مالارميه (١٨٤٢–١٨٩٨م)
وجدت الجمال بعد أن وجدت العدم.
***
تمهيد
يبدو شعر مالارميه وكأن لا سبيل لمقارنته بشعر أحد من السابقين عليه أو المعاصرين له. لقد خطَّته يد إنسان عاش حياةً برجوازيةً هادئة، ومنعته طبيعته الخيِّرة النبيلة من إظهار عذابه وتمزقه، بل أعانته على أن يتكلم عن نفسه في معظم الأحيان بأسلوبٍ ساخر، على الرغم مما كان يعانيه من ألم وعذاب. وفي ظل هذه الحياة الطيبة الوادعة كان عقله يعمل في تأنٍّ وبطء شديدَين، وينتج شعرًا مجردًا غاية التجريد، يختلف عما ألفناه من شعر رامبو بصخبه ونشوته وغرابته، واشتهر هذا الشعر بغموضه، وخاف الناس هذا الغموض وأحبوه في وقتٍ واحد. ولا يكفي أن يكون الإنسان ملمًّا باللغة الفرنسية حتى يقرأ مالارميه؛ إذ لا بد له من فك رموز لغته التي لا يكتبها شاعر غيره، وليس معنى هذا أنه ظاهرةٌ فريدة في تاريخ الشعر الحديث، بل معناه أنه جزء من هذا الشعر ولبنة في بنائه العام الذي امتدت جذوره كما رأينا من قبلُ إلى الرومانتيكية واشتدَّ عوده على يدَي بودلير.
ونستطيع على ضوء العرض السابق للعناصر الجديدة في بناء الشعر الحديث أن نحدد العوامل المشتركة بينه وبين شعر مالارميه في النقط التالية:
غياب ما يسمى بشعر العاطفة أو شعر الإلهام. المخيلة الطاغية الخلاقة التي يُسيِّرها العقل. تدمير الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة. استغلال الطاقات الموسيقية في اللغة. الاعتماد على الإيحاء بدلًا من الفهم (أي أن الشعر يريد أن يوحي أكثر مما يريد أن يفهم). إحساس الشاعر بأنه ينتمي إلى عصرٍ حضاريٍّ متأخر. العلاقة المزدوجة بالحداثة. إعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي. الشعور بالتوحد وبأنه علامة من علامات التميز. تكافؤ التعبير الشعر والأدبي مع التأمل في هذا التعبير، وغلبة المقولات السلبية على هذا التأمل أو هذا الفن الشعري.
كل هذه الخصائص التي سنتناولها بالتفصيل فيما بعدُ تبين أن شعر مالارميه ينتمي للطابع العام الذي يميز الشعر الحديث. ومع أنها تزداد لديه عمقًا وتعقيدًا، إلا أن القارئ لا يملك إلا أن يقتنع باتساقها المنطقي، والواقع أن شعر مالارميه من أول نماذج الشعر الحديث. والمفارقة التي تحكم شعر رامبو تحكمه أيضًا، ونقصد بهذه المفارقة أنه قد أثَّر تأثيرًا هائلًا على الرغم من غموضه وتعقيده وإغرابه الشديد. وهذه الحقيقة نفسها تُعدُّ مظهرًا لحالة الشعر الحديث بأكمله؛ فالشاعر الوحيد المغلق الغامض يقلق الناس وينزع الطمأنينة من نفوسهم! ولكنهم مع ذلك — أو بسبب ذلك! — يتهافتون على سماعه ويحاولون في كل مرة أن يفسِّروه تفسيرًا جديدًا. إن شعره يجتذب إليه المريدين والمحبِّين، وغرابته تفتن العقول التي سئمت المألوف. لم يكن هذا الشعر ثمرة لهو أو ترفٍ أدبي، ولم يأتِ عن نزعةٍ استطيقية أو حب للفن من أجل الفن أو ما أشبه. وإنما جاء نتيجة طموحٍ عظيم، بل أقصى طموح يمكن أن يتطلَّبه شاعر من نفسه. ولقد استمع الناس لمالارميه وقرءوه، وأينع شعره ثمراتٍ ناضجة، يكفي أن نذكر منها أسماء شعراء أوروبيين لامعين مثل شتيفان جئورجه، بول فاليري، سوينبيرن، ت. س. إليوت، جيان، أنجارتي …
ونود أن نشير إلى بعض خصائص شعر مالارميه قبل أن نحاول تفسير عدد من قصائده، وسنقصر الإشارة والتفسير على المرحلة الثانية في إنتاجه، وهي مرحلة النضوج التي تبدأ من سنة ١٨٧٠م.
أهم ما يميز هذا الشعر أنه شعرٌ هامسٌ حيي، لا يفرض نفسه على قارئه، بل يبدو كأنما يرفُّ في فراغ. إن للقصيدة الواحدة طبقاتٍ عديدة من المعاني والدلالات، تسمو بعضها فوق بعض، بحيث تنتهي آخر هذه الطبقات وأعلاها إلى معنًى لا يكاد يُفهم. ومالارميه يتمم الرأي الذي نعرفه منذ عهد بودلير من أن المخيلة الفنية لا تنسخ الواقع ولا تصوِّره تصويرًا مثاليًّا بل تغيره أو بالأحرى تشوِّهه. وهو يتمم هذا الرأي حين يرسيه على أساسٍ أنطولوجي (وجودي)، كما يبرر غموضه وصعوبة فهمه تبريرًا وجوديًّا كذلك (وكلمة الوجودية هنا وفي السطور التالية لا صلة لها بالفلسفة المعروفة بل بعلم الوجود أو الأنطولوجيا).
ذلك لأن الوحدة التي أشرنا إليها بين الفن وتأمل الفن أو بين الشعر وفن الشعر يعلو بها فكره الذي يدور حول الوجود المطلق (ويتساوى لديه مع العدم) وعلاقته باللغة، ويعبر مالارميه عن فكره هذا تعبيرًا نظريًّا يتسم بالحذر الشديد في مقالاته المتنوعة وفي بعض رسائله. غير أنه لا يتشكل بصورته الحقة إلا في إنتاجه الأدبي وبخاصة في شعره القليل. ولا ينبغي أن نفهم من هذا أنه شعرٌ تعليمي يعرض قضايا نظرية. بل ينبغي أن نفهم منه أن الشعر هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه المطلق واللغة؛ بهذا يكون الشعر قد بلغ قمة لم يُتح له أن يبلغها في العصور التي جاءت بعد الشعر القديم (ونعني به الشعر الإغريقي والروماني بوجهٍ خاص) ومع ذلك فهي قمةٌ وحيدةٌ بائسة، تنقصها الآلهة، وتغيب عنها الحقيقة المتعالية أو «الترانسندنس» الحق.
لا شك أن هذا الكلام سيبدو للقارئ غامضًا أو سابقًا لأوانه. ولكننا سنعود إليه بشيء من التفصيل، بعد أن نعيش مع بعض نماذج هذا الشعر الذي نصفه الآن بالغموض والتجريد والتعقيد. ومع ذلك فربما يسأل القارئ هذا السؤال: ألا يزال هذا الذي وصفته يُعدُّ شعرًا؟ ماذا بقي فيه إذن من الشعر؟ ولماذا لا يريحنا مالارميه فيسجل أفكاره الفلسفية والأنطولوجية في نثرٍ واضحٍ مفهوم يدل على معنًى واحد ومحدد؟
والإجابة المباشرة على هذا السؤال أنه لم يكن من الممكن أن يعبر الشاعر عن أفكاره تعبيرًا ثابتًا محدد المعنى، لأن ذلك معناه ضياع «السر» الذي يطبع الشعر بطابعه. والحقيقة أن همه كله ينصبُّ على الاقتراب من هذا السر. وشعره وفكره كله لا يسير من العالم التجريبي إلى الفكرة الأنطولوجية العامة، بل يسير في عكس هذا الاتجاه. إنه يستخدم أشياءَ بسيطةً غاية في البساطة. كالزهرية والمنضدة والمروحة والمرآة. صحيح أنه ينزع عنها رداء «الشيئية» ويحيلها من الحضور إلى الغياب، ويحملها تيارًا من التوتر والصراع غير المنظور. ولكنها على كل حال تظل حاضرة للتصور عن طريق الكلمة التي تسميها، وفي هذا الحضور «التصوري» تكتسب معناها غير العادي لأن تيار التوتر غير المنظور يتخللها ويجري فيها، بحيث تمتلئ هذه الأشياء العادية البسيطة بالسر حتى الأعماق. فكأن هذه الأشياء العادية البسيطة تقوم مقام كل ما نجده حولنا من أشياء. إن مالارميه لا يتناولها تناولًا فكريًّا، بل يطبع الوجود المطلق أو العدم عليها، ويحيلها أمام أعيننا إلى أشياءَ غامضةٍ زاخرة بالأسرار، وبذلك يحقق طابع السر الأصيل في أشياءَ عادية ومألوفة. هذا هو الذي يجعل شعره شعرًا، أو تغنيًا بالسر عن طريق الصور والكلمات التي تدركها النفس فترتجف وتهتز، وإن كانت تشدها إلى أفقٍ بعيد وغريب.
(١) ثلاث قصائد
ولنترك الآن هذه المقدمة النظرية لنقرأ ثلاث قصائد من أشهر أشعاره ونحاول تفسيرها، وهذه القصائد هي على الترتيب: قديسة، مروحة (زوجة الشاعر تمييزًا لها عن قصيدةٍ أخرى كتبها عن مروحة ابنته)، بروز من الاستدارة.
ومع إحساسي بأن تفسير شعر مالارميه لن يخلو من شيء من الادعاء أو المخاطرة أو التعسف فإن المحاولة تستحق مع ذلك أن تُبذل. ولنبدأ بالقصيدة الأولى (ص٥٣ من طبعة البلياد الكاملة) التي كتبها الشاعر في ديسمبر سنة ١٨٦٥م ثم استقرت بصورتها النهائية في سنة ١٨٨٤م. ولا بد من الاعتذار للقارئ عن إيراد النص الفرنسي والاكتفاء بالترجمة القاصرة. ولا بد أيضًا أن ننصح القارئ المتمكن من الفرنسية بالرجوع إلى النص الأصلي وقراءته بصوتٍ مسموع، لأن شعر مالارميه خلق للتأثير على الأذن واستثارة المعنى — إن كان هناك معنًى يمكن فهمه على الإطلاق — من إيقاع النغم وجرس الحروف وتوافق الأصوات أو نشازها، هذا ويلاحظ أن كل ما يوضع بين قوسَين فهو زيادة منا لتوضيح النص.
قديسة
وقد عالج الشاعر القصيدة نفسها بصياغةٍ سابقة على هذه الصياغة الأخيرة بما يقرب من عشرين سنة. وكان عنوان الصياغة الأولى هو «القديسة سيسليا وهي تعزف على جناح ملاك من نور».
وقد بقيت من هذا العنوان كلمة «قديسة» وحدها، أي أنه اقتصر على أكثر الكلمات تعميمًا وبُعدًا عن التحديد. وكأن نزعة الشاعر للخلاص من الواقع أو البعد عنه قد أدركت العنوان وجرَّدته من كل تحديدٍ مباشر.
والقصيدة تسمي بعض الأشياء بأسمائها؛ فهنالك نافذة، وآلةٌ موسيقيةٌ قديمةٌ مصنوعة من خشب الصندل، ولوحٌ زجاجي يغطي وعاء قربانٍ مقدس، وقيثارة، وكتاب به تسابيح العذراء البتول. ولكن العلاقة بين هذه الأشياء كلها تظل علاقةً غامضةً محفوفة بالأسرار، بحيث لا تبدو حاضرة بالمعنى الموضوعي لهذه الكلمة. وهذه الأشياء تتداخل في بعضها البعض وترتفع الفروق الواقعية التي تميز بينها. فاللوح الزجاجي الذي يغطي الوعاء المقدس يبدو كأنه إضافةٌ شارحة للنافذة، إذ يذكر الشاعر في بداية المقطوعة الثالثة بقوله «عند هذا اللوح»، فهل هذا اللوح هو النافذة؟ إن طبيعة الأمور لا تكاد تسمح بهذا التصور، والقيثارة التي ترد في المقطوعة الثالثة قد صيغت «من رفيف ملاك في المساء». فهل هي استعارة عن جناح الملاك؟ ولكن الأبيات التالية توحي بأنها قيثارة أو جناح من الريش تعزف عليه اليد الرقيقة كما تعزف على آلةٍ موسيقية. هي إذن جناح وقيثارة في وقتٍ واحد، وليس في الأمر استعارة بل وحدةٌ ذاتية. تلك عمليةٌ فنية عرفناها ورأينا أمثلةً كثيرة منها في شعر رامبو.
الفروق الواقعية المميزة للأشياء قد أُلغيت إذن في هذه القصيدة، والأشياء قد خفَّ وزنها وراحت تتداخل في بعضها كأنما ترفُّ في أثير أو فراغ، تصبح فيه الأجسام رموزًا ولغة الحديث همسًا. إن النافذة «تتكتم» الكمان الكبير، أي أن وجوده ليس وجودًا في الواقع بل في اللغة وحدها. والناي (أو بالأحرى الفلوت) والماندورا (وهي آلةٌ موسيقية أشبه بالعود) لا وجود لهما إلا في الذاكرة من ماضٍ قديم. بل إن كتاب التسبيحات القديم لا ينتمي كذلك للحاضر؛ إذ إن أنغامه كانت «تتقطر فيما مضى.» ومع بداية المقطوعة الثالثة يشتد غياب الأشياء أو أبعادها عن الحاضر والواقع.
والشاعر يمهد لهذا بالحديث عن القيثارة التي هي في نفس الوقت جناح ملاك، أي عن هذه الوحدة الذاتية غير الواقعية التي تكلمنا عنها فيما تقدم. ثم تغيب الأشياء بعد ذلك تمامًا، فالقديسة تعزف بدون خشب الصندل العجوز، وبدون الكتاب القديم. فهل تعزف القديسة حقًّا؟ الأولى أن نقول إنها تعزف في الصمت، أليست هي موسيقية الصمت؟
وإذن فالأشياء الواقعية الحاضرة قليلة العدد، وهي إن وجدت فوجودها غير واضح ولا محدد، يتداخل في أشياءَ مختلفة عنه ويتحد معها وحدة «غير واقعية»، إلى أن يتسلط عليها العدم في نهاية الأمر وتختفي في ظلال الغياب والصمت. ما من حدث «موضوعي» أو فعل من أفعال القديسة يوحي بهذا الإحساس. اللغة وحدها هي التي تفعل هذا؛ فهي التي تتكفل بإلغاء وجود الأشياء في الواقع، لتحيله بعد ذلك إلى وجود في اللغة. هذه الأشياء الغائبة عن الواقع حاضرة في اللغة وحدها، وحضورها حضورٌ روحي، تزداد قوَّته وأثره كلما قل نصيب الأشياء من الحضور الموضوعي والتجريبي.
القصيدة إذن في مجموعها حدث في اللغة لا في الواقع، وهذا الحدث يتم في مرحلةٍ زمنية تساعد من جانبها على إبعاد الأشياء عن الحاضر. ويكفي أن ننظر في الأبيات الأولى منها لنتأكد من هذا. فخشب الصندل العجوز يفقد ذهبه فيشيع ضوءًا باهتًا يوحي بالمساء. وصلاة المساء والنوم تؤكدان الشعور بهذا، ولكنه ليس مساءً محددًا في الزمن، يمكن أن نقول إن القديسة حاضرة فيه، وإنما هو شيء أقرب ما يكون إلى مقولة الزمن المتأخر، إن جاز هذا التعبير، أي أنسب المقولات الزمنية للتعبير عن التلاشي والغياب والغوص في قرار العدم. ويتأكد هذا الانطباع في المقطوعة الثالثة التي تتحدث في وضوح عن «رفيف المساء»، وهو شيء يفلت بدوره من كل تحديدٍ زمني تجريبي. فإذا أضفنا لهذا أن القصيدة تذكر كلمة قديم أو عجوز أربع مرات، كما تضع الكمان والناي وكتاب التسابيح «فيما مضى»، قوِيَ لدينا الشعور بتأخر الزمن أو بالزمن المتأخر على إطلاقه. إن «شيئية» الشيء تحطمت، والملامح الزمنية التي تتلبس به تلاشت. وفي توافقٍ لا واقعي مع الغياب والعدم نجد ملامح الزمن — التي صارت مطلقة — تكون ماهية «القدم» و«التأخر» (انظر ما تقدم عن المساء)، وهي ماهية لا تبلغ حقيقتها إلا في مجال مجرد من الأشياء.
إن المكان الكبير «تتكتَّمه» النافذة أو تخفيه. والناي والعود لا وجود لهما إلا بالقدر الذي توحي به اللغة، فما الذي يدعو إلى وجودهما، ولو كان هذا الوجود في اللغة وحدها؟ إنهما آلتان موسيقيتان مثلهما في هذا مثل القيثارة الواقعية. وهذه الأشياء الخفية أو الغائبة أو اللاواقعية تحمل ماهية وتعبر عن حقيقة، هي ماهية الموسيقي وحقيقتها. ولكن ما هي طبيعة هذه الموسيقى؟ إن القديسة لا تعزف شيئًا. والموسيقى صامتة؛ ولهذا فهي حقيقة أو ماهية تمثل مع حقيقة الزمن المتأخر وبُعد الأشياء أو غيابها عن الواقع وجودًا روحيًّا أو عقليًّا في اللغة، وفي اللغة وحدها.
وعلى الرغم من غياب الأشياء في هذه القصيدة التي تعد من أجمل وأنقى أشعار مالارميه، فإنها تثير فينا مدركاتٍ بصرية بل وقد تثير فينا أيضًا مدركاتٍ سمعية، ولكنها تحول المدرك نفسه إلى شيءٍ غريبٍ غير مألوف، بل لعله كذلك شيءٌ مخيف. إنها ببراءة همسها الحالم تحقق شيئًا عجيبًا وشاذًّا. فهي تحطم الأشياء أو تلغيها لترتفع بها إلى مستوى الماهيات المطلقة، وهذه الماهيات المطلقة لا يتم لها وجود إلا في اللغة، لأنها فقدت كل صلة تربطها بعالم التجربة وبفضل اللغة تتشابك هذه الماهيات في علاقات أفلتت من كل نظامٍ واقعي.
كل هذه أمور يحتاج الإلمام بها إلى صبر وعناءٍ طويل، ولعلها تحتاج أيضًا إلى «نظارات المخ» التي تهكم بها موريس باريه (١٨٦٢–١٩٢٣م) في نقده لأشعار مالارميه؛ ذلك لأن هذا الشعر لم تعد له صلة بشعر التجربة أو الشعور والعاطفة، صحيح أنه شعرٌ غريب وغير مألوف، ولكنه بأنغامه الهادئة الهامسة ينطق عن وجدانٍ وحيدٍ متخفف من كثافة الأشياء. هناك تتأمل الروح ذاتها وقد تحررت من ظلال الواقع، وتلعب بتوتراتها وصراعاتها المجردة فتجد في هذا اللعب، نوعًا من متعة السيطرة التي يعرفها الرياضيون وهم يبنون رموزهم ويؤلفون معادلاتهم وحساباتهم.
ترجع الصياغة الأولى لهذه القصيدة كما قدمت إلى شهر ديسمبر سنة ١٨٦٥م، تدل على هذا رسالة كتبها مالارميه إلى صديقه هنري كازاليس في مساء الثلاثاء الخامس من ديسمبر يقول فيها: «أبعث إليك بقصيدةٍ صغيرةٍ منغمة كانت مدام برونيه قد طلبتها مني.» وكانت مدام برونيه هذه صديقةً حميمة لعائلة مالارميه، كما كانت تسمي نفسها على اسم القديسة سيسليا (وهي عذراءُ رومانية استشهدت حوالي سنة ٢٣٢م وتعتبر راعية الموسيقيين) وقد وعدها مالارميه بالقصيدة لتقرأها في عيد ميلاد هذه القديسة (٢٢ نوفمبر) فتأخر قليلًا في الوفاء بوعده.
•••
ونأتي الآن إلى قصيدة مروحة (زوجة مالارميه) وهي سوناتة ترجع كتابتها إلى سنة ١٨٨٧م. ولنحاول ترجمة هذه القصيدة، على ما في ترجمة الشاعر عامة وشعر مالارميه خاصة من مجازفة ومخاطرة. وقد أضفت التنقيط الذي تخلو منه القصيدة تمامًا (فيما عدا القوسين المفتوحين في المقطوعة الثالثة) عملًا على تقريبها بعض الشيء:
المروحة ترد في عنوان القصيدة، ولكن النص يتجنب هذا الشيء المباشر على الفور، ويقتصر على معنًى من المعاني الكثيرة التي يوحي بها. فنقرأ في البيت الثاني كلمة «خفقة»، ولكن الكلمة تأتي ناقصة ومعزولة عن كلمةٍ أخرى تتممها وهي «خفقة الجناحَين»، وبذلك يرتفع الشاعر إلى معنى أعم يتجاوز «المروحة» بمسافةٍ شاسعة. بل إن هذا المعنى لم يعد يتصل بالمروحة وإنما أصبح استعارة ترمز للشعر نفسه، أو بالأحرى للشعر المثالي أو لشعر المستقبل «بيت المستقبل ينتزع نفسه … إلخ.» وإذن فالقصيدة لا تحاول أن تصف شيئًا حاضرًا أو تصوره تصويرًا دقيقًا، وإنما تبذل كل جهدها من البداية في التحرك بعيدًا عن هذا الشيء، أي في تجريده من شيئيته.
ربما استطعنا على وجه التقريب أن نتحدث عن موضوع المقطوعة الأولى في العبارات التالية: ليس لشعر المستقبل (أو أدبه بوجهٍ عام) لغة بالمعنى التقليدي المألوف، بل شيء «أشبه» باللغة، شيءٌ أقرب إلى العدم، إلى خفق جناحٍ يرتفع نحو السماء، نحو الأعلى، نحو المثال. هذا الشعر يتحاشى كل مألوف (ينتزع نفسه من المسكن النفيس) ويتجنب كل ما تسكن النفوس إليه.
فكأن مالارميه يقول بأسلوبه الهادي الهامس المنغم ما قاله من قبلُ رامبو بأسلوبه الثائر العاصف الصخاب: «عاصفة تفتح ثغرات الجدران، تقتلع معالم المساكن.»
ويعود النص من المقطوعة الثانية فيلمس موضوع المروحة. ونتوهم للحظات معدودة أن الشاعر بدأ يصور شيئًا من الأشياء في خطوطٍ وملامحَ غاية في الدقة والرهافة، ولكننا لا نلبث أن نستبعد هذا الوهم.
إن النص يذكر المروحة حقًّا (هذه المروحة … السطر الثاني من المقطوعة الثانية) ولكنه يقول على الفور: إن كانت هي نفسها، كأنما يخشى أن يقع في التحديد فيسرع إلى التعميم أو الفرض أو الاحتمال! ويتكرر نفس الشيء مع المرآة. فهي قد أضاءت من خلال المروحة، أي أنها لم تعد حاضرة بالمعنى الواقعي، ثم إن الشاعر يصفها بأنها «مرآة ما» وهو أمر يلجأ إليه الشاعر في أغلب الأحيان ليضفي على الموصوف ثوب التعميم وعدم التحديد. ويحدث لهذه المرآة شيءٌ آخر يبعد بها مرةً أخرى عن الحضور … فسوف يسقط على المرآة رماد غير منظور، فإذا سألنا عن طبيعة هذا الرماد وجدنا القصيدة صامتة. أيكون هو الشعر الذي شاب في رأس المرأة التي يخاطبها الشاعر؟ لا ندري. ولا بد أن يظل باب الإجابة مفتوحًا على فروضٍ عديدة. المهم أن الرماد موجود في اللغة وحدها لا في الواقع، إنه رماد غير منظور، لم يسقط بعد، بل سيسقط يومًا ما، ساعةً ما، وهو إلى جانب هذا كله «مطارد في كل حبة». والمهم في هذه القصيدة وفي سواها من شعر مالارميه ألا نلتفت للمعنى الظاهر للكلمات، بل إلى المقولات التي تتناول بها اللغة الأشياء، وليس من الصعب أن نتبين المقولات التي أمامنا الآن. إنها الماضي، والمستقبل والغياب، والفرض، وعدم التحدُّد، وهي لا تنطبق على النص وحده وإنما تسيطر كذلك على الخاتمة. فالمروحة ينبغي أن تظل على الدوام خفقة نحو الأعالي، شيئًا فرضيًّا محتملًا، يتصل صلةً غامضة بالمرآة الماضية، والضوء الماضي، والرماد الذي ينتظر أن يسقط في المستقبل.
قد نسأل أنفسنا: لمن كتبت هذه القصيدة؟ وقد يبدو لنا من النص أن الشاعر يتوجه بها إلى امرأةٍ يخاطبها «بأنت» (ضمير المخاطب في البيت الرابع من المقطوعة الثانية، والبيت الثاني من المقطوعة الأخيرة). ولكننا سنتبين بعد قليل أن هذا الضمير لا قيمة له، شأنه في هذا شأن البقايا البشرية الأخرى كالرماد والحزن.
فالقصيدة تخلو من العواطف الرقيقة وما أشبه، وحتى الحزن الذي تذكره ذكرًا عابرًا يكاد يكون مجردًا من الشعور. إن الأشياء والمشاعر لا وجود لهما إلا في اللغة؛ ولذلك يغلب على القصيدة نوع من البرود الهادئ الذي يستبعد كل ما يتصل بالبشر أو بالأشياء. فالأشياء والمشاعر البشرية «غائبة». وإذا كان لها ثمة حضور فهو حضورٌ لغوي فحسب. لقد أخرجت من مسكنها المألوف؛ ولذلك تحقق القصيدة هذه الرغبة التي عبرت عنها في المقطوعة الأولى: «بيت المستقبل ينتزع نفسه من المسكن النفيس.»
إن قصيدة «مروحة»، مثلها مثل معظم قصائد مالارميه، هي في حقيقتها قصيدة عن «الشعر»، هي قصيدة تتغلغل فيها الفكرة الأنطولوجية الأساسية التي يقوم عليها كل تفكير مالارميه وعالمه الشعري والشعوري.
تظل الأشياء غير مطلقة وغير نقية بقدر ما يكون لها من وجودٍ واقعي فإذا ما انعدمت أو تحطمت صار لها وجودٌ حقيقي ونقي في اللغة. ولو حاولنا أن نقارن هذه اللغة باللغة العادية لكانت أقرب ما تكون إلى لغةٍ فرضية (أو لغة كما لو أن … على حد التعبير الأجنبي). أي لغة تعلو بالأشياء وتقي نفسها من كل مدلولٍ محدَّد. إنها أشبه بخفقة الجناح، وينبغي أن تظل كذلك. إنها مجال يشعُّ بمعانٍ متعددة، وكل ما في هذا المجال يتحرك حركة لا تقبل التحديد.
كان من حق الشعر دائمًا أن يترك للكلمة حق الإيحاء بمعانٍ مختلفة وظلال ودلالاتٍ عديدة، ولقد استغل مالارميه هذا الحق إلى أقصى حدٍّ ممكن فمن أصعب الأمور أن نجد في قصائده مضمونًا محددًا، والسبب في هذا أنه جعل الإمكانيات والطاقات غير المتناهية للغة هي المضمون الحقيقي لشعره، وبهذا وصل إلى نوع من الغموض أو السر الذي لا يكتفي بتحرير العقل والخيال من الواقع الضيق، كما كان الحال عند بودلير ورامبو، بل يتيح كذلك للحقيقة المتعالية الفارغة (التي تحدثنا عنها من قبلُ والتي يفسرها الآن تفسيرًا أنطولوجيًّا) أن تظهر في اللغة نفسها عن طريق الإغراب الشامل لكل ما هو مألوف وتجريد الأشياء من شيئيتها.
وأخيرًا نصل إلى القصيدة الثالثة التي نحاول تفسيرها، وهي سوناتة بغير عنوان تعود إلى سنة ١٨٨٧م (ص٧٤ من طبعة البلياد). وقد وضعتُ القوسَين في البيت الأول من المقطوعة الأخيرة لتيسير القراءة، كما وضعت ثلاث كلمات بين قوسَين زيادةً منى لمحاولة التوضيح، أما الفواصل وعلامتا التعجب فهما من عند المؤلف:
أما من ناحية الشكل فالقصيدة محكمة البناء، وهي تسير على التقسيم الكلاسيكي للسوناتة، فبينما تتألف الرباعيتان الأوليان من جملتَين مختلفتَين، فإن الثلاثيتَين الأخيرتَين تندمجان في جملةٍ واحدة، ولكن هذا الشكل السليم — الذي لا يكاد يختلف بناء العبارة فيه عن البناء العادي — ينطوي على مضمونٍ بالغ الغموض. وتبدو اللغة وكأنها تقول شيئًا بديهيًّا، ولكنها لا تنطق إلا بأعوص الألغاز. ويجب علينا الآن أن نستكشف هذه الألغاز، على أن نقف عند الحد الذي يتحوَّل فيه الكشف إلى نغمٍ مسموع ويصبح ما نعرفه منها أغنية تعود فتضيع في المجهول.
والحق أن هذه «الألاعيب والحيل» تنطوي على معنًى عميق طالما حاول مالارميه أن يخفيه بابتسامته الساخرة. فهي تتفق تمام الاتفاق مع نهجه الشعري بأكمله، وتتلاءم مع طريقته في التجربة مع كل غريب، (كأنما يريد أن يوقظ الأرواح النائمة في اللغة!). ولم يكن من الممكن أن يقيم الشاعر تجاربه على الطاقات الكامنة في اللغة لو لم ينزع بأسلوبه إلى البعد عن تحديد الأشياء تحديدًا ماديًّا وموضوعيًّا، بل إلى البعد عن التصور العادي لشيئية الأشياء. ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن الرسام الشهير «ديجا» — وكان يقول الشعر أيضًا! — شكا مرة أمام مالارميه من أن الأفكار تتزاحم عليه وتفسد قصائده؛ فما كان من الشاعر أو «المعلم» — كما كان يسميه أصدقاؤه ومريدوه — إلا أن قال: «الأشعار لا تصنع بالأفكار ولكن بالألفاظ.» ويضيف بول فاليري الذي يروي هذه النادرة في كتابه عن ديجا: «هنا يكمن السر كله.»
كان مالارميه — مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المعاصرين — على اقتناعٍ تام بأن الكلمات تنطوي على طاقات وإمكانات تستطيع أن تحقق ما تعجز عنه الأفكار. ولا شك أن هذا الإيمان بسحر الكلمة وقدرتها على التأثير والإيحاء شيءٌ قديم في حياة الإنسان قدم السحر والعرافة والكهانة، ولا شك أن مالارميه وتابعيه يبعثون ما يمكن أن نسميه «بعقيدة اللفظ» التي ظلت حية في فلسفة العصور الوسطى وأدبها، والفرق الوحيد بين القدماء والمحدثين هو أن هؤلاء لا يريدون بإطلاق المعنى من اللفظ واستخراجه من قيمه الصوتية أن يؤكدوا حقيقةً دينية أو يثبتوا نظامًا موجودًا (فالمعروف أن عقيدة الخلق المسيحية كانت تنعكس في معاني الألفاظ). إن أقصى ما يريده المحدثون هو المغامرة في آفاق المجهول.
القصيدة تزخر إذن بالسلبيات. تنعكس هذه السلبيات في البداية على الأشياء: فالزهرة لا وجود لها، والكائن الأسطوري (السلف) غير موجود، والزهرية خالية إلا من الفراغ، ولكن الشاعر يريد ما هو أبعد من هذا. إنه يريد أن يعبر عن مقولة السلب كماهية وحقيقة في ذاتها تنتشر على الأشياء وتتجاوزها. ولا بد أن «الكلمة» تحتمل مثل هذه الماهية المجردة غاية التجريد، وإلا لما أمكن أن تنشأ مثل هذه القصيدة. فهي تقول كلمات ولا يمكن أن تقول غير الكلمات. ولكنها تحولها بحيث تصبح علامات على تلك الماهية أو المقولة المجردة. ومعنى هذا أيضًا أن السلب أصبح حاضرًا في الكلمة لأنها استطاعت أن تقول شيئًا لا حضور له في المادة والواقع. ولكن هذا الهدف لا يتحقق بصورةٍ كاملة. فالكلمة لم تستطع أن تتوصل «لزهرة الخلاص»، أي لم تحقق العدم أو بمعنًى آخر لم تحقق المثالية الخالصة عن طريق اللغة. هذا الفشل في التحقق اللغوي المطلق (للعدم أو للمثالية الخالصة) هو الذي صار كلمة، أي صار هذه القصيدة، وكأن خيبة الطموح الأنطولوجي قد نجحت في أن تصبح قصيدة.
ربما خطر لنا من هذا كله أن شعر مالارميه غامض. والواقع أن العناء الذي نبذله في فهمه أو تفسيره لا يمنع من القول بأنه في صميمه شعرٌ واضح، يبلغ أقصى درجات الوضوح والصفاء. إن لغته أشبه ما تكون بالسر المن غم، الذي يحاول أن يحمي الفكرة الأنطولوجية شر الذبول.
ولكن هذا كلام يجيء قبل أوانه، فلنؤجله إلى الفصول القادمة التي ستتناوله بالتفصيل.
(٢) تطور الأسلوب
يعتبر مالارميه أحد الفنانين القلائل الذين لم يتعجلوا، بل تركوا لأنفسهم الوقت الكافي على حد قول التعبير الدارج. ونظرةٌ واحدة إلى تاريخ حياته كما كتبه في رسالةٍ قصيرةٍ جميلة إلى صديقه الشاعر فيرلين (الطبعة الكاملة، ص٦٦١–٦٦٥) ترينا كم صبر واحتمل وقاوم، وكم عكف السنوات الطوال على صياغة قصيدةٍ واحدة من قصائده القصيرة، عكوف الزاهد على صلاته أو النحات على تمثاله أو الصائغ على جوهرته النفيسة. نشأ في أسرة كان جل أفرادها من كبار موظفي الإدارة والسجلات، ولكنه رفض هذا المصير الذي حُدِّد له منذ الطفولة، وصمم على أن يستخدم قلمه في شيءٍ آخر غير الملفات والسجلات. وصبر، كما يقول، صبر الكيماوي القديم الذي يضحي بالغرور والطمأنينة، ويحرق أثاثه وأعمدة سقفه لكي يغذي نار الفرن الذي تختمر فيه تجربته الكبيرة. كان ينشر هنا وهناك مقطوعاتٍ نثرية وقصائدَ متفرقة وترجمات عن الإنجليزية ودراساتٍ مختلفة (مثل كتابه عن الكلمات الإنجليزية أو كتابه عن الآلهة القديمة). ولكنه ظل طوال حياته يحلم بعملٍ كبير، بكتابٍ واحد يصمم بناءه ويفكر فيه على مدى العمر ويكون على حد قوله هو التفسير «الأورفي» للأرض، فيحقق به الواجب الوحيد المطلوب من الشاعر «واللعبة الأدبية الحقيقية». ولقد عانى الكثير من وظيفةٍ كريهة إلى نفسه (فقد كان معلمًا للغة الإنجليزية بإحدى المدارس الثانوية) وقاسى من الفقر الشديد في فتراتٍ كثيرة من حياته، والأرق الذي تسلط عليه سنواتٍ طويلة، ولكنه ظل مخلصًا لمهمته الكبرى، يأخذ نفسه في سبيلها بنظامٍ فكريٍّ شاق أشبه ما يكون بصرامة المصلحين، أو مجاهدات المتصوفين. كان يقضي في تأليف القصيدة الواحدة في بعض الأحيان عشرين أو ثلاثين سنةً، ولم يكن يضيق بذلك لأن الهدف الأكبر كان يرتسم دائمًا أمامه. ومع أنه كان يعلم أن ذلك الكتاب الفريد يحتاج إلى أكثر من حياة، فقد ظل مقتنعًا منذ البداية بأنه يمسك خيوطه الأساسية في يديه. لذلك لم يكفَّ أبدًا عن المحاولة، لقد أراد لهذا الكتاب أن يكون مثل «زهور الشر» في تصميمه وتنسيقه ومعماريته، وشاء القدر ألا يتم هذا المشروع الهائل. ولكن ما بقي من قصائده المتفرقة يدل على أجزاءٍ متقنة الصنع من بناءٍ محكم يقوم على أساسٍ متين. ولا يصدق هذا الكلام على قصائده المتناثرة — كالدرر واللآلئ التي لم يتسنَّ لها أن توضع في تاجٍ رائع — بل يصدق كذلك على مقطوعاته النثرية وترجماته عن الإنجليزية، ومن أهمها ترجمة أشعار إدجار بو والأقاصيص الهندية التي أعاد كتابتها، وكلها تنبع من نفس المنبع الخصب الذي خرجت منه أعماله الشعرية الباقية، كما تعدُّ من الروائع التي لم تحظ بعدُ بنصيبها الكافي من التقدير.
وإذا كان مالارميه يتميز في كتاباته المتنوعة بالتدفق والغنى والخصوبة فقد كان يميل في أشعاره إلى التركيز الشديد والحرص البالغ، ونستطيع أن نتأكد من هذا إذا تتبعنا قصائده في صيغها المختلفة على مدى السنين. كان يطيل النظر في القصيدة فيحذف منها كل صوتٍ مرتفع وينقيها من كل نغمةٍ خطابية. إن «الكليشيهات» والتعبيرات التقليدية تتخلى عن مكانها لكلمات وتعبيراتٍ نادرة والجمل الطويلة تتحول إلى جملٍ ذرية — إن صح هذا التعبير — بحيث توشك كل كلمة أن تستقل بنفسها وتشع بإشعاعٍ ذاتي من داخلها.
والشيء، الذي كان يذكر في الصياغة الأولى في بداية القصيدة يؤجل إلى موضعٍ تالٍ لكي يحرِّر هذه البداية أو يتيح لها الانطلاق بعيدًا عن ذلك الشيء. وإذا فتشنا عن الشيء الذي ظهر في صورته البسيطة المألوفة الكاملة في الصياغة الأولى وجدناه في الصياغة الأخيرة ممزقًا إلى تفاصيل وأجزاءٍ منعزلةٍ متعددة المعاني. إن الموضوعات التي يطرقها الشاعر تقل في العدد وعالم الأشياء يتخفف من ثقله ويزداد شفافية، والمضمون يميل باستمرار إلى الغموض والشذوذ. وبينما كانت الأبيات في صيغتها الأولى تحكي حكاية أو تصف شيئًا أو تنقل إحساسًا، أو توجه الأنظار إلى مضمونٍ محدد، إذا بها في الصياغة الأخيرة لا تهتم إلا بنفسها، ولا تلفت الانتباه إلا إلى وجودها اللغوي.
وإذا بحثنا عن شبيه لهذه التعويلات والتنقيحات المستمرة وجدناه لدى بعض الرسامين المشهورين. فالمعروف عن الفنان الإسباني جريكو أنه رسم لوحة «الطرد من المعبد» ثلاث مرات. وبينما كان الرسمان الأولان قريبَين من الطبيعة، وجدناه في الرسم الثالث يخضع لأسلوب يميل في تصوير الأشكال والأشياء إلى الاستطالة والشحوب والوعورة بحيث يبعد العين عن الموضوع ليجذبها إلى الأسلوب، والفنان الشهير بيكاسو في رسومه الثمانية (الليتوغرافات) للثيران يبدأ بتصوير الطبيعة لينتقل إلى الأسلوب التشريحي والتكعيبي وينتهي بأشكال تمثل خطوطًا بحتةً مجردة عن الأجسام والرسام هنا مثله مثل الشاعر؛ كلاهما يبتعد عن الشيء ليتجه للأسلوب.
(٣) طرح النزعة البشرية
لا يعني هذا العنوان القصير أن الشاعر الحديث قد تنكَّر للبشرية أو أصبح غير إنساني، ولكنه يعني في المقام الأول أن الشاعر الحديث قد أخذ يبتعد عن شعر التجربة والاعتراف والعاطفة، ويتجه إلى الاهتمام بالشكل والأسلوب والتجريب المستمر مع اللغة. سار الشعر الحديث خطواتٍ واسعة باعدت بينه وبين الحياة الطبيعية والنزعات البشرية، وتمت الخطوة الحاسمة على هذا الطريق على يدَي رامبو ومالارميه اللذين أدارا ظهرَيهما إلى الأبد لنموذج من شعر العاطفة والتجربة كان لا يزال حيًّا على عهدهما في أغنيات فيرلين العذبة. ونخطئ لو تصورنا أن الشاعرَين قد أبدعا شيئًا جديدًا لم تكن له بذورٌ عريقة.
فالواقع أن النماذج الكبرى من الشعر القديم، من أشعار التروبادور إلى ما قبل الرومانتيكية، كانت في أغلبها تهتم بالأسلوب وتجنح إلى تعميم التجربة، لم تكن تعبر عن العواطف والتجارب الخاصة إلا في حالاتٍ نادرة غير أن مؤرخي الأدب الذين أصابتهم عدوى الرومانتيكية قد أساءوا فهمه. ولو أعدنا النظر في هذا الشعر القديم وخلصناه من آفات النقد التقليدي لوجدنا فيه — عند مختلف الأمم وفي مختلف اللغات — بعض الخصائص التي نلاحظها اليوم في بناء الشعر الحديث.
مهما يكن من شيء فإن هذا الدفاع السريع عن الشعر القديم لا ينفي أنه في جملته يدور في الأفق الإنساني المألوف. أما الشعر الحديث فهو لا يستبعد الذات الخاصة فحسب، بل يحاول أن يتلافى كل الصفات والنزعات البشرية العادية. وأقرب مثل يفسر هذا الكلام نجده في قصائد مالارميه الثلاث التي انتهينا من شرحها. فما من واحدة منها يمكن أن تفسَّر تفسيرًا «بيوجرافيًّا» أي من خلال شخصية الشاعر وظروف حياته. وإذا كان هناك عدد من النقاد ومؤرخي الأدب لا يزالون يحاولون هذا مع مالارميه أو غيره فتلك آفةٌ رومانسية ينبغي كما قلت أن نتخلص منها بكل وسيلةٍ ممكنة، فلم تخلق القصائد العظيمة أبدًا لإثارة حب الاستطلاع لدى القراء أو تملق عواطفهم، أو استدرار دموعهم على الشعراء «المعذَّبين المساكين».
نعود إلى ما قدمناه عن قصائد مالارميه فنقول إنه ما من قصيدةٍ واحدة منها يمكن أن نفسرها على أنها تعبير عن فرحة أو حزن من تلك الأفراح والأحزان التي نفهمها جميعًا لأننا نحسها جميعًا. وليس معنى هذا أن مالارميه إله أو جماد، بل معناه أن شعره ينبثق من منبع أو مركزٍ باطني يصعب أن نجد له اسمًا. قد نستطيع أن نسميه النفس، ولكن بشرط ألَّا نفهم من ذلك مجموعة من العواطف والانفعالات المختلفة المتضاربة، بل نوعًا من الوجدان الشامل الذي ينطوي على طاقاتٍ عاقلة وأخرى سابقة للعقل، ويضم مشاعرَ حالمة وتجريداتٍ صلبةً صارمة، بحيث تظهر وحدة هذا المزيج كله في اهتزازات اللغة الشاعرة. لقد سار مالارميه على الطريق الذي أشار إليه «نوفاليس» و«إدجار بو» فوصل فيه إلى أقصى مداه. وهو كما عرفنا من قبلُ طريق الذات الشاعرة التي تصل إلى حالة الحياد غير الشخصي أو التي ترتفع فوق الأشخاص.
ولقد أشار مالارميه بنفسه إلى هذا الطريق، فهو يقول في معرض حديثه عن صديقه الشاعر تيودور دي بانفيل (١٨٢٣–١٨٩١م) إن الشعر شيء يختلف كل الاختلاف عن الحماس أو البحران العاطفي. إنه في رأيه تناول للكلمات على مقتضى وزن وإيقاعٍ مطلق، بحيث تصبح «صوتًا يخفي وراءه الشاعر والقارئ معًا» (ص٣٣٣ من طبعة البلياد). هذه الكلمة تعبر عن قضيةٍ أساسية من قضايا الشعر المطلق الذي يبدو وكأن أنغامه لم تعد في حاجة لأن تخرج من فمٍ بشري أو تتجه إلى أذنٍ بشرية.
كان من رأي مالارميه أن الفن قد بدأ منذ الأبد وأنه سيستمر إلى الأبد، وعلى الفنان أن يعيد صوته الناعم الكامل إلى الحياة في كل عمل من أعماله. وقد كان مالارميه نفسه فيما يرويه عنه معاصروه إنسانًا مهذَّبًا بالغ الرقة، شديد التعاطف مع الغير، ناعم الصوت في أحاديثه وفي أشعاره. سأله يومًا أحد زواره هذا السؤال الساذج: ألا تبكي أبدًا في أشعارك؟ فأجابه على الفور: «ولا أتمخط فيها!»
لقد انتقل الصوت الخفيض الناعم إلى شعره، ولكن لم تصحبه العاطفية والشفقة وكل ما تحمله النزعات البشرية.
وهي كذلك ظاهرة في الحوار (من فصلَين صغيرَين يعدُّ أولهما مجرد تمهيدٍ ثانوي للحوار) الذي سماه «هيرودياد» وظل يعمل فيه من سنة ١٨٦٤م حتى أواخر حياته، وقد كتبه عن سالومي جديدة تحاول أن تحقق جهدًا عقليًّا يفوق القدرة البشرية، وهو أن تصبح كيانًا أو ماهيةً عقليةً خالصة، بعد أن استبدَّ بها الخوف من جسدها الجميل والرعب من الغرائز والعطر والنجوم. إنها ترفض الطبيعة، وتموت عذراء، وتغوص في «ليلٍ أبيضَ من الجليد والثلج ألمخيف»، في حالةٍ عقلية أو روحية تقتل كل حياة. ويظل عذاب سالومي الوحيد أنها لا تستطيع أن تسير في هذا «القتل» إلى أبعد مداه: «ثم إنني لا أريد شيئًا يمتُّ بصلةٍ للبشر.» هذا البيت الذي تقوله سالومي يمكن أن نضعه عنوانًا لشعر مالارميه كله. إن من مظاهر التجرد من النزعة البشرية عنده أنه يبتعد بنفسه عن الحياة العضوية والنباتية كما فعل من قبله بودلير. وكل من يقرأ شعره المتأخر يلاحظ أنه يكاد يخلو خلوًّا تامًّا من الكائنات الحية، ويكاد يقتصر على الأشياء الصناعية أو المصنوعة كقطع الأثاث وما أشبه. صحيح أنه يذكر الأزهار هنا أو هناك (ويمكن أن تراجع السوناتة الأخيرة التي تكلمنا عنها) ولكنها لم تعد زهورًا طبيعيةً حية، بل مجرد رموزٍ غير طبيعية للكلمة الشاعرة.
(٤) الحب والموت
عرف مالارميه الحب كما عرفه كل من كتب الشعر الغنائي، غير أن الحب عنده لم يكن سوى مناسبة للتعبير عن أفعالٍ عقلية، يستوي في ذلك مع الزهرية الفارغة أو الكأس أو الكمان أو الستارة. بل إن قصيدة تشبه من نَواحٍ كثيرة قصائد الغزل التقليدية مثل السوناتة البديعة: «آه يا عزيزة من بعيدة وقريبة وبيضاء!» التي يرجع تأليفها إلى سنة ١٨٩٥م تبتعد بلغتها العسيرة عن عاطفة الحب المألوفة، وتفصح بتجربتها الرهيفة عن القبلة الصامتة التي تقول أكثر مما تقوله الكلمة عن تجربةٍ أساسية في شعر مالارميه وعالمه، ألا وهي أن الكلمة لا تدرك عجزها ولا تتبين مصيرها وغايتها في أن تصبح كلمة (لوجوس، معنى) إلا على حدود الصمت.
ويتضح هذا على أكمل وجه في قصيدة كتبها مالارميه سنة ١٨٨٧م ونرى فيها كيف يحلق الموقف العقلي فوق الحب بحيث يضمه ويطويه.
والقصيدة من نوع السوناتة أيضًا (وقد كتبت على طريقة الإنجليز في السوناتة، ثلاث رباعيات وثنائية) وتبدأ بهذا البيت (ص٥٣):
فالشعر رمزه شعلة اللهب وهو يغادر جبهة الحبيب (الشرق)، تحركه أيدي الرغبات، ليتجه إلى المحبوب (الغرب). والقصيدة تحلق في أفقٍ مرتفعٍ بعيد، وكأنها نسيت وظيفة اللغة في الإفادة والإفهام!
ونلاحظ أن «الأنا» في البيت الثالث تظهر بصورةٍ عابرة وفي موضع لا أهمية له، ثم لا نجد إشارة إلى «أنت»، وكل ما نجده ذلك الشعر الذي ينتشر فوق الجبهة، ولا يلبث هذا الشعر أن يتحول إلى شعلة من اللهب تصدر عنها سلسلة من صور الاحتراق والاشتعال. ويقف الحدث الحسي في القصيدة عند هذا الحد، ولكننا نلمح وراءه حدثًا آخر أهم، أو لعله هو الحدث الحقيقي المقصود. إنه الأمل في مثاليةٍ سامية، والفشل، والقناعة المرتابة بالواقع المحدود. إن اللعب بالصور والاستعارات ينقي الشيء المادي، وهو هنا الشعر، من ماديته، والرؤية الباطنة المتأملة تنقي عاطفة الحب وتجردها. والنتيجة شيءٌ غريب غير مألوف. غريب في بناء الجملة، غير مألوف في الصور والاستعارات.
فالاستعارات في هذه السوناتة لا يمكن أن تُفهَم على ضوء الاستعارة التقليدية التي تقوم على صلةٍ واقعية أو منطقية تجمع بين التشبيه والمشبه، بل ينبغي أن تفهم من شعر مالارميه في مجموعه، بحيث تصبح رموزًا بعيدة الدلالة على موقفه الأنطولوجي من الحياة والفن والوجود. إن هذه الاستعارات تتحرر من سببها المادي وتستقلُّ بنفسها وتقتحم مجالاتٍ وآفاقًا بعيدة كل البعد عن شعر المحبوبة. والحدث الظاهر الذي تتناوله القصيدة (وهو خصلات شعر الحبيب التي تسقط على جبينها) تخفي وراءها حدثًا آخر مجردًا ومشحونًا بالتوتر، لا يمت للإنسان عامة بأية صلة، ومن الصعب أن نحلل القصيدة تحليلًا كاملًا؛ لأن الشاعر نفسه يتعمد هذا التداخل والتعقيد، ويتعمد أيضًا أن توحي بمعانيَ عديدة بحيث يصبح من المتعذر أن نعود بها إلى المجال البشري الطبيعي.
ونستطيع الوصول إلى نتائجَ مشابهة لو قارنَّا بين قصيدتَي فيكتور هيجو ومالارميه في رثاء صديقهما الشاعر تيوفيل جوتييه، فقصيدة هيجو «قبر ت. جوتييه ١٨٧٢م» تعبر عن حزن الشاعر على صديقه الذي مات وإن كان لا يزال قريبًا منه كإنسان، تحيطه هالة من ذكريات الشاعر عن الصداقة التي كانت تجمعهما، في أبياتٍ ذات نغمةٍ خطابيةٍ مؤثرة، وصورٍ مثالية عن العالم الآخر.
أما قصيدة مالارميه «نخبٌ جنائزي لتيوفيل جوتييه» فهي تضع الميت في بُعدٍ شاسع لا سبيل للوصول إليه، وتؤكد أنه قد اختفى وانطفأ «كإنسان» — لأن الروح تموت مع الموت — بينما تبقى روحه في أعماله الأدبية التي تبلغ الآن حقيقتها «اللاشخصية» المأمولة بعد أن غاب صاحبها. فهي إذن تقوم بعملية التجريد من البشرية من ناحيتَين. والغريب أن القصيدتَين قد كتبتا في وقتٍ واحد، والشاعران متأثران، ولا شك، بالمدرسة الرومانتيكية. والفارق بينهما هو أن أولهما كان أحد مؤسسيها وقد وصل بها إلى القمة في شيخوخته، أما الآخر فهو وريثها الذي استطاع أن يتخلَّى عن إرثه؛ ولذلك فمن العسير أن نقيم جسرًا يصل بين إنتاجهما الذي كتباه في وقتٍ واحد.
(٥) مأساة الشاعر
ويجرنا هذا إلى نظرة مالارميه لمأساة الشعر والشعراء كما عالجها في عدد من قصائده التي نعى فيها أصدقاءه وفي غيرها من شعره.
وقد لا نجد قصيدةً تصور مأساة الشعر والشاعر أروع من القصيدة التي كتبها سنة ١٨٨٥م بعنوان: «اليوم البكر الحي الجميل»، ولنحاول أن نقرأها أولًا، على الرغم من استحالة ترجمتها ترجمةً تفي بنقاء لغتها وتشابك عباراتها وتميز قوافيها (وقد اهتديت فيها بترجمة الأستاذ شفيق مقار في كتابه «شيء من الشعر»، ص١٣١):
القصيدة كما نرى تقدم رمزًا واضحًا للشاعر في صورة طائر البجع أسير الثلج والصقيع، وفي ثلاث عبارات أو قضايا تؤلف بين قدر الشاعر والطائر في نسيجٍ واحدٍ محكم. ونخطئ لو فهمنا من هذا ما فهمه بودلير من هذا الرمز في قصيدته عن البجع أو في قصيدةٍ أخرى عن طائر القطرس (الألباتروس) أراد أن يصوِّر فيهما العبقري الذي يعيش وحيدًا في بيئة لا تفهمه كأنه يعيش في المنفى.
فقصيدة مالارميه تعبر عن مأساة شاعر لم يحقق — في الماضي — رسالته الشعرية، بحيث تبدو «الآن» هدفًا بعيدًا عصيًّا، بل لعلها أن تكون مثالًا يستحيل تحقيقه على بني الإنسان.
وتشير ضربة الجناح المخمور، والأسراب التي لم تهرب إلى الخيال، كما تشير إلى تحليق الطائر الكبير، أما الأرض التي تصلح لأن يعيش فيها الطائر فلا يتحتم أن تكون إحدى بلاد الجنوب بل هي أرض الجبال أو عالم الخلق الشعري.
والطائر يتذكر روعته الماضية، أي طبيعته الحقة التي كان عليها. لقد اقترف الخطأ الذي يدفع الآن ثمنه الغالي؛ لم يغنِّ الأغنية الحقيقية للبلد الوحيد الذي يمكن أن يحيا فيه، وليست أغنيته غير الهمسات الموسيقية التي تخرج من خفق جناحَيه. أما إنكاره للفضاء فهو تأكيدٌ جديد لطبيعته الحقَّة — لأن طبيعة الطائر الحقة في إلغاء المكان بقوة الطيران — وتأكيد لقدرة الخيال الشعري على بلوغ البعيد واستحضار الغائب والمفقود.
وتبرز أهمية البعد الزمني في القصيدة إلى جانب البعد المكاني. فالبيت الثاني يسأل إن كان في استطاعة «اليوم» أو «الآن» أن يخلص الطائر (الشاعر) بفعلٍ إرادي يفوق طاقة البشر. ولكن سرعان ما تجيب القصيدة على هذا التساؤل أو هذا الافتراض؛ فالشاعر يحيا الآن في الحاضر، وهو يتذكر الماضي أو يتذكر طبيعته الأصيلة ونفسه المثالية التي فشل من قبلُ في تحقيقها عندما عجز عن الغناء أو فرَّط فيه؛ ولذلك تنتقل إلى المستقبل المباشر (رقبته ستنفض …) الذي سيفشل كذلك في أن يُحرِّره تحررًا كاملًا. وأخيرًا ننتقل إلى حالة من الديمومة — الحياة في الموت أو الموت في الحياة — أي الأبدية والصمت الجامد المطلق، فلم يبقَ للطائر إلا أن يتحول إلى شبح من نفسه؛ شبحٍ أبيض يعيش في صمتٍ أبيضَ بارد، ويحملق في الكوكب الذي يستعير منه اسمه (فقد كان فيما تقول الأسطورة اليونانية بطلًا أو نصف إله ثم أحاله أبوللو إلى نجمٍ منفي على حدود الفضاء). هو إذن جهدٌ عقيم هذا الذي يبذله الطائر لتخليص نفسه، لأن النجم لا يرسل إلا نقطةً باهتة من الضوء، ولن يبقى للشاعر إلا الوعي الصامت الذي يشبه شعاعًا خافتًا ينفذ في تابوت. أي لن يبقى له إلا الإحساس بهدفه البعيد وقدره المستحيل. وهكذا تنتهي القصيدة بالخروج من دائرة الزمان وتصوير مشهدٍ أخير يُغطِّيه الثلج والجليد. وهكذا يعكس طائر البجع صورة الشاعر الذي خان رسالته الشعرية أو فشل في تحقيقها، ولم يبقَ أمامهما إلا أن يتدثرا بالثلج ويتطلعا إلى سماء المثال المستحيل.
على أن هذه النغمة اليائسة لا تلازم مالارميه، بل تختفي في بعض قصائده التي ينعى فيها رفاقه الشعراء، مثل قصيدتَيه الرائعتَين عن «قبر إدجار بو» و«نخبٌ جنائزي لتيوفيل جوتييه». ونكتفي هنا بإشارةٍ موجزة إلى قصيدته الأولى التي كتبها في ربيع سنة ١٨٧٦م ونشرت في نفس السنة (كما ترجمها الشاعر بنفسه بعد ذلك إلى الإنجليزية) في الكتاب التذكاري الذي صدر في مدينة بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية بعد وفاة الشاعر الأمريكي العظيم:
(٦) الشعر كأسلوب للمقاومة والعمل واللعب
التفَّ حول مالارميه عددٌ كبير من المعجبين والمريدين الذين أحاطوه بشعائر الإعجاب والإجلال والإكبار التي تشبه الطقوس التي يقدِّمها المؤمنون للإله المعبود. ولكن مالارميه كان يملك لحسن الحظ من التواضع والذوق ما يجعله يوقف هؤلاء المريدين عند حدهم كلما بالغوا في إحراق البخور أمامه. ولعل عقيدته في الفن والشعر هي التي دفعت الحواريين إلى هذا التطرف. كان يؤمن بأن الشعر لغة لا يمكن أن تقوم مقامها أو تغني عنها لغةٌ أخرى، وأنه هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يقضى فيه على كل ما يتصف به الواقع من ضيق ومهانة وعرضية، ويخلق للإنسان في خضمِّ السخف والتفاهة اليومية جزيرة التحرر والصفاء الروحي والعقلي. إنه يقول مثلًا في خواطره التي كتبها ونشرها في سنة ١٨٩٥م تحت عنوان «تنويعات على لحنٍ واحد»: «إن الآخرين ينظرون إلى إنتاجي نظرتهم إلى السحب في الغسق وإلى النجوم، أي نظرتهم إلى شيءٍ عقيم» (ص٣٥٨ من الطبعة الكاملة)، أي أنه يريد أن يحقق لنفسه الحرية الكاملة، والنقاء التام، والتجريد الشامل. وهو بهذا يتابع الاتجاه الذي بدأ في الأدب والفن منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، عندما راح الأدباء يحاربون طبقة التجار ورجال الأعمال ويقاومون النزعة الوضعية التي أخذت تجرد العالم من أسراره باسم العلم والتقدم. ولا شك أن هذا الاتجاه كله صورةٌ حديثة من صور السخط على العالم والواقع الضيق المحدود. ولا شك أن هذا السخط كان يظهر عند ذوي العقول المتفوقة والأرواح الكبيرة على اختلاف العصور والبلاد.
ولعل أفضل تمهيد لشعر مالارميه أو على الأصح لفلسفته في الشعر هو الرسالة التي كتبها في سنة ١٨٦٥م إلى أحد أصدقائه وقال فيها: «نعم. أعرف أننا لا نعدو أن نكون صورًا عقيمة من المادة، ولكننا أسمى منها لأننا اخترعنا (فكرة) الله والروح. بل إننا يا صديقي لنبلغ من السمو أنني أريد أن أظهر بمظهر المادة التي تعي الوجود ومع ذلك تلقي بنفسها بقوة في هذا الحلم الذي تعلم أنه لا وجود له، لكي تتغنى بالروح وبكل الانطباعات الإلهية التي تراكمت في نفوسنا منذ العصور الأولى، والأكاذيب المجيدة أمام هذا العدم الذي يسمى بالحقيقة! ذلك هو مشروع كتابي الشعري، وربما حمل هذا العنوان: مجد الكذب أو الكذب المجيد.»
بهذه العبارات يحدد مالارميه موقفه من التيار الوضعي في عصره ومن بودلير نفسه تحديدًا واضحًا. فليس الواقع ولا وقائع الوجود المادي ولا كل جهد يُبذَل في تصويرها إلا عدمًا، لا بل إنه هو التفاهة بعينها. وليست الطبيعة كما تصور بودلير؛ معبدًا من الرموز الموجودة من قبلُ، وإنما الحلم بأكاذيبه المجيدة أو ما يمكن أن نسميه الجمال أو الحقيقة العليا شيء يخلقه الشاعر خلقًا. ومع تسليم مالارميه بأن الحلم لا يمكن أن يخرج عن كونه حلمًا وأن المثال أو الفكرة كما يسميها في أكثر الأحيان لا يمكن أن يزيد عن كونه مثالًا، فقد ظل على اعتقاده بأن الكلمات تستطيع إذا أخذت بمعناها النقي الخالص أن تحقق تحولًا هائلًا أشبه بتحول المعادن الخسيسة إلى ذهب على يد الكيميائيين القدماء.
أضف إلى هذا كله ما قاله في محاضرة مشهورة ألقاها في أكسفورد سنة ١٨٩٤م: «إننا نعلم أن ما هو موجود ليس موجودًا على وجه اليقين!» فهو يلخص في هذه العبارة إيمانه بأن الثروة الروحية التي يملكها الإنسان وتتجسم في قدرة الفنان أو الشاعر على الخلق هي كل شيء ولا شيء في وقت واحد!
إن المادية والعرضية التي يتصف بها الحاضر الذي يفلت في كل لحظة من حياتنا لا قيمة لها إذا قيست بماضٍ انقضى ومستقبل لم يتحقق بعدُ. غير أنه إذا كان للماضي والمستقبل كل هذا الدور في حياتنا العقلية فإن الوعي نفسه يمكن أن يصبح عدمًا، اللهم إلا إذا استطعنا أن نتصل بتراثنا الحق بفعلٍ إرادي هو فعل الشاعر. بهذا يصبح الخلق الشعري تفسيرًا «أورفيًّا» للأرض لأنه سيستطيع عندئذٍ أن يصور الطيور والأشجار والنجوم كما لو كانت خيالات يتحكم فيها كما يشاء ليخلق «النموذج الأبدي» أي النموذج الكامل المجرد من المادية والصدفة، ومع ذلك فمهما نجح الشاعر بنوع من الكيمياء الشعرية في تنقية لغته وتعريتها من المادية والوصول بها إلى الكمال المجرد، فلن ينجح أبدًا في إلغاء عنصر الصدفة أو «رمية النرد» التي يتعرض لها كل جهدٍ بشري.
•••
كيف السبيل إلى تحقيق هذا المطلب الصعب الذي يبدو كأنه يفوق طاقة البشر بالعمل الصابر الدءوب؟ هذا العمل يتلخص في التجريب مع الكلمة بحيث تدل على معانيَ متعددة، وبحيث تكون هذه الدلالة علامة على توترات لا واقعية تمر بها النفس. والصعوبة — إن جازت المفارقة — تكمن في أن يكون تعدد المعاني هذا صائبًا وموفَّقًا.
لا أثر إذن للإلهام الذي يصفه الشاعر بأنه ذاتيةٌ فاسدة. إنه يتحدث عن «معمله»، عن «هندسة العبارات»، ويعالج إبداعه الشعري بمسئولية العالم المتخصص في «الفعل العقلي الخالص» وفي «السحر اللغوي». والمشكلة هي في إحالة هذا الفعل العقلي الخالص إلى «غناء»، ولكنه غناء يصدر عن «أستاذية باردة»، تعمل تحت ظروفٍ صعبة غير مألوفة؛ ولذلك يقف منها الناس موقف العداء ويتهمها النقاد بالإلغاز والغموض (ص٥٣٥). إن بيت الشعر الذي ينبع من هذه العقلانية الباردة ومن هذا العمل الصابر الدقيق يؤلف من الكلمات العديدة «كلمةً جديدةً شاملة»، تضمن «عزل اللغة» عن المصادفات العرضية، بحيث تدل على الجوهر، والحقيقة، والماهية، وبحيث يخيل للسامع أن الكلمة التي يسمعها في بيت الشعر كلمةٌ غريبة عليه لم يسمعها أبدًا من قبلُ، وتذكره بأن الموضوع الذي تسمية أو تصفه يسبح في جوٍّ جديد عليه (ص٣٦٨).
إن اللغة الشعرية تنفصل أو تنعزل عن لغة الإفادة أو تدور حول نفسها، والشاعر الذي ينطق بهذه اللغة ينعزل بالضرورة أيضًا. إنه في نظر الناس «مسكين» أو «مريض» جدير بالرثاء. بل قد يصفه البعض بالحمق والجنون والانحلال، ويندد بخطره على أوروبا! ولكنه لهذا السبب نفسه رجل يعرف كيف يتعامل مع «المواد شديدة الانفجار» التي يصطدم بها في عمله مع اللغة (ص٦٥١).
كل هذه كما نرى خطوات على الطريق الذي أشار إليه روسو وديدرو ومن بعدهما إدجار بو وبودلير. إنه الطريق الذي يسير عليه الشاعر أو العبقري فيبتعد عن المجتمع أو يبتعد عنه المجتمع، وقد كان مالارميه يملك من السخرية والتهكم ما جعله يصف الشعر أحيانًا بأوصافٍ تساوي الحكم عليه بالإعدام في نظر القُرَّاء والنقاد العاديين. إنه يقول عن الكتابة والأدب كله «ما الهدف من هذا كله؟ إنه اللعب» (ص٦٤٧). أو يقول إنه «بريق الكذب.» وليس المقصود باللعب هو العبث، وإنما المقصود به هو التحرر من الهدف والغاية والمنفعة، بل الحرية المطلقة للروح الخلاق. أما المراد من بريق الكذب فهو أن كل ما ينتجه الأديب «لا واقع»، وكل ما يصل إليه شيء مؤقت إذا قيس بصعوبة رسالته وخطورتها.
(٧) العدم والشكل
لم يقف عناء مالارميه عند هذا الحد. لقد بذل كل جهده لإحكام شكل البيت، وحافظ على قواعد الوزن، وقوانين القافية، وتقسيم المقاطع. ولكننا حين نقرأ شعره نواجَه بمفارقةٍ غريبة، إذ لا نلبث أن نكتشف أن دقة الشكل عنده تتعارض مع غموض المضمون وعدم تحدده. يقول مالارميه في إحدى رسائله التي كتبها سنة ١٨٨٥م: «كلما وسعنا من مضموناتنا، وكلما «رقَّقنا» أو «خفَّفنا» منها، كلما كان علينا أن نربط بينها في أبياتٍ محددة المعالم، ملموسة، يتعذر نسيانها.» هذا التعارض الذي تشير إليه العبارة بين المضمون المخفف (من المادة بالطبع!) وبين الشكل المحكم المترابط هو في الحقيقة تعارض بين الخطر ووسيلة النجاة، وقد لاحظنا مثله في كلامنا السابق عن بودلير.
ويكتب مالارميه عبارةً أخرى في إحدى رسائله المبكرة سنة ١٨٦٦م يمكن أن نجد فيها إشارةً إلى الخلفية الأنطولوجية التي يبني عليها عالمه الشعري والتي تتصل عنده كذلك بالشكل ووظيفته. والعبارة تقول: «وجدت الجمال بعد أن وجدت العدم.» ومن حقنا بالطبع أن نفهم الجمال على أنه جمال الأشكال الموزونة الكاملة، فإذا أردنا أن نفهمه من الناحية الأنطولوجية (التي ألمح إليها في هذه العبارة وإن لم يوضحها إلا في مرحلةٍ متأخرة) أمكننا أن نقول إن مالارميه يربط فيها بين العدم (أو المطلق) وبين الكلمة (أو اللوجوس). فالكلمة في المكان الذي يولد فيه العدم ويدرك وجوده.
ونستطيع أن نتوسع في هذا الفهم قليلًا إذا وضعناه في إطار التراث الفكري الفرنسي — أو الروماني بمعنًى أوسع — الذي يعتبر الأشكال الأدبية مظاهر للكلمة. فشعر مالارميه الذي يلغي الواقع ويحطمه، يحاول في نفس الوقت أن يحقق الجمال في اللغة والكمال في الشكل. ولذلك تصبح الأوزان والإيقاعات الدقيقة المحكمة بمثابة الوعاء المنقذ الذي يحتوي الواقع الذي ألغاه أو «أعدمه» من الناحية الموضوعية، وسنرى فيما بعدُ أن الشعراء المعاصرين قد أسقطوا هذا التبرير الأنطولوجي للشكل من حسابهم.
ولكن هؤلاء الشعراء — مثل فاليري وجيان ومن تأثر بهما أو جرى مجراهما — سيثبتون أن الشعر، مع كل ما فيه من تجريدٍ شديد وتعدد في معاني الكلمات؛ يحتاج أشد الحاجة إلى أحكام الشكل، لكي يكون سندًا يعتمد عليه في المكان المجرد من الأشياء وطريقًا ومعيارًا للغناء. ويصبح الشكل هو طوق النجاة للشعر المحض الذي تسبح أغانيه في عالمٍ لا واقعي حطم الأشياء وألغاها (من أدل الكلمات على هذا ما يقوله الشاعر الألماني جوتفريد بن عن قدرة العدم على إزكاء الشكل). ويؤكد كلام مالارميه عن الشكل — إذا أخذناه في سياقه التاريخي — أن الانفصال الذي بدأ منذ القرن الثامن عشر بين الجمال والصدق قد أصبح انفصالًا نهائيًّا. ولا شك أن جمال الشكل المطلق يؤكد أيضًا أن الكلمة الإنسانية لا يخبو نورها ولا تذبل روعتها حتى ولو وقفت أمام العدم وجهًا لوجه. وقديمًا قيل: في البدء كانت الكلمة. واليوم نقول: وفي النهاية أيضًا. إن لغة الإنسان هي مجده، ولغة الشاعر هي موضع مجده وعذابه ومغامرته ووحدته. وماذا يبقى سواها، بعد أن أصبح الواقع غريبًا عنه، وأصبح هو غريبًا عن الواقع؟
(٨) قول ما لا يقال
يعاني قارئ الشعر الحديث معاناة شديدة في فهمه وتذوقه. وتشتد معاناته وتصل في أكثر الأحيان إلى حدود اليأس إذا قرأ مالارميه! والحق أن صعوبة الشعر الحديث وتعقيد لغته ظاهرة ينبغي ألا ننظر إليها منفصلة عن ظواهره الأخرى، وإن كانت بالطبع أشدها غرابة وشذوذًا وتطرفًا. ويبدو أن مالارميه قد وضع هذا الأمر في حسابه، واقتنع بأنه يكتب لعددٍ قليل من القراء أو نخبة منهم كما كان يؤثر دائمًا أن يقول، هذا إذا كان قد فكر في القراء على الإطلاق! وقد حاول في كثير من تأملاته وخواطره (مثل التنويعات على لحنٍ واحد، والموسيقى والآداب، وكتاباته النثرية المتفرقة) أن يبرر لغته العسيرة المتميزة. وهذه التأملات والخواطر تكاد تدور حول فكرةٍ واحدة هي أن من واجب الأديب أن يعيد للغة تلك الحرية التي تجعلها تتقبل «بروق المنطق الأولى» (ص٣٨٦)، وألا يسمح بأن تستهلك في أغراض الإفادة والتوصيل أو تتجمد في كليشيهات وصيغٍ محفوظة تمنع الفكر والشعر من أن يقولا شيئًا جديدًا كل الجدة. والإبداع الشعرى معناه عنده تجديد فعل الخلق اللغوي الأصيل تجديدًا حاسمًا بحيث يكون القول على الدوام هو قول ما لا يقال (ص٣٨٦).
والمتأمل لهذه الخواطر يعرف أنها قد قيلت من قبلُ صراحة أو ضمنًا في أعمال كثير من الشعراء والمتصوفين، ولكن الفرق كبير بين خاطرة ترد صدفة هنا أو هناك وأخرى يصل بها صاحبها إلى غايتها ويجعل منها مبدأً أو قانونًا يسير عليه من الناحيتين النظرية والعملية. ولقد حاول مالارميه في إنتاجه أن يحتفظ «للقول الذي لا يقال» ببدائيته وأصالته الأولى، بحيث تحميه صعوبته من كل فهمٍ محدود، وتقيه من السير في الطرق العادية المألوفة. إن الكلمة الشعرية عنده لا تريد أن تكون مجرد درجةٍ قصوى من درجات اللغة المفهومة، بل تريد أن تكون نشازًا صريحًا لكل لغةٍ سوية أو عادية.
والغريب أن هذه الأساليب كلها ترد في كتاباته النثرية أكثر مما ترد في أشعاره. ويشبه نثر مالارميه أن ينطبق عليه اصطلاح الموسيقى «الكونترا بونكتيه» الحديثة، فالفكرة تتداخل في العبارة الواحدة مع الفكرة، بل قد تتشابك مجموعة من الأفكار في عبارةٍ واحدة وفي وقتٍ واحد بحيث نسمع أكثر من صوت يعارض الآخر أو يكمله أو يوقفه، وبحيث نخرج من العبارة كلها بالإحساس بأن هناك «وحدةً تأليفيةً متحركة» تجمع الأفكار المفردة كما تجمع الجملة الموسيقية أصواتًا متعددة (هنا أيضًا نلاحظ الصلة الوثيقة بين الأدب والموسيقى كما لاحظناها من قبلُ بينه وبين الرسم …)
كل هذه وسائل وأساليب لا يمكن تقليدها أو نقلها. والواقع أنه لم يبقَ منها في شعر خلفاء مالارميه وأتباعهم إلا القليل، وبخاصة تلك الوسائل والأساليب التي يُسخِّرها الشاعر لقلب النظام الطبيعي للأشياء، أو تجريد الواقع من ماديته وشيئيته كما أوضحنا من قبل وكما سيأتي تفصيله في الفصل القادم. والمهم أن هذا الشعر لم يخلق للقارئ ولا الناقد المتعجل. لقد قاوم هذا النوعَ من القراء والنقاد في عصره، وسوف يقاومهم في كل عصر؛ ذلك لأنه يخرج كما قلت عن حدود الفهم العادي، ويرتفع إلى أفقٍ تستعيد فيه الكلمة أصالتها الأولى وبراءتها وثباتها. هناك تلمع الكلمة لمعان البرق أو الصاعقة، وهناك تقترب من الصمت لتقول ما لا يقال. والشيء الذي يستحق الملاحظة أن هذا الهدف لا يتم إلا بتجزئة الجملة أو تقطيعها إلى شذرات. وهكذا نجد الانفصال يحلُّ محل الاتصال، والتجاور في مكان التسلسل. ونخطئ لو تصورنا أن هذه أساليبُ ظاهرية تريد أن تلعب باللغة لمجرد اللعب. إنها علامات على الانفصال الباطني في نفس الشاعر، على اللغة التي تقف عند حدود المستحيل. والغريب أن هذا التمزق إلى شذرات — وهو تمزق قائم في روح العصر وفي وجدان الشاعر على السواء — يسمح للشاعر أن يجعل الشذرة رمزًا للكمال الذي يبحث عنه ويحسُّ بالقرب منه: «الشذرات علامات عرس الفكرة» (ص٣٨٧). وهي كلمة تعبر عن قضيةٍ أساسية من قضايا الإستيطيقا الحديثة.
(٩) في جوار الصمت
قلنا إن مالارميه يريد أن يقترب من المستحيل، أي من الصمت. كانت وسيلته إلى هذا هي «تكتم» الأشياء (التي يلغيها أو يحطمها أو يجردها من كيانها المادي الملموس)، وكانت هي اللغة التي ازدادت كلماتها مع الأيام إيجازًا وهمسًا (من هنا تستحيل ترجمة هذا الشعر بلغةٍ خطابيةٍ زاعقة، هذا إن كان من الممكن ترجمته على الإطلاق). والصمت كلمة تتردد كثيرًا في خواطر مالارميه وتأملاته.
فهو يقول مثلًا إن الأدب تحليقٌ صامت إلى المجرد، كما يقول إنه يخاف الثرثرة إلى حد الرعب (ص٣٨٥)، وإن نصوصه «تنطفئ» على الصفحة المكتوبة (ص٤٠٩) وإنها سحر لا يفهم معناه ولا يُتذوَّق التذوق الكامل حتى تعود الكلمات إلى المعزوفة (الكونسير) الصامتة الوحيدة التي نبعت منها (ص٣٨٠). من هنا تصبح القصيدة المثالية هي «القصيدة الصامتة من بياضٍ تام»، أو هي التي تتحول كلماتها إلى ذبذباتٍ عقلية أو روحية تذكرنا بالقصيدة السيمفونية الأولى التي كانت مستقرة في أعماق الإنسانية، قبل أن توجد اللغة وقبل أن تسمي الأشياء وتلتصق بها.
والواضح من هذا كله أن مالارميه يقترب من التفكير الصوفي، وأن تجربة «المتعالي» (الترانسندنس) أو بالأحرى تجربة الفشل في الوصول إليه هي التي تشعره بعجز اللغة، هذا التصوف في صميمه هو «تصوف العدم»، أي أنه قد خطا خطوة أبعد من تصوف «المتعالي الفارغ» أو المثالية الفارغة التي لاحظناها من قبلُ عند بودلير ورامبو.
صرح مالارميه في أحد أحاديثه مرة بقوله: «إن أدبي طريق مسدود.» والواقع أن عزلة مالارميه عزلةٌ كاملةٌ مقصودة، وقد كان في طبيعته من المرح وطيبة القلب ما عصمة من السخط والمرارة. إنه يشبه رامبو، وإن كان يسير على طريقٍ آخر. ولقد بلغ بشعره إلى النقطة التي يلغي فيها نفسه بنفسه، لا بل يشير إلى نهاية كل شعر وكل أدب وكل كلام، والغريب أن هذه الرغبة الشديدة في الصمت أو النهاية تتكرر كثيرًا في شعر القرن العشرين. ولا بد أنها تدل على حاجةٍ ملحة في ضمير الإنسان الحديث.
(١٠) الغموض
لا بد أن القارئ قد بذل جهدًا غير قليل في فهم نصوص مالارميه التي قدمناها في الصفحات السابقة، ولا بد أنه التمس لنا العذر في الترجمة والتفسير اللذين لا يخلوان بالضرورة من العجز والقصور. والحقيقة أن شعر مالارميه — ونثره أيضًا إلى حدٍّ بعيد — يبدو كأنما كتب لقارئ لم يوجد بعدُ، أو كأنه يحاول أن يخلق القارئ المتخصص لنصوصه المتخصصة. إنه يقوم كما قلنا على التجرد من النزعات البشرية أو طرح كل ما يتصل بالإنسان من عواطف وغرائز ورغبات. ومن شأن هذا التجريد المستمر للأشياء من واقعيتها وماديتها واستخدام الكلمات استخدامًا جديدًا لتحقيق هذا الهدف أن يحطم المثلث المعروف الذي تتكون أضلاعه من المؤلف والعمل والقارئ، بحيث ينفصل العمل الشعري عن طرفَيه البشريَّين. إن الكتاب — وهو رمز العمل الأدبي لديه — شيءٌ غير شخصي، وبمجرد أن ينفصل عنه المؤلف لا يحتمل أن يقترب منه القارئ. إن من طبيعته أن يقف وحده، مخلوقًا، موجودًا (ص٣٧٢). أضف إلى هذا أن رموز مالارميه وصوره واستعاراته ليست من ذلك النوع الذي يمكن أن يقال عنه إنه ملكٌ مشاع بين المؤلف والقارئ. إنه إذا جاز أن نستخدم هذا التعبير، شيءٌ مالارميٌّ خالص. لقد وضع معظم هذه الرموز بنفسه ولا بد أن تُفهَم من خلال أعماله. وإذا كانت هناك استثناءاتٌ قليلة فهي ترجع إلى تراثٍ أدبي قريب يتأثر فيه بودلير بوجهٍ خاص. ومن هنا يختلف الغموض عند الشاعر الحديث مثل مالارميه عنه عند الشعراء القدامى. فهؤلاء كانوا يتعمدون تعقيد العبارة أو استخدام الصور والاستعارات النادرة والكلمات المهجورة، أو يعمدون إلى التلميحات الخفية والتصورات البعيدة عن عالم الواقع لكي يدهشوا القارئ أو يفوزوا بإعجاب نخبة من القراء «الأرستقراطيين» الذين يجدون متعة في حل رموزهم واستكشاف صورهم. ولكن عالمهم الرمزي كان يقوم على كل حال على نوع من الاتفاق الضمني بينهم وبين القراء ويستغل مجموعةً مشتركة من الرموز والصور. أما الشاعر الحديث فهو يختلف عن ذلك؛ إن أسلوبه في الرمز يحول كل شيء إلى «علامة» على شيءٍ آخر، دون أن يُدخِل هذا الشيء الآخر في معنًى مقبول أو مفهوم أو متفق عليه من قبلُ، ولذلك فهو يخلق لنفسه رموزه الذاتية التي تظل بعيدة عن الفهم المحدود الذي اعتاد أن يربط الرمز بمعناه القديم المتوارث. على أن هذا كله ليس هو السبب الوحيد في غموض مالارميه؛ إنه يستمد شعره الغامض من الغموض «الأصلي» الذي يستقر في صميم الأشياء جميعًا، والذي لا يتكشف قليلًا إلا «في ليل الكتابة».
لقد عرفنا من قبلُ كيف كان ديدرو ونوفاليس وبودلير يطالبون بالشعر الغامض. ولكن هذا الشعر الغامض يعدُّ شيئًا متواضعًا إذا قيس بالغموض الذي وصل إليه شعر مالارميه. صحيح أنهم قد مهدوا الطريق، وأن رامبو سار عليه خطوات. ولكن مالارميه قد وصل فيه إلى الحد الذي لم يستطع معه شعراء القرن العشرين أن يسايروه فيه أو لم يريدوا ذلك ولم يحاولوه.
مثل هذا الشعر المعقَّد لا بد أن يثير الدعابة. ولقد أثارها في نفس مؤلفه الذي راح في «قصائد المناسبات» (ص٨١ وما بعدها) يتفكَّه على أصدقائه من الكتاب والشعراء والناشرين والموسيقيين. يروى من نوادره أن صحفيًّا استعجله في تسليم إحدى مخطوطات قصائده؛ فما كان منه إلا أن قال له: «انتظر حتى أضع فيها قليلًا من الغموض.» وسأله أحد زواره مرة عن معنى إحدى «سوناتاته» وهل تدل على الشفق أو الفجر أو المطلق، فأجابه بقوله: «لا، بل تدل على التسريحة.» (الكومودينو). هذه القدرة على السخرية من النفس لا تتأتى إلا لذوي العقول والقلوب الكبيرة، وهي تكشف بغير شك عن مكمن القوة في مثل هذا الشعر الغامض، تكشف عن حريته في اللعب وبعده عن غرور «الخالدين» وعلمه بأنه شيءٌ مؤقت.
ولكن هذا لا يقلل بالطبع من عزلته وانفراده.
(١١) شعر يوحي ولا يفهم
ليست اللغة في مثل هذا الشعر أداة للتفاهم والإفادة والتوصيل، لأن هذا يفترض وجود أساسٍ مشترك بين القائل والسامع، أو بين الكاتب والقاري. إن لغة مالارميه تعبر عن نفسها فحسب، ولذلك لم تضع القارئ في حسابها، أو لم تضع على أحسن الفروض في اعتبارها سوى عددٍ قليل من صفوة القراء.
إن القصيدة تغري القارئ أن يفهمها بطريقته. ليس هذا فحسب، بل إنها تستثيره ليكمل فعل الخلق الذي لم تتمه أو تركته ناقصًا عن عمد، إما لأنها تكره النهاية المستقرة الهادئة، أو لأن هذا ينافي طبيعة الشاعر والقارئ معًا.
هذه القصيدة التي تنطوي على طاقات وإمكانات لا نهاية لها لا يمكن أن يستجيب لها إلا القارئ الذي حركت طاقاته وإمكاناته في تفسير المعاني والدلالات المختلفة، وليس على هذا القارئ أن يفك رموز القصيدة وأسرارها، بل عليه أن يعايش الرمز والسر نفسه بحيث يحاول أن يكتنه معانيَ مختلفة ويستكشف دلالات قد لا تكون خطرت على بال الشاعر نفسه.
وسيأتي تلميذ مالارميه العظيم بول فاليري فيعبر عن هذا تعبيرًا أكمل وأجمل حيث يقول: «إن معنى أبياتي هو ذلك الذي يعطيه لها القارئ.» وهو نفس المعنى الذي سيعبر عنه شاعرٌ معاصر — سيأتي الكلام عنه في الفصل القادم — بقوله إن للقصيدة الواحدة من المعاني بقدر ما لها من القراء.
ويزيد مالارميه فكرته عن الإيحاء تحديدًا فيقول في موضعٍ آخر في رده على أسئلةٍ عديدة عن الحياة الأدبية وجهها إليه أحد الصحفيين — جول هوريه — ونشر إجابته عليها في جريدة «صدى باريس» (في سنة ١٨٩١م) إن الإيحاء هو الهدف من الأدب، وليس للأدب هدف سواه، أي الإيحاء بالأشياء لا تسميتها أو وصفها وصفًا مباشرًا؛ ذلك لأن تسمية الشيء تضيع على القارئ ثلاثة أرباع المتعة الأدبية، متعة التخمين والحدس التدريجي؛ الإيحاء بالشيء، هذا هو الهدف (ص٨٦٩). إن الأثر الذي يتركه هذا الإيحاء على القارئ هو الجسر الوحيد الذي لا يزال يمتد بين الشاعر الحديث وبين قارئه، ومع ذلك فلا يمكننا أن نتحدث عن نوع من الوحدة أو المشاركة بين الشاعر والقارئ، كما كان الحال مع الشعر القديم. قد يساعد الإيحاء على أن «يهتزَّ» القارئ مع القصيدة. وقد يصل القارئ إلى معرفة الموضوعات الأساسية التي يدور حولها شعر مالارميه ويسير معه إلى الحد الذي يستحيل معه تفسيرها.
ولكن المهم أنه لم يعد من الممكن أن تفرض هذه المعرفة على القارئ. إن غموض هذا الشعر وانعزاله لا يمكن أن يزولا بإرادة أحد، وسيبقى فيه من الغموض ما يوحي بالتساؤل ويثير الرغبة في التفسير بعد التفسير.
(١٢) النسق الأنطولوجي
(أ) الابتعاد عن الواقع
وقد فهمنا من القصائد التي ناقشناها في بداية هذا الفصل أن التجريد من الواقع أو نفي صفة الحضور عن الأشياء هو من أهم الظواهر أو الأفعال الأساسية في شعر مالارميه. ونستطيع أن نعده استمرارًا لنزعة الانفلات والبعد عن الواقع «الضيق» التي رأيناها في كتابات بودلير النظرية وفي شعر رامبو. كما نستطيع أيضًا أن نقول إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بروح العصر على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة (كغلبة النزعة العلمية التي هددت بطرد الأسرار من العالم، وسيطرة الروح التجارية على الطبقات البرجوازية الزاحفة، وظهور تياراتٍ جديدة في الأدب رأى الشعراء فيها تهديدًا لهم كالواقعية والطبيعية … إلخ). على أن الشيء الذي يميز مالارميه هو تعمقه لكل هذه الظواهر والأسباب وتأمله الطويل في موقف الشعر والشعراء والأدب بوجهٍ عام من طوفان العلم والتجارة والصحافة. ولذلك فليس غريبًا أن يكون التجريد من الواقع عنده نتيجة للتنافر بين الواقع واللغة، وأن يفهم هذا التنافر فهمًا أنطولوجيًّا.
ومن الصعب بل من المستحيل أن نجد عند شاعر من الشعراء نسقًا فلسفيًّا بمعنى النظام المرتب المتكامل التام من الأفكار، ومن الخطأ أيضًا أن نحاول البحث عنه. وكل ما سنجده هو مجموعة من الأفكار أو الأفعال الرئيسية التي نحاول نحن أن ننسقها لغرض الفهم والتقريب فحسب، لا لنجعل من صاحبها فيلسوفًا رغم أنفه! ولن يزيد ما سنجده في كتابات مالارميه النظرية عن بعض العبارات التي تفسر هدفه من الشعر والفن، وهو كما قلت الابتعاد عن الواقع أو تجريده. يقول مالارميه في بيتَين من إحدى قصائده:
وهو يقول في أحد أحاديثه التي ألقاها في أكسفورد (ص٦٤٢ وما بعدها) إن الطبيعة موجودة أمامنا، ولن نستطيع أن نضيف إليها سوى بعض الاختراعات المتصلة بحياتنا المادية كالمدن والسكك الحديدية، أما العمل الوحيد الذي يدل على الحرية الحقيقية فهو إدراك العلاقات الخفية المتعددة بفضل حالةٍ باطنية تمتد حسب تقديرها فوق العالم وتبسطه. هكذا تكون طبيعة الخلق: «إيجاد الكلمة التي تدل على شيء غير موجود» (ص٦٤٧).
وحذف الواقع الموضوعي أو استبعاده يرتبط بعمل المخيلة الخلاقة ويؤدي هذا إلى عملياتٍ مختلفة ومتعددة، منها على سبيل المثال استخدام المواد غير العضوية أو غير الطبيعية استخدامًا رمزيًّا. فنرى مثلًا — كما رأينا عند بودلير من قبلُ — كيف تصبح المعادن والجواهر النفيسة والأحجار الكريمة علامات ترمز للحياة العقلية والروحية التي تسمو على الطبيعة. من هنا نفهم دور هذه الأشياء في القصيدة الحوارية «هيرودياد» كرمزٍ معادل للمرحلة التي تريد هذه العذراء الغريبة أن تصل إليها وهي كما قدمنا مرحلة قتل الحياة الطبيعية والغريزية فيها.
تدور هذه الأبيات كما ترى حول الشمعة، ولكن الشيء المحدود يدخل في أفقٍ غير محدود من العلاقات الرمزية. فهناك البكاء والغربة والعقم أو الإحساس بالعبث والزوال، وكلها تكوِّن المضمون الحقيقي للأبيات. لقد انقطعت صلتها بالشمعة، وأصبحت ترتبط بالحالة الوجدانية التي تعيش فيها هذه العذراء التي تريد أن تميت جسدها وجمالها (وهو فعلٌ صوفيٌّ أصيل وقديم) كما ترتبط بالموضوعات الأساسية التي تشغل فكر مالارميه وأدبه.
(ب) المثالية، المطلق، العلم
تلتقي نزعة البعد عن الواقع بنزعةٍ أخرى إلى المثال. وقد يبدو مالارميه في بعض الأحيان في صورةٍ أفلاطونية. وقد تؤكد هذا بعض عباراته التي توحي لأول وهلة بأنه أفلاطونيٌّ صميم. فهو يقول مثلًا في إحدى قطعه النثرية التي سماها «ميداليات وشخصيات»: إن التغيير الإلهي، الذي يحيا الإنسان لتحقيقه، يسير من الواقع إلى المثال (ص٥٢٢). هذا الاتجاه من الواقع إلى المثال، أو من أسفل إلى أعلى، هو في حقيقته شيء غير أفلاطوني؛ فليس للمثال هنا أي وجود ميتافيزيقيٍّ مستقل، كما أن كل الأوصاف الإيجابية التي يصفها به تظل غامضة كل الغموض.
لا يمكننا أن نتتبع في هذا المجال كيف وصل مالارميه إلى فكرة العدم، ولا كيف تأثر فيها بالفلسفة الألمانية (هيجل وشيلنج وفشته) كما يُرجِّح بعض الدارسين، فقد يناسب ذلك بحثٌ آخرُ مستقل ولكننا سنقتصر على بعض الملاحظات التي تتصل بشعره قبل كل شيء. فالملاحظ أن مالارميه بدأ منذ سنة ١٨٦٥م يستخدم في قصائده كلمة «العدم» للتعبير عن نفس الموضوعات التي كان يعبر عنها في قصائده السابقة بكلمات مثل «زرقة السماء» أو «الحلم» أو «المثال». صحيح أن الشاعر حرٌّ في اختيار كلماته، ولكن تغير الكلمات هذا التغير الملحوظ يدل بغير شك على تغير في الموقف الفكري والفلسفي، وبخاصة إذا تذكرنا أن هناك كلماتٍ معدودة تتكرر في قاموس كل شاعرٍ كبير ويمكن أن تكون دليلًا على منحاه الفكري والنفسي.
والحق أنني لست متأكدًا من فهم النص، ومع هذا فسوف أعرض عليك ما فهمته منه. إنه يتكلم عن شخصيةٍ غريبة تتأرجح بين المطلق والعدم، والمطلق يدل على حالة من المثالية تلاشت منها كل «مصادفات» وأعراض العالم المادي والتجريبي. ولكن الخطوة التي تؤدي إلى المطلق تمر بالمحال أو العبث (لاحظ ورود هذه الكلمة المشهورة في أيامنا عند مالارميه) أي تمر بمرحلة تتخلى فيها هذه الشخصية عن كل ما هو طبيعي ومعتاد وحي. ولكن المطلق — الذي لم يسمِّه بهذا الاسم إلا لأنه يدل على «الانطلاق» والخلاص من كل صلة بالزمان والمكان والأشياء — هو العدم نفسه في نهاية الأمر.
يقول «إجيتور» في نهاية القسم الثاني تحت عنوان «يترك الغرفة ويضيع بين السلالم» (ص٤٣٩): «دقت ساعة الرحيل. سيحل نقاء المرآة، بغير هذه الشخصية، رؤية ذاتي، لكنه سيحمل النور معه! الليل! فوق الأثاث الفارغ، احتضر الحلم في هذه القنينة الزجاجية (التي تحمل السم!)، نقاء، يشتمل على جوهر العدم.»
إن «إجيتور» يحاول الفكاك من أسر الصدفة والخروج من ممر الزمن بماضيه وحاضره، والعودة إلى ذاته خلال النظر في المرآة، والوصول إلى المطلق واللامتناهي عن طريق التحرر من الصدفة. إنه يفعل كل ما يستطيع ليتحرر منها ويلغيها: يغلق الكتاب، يطفئ الشمعة، يضرب الزهر، يرقد على ذرات تراب الأجداد، يشبك ذراعيه على صدره. غير أن المطلق يتلاشى. ويتبين أن كل فعل يقوم به مع الصدفة فعل عقيم؛ لأنها توجد دائمًا ولا توجد، وتحتوي المحال أو العبث في حالة الكمون. ويهبط أخيرًا إلى المقابر على شاطئ البحر ومعه قنينة السم التي «تحتوي على قطرات العدم التي يفتقر البحر إليها.» ويرقد المسكين على تراب النجوم، ويلقي الزهر أمامه، وعندما يسكن يكون الزمن أيضًا قد توقف بكل ما فيه من حياة ومن موت، ولا يبقى في نهاية المطاف غير الفضاء الفارغ المطلق، أو العدم.
حرص مالارميه على ألا يغرق نفسه في تأملاتٍ نظرية عن العدم. وعلينا نحن أيضًا أن نتجنَّب ذلك ما أمكن، وإن كان هذا لا يمنعنا من التنويه بأهمية هذه الفكرة في شعره. وينبغي ألا يغيب عنا على كل حال أن هذه الفكرة السلبية، بل أشد الأفكار في سلبيتها، قد نفذت بكل هذه القوة إلى إحدى قمم الشعر الحديث، لكي ترسل بعد ذلك ضوءها المعتم على الشعر المعاصر كله.
ومع ذلك فينبغي علينا أن نحذر من الخطأ الذي يمكن أن نقع فيه لو تصورنا هذا العدم من الناحية الأخلاقية أو فهمناه كما فهمه نيتشه على أنه «فقدان كل القيم لقيمتها». إن فكرة العدم عند مالارميه فكرةٌ أنطولوجية تمتد جذورها بغير شك في الفلسفة المثالية. ولسنا في حاجة كما قدمت لأن ننسب للشاعر فلسفةً معينة، ولكن يمكن أن نقول بوجهٍ عام إن الشيء الذي يشغل مالارميه هو قصور الواقع وعجزه، والاعتقاد بقصور الواقع وعجزه لا يصدر إلا عن فكرٍ مثالي. فإذا كان المثال الذي يسعى إليه الشاعر ويقيس به الواقع من السمو والارتفاع بحيث لا يدركه التحديد بل يظل نوعًا من عدم التحدد الخالص فلا بد في هذه الحالة أن يسمى بالعدم. وقد رأينا شيئًا من هذا عند بودلير ووجدنا فيه تفسيرًا لضيقه بالواقع والعصر والمدينة. ولا بد أن مالارميه قد تأثر بفكرته عن المثالية الفارغة ففهم من العدم أنه قوةٌ عليا تقهر الروح وتسيطر عليها ولا بد أيضًا أنه تأثر بذلك القدر العام الذي خيم على الروح الحديث فجعل الأدباء والشعراء يقفون من العقيدة والتراث موقف المعارضة أو الرفض في معظم الأحيان، فلا يتركون المثال الأعلى أو المتعالي كما سميناه فارغًا أجوف فحسب (كما فعل بودلير ورامبو) بل يخطون خطوةً أبعد فيحيلونه (كما فعل مالارميه نفسه) إلى عدمٍ خالص.
إن عدمية مالارميه تعبر عن مطلبٍ طبيعي للعقل الحديث الذي يستبعد كل المعطيات لكي يطلق العنان لحريته الخلَّاقة. إنها عدميةٌ مثالية تنبع من تصميمٍ هائل على التجريد، ورغبة في اعتبار المطلق جوهر الوجود الخالص (من كل المضمونات). ولو أن الأمر اقتصر على هذا لقلنا فلسفة كسائر الفلسفات. ولكن مالارميه حاول أن يقرِّب الأدب منها، ويجعل العدم حاضرًا في اللغة نفسها، بقدر ما تسمح بذلك قدرته على تجريد الواقع أو تحطيمه واستبعاده.
المهم بعد هذا كله أنه لم يقدم لنا مجموعة من الأفكار النظرية التي يمكن الحصول عليها — وربما بشكلٍ أدقَّ وأكمل — في أي كتابٍ فلسفي، بل عبر عنها في شعر استطاع أن يحافظ على روحه الخالدة، ويُبقي على خصائصه المميزة من غنائية وسحر وغموض وإيحاء.
(ﺟ) العدم واللغة
كيف استطاع مالارميه أن يحل هذه المشكلة؟
كيف أمكنه أن يعبر عن العدم بالكلمة؟
الواقع أن المشكلة الأنطولوجية الأساسية عنده تنصبُّ على العلاقة بين العدم واللغة، وهي في نفس الوقت مشكلته كشاعر. وإجاباته عليها تحمل آثارًا من فكرة اللوجوس (الكلمة، المعنى، الكل) عند الإغريق وان كانت مع ذلك لا تدل على أنه تأثر بهم بصورةٍ مباشرة، وليس ببعيد — لمن يعرف شخصيته ومزاجه وأسلوب تفكيره — أن يكون قد فكر في المشكلة تفكيرًا مستقلًّا. وليس ببعيد أيضًا أن يكون قد تأثر — عن وعي أو غير وعي — بنظرية الرومانتيكيين في اللغة فسار بها إلى غايتها، دون أن يدري أن هذه النظرية تحمل أصداء بعيدة من التفكير اليوناني. مهما يكن من شيء فإننا نجده يكتب هذه العبارات في إحدى رسائله سنة ١٨٦٧م: «أنا الآن غير شخصي. لم أعد أنا ستيفان الذي عرفته، بل استحلت إلى قدرة من قدرات العالم العقلي على رؤية نفسي وتفتيح طاقاتي وذلك عن طريق ما كانته ذاتي. لا زال في وسعي أن أنهض «بالتفتحات» التي لا بد منها حتمًا لأجل أن يجد العالم ذاتيته أو هويته في هذه الأنا.»
ومع أن هذه العبارات قد صيغت صياغةً معقدة غير موفقة، فليس من الصعب أن نستشف معناها على وجه التقريب. يريد مالارميه أن يقول إن هناك «أنا» أو «ذاتًا» أخرى قد حلَّت محل الأنا أو الذات التجريبية التي كان يعرفها في نفسه ويعرفها أصدقاؤه عنه. وهذه الأنا «غير شخصية»، وهي المكان الذي يحقق فيه العالم أو الكون «ذاتيته العقلية» والروحية، أو بمعنًى آخر يصل إلى الوعي بنفسه.
ولنقرأ أيضًا هذه العبارة التي كتبها في سنة ١٨٩٥م: «إن جنسنا البشري قد وكل إليه شرف أن يعطي للخوف الذي تحس به الأبدية الميتافيزيقية المغلقة تجاه نفسها — والذي تحس به بطريقةٍ تختلف عن إحساس الوعي الإنساني به — أن يعطي لهذا الخوف أحشاء» (ص٣٩١).
هذه العبارة المزدحمة بالصور الغامضة تكمل العبارات التي وردت في رسالته السابقة. وكلاهما يدور حول فكرةٍ واحدة هي أن الموجود المطلق يتحقق في الإنسان باعتباره عقلًا أي باعتباره لغة أو كائنًا لغويًّا قبل كل شيء، بحيث يولد هذا المطلق في اللغة لا في أي مكانٍ آخر. إن المطلق، أو العدم بتعبير مالارميه، يدعو اللغة — أو الكلمة اللوجوس — لكي يظهر فيها بصورته الخالصة، ولكي تكون المجال الوحيد الذي يتحقق فيه.
هذه الفكرة توضح كثيرًا من الألغاز التي تُحيِّرنا في أدب مالارميه، وفي مقدمتها تجريد الأشياء أو إحالة كل ما هو واقع إلى «الغياب»، أي التعبير عن الموجود الحاضر كما لو كان غائبًا، على نحو ما بينَّا في بداية هذا الفصل. هذه الظاهرة التي نلاحظها دائمًا لديه ليست مجرد إدانة للواقع. إنها فعل ينبغي أن يفهم من الناحية الأنطولوجية؛ إذ تستطيع اللغة عن طريقه أن تحيل الشيء إلى «الغياب»، وأن تجعل هذا الغياب معادلًا للمطلق (أو للعدم)، وتحقق الحضور الخالص (من كل صفات الشيئية والمادية) في الكلمة. أي أن ما يلغى ويتحطم من الناحية الموضوعية والواقعية عن طريق اللغة (وذلك عندما تعبر عن بعده أو غيابه أو عدمه، يعود فيتلقى من هذه اللغة نفسها وجوده العقلي، وذلك عندما تسميه).
هكذا يتأكد سلطان الكلمة في الأدب الحديث كما تتأكد قوة الخيال غير المحدود على أسسٍ أنطولوجية. فالكلمة هي الفعل الخلاق للروح الخالص، ومن تمام حريتها ألا تقيم وزنًا للواقع التجريبي، بل تترك لحركاتها الخالصة التي توجهها كيف تشاء أن تبعث إيقاعاتها وإيحاءاتها.
ولعل من أهم ما يتميز به مالارميه أنه لم يفهم هذه الحركات فهمًا ذاتيًّا، بل نظر إليها كأحداث أو أفعال أنطولوجية تحمل ضرورتها في ذاتها. وعلى الرغم من ذلك نجده يسمي «العقل المطلق» مخيلة، كما يسميه حلمًا، وقد استُعملت الكلمتان من قبلُ للدلالة على حرية الخلق، والواقع أن ظهور الكلمتَين عنده يفيدنا فائدةً كبيرة، إذ يمكننا من تتبع الطريق الطويل الذي سارت فيه كلمة المخيلة (أو الخيال الخلاق) منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى تسلمها القرن العشرون، ويستطيع القارئ أن يراجع ما قلناه عنها عند الكلام عن روسو وديدرو وبودلير ورامبو، ليرى كيف اتفقوا على أنها قوة تسمو على الواقع، لا بل ذهبوا إلى القول بأنها ملكةٌ دكتاتوريةٌ طاغية.
لم يقف مالارميه عند هذا الحد بل ارتفع بالمخيلة إلى مستوًى أعلى، أصبحت هي المكان الذي يتحقق فيه الوجود العقلي للموجود المطلق؛ بهذا تكون فكرة المخيلة قد تطورت تطورًا طبيعيًّا حتى صارت إلى ما هي عليه عند مالارميه. وإذا دل هذا على شيء فهو يدل على وحدة البناء التي طالما أشرنا إليها في الشعر الحديث وفي «فن الشعر» الحديث على السواء.
وفكرة مالارميه عن المخيلة تُبرِّر من ناحيةٍ أخرى أهم خصائص شعره، ألا وهو تحطيم الواقع. ويبدو أنه قد فطن إلى هذه الخاصية الأساسية قبل أن يجد الأساس الأنطولوجي الذي يفسرها. فهو يقول في رسالة له سنة ١٨٦٧م إنه لم يستطع أن يخلق أعماله إلا بالحذف أو الاستبعاد، وإنه قد تعمق باستمرار في تجربة «الظلمات المطلقة». ثم يقول مشيرًا إلى بياتريش حبيبة دانتي الخالدة: « أصبح التحطيم عندي هو بياتريش.»
وهل تتجلى فاعلية اللغة بأقصى طاقتها إلا في الأدب؟
ها هي ذي عبارةٌ أخرى توضح ما نقصده: «ما الفائدة إذن من تحويل واقعة من الوقائع الطبيعية إلى ما يشبه أن يكون تلاشيها التام عن طريق اللعب باللغة، إن لم تخرج من ذلك — بغير أن يزعجها القرب الوثيق — الفكرة الخالصة كما تنبثق الزهرة، أقول زهرة، فترتفع بالنغم فكرةٌ حلوةٌ معطرة، تفتقر إليها كل الباقات» (ص٣٦٨).
ونحسب الآن أن هذه العبارات لم تعد في حاجة إلى تفسير. فها هو ذا الشاعر يفسر الأدب مرةً أخرى كإلغاء للشيء، أو حذف للواقع، ثم يكمل هذه الفكرة بأن هذا الإلغاء أو الحذف لا يتم إلا لأن الشيء ينبغي أن يتحول في اللغة أو في الكلمة إلى فكرةٍ خالصة أو ماهيةٍ عقلية. ولكن هذه الفكرة لا توجد أبدًا إلا في الكلمة الشاعرة؛ ولهذا يقول إن الزهرة تفتقر إليها كل الباقات.
بهذا يصبح الأدب فعلًا وحيدًا يشعُّ بأحلامه وألعابه وأنغامه السحرية في عالمٍ محطمٍ منهار. ويصبح ما يقوله في النهاية مجموعة من التوترات والاهتزازات والأشكال المجردة التي توحي بمعانيَ مختلفة لا حدَّ لها.
(د) أظافرها الناصعة
كتب مالارميه الصيغة الأولى للقصيدة في سنة ١٨٦٨م وكانت كلماتها تختلف عن الصيغة التي بين أيدينا اختلافًا كبيرًا (راجع صفحة ١٤٨٨ من الطبعة الكاملة)، وإن شابهتها تمامًا من ناحية الفكرة والموضوع. وقد استقبلت القصيدة لأول مرة أسوأ استقبال، وأعلن أصدقاء الشاعر الذين تناقلوها فيما بينهم (إذ لم تنشر إلا في سنة ١٨٨٧م) يأسهم التام من فهمها ودهشتهم لغرابة قافيتها، وإن أبدى بعضهم إعجابه بالشاعر الذي يشرفه أن يتحدى أذواق الجماهير! مهما يكن من شيء فقد عمد مالارميه — على غير عادته — إلى التعليق على هذه القصيدة — أو على صيغتها الأولى — في خطاب أرسله في يوليو سنة ١٨٦٨م إلى صديقه هنري كازاليس وقال فيه:
من الصعب كما أكدت مرارًا أن نقدر هذا الشعر في غير لغته الأصلية. فالقصيدة تحيا على انعكاس الكلمات بعضها على بعض، ونتابع حركتها وفقًا للأنغام ورنين الأصوات لا للمعنى. والقوافي في الأصل لها سحرٌ غريبٌ نافذ، ينبع من صوتها وندرتها؛ ولذلك تفقدها الترجمة أو أي ترجمةٍ أخرى أهم ما يميزها، وهو الروح الموسيقية. وهناك كلماتٌ يونانية غريبة الأصل، لم يضعها الشاعر ليضفي على قصيدته لونًا محليًّا أو ليباهي بعلمه، بل ليزود النص بطاقةٍ لغوية تثير الغرابة (وترى هذه الكلمات في هامش الترجمة).
ماذا تقول القصيدة؟ هل نستطيع أن نجد لها معنًى؟ هل نتبين فيها حدثًا أو فعلًا؟
ثم نفاجأ ببيتَين غريبَين وضعهما الشاعر بين قوسَين يقولان إن المعلم قد ذهب ليجلب الدموع من نهر في العالم السفلي، وإنه قد حمل معه هذا الشيء الفريد الذي يفاخر به العدم أو يشرف به.
ولكن من هو هذا المعلم؟ وأي مجد هذا الذي يفاخر به العدم؟ إن العدم يبلغ المجد عن طريق هذا الشيء المطموس الذي لا يوجد إلا في الكلمة التي تسميه. أي أنه لا يوجد وجودًا «ماديًّا» وإنما يكون وجوده الخالص النقي في اللغة وحدها.
وفي النهاية نسمع أن لألأة النجوم «سرعان» ما تسكن أو تهدأ ونلمح من هذا أن الزمن الذي كان أقرب إلى السكون في المقطوعتَين الأوليَين، سينتقل إلى حالة «اللازمانية أو الأبدية» أو المطلق؛ أي أنه «سيكون» في المستقبل. والسر في هذا أن القصيدة لا تستطيع أو لا تريد أن تقترب من المطلق إلا في صيغة المستقبل أو الافتراض والاحتمال، كما لم تستطع أو لم ترد أن تقرب من الغياب (أو العدم) إلا عن طريق الرمز. ولو أنها حاولت أن تنقل المطلق (اللازمانية واللاشيئية) إليها لما أمكن على الإطلاق أن توجد كقصيدة، ولأصبحت لحظة صمت أو بقعة بيضاء فارغة (وخواطر مالارميه مليئة بحبه العميق للبياض والورق الأبيض الناصع الذي كان لا يمل النظر فيه ساعاتٍ طويلة!). إن اللغة تقف عند الحد الأخير الذي تستطيع فيه — عن طريق طمس الأشياء — أن تخلق بالكلمة النافية السالبة ذلك المجال الذي يمكن أن يدخله العدم. ودخول العدم يصحبه الخوف والقلق (الذي يسيطر على القصيدة كلها كما قدمنا). هذا القلق هو الذي ينتشر ويغرق الأشياء القليلة الباقية، ويجعلها مخيفة ورهيبة، بل يزيد من خوفها ورهبتها أن كل ما يجاورها من أشياء قد غاب وانطمس وسقط في لجة الظلام والعدم. كل هذا من عمل اللغة. وما يحدث في عالم اللغة لا يمكن أن يحدث في أي عالم واقعي.
(١٣) النشاز في شعر مالارميه
حاولنا في السطور السابقة أن نقدم هذا الشاعر العسير في ثوبٍ متجانس ما أمكن. وهذه المحاولة شيء يلجأ الدارس إليه بالضرورة، حتى ولو خالفت الواقع الأدبي والفكري الذي يعالجه. والحقيقة التي لا يمكن أن تغير منها الدراسة هي أنه شاعرٌ صعبٌ معقد، لغته مليئة بالغرائب والألغاز. هناك صدع يشق بناءه الفكري كله، وهو نفس الصدع الذي لاحظناه من قبلُ عند بودلير ورامبو بين اللغة والمثال، والإرادة والقدرة، والطموح والغاية. ولكن مالارميه يزيد هذا الصدع عمقًا حين يبرره تبريرًا أنطولوجيًّا. ومع ذلك فليس هذا الصدع سوى وجه من وجوه الظاهرة التي لاحظناها في الشعر الحديث كله ووصفناها بالنشاز الذي يسيطر على بنائه. ولعل الفارق الذي يميز مالارميه عن الشعراء الذين سبقوه هو أن هذا النشاز قد أصبح عنده، إن صح هذا التعبير، نشازًا أنطولوجيًّا.
لننظر في هذا الكلام، كما فعلنا من قبل وكما ينبغي أن يفعل الدارس دائمًا على ضوء بعض النصوص. هناك كلمات تتردد كثيرًا عند كل شاعر، وتدل إذا أحسنَّا النظر فيها على عالمه الشعري والنفسي والفكري. من هذه الكلمات عند شاعرنا: الصخرة، الغرق، السقوط، الليل، العبث والزوال … إلخ. وكلها مفاتيح لتجربةٍ كبيرةٍ واحدة هي تجربة الفشل والخيبة (بشرط ألا نفهمها فهمًا نفسيًّا أو ذاتيًّا بل فهمًا فلسفيًّا وأنطولوجيًّا يرمز إلى العجز عن الوصول إلى المثال والمطلق، والسعي إلى بديله الوحيد وهو العدم الذي يحاول الشاعر أن يظهره في مجاله الوحيد وهو اللغة).
غير أن الفشل لا يظهر في الكلمات وحدها؛ إنه يعبر عن نفسه أيضًا في الحدث الرمزي للقصيدة كلها. وهذا الفشل على نوعين: فشل اللغة تجاه المطلق (ونستطيع أن نسميه تجاوزًا الفشل الذاتي)، وفشل المطلق تجاه اللغة (ونستطيع أن نسميه الفشل الموضوعي).
ولعل تفسير هذه العبارات الغامضة هو أن المثالية التي يريد الأديب أن يحققها في عمله تظهر ما في اللغة من عجز وقصور وانحطاط؛ تمنع تحقيق ذلك المثال الأسمى.
الهدف يلوح للمسافر وعليه أن يجاهد ليقترب منه. إنه يحمل معه مجد الشوق القديم، وأفكارًا، وكل شيء فيه يلتهب رغبة في أن يعرف كيف ستستطيع «عائلة الزنابق أن تنهض بالواجب الجديد»، لا بد أن يواصل جهاده (ضد المادة والواقع والأشياء، وضد الكلمات والألفاظ المثقلة أيضًا) ولا بد أن تستمر «روح الشقاق» التي تسكن هذه القصيدة، أي يستمر الصراع بين الإرادة والهدف، والطموح والغاية، وأن يعرف الشاعر في مرارة أن «تلك الأرض موجودة» (أي أرض المثال أو جزيرة الجمال) وأن قدر الشعر والشاعر معًا أن يجرِّبا الارتفاع إليها والبحث عنها، ويجرِّبا كذلك الفشل في بلوغها. وليس هذا بالفشل المطلق؛ فيكفي أنه يدل على وجود المثال.
نخرج من هذا كله بأن مالارميه يسير في نفس الخط الذي سار فيه بودلير، وإن كان يزيد عليه أنه يكمل ما بدأه «أبو الشعر الحديث» ويدعمه على أساسٍ أنطولوجي. ويتجلى هذا بصورةٍ أتم فيما سميناه «بنزعة التجرد من البشرية» أو طرح «البشرية» التي قلنا فيما سبق إنها من أهم ظواهر الشعر الحديث.
ويبدو أن مالارميه قد سار هنا خطوةً أوسع بكثير من بودلير ورامبو، ووصل بهذه الظاهرة إلى أقصى مدًى ممكن. فهو — أي مالارميه — قد نقل مصدر الشعر والفكر من الإنسان إلى الوجود المطلق نفسه، ولذلك فقد كان عليه أيضًا أن يعتبر أن النشاز الكامن في الروح والفكر والشعر الحديث — وقد تكلمنا عنه فيما تقدم — ليس من صفات الإنسان فحسب، بل كذلك من صفات الوجود المطلق نفسه. ولا بد أن تكون النتيجة مخيفة وهائلة. ولا بد أن تكون صدمة الفشل رهيبة ومفجعة — بل أشد رهبة وهولًا مما كانت عليه في أي وقت مضى. فبعد أن كان الاتصال بالمثال أو المتعالي ممكنًا (عند من سبقوه من الشعراء بل عنده أيضًا في مراحله المبكرة) أصبح هذا الاتصال الآن بين الإنسان والمثال مستحيلًا. وليست اللغة وحدها هي العاجزة عن تحقيق المطلق فيها، بل إن المطلق نفسه — وهذا هو الجديد المخيف كما قدمت — عاجز عن الاستجابة لنداء اللغة. والنتيجة المحتومة هي أن يخضع قطبا التجربة (اللغة والمطلق) لقانون الخيبة والفشل. صحيح أن الشعر أو الأدب والفن بوجه عام يظل هو أعلى الإمكانيات في هذه التجربة، ولكن الصدع أو النشاز الأنطولوجي سيبلغ قمته وسيصب على اللغة أقصى قدر من مرارة الفشل والشقاء. هل معنى هذا أن فشل اللغة والأدب فشلٌ مطلق؟ بالطبع لا. ولكنها — إن سمح القاري بهذه المفارقة — ستنجح عن طريق الكلمة في شيءٍ واحد، هو التعبير عن الفشل في تحقيق الاتصال بين الإنسان والمثال. ولعل عبقرية مالارميه تكمن في أنه عبر عنه بأسلوبٍ هادئ وصوتٍ هامسٍ مكتوم.
في هذه القصيدة حدثان، أحدهما مادي والآخر عقلي. أما الأول فهو في منتهى البساطة: مروحة في يد فتاةٍ رقيقة، والمروحة تفتح ثم تطوى. هذا الحدث البسيط يتفق تمام الاتفاق مع حدثٍ عقلي أو روحيٍّ آخر، بل يكاد يرمز له. فالمروحة تجسد الرغبة الضالة (بلا طريق) في الارتفاع إلى أعلى، أي إلى المثال البعيد غير المحدود. غير أن «الفضاء» — الذي يقوم مقام هذا المثال — يرتعش كالقبلة الكبيرة التي جُنَّ جنونها إذ ولدت فلم تجد أحدًا يتلقاها، فلا هي تستطيع أن تنبثق ولا هي قادرة على أن تهدأ أو تستريح. القبلة إذن تقاسي من العزلة، وكذلك المطلق معزول، لأن «قبلته» لا تجد العقل أو الروح الذي يتلقاها. لذلك تُطوى المروحة أي تخيب الرغبة المتطلعة للمثال، فتنطوي على نفسها، ولا يبقى منها غير «الابتسامة المدفونة»، أي الوعي بالفشل المزدوج. هل ضاع كل شيء؟ لن يبقى شيءٌ واحد: شواطئُ ورديةٌ راقدة على ذهب الأمسيات، أي ذلك البريق الذي يشعه المطلق. يبقى من ناحيتين؛ فهو لا يتقدم للأمام ولا يصبح ضوءًا كاملًا، ولكنه يبقى في الكلمة التي تخلده، الكلمة التي جربت عبثًا أن تعانق المستحيل. الكلمة إذن عاجزة، ولكن العدم يستطيع — على الرغم من عجزها ومن عزلته — أن يجد فيها مكانًا يحلُّ فيه. والمقطوعة الأخيرة تعبر عن هذا بطريقتها الرمزية حين تقول: «إنه هو، الرفيف الأبيض المطوي، الذي تسندينه على نار أسورة.» ولا بد أن القارئ قد أحس بروح الكآبة والاستسلام والمرارة التي تسري في هذه القصيدة المعتمة الجميلة!
أما القصيدة الثانية فهي «أغنية صغيرة»، يعطيها الشاعر رقم «٢» (ص٦٦). ويصعب ترجمتها ترجمةً مفهومة، لأنها تخالف بناء العبارة في اللغة الفرنسية، وتقدم الحال والفعل والإضافة على الفاعل، ربما لتشعر القارئ بأنها بهذه الإطالة تريد أن تؤخر الحقيقة التي تنطق بها لتزيد من أهميتها، ولنحاول أن نقدم الأغنية في ثوبٍ نثرى يقرب معناها فهي تحكي عن صوتٍ غريبٍ جامح، دوى في الغابة الصغيرة في «غضب وسكون» وضاع في الأعالي، بينما راح يلاحقه بالأمل والرجاء. لم يتبع الصوت أي صدًى، فهو صوت طائر لا يُتاح للإنسان أن يسمعه مرتين في حياته. هذا الموسيقيُّ القاسي (الطائر) يشهق شهقةً معذبة، ولكنها تتلاشى مع الشك فيما إذا كانت تنبعث من صدره أو من صدر الشاعر. وأخيرًا يسقط الطائر ممزقًا على أحد الدروب!
ويبدو من القراءة الأولى للأغنية الصغيرة أنها تعبر عن تجربةٍ مؤلمة فشل فيها الشاعر — الذي يتحدث فيها بضمير الأنا — في تحقيق مثلٍ أعلى، ولكن القراءة الثانية ستكشف عن نجاحه في التعبير عن فعلٍ أنطولوجي وتوفيقه في خلق الصورة الملائمة له.
فالصوت الجامح يتردد من الأعالي في نغمةٍ معذبةٍ هادئة، لكي يقهر بعد ذلك ويضيع. وهو يتردد في نفس اللحظة التي يتطلع فيها «أملى إليه» (أي نزوعي إلى المطلق). إنه صوت طائر لا يسمعه الإنسان في حياته مرتين، أي صوت المطلق. غير أنه يصمت ولا يصل إلى السامع، على الرغم من إلحاحه ودويِّه المجنون. فهو إذن — أي المطلق — منعزل وبعيد، مهما صدر عنه من إشارات أو إشعاعات أشبه بالفنارة الغارقة في ظلمات الليل والبحر. ثم تند شهقة لا نعلم مصدرها، وتتلاشى في غمرة الشك. أتكون قد انبعثت من صدري لأنني لم أسمع صوت الطائر (المطلق) أم انبعثت من صدر المطلق لأن صوته لم يصل إليَّ؟
وتنتهي تجربة الفشل المضاعف بسقوط الطائر ممزقًا على الدرب.
والتعبير في القصيدة يتعمد الابتعاد عن القطع واليقين، ويترك القارئ في حالة الشك والشعور بأن كل شيء محتمل وليس بواقعٍ أكيد. وكأن الشاعر يتجنب العبارة المحددة ويتعمد أن توحي رموزه بمعانيَ متعددة، بعد أن وصل إلى أقصى حدود التجربة الوجودية واللغوية معًا. قد يكون هذا فشلًا آخر، ولكنه فشلٌ مقصود: إن الشاعر لا يريد لمأساة الوجود والعدم أن تنسى أو تستهلك عن طريق الكلمة الثابتة أو الفهم المحدد، ولهذا فهو يحميها بالأغنية الهامسة اللماحة من ذلك المصير.
وتكاد هذه العبارة أن تكون حدسيًّا بالحالة التي آل إليها الشعر الحديث من أيام بودلير إلى اليوم. وهي تصدق على شعر مالارميه أكثر من أي شاعرٍ سواه، مع فارقٍ واحد وهو أن «شهوة الأنا أو طغيانها» قد أخلت مكانها في شعره لنوع من استقلال العقل أو تجرد الروح حاول أن يُبرِّره تبريرًا أنطولوجيًّا. وقد تختلف الآراء حول هذا التبرير وهل أفاد شاعريته أو أضرَّ بها، ولكن لا خلاف في أن هذا الرجل الهادئ المتواضع الذي تفانى في إخلاصه لفنِّه كان في غاية الأمانة حين تقبل الموقف السلبي الذي قدر على الشعر الحديث، وفكر فيه إلى آخر الشوط، ووفق إلى حدٍّ كبير في التعبير عنه، ومن الطبيعي أن يكون شعره غامضًا مظلمًا، ولكن اتساقه مع نفسه يكفل له حق البقاء. وسيظل هناك دائمًا من يعجب بجمال شعره وصفائه وسحر موسيقاه (التي تعجز للأسف كل الترجمات عن القرب منها).
(١٤) سحر اللغة وكيمياء الكلمة
يبدو أن كلمة رامبو هذه قد تركت تأثيرها القوي على مالارميه؛ فقد اهتم اهتمامًا كبيرًا بالكتابات السحرية، بل يقال إنه قرأ كتابات الأسرار المأثورة عن العصر اليوناني المتأخر والمنسوبة إلى هرميس مثلت القوة (هرميس ترسمجيستوس) بشغفٍ كبير، وشجع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية رتراسل مع مترجمها ميشليه. ولا بد أنه فطن إلى تأثيرها على الشعر إذ يقول في فقرة بعنوان «سحر» ضمن كتاباته النثرية: «إن هناك قرابةً خفية بين الطقوس القديمة وبين السحر الكامن في الشعر.» ولذلك فإن الشعر عنده إهابة أو (تعزيم، تعويذ) بالأشياء المتكتمة في غموضٍ مقصود عن طريق الكلمات اللماحة غير المباشرة، أما الشاعر فهو «ساحر الحروف» (ص٣٩٩) وأما أسلافنا فقد كانوا كيمائيين (بالمعنى القديم المعروف عنهم في العصور الوسطى كما تقدم).
ولا يعني هذا بالطبع أن مالارميه كان يمارس طقوس السحر أو ينتمي للجمعيات السرية، ولكنه يعني أنه كان مقتنعًا بالصلة العريقة بين الشعر والسحر.
(١٥) الشعر الخالص
شرط النقاء أو الخلاص الشعري إذن هو التجرد من الأشياء أو نفيها وإلغاؤها على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن كل خصائص الشعر الحديث التي تعرضنا لها تتجمع في هذه الفكرة كما استخدمها مالارميه وسلمها للأجيال التالية. فهي تعني إهمال مواد التجربة اليومية والمضمونات التعليمية أو الهادفة، وصرف النظر عن الحقائق العملية والمشاعر العادية، ونشوة القلب أو التطرف في الانفعال. وعندما يخلو الشعر من كل هذه العناصر يصبح قادرًا على الإيحاء والسحر اللغوي الذي تحدثنا عنه. بهذا تستطيع الطاقات اللغوية — التي تكمن بعيدًا عن وظيفة التفاهم والتواصل اليومية للغة، أو تحتها وفوقها إن شئت — أن تجرب وتجرب، وتوفق إلى النغم المؤثر المتجرد من المعنى الذي يحيل بيت الشعر إلى «تعويذةٍ سحرية» ويضفي عليه قوَّتها وتأثيرها.
ونستطيع أن نقول إن هذا الشعر الخالص لا يصدق على شعر مالارميه وحده، بل يتعداه إلى كل شعرٍ — قديم أو حديث — لا يقصد إلى إثارة الإحساس أو التعبير عن أفكار ومضمونات، بقدر ما يريد أن يكون «لعبًا» تمارسه اللغة والخيال.
(١٦) الخيال المتسلط، التجريد والنظرة المطلقة
تكلمنا في الفصول السابقة عن الخيال المتسلط أو الدكتاتوري. وهذا الخيال يظهر أيضًا في شعر مالارميه لتحل صوره محل الواقع الذي لم يعد يهمه أن يصفه ولا أن يعرف نظامه الموضوعي. إنه يعمل بشكل أكثر هدوءًا وهمسًا مما كان عليه عند رامبو، ولكن هذا العمل الهادئ الهامس له وزن الفعل القائم على أساسٍ أنطولوجي، كما تظهر فكرة التجريد ضمن الأفكار التي يوحي بها، على نحو ما رأينا عند كل من بودلير ورامبو. إن الخيال بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة يوازي التجريد، تؤكد هذا عبارة ترد في معرض كلامه عن ريتشارد فاجنر إذ يقول إن الروح الفرنسية — التي تكره حكايات الخوارق والأبطال — روحٌ خيالية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ومجردة، أي شاعرية (ص٥٤٤) والشاعرية هنا مقصورة بالمعنى الذي فهمه الإغريق عن الشعر من أنه صنعة وإنتاج. وبجانب هذه الفكرة نجد فكرةً أخرى عن النظرة المطلقة التي يشرح مالارميه معناها في مقاله عن «الباليهات» (ص٣٠٣–٣٠٧) بقوله: «ليست الراقصة امرأةً ترقص، بل هي استعارة تحتوي في ذاتها على صورة أولية من صور كياننا؛ سيف، أو كأس، أو زهرة … إلخ. وهي لا ترقص، بل توحي بكتابة جسمها بشيء لا يستطيع النص أن يؤديه إلا بطريقة ملتوية» (ص٣٠٤).
الرقص إذن تجسيمٌ بصري للفكرة، أي أن الذي ينظر إلى الراقصة يرى من خلال مظهرها المادي صورةً أولية من صور الوجود الإنساني، وهذا يأتي من «نظرة غير شخصية براقة، مطلقة» (ص٣٠٦). قد يخيل إلينا أننا نلمس في هذا كله مسحةً أفلاطونية، ولكننا لا نلبث أن نقرأ هذه السطور في نهاية المقال: «تقدِّم إليك الراقصة، من خلال النقاب الأخير الذي يبقى دائمًا، عري (أو صفاء) أفكارك وتسجل رؤيتك في صمت، في صورة رمز (أو علامة) هي الراقصة نفسها» (ص٣٠٧).
لا نلبث كما قلت أن نتبين أن الفكرة غير أفلاطونية. فالذي ينظر لا يرى حقائقَ موضوعيةً ثابتة أو نماذجَ أوليةً خالدة — كما هو الحال مع المثل عند أفلاطون — بل يرى صورًا أولية من عقله أو ذاته هو يسقطها على الظاهرة التي يراها ليحوِّلها إلى علامات أو رموز تدل على ذاته وكيانه هو. ولا يتم هذا إلا «بنظرةٍ مطلقة» تستطيع أن تنفذ في الظاهرة — دون أن تتحول مع ذلك عن ذاتها — لترى فيها رموزًا على حركتها وجوهرها الباطن. ومن هنا يُعدُّ مقال «الباليه» أقوى دفاع عن فعل الخلق الحر المطلق من كل قيد، كما يصلح تعبير «النظرة المطلقة» أن يكون شعارًا يصدق على الشعر المجرد عند مالارميه وأتباعه، بل يصدق كذلك على الرسم الحديث الذي يصرف النظر عن الموضوعات الخارجية ليستبدل بها بناءً متشابكًا من الخطوط والأشكال والألوان.
إذا طبقنا هذا الكلام على شعر مالارميه وجدناه يقلب نظام العالم الخارجي، ويجرد الظواهر والأشياء من النسق المألوف في الزمان والمكان. وهو في هذا قريب من شعر رامبو، وإن اختلف الأساس الفلسفي عندهما اختلافًا شديدًا. ويمكن أن نمثل لهذا ببعض إنتاجه …
فأحد مقالاته (والمقالات أيضًا أدب!) بعنوان «اللذة المقدسة» يبدأ بعبارات لا يمكن أن نفهمها بالمقاييس العادية إلا إذا ترجمناها على النحو التالي: «في الخريف يعود سكان باريس من الصيد ويذهبون إلى المسرح، ويسلمون أنفسهم لسحر الموسيقى.» فإذا نظرنا إلى النص الأصلي (٣٨٨) وجدناه يقول: «الريح تدفع الناس للعودة من الأفق إلى المدينة عندما يرتفع الستار عن روعة الخريف المهجورة. رفيف لعب الأصابع، الذي تهدأ منه أوراق (الشجر)، ينعكس عندئذٍ في حوض الأوركسترا المتهيئ (للعزف).»
ويلاحَظ أن هذه العبارة لا تتكلم عن الخريف إلا في صورة استعارة غير مباشرة، أي عندما يكون الكلام عن المسرح (الستار) وقائد الأوركسترا (لعب الأصابع) وبذلك يلتقي الخريف والمسرح في وحدةٍ واحدة تزيد بالطبع عن كونها مجرد استعارة. كما أن تقديم التفاصيل الجزئية على الكل والأمور العرضية على الجوهر تعد من ناحيةٍ أخرى إحدى خصائص الأسلوب اللاواقعي الذي سيكون له صداه الكبير في شعر القرن العشرين. انظر مثلًا إلى هذا البيت — من إحدى قصائده المبكرة — الذي يصف فيه ملاكًا يحمل سيفًا عاريًا بقوله: «ملاك يقف في عُري سيفه» (ص٢٨). فيصف الملاك بما يميز السيف. أو حين يتكلم عن مجموعة من الراقصات فلا يذكر أشكالهن بل «شحوب الموسلين (نوع من القماش) العابر، الذي تبرز منه ابتسامة وذراع مفتوحة في حركةٍ ثقيلة كحركة الدب» (ص٢٧٦). فالراقصات يظهرن من خلال صفةٍ جزئيةٍ واحدة ضمنت فيها صفةٌ جزئيةٌ أخرى من كائنٍ آخر يصعب علينا أن نتبين المقصود به في النهاية، وهو مهرج السيرك. أي أن الصفات العرضية تعزل عن الشكل الكلي الذي يحتويها وتتحول إلى صورٍ لا واقعيةٍ متداخلة في بعضها البعض. وتبدأ إحدى القصائد المتأخرة بالإشارة إلى ستارة من الدنتيلا، ثم تتحدث المقطوعة الثانية فجأة عن خلافٍ عام أبيض لباقة ورد مع نفسها، يفر إلى النافذة الباهتة ويسبح أكثر مما يدفن (ص٧٤). فنرى كيف جردت المخيلة ذلك الشيء من خصائصه المادية وحوَّلته إلى مجموعةٍ متشابكة من الحركات. إن الشاعر هنا لم يتلقَّ مجموعة من الانطباعات من العالم الخارجي على طريقة التأثريين في الرسم، بل راح يطبع أشكالًا خيالية على أشياء جُردت تجريدًا تامًّا من مادتها الواقعية.
(١٧) الشاعر وحيد مع لغته
لعل هذه الأمثلة القليلة أن تكون مصداقًا لقول مالارميه إن الشعر بناءٌ منعزل. فالواقع أن شعر مالارميه أكثر أبنية الشعر الحديث عزلة وابتعادًا … لقد شيده بموادَ قليلة، وحاول في حرص وحذر أن ينقل المجال الفارغ اللامتناهي للمطلق إلى لغةٍ أرضية تعبر عن رموزه في «نغمٍ صامتٍ منسجم» (ص٦٤٨). ولقد قال مالارميه مرة في أحد أحاديثه إن الشعر قد ضل طريقه منذ أن «انحرف به هوميروس انحرافًا عظيمًا.» وعندما سأله محدثه عما كان قبل هوميروس أجاب قائلًا: «أورفيوس.»
فهو إذن قد حاول أن يرجع إلى هذا الشاعر الأسطوري البعيد، وأن يحقق فكرته عن الشعر كغناء يتحد فيه الشعر والفكر، والسر والمعرفة، ومن يدري؟ فلعله قد أحس بالقرابة التي تجمعه بهذا الشاعر القديم، أو لعل لغته الشعرية التي حاولت أن تعيد للكلمة بكارتها وأصالتها الأولى قد أعادته كذلك إلى هذا المنبع الشعري الأصيل القديم.
إن الواقع قاصر، والحقيقة المتعالية عدم، وعلاقته بهما صراعٌ مرير؛ ونشاز مستمر، والفشل دائمًا هو الحصاد الأخير ماذا يبقى إذن لهذا الشاعر؟ يبقى له القول الذي يحمل في ذاته حجته وبرهانه. إنه وحيد تمامًا مع لغته، يجربها ما شاءت له التجربة الحرة والخيال الطليق. هنا حريته ووطنه، وهو يقوم بمغامرته ويعلم أن الناس قد تفهمه وقد لا تفهمه، ولو لم يكن هذا هو موقف الشعر الحديث كله، لما وجد مالارميه ما وجده حتى الآن من الإكبار والإعجاب.
(١٨) كلمة أخيرة
يقول مالارميه: «بعد أن وجدت العدم وجدت الجمال.» ولكنه بعد أن وجد الجمال المطلق رأى نفسه يعود من جديد إلى العدم. تبين له أو لمن جاءوا بعده أن «التذوق المتطرف للشكل» — كما يقول بودلير — والعناية الفائقة بالجمال قد التهمت الحياة وأفقرت الواقع وانتهت إلى عقم الشعر.
وإذا قلنا في نهاية هذا البحث بالعودة إلى الواقع فليس ذلك إيثارًا للسهولة، ولا جريًا وراء النداءات والكلمات المكرورة التي جنت هي أيضًا على الواقع حين وضعته في قوالبَ جامدةٍ محدودة. ولكننا نقصد أن الشعر كان دائمًا في صميمه مشغولًا بالواقع، أعني بوضع الإنسان وحالته في العالم. وإذا كان الشعر في أواخر القرن التاسع عشر قد اندفع إلى أقصى حدود هذا الواقع لكي يمد يديه إلى المجهول، وإذا كان قد حاول إلغاء هذا الواقع والفرار من سجنه الخانق بحثًا عن المطلق أو الجمال الخالص أو المجهول؛ فقد كان في ذلك كله يحقق وظيفة الشاعر الخالدة؛ تنقية الواقع وإعادة خلقه أو تشكيله بعد أن خربه الإنسان بالشر والقهر، وأفسده بالظلم والفقر، وتقديم أغنيته شهادة على إيمانه بالمعنى في عالم فقد معناه. صحيح أنه أسرف في هدمه للواقع — الخارجي واللغوي — وتصفيته بل وإلغائه، حتى صار الشاعر هو الشهيد أو المنتحر الذي يقتل نفسه في سبيل أن يحيا المطلق. ولكن ألم تكن هذه هي النهاية المحتومة لقصةٍ طويلة بدأت من عصر الإصلاح والنهضة حين انفصلت الرموز عن الواقع الذي كانت قائمة فيه، وراح الإنسان بعد ذلك — مثل باسكال — يضل بينهما في صحراء البحث؟ ألم تصل هذه الدراما إلى ذروتها عند «كانت» الذي أوقف موكب العقلانية المنتصر، وكشف لسفينة العقل البشري عن الظلمات المحيطة بها من كل جانب في رحلتها إلى المطلق والمجهول؟ أليس حكيم كونجسبورج العجوز هو الذي سلب العقل من كل أمل في بلوغ المطلق ثم أشفق عليه ففتح باب الأمل الخلفي عن طريق القلب أو الإيمان أو الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه؟ ألم يزد الاهتمام بعد ذلك بتجربة الخلق والفن والجمال على يد فلاسفة مثل شيلنج وشوبنهور حتى وصل إلى حد الرعشة المقدسة عند نيتشه؟ ألم يقل هذا إن العالم في صميمه «ظاهرة جمالية» وإن ملكة الخلق والإبداع هي السبيل الوحيد إلى المطلق، وإن الشيء الوحيد الذي يبرر العالم والوجود إلى الأبد هو أن يكون ظاهرة جمالية؟ ألم يحكم بعجز المعرفة والأخلاق عن إدراك معناه؟ وحين كان في مراحل حياته التالية يفقد إيمانه بهذه الحقيقة أو «هذا الإنجيل الوحيد الممكن على الأرض» — ألم يكن ينحدر إلى أعماق اليأس ويجد نفسه وحيدًا مع العدمية التي كان أكبر مكتشفيها وأكثرهم استماتة وأملًا في القضاء عليها؟ ألم يكن يحدث له هذا كلما تشكَّك في الجمال وتصور أنه وهم وباطل؟
ولكن نيتشه حلقة في سلسلةٍ طويلة بدأت بكانت إلى شوبنهور، وامتدت بعدهما إلى فاجنر وبودلير، إلى أن وصلت لمالارميه فكان أعظم وآخر حلقة فيها، وجوهرة العقد التي توهجت ثم خبا فيها البريق. صحيح أن نورها أو لهيبها ما يزال يلسع أصابع الشعراء إلى يومنا الحاضر، ولكن لعلهم قد صاروا الآن أكثر ميلًا إلى الاستدفاء بشمعة الحياة والواقع، بدلًا من الاحتراق في وهج المثال والمطلق.