخلًا للشعر الحديث أو على الأقل لجانبه الأكبر الذي يتصل بنموذج شعر رامبو من قريب أو بعيد.
إن الخطوات أو الإيقاعات الثلاث التي ذكرنا أن شعر رامبو يسير عليها تمثل علاقته بالواقع وبالحقيقة المتعالية في آنٍ واحد. تغيير الواقع بل تحويره وتشويهه، انطلاق إلى الآفاق الشاسعة البعيدة، خيبة أمل في نهاية المطاف، حين تجد الذات أن الواقع ضيق يكاد يخنقها، وأن المتعالي فارغ لا يستطيع أن يرضيها. وقد لا نجد تعبيرًا عن هذا كله أفضل من تعبير رامبو نفسه حيث يقول «أسرارٌ دينية أو طبيعية، موت، ميلاد، مستقبل، ماضٍ، خلق العالم، عدم» (ص٢١٣). وفي نهاية الحلقة نجد العدم.
•••
وإليك الآن قصيدة «السفينة السكرى» التي أرجو أن تصبر على قراءتها (كما صبرت على نقلها!).
(١٠) واقع محطم
الصورة هي حياة الشعر.
وهي تنطوي دائمًا على نوعٍ من الصلة بالواقع. ولكن لن تبلغ بأحد السذاجة أن يقيِّم الأدب بعامة، والشعر الغنائي بخاصة، على أساس دقة صوره ومضموناته المتعلقة بالواقع الخارجي في التعبير عن هذا الواقع ومطابقته مطابقةً تامة. لقد كان من حق الأدب دائمًا أن يغير الواقع، ويعيد بناءه، ويضيق منه بالتلميح الموجز أو يوسع فيه بالخيال الرحب، ويجعل منه وسطًا يعبر عن الوجدان أو رمزًا لموقفٍ شامل من الحياة.
ومع ذلك فقد حرص الأدباء والنقاد دائمًا — عن قصد أو غير قصد — أن تكون هذه التغييرات كلها مراعية للعلاقات الموضوعية الخارجية، وأن تظل متصلة — مهما شط بها الخيال — بعالم الأشياء الواقعية، وأن تبقى في إطار القوى الصورية والاستعارية التي تكمن من بداية الأمر في كل اللغات. ومعنى هذا أنهم حرصوا على أن يكونوا مفهومين على نحو من الأنحاء.
غير أن الشعر بالذات لم يعد يحرص على شيء من هذا بعد رامبو. ولذلك أصبح من الضروري للدارس أن يحلل الواقع ويكشف عنه ليستطيع من المقارنة بينه وبين ذلك الشعر أن يتبين إلى أي مدًى تحطم الواقع وإلى أي حد تفجر الأسلوب التقليدي في الصورة والاستعارة.
يقول رامبو في بعض كتاباته المتأخرة على لسان صديقه فيرلين: «كم من ليلة سهرت بجانب جسده النائم؛ لكي أعرف لماذا استبدت به (أي برامبو) الرغبة في الانطلاق من حدود الواقع!» (ص٢١٦)، ومن الواضح أن رامبو يتحدث هنا عن نفسه. إنه لا يدري سبب هذه الرغبة التي تستبد به، ولكن أعماله تدلنا على التطابق الواضح بين مسلكه من الواقع وعاطفته التي تشده إلى «المجهول».
وقد عرفنا شيئًا من هذا التوتر عند بودلير، ولكن رامبو يزيد عليه أن المجهول عنده قد فرغ من كل مضمونٍ ديني أو فلسفي أو أسطوري، ولذلك فهو يمثل قطب التوتر الذي يعود — بسبب فراغه هذا — فيرتد على الواقع. ولما كان الشاعر يعاني من عجز هذا الواقع وقصوره بالقياس إلى المجهول أو الحقيقة المتعالية (الترانسندنس)، فإن العاطفة التي تشده إلى هذا الأخير تتحول إلى نوع من التحطيم والتمزيق للواقع بغير هدف. وهذا الواقع المحطم يصبح بدوره علامة على عجز الواقع بوجهٍ عام واستحالة الوصول إلى ذلك المجهول. ويستطيع القارئ أن يصف هذا الصراع بأنه ديالكتيك الروح الحديثة. ويستطيع أيضًا أن يقول إنه قد تجاوز رامبو وشعره وصار طابع الأدب والفن الحديث بوجهٍ عام.
لعل القارئ يتذكر عبارة بودلير التي يقول فيها إن أول أفعال الخيال هو «التفكيك». هذا التفكيك — الذي كان بودلير يعني به فيما يعني نوعًا من التغيير بل التشويه — قد أصبح عمليةً أدبية ومسلكًا فنيًّا حقيقيًّا في شعر رامبو. فالواقع عنده — هذا إذا كانت قد بقيت له بقية أو إذا استطعنا أن نحكم على القصيدة من حيث صلتها به — هذا الواقع قد أصبح يحتمل من التعديل والاتساع والتشويه والتمزيق والتقبيح والتوتر بين الأضداد ما يجعله مجرد معبر إلى اللاواقع أو مرحلة انتقال إليه، فالماء والريح مثلًا من العناصر الأولية التي يتكون منها عالم رامبو الواقعي. كان الشاعر يروضهما ويكبح جماحهما في قصائده المبكرة، ثم انطلقت قواهما المكبوتة في إنتاجه الناضج والمتأخر؛ فصار لهما دوي العواصف وقصف الرعود، وأصبحا أشبه بطوفانٍ كوني يقوض كل نظام في الزمان أو المكان: «السهول والصحاري والآفاق تصبح ثوبًا أحمر يرتديه الإعصار» (ص١٢٤). ويذهل الإنسان إذا تفكر لحظة في كل هذه الموجودات التي تظهر في شعره ويأخذه العجب حين يراها قلقة ترتفع إلى قمة لتهوي في حضيض، لا تستقر في مكان ولا تهدأ في زمان (ربما كان السبب في هذا أنها لا ترتبط بشيء في المكان أو الزمان). إن الصور والأشياء تختلط في موكبٍ غريب؛ متشردون وصعاليك، سكارى ومومسات، طرق زراعية وشطآن وحانات، غابات ونجوم، ملائكة وأطفال، فوهات براكين وكتل من الجليد، أبراج ومساجد وملاعب للسيرك، وعالمٌ زاخر بالمناظر العجيبة كأنه «جنة التجهم المجنون» (١٧٢).
(١١) شدة القبح
مثل هذه الموجودات الواقعية لا تدور حول مركزٍ واحد تنتظم حوله وتستمد منه قيمته ومقياسه. إنها آثارٌ محمومة من انفعالٍ عميقٍ محموم. وهو يصورها تصويرًا لا صلة له بأي مذهبٍ واقعي. حتى القبح الذي تفيض به بقايا الواقع في نصوصه، لا بد أن نأخذه كانفعالٍ عميقٍ محموم. وليس القبح وحده في ذلك. فالجمال أيضًا نوع من هذا الانفعال. صحيح أن هناك مواضعَ جميلة في شعر رامبو، جميلة في صورها ونغمها على السواء، ولكن المهم أنها لا تقف وحدها، بل تكون دائمًا بجانب مواضعَ أخرى قبيحة. ليس الجمال والقبح أضدادًا من ناحية القيمة، بل من ناحية الإثارة والتنبيه، الفرق الموضوعي بينهما لا وجود له، تمامًا كالفرق بين الصواب والخطأ، أو بين الصدق والكذب، والتجاور الشديد بين الجميل والقبيح يؤدي إلى «دينامية الأضداد» التي يدور عليها كل شيء، لأن الصراع هو في الحقيقة كل شيء في هذا الشعر. على أن القبح وحده قادر أيضًا على توليد هذا الصراع؛ هذه «الضدية».
ومن أدل القصائد على القبح الذي تحدثنا عنه قصيدة رامبو الجريئة «القاعدون» التي كتبها في سنة ١٨٧١م. ويروى فيرلين أنها كُتبت عن أمين المكتبة العامة في مدينة شارلفيل، وكان رامبو قد غضب منه غضبًا شديدًا! وقد تكون هذه الرواية صحيحة، ولكنها لن تساعدنا على فهم النص؛ فلغته تزخر باصطلاحات من علم التشريح، وكلمات من اللهجة العامية، واشتقاقاتٍ منحوتة، تخلق ما يشبه أن يكون أسطورة للقبح الفظيع. وهي لا تذكر أمين المكتبة المسكين بكلمةٍ واحدة، ولا تورد كلمةً واحدة عن الكتب أو المكتبات. إن حديثها كله ينصبُّ على جماعة من العجائز الذين تتجسد فيهم الحيوانية والشر والتعاسة والخمول. لا بل إنها لا تتحدث عن هؤلاء العجائز مباشرة، وإنما تذكر تفصيلاتٍ بشعةً محزنة: أورامًا سوداء، ندوب الجدري، عيونًا حولها حلقاتٌ خضراء، أصابعَ هزيلة معقودة حول السيقان، جباهًا تغطيها تلافيفُ غامضةٌ مزمجرة أشبه بقروح النبات فوق الجدران القديمة. ثم يأتي دور الشخصيات والوجوه: هياكلُ عظميةٌ خرافية زاوج أصحابها في ولهٍ بينها وبين هياكل الكراسي، وأقدامٌ مصابة بالكساح تلتف حول قوائم المقاعد من الصباح إلى المساء دائمًا وإلى الأبد، وشموسٌ حارقة تشوي جلودهم، وعيونهم تمتد إلى النوافذ «حيث يذوي الثلج»؛ في القش الذي حشيت به الكراسي. تتوقد أرواح شموسٍ قديمة مختنقة، كان القمع فيما مضى يختمر تحت أشعتها. والعجائز قابعون، ركبهم في أسنانهم، كأنهم عازفو بيان خضر، يدقُّون بأصابعهم العشر تحت الكراسي، ورءوسهم تتأرجح مع اهتزازات خيالهم العجوز. فإذا ناداهم أحد راحوا يموءون كالقطط المضروبة، ويكشفون عن عظام أكتافهم، وتتسحب أقدامهم الملتوية إلى الأمام وترتطم رءوسهم الصلعاء بالحيطان الكالحة، وتخترق أزرار ستراتهم عين الإنسان خلال الظلام الذي يغشى الممرات، ومن نظراتهم المميتة يترقرق سُمُّ كلاب شبعت ضربًا. فإذا جلسوا مرة أخرى غاصت أكفهم في أساور قمصانهم القذرة، وتحت الذقن الهزيلة حزمة من الغدد توشك أن تنفجر. إنهم يحلمون بكراسي أجمل، وزهور «الحبر» التي تبصق «بذور حروف العطف» تهدهد هذا الحلم.
مثل هذا القبح لم ينسخه الشاعر من العالم الخارجي وإنما ولده توليدًا. إنه يصف لنا مجموعة من الكائنات توجد في كل مكان وزمان. ليسوا بشرًا، بل هياكل بشر، هم والأشياء كيانٌ واحد، والأشياء بدورها رفاق أولئك الذين يقعون فوقها. ثم انظر إلى نزعتهم الشريرة العاجزة، والضباب الذي يغشى حالتهم الجنسية في الشيخوخة. كل هذا في لهجةٍ متهكمة، تظل خافية وراء غنائية الأبيات، فكأن القصيدة بأكملها نوع من التنافر بين النغم والصورة. صحيح أنها لا تخلو كما قلت من مواضعَ «جميلة» ولكن هذه البقية الباقية من الجمال تخدم ذلك التنافر أو هي نفسها متنافرة، تجمع على سبيل التضاد بين صور وعناصرَ غنائية بطبيعتها وبين أسخف الأشياء وأكثرها تفاهة. فها هي ذي القصيدة تتحدث عن أزهار الحبر، وبذور الشولات أو الفواصل التي تجملها بالمقارنة بينها وبين الفراشات الطائرة على زهور الجلاديولا:
ودور القبح هنا واضح. فإذا أردنا أن نقارن بينه وبين القبح العادي وجدنا أن هذا القبح الشاعري قد غير من القبح المألوف وشوَّهه، بمثل ما غير الواقع وشوهه، لكي يجعل الانطلاق إلى ما فوق الواقع من خلال هذا التدمير والتمزيق أمرًا ملموسًا. ولكنه انطلاق إلى الفراغ، لأن الحقيقة المتعالية فوق الواقع فارغة كما علمنا من كل دلالةٍ دينية أو فلسفية أو أسطورية.
وقد كتب بودلير قصيدته «العجائز السبعة» قبل أن يؤلف رامبو قصيدته هذه باثنتي عشرة سنة. ولا بأس من المقارنة بين القصيدتين لنرى إلى أي مدًى يتفق الشاعران أو يختلفان في تصورهما «الدرامي» للقبح. فقصيدة بودلير تصور أيضًا قبح الناس والأشياء ولكنها لا تتركنا حيارى، بل تعطينا بعض التوجيهات المحددة التي تعين على فهمها، وتقدم لنا المكان والحدث في ترتيبٍ دقيق. في البداية نجد المدينة الكبيرة المزدحمة، ثم نجد شارعًا في إحدى الضواحي، في زمن حدده لنا الشاعر بالصباح الباكر. ويظهر عجوز ترتسم أمامنا صورته وتتبين معالم هيئته، يتبعه عجوزٌ آخر ثم ثالث ورابع حتى يظهر السابع. وتستجيب الذات الشاعرة لهذه المشاهد بانفعالاتٍ محددة: بالفزع والارتعاش حتى تصدر حكمها الأخير. ويبرز القبح بكل حدته المحسوسة، ولكنه قبحٌ معتدل، نعرف العلاقة التي تربطه بالمكان والزمان والانفعال. والشاعر يشبه أحد العجائز بيهوذا، وفي هذا التشبيه إشارة وتوجيه؛ إشارة إلى شخصيةٍ معروفة، وتوجيه يصلنا بشيء مألوف. أما انفعالات الذات الشاعرة إزاء هذا المشهد المخيف، فهي تشيع الدفء في النص، أي أنها تظل — على الرغم من كل الألم والعذاب — انفعالاتٍ بشرية.
وإذا التفتنا إلى قصيدة رامبو لم نجد أثرًا لهذه الإشارات الموجهة؛ فعجائزه ليسوا أفرادًا ذوي معالمَ واضحة، بل مجموعةٌ غامضة تتألف من تفاصيلَ تشريحية ومرضية، لا من وجوه وشخصيات وأشكال. المكان لم تبقَ منه إلا بقايا، والزمان ديمومةٌ متصلة، وليس غريبًا ألا نجد في القصيدة أية إشارة لأمين المكتبة المسكين الذي ذكره فيرلين في روايته عن صديقه، فلو قد ذكره لكان ذلك توجيهًا واضحًا يتنافى مع الروح العامة للقصيدة وقربًا من الواقع الذي تجاهد في تحطيمه والبعد عنه. إن من العسير أن نصل هذا القدر الهائل من القبح بواقعٍ مألوف، حتى ولو كان ذلك عن طريق الرعب والفزع منه؛ ذلك لأن إرادة الشاعر الحديث في تغيير هذا الواقع وتشويهه قد فاقت كل حد، حتى وصلت به، كما يقال اليوم في لغة السياسة، إلى طريقٍ لا عودة منه.
(١٢) لا واقعية حسية
إن كل محاولة تبذل لقياس صور رامبو ومضموناته بمقياس الواقع لا يمكن أن تكون لها غير قيمةٍ واحدة وهي الكشف عن النص وتوضيحه بقدر الإمكان. ولكننا كلما تعمقنا هذا النص اكتشفنا عجز كلمات مثل واقعي وغير واقعي. ولعل كلمةً أو اصطلاحًا آخر أن يكون أنسب منهما، ألا وهو «اللاواقعية الحسية» الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة. ونقصد باللاواقعية الحسية أن الشاعر يتحدث عن مادة الواقع المشوَّهة في مجموعات من الكلمات لكل جزء منها كيفيةٌ حسية. ومع ذلك فإن مثل هذه المجموعات توحد بطريقةٍ شاذة بين أشياء ليس من طبيعتها أن تتحد في الواقع، بحيث ينشأ من الكيفيات الحسية تكوينٌ لا واقعي. إن الصور تكون دائمًا صورًا عيانية، ولكنها صور لم تصادفها العين أبدًا ولن تلتقي بها في يوم من الأيام. إنها تتجاوز الحرية التي أعطاها الشعر دائمًا لنفسه، بفضل الطاقات الاستعارية الكامنة في كل اللغات الإنسانية.
«بقسماط الشارع»، «الملك الذي يقف على بطنه»، «مخاط الأثير الأزرق» … إلخ، قد تكون مثل هذه الصور نوعًا من المبالغة الحادة في بعض الخصائص التي تكمن أحيانًا في الواقع، ولكنها لا تتجه إلى الواقع بل تتبع منهجًا ديناميًّا في الهدم والتحطيم يهدف — وهو في هذا ينوب عن المجهول الخفي — إلى أن يجعل من الواقع نفسه نوعًا من المجهول المثير والمستثار في آنٍ واحد، عن طريق تغيير حدود الواقع وأشكاله الثابتة، وضم أطرافه المتباعدة، وتوحيد ما هو متضاد فيه بالطبيعة أو بالضرورة. والحق أن تغيير نظام الواقع والبقاء مع ذلك في إطار المحسوس إنما هو من الأمور التي كان الشعر التقليدي يلجأ إليها في كثير من الأحيان. وهناك أمثلةٌ عديدة على هذا في شعر رامبو. فهو يصف رايةً حمراء بأنها «راية من اللحم الذي ينزف دمًا». ولكن اللون الأحمر وهو المقابل الواقعي في هذه الصورة، ليس هو الذي تتحدث عنه؛ إذ سرعان ما تضيف اللغة (في ميلها إلى كل بشع وفظيع) تلك الاستعارة إلى الشيء الموصوف. ومع ذلك فإن هذه الأمثلة القليلة تخفي ما تعلنه معظم الحالات الأخرى التي تبين أن اللاواقعية الحسية عند رامبو هي المجال الحقيقي الذي تتم فيه درامية الصدمة التي تثيرها نصوصه في نفس القارئ.
ولننظر إلى هذه الصور التي تتكرر في شعره: «زهور من اللحم، تتفتح في غابات النجوم»، «قصائد رعوية ذات أحذيةٍ خشبية تزمجر في الحديقة»، «قذر المدن، أحمر وأسود كالمرآة، عندما بدور المصباح في الحجرة الجانبية»، وكلها صور تتألف من عناصر لا شك في وجودها في الواقع المحسوس. ولكن الشاعر يرتفع بها إلى مستوى قوى الواقع عن طريق الإدغام والإزاحة والقفز من الضد إلى الضد والتأليف الجديد بين عناصر لا تأتلف بطبعها في واقع الأشياء. ولذلك فإن «التركيبة» الجديدة لا تعود بنا إلى الواقع، بل تجبر العين والعقل أن ينتبها إلى «الفعل» الذي أبدعها. إنه فعل يقوم به خيالٌ متسلط، أو خيالٌ دكتاتوري. هذه الكلمة الأخيرة التي تعبر عن القوة الكامنة وراء أشعار رامبو ستعفينا في الحقيقة من قياس النصوص بمقياس الواقع، وهو الأمر الذي تحاشيناه في بداية هذه الفقرة. إن القياس هنا شيءٌ مستحيل؛ فنحن في عالم تقوم واقعيته في اللغة وحدها.
(١٣) خيال دكتاتوري
ما طبيعة هذا الخيال الذي وصفناه بهذه الصفة البشعة؟ ما وظيفته؟ كيف يعمل؟
الخيال الدكتاتوري لا يقوم على الإدراك والوصف، بل على الحرية الإبداعية المطلقة من كل قيد. إن العالم الواقعي يتحطَّم ويتفجَّر تحت سلطان الذات الشاعرة التي لم تعد تقنع بأن تتلقَّى مضموناتها وصورها، بل تصر على أن تخلقها بنفسها خلقًا.
وقد لا نجد عبارةً توضح هذا الكلام مثل هذه العبارة التي تروى عن رامبو عندما كان يعيش في باريس: «يجب علينا أن نخلص الرسم من عادة النسخ القديمة لكي نجعله فنًّا شامخًا مستقلًّا بنفسه. عليه، بدلًا من إعادة نسخ الأشياء، أن يستثير الانفعالات عن طريق الخطوط والألوان والمعالم والحدود التي تستمد حقًّا من العالم الخارجي ولكن تبسط وتهذب: سحر أصيل».
ونستطيع أن نقول إن هذه العبارة تدل أبلغ دلالة على فن الرسم في القرن العشرين. ويبدو أن رامبو قد تنبأ فيها، دون أن يشعر، بأن الرسم الحديث لا يمكن ولا ينبغي أن يفسر أو يفهم من جهة الموضوعات والأشياء الخارجية، وهي من أبسط الحقائق التي يعرفها كل من لديه فكرة عن الرسم التجريدي.
ينبغي أن تكون ذاكرتك وحواسك غذاءً للحافز الذي يدفعك إلى الخلق. أما العالم، فماذا سيتبقى منه بعد أن تتركه وراءك؟ شيءٌ واحدٌ مؤكد؛ إنه لن يحتفظ عندئذٍ بشيء من مظهره المألوف … (ص٢٠٠)
وإذن فالدافع الذي يحفز الفنان إلى الخلق سيترك وراءه وجهًا غريبًا ممزقًا للعالم، لأنه فعل، وفعلٌ ضار متجبِّر، ولذلك فليس عجيبًا أن تتردد كلمة القسوة كثيرًا في نصوص رامبو، حتى لتصبح إحدى المفاتيح التي يتوسل بها من يريد أن يطرق أبوابه.
والخيال الدكتاتوري المتسلط يعكس نظام المكان، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك من نصوص رامبو: المركبات تسير على درب السماء. في أعماق بحيرة يرقد صالون. البحر يسبح فوق قمم الجبال العليا. قضبان السكك الحديدية تنفذ في الفندق وتسير فوقه …
ولكن الخيال المتسلط يعكس كذلك العلاقة السوية بين البشر والأشياء: «الموثق معلق من سلسلة ساعته» (ص٥٩)، وهو يجمع بين أمورٍ متباعدة كل التباعد، ويضم المحسوس والخيالي في سياقٍ واحد «متكدر إلى حد الموت من دمدمة لبن الصباح، وليل القرن الأخير» (ص١٦٣). وهو يحقق رغبة بودلير عندما يصف الأشياء بألوان تنطبق عليها في الواقع، كأن يقول مثلًا: «عشبٌ أزرق، مهرٌ أزرق، عازفو بيان خضر، ضحكٌ أخضر، أقمارٌ سوداء.» وهذا الخيال الذي ينطلق بعيدًا عن العالم يجمع أشياء لا تجمع في الواقع لأنها بطبعها واحدة (كأن يجمع كلمات مثل أتنا وفلوريدا) وبذلك يزيدها حسية، ولكنه يجردها في نفس الوقت من كل صلة بالواقع. يقابل هذا ما نجده عند رامبو من شغفٍ شديد بتجريد الكائنات المفردة من كل تحديدٍ موضعي أو زمني أو غير ذلك من وسائل التحديد وذلك باستعماله كلمة «كل» قبلها: «كل جرائم القتل وكل المذابح»، «كل الثلوج» … مما يلخص هذه المفردات ويرتفع بها فوق مستوى الواقع، وكلها أساليب يلجأ إليها الخيال المتسلط الذي يقلب في الواقع بملء يديه، ويطرحه إلى أبعد ما يستطيع، ويحوله إلى «ما فوق الواقع».
من فوق عتبةٍ مذهبة، بين الأربطة الحريرية، والأقنعة القاتمة وبقع القطيفة الفضية، والأقراص البللورية التي تَسوَدُّ كقطع البرونز في الشمس؛ أرى كيف تنفتح القمعية على سجادةٍ ذات تلافيف من الفضة والعيون، والشعر.
بقع من الذهب الأصفر مبذورة فوق العقيق، أعمدة من خشب البلاذر (الماهاجوني) تحمل قبة كنيسة من الزمرد، باقات من الساتان الأبيض وأعواد نحيلة من الياقوت تحيط بوردة الماء.
أشبه بإله له عينان زرقاوان هائلتان وأعضاء من الثلج، البحر والسماء يجذبان حشود الورود الشابة الجميلة إلى الممرات المرمرية …
وفي هذه القصيدة وغيرها نلاحظ كيف تجتمع النقائض وتخلق التنافر والنشاز الذي يميز شعر رامبو. فالنباتات السامة تأتي مع الورود الجميلة، والقذر البشع يتجاور مع الذهب الناصع، وكأن هذا هو الشكل العام للصورة التي تخلعها المخيلة الخلاقة على مبدعاتها المتنافرة الناشزة. وقد لا يكون هذا النشاز في الصورة بل في الكلمة. فكثيرًا ما نصادف تنافراتٍ لغويةً حادة، أعني مجموعات من الكلمات التي تؤلف بين موضوعات أو قيمٍ متضادة في أضيق مجالٍ لغويٍّ ممكن. انظر مثلًا إلى هذه التعبيرات: شمسٌ سكرى بالقطران. صباح يوم من أيام يوليو له طعم الرماد الشتوي. نخيلٌ نحاسي. أحلام تشبه زبل الحمام … وكثيرًا ما تستمتع بالكلام عن شيءٍ مريح، أخاذ، مألوف، ثم لا تلبث أن تصدمك في ختام النص كلمة سوقية أو حوشية أو وحشية. وتخرج من قراءتك لمعظم النصوص وأنت تقول لنفسك. هذا شعر يحب النهايات المفتوحة — كما يقال في لغة المسرح — لا النهايات المقفلة، ينطلق بك — ومعذرة للتشبيه المعاصر الأخَّاذ — على صاروخ تدفعه قوة خيالٍ محموم أو في أرجوحة تموج بالصور والألوان والأضواء والأصوات والرؤى المختلطة المتداخلة. إلى أين؟ ربما إلى ما فوق هذا العالم أو ما وراءه. ربما في رحلة البحث عن المجهول؟
وقد يلفت انتباهنا في هذا الشعر نوعٌ آخر من التنافر أو النشاز بين ما يقال والطريقة التي يقال بها، أو بين المضمون والأداء. فالشاعر ينشد واحدة من أجمل قصائده وأكثرها غموضًا وغرابة بنغمة الأغنية الشعبية (التي تأبى الغموض بطبيعتها)، وأعني بها قصيدة «أغنية أعلى الأبراج». وفي قصيدةٍ أخرى «الباحثات عن القمل» نراه يضع الوسخ وحمى الشهوة وعادة البحث عن القمل في شعر الرأس؛ يضع كل هذا في أصفى وأعذب لغةٍ غنائية يمكن تصورها! ويظهر العماء والعدم والعبث في أوجز تعبير، وتصطفُّ الأضداد والمتناقضات إلى جانب بعضها البعض كأنها شيءٌ طبيعيٌّ محايد، بغير «لكن» أو «مع ذلك» أو «على الرغم من ذلك». وهذه قصيدة «أغنية أعلى الأبراج» التي تحررت قليلًا في ترجمتها، وحاولت أن أحافظ على شيء من نغمها الأصلي، واضعًا كل ما زدته عليها بين قوسَين:
•••
(١٤) الإشراقات
كان هناك أمير أغضبه أنه لم يهتم أبدًا إلا باستكمال أسباب الإحسان إلى الشعب. تنبأ بحدوث ثوراتٍ مدهشة في الحب، وأحس أن زوجاته يمكن أن يتقنَّ شيئًا أفضل من هذه الملاطفة المحلاة بالسماء والترف. أراد أن يرى الحقيقة.
ساعة الشوق والرضى الأصيلين. وسواء أكان في ذلك انحراف عن التقوى أو لا، فقد أراده. لقد كان له على كل حال سلطانٌ هائل على الناس.
قتل كل أفراد الحاشية التابعين له، بعد الصيد أو بعد الشراب، استمر الجميع في متابعته.
تسلى بذبح الحيوانات البديعة. أمر بإشعال النار في القصور، انقضَّ على الناس ومزتهم إربًا. ومع ذلك فقد كانت جماهير الشعب، والأسقف الذهبية، والحيوانات الجميلة تستمر في الحياة.
أيمكن أن ينتشي الإنسان بالخراب، ويجدد شبابه بالقسوة؟!
لم يدمدم الشعب بشيء. لم يتقدم أحد إليه برأي. ذات مساء راح يركض فخورًا فوق جواده.
ظهر جني جماله فوق التصور، بل فوق الإمكان. من ملامحه وهيئته انبثق وعد بحبٍّ مضاعف وشامل! بسعادة فوق كل تعبير، بل فوق كل احتمال! ربما يكون الأمير والجني قد أهلكا نفسيهما في الصحة الجوهرية. أكان من الممكن ألا يموتا بسببها؟ هكذا ماتا سويًّا، لكن هذا الأمير مات في قصره، في سنٍّ معقول. كان الأمير هو الجني، كان الجني هو الأمير.
إن الموسيقى الخبيرة لا ترضي شوقنا …
من العبث أن نحاول فهم والإشراقات؛ إنها لا تفكر في القارئ ولا تحسب حسابه، ولا تريد أن تكون مفهومة، هي أشبه بالبرق الخاطف الذي يفرغ شحنات من الصور والرؤى القريبة من الهلوسة، وأقصى ما تطمح إليه هو إيقاظ ذلك الخوف من الخطر الذي ينبع منه الحب للخطر. وهي كذلك نصٌّ خالٍ من «الأنا»، لأن الأنا التي تظهر في بعض القصائد إنما هي الأنا المصطنعة الغريبة التي صوَّرها الشاعر في رسالتي الرؤيا السابقتَين. وإذا كانت الإشراقات تثبت شيئًا، فهي تثبت أن صاحبها مبدع بل مخترع يختلف عن كل من تقدمه من الشعراء. ولا شك أنها ستظل أول أثرٍ عظيم من آثار الخيال المطلق في الشعر الحديث.
(١٥) أسلوب التضمين
وبهذا يخطو من الناحية الشكلية خطوةً أبعد وأعنف بكثير من بودلير. ولقد انتشر الشعر الحر في فرنسا انتشارًا واسعًا بعد قصيدة رامبو، ورأينا شعراء مثل أبوللينير وماكس جاكوب وإلوار يسهمون فيه بنصيبٍ كبير. وهو على كل حال أحد أشكال هذا النموذج الشعري الذي يتأثر فيه الشعراء — عن قصد أو غير قصد — برامبو. تقول القصيدة التي أشرنا إليها.
تحتوي القصيدة — ويمكنك أن ترى هذا حتى من الترجمة العربية! — على تقابلٍ مزدوج، مرة بين اختلاف الوزن في الأبيات وبين لغتها المتزنة المنتظمة، ومرةً أخرى بين هذه اللغة الهادئة نفسها وبين جرأة المضمون جرأةً غير عادية. إنها تضع تعبيرًا إلى جانب تعبير، في هدوء واعتدالٍ تام. وهي لا تربط بينها بالظروف إلا في موضعَين اثنين، ليست لهما أهمية كبيرة في واقع الأمر. والحق أن الاستغناء عن الظروف وأدوات الربط يرفع القصيدة فوق لغة النثر الخالص، ويضفي على أسلوبها الموضوعي المحايد والمجرد عن الأنا طابع الغموض والأسرار. أضف إلى هذا أن الكلمات في معظمها اسمية، والأفعال القليلة التي نصادفها تتراجع أمام الموضوعات والأشياء التي نجد أن قيمة الصور فيها أهم بكثير من الحركة، ولا يقف الأمر عند هذا؛ إذ لا نلبث أن نتبين مفاجأةً أخرى، تولدت عن قوة الخيال غير الواقعي وتسلطه. فهذه القطعة البحرية تبدأ ببيت من الشعر لا يناسب العنوان: عرباتٌ فضية ونحاسية. ويأتي البيت الثاني فنجده أكثر اتفاقًا مع العنوان: صدور (سفن) من الصلب والفضة. والعربات وصدور السفن معًا تلطم الزبد، وترفع جذور الأشواك. ثم تتحدث القصيدة عن «تيارات الأرض البور» وعن «آثار المد والجزر»، ويتجه هذا كله إلى «أعمدة الغابة» وإلى «جذوع الرصيف» التي ترتطم بها دوامات الضوء.
القصيدة إذن تسير بنا في مجالَين، أحدهما بحري (سفينة، بحر) والآخر أرضي (عربات، أرض بور)، ولكن المجالَين يتداخلان بحيث يبدو أحدهما متضمَّنًا في الآخر كما تزول كل تفرقةٍ مادية وموضوعية بينهما. وتصبح القطعة البحرية قطعةً برية، والعكس صحيح. وليست المسألة مسألة استعارات، بحيث يمكن أن نقول مثلًا إن السفينة تمخر الماء كما تنهب العربة الأرض. ذلك لأن الأفعال تشد كلا المجالين بعضهما ببعض وهذا ما تفعله كذلك الكلمات المفردة (التيارات، الأرض البور … إلخ). وبدلًا من الاستعارات نرى القصيدة تسوِّي تسويةً مطلقة بين أشياءَ مختلفة من الناحية المادية والموضوعية. أضف إلى هذا كله أن النص لا يتكلم عن البحر، بل عن المد والجزر والزبد، ولا يتكلم عن السفينة، بل عن مقدمها أو صدرها. صحيح أن أسلوب الاستعاضة بالأجزاء عن الكل أسلوبٌ مألوف في الأدب، ولكنه يصل عند رامبو إلى أقصى حدته، فهو إذ يتعمد ذكر أجزاء من الأشياء إنما يمهد لعملية التدمير أو التفتيت التي ستشمل نظام الأشياء بوجهٍ عام.
ليست هذه القصيدة المركزية الهادئة أول قصيدة من الشعر الحر في فرنسا وحسب، بل تعد كذلك أول مثل لأسلوب التضمين الحديث الذي يعد بدوره حالة من حالات «تجريد الواقع» أو ما سميناه «باللاواقعية الحسية». فما هو الجديد فيه إذن؟ يمكن أن نحدده من ناحية الموضوعات بطريقةٍ سلبية فنقول إنه «لا واقع» أو إنه إلغاء الفروق المادية التي تميز بين الأشياء. وينشأ عن هذا نوع من الإلغاز أو الغموض الذي لا يحل. وتدور الأشياء المتضمَّنة في بعضها البعض حول أمورٍ اعتباطية تعرض للشاعر كيفما اتفق أو أمور يمكن استبدالها بغيرها، ويصدق هذا على النص نفسه. فنحن نجد ثلاثة أو أربعة أبيات من مجموع الأبيات العشرة يمكن تغيير أماكنها بالتقديم أو بالتأخير دون أن يغير هذا شيئًا من بناء القصيدة وتكوينها العضوي. ويمكننا أن نستخدم فكرةً إيجابية في وصف المخيلة التي أنتجت هذا كله، فنقول إنها مخيلةٌ حرة فإذا أردنا أن نحددها عن قرب وجدنا الأوصاف السلبية تفرض نفسها علينا. وتفسير هذا أن الحرية التي نتحدث عنها إن هي إلا انطلاق من نظام الواقع، أو تداخل لا واقعي بين أشياءَ مختلفة. ومثل هذه الحرية التي تلجأ إليها المخيلة حريةٌ قويةٌ مقنعة من الناحية الفنية، ولكنها لا تتسم بالضرورة عند انتقالها من مرحلةٍ إلى أخرى. وسيظل هذا طابعًا أساسيًّا للشعر الحديث، فالمضمونات التي يعبر عنها يمكن استبدالها واحدة بالأخرى، بينما تخضع طريقة التعبير لقانون في الأسلوب يملك بداهته في ذاته.
هذه كلها أحكام يمكن أن تطبق بحذافيرها على قصيدة رامبو البحرية. ومن الصدف العجيبة أن بروست يطبق أحكامه أيضًا على صورةٍ بحرية.
(١٦) شعر تجريدي
تناولنا «المخيلة المتسلطة» أو «الخيال الدكتاتوري» في الفقرات السابقة ورأينا أنه قد يصل في بعض قصائد «الإشراقات» إلى حد العبث والمحال. ولو نظرنا مثلًا في القصيدة الأولى منها، وهي «بعد الطوفان» لوجدنا فيها الأرنب الذي يجلس على العشب ويتلو صلاته لقوس قزح من خلال شبكة العنكبوت، ولوجدنا كذلك السيدة التي تضع المعزف (البيانو) في جبال الألب. والفندق الفخم الذي يُبنى في عماء الثلج وليل القطب. والقمر الذي يسمع عواء بنات آوى في الصحاري، وزمجرة قصائد الرعاة ذات الأحذية الخشبية في البساتين، والملكة الساحرة التي تنفخ نارها في الوعاء الفخاري، والتي لن تحكي لنا أبدًا ما تعرفه ولا نعرفه.
سماواتٌ رمادية من البللور. نسيجٌ غريب لجسور، هذه مستقيمة، وتلك مقوسة، وأخرى تهبط بزوايا منحرفة فوق الأولى، وكل هذه الأشكال تتكرر في التعرجات المضاءة من القنال، ولكنها جميعًا من الطول والخفة بحيث تميل الأنهار المحملة بالقباب، وتختفي. بعض هذه الجسور لا يزال مثقلًا بأسوارٍ قديمة، وبعضها الآخر يحمل أشرعة، وأعمدة إشارة، وحواجز هشة. أنغام من الديوان الصغير (المول)، تتشابك معًا وتسبح في خطوط. أوتار تصعد من المنحدرات. تتبين سترة حمراء، وربما ميزت العين ملابسَ أخرى وآلاتٍ موسيقية. أهذه أنغام شعبية، شذرات من حفلات موسيقية يؤمُّها علية القوم، بقايا أناشيد عامة؟ الماء داكن وأزرق، عريض كلسان البحر.
شعاع أبيض يهبط من علياء السماء ويبدد هذه الملهاة.
قد تكفي القراءة الأولى لتبين أن الشاعر يسير في وصفه على نهجٍ دقيق. ولكن القراءة الثانية سرعان ما تكشف لنا أن الموضوع الذي يتناوله موضوعٌ خيالي، وأن هذه المدينة التي يصف لنا جزءًا منها مدينة بلا مكان ولا زمان، لم تأتِ عن طريق النسخ من الواقع بل عن طريق الرؤية الخيالية. إنه يصف مجموعة من الجسور، ولكن ليس المهم في هذه الجسور هو حجمها المادي، بل خطوطها المختلفة من مستقيمة ومقوسة ومنحرفة الزوايا، بحيث تتولد في النهاية صورة أو تركيبةٌ شاذة وغريبة (لنتذكر هنا أن الغرابة في رأي بودلير تتصل بالتجريد والأرابيسك). وتلخص القصيدة هذه الخطوط جميعًا فتصفها بأنها «أشكال». وتتكرر هذه الأشكال وتنعكس في المنعرجات الأخرى من القنال. ولكن القصيدة لا تذكر لنا شيئًا عن هذه المنعرجات «الأخرى». ونلاحظ أن قوانين الثقل قد ألغيت، فالأشكال (التي نراها الآن على هيئة الجسور) قد بلغت من خفة الوزن حدًّا جعلها تحمى الشواطئ الثقيلة، أي أن الخفيف يضغط على الثقيل. ثم نرى خطوطًا جديدة، تتألف في هذه المرة من أنغام تتحول إلى خطوط تسبح وترفُّ في الهواء. وتأتي بعدها إشاراتٌ موجزة لسترةٍ حمراء وآلاتٍ موسيقية، إلى أن نفاجأ بالخاتمة الغريبة التي يتبدد معها كل شيء، ويظل كل شيء عصيًّا على الفهم. صحيح أن تركيب الجمل بسيط غاية البساطة، ولكنه ينطوي على غرابةٍ شاملة، تضاعف منها دقة التعبير وبرودته الشديدة. سنلاحظ أيضًا أن القصيدة لا تذكر شيئًا عن الناس، ومع أنها تشير إشاراتٍ عابرة إلى سترةٍ حمراء وآلاتٍ موسيقية، وأنغام لا نعرف أصلها، فإن هذه الإشارات تظل منعزلة وتؤكد غيبة البشر عن جو القصيدة. قد نقول إن البديل هو وجود الأشياء بكثرةٍ فائقة، ولكن هذه الأشياء تذكر دائمًا في صيغة الجموع غير المحددة، كما أن العلاقات التي تربط بينها علاقاتٌ عبثية أو غير معقولة لا تدل على صلةٍ ضرورية بين الأسباب والنتائج. لقد تعرَّت هذه الأشياء من ثيابها المادية وتحولت إلى محض خطوط وحركاتٍ خالصة وتجريداتٍ هندسية. ومهما تكن درجة اللاواقعية في هذه اللوحة كلها، فإن الخاتمة المفاجئة التي تحمل معها الدمار والفناء تزيدها غرابة ولا واقعية!
إن رامبو يتحرك في هذا العالم الغريب الذي لا يوجد في مكان ولا زمان بغير أدنى انفعال. بل لقد أصبحت لديه القدرة على التخلي عن تفجراته الصارخة المتمردة التي كانت تدفع بكتاباته المبكرة إلى الغرابة؛ ذلك لأنه يعيش الآن في صميم هذه الغرابة.
إن نظرته الحادة تأخذ الآن كل ما أبدعته بنفسها من غرابة وشذوذ مأخذ الأمور العادية المألوفة وتسلمه إلى لغة تتحدث عنه بلهجة من يتحدث عن شيءٍ بديهي ومفهوم بذاته. غير أنها لا تسأل نفسها لمن ترويه، لأنها ترويه للاأحد!
(١٧) شعر حديث ذاتي (مونولوج)
أصبح شعر رامبو بعد سنة ١٨٧١م مونولوجًا أو حوارًا مع الذات. وإذا كان الدارس يستفيد فائدةً كبيرة من مقارنة مسودات الشاعر أو الكاتب ومخطوطاته بالصيغة الأخيرة التي ترك عليها نصوصه، فإن دارس رامبو الذي يقارن مسوداته الباقية من بعض أعماله النثرية بصيغتها التي بين أيدينا سيرى بنفسه إلى أي مدًى كان الشاعر يُغيِّر فيها، وفي أي اتجاه كان يسير تفكيره. لقد أصبحت الجمل تميل إلى الإيجاز والتركيز، وزادت جرأته في إغفال أدوات الربط بين أجزاء العبارة، وكثرت فيها الكلمات الغريبة الشاذة كثرةً ملحوظة. وإذا أخذنا برواية بعض معاصريه فسنجد أنه كان يستهلك كمياتٍ هائلة من الورق قبل أن يصل إلى الصيغة التي ترضيه، وأنه كان يتردد طويلًا ويفكر كثيرًا قبل أن يضع فاصلة أو يحذف صفة، بل لقد كان من عادته أن يحتفظ بمجموعة من الكلمات المهجورة أو النادرة الاستعمال ليلجأ إليها في نظم قصائده. وهذه الأخبار كلها تدل — إن صدقت — على أن رامبو كان يسير على نفس الطريقة التي سار عليها الشعراء الكلاسيكيون المشهورون بالوضوح ورصانة الأسلوب. ومن هنا يمكن تفسير الغموض في شعره بأنه لم يكن نتيجة جموح في العاطفة بقدر ما كان نتيجة تدبيرٍ فنيٍّ محكم، ولذلك يصبح شيئًا منطقيًّا ومعقولًا في إطار هذا الشعر الذي يضطر تحت إلحاح عاطفةٍ متأججة فشلت في تحقيق المجهول والوصول إليه — إلى تحطيم المألوف وتغريب كل ما هو معروف، ولننظر إلى هذه العبارة التي يقولها رامبو في إحدى كتاباته المتأخرة (ص٢١٩): «كنت أدوِّن ما لا يمكن التعبير عنه، كنت أقبض على الدوامات.» ثم إلى هذه العبارة التي ترد بعد ذلك بصفحاتٍ قليلة: «لم أعد قادرًا على الكلام.» وبين هذين الموقفَين المتباعدَين يمضي شعر رامبو المظلم الغامض؛ غموض ما لم يقله أحد من قبل، وغموض ما لم يعد من الممكن قوله، بعد أن تقف اللغة عند حدود الصمت واستحالة التعبير عما يستحيل التعبير عنه (وهي تجربة المتصوفين في كل اللغات والعصور).
قد نسأل: ولماذا يكتب الشعر من لا يخاطب به أحدًا؟ ولكن السؤال عسير على الجواب. قد نجرب مع ذلك فنقول إن مثل هذا الشعر يكون محاولةً أخيرة لإنقاذ حرية العقل والروح عن طريق الخيال المتسلط والقول المغرب الشاذ، في موقفٍ تاريخي يبذل فيه العلم والتمدن وأجهزة الاقتصاد والتقنية أقصى جهودها لتنظيم الحرية وطبعها بخاتم الشمولية، أعني بقتل جوهرها وروحها. هل نعجب بعد ذلك إذا وجدنا الشاعر الذي طرد من كل مسكن وملجأ، يبني من أبيات شعره مسكنه وملجأه الوحيد؟ ألا يجوز أن يكون هذا هو السبب الذي يدفعه لكتابة الشعر؟
(١٨) دينامية الحركة وسحر اللغة
ينشأ نسيج التوتر في شعر رامبو عن طاقات من النوع الذي نجده في الموسيقى، والموسيقى الحديثة بوجهٍ خاص.
وتشبيه الشعر بالموسيقى لا يرجع إلى الأشكال النغمية فيهما بقدر ما يرجع إلى تفاوت درجات الشدة والعمق، واختلاف الحركات المطلقة بين صعود وهبوط، والتغير المتصل بين «شحن» و«تفريغ». من هنا يأتي سحر هذا الشعر الغامض الذي يبدو كأنه يتحدث في فراغ.
على جانب المنحدر ترقص الملائكة بأثوابها المنسوجة من الصوف، وسط أعشاب من صلب وزمرد.
مراعٍ ملتهبة، تثب إلى قمة التل. تربة النتوء على اليسار داستها أقدام كل القتلة وكل المعارك، وكل ضجيج الدمار يمدُّ هنا قوسه. خلف النتوء الأيمن خط الشروق والتقدم المستمر.
وبينما الشريط في أعلى اللوحة يكتسب شكله من الضوضاء المدومة الفوارة لأصداف البحر وليالي البشر، تهبط العذوبة الموردة للنجوم والسماء وباقي العالم تجاه المنحدر، مثلما تهبط سلة، قريبة جدًّا من وجهي وتجعل الهاوية معطرة وزرقاء، هناك أسفل.
نحن إذن أمام مشهدٍ خيالي من طبيعةٍ خيالية، يتم فيه حدث هو نفسه جزء من هذه الطبيعة. في البداية نرى الملائكة ترقص على منحدر وسط أعشاب من صلب وزمرد، ثم نرى المراعي التي تتوثَّب ألسنتها كاللهب لتبلغ قمة التل. على اليسار بروز من هذا التل عليه آثار أقدام جميع القتلة والمعارك وكل ضجيج الفناء والدمار يغزل قوسه ويمد خيوطه. أما الشريط الأعلى من اللوحة فهو يتكون من ضوضاء أصداف البحر والليالي البشرية. ثم تأتي الخاتمة التي تجعل «عذوبة النجوم الموردة» تهبط في قاع الهاوية «المعطرة الزرقاء». إن المرئي والمسموع يذوبان في بعضهما البعض، كما يتداخلان كذلك في المجردات، فنتوء الجبل يصبح «خطًّا من شروق وتقدم».
إن تجريد الموجودات الفردية من حدودها وأبعادها، يقابله تجريد الكل من حدوده ومادته عن طريق الحركات الممتدة في المكان. فهذه حركةٌ أفقية تبدأ بها القصيدة، تليها حركةٌ صاعدة، ثم تعود الحركة الأفقية لتتَّجه إلى أعلى (وتكمن المفارقة في هذا العلو في أنه يتكون من أفكار تصور القاع: أصداف البحر) إلى أن تأتي في الخاتمة حركةٌ هابطة تنتهي أسفل القاع. هذه الحركات كلها — كما يقال في لغة الفيزياء — دينامياتٌ مطلقة، نلمس وجودها من الحسِّيات غير الواقعية أكثر مما نراها. كذلك تتحرك الجمل على هذا النحو؛ فتبدأ صاعدة بقوة (كحركة الكريشندو في الموسيقى) ثم تستمر في صعودٍ بطيء حتى منتصف القصيدة، ويمتد بعد ذلك منحنًى عريض، يمضي في البداية خفيفًا سابحًا، ثم يهبط متعثِّرًا إلى أن تأتي الخاتمة التي تقطع هذا المنحنى فجأة بهذه الكلمة القصيرة المنعزلة «هناك أسفل.»
والمهم أن القصيدة في جملتها تؤكد ما قلناه من قبلُ من أن الحركة، لا المعنى أو المضمون، هي التي تعطيها شكلها ونظامها. وكلما قرأناها وأعدنا قراءتها زاد تأثيرها السحري علينا.
وهنا ننتقل للكلام عن سحر اللغة، ولقد تقدم القول عنه في الفصول السابقة، وعرفنا كيف استقر الرأي من «نوفاليس» إلى «إدجار آلن بو» و«بودلير» على أن النص الشعري لا ينشأ عن الموضوعات والبواعث الفنية فحسب، بل ربما كان الفضل في خلقه يرجع أساسًا إلى إمكانيات التأليف والتركيب بين أنغام اللغة وأصواتها والذبذبات المترابطة المتداعية التي تنبعث من معاني الكلمات. ولقد رأينا أمثلة لذلك عند بودلير. ولكن رامبو توسع فيه بجرأة لم يسبقه إليها شاعر قبله، وساعده على ذلك أن شعره لا يهتم بأن يفهم بالمعنى العادي المقصود من كلمة الفهم، ولهذا أمكنه أن يفصل بين الكلمة كنغمة وإيحاء، وبينها كجزء من بناءٍ لغوي يهدف إلى توصيل المعنى. وقارئ رامبو (ومالارميه ومعظم كبار الشعراء في القرن العشرين) في حاجة لمن يؤكد له دائمًا أن قيمة الكلمة عنده تكون في نغمها وصوتها وإيحاءاتها وإشعاعاتها الموسيقية والمعنوية التي تنبعث من جرسها قبل أن تكون في معناها أو فكرتها أو مضمونها. إن الكلمة تطلق طاقات وقوًى لا منطقية، وهذه الطاقات والقوى هي التي توجِّه مسار العبارة وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها غير العادية تأثيرًا سحريًّا غير عادي. وهذا التأثير السحري يساهم بنفس المقدار في خلق الإحساس «بالمجهول»، بمثل ما تفعل اللاواقعية الحسية والحركات المطلقة التي تكلَّمنا عنها.
ولا بد الآن من الحديث عن المقصود بالسحر في هذا السياق بشيءٍ قليل من التفصيل. فالمعروف أن رامبو يتكلم عن كيمياء الكلمة، وقد استنتج البعض من هذا التعبير ومن تعبيراتٍ أخرى مشابهة أنه كان على صلةٍ وثيقة ببعض الجماعات السرية التي تمارس الطقوس السحرية، وأنه تأثر ببعض الكتابات القديمة في الكيمياء والسحر والعرافة. والواقع أن مثل هذه الكتابات كانت قد انتشرت في فرنسا من منتصف القرن التاسع عشر حتى وصلت إلى أيدي الطبقات المثقفة ثقافةً أدبيةً عالية، وكان من بينها تلك الكتب المعروفة بالكتب الهرمية التي ترجمها مينار في سنة ١٨٦٣م إلى اللغة الفرنسية، وهي مجموعة من الكتب تضم المذاهب والآراء السحرية المنسوبة لهرميس ترسمجتسوس أو هرمس المثلث القوة، ويقال إنه هو توت أو تحوتي إله الحكمة في مصر القديمة الذي سوَّى اليونان في العصر الهلليني بينه وبين هرميس رسول الآلهة إلى البشر وأصبح عندهم إله المعرفة وبخاصة ما يتصل منها بالسحر والكيمياء. وهذه الكتابات المنسوبة إلى هرميس مثلث القوة عبارة عن اثنين وأربعين مقالةً يونانية ولاتينية وعربية ترجع إلى القرن الأول بعد الميلاد، وتصور آراءه على شكل حوارٍ مستمَد من أفلاطون وفيثاغورس وأورفيوس وبوزيدونيوس وتدور حول مذهب الغنوصيين في الخلاص ونشأة العالم.
مهما يكن من شيء فليس هناك دليلٌ قاطع على أن رامبو قد عرف هذه الكتابات أو مارس مثل هذه الطقوس. والمحاولات التي يبذلها البعض ليثبت أن أشعاره نصوصٌ سريةٌ مُلغِزة كُتبت لأصحاب الأسرار ما هي في الحقيقة إلا ضرب من العبث والتجنِّي.
صحيح أن التقريب بين الأدب وبين السحر والكيمياء (بمعناها القديم الذي يقصد منه البحث في العناصر المكوِّنة للأجسام وخصائصها الأولية وتأثير أجسام الكواكب على الأجسام الأرضية وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادنَ نفيسة كالذهب والبحث عن حجر الفلاسفة … إلخ) أصبح من القرن الثامن عشر شيئًا مألوفًا، ولكن ينبغي ألا تأخذ هذا مأخذًا حرفيًّا، فالمهم في هذا التقريب هو البحث عن أوجه التقابل بين العمل الشعري والعمل السحري أو الكيميائي. والواقع أن تأكيد هذا التقابل أو التشابه من جانب الشعراء المُحدَثين إلى اليوم إن دل على شيء فإنما يدل على النزعة الحديثة التي تحاول أن تضع الشعر بين طرفَين متباعدَين: العقلانية المحضة في جانب، والطقوس السحرية القديمة في جانبٍ آخر.
(١٩) حكم أخير
ولقد استطاع، كما استطاع بودلير من قبله، أن يحمل تبعة «الصراع الروحي الوحشي» الذي تحدث عنه بنفسه وكان قدر عصره كله. تحمَّله بشجاعة وأمانة وقدرة على التنبؤ بالمستقبل تشبه الإلهام؛ ولذلك لم يكن شذوذ شعره وغموضه واضطرابه سوى نوع من تقديم فروض الطاعة للمرحلة التاريخية التي عاشها وتعذَّب بها.
وعندما وصل إلى الحد الذي أدرك معه أن شعره الذي شوَّه العالم والأنا قد بدأ يشوِّه نفسه ويدمِّرها، وجد في نفسه الرجولة والشجاعة الكافيتَين للإخلاد إلى الصمت المطبق. إن هذا الصمت جزء لا يتجزأ من وجوده الشعري نفسه. وكأن الحرية التي مارسها إلى أقصى حدٍّ ممكن في الأدب هي نفسها التي استطاعت أن تحرره من الأدب. وليت الذين فتنوا به وحاولوا أن يُقلِّدوه تعلَّموا منه هذا الدرس؛ ليتهم عرفوا متى يصمتون في اللحظة المناسبة. وليت الذين يكثرون اليوم من الكلام دون أن يكون لديهم ما يقولونه يتعلمون أيضًا هذا الدرس الخالد، وليت الثرثارين من أشباه الكتاب والشعراء في بلادنا يتعلمونه فيصمتون طويلًا قبل أن تنتابهم شهوة الكتابة والكلام!
ولقد جاء بعد رامبو شعراء أثبتوا بأعمالهم أن رسالته في حاجة لمن يتمُّها، وأن جهد النفس الحديثة في التعبير عن التعبير عن ذاتها بالكلمة جهدٌ متصل لا يمكن أن ينتهي.
-
Un hydrolat lacrymal lave.
-
Mon triste coeur bave à la poupe.