ثورة الشعر في القرن العشرين
ليكن الشعر عونًا على الفعل.
***
كانت هذه نظراتٍ سريعة إلى التطور العام للشعر الحديث، لا تغني بالطبع عن التفصيل؛ فالصورة العامة لهذا الشعر صورةٌ محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرةٍ خاطفة على ملامحها الفردية عند بعض الشعراء الذين يمثلون أصدق تمثيل.
فنحن لا نستطيع مثلًا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب الشعري عند شاعرَين مثل لامارتين وسان-جون بيرس في اللغة الفرنسية أو عند ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شار، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. فوحدة الأسلوب التي نتحدث عنها هي سبيلنا الوحيد للاقتراب من هذا الحشد الهائل من القصائد التي تتأبَّى — عامدة — على الفهم المعتاد، تتلوها ولا شك خطوةٌ أخرى للتغلغل في العبقرية الفردية لكل شاعر على حدة. والحق أن المجال لا يتسع للإشارة إلى هؤلاء الشعراء إلا في أضيق الحدود. وكل ما نستطيع أن نقوم به هو استكشاف الصورة المحيرة التي يقدمها الشعر المعاصر، وتبين بعض ظواهره الحية التي لا تزال تعمل عملها فيه منذ القرن الماضي.
المهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي لا زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرًا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقةٍ هامة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك أسلوبًا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام، ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان. فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر يبين لنا مدى خصوبة الشعر الحديث وتنوع إمكانياته وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عن أعيننا وحدة البناء والروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح المراجع الحديثة في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن «المدرسة الرمزية» وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة ١٩٠٠م. ولقد آثرنا تجنُّب هذا الاصطلاح المدرسي ما أمكن، إذ رأينا أن الخصائص المميزة لشعرائها الكبار لا تزال في مجموعها هي نفس الخصائص التي تميز الشعر في العصر الحديث، وأن تأثير أقطابها — وفي مقدمتهم مالارميه — لا يزال قويًّا على شعراء متأخرين مثل فاليري وجيان وأنجارتي وإليوت. وإذن فالأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين؛ فإما أن الرمزية «لم تمت بعدُ» وإما أن الكلمة تعبر تعبيرًا ناقصًا عن أسلوبٍ أدبي بذاته، ولا بد في هذه الحالة أن نقتصد في استعمالها أو تستغني عنها بوصف خصائص هذا الأسلوب وإبراز ظواهره.
والمهم بعد كل شيء هو ألا نغتر بالأسماء أو ننسى سياقها في التراث. وكل من يقرأ الدراسات النقدية التي تتناول الحياة الأدبية الأوروبية في نصف القرن الأخير لا بد أن تدهشه أو تفزعه كثرة المدارس والاتجاهات و«المودات» التي يلغي بعضها البعض! فمن دادية إلى مستقبلية إلى تعبيرية، ومن إبداعية إلى وضعيةٍ جديدة إلى سريالية إلى هرميتية أو إلغازية … إلى آخر هذه الأسماء التي لن ينقطع سيلها مع تطور العصور. وكأنما هي صدًى لتعدد الأحزاب السياسية وصراعاتها في بلاد البحر الأبيض بوجه خاص. ومع ذلك فلعل هذه الكثرة الهائلة أن تكون مظهرًا صحيًّا من مظاهر الشعر الحديث الذي يؤكد أصحابه أنهم لا يكتبون للخلود وإنما يثبتون تجاربهم المستمرة في اللغة وحرصهم على قطع صلتهم بالماضي أو بالتراث الذي لا يمكن فهمهم مع ذلك إلا إذا عرفنا موضعهم منه.
ولننظر الآن في الظواهر العامة في شعر القرن العشرين، ولنحاول أن نقي أنفسنا شر التبسيط والتعميم.
(١) تمجيد العقل أم تحطيمه؟
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهَين رئيسيَّين في بناء الشعر الحديث، سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك، إن شئنا التبسيط، ما يمكن أن نسميه بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق من جانبٍ آخر. وقد تم التعبير من كلا الاتجاهين سنة ١٩٢٩م في صيغتَين تناقض إحداهما الأخرى. فأما الصيغة الأولى فيعبر عنها فاليري بقوله: «ينبغي أن تكون القصيدة عيدًا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون حين يقول: «إن القصيدة ينبغي أن تكون حطام العقل.» أو حين يقول بعد ذلك بقليل: «إن الكمال هو الكسل.» (المجلة السيريالية سنة ١٩٢٩م).
ووجود هذين الضدَّين في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بأسلوبه وصورته العامة، فليس الأمر — كما قد يبدو من النظرة السطحية — مجرد خلاف بين حزبَين أدبيَّين متعارضَين، بل هو تعبير عن توتر يشمل الشعر الحديث كله، وصراع تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والأسطورة، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجَين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في طرحهما للنزعات البشرية، وبعدهما عن العاطفية المألوفة، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وتأبِّيهما على الفهم المحدد، وإيثارهما للإيحاء بمعانيَ متعددة، وجعلهما من القصيدة كيانًا مستقلًّا بنفسه يكمن مضمونه في لغته وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة نسخ العالم أو التعبير عن العواطف. وكل هذه الصفات ستصدم القارئ العربي وتحيره لأنه اعتاد أن ينتظر من الشعر أن «يُصوِّر» و«يُعبِّر»، ولكن لا بد له أن يتقبلها ويعود نفسه عليها إذا أراد أن يجد مدخلًا إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة.
إن وحدة البناء في الشعر الحديث هي نفسها وحدة البناء في الفن الحديث بوجهٍ عام، وهذا هو الذي يفسر تشابه الأساليب في الشعر والرسم والموسيقى. وهناك ظاهرةٌ خارجية قد تؤكد هذا كله؛ فليس من قبيل الصدفة أن تنعقد أواصر الصداقة العميقة بين أقطاب الشعر والرسم والموسيقى الحديثة، وأن يشعروا بأنهم يشتركون في مغامرةٍ واحدة، والصداقة التي كانت تربط بودلير بالرسام الشهير ديلاكروا، أو تجمع بين طائفة الرسامين والشعراء مثل هنري روسو وبيكاسو وبراك وأبوللينير وماكس جاكوب، أو بين لوركا ومانويل دي فايا وسلفادور دالي؛ أشهر من أن نتحدث عنها. أضف إلى هذا أن الرسامين والموسيقيين يلجئون في كثير من كتاباتهم التي توزع في معارضهم أو حفلاتهم إلى استخدام تعبيرات واصطلاحات يستعيرونها من كتابات الأدباء، والعكس أيضًا صحيح. ولقد استطاع ديدرو أن يتوصل من تحليله لعدد من الرسوم إلى حقائقَ مذهل، وربما كان هذا نوعًا من الإحساس بهذا البناء العام الذي تشترك فيه كل مغامرات الفن والأدب الحديث.
(٢) رأيان في الشعر الحديث
كان من طبيعة الأمور أن يتفكر الشعراء المحدثون منذ عهد إدجار بو وبودلير في شعرهم فيضعوا له البرامج والنظريات التي لا تقل أهمية عن إنتاجهم من هذا الشعر. ولم ينشأ هذا عن رغبة في التعليم بقدر ما نشأ عن اقتناع بأن العمل الشعري هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمل ذاته في وقتٍ واحد فيزيد بهذا التأمل من حدة التوتر الشعري نفسه. ويوشك معظم الشعراء الكبار في القرن العشرين أن يكونوا قد وضعوا مذهبًا نظريًّا أو فنًّا شعريًّا عن أدبهم أو عن الأدب بوجهٍ عام. ومع أن الفنان المبدع قد لا يحسن النقد في أغلب الأحيان، إلا أن في استطاعتنا القول بأن هذه الكتابات النظرية التي أخرجها الشعراء لا تقل أهمية عن شعرهم نفسه، وأنها قد أكدت الرأي المعروف في أوائل القرن التاسع عشر من أن الشعر الغنائي هو أنقى وأعلى ظواهر الإبداع الأدبي وأنه ما من طريق يصل بين قمة الشعر الوحيدة وبين منعرجات الأدب المستوية، وأن هناك مسافة بعد شاسعة بين الشعر وبين الفنون الروائية والدرامية التي تعتمد على المنطق والواقع، وهي نفسها مسافة البعد بين كتابة يتحدث فيها الأديب إلى نفسه (مونولوج) وأخرى يريد بها التوصيل إلى الآخرين، لأن الشعر، كما يقول جوتفريد بن، هو فنٌّ متنسك معتزل.
ويصح أن نعرض هنا لرأيَين في الشعر بقلم شاعرَين كبيرَين يؤكدان فيهما أن كثيرًا من الملامح والخصائص الهامة في فن الشعر في القرن التاسع عشر قد انتقلت إلى فن الشعر في القرن العشرين.
والروح الجديدة التي يقصدها أبوللينير هي روح الحرية المطلقة. والحرية في الشعر معناها أن يعالج الشاعر كل مادة ممكنة بغير اعتبار لدرجتها أو شرفها وأهميتها. فالشاعر يستطيع أن يجد مادة إلهامه في الكواكب والمحيطات، كما يجدها في منديل ملقًى على الأرض أو في عود ثقاب مشتعل. إن خياله يرى في أسمى الأشياء وأحقرها ما لم يره أحد، وأذنه تسمع فيها ما لم يسمعه إنسان قبله. إنه يحولها فجأة إلى مفاجآتٍ مثيرة و«أفراحٍ جديدة ولو كان في تحملها العذاب كل العذاب.» إن أقل الأشياء وأحقرها شأنًا يصلح أن يكون معبرًا إلى لانهايةٍ مجهولة، تلمع فيها أضواء المعاني المتعددة، كما يصلح أن يكون سبيلًا مؤديًا إلى غياهب اللاشعور.
إن الشيء المضحك العابث يستوي في درجته وقيمته مع أمجاد البطولة. وكذلك لا يجد الشعر حرجًا من اختيار مادته من واقع الحياة الآلية والتقنية التي وصلت إليها المدنية الحديثة، فيتسع للكلام عن التلغراف والتليفون والطائرة، والآلات التي هي «بنات الرجال اللاتي لا أمهات لهن». وهو يربط هذه الأشياء جميعًا بأساطير يبتكرها خياله؛ أساطير يسمح فيها بكل شيء، وبالمحال نفسه أو المستحيل قبل أي شيءٍ آخر. وهدف الشعر من ذلك كله هو الوصول إلى ما يسميه أبوللينير «القصيدة المركبة» التي تشبه صفحة في جريدةٍ يومية، تلتقي العين فيها بأشياءَ مختلفة في وقتٍ واحد، أو فيلمًا تتجاور فيه الصورة إلى جانب الصورة. لا مكان هناك لأسلوب الوصف والزخرفة والتنميق والخطابة، بل صيغٌ جادة تعالج أعقد الموضوعات بأدقِّ شكلٍ ممكن. إن الإبداع الأدبي أشبه ما يكون بعمل الميكانيكي الدقيق، ومن واجب الأدب والشعر بوجهٍ خاص أن يبذلا كل ما في وسعهما لمنافسة العلوم الرياضية في دقتها وجسارتها، ومن واجب، الشعر كذلك أن يتشبه بالكيمائيين القدامى فيضني نفسه في البحث عن «صيغ وكشوفٍ نادرة» تجعل منه «كيمياءَ شعريةً عريقة».
إن الشعر الجديد تواجهه الأخطار والمزالق، مثله في ذلك مثل الروح الجديدة بوجهٍ عام. ولكنه يظل تجربة تستحق الإقدام عليها، وتستمد قيمتها من شجاعة المخاطرة لا من النجاح النهائي. ينبغي أن يقوم الشعر دائمًا على المفاجأة؛ فالمفاجأة التي تذهل القارئ بغرابتها أو بلهجتها الدرامية المعادية له هي أهم ما يميز الشعر الحديث عن الشعر القديم؛ وعلى الشاعر الذي يبحث عن المجهول ويعبر عنه بلغةٍ شاذة غير مألوفة ولا مقبولة أن يتحمل الوحدة والانعزال، ويصبر على سخرية الناس أو تشهيرهم به.
وجونجورا (١٥٦١–١٦٢٧م) شاعرٌ قديم لعله أعقد الشعراء القدامى في إسبانيا وأصعبهم. وقد أعاد الإسبان اكتشافه منذ سنة ١٩١٠م وأفادوا بحركة البعث هذه شعرهم الجديد فائدة لا تقدر، فلوركا يقول عنه في حديثه السابق إنه «أب الشعر الحديث» ويبين أوجه التقارب بينه وبين مالارميه في الأسلوب والأداء، بل ويقول إن مالارميه هو أفضل تلاميذ جونجورا، وأقربهم إلى فنه الشعري، على الرغم من أن الشاعر الفرنسي لم يعرف شيئًا عن الإسباني!
ويعد كلام لوركا عن هذا الشاعر القديم تعبيرًا عن رأيه في الشعر الجديد ونظرته الإستيطيقية إليه. فقد كان جونجورا — كما يقول لوركا — يعتقد أن قيمة الشعر لا ترتفع إلا بمقدار بعده عن كل ما هو عاديٌّ مألوف في العالم الخارجي والداخلي على السواء. كان يحب الجمال النقي العقيم، ويرى أن هذا الجمال لا يظهر إلا إذا تخلص الشاعر من التعبير المباشر عن العواطف. وكان يكره الواقع، ولكنه كان يملك القدرة على السيطرة المطلقة على الممالك الشعرية وحدها. إن الكلمات عنده مستقلة بذاتها، وهو يقيم منها بناءً يناهض الزمن، لم يكن للطبيعة مكان في شعره، لأن «الطبيعة التي تخرج من بين يدي الخالق غير الطبيعة التي تحيا في القصيدة.» ولذلك فإن قيمة قصائده لا تقاس بالواقع بل تنبع من ذاتها. لقد كان «يحمل الأشياء والأحداث إلى غرفة ذهنه المظلمة حيث تتحول هناك وتعود لتتجاوز العالم.»
هذه القوة التي تحولها هي قوة الخيال القادرة على التشبيه والاستعارة. إنها تخلق صورًا غير واقعية ترتفع إلى مستوى الأساطير وتؤلف بين أكثر المجالات بعدًا عن بعضها البعض، وهو يسلط بهذه الصور ضوءًا مشعًّا باهرًا على المضمون الموضوعي لشعره بحيث يصبح هذا الشعر في النهاية عديم المعنى. إن أبياته يغمرها «ضوء روما البادر»، ربما يكون الإلهام قد سبقها، إلا أنها لم تتحول على يديه إلى حقائقَ نقيةٍ صلبة إلا لطول تجربته للخصائص النغمية والصوتية الموجودة في اللغة.
هكذا نشأ نوع من الشعر لا يبحث عن القارئ، بقدر ما يفرُّ منه. فإذا أراد أن يقترب منه فعليه أن يستخدم العقل وحده. وإذا لاحظ فيه غموضًا أو ظلامًا فما ذلك إلا لشدة النور العقلي الذي يغمره.
لا بد أن القارئ قد لاحظ الفرق بين ما يقوله الشاعر الفرنسي والإسباني من حيث اللهجة والمستوى والهدف، ولكنه قد أدرك بغير شك أنهما يتفقان في تأكيد نوع من الشعر يوجهه العقل ويستقل بنفسه عن الواقع والمألوف، ويصدم القارئ، بغرابته وتنافر أنغامه.
(٣) اللغة الجديدة
من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغةً جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ، مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرًا ممكنًا ومقبولًا ومفيدًا، طالما كان هدف الناقد والشاعر معًا أن يخطبا ود القارئ ويمهِّدا له طريق الإحساس بقصيدة كُتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافًا بيِّنًا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان-جون بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني التي تكشف عن عالم هذا الشاعر أو ذاك. ذلك لأن المسافة هنا بين الذات وبين «التكنيك» أو الصنعة الفنية أكبر بكثير مما كانت عليه في الشعر القديم، كما أن قمة التأثير في هذا الشعر وطاقاته الفنية تكاد تكمن بأكملها في الصنعة أو الأسلوب. فالأسلوب هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يجذب الأنظار قبل أي شيءٍ آخر. إننا لا نستطيع الآن كما كان الحال قديمًا أن نشغل أنفسنا بالمضمون الذي تُعبِّر عنه القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير، لأن التباين والتنافر بين أسلوب التعبير والشيء المعبَّر عنه أو بين الإشارة والمشار إليه قد أصبح من أهم قوانين الشعر والفن الحديث. وقد نجد في إحدى اللوحات أن قطعة قماش أصبحت تدل على آلةٍ موسيقية كما تجد في إحدى القصائد أن الغاية تشير إلى ساعة البرج، واللون الأزرق يرمز إلى النسيان، وأداة التعريف تهدف إلى زيادة الغموض والإبهام وعدم التحدُّد.
هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة إلى حد تجريد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها ومعناها، بل ومن وجودها الواقعي نفسه. فالقصيدة الحديثة تتلافي الاعتراف «بموضوعية» العالم الكائن خارج الذات أو داخلها حتى لا ينال من أسلوبها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي فهي تستغلها لتحريك المخيِّلة «الطاغية» وزيادة طاقتها على التحويل والتشويه والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعاتٍ قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلًا. وحتى إذا حدث هذا فلا يمنع أن هناك قصائد تزدحم بالعديد من الأشياء والموضوعات. إنما المهم أن هذه الأشياء تخضع الآن «لتركيبةٍ» جديدة وأسلوبٍ جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها الذات الشاعرة كما تشاء، وفقدت كثيرًا جدًّا من «موضوعيتها»، و«شيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياءَ لا تآلف بينها في الواقع ولا الطبيعة، أو يرمز إلى أشياء لا تطابُق فيها بين الرمز والمرموز إليه، أو يشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق … من هنا نفهم السبب الذي يدعو الشعراء المحدثين إلى الإغضاء من شأن موضوعاتهم، كما نفهم أيضًا ما يقوله الشاعر الفرنسي بيير ريفردي (١٨٨٩–١٩٦٠م) من أن الشاعر لا موضوع له، وإنه يفترس نفسه بنفسه، وأن قيمة العمل الشعري أنه يكشف عن سبب تمزقه وربطه بين عناصر لا رابط بينها.
بل إن شرط «الشعر الخالص» أن وجوده كما يقول الشاعر الإسباني ساليناس، متوقف على قدرته على التخفف بقدر الإمكان من الموضوعات والأشياء لأن هذا وحده هو الذي يتيح للغة أن تتحرك حركتها الإبداعية الحرة. ثم إن الشاعر، كما قال جوتفريد بن في سنة ١٩٥٠م، يلجأ إلى الحيل الشكلية ليحافظ على انطلاق الأسلوب؛ فهو يُثبِّت الخواطر التي ترد عليه كما لو كان يدق المسامير ويعلق عليها متتابعات ألحانه، وهو يتحاشى أن يربط الأشياء ببعضها ربطًا ماديًّا سيكولوجيًّا بل يكتفي بالإشارة ولا يمضي في شيء إلى غايته.
إن أسلوب الشعر الجديد يأبى على المضمون أن يكون له وجوده المتماسك وقيمته الذاتية. إنه لا يكفُّ عن البحث عن اللغة الجديدة، ويعيش في صراعٍ متصل بين مطامحه المتطرفة وبين مضموناته، وهو يريد، كما يقول أبوللينير، لغةً جديدة لا يدري النحويون عنها شيئًا. ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
إن الشاعر الفرنسي لا يقدم إجابةً محددة، بل بشير إلى لغةٍ وحشيةٍ متنافرة أو لغةٍ إلهية تكون الكلمة فيها مفاجئة أشبه بإلهٍ مرتعش!
يقول «أراجون» في مقدمة ديوانه «عيون ألز!» (١٩٤٢م): إن الشعر لا يوجد إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: ليس لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز، وفي قصيدة إليوت المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة وكلمة بلا لغة.» وسان-جون بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه فيشبهه بالبرق والصاعقة. وكأنما يتفقون جميعًا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحلَّ التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام، وكأنما يجمعون أيضًا على نوع من التعالي باللغة أو «الترانسندس» الذي تحدثنا عنه كثيرًا عند الكلام عن بودلير، ولكنه يظل هنا وهناك تعاليًا مفرغًا من أي معنًى أو مدلول.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغةً مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألحَّ الشعراء والفنانون الجدد على معنى الصدمة أو المفاجأة التي تُحدِثها هذه اللغة حتى صارت تعبيرًا اصطُلح عليه في الشعر الجديد منذ عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت مشكلة الصدمة تثار كل خمس سنوات، وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثَّرا عليه عند قراءته لهما لأول مرة تأثير الصدمة المفاجئة. والسيرياليون يتحدثون عن «الإذهال» الذي يجب أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو «إعلان احتجاج»، كما يقول سان-جون بيرس إن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي! وكأن هذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسعَ إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوَّة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالى إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفًا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والباعث والمضمون، ويستوي معه أن يعالج خلود الروح ووجود الله أو يصف حذاءً قديمًا أو علبة صفيح فارغة … والمهم بعد كل شيء هو شذوذ هذه اللغة الشعرية الجديدة.
أراد فلوبير (١٨٢٨–١٨٨٠م) عندما كان يعمل في روايته «مدام بوفاري» أن يعرف الأسلوب فقال إنه «رؤية». وقد يبدو هذا التعريف مألوفًا لدينا اليوم، ولكنه كان في عصره شيئًا جديدًا كل الجدة على «الاستطيقا» القديمة، وقد تحقق معنى هذا التعريف في روايات فلوبير نفسه، كما تحقق بصورةٍ أكبر في الرواية الحديثة والشعر الحديث، والقانون الذي يحكم مثل هذا الأسلوب لا ينبع من الموضوعات الخارجية ولا من اللغة الفنية الموروثة وإنما ينبع من المؤلف نفسه. وقد نتجت عن ذلك ظاهرة تتجلى في أوضح صورة في فن الرسم الحديث. فقد أصبح من المألوف منذ عهد سيزان (١٨٣٩–١٩٠٦م) أن يتناول الرسامون موضوعًا عديم الأهمية، لأن هذا الموضوع لا يعنيهم بقدر ما تعنيهم تجربة إمكانياتهم في الأداء وقدراتهم في مجال الشكل؛ ولذلك فالرسام مشغول بخلق كيانٍ فنيٍّ مستقل، مستمد من عناصر الصورة نفسها لا من عناصر الواقع الخارجي، وكانت نتيجة هذا أن قل عدد الموضوعات إلى أقصى حد، بل أصبح وسيلة لتجربة متنوعاتٍ مختلفة عليه، كما أصبح الأسلوب هو الهدف والغاية الأخيرة. وتكرر نفس الشيء في مجال الشعر، فوجدنا فاليري يقول مثلًا إن الشعر في رأيه هو خلق متنوعاتٍ متعددة على موضوعٍ واحد، كما وجدنا شاعرًا مثل جيان يترجم إحدى قصائد فاليري «نائمة» أربع ترجماتٍ مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض، وكاتبًا مثل كوينو (١٩٠٣م–؟) يسمي أحد كتبه «تمارين في الأسلوب» (١٩٤٧م) ويقدم فيه تسعة وتسعين متنوعة على موضوعٍ واحد! وكل هذه أمثلة على الأسلوب الذي استقل بنفسه فراح يشكل ويتشكل، ويحول ويتحول.
(٤) أبوللو بدلًا من ديونيزيوس
هل اختفى الإلهام إذن؟ هل حرم على الشعراء أن يتحدثوا عن شياطينهم أو يتذكروا وادي عبقر؟
إن الشعر الحديث يتسم ببرود العقل، والتأمل فيه تأملٌ باردٌ محسوب. والكلام عنه يحتاج دقة المعرفة والتخصص والصنعة. ولكن هذا لا ينفي أبدًا أن الشاعر الحديث يعلم في نفس الوقت الشعر سر ومعجزة، سحر وقوة، منطقة رقيقة ينتزعها الشاعر مما يكاد يقصر عنه التعبير والكلام. ويصبح الشاعر مغامرًا يخاطر بنفسه في مناطقَ لغوية ظلت مجهولة قبله، وتصبح لغته المملوءة بالأسرار أشبه بالتجارب الكيماوية القديمة، يختبر فيها القوة الكامنة في الكلمات، وينتظر انفجارها الذري في كل لحظة. وهو في ذلك لا ينسى أن يراقب نفسه مراقبةً دقيقة، ويقيس أفكاره بمقاييسَ فكريةٍ دقيقة، ويقيها غلبة العواطف الطاغية والانفعالات الفجة السخيفة. لم تعد حرارة الإلهام منذ أوائل القرن التاسع عشر هي معياره الوحيد. فالسحر الذي ينبع من الشعر الحديث فيه رجولة، والعذاب فيه عذابٌ صلبٌ خشن. ومهما كان من غموضه وتنافره فإن أبوللو إله النور والفن الواضح — لا إله النشوة والإلهام ديونيزوس — هو الضمير الفني الذي يسيطر عليه ويتحكم فيه. ويكاد معظم رواد الشعر الحديث يتفقون في سوء ظنهم بالإلهام، ويفرقون تفرقةً تامة بين الانفعال والقوة، وبين المعاناة الشخصية والصدق العقلي. وها هو ذا فاليري يكتب في مقاله عن قصيدة «أدونيس» للافونتين فيقول «إن الشعر فنٌّ شكاك إلى أقصى حد، إنه يفترض الحرية البالغة تجاه عواطفنا الشخصية. إن الآلهة تباركنا بنعمتها فتهدينا بيتًا من الشعر ثم يصبح علينا بعد ذلك أن نؤلف البيت الذي يليه، والذي ينبغي أن يكون جديرًا بشقيقه العلوي القديم. وفي ذلك نحتاج إلى كل طاقات التجربة والعقل.» ثم يقول في موضعٍ آخر إن التنهد والتوجع لا مكان لهما في الشعر، حتى يصبحا أشكالًا عقلية.
ولقد امتدح لوركا الشعراء الفرنسيين في خطبته السابقة عن الشاعر القديم جونجورا لهذا السبب وأكد هذه الأفكار وزادها حدة. والشعراء الإيطاليون ساروا أيضًا في نفس الاتجاه بعد أن تراجعت النغمة الخطابية الانفعالية التي غلبت على شعر دانو نزيو فوضعوا «الكلمة العارية» التي طال التفكير فيها، كما يقول أنجارتي، في منزلةٍ أعلى من الكلام العاطفي المنفعل. وليست هذه الأفكار كلها جديدة ولا هي مقصورة على البلاد الواقعة تحت تأثير الروح اللاتينية، وكل هذا يدل على أن الشعر الحديث مشغول منذ عهد بودلير بالتجرد من الرومانتيكية والبعد بقدر الإمكان عن العواطف الشخصية الساذجة.
ومن هنا نستطيع أن نفهم إليوت حينما يتحدث عن تجرد الذات الشاعرة من شخصيتها بحيث يصبح عملها أشبه بعمل العلماء الوضعيين، وحين يؤكد حدة العملية الفنية ولا يكتفي بأن يطلب من الشاعر أن ينظر في أعماق قلبه، بل يزيد على ذلك فيطالبه بالنظر في تلافيف المخ والجهاز العصبي. ويمضي الشاعر الألماني جوتفريد بن في هذا الاتجاه نفسه في محاضرته التي ألقاها عن مشكلات الشعر وأصبحت اليوم هي «فن الشعر» للجيل الحاضر من شعراء بلاده. إنه يمجد إرادة الشكل والأسلوب اللذين يحتفظان بحقيقتهما الذاتية التي تسمو بكثير على حقائق المضمون. ذلك «لأن الإنسان لا يعرف بحق إلا في مجال التشكيل.» ولأن الإلهام وحده لا يهدي الشاعر بل يغريه ويغويه ولا يفضي به إلى شيءٍ ذي قيمة. قد يفجر فيه أبياتًا قليلة ولكن يبقى عليه بعد ذلك أن يعالجها بالتشكيل فيتناولها على الفور في يده ويضعها تحت الميكروسكوب ويفحصها ويلونها ويبحث عن مواضع المرض فيها.
على أنه من الواجب ألا يساء فهم هذا الاتجاه. فاهتمام الشعراء المحدثين بالشكل والصنعة ليس معناه أنهم يجعلون منه بديلًا باردًا لقوى الخلق والإبداع بل معناه أن التفكير أو التأمل الذهني لا يؤدي باللغة إلى التفوق الشعري إلا حيث يكون على هذه اللغة أن تصارع للتحكم في مادةٍ معقدة من نسيج الأحلام والأحاسيس. وليس معنى هذا أن الشعراء المحدثين مجردون من الحساسية بل معناه أنهم يسلطون ضوء أبوللو أو نور الفهم الفني الواضح الصريح على حساسيتهم المفرطة، فكأنهم يلجمون هذه الحساسية المفرطة ويمتحنونها ويضعونها تحت منظار العقل قبل أن يسمحوا لها بالكلام!
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا كيف أن الشعراء المحدثين لا يملون من إمعان التفكير والمراجعة في وسائلهم الشكلية في الوزن والقافية وبناء البيت الحر. فقد طالما فكَّر كلوديل في الملاءمة بين البيت الحر ووقفات التنفس، وطالما حلَّل أراجون نظام القافية وما أدخله عليه من تجديد. وكل هذا يدل على أن الشعر الحديث أبعد ما يكون عن القواعد المدرسية القديمة.
إذا صح أنني شاعر بفضل الله — أو بفضل الشيطان — فقد أصبحت كذلك شاعرًا بفضل الصنعة والجهد المضني، ومحاسبتي النفس حسابًا مطلقًا عن ماهية القصيدة.
(٥) بين الحداثة والتراث
إذا كان الشعر الحديث يحطم القديم فهل يعني هذا أنه يقطع صلته بالتراث؟ وهل يستطيع شاعر أن يستغني عن التراث فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء؟ ثم ما هو موقفه من عالم التجربة والعلم والتصنيع والتخطيط والحروب والمحن الجماعية؟ وإلى أي حد يرفضه أو يتأثر به؟
ولكن يبدو أن الشعر الجديد قد تأثر بهذا العالم الصناعي تأثرًا مزدوجًا. فالحياة الآلية التي نحياها، والمعيشة في المدن الكبيرة المزدحمة قد تجذب الإنسان وتستهويه، وقد تملأ نفسه بالخراب والوحدة واليأس والضياع.
وهكذا أيضًا كانت استجابة الشعر الحديث ذات وجهَين. فهو يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى والحروب والكوارث الجماعية وتحيله في ظل «الثورة الصناعية الثانية» إلى كائنٍ صغيرٍ ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوِّجه وتخلعه عن العرش في آنٍ واحد. والنظريات الفلكية عن الانفجار الكوني ومليارات السنين الضوئية وملايين النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية الأخرى قد أشعرته بأنه ليس إلا صدفةً عارضةً حقيرة في مجموع الكون اللانهائي. كل هذه أشياء صورها العلماء والفلاسفة والشعراء وعبر عنها باسكال في القرن السابع عشر في صورة تهز النفس أروع تعبير. ولكن لا شك أن هناك صلة قوية بين التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث.
فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، وتعقيل اللغة إلى أقصى حد؛ يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ معجزة العالم والخلق في زمن يلهث وراء القوة و«العلم» والمنفعة، ويعاني من البطش والقهر والتعذيب، ويسعى وراء النجاح والأرقام القياسية بأي ثمن.
لقد أصبحت القراءة عبئًا عليَّ، إنني أتمنى في بعض الأحيان أن أكون في منتهى الفقر وأعجز عن الاطلاع على كنوز المعرفة المتراكمة؛ هنالك أكون فقيرًا، ولكنني سأكون ملكًا على قرودي وببغاواتي الداخلية.
وبقدر ما ينحو الشعر الحديث نحوًا رمزيًّا نجده يحاول — منذ عهد مالارميه — أن يبتدع رموزًا جديدةً مستقلة لا تتصل بالتراث القديم ولا تستمد أصولها منه. قد نستثني فاليري وجيان من هذه القاعدة، ولكن رموزهما لا ترجع إلى أبعد من مالارميه، أي أنها تمثل نمطًا حديثًا في الأسلوب أكثر مما تعبر عن رغبة في الاتصال بمناهل التراث القديم. وعندما يحول شاعر مثل سان-جون بيرس أشياء كالجير والرمل والصخر والرماد إلى رموز، يصبح من العبث أن نحاول فهمها بالاستعانة بمعلوماتنا من التراث الأدبي؛ ذلك أن هذه الرموز تختلف من شاعر إلى آخر ولا بد أن نحاول فهمها من المعاني العديدة التي توحي بها في شعره، وإن كانت محاولاتنا ستبوء بالفشل في أغلب الأحيان!
على أنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية القديمة التي عرفتها الشعوب المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا في أشعار رامبو، قبل أن يكتشف فرويد اللاشعور، أو يكتب يونج نظرياته في اللاشعور الجمعي والأنماط الرئيسية للشخصية، وكلها كتابات أثرت أعظم التأثير على الأدب والفن الحديث.
وهناك نصوصٌ عديدة في الشعر الحديث تتردد فيها أصداءٌ أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور.
فشعر سان-جون بيرس مثلًا يزدحم بإشاراتٍ كثيرة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة وطقوس العبادة عند مختلف الشعوب والحضارات. و«إزرا باوند» يورد في قصائده نصوصًا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم برسومها الأصلية في بعض الأحيان! وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجعٍ كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأويانيشاد، وتورد نصوصًا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو أن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف المخيف فيتولى التعليق عليها بنفسه ويصبح هذا تقليدًا يحتذيه شاعرٌ إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل دييجو، أو بعض رواد شعرنا الجديد في ترجماتهم الذاتية القيمة.
ومع ذلك فلا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات من النصوص القديمة؛ فهي لا تدل على ارتباطٍ حقيقي بالتراث أو بعصر من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات فيأخذها كيفما اتفق لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماضٍ تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى هذه الرموز والأساطير ليمجِّد عصرًا أو يسترجع ماضيًا وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيد إحساسنًا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها كتمزق الواقع نفسه وفوضاه، أو ربما يريد — كما يفعل باوند — أن يلبس أقنعةً مختلفة لتعبر عن حالة ضياعٍ جماعيةٍ واحدة أو يخلق بالكلمات والرموز القديمة — كما يفعل بن، وسان-جون بيرس — نوعًا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعةً وبهاء. والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الصور والرموز والنصوص المقتبسة في عصرها ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي بل يخلطها بكلمات وشعارات وصورٍ أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف كما يشاء في مختلف البلاد والعصور، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء، لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرًا مثل جوتفريد بن يقول:
«الدوائر تظهر: تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كمنجات وبوابة من بابل، رقصة جاز من ريو ورقصة سوينج وصلاة.» استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوِّي بين حقائق التاريخ كما يسوِّي بين الأشياء التي يجدها مختلطة أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبًا بلا بيت ولا وطن.
(٦) طرح النزعة البشرية
من مفارقات الشعر الحديث وظواهره الغريبة التي تستلفت الانتباه ظاهرة يمكن أن نسميها باطراح الإنسانية أو تعرية التعبير الشعري بقدر الإمكان من النزعات والعواطف البشرية. ولا شك أن هذا يبدو أمرًا محيِّرًا للقارئ العربي الذي يغرق كل يوم في بحران العواطف الكاذبة والانفعالات المائعة التي تزعم أنها تعبر عن الكآبة والحزن والفرح، وهي في الواقع تزيفها. فما هي إذن هذه الظاهرة وكيف نفهمها؟
ولكن ما معنى «التجرد عن الإنسانية أو طرح البشرية»؟ وكيف يتم؟ معناه استبعاد الحالات العاطفية الطبيعية وقلب النظام المتواضَع عليه في ترتيب الكائنات ابتداءً من الجماد إلى الإنسان، بل وجعل الإنسان في أسفل السلم الطبيعي من هذا الترتيب وتصويره على نحوٍ يجعله يبدو في أقل درجةٍ ممكنة من الإنسانية أو يُخليه ما أمكن من الصفات البشرية. ويوضح «جاسيت» هذا بقوله: «إن المتعة الجمالية التي يشعر بها الفنان الحديث تأتي من هذا الانتصار على كل ما هو إنساني.» وفي هذا يلتقي مقاله بمختلف الأساليب والبرامج الأدبية التي وضعها الشعراء وطبقوها منذ عهد بودلير.
ولا بد من توضيح ما نقصده بالتجرد من النزعة البشرية بأمثلة من الشعر الحديث. فالذات فيه قد أصبحت نوعًا من «الجو الوجداني» المحايد، وكلما أوشكت أن تقع في العاطفية أو الطراوة لجأت إلى عناصر تزيد من صلابتها وخشونتها وبرودها. وأوضح مثال يخطر على البال في هذا الصدد هو شعر رامون خيمينث (وله في هذه المجموعة قصائدُ كثيرة يمكن الرجوع إليها) وما طرأ عليه من تطور. فلقد كان شعره قبل الحرب العالمية الأولى شعرًا ذاتيًّا خالصًا يمزج الكآبة بالدموع بالأحلام بالحدائق النضيرة. غير أنه اشتد صلابة بعد العشرينات. فنجده مثلًا في إحدى القصائد يصف النفس بأنها «عمود من الفضة» والتشبيه جميل ولكنه يعبر كما تعبر القصيدة كلها عن نفس تخلَّصت من الكآبة اليسيرة الساذجة وأصبحت نوعًا من التوتر المعلق بين السماء والأرض لا يمكن تحديده أو وصفه.
ونسوق مثلًا آخر لتوضيح هذا الكلام عن الشعر الخالص من «الأنا» ومن النزعة البشرية بقصيدة «الصرخة» التي يجدها القارئ في هذه المجموعة (وقد كتبها لوركا في سنة ١٩٢١م):
والقصيدة لا تؤكد على المكان ولا على الصرخة، بل على هذا الشكل الهندسي الذي تبرزه كموضوعٍ رئيسي تتكون منه بعد ذلك أو تنبني عليه موضوعات أخرى كالمكان، والليل، والجبال، وأشجار الزيتون. ويصبح المنحنى أو الإهليلج — الذي صار نصفه موضوعًا ونصفه الآخر استعارة — قوس قزح أسود ثم قوس كمان «ترتعش تحته أوتار الريح الطويلة». وإذا سألنا أنفسنا من أين تأتي هذه الصرخة لم نتلقَّ جوابًا. فالصرخة هناك، بل تكاد تكون هي وحدها الموجودة. ولكن هل هي صرخة إنسان؟ إن القصيدة تتكلم قبل نهايتها عن الناس الذين سمعوا هذه الصرخة: «الناس في الكهوف يعلقون المصابيح في الخارج.» غير أن هذا لا يخلع على النص صفةً إنسانية. أضف إلى ذلك أن البيتَين الأخيرين موضوعان بين أقواس، وكأن القصيدة تلقي نظرة من بعيد على أولئك البشر الذين وقفوا حائرين أمام تلك الصرخة التي تصدر عادة عن الإنسان ومع ذلك فقد قطعت صلتها بكل إنسان.
الصرخة إذن شيءٌ محايدٌ مجهول، خط من النغم يصل اليوم وأمس وغدًا إلى الجبال والرياح وأشجار الزيتون ولكنه مقطوع الصلة بالإنسان، أو نحن نجهل على الأقل أنه يخرج من صدر إنسان.
وهناك أمثلةٌ أخرى يستطيع القارئ أن يجدها في شعر رافائيل ألبرتي، تتحدث عن موضوعات مألوفة كالبكاء على الحب، ولكنها تدخلها في نسيجٍ شفافٍ معقَّد وتستوحي خيوطها من اكتشافات المدنية والعلوم الحديثة، وتملؤها بالإشارات السريعة إلى السفن والطائرات والكازينات والبارات والبنوك المغلقة … إلخ. وأوضح مَثل لهذا قصيدته «الآنسة» س «المدفونة في ريح الغرب» (١٩٢٦م)، فهي لا تتكلم عن حزنٍ شخصي بل تضع الحزن في الأشياء وتعبر عنه من خلال أمورٍ مضحكة أو سخيفة أو عادية أو كونية أو فلسفية، وتزيد بهذا من صلابته وتجرده من العاطفية والانفعال. والغريب أنه ليس هناك شخصٌ واحد يبكي في القصيدة، بل أشياء كعمود التليفون الذي يحزن لأن الآنسة س لا ترسل حديثها منه، وكالشمس التي صعقتها الكهرباء والقمر الذي تفحم!
ويطول بنا المقام لو تتبعنا ما سميناه بالتجريد أو التعرية من النزعة البشرية في الشعر الحديث. ويكفي أن يلقي القارئ نظرةً سريعة على نماذج من شعر سان-جون بيرس، هذا الشعر المجيد الذي يتغنى بعظمة الطبيعة وروائع الأعمال البشرية في بناءٍ فنيٍّ رفيع، ولكنه يدور في مناطقَ عجيبة منزوعة عن المكان والزمان، يصعب أن يهتدي القارئ فيها أو يجد في أجوائها النفسية الغريبة قدرا قليلًا من الفرح أو البهجة، ويكفي أيضًا أن يطلع على شعر «رافائيل ألبرتي» أو «خورخه جيان» ليرى إلى أي مدًى يمكن أن يخلو الشعر من الوصف المباشر العاطفة الحزن والفجيعة والمرارة ويؤثر، على الرغم من ذلك بصوره وخياله ومفرداته اللغوية وبنائه الفني، أعظم تأثير. إن الشاعر يحول الناس والأشياء إلى صور ومقولاتٍ مجردة. إنه يتجرد عن عواطفه الشخصية لينظر إلى الأشكال الخالصة في المكان والنور. ومن العبث أن نسأل أين يعبر الشعر الحديث عن الفرح وأين يعبر عن الحزن. فمثل هذه المضمونات التي لا يمكن أن يستغني عنها الشعر بالطبع، ترفُّ علوًّا أو هبوطًا في منطقة تستطيع النفس أن تنظر فيها وتحسُّ بأبعد وأشجع وأصلب وأنقى مما تستطيعه نفسٌ عاديةٌ حساسة. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن بعض الشعر الحديث الذي استطاع أن يتعرى من «معطف الأنا» — إن صح هذا التعبير — قد جعل من الأشياء موضوعه الوحيد.
إن الشاعر يستطيع الآن — كما يفعل الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (ولد في ١٨٨٩م) الذي يرفض أن يسمي شعره شعرًا — أن يتكلم عن باب أو رغيف خبز أو قوقعة أو شمعة أو سيجارة بطريقة أشبه ما تكون بالفينومينولوجيا الشعرية إذا جاز أن نستعير هذا التعبير من فلسفة هسرل في الظاهريات! لا لكي يصف الأشياء وصفًا واقعيًّا أو يشوِّهها ويغيرها، بل ليظهرها جامدة أشد الجمود أو ليضفي على الجماد منها حياة لا واقعية غريبة. والمهم أنه يستبعد الإنسان من شعره ويحاول كما يقول: «أن يولِّد الأشياء من الكلمات».
مثل هذا الشعر «الموضوعي في ظاهره» لا يكاد يبقي من الإنسان إلا اللغة الخلاقة والخيال الطليق. إن تجريد المضمونات وردود الأفعال النفسية من طابعها البشري هو النتيجة الضرورية التي ترتبت على السلطة غير المحدودة التي أعطاها العقل الشاعر أو الذات الشاعرة لنفسها. لقد أصبح الشاعر الحديث «دكتاتورًا» مع نفسه. إنه يحاول أن يلغي نزعاته الطبيعية ويسلخ نفسه عن العالم أو يسلخ العالم عن نفسه لكي يؤكد حريته في التخيل والخلق وتجديد اللغة ويثبت قدرته على الثورة والاحتجاج والإغراب. وتلك هي المفارقة الكامنة فيما نسميه طرح النزعة البشرية.
(٧) التوحد والقلق
هل يعني هذا أن الشعر الحديث — على طريقته المختلفة عن شعر الأقدمين — لا يعبر عن مضمون نفسي، ولا ينقل لنا إحساسًا ولا شعورًا؟
ليس أبعد عن الصواب من هذا الظن. فالشعر الحديث ينقل إلينا الكثير على الرغم من أنه ينفر في مجموعه من إيجاد تلك العلاقة الحميمة التي كان يعتز بها الشعراء الأقدمون بين الشاعر وبين جمهوره من القراء. بل إنه ليغالي في ذلك في بعض الأحيان حتى ليوشك المرء أن يعتقد بأنه لا يبحث عن «معجبين» بقدر ما يبحث عن كارهين أو غاضبين.
وأبرز الإحساسات التي ينقلها إلينا الشعر الحديث، هو الإحساس بالوحدة والقلق؛ فالشاعر — كما يقول الكاتب النمسوي روبرت موزيل — هو أشد الناس شعورًا بوحدة الذات في العالم ووحدتها بين غيرها من البشر، والفكرة قديمة بغير شك، وجدت قبل الرومانتيكية وبقيت حية بعدها ولكنها قد أصبحت في أيامنا فكرةً جديدة كل الجدة، ترتبط ببدعة العصر أو حقيقته التي ذاعت اليوم على كل لسان من أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر «القلق» والوحدة والضياع في الزحام. ولعل الناس لا تتفق في شيء يتعلق بالشعر والشعراء كما يتفقون على أنهم أناس متوحدون قلقون.
ولنعقد الآن مقارنةً سريعة بين الجو العام الذي يسود إحدى قصائد شاعرٍ قديم نسبيًّا مثل «جوته» وبين بعض قصائد المعاصرين. فهو يتحدث في قصيدته «سكون البحر» التي يحتمل أن يكون قد كتبها في سنة ١٧٩٥م، عن الفضاء الشاسع المخيف، والبحر الساكن العميق الذي لا تتحرك فيه موجة ولا تهبُّ عليه نسمة:
ولكنه يتبعها بقصيدةٍ أخرى تتفق معها في الموضوع والإيقاع والنغم وهي قصيدته «رحلة سعيدة»، فنجد كيف ينقشع القلق، وينفك إسار الخوف ويتشجع الملاح ثم لا يلبث شاطئ النجاة أن يظهر للعين من بعيد:
فالخوف والقلق هنا ليسا إلا جسرًا يعبر عليه الشاعر إلى الأمل والصفاء.
أما ما نجده في الشعر الحديث فهو يختلف عن ذلك. فيندر أن نجد قصيدة تحدثت عن القلق ثم استطاعت أن تتخلَّص منه. وتشبه قصيدة جوته السابقة قصيدة لرامون خيمنيث بعنوان «بحر» تصور رحلة على مركب ويصطدم المركب بشيءٍ ما، ولكن لا يحدث في الحقيقة شيء، فليس هناك إلا السكون والأمواج وشيءٌ آخر «جديد» يتركه الشاعر بلا اسم. وهكذا يسير الشاعر الحديث من الأمل إلى القلق بعد أن كان الشاعر القديم يسير في عكس هذا الاتجاه.
وإذا تذكرنا قصيدة «الصرخة» للوركا التي تحدثنا عنها من قبلُ تذكرنا معها قصيدةً أخرى له بعنوان «الصمت» (ويجدهما القارئ معًا في هذا الكتاب).
فالصمت لا يمحو هول تلك الصرخة المخيفة التي سمعناها تتردد في القصيدة السابقة بل لعله يزيده رهبة إذ يولد هولًا جديدًا هو هول الصمت الذي تنزلق الوديان والأصداء خلاله ويضغط الجباه على الأرض.
وهو كذلك في قصيده «مرثية الصمت» يجعل من الصمت تعبيرًا هامسًا عن القلق ويصفه بأنه «شبح الانسجام ودخان من الشكوى» لأنه يحمل «عذابًا سحيق القِدم وصدى الصرخات التي انطفأت إلى الأبد». وهو في إحدى قصائده المتأخرة وهي قصيدة بانوراما عمياء لنيويورك يتحدث في إيقاعٍ حر عن مضمونات لا تكاد تمتُّ بصلة للعنوان الذي وضعه لها. ويسأل القارئ نفسه بعد قراءتها: أين هو الألم العظيم المطلق؟ ليس له وجود في المدن الضخمة الهائلة؛ مدن الدم والشقاء، ولا على الأرض «ذات الأبواب المتشابهة دائمًا، التي تؤدي إلى احمرار الثمار»، ولا هو في أصوات الناس، إنما الأسنان هي الموجودة وحدها، ولكنها أسنان «يتحتم عليها أن تصمت في العشب الأسود.» وكأني بلوركا يتحدث عن ذلك القلق الذي يقلقه ألا يجد غذاءه من الألم والعذاب، وعن الخوف الذي لم يعد يخاف شيئًا كما يخاف الخوف نفسه.
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة؛ لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم والتحطيم، وبذلك تكون في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة بل توحي به وتخلقه.
وهكذا نستطيع أن نقول بوجه عام — وإن كان التعميم شيئًا كريهًا!— إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس وكانت نفسه تريد أن تألفهما وتقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها فيه.
ونحن في حياتنا اليومية نصف أشياءَ كثيرة بالشاعرية، فنقول مثلًا عن مكان خالٍ — مهما يكن فقره وبؤسه — إنه شاعري، أو نصفُ وجهًا عجوزًا معبرًا أو حفلًا بهيجًا بأنهما شاعريان؛ فنفهم في كل الأحوال أن هناك صلة ود بين النفس وبين ما تراه من الظواهر الحسية الخارجية تجعلها تسكن إليها وتأنس بها. أما في الشعر الحديث فالأمر مختلف.
فالشاعر يتعمد أن يجعل المألوف غريبًا والقريب بعيدًا! وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوةً خفية تدفعهم دفعًا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم أو بينهم وبين غيرهم من الناس، ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضًا أن أسلوبها يحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، ابتداءً من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد. وكأنها تحرص على إبراز التضاد بين الإنسان والعالم أو بينه وبين الناس عن طريق تفتيت الحدث إلى وحداتٍ منفصلة لا تجمع بينها رابطةٌ سببية، أو حذف الروابط في العبارة ووضع الكلمات إلى جانب بعضها البعض كأنها كتلٌ متنافرة لا تدخل في سياق أو معنًى عام.
ولقد سمعنا جميعًا بالضجة التي أثارها برتولت برشت وناقدوه منذ العشرينيات باصطلاحه المعروف عن «الإغراب» الذي جعله شعارًا لنظريته في المسرح الملحمي. كما وجدنا شاعرًا كبيرًا مثل أبوللينير يتكلم قبل موته بقليل عن «المناطق الغريبة» التي ينتظر أن ينطلق الشعر إليها.
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل»: «إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية والتقزز التي تبعد الكائنات عن بعضها البعض» والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه، يكاد أن يكون موضوعًا ثابتًا من موضوعات الشعر الحديث.
فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» (راجع النصوص) تنتهي بحزنٍ (غير عاطفي!) يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن «القبر اللامتناهي» للعزلة الباطنة. ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبًا منك! وما أقربني حين أكون بعيدًا عنك!» والشاعر الألماني كارل كرولوف يقول في «قصيدة حب» (١٩٥٥م) التي تجدها فيما بعدُ: «هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، أسود وأزرق.» وكأن هذه الصور الصلبة وهذا التحطم والتناثر والانكسار يعبر عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما يعبر عن خلاصه المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة، وهو في الواقع خلاصه الوحيد.
ونجد في قصيدةٍ أخرى للوركا (تجد مقتطفات منها في هذه المجموعة) كيف يتحول بُعد الأموات — وهو شيءٌ طبيعي — إلى بعدٍ مطلق. والجزء الأخير من قصيدة لوركا هذه عن مُصارع الثيران سانشيز ميخياس (١٩٣٥م) يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمةٍ واحدة وإنما يقول: «إن أحدًا لم يعد يعرفه، لا الثور ولا الخيل والنمال في بيته، ولا الطفل والمساء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. لقد صار بعيدًا عنه بحيث لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. لكنني أغنى باسمك.» غير أن هذا الغناء لا يجدي أيضًا؛ فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا أن يغني عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد رافائيل ألبرتي التي نشرها في سنة ١٩٢٩م بعنوان «عن الملائكة» والتي تجد مختارات منها في هذا الكتاب.
فالملائكة التي يتحدث عنها الشاعر — كالملائكة التي تحدث عنها رامبو — ليس لها أي معنًى ديني. إنها كائنات «خرساء كالأنهار والبحار»، خلقها خيال شاعرٍ وحيد. هناك صراعٌ دراميٌّ خفى يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود، غير أنه لا يراه، ولا النور يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضًا لا يرى الإنسان ولا يعرف المدن التي يسير فيها، لأنه بلا عيون، ولا ظلال، ولأنه «يغزل الصمت في شعره»، وما هو إلا «ثقبٌ وحيدٌ رطب، ونبع جف الماء فيه». لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدينة وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد (التي وصفها البعض خطأ بالسيريالية)، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم، لقد كانت الملائكة دائمًا كائناتٍ نورانيةً مباركة، سواء أُرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أو تنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحسُّ صلة بينه وبينها، وكان يشعر أنه ليس وحيدًا في هذا الكون، وأن هناك كائنًا علويًّا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة التي يصورها الشاعر قد سئمت الإنسان فلم تعد تعرفه أو تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورًا للقبح والفساد والفناء.
هذه الأمثولة (وما أشبه اليوم بالأمس! فهل تذكر أيها القارئ مفارقات زينون الأيلي عن أخيل والسلحفاة؟) تعبر عن موقفٍ أساسي في وجدان الجيل الحديث من الشعراء، ألا وهو العجز عن «الوصول» حتى ولو كان الهدف قريبًا. ولنضرب مثلًا لذلك من الشعر الحديث بقصيدة لوركا «أغنية فارس» (١٩٢٤م).
فالفارس يعرف الطريق إلى هدفه وهو مدينة قرطبة، ولكنه يعرف أيضًا أنه لن يصل أبدًا إلى هذا الهدف. إن الموت يحملق فيه من أبراج قرطبة، وهو لن يعود إلى بيته لأن الموت ينتظره هناك في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح.
وما كذلك الشاعر القديم الذي كان يحنُّ إلى بيته أو وطنه، ويحمل في نفسه صورة البيت والدخان الذي يصعد من مدخنته، والسور الذي يظهر فوق سطحه، والعجوز التي ستفتح له الباب … إلخ.
ولنضرب مثلًا آخر بقصيدة «جوته» التي تبدأ بهذا البيت:
«دعوني أبكي» وهي إحدى قصائد ديوانه الشرقي التي لم ينشرها فيه ووجدت بعد الموت في أوراقه.
فالشاعر هنا بعيد عن هدفه. وهو يقضي ليلته في الصحراء المترامية الأطراف، ويفكر في الأميال التي تفصله عن حبيبته «زليخة» غير أن بُعد هذا الهدف في المكان لا يبعده في الحقيقة عنه، لأنه يظل شيئًا يحنُّ إليه كما يظل شيئًا مألوفًا له، قريبًا منه بالتذكر والشوق، يمكنه أن يصل إليه بين يوم وآخر. إنه حزين، ولكن حزنه يمكن أن يجد العزاء، بل إنه ليعزي نفسه حين يتذكر أبطالًا قدامى، بكوا حقًّا، ولكن البكاء لا يعيب الرجال.
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته إن قرطبة بعيدة. ونخطئ لو تصورنا أنه بعدٌ مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه ولكنها بعيدة عنه بُعدًا مطلقًا، على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. هناك لغزٌ محير يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه ويجعل الطريق إليها طريقًا خطرًا لا نهاية له. ما من شوق ولا دموع، ما من عزاء عن هذا الإحساس بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق، في حالةٍ شعورية لا حدود لها ولا معالم. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت وهذا هو كل شيء. أضف إليه هذه الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورةً لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة والخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلَّى لنا الفارق العميق بين أسلوبَين في التعبير الشعري؛ فالهدف البعيد في المكان يظل قريبًا من نفوس القدماء، إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه ويعزون أنفسهم ببلوغه، أما المحدثون فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بعدٍ باطني مخيف، تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه.
إن الشاعر القديم مطمئن إلى العودة إلى بيته وأهله، أما الشاعر الحديث فيشعر أن هذه العودة مستحيلة، لأن هناك لغزًا أو قدرًا يأسره ويتسلط عليه ويبعد الوطن عنه أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبًا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبًا عليه. ولعل قصيدة لوركا الأخيرة أن تكون من أوضح الأمثلة على استحالة العودة إلى وطن تسكن النفس إليه، ربما لأن الوطن صار غريبًا، والغربة صارت وطنًا.
(٨) غموض الشعر الحديث
تحدثنا في الصفحات السابقة عن غموض الشعر الحديث، وبينَّا أنه من أهم الخصائص التي تميزه. والواقع أن الشعر الحديث يلقي على اللغة مهمةً عسيرة وغريبة معًا، ألا وهي أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آنٍ واحد. فالغموض يوشك أن يصبح مبدأً جماليًّا عامًّا لهذا الشعر. إنه يعزل القصيدة عن وظيفة اللغة الأساسية في النقل وتوصيل المعاني، ليعلقها في ما يشبه الفراغ، فتبتعد عن القارئ كلما حاول أن يقترب منها. وقد يبدو في بعض الأحيان كأن الشعر الحديث ليس إلا محاولة لتسجيل إحساساتٍ مبهمة وتجاربَ مضطربة يحتفظ بها الشاعر لمستقبلٍ قريب أو بعيد، يستطيع أن يعبر فيه عن إحساساتٍ أوضح وتجاربَ أنجح. ولهذا فهو يدور ويدور حول إمكانيات لم تثبت أو تتحقق بعدُ.
ولكن من أين يأتي هذا الغموض؟
قد يأتي من المضمون أو من الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر. فالقصيدة تتكلم عن أحداث أو كائنات أو أشياء لا يعرف القارئ شيئًا عن مكانها أو زمانها أو أسبابها، ولا يخبره الشاعر بشيء عنها، وعباراتها لا تتم ولا تكمل بل تنقطع فجأة لسبب لا يدريه، كأنما حاولت أن تقطع الصمت المطبق فلم تفلح. وقد لا يتألف المضمون إلا من مواقفَ لغويةٍ متباينة، تختلف بين الخشونة والنعومة والسرعة، بحيث تكون الموضوعات والمشاعر التي تتحدث عنها مجرد مادة بلا معنًى محدد. ومن أبرز وسائل الأسلوب التي تسبب الغموض تغيير وظيفة الحروف والروابط والصفات والظروف وصيغ الأفعال المختلفة، وترتيب الجملة العادية ترتيبًا غير عادي، والميل إلى ما يمكن تسميته بالجمل المفتوحة، كأن تتألف الجملة من أسماء لا يرتبط بها فعل، أو نجد جملةً رئيسية بلا جملةٍ جانبية أو العكس، أو جملةً شرطية بغير جواب الشرط، أو إسقاط أدوات التعريف عن الأسماء أو استخدامها بطريقة تزيد من الغموض بدلًا من أن تعمل على التحديد والتعريف، أو استخدام الكلمات بمعانٍ قديمة مشتقة من أصولها الأولى التي لم يعد يستخدمها أحد. أضف إلى هذا أننا قد نجد قصائد بلا عنوان، أو بعناوين لا توافق موضوعها فتزيد بذلك من تعدد المعاني المختلفة التي توحي بها. وقد يكون السبب في التخلي عن العنوان هو رغبة الشاعر أن يخلي مضمونه من أية صلة تربطه بالواقع والمألوف. ويذكرنا هذا ببيكاسو الذي اشتهر عنه أنه لا يضع عناوين للوحاته، بل يتولى ذلك عنه تجار اللوحات ومنظمو المعارض الفنية.
ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتتبع أقوال الشعراء التي يطالبون فيها بالغموض أو يحاولون تبريره. وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأقوال في الفصل الأول. ولا بأس من أن نورد بعضها الآخر؛ فهي جميعًا تثير مشكلة الفهم إلى جانب مشكلة الغموض، ومعظمها يتجه إلى الجواب عليها في نفس الاتجاه الذي سار فيه مالارميه من قبلُ. فالشاعر «ييتس» يتمنى أن يكون للقصيدة من المعاني بقدر عدد قرائها! وإليوت يقول إن القصيدة شيءٌ مستقل يقف بين المؤلف والقارئ، كما أن العلاقة بين المؤلف والقصيدة تختلف عن العلاقة بينها وبين القارئ. فالقصيدة التي يكتبها الشاعر تخرج من يده إلى الأبد. وقد يستشف القارئ فيها معاني لم تخطر على بال المؤلف، أي أن من حق القارئ أن «يؤلفها» لنفسه من جديد. والشاعر البرتغالي بيدرو ساليناس يقول في هذا المعنى: «إن الشعر يرتبط بشكلٍ عالٍ من التفسير يكمن في سوء الفهم. فالقصيدة تنتهي بعد كتابتها ولكنها لا تتوقف، بل تبحث عن قصيدةٍ أخرى في نفسها أو في المؤلف أو القارئ أو الصمت …» أي أن القوى الكامنة في القصيدة أو في اللغة التي كتبت بها لا تنتهي بمجرد الفراغ من تأليفها بل تطلق طاقاتٍ جديدة في نفس الشاعر والمتلقي، وهي طاقات تظل كامنة في لغة القصيدة دون أن يعرف الشاعر عنها شيئًا.
وقد «يوضح» ما نريده بهذا الغموض أو الإظلام في الشعر الحديث أن نضرب مثلًا له بإحدى قصائد الشاعر الإسباني «جيان» عنوانها «أغمض عيني» ويمكن أن تعتبر نوعًا من التبرير الشعرى لذلك الغموض، كما يمكن أن نتسمع فيها أصداء من قصيدة مالارميه السابقة عن الزهرية. تقول القصيدة:
وليس من العسير أن نفهم معنى القصيدة. فالظلام أو الغموض الذي يتحدث عنه الشاعر يأتي من احتمائه بنفسه من العالم الخارجي والابتعاد عن أضوائه وضوضائه. إنه يغلق عينَيه فينفتح عالمه الداخلي ويتحرر من ضجة الحياة والموت ويحول الظلام — أو اختفاء الواقع الخارجي — إلى نور، ويطلع تلك الزهرة التي لا تتفتح إلا في نور الظلام (والوردة هنا هي الكلمة الشاعرة كما عرفناها عند مالارميه وإن لم تقترن عند الشاعر البرتغالي بمعنى الفشل الذي وجدناه لدى الشاعر الفرنسي). أي أن الشعر لا يوفق ولا يكتمل إلا في عالم «اللاواقع» الذي يجبره على الغموض والإظلام، وهي فكرةٌ أساسية في الشعر الحديث.
ولا يصحُّ أن نحاول فهم قصائد أنجارتي من ناحية المضمون، فكثيرًا ما يصيبنا الذهول لتفاهة مضمونها أو لأنها لا تتضمن أي شيء أو لأننا لا نستطيع في بعض الأحيان أن نفهمها على الإطلاق! والواجب أن ننظر إلى كلماتها كصيغٍ صوتية أو أشكالٍ نغمية تبعث صدًى ساحرًا. ومن المؤسف أن ترجمتنا أو أية ترجمةٍ أخرى إلى أية لغة ستخيِّب أمل القارئ وتضيع عليه متعة هذه الأنغام والأصداء. وإذا كانت الترجمة خيانة والمترجم خائنًا كما يقول الإيطاليون أنفسهم، فلعل الترجمة هي الخيانة الوحيدة المسموح بها للتقريب بين الشعوب والحضارات!
ولنتأمل الآن إحدى قصائد أنجارتي الحرة لنرى كيف يبدو هذا الغموض الذي اشتهر به شعره.
إنها قصيدة «الجزيرة» (وقد ظهرت في سنة ١٩٣٣م في ديوانه عاطفة الزمن)، ولنقرأ القصيدة أولًا قبل التعليق عليها:
القصيدة تتكلم عن حدثٍ ما، في جملٍ متموجة بالغة القصر، مركبة تركيبًا نغميًّا دقيقًا، خالية تمامًا من أي أثر للأنا. وهي تدور حول شخص تسميه «هو». ولكن من هو هذا الشخص؟ لن نتلقى جوابًا. فالضمير غير محدد ولا معروف، ويزيد من عدم التحديد أن العبارات قد رُصَّت بغير علاقةٍ ضرورية تربط بينها. والقصيدة تضم صورًا من الحياة الرعوية التي طالما تغنى بها الشعراء وحنُّوا إليها: كالجزيرة والغابات وحورية البحر والراعي والماشية. ولكننا سنسأل أنفسنا حين يذكر العذارى: أي عذارى هؤلاء؟ غير أن الحدث يتوقف، ويظل شذرة لا سبب لها ولا هدف. ومع الخاتمة يحلُّ السكون وتزداد مجموعات الكلمات شذوذًا وبُعدًا عن بعضها البعض:
ولكن إلى أين وصل ذلك الشخص؟ إن الصورة الهادئة في النهاية قد أنستنا بداية الحدث، وكأن لم يكن له ولا لصاحبنا القديم وجود ولا معنًى. وإذا أمكن أن نجد للقصيدة مضمونًا فهو في اتجاه حركتها. وصول ولقاء وسكون. وكلها حركاتٌ مجردة، لا تعني إلا نفسها، مشبعة بسر ذلك الحدث الغامض الذي تظهر على سطحه. فإذا جاءت الخاتمة لم تحلَّ هذا السر، بل أضافت إليه جديدًا. صحيح أن الحركة ستنتهي بالهدوء والسكون — ولكن تنافر الصور فيها (يدان كالزجاج) يشير إلى مستوًى أعلى تصنعه اللغة نفسها — أي يشير مرةً أخرى إلى الغموض والظلام.
ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذا الغموض سحره الشديد، وقد يكون له عند الشاعر العظيم ما يبرره في النغمة أو الصورة أو الرؤية. غير أنه قد يصبح عند العاجزين من الشعراء ميدانًا للادعاء والثرثرة السخيفة، أو مجالًا للتهكُّم والسخرية عند القراء، أو مبعثًا للحيرة عند النقاد. وقد عمد بعض هؤلاء القراء منذ سنواتٍ قليلة في أستراليا إلى دعابةٍ خبيثة تشبه عندنا فضيحة اللامعقول ومسرحية دورنمات المزعومة؛ فألفوا أبياتًا لا معنى لها، ونسبوها إلى عامل منجم مغمور، زعموا من باب الاحتياط أيضًا أنهم وجدوها بعد موته في أوراقه … وراح النقاد يشيدون بعمق هذه الأبيات ويبكون موهبة الفقيد!
وليس ببعيد أيضًا ذلك السخف الذي وقع فيه شاعر كبير مثل «رلكه» حين زعم في إحدى رسائله أن السوناتا السادسة عشرة من ديوانه «أغاني أورفيوس» موجهة إلى كلب … فهل يئس الشاعر أن يعثر بين الآدميين على أحد يفهمها أو يحسها؟!
(٩) اللغة سحر وإيحاء
أصبح الشعر الحديث منذ عهد رامبو ومالارميه نوعًا من السحر اللغوي. وقد شرحنا المعنى المقصود من هذه الكلمة في الفصول السابقة وبينَّا أن النظريات النقدية والأدبية في القرن العشرين تتعرض دائمًا لفكرة الإيحاء كلما عرضت لتأثير الشعر. ونحب الآن أن نذكر شواهدَ أخرى على هذا. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور (١٨٨٩م)» قد جعل من الإيحاء عنصرًا أساسيًّا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» أو الذهني طاقات وإشعاعاتٍ روحية يؤخذ القارئ بسحرها ولو لم «يفهم» شيئًا من هذا الشعر. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة؛ أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تقع على حدودها أو يحدثها الربط بين الكلمات بطريقةٍ شاذةٍ غير مألوفة.
وشعر «بن» نفسه من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة وتقدم الصوت على المعنى. ولعل هذا هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر وجعلها مع ذلك شاعرية. وقصيدته عن «شوبان» التي تجدها في غير هذا الموضع؛ هي في الحقيقة سيرة حياة بالأنغام. فليس المضمون فيها سوى مجموعةٍ شذرات تشير إلى أحداث وتأملات ومونولوجات (أحاديث ذاتية)، صيغت في عبارات مبتورة.
والحدث في هذه القصيدة لا يسير في مسار الزمن العادي من الحياة إلى الموت، بل يعكس هذا الاتجاه. وهو لا يجد حرجًا من ذكر أبعد الألفاظ عن الشعر، فيحدثنا بأسماء بعض الآلات الموسيقية أو «ماركتها»، ومقدار المكافأة التي كان يتقاضاها الموسيقي العظيم، وأسماء العظماء الذين كان يعزف أمامهم وعناوين بيوتهم بمنتهى الدقة، وبعض التفصيلات الخاصة بأسلوب شوبان في الفن. ولا ينسي «بن» أنه طبيب للأمراض الجلدية فيورد جزءًا من التشخيص الطبي لمرض شوبان الفتاك (مع نزيف وتكوين بثور … إلخ). غير أننا نحس مع هذا كله بشيء يشبه الرعشة تتخلل كل هذه التفاصيل الموضوعية والاصطلاحات العلمية والشذرات والجمل الناقصة، شيء ينبع منها ويطغى عليها في وقتٍ واحد. وإذا دلت هذه القصيدة التي لا تُنسى على شيء، فإنما تدل على أن الشاعر يستطيع أن يتخلى عن الموضوعات التقليدية التي كان يدور حولها الشعراء، وأن يقترب كثيرًا من لغة النثر دون أن يحطم جوهر الشعر نفسه.
وفي شعر رامون خيمنيث، وهنري ميشو، وتوماس إليوت شواهدُ كثيرة على هذا التأثير السحري — بل المغنطيسي في بعض الأحيان — الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكلٍ مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها بحيث تخلق توافقاتٍ إيقاعية أو تركيباتٍ موسيقية تنفذ إلى الأذن مباشرة وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر ينظر إلى اللغة بوصفها طاقةً نغمية قبل كل شيء، ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجيان الإسباني، وكلاهما يستحق منا وقفة قصيرة.
(١٠) بول فاليري (١٨٧١–١٩٤٥م)
و«آلهة القدر الشابة» مشهورة بصعوبتها، حتى لقد قيل إنها من أعقد ما كتب في الشعر الفرنسي وأشده غموضًا. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نحدد موضوعها الذي اختلف عليه الشراح والمفسرون. ولكننا قد نقترب منها قليلًا لو عرفنا شيئًا عن الصراع الذي كان يدور في كيان صاحبها فيوزع نفسه ويكاد يمزقها. إنه الصراع الذي عانى منه معظم حياته بين الفنان والشاعر والإنسان في نفسه، وبين المفكر العقلي الصارم الدقيق الذي يميل إلى التحليل والتأمل والاستقلال والتجرد. ولا بد أن هذا الصراع بين العقل والجسد هو الذي أعاده إلى الشعر وأجرى قلمه بهذه القصيدة الغامضة العجيبة، وليست القصيدة مجرد تسجيل لصراعٍ نفسي، ولا تتضمن أية إشارة إلى حياة الشاعر الشخصية بل ولا تمسُّ موضوعًا محددًا. وهي كذلك ليست من نوع القصائد الدرامية أو القصصية التي تتناول موضوعًا أو موضوعاتٍ معينة، وإنما هي قصيدةٌ رمزية تقوم على أسطورةٍ غامضة وتعبر عن حالاتٍ شعوريةٍ متعددة أشبه بحالات المد والجزر وتتفاوت أمواجها بين التردد والتصميم، بين العزلة الهادئة والانفعال الجارف، بين الإقبال على دفء الحياة والعزوف عنها إلى برودة الفكر. وتتداخل كل هذه الأمواج في بعضها البعض فلا نتبين معالم ولا حدودًا. قيل مثلًا في تفسيرها إنها «مونولوج» آلهة قدر شابة تواجه مشكلة الاختيار بين عزلتها السماوية ومسئولياتها الأرضية. وقيل إنها رحلة في مجاهل الوعي الإنساني بين غرائب الموت والحياة. وقيل إنها أحلام شاعرٍ راقد في فراشه. وقد تكون القصيدة شيئًا من هذا كله وقد لا تكون. إنها بطبيعتها لا تقبل التحديد في شكلٍ معين، ولا تقرر موضوعًا بل تحدث أثرًا وتشير إلى حالة. وربما لم نبعد عن الصواب كثيرًا إذا قلنا إنها حالة صراع واجهه الشاعر نفسه وألبسه هذه الرموز الغائمة وهذه الأسطورة الغامضة.
وطبيعي أن يقارن القارئ بين هذه القصيدة وبين قصيدة مالارميه أو حواريته القصيرة «هيرودياد»، وهي هذه العذراء العنيدة الباردة برودة الثلج التي أراد أن يجسد فيها رغبة الإنسان في البعد عن كل الرغبات والعواطف والتجرد من كل الانفعالات والغرائز، فهل أراد فاليري كذلك أن يعبر «بآلهة القدر الشابة» عن الصراع بين الرغبة في الحياة الدافئة الفعالة، وبين الرغبة الأخرى في التأمل المستقل المجرد من كل العواطف والانفعالات التي يوحي بها الجسد أو توحي بها الحياة؟
قد يكون هذا حقًّا، ولكنه لا يمثل كل الحقيقة؛ فقد سار مالارميه على طريقةٍ درامية وأدار الحوار على لسان هيرودياد ومربيتها ليصور جانبي الصراع الذي قد يعبر عن نفسه. أما فاليري فليس في قصيدته شيء من هذه الدرامية، وموضوعاتها بغير معالم أو حدود، وهي تبدأ وتنتهي بغير حدثٍ معين، والخيط الوحيد الذي قد نعثر عليه فيها هو هذه الحالة المركبة التي تعبر عن وجدان أو وعيٍ نصف حالم، تتوالى عليه أمواج ودرجات مختلفة من المشاعر والتجارب، وتترابط فيه مجموعة من الرموز التي تتجاوب مع التغيرات المختلفة في جو الحلم العام. وقد ننسى لدى قراءتها شخصية «الآلهة» التي تدور حولها، بل قد نحس بأن الشاعر نفسه قد نسيها! وربما كان الحق معنا ومعه فهو يعالج أمورًا لا يكفي الرمز الذي اختاره للإلمام بها، ويتناول مشاعر يصعب تحديدها وترتيبها في نظام أو تفكيرٍ محدد. هكذا يكون التلميذ قد ذهب إلى أبعد من أستاذه. فنحن نستطيع أن نفهم «هيرودياد» بغير حاجة إلى النظر وراء شخصيتها هي ومربيتها. أما «آلهة القدر» فندخل معها في عالم شحب فيه كل شيء حتى شخصية هذه الآلهة نفسها. هذا الشحوب أو الغموض أو عدم التحدد يميز القصيدة من بدايتها. لنستمع إلى هذه الأبيات التي تُفتتح بها القصيدة وتوحي بأن الشاعر يتكلم عن نفسه:
ولكننا لا نلبث أن ننتقل — بغير إشارة ولا تحذير — إلى مونولوج الآلهة الفتية التي جاءت إلى عالمٍ غريب عليها، ويتغلغل الشاعر فيها، وتصبح كلماتها هي كلماته التي تجسد أفكاره وتأملاته. ومع ذلك فنحن لا نكاد نتأكد من شيء على وجه اليقين. لا نكاد نعرف، حين تبدأ في الكلام، إن كانت هي التي تتكلم أو إن كان الشاعر هو الذي ينطق بلسانه أو لسانها. إن من الصعب التمييز بين الشاعر ورمزه. فآلهة القدر مخلوقة تنبثق من حالة وسط بين اليقظة والحلم، والوعي واللاوعي، وهي تخرج من الشاعر لكي تعود فتذوب فيه، بحيث لا ندري إن كانت مثل هذه الأبيات تصدق على الشاعر أم على آلهته الفتية:
فهي تصدق على آلهة القدر التي تتمزق بين السماء والأرض وتريد أن تبقى على الأرض حيث عضتها الأفعى. وهي تصدق كذلك على الشاعر الذي سئم صراعه مع الوعي اليقظ أو تخلَّى عنه ويريد الآن أن يستسلم لتجربة الحلم المضطربة.
من الصعب إذن أن نميز بين الشاعر ورمزه، بل ليس هناك ضرورة لذلك. علينا بدلًا من هذا أن نتذوق الجو أو الأثر أو الحالة التي توحي بها القصيدة وأن نستمتع به ونعيشه ونتلقاه بالشعور والإحساس لا بالعقل أو الفهم. فالقصيدة لا تريد أن تعلمنا وتفيدنا بقدر ما تريد أن توحي وتؤثر وتبتعث جوًّا عامًّا تتماوج فيه مختلف المشاعر والتجارب والانفعالات. ولعلها تصور ما قاله فاليري نفسه من أن الشعر لا يهدف على الإطلاق لتوصيل فكرة ٍمحددة إلى إنسانٍ ما. بل إن المهم فيه هو الكلمات وإيقاعها، والصور التي توحي بها، والتداعيات التي تثيرها. والتجربة أو الحالة التي تخلقها. ولو كانت القصيدة أقل غموضًا مما هي عليه، أو لو استطعنا أن نميز بوضوح بين الشاعر وبين آلهته الشابة أو نضع أيدينا على أحداث أو أشياءَ محددة لفقدت أهم شيء فيها وهو هذه الحالة الغامضة التي يريد الشاعر أن يخلقها فينا؛ حالة التأرجح بين الحلم واليقظة، حيث تتجلى الصور المتألقة ثم تنداح في ضباب الغموض، وحيث نفهم معانيه في بعض اللحظات لنغوص من جديد في الحلم أو الضباب.
وليس المهم بالطبع أن يكون الشعر غامضًا أو صعبًا؛ فهذا شيء مألوف من الشعر الحديث، وإنما المهم أن ينقل إلينا في النهاية حالة نستطيع أن نقول إنها قريبة من الحالات التي نعرفها في أنفسنا، وإنها في غموضها أو وضوحها لا يمكن التعبير عنها بالنثر ولا بالوضوح الكلاسيكي القديم. بل إن مثل هذه الحالة التي توحي بها القصيدة بين الحلم واليقظة تقدم لنا صورًا ورموزًا تتجاوز نفسها، وتجعلنا ننظر إلى أنفسنا في ضوءٍ جديد وكأنما نحن رموز لقوًى كونية أكبر وأعظم. فالشاعر يرى نفسه أشبه بآلهة تخلت عن مسكنها السماوي الأعلى لتشارك في متاعب الحياة الفانية وعواطفها ومصادفاتها، أي يصور نفسه ممزقًا بين أفكاره وأفعاله، بين عقله وجسده. ونحن نتعاطف معه ونشاركه هذه الحالة التي تتجاوز حدود طاقتنا البشرية العادية، ونحس أننا قد أصبحنا مركز الكون كله أو على الأقل مركز نظامٍ هائلٍ كبير، وأن كل ما نفعله أو نفكر فيه أو نحس به إنما يحمل دلالاتٍ أكبر وأعظم منا. انظر مثلًا إلى هذا البيت:
أو إلى هذا البيت:
لترى أن كل تغير في النغمة أو الرمز يفتح أفقًا جديدًا، ويكشف عن إمكانياتٍ جديدة من البهجة أو الألم، توشك أن تكون كونية لا شخصية فحسب.
لم يعد الشاعر يرى نفسه بمثابة المركز من عالمٍ خاص به، بل تحول إلى أفقٍ أكبر منه، وأوسع، وكأنما حدثت — كما يقول س. م. بورا — ثورةٌ كويرنيقية في عالم الشعر «الرمزي» استبدلت بمثاليته الرمزية نزعةً مطلقة جعلت أفكار الروح الواحد هي أفكار الكل، كما جعلت تجربته الفردية هي تجربة الإنسان بوجه عام.
فالقصيدة تتحرك إذن بين طرفَين، وتشير لصراع الآلهة الشابة — وصراع الشاعر نفسه — بين عالم السماء؛ عالم الأسرار والألغاز والانسجام والآلهة — وعالم الأرض، عالم الألم والمرارة والقبل والاحتضار والأجساد. وتختار الآلهة أن تعود إلى السماء. وينتهي صراعها عندما تتأكد من فشل الحياة وفزعها. والقصيدة يمكن كما قلت أن تكون تعبيرًا عن صراع في نفس الشاعر بين فكره الدقيق وذاته الشاعرة، وما دام قد نجح في صياغة هذا الصراع في شكلٍ فني فقد نجح إلى حدٍّ كبير في التخلص منه (وهذا ما تعلمنا تجارب الفنانين الكبار بوجهٍ عام). ومع ذلك فإن نجاحه في إبداع قصيدة استلهمها من مشكلته الباطنة لا يعنى أنه نجح في حل مشكلةٍ أخرى، وأعني بها منزلة الشعر في حياة تريد أن تخضع لقواعد العقل وتصر في نفس الوقت على رؤية الأشياء الواقعية على ما هي عليه.
أي أن مشكلة فاليري — وعدد كبير من الشعراء المحدثين — هي ربط الشعر بالتجربة المألوفة، والعثور على موضوعات لا تكون بالضرورة شاذة أو غير واقعية، والجمع بين اكتشافات العقل ورؤى الخيال. ولعل هذا هو الذي جعل فاليري يحس أن طاقته الشعرية تستطيع أن تتجاوز الحدود التي يحاول عقله التحليلي الدقيق أن يرسمها لها، وأن هناك عوالمَ أخرى غير العالم الذي يقع بين الحلم واليقظة كما صورته «آلهة القدر الشابة» لا تقل عنه أهمية وخصوبة وشاعرية، وأنه يستطيع أن يكون أقل غموضًا وأقرب إلى التذوق (وإن بقي شعره في نهاية الأمر مقصورًا على الصفوة التي تستطيع أن تتذوق ما فيه من دقة ورهافة، وتفهم ما تعنيه صراعاته ومشكلاته أو تشاركه فيها).
وقد ساهم مالارميه كما سبق في تأكيد هذا المعني بنظرته المثالية إلى الشعر كنوع من السحر الذي يحرر العالم ويخضعه بقوة الكلمة. وربما يصعب علينا أن نتصور أن فاليري يوافق على هذا الرأي. ألم يقل في كتاباته النقدية إن واجب الشعر هو أن يصنع من لغة الأمة بعض التطبيقات الكاملة؟ ألم يقل إن اختياره لنوعٍ معين من البحور هو الذي يحدد طريقته في التأليف، وأنه يحس دائمًا بالحاجة إلى الكتابة كلما وجد القلم والحبر أمامه؟ ألم يذهب إلى أن الشعر يمكن أن يختفي من العالم كما اختفت منه فنون الضرب بالرمل أو التطير أو شعائر الحروب؟ ومع ذلك فإن العنوان الذي اختار له كلمة «التعاويذ» يوحي بإيمانه بأن الشعر ضرب من السحر، وأنه لم يستخدم هذا العنوان لمجرد السخرية. فالشعر عنده فعلٌ خلاق، وهو يؤثر على النفس بوسائل تخفى حتى على الشاعر نفسه. إنه يعمل على طريقته، ولكن النتيجة تخرج عن رؤيته وتتجاوز قصده. ولذلك فإن اختيار «التعاويذ» عنوانًا لقصائد هذه المجموعة اختيار له ما يبرره؛ فهي تريد أن تؤثر وتوحي، لا أن تعلم أو تفيد، والشاعر فيها يشبه الساحر بقدر ما يؤثر على النفوس والمشاعر بوسائل لا يفهمها هو نفسه تمامًا ولا يستطيع أن يسيطر عليها كل السيطرة.
إن مجرد وجود الشعر ليكفي في حد ذاته لإثارة التساؤل في عقل الناقد والعجب في نفس الشاعر. والواقع أنه يثير الأمرين معًا في نفس فاليري وعقله. لقد شُغل طوال حياته بالتفكير في الشعر، في قيمته ووظيفته وكرامته ومعناه. وكتب عنه أجمل وأحكم ما يمكن أن يكتب. وصدقت عليه هذه العبارة التي لا تصدق على شاعر سواه وهي أنه «شاعر الشعر»، الذي لم يمل من الكلام عن معنى الشعر وطبيعة الخلق الشعري، ولم يتعب من التغلغل في أعماق الشاعر للكشف عن ظلماتها وأنوارها. إن الشعر عنده شيءٌ واقعي لا مثالي. وهو لا يهتم كثيرًا — كما فعل بودلير أو مالارميه أو شيلي — بالقصيدة المثالية ولا بمكان الشاعر من العالم أو بآماله في المجد والخلود. إن اهتمامه كله ينصب على عمل الشاعر ورأيه فيه وشعوره نحوه عندما يكون في طور النشأة أو بعد أن يفرغ منه. وقد نجح في التعبير عن هذه العملية الخلاقة التي تفلت دائمًا من الشاعر وتخفي عنه أسرارها في قصائد تجمع بين التأمل المجرد والغنائية العذبة، نذكر منها على سبيل المثال قصائده «الخطى»، و«تخيل»، و«أغنية الأعمدة»، و«فجر». وسنكتفي بالحديث عن القصيدة الأولى باختصار.
تبدو القصيدة للوهلة الأولى كأنها تصف حالة انتظار الشاعر لمحبوبته القادمة إليه. ولو صح هذا لما كانت به حاجة للحديث بهذه الصورة الملتوية. فما الداعي للتجريد الشديد في قوله «سرير اليقظة»؟ ومن هو «ساكن أفكاره»؟ وما السر في وصف الخطى المحبوبة بأنها «أطفال الصمت»؟
لا شك أن شاعرًا يدقق في اختيار كلماته مثل فاليري لا يستخدم هذه العبارات كيفما اتفق. فما الذي يدعوه إذن إلى استخدامها؟ الجواب بسيط: إن المحبوبة التي ينتظرها هي الشعر نفسه؛ من هنا يمكن أن تكون الخطى هي الشعر نفسه، من هنا يمكن أن تكون الخطي هي «أبناء صمتي» لأن معنى الخلق الشعري قد نضج لديه في وقت آثر فيه أن يعتزل ويصمت عن قول الشعر. وسرير يقظتي، هو النفس التي تنتظر استقبال الوافد، والمعتاد من أفكاري هو الذات الخلاقة التي تعيش وسط الأفكار المتعددة.
فالقصيدة كلها توحي بجو الانتظار والتهيؤ الواثق المستبشر ببدء الفعل الخلاق. والرموز التي يستخدمها الشاعر متجانسة تمامًا مع هذا الجو. فانتظار الشعر أشبه بانتظار زيارة الحبيب، وحالة الشاعر المنتظر أشبه بحالة العاشق المتلهِّف على مقدم المحبوب. كلاهما يحيا على الأمل، ويثق في ساعة اللقاء. ومهما تأخر الوافد المحبوب فهو لا يقلق ولا يتعجل. إنه يتهيأ لهذه اللحظة العذبة الأليمة ويجمع شتات نفسه قبل أن يستسلم لفعل الخلق استسلام الحبيب للحبيب:
(١٠-١) عذوبة أن نكون ولا تكون
هذه اللحظة هي ذروة العمر كله، هي التي يهب فيها الإنسان نفسه ويبقى على الرغم من ذلك هو نفسه، كمثل ما يكون العاشق ولا يكون في اللحظة التي يطبع فيها المحبوب قبلته على شفتَيه. هذه المفارقة التي تعبر عنها «عذوبة أن نكون ولا نكون» لها دلالتها على نظرة فاليري إلى طبيعة الإلهام والخلق الفني. كانت نظرة القدماء إلى الإلهام أن الشاعر هو أداة أو وسيلة تنطق بلسانه قوةٌ إلهيةٌ خفية. فهوميروس يبدأ إلياذته بأن يطلب من ربة الفن أن تنبئه عن غضبة أخيل. ولكن فاليري يرى أن هذه النظرة ساذجة وغير علمية، وأن فكرة الإلهام أو القوة الخفية التي توحي للشاعر وتسيطر عليه فكرة لا تتفق مع ملاحظته للواقع. إن العملية الشعرية تسير على نحوٍ آخر، فهناك كما يقول أبيات من الشعر «يجدها» الإنسان وهناك أبياتٌ أخرى «يصنعها صنعًا». ومن السهل أن نفهم المراد بالجزء الثاني من هذه العبارة، أما الجزء الأول فلا يزال سرًّا خفيًّا. قد يستطيع علم النفس أن يقدم له تفسيرًا ولكنه تفسير غير كافٍ ولا مقنع. فهو قد يصطنع له سببًا من الأسباب، ولكنه يقصر عن تفسير البهجة التي تصحبه أو القوة التي يرد بها عليه؛ ولذلك يظل الفعل الشعري شيئًا غامضًا محفوفًا بالأسرار، ويثير من المشاعر والانفعالات ما لا يعبر عنه إلا الشعر نفسه. إن الخلق الشعري يحتوي دائمًا على عنصر المصادفة. فما من شاعر يستطيع أن يتنبأ بما ستنتهي إليه قصيدة بدأ في تأليفها. صحيح أنه يبدأ بفكرةٍ معينة، فإذا مضى في عمله اكتشف أن فكرته وأسلوبه وهدفه قد تغير، وأن كل جهد يبذله وكل عقبة تصادفه إنما تبدل أفكاره وتزيدها غنًى. وقد فطن مالارميه إلى هذا الرأي وعبر عنه بكلمته المشهورة التي ذكرناها في الصفحات السابقة: «ما من رمية زهر تستطيع أن تلغي الصدفة.» — وقد تكون الصدفة التي يقصدها هي الواقع العرضي الذي تحاول لغة الشعر أن تلاشيه. وقد يكون تعبيرًا عن البلبلة والحيرة المطلقة التي تواجه الشاعر في أثناء الخلق. فهو يلقي «زهرة» ولا يدري ماذا يكون حظه من التوفيق أو الفشل، لأن مادته تواجهه بمفاجآتها العديدة التي لم يكن يتوقعها أو يحسب حسابها.
ولكن ماذا يحدث لو تأخر هذا العطاء، لو تلكأت هذه الصدفة؟
هذا هو موضوع القصيدة الأخرى «التخيل». إن الملاك الذي يظهر في سطورها الأولى يوصي الشاعر بأن ينتظر في ثقة وهدوء (والملاك رمزٌ آخر أخذه فاليري من معلمه مالارميه ويدل عنده على المثال المطلق للجمال والسلام). فقد تمر به أوقات يحس فيها بالعجز والعقم والإجداب، ولكن هناك قوًى خفية تظل تعمل عملها في أعماقه دون أن يدرى، ولا بد أن يأتي الشعر في اللحظة المناسبة:
ولا بد أيضًا أن ينتظر الشاعر في صبر وثقة وأمل، وأن يتأكد من أنه سيكافأ على هذا الصبر، وأن المفاجأة السعيدة لا شك آتية.
وإذن ففاليري يميز بين المعطي — وهو عنصر الصدفة والمفاجأة غير المنتظرة — وبين عنصر «الصنعة» الذي يجعل الشاعر يشكل الأفكار التي نضجت في عقله، والإحساسات والصور والتداعيات التي جمعها عن غير وعي واختزنها في ذاكرته ويضعها في إطار أو نظامٍ لغويٍّ معين. وقصيدة «النخيل» تشهد على هذا كله، كما تشهد على ما كرره فاليري من أن الشعر لا يأتي من الأفكار بل من الجسد، أو بعبارةٍ أخرى من الإحساسات؛ فالحمامة، والنسمة والمرأة، كلها إحساسات تستثير في الشاعر قدرته على الخلق، والمهم بعد كل شيء هو أن ينتظر ويصبر.
ويبلغ حديث فاليري عن سر الخلق الشعري والأدبي ذروته في قصيدته الرائعة «كاهنة بيثيا». والقصيدة درامية وفلسفية، بل توشك أن تكون تعليمية في سطورها الأخيرة. وهي كما يدل عليها عنوانها تدور حول كاهنة معبد أبوللو في دلفي، التي اعتاد إله الفن والنور أن يعلن تنبؤاته على لسانها. وهي لذلك تشبه الشاعر الذي يوحي إليه بالكلام بلا سبب معروف. ومع أن القصيدة لا تشير إلى الشاعر مباشرة فإن عذابها الذي تعانيه لا يقتصر عليها وحدها، وإنما يرمز لعذاب كل شاعر، بل كل من يحتمل آلام التجربة اللغوية والفنية بوجهٍ عام. ومع أنها أيضًا تعبر عن جانبٍ واحد من جوانب الخلق وهو جانب العذاب والصراع واليأس والفزع الذي تقاسيه الكاهنة في واحد وعشرين مقطوعةً حتى يأتي الخلاص الأخير في المقطوعة قبل الأخيرة، فإن الشاعر يختمها في المقطوعة الأخيرة بما يشبه الحكمة التعليمية التي تعتبر خاتمة القصيدة وذروتها في آنٍ واحد.
و«بيثيا» هي العذراء التي تصارع قوةً إلهية تريد أن تحل فيها رغمًا عنها. هذا الحلول يؤلمها ويهينها ويثير فيها عواصف الثورة والتمرد. إنه نوع من الغزو والاغتصاب. وهي تصرخ وتعوي كالحيوان الجريح، وتلعن «الإله القذر» الذي يجلدها ويعذبها. إنها أشبه بالضحية التي ستقدم على المذبح. وصراعها المخيف يبدأ عندما يصر الإله على أن يحل فيها ويقتحم وجودها، وتصر طبيعتها البشرية على مقاومته، وهي بهذه الآلام كلها ترمز للفعل الروحي الذي تتحول به القوى الإلهية والبشرية إلى كلامٍ مرتب ومنظم. ولذلك فإن صراعها هو نفس صراع الشاعر الذي تغزوه هو أيضًا قوةٌ متعالية أو إلهية تحاول أن تخلق النظام في الكلمات، وتضطر لذلك أن تصارع انفعالات الجسد وغرائزه وعواطفه حتى تخضعها. والجسد يقاوم لأن هذه القوة العالية تهدد أمنه واستقلاله وسعادته. ويحس الشاعر أنه ليس هو الذي يعمل أو يخلق، بل إن هناك قوةً خارجية تتخذه أداة لها وتعمل وتخلق من خلاله، كما يحس أنها تفوق احتماله وتتجاوز قدرته المحدودة. هذا الصراع الذي تقاسيه الكاهنة أو الشاعر مثلٌ لصراعٍ آخر أعم تقاسيه الروح البسيطة عندما تصطدم بالحياة وتحاول أن تكيِّف نفسها مع الوجود فتفقد براءتها. بل إنه هو صراع فاليري نفسه بين القلب والعقل، وبين الشعر والفكر المجرد. ويشتد هذا الصراع ويحتدُّ، وتكابد الكاهنة كما يكابد الشاعر أفظع الآلام، ولكنه يهدأ شيئًا فشيئًا حتى يصل به فعل الخلق إلى التحرر والخلاص الأخير.
إن الكاهنة تشعر أنها أهينت واغتصبت لأن الإله اعتدى على حريتها العقلية والروحية. ليست هذه هي الحياة التي كانت تحلم بها، ليس هذا هو العالم المثالي الذي يخلو من الحركة والحياة، والذي يمكن أن تصبح فيه أشبه برأس «الميدوزا» الخرافية التي تحول كل إنسان وكل شيء تقع عليه عيناها إلى حجر:
إن الكاهنة تدافع عن براءتها وكبريائها دفاع المستميت. وإنكار الحياة هو المثل الأعلى لهذه البراءة المهانة:
والرب الذي يغزوها يحطم هذا المثل الأعلى، ويدمر أشواقها ووجودها الذي ظل مكتفيًا بذاته، وعالمها الخاص الذي بنته لنفسها بعيدًا عن عالم الناس.
هذا الصراع لا يمكن أن يحله البعد والتجرد العذري. فالمؤلم فيه حقًّا أنه يدور في الجسد. إن الكاهنة تحس بجسدها في هذا الصراع، كما يحس الشاعر بمادته الشعرية في غرائزه وعواطفه، أي في جسده. فالجسد في نهاية الأمر شيء يشترك فيه البشر جميعًا، وشهواته وحاجاته وإشباع رغباته هي الأساس المشترك الذي تقوم عليه حياتهم. والكلام أيضًا شيءٌ جسدي وطبيعي. والإله حين يفرض إرادته على الكاهنة ويملي عليها كلماته إنما يعيدها إلى النظام ويحرمها من استقلال المجرد، ويوحِّد بينها وبين سائر الناس، ويستمر الصراع فتهدأ الثورة شيئًا فشيئًا. ويبدو للكاهنة أن المهانة التي عذَّبتها بدأت تؤذن بالتقاط الأنفاس وتَعِد بالأمل والخلاص. لعل الألم الذي احتملته لم يذهب عبثًا، لعل النصر أن يأتي من الخضوع للمغتصب الغازي:
ونشهد الكاهنة ما يحدث في كيانها. إن طبيعتَيها العقلية والجسدية الخاصة والعامة على وشك الاتحاد، والصراع أيضًا على وشك أن ينتهي إلى الحل المتجانس السعيد.
هذه هي المعرفة التي تصل إليها؛ ما من طبيعة منهما يمكن أن تحيا بمفردها. والكاهنة تعرف هذا الصراع في كيانها بين أفكارها العذرية وغرائزها الجسدية، كما يعرف الشاعر الصراع الذي يعانيه بين الفكر والشعر.
كلا الطرفَين إذن في حاجة إلى الآخر؛ فالعقل بغير الجسد يعيش في عالمٍ وهمي مجرد، والجسد بغير العقل يتحول إلى وعاء تضطرم فيه الغرائز والانفعالات. لا بد أن يتحد الطرفان، ولا بد أن يوحِّد بينهما إله.
وحين يدوي صوت النبوءة في النهاية، تكون التجربة الفردية قد وجدت إطارها العام، وانتقلت معها تجربة الخلق إلى آفاق أخرى تتسع لتجربة اللغة نفسها عند البشر. وتنتهي القصيدة بأبيات «النبوءة» التي تدهش القارئ بنزعتها الحكمية أو التعليمية الغريبة على فاليري:
•••
لعل أحدًا لم يفكر في العلاقة بين الأدب واللغة كما فعل فاليري. لقد تأثر في هذا بأفكار مالارميه أعظم التأثر وأخذ يطورها ويسير فيها إلى غايتها. فالخلق الأدبي في رأيه يعني التعمق إلى الطبقات السفلى للغة، عندما كانت قادرة على صياغة التعاويذ والرقى السحرية، وعندما تكون قادرةً عليها في المستقبل، والخلق الأدبي معناه أن يعكف الأديب على تجربة التركيبات المشتركة بين المعاني المختلفة والتأثيرات الصوتية حتى يوفق إلى تأليفةٍ واحدة لها ضرورة الصيغ الرياضية. وفاليري يعلم أن هذا يتم دائمًا على حساب المعنى؛ فليست هناك قصيدةٌ واحدة ذات معنًى واحدٍ صادق، أي ليس هناك معنًى واحد يمكن أن يستنفد كل طاقاتها وإشعاعاتها وظلالها، وشعر فاليري نفسه مصداق لهذا القول.
فلو نظرنا مثلًا في قصيدته «خطى» (التي تجدها في نصوص هذه المجموعة) لبدت لأول وهلة كأنها مشهد حب رقيق ولكنها ستكشف لنا بعد القراءة الأولى عن معانيَ أخرى أهمها التعبير عن الحالة العقلية والوجدانية التي تصاحب عملية الخلق الأدبي، والإحساس بأن انتظار «ربة الشعر» يسعد القلب أكثر مما يسعده وصولها. والقصيدة تنطوي على المعنيَين، ولا يصح أن نؤكد أحدهما ونسقط الآخر، وإلا فقدت ذلك الضوء الخافت الذي تسبح فيه.
يقوم تفكير فاليري في أساسه على «عدمية المعرفة»، ولا يتسع المجال للكلام عن هذا الرأي بالتفصيل؛ ولذلك سنكتفي بالإشارة البسيطة.
لما كانت المعرفة غير ممكنة، فإن اللغة الشعرية تكتسب مطلق الحرية في أن تسقط «مخلوقاتها» في العدم، ويسمي فاليري هذه المخلوقات «بالأساطير»، ويعرف الأسطورة بأنها الاسم الذي يطلق على كل ما لا وجود له ولا نلمسه إلا عن طريق الكلمة. أما الكلمة فهي «الوسيلة التي يلجأ العقل إليها لكي يتكاثر في العدم». وفي مواجهة الواقع الذي ليس له سوى وجودٍ عرضي، يقوم الخلق الأدبي بعملية تحويل وتشكيل مستمرة، إلى أن يصل إلى تلك اللاواقعية التي يصفها فاليري بأنها «حلم». ففي الخلق الأدبي يتعرف العقل على إمكانياته ويحققها بالسيطرة على الشكل المحكم الذي فرضه على نفسه. إن أفعاله وحدها لها صفة الضرورة ولذلك فهو دائمًا أسمى من الواقع العرضي.
عرَّف فاليري بيت الشعر بأنه «توازن معجز وشديد الحساسية يقوم بين الطاقة الحسية والطاقة العقلية للغة.» ونستطيع أن نقول إن شعره يحقق هذا التوازن. لقد روي عن نفسه في مناسباتٍ كثيرة كيف كانت بعض قصائده تنشأ في البداية عن لعبٍ حر بالإيقاع والتنغيم، تنضاف إليه بعد ذلك الكلمات والصور والأفكار. والقصيدة التامة تحتفظ هذا التدرج في القيم، فهي في المرتبة الأولى غناء وفي المرتبة الثانية مضمون.
ويكفي أن يتلو القارئ بعض المقاطع التي تبدأ بها قصائده ليتذوق سحر النغم الكامن في ألفاظها الأصلية؛ سيلاحظ كيف تتدرج الحروف الصوتية والأنفية بين علو وهبوط لكي ترجع إلى المركز الذي بدأت به.
ومع ذلك فقد تأتي المبادرة من المعاني لا من الكلمات. فقصيدة «باطن» — التي تجدها أيضًا مجموعة النصوص — يدور الحدث فيها داخل الوجدان وخارجه في وقتٍ واحد. إنها تبدأ بهذه الأبيات:
(١١) خورخه جيَّان
والملاحظ على هذا الديوان أنه يشبه «أزهار الشر» لبودلير في بنائه المعماري العام، وأنه ألف وفق نظام عددي دقيق يذكرنا بالكوميديا الإلهية لدانتي.
يمكن أن نصف شعر جيان في مجموعه بأنه أنطولوجيا شعرية أو «فن شعري» يقوم على أساسٍ أنطولوجي. إنه يتراوح بين أبسط الظواهر وأدق التجريدات، وهو شعرٌ غامض، بل لعله أن يكون من أكثر نماذج الشعر الحديث غلوًّا في الغموض. إنه لا ينطق عن ذات أو «أنا» شخصية، بل ينطق عما يمكن أن نسميه «عيون العقل» التي تذكرنا «بالنظرة المطلقة» التي تحدثنا عنها عند مالارميه. فعيون العقل تتجرد من مادة الحياة لكي تصير مرآة للعالم ككل، أو لهيكل الوجود الخالص الذي يتجلَّى من خلال العالم بكل ما فيه من ظواهر وكائنات. ويوشك القارئ، أن يسمع في هذا الشعر رنة فرحٍ هادئٍ مختلف عن كل أفراح البشر؛ ذلك لأنه فرحٌ عقلي أو سعادةٌ روحيةٌ خالصة تأتي من رؤيةٍ قادرة على النفاذ في صميم الأشياء وإدراك صورها الأولية الثابتة، وماهياتها الساكنة الهادئة، وهي رؤية تعلم كذلك أنها قادرة على أن تعطي — بالكلمة — لكل الكائنات وجودها العقلي الباقي.
إن القيمة الرئيسية في شعر جيان والمحور الأساسي الذي يدور حوله هو النور. فالنور هو المظهر النقي الخالص للوجود، وأكثر القصائد نصيبًا من النور هي أدقها من ناحية الشكل والبناء. يقول أحد الأبيات: «دائمًا يكون النور.» ولكن الحدث الهام فيه هو حدوث النور نفسه وصيرورته، أو هو على حد تعبيره «نشوة الانتقال». والطاقة الشعرية فيه تنبثق عن حالة من التوتر الذي يسعى إلى التجاوز والعلو. إنه يرتفع بالشيء البسيط إلى حقيقته وكمال ماهيته، فيجعل الحديقة «أكثر من حديقة» والجسر «أكثر من جسر»، لكي يستخلص من ذلك مقولة الماهية أو الحقيقة (كما رأينا عند مالارميه) التي يغمرها في النهاية نور الوجود الكامل. وهذا الفعل أو هذا الحدث الشعري يمتد فيشمل كل الأحياء والمحسوسات، حيث «تُنغَّم المادة بالنغمة التي تجعل منها ظاهرة». ولكنه من ناحيةٍ أخرى يحولها ويعمل على «تغريبها». فالأشياء تستجيب «باكية» للمثالية الخالصة. واللغة لا تزينها ولا تزخرفها، بل تعري جوهرها المحض، الذي تدخله في نسيج من العلاقات غير الواقعية.
وروعة الربيع لم تخلق للقلب، «ففوق الهدير المضطرب يسري نداءٌ بعيد وخافت؛ نداءٌ ناعم من لا أحد إلى لا أحد.»
والأطفال تلعب على شاطئ البحر، ولكن ليست هي التي تقوم باللعب، بل البحر والأصداف، وكذلك أيادي الأطفال التي صارت موجوداتٍ مستقلةً بذاتها. وتنتهي القصيدة بنقلةٍ أخيرة إلى موسيقى الأفكار: «سلاسل حمراء، أصداف، أصداف، تناغم، نهاية، دائرة». لأن سر الوجود الذي يعلو على الحياة ويتجلى في روعة الضياء ويختفي، إنما يلمع في الدائرة «ويتخفى بين كتل الهواء» (انظر قصيدة كمال الدائرة) مثله في ذلك مثل الشعر نفسه.
هذا الشعر في صميمه غناء. غناءٌ معدنيٌّ قاسٍ، صيغ بلغةٍ إسبانية هي بطبيعتها حادة وقاسية. وتجريداته غناء؛ وهو مضطر لهذا السبب أن يستخدم ثروة من الكلمات التي تدل على التجريد: كالمنحني، والخط، والدائرة، والمركز، واللانهاية، والجوهر، والعدم، والحاضر … إلخ!
وليس ثمة حدودٌ لغوية تفصل في هذا العالم الشعرى بين الكلمات المجردة والكلمات البسيطة الأخرى، وليست هناك كذلك حدودٌ موضوعية بين مضموناته المعنوية والحسية. يقول أحد الأبيات: «ريش البجعة يرسم نظامًا من الصمت المقدور …»
وفي قصائدَ أخرى تصور مشهدًا من مشاهد الطبيعة نرى المجردات تتحول إلى ذواتٍ فاعلة. ولكن اللغة تكيف نفسها بوسائلَ أخرى وفقًا للموضوع. فقد تستخدم جملًا اسمية فقيرة في الأفعال، وتعزل بواسطتها مختلف الظواهر والأفكار التي تخلصها من الزمان أو تضعها خارج الزمان. لن تحس بتدفق هذه اللغة، بل ستشعر بأنها تتردد وتتعثر وترصُّ الكلمات كما ترص الكتل الصخرية بجوار بعضها البعض، ثم تعود فتنفتح على سؤالٍ قصير، أو لمسةٍ سريعة كلمسة الوتر. وستشعر أيضًا ببراعة الشاعر وقدرته على أن يستخرج من الكلمات المركَّزة مجموعة من الأصداء التي تتردد طويلًا في فضاءٍ مملوء بالأسرار. وستتبين في هذا شيئًا هامًّا يشترك فيه عددٌ كبير من الشعراء المحدثين، وهو التناقض بين عذوبة اللغة وصعوبة الفكرة، بين بساطة العبارة وغموض المضمون. وتظهر المضمونات، سواء أكانت صورًا أم أفكارًا، على شكل شذرات وضعت بجانب بعضها البعض، لم ينمُ أحد منها من داخل المضمون السابق عليه، ولم تبقَ رابطة — مهما كانت صغيرة — إلا وتحطمت.
هناك شيء يحدث دائمًا في قصائد جيان، ولكن مراحل هذا الحدث وخطواته — ما دامت في مجال التجربة — لا تحمل ضرورة في ذاتها، ولا تعرف تسلسل السبب والنتيجة. ولا تصبح للضرورة فاعلية أو تأثير إلا مع تفاعل التوترات المجردة أو تغيرها وتبدلها. والمهم أن هناك شيئًا واحدًا في هذه القصائد لا يختلف حوله اثنان؛ أنها تفتقد الألفة بينها وبين القارئ.
هذه القصيدة، ككثير غيرها، نسيج يتكون من مجالات توتر خالصة. والسؤال الذي تطرحه في النهاية ثم تتركه بغير جواب يزيد التوتر حدة. وليست هناك أنا تتكلم. لأن اللغة وحدها هي التي تتكلم اللغة التي توجد بين المرئي والمعقول وتنزل عليهما برودة الصيغ الرياضية، ولكنها صيغ تشدو وتغني. وهذا هو الذي يجعلها شعرًا.
(١٢) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن تسميته بالشعر اللامنطقي، أي شعر الهواجس والأحلام والهلوسات التي تصدر أو تحاول الصدور عن اللاشعور الباطن. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون رامبو ولوتريمو وعلوم الأسرار والكيمياء القديمة والكتابات اليهودية السرية المعروفة «بالقبلة». إن شعرهم هو شعر الأحلام — بالمعنى النقي لهذه الكلمة — سواء أكانت أحلامًا طبيعية تُرى في النوم أو أحلام يقظة «فنية» تُصطنع بالمخدرات والعقاقير لتنشيط ملكة التخيل الخلاق. والواقع أن الفارق بين الحلم بمعناه النفسي أو بمعناه الفني فارقٌ غير ملموس، والمهم أنهما يتلاقيان في شيءٍ واحد هو أن ذات الشاعر فيهما ذاتٌ منسلخة عن الواقع وأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وهبت له وحده.
الشعر اللامنطقي يستفيد إذن مثله في ذلك مثل الشعر العقلي من قدرة الإنسان على تخيل الصور اللاواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى هذه الصور من أعمق طبقات الحلم دون أن يتدخل في ترتيبها وتنظيمها. فالإنسان عند شعراء الحلم ليس وحشًا ذهنيًّا كما يقول «بريتون» ولكنه — بفضل أبحاث فرويد ويونج التي سبقت الإشارة إليها — كائن ينطوي على قوًى مظلمةٍ مجهولة تكمن في أعمق طبقات وجدانه وتسبق ذاته الشخصية الواعية. وقد رأينا أمثلة لتأثير هذا العالم المظلم على خيال الشاعر في كثير من قصائد رامبو. ثم جاءت أبحاث فرويد ويونج فأحدثت هي الأخرى أثرها. فيونج مثلًا يفسر الأدب والشعر بوجهٍ خاص بأنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أوليةٍ قديمة» تعيش في اللاشعور الجمعي وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق هذه الرؤى من خلاله، وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عمليةً ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق.
«كانت قطع الفحم في السماء شديدة القرب منى بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. حيوانان غير متكافئَين مارسا الجماع، وفروع الكروم أصبحت عناقيدَ ثقيلة بصرر الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. أقبل عشرون خياطًا أعمى. قرب المساء طارت الأشجار هاربة وتكاثرتُ حتى صرتُ مائة شخص. القطيع الذي كنته جلس على شاطئ البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملامح قتلوني تسعًا وتسعين مرة. شعبٌ كامل ضغطوه في المعاصر، فراح ينزف دمًا وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار والمدن وفوق ثلوج الجبال …» ولن يخطئ القارئ صوت رامبو في هذا النص، ولن ينسى أوجه التشابه العديدة بينه وبين الإشراقات.
ومع أن السيرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن فإن رائدهم وملهمهم أبوللينير يعد أبدعهم خيالًا. والحق أن برامج السيرياليين تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا على تأكيد لون من ألوان الإبداع ظهر في الشعر منذ عهد رامبو، وحشدوا في سبيل ذلك لغة أشبه ما تكون بلغة العلم. إنهم مقتنعون بأن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حدود، وهم مقتنعون بأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالمًا فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب، وأن اللاشعور هو الذي يملي الشعر والأدب دون أن يتقيد بقيدٍ ولا شكلٍ. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد نبالغ إذا قلنا إنهم يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن أو بين الإفزاع والإبداع! ولا يستطيع منصف أن يذكر للسيرياليين شعرًا عظيمًا، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين — مثل أراجون وإلوار — لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في الأدب منذ عهد رامبو وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببًا، وأنها شكلٌ واحد من أشكالٍ عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما زال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يُشهِّر بهم ويمجدهم في آنٍ واحدٍ فيصورهم كالسائرين نيامًا.
وإذا أردنا أن نعرف القصيدة من مضمونها لم نجد إلا فتاة تقف في ضوء القمر مستندة إلى سور شرفة. ويتحدث رجلان في مكان لا ندريه، ثم لا تلبث أن نجدهما أيضًا في الشرفة، وبعدها بقليل نجد الفتاة مقتولة في صهريج. ولكن هذا التلخيص يدمر القصيدة تدميرًا ويجعل منها جريمة قتل لا أكثر ولا أقل! ذلك لأن هناك شيئًا آخر يختلف عن ذلك تمام الاختلاف. نسيجٌ حالم من بقايا أحداث، وصور غير واقعية، وسحر ينبعث من نغم الكلمات وكأن النشيج كله من صنع إنسان يسير في نومه وتبدأ القصيدة باللون الأخضر، واللون هنا لا علاقة له بالأحداث ولا بالأشياء، وهو لا يأتي منها، بل يأتي إليها: «ريح خضراء، لحم أخضر، شعر أخضر» إنه أشبه بغلالة من النغم تشع منها قوةٌ سحرية تشيع في القصيدة كلها. وتظهر مشاهدُ طبيعيةٌ مفككة تتحرك وسطها الأحداث والأشكال البشرية الباهتة، فهناك سفينة في البحر وحصان في الجبل يتعاقبان في بيتَين يكرران وحدةً نغميةً قوية. وتسير القصيدة بطريقةٍ غنائية لا ملحمية، فتغني أكثر مما تحكي، وتترك كل موضوع تقوله بغير تحديدٍ مكاني أو زماني أو سببي. بل إنها لا تذكر كموضوع القصيدة — وهو الحب والموت — بكلمة واحدة، ومع ذلك فهو يبدو واضحًا من خلال الخطوط الباهتة التي تلقيها الأشياء والأحداث. وتتوالى الاستعارات الرائعة أمام أعيننا: شجرة التين التي تمسح فروعها ريح الصباح، الجبل الذي ينفش صباره كالقط المتلصص، القمر الثلجي الذي يرعى الفتاة القتيلة فوق الماء. والكلمات والألوان تحل محل الأحداث أو توحي بها. فها هو ذا اللون الأسود يشوب الاخضرار قبل أن يذبل وينطفئ — واللون الأسود هو علامة الموت.
كل شيء في القصيدة يلمح ويشير ويفتح الباب لإمكانيات وإشعاعات عديدة. إننا نحس كأننا لا نقف على الأرض الصلبة، بل كأنه ليس هناك مكان سوى المكان الحالم الذي تخلقه الاستعارات والصور غير الواقعية. ونحس أيضًا أننا لسنا في زمان، لأن الزمان توقف في القصيدة. إنها تبدأ في الليل، ثم يطلع الصباح «الذي تجرحه آلاف الطبول البللورية» إلى أن يحل الليل مرةً أخرى في النهاية، ولكن لا الليل ولا الصباح من الزمن، إنهما منظوران شعريان للزمن الذي لا يتحرك. أما الخاتمة التي تكرر بيتَين من بداية القصيدة فتبدو كأنها تغلق الدائرة. غير أن الواقع يختلف عن هذا؛ فنحن نحسُّ كأن شيئًا لم يحدث أو كأن الأمر كله أشبه بحركة مروحة فتحت بسرعة أشبه بسرعة الضوء في لحظةٍ واحدة. ولم نذكر هذه القصيدة لتكون تطبيقًا للنظريات النفسية أو الأدبية عن الأحلام بل لنقول إنها مثال لما يمكن أن يصل إليه الشعر العظيم الجسور.
ففي مثل هذا الإنتاج يتفتت العالم إلى شذراتٍ مبتورة، وتصبح الغرابة والشذوذ المضحك المؤلم من علامات أسلوب التشويه الذي أشرنا إليه من قبلُ عند الكلام عن رامبو. إن المزاج الأسود يمزق الواقع إلى أجزاءٍ متناثرة غير مترابطة، ويخترع أبعد الأشياء عن الاحتمال، ويصل بين أزمنة وأمكنة وأشياء لا صلة بينها في عالم الحقيقة والواقع، ويغرب كل ما هو موجود ومألوف، ويشق السماء ليكشف عن «بحر الفراغ الهائل»، ويعبِّر عن التنافر الأصيل بين الإنسان والعالم، وكلها متنوعات على لحن الشعر الحديث.
ويؤدي بنا هذا الكلام باختصار عن موقف الشعر الحديث من الواقع وكيف يحوِّر مادته أو يدمرها أو يسقطها من حسابه. لقد عبر بودلير من قبلُ عن موقف الفنان والشاعر من الواقع عندما سجل تجربته المخيفة في هذه الأبيات: «العالم مملٌّ وصغير، اليوم، أمس، غدًا، إلى الأبد …» ولا شك أن هذه العبارة تصدق أيضًا على الموقف في القرن العشرين، كما تصدق على كل ما سميناه بديالكتيك العصر الحديث، فالشاعر والفنان في شوقه إلى المجهول واللامتناهي يصطدم بخلو العالم من الحقيقة المتعالية (أو الترانسندنس) فيعود إلى عالم الواقع ليجده كذلك خرابًا وحطامًا خلا من المطلق والحقيقة والمعنى. وقد تكلمنا في الفصول السابقة عن المثالية الجوفاء أو فراغ العالم من حقيقةٍ عالية، وشرحنا ذلك عند الحديث عن بودلير ورامبو ومالارميه.
إن نفس الكلام يصدق أيضًا على الشعر المعاصر.
وإذا كان بعض الشعراء المحدثين يُحلِّقون في فضاء المطلق فلا يصح أن يخدعنا هذا عن فزعهم من فراغ العالم من الحقيقة المتعالية. إن المطلق في شعر جيان مثلًا نور وكمالٌ هندسي، غير أنه لا يحدد لنا مضمونه أي تحديد. وكلما اقترب الشعر من حقيقة مثالية أو أوشك أن يلامسها وجدناه يعمد إلى التجهيل أو يلجأ إلى الرموز والأسرار.
إن علاقة الشاعر الحديث بعالم الواقع غنيةٌ متنوعة ولكنها تتفق في نتيجتها النهائية على شيءٍ واحد هو تجريد العالم الواقعي من قيمته. وهذا العالم يتحول في الشعر — كما تحول في الرواية على يد فلوبير في أواخر إنتاجه أو على يد هيمنجواي وكامي ومن جاء بعدهما — إلى ظواهرَ مفردةٍ متناثرة يدقق الشاعر في وصفها وتشريحها ولكنه يضعها في مكان الكل الشامل الكبير. قد يتم هذا على صورةٍ تقريريةٍ غليظة، كما في قصائد الشاعر السويسري بليز سندرارس (١٨٨٧–١٩٦١م) الذي حاول في معظم أشعاره أن يلائم بين لغة الشعر وكل ما جدَّ في عصر السرعة والتقنية والفيلم والطائرة من تغيرات في البناء النفسي والاجتماعي (وعنوان أحد دواوينه «وثائق» وقد سماه فيما بعدُ «كوداك»).
(١٣) توماس إليوت
رأينا في الفصول السابقة كيف تمزق الواقع على يد الشعراء المحدثين وتفتت إلى أجزاء وشذرات. وقد تبينَّا أهمية هذه الفكرة في شعر مالارميه وفاليري وفي تصورهما للشعر على السواء. فهما يقصدان من ورائها أقصى درجةٍ ممكنة من الحضور الفني لغير المرئي في المرئي — أو بلغةٍ أبسط للمثل المجردة البعيدة أو الحقائق المتعالية في الواقع المشاهد — بحيث تدل على مدى تفوقها كما تدل على مدى قصور الواقع المرئي وعجزه. ولقد ظل هذا الطابع — طابع التجزؤ والانقسام إلى شذرات — غالبًا على الشعر المعاصر، بحيث يتناول الشاعر قطعًا متفرقة من الواقع أو على الأصح من بقايا أطلاله ويظل يعالجها في عناية واهتمام حتى تتلاقى أطرافها أو تتلاءم مع بعضها البعض، ويبدو العالم الواقعي في نهاية الأمر أشبه بجدار تتخلله الصدوع المخيفة من كل ناحية، أي لا يمت للواقع بأية صلة.
هذه المقدمة كلها تفضي بنا للحديث عن الشاعر الأشهر توماس ستيرن إليوت. والحق أن الكلام عنه في هذا الحيز الضئيل أمرٌ مستحيل ولكنه لن يعفينا من تقديم صورةٍ مبسطة تكشف عن الملامح الرئيسية في شعره. ولقد اختلف النقاد في تفسير هذا الشعر وتباينت مذاهبهم في فهمه، ومع ذلك يبدو أنهم يجمعون على شيءٍ واحد؛ وهو أن السحر الذي ينبعث منه راجع إلى «نغمه»؛ فهو نغم لا يمكن أن يُنسى، وإن لم يكن في الحقيقة نغمًا واحدًا بل خليطًا من الأنغام العديدة المتنافرة. إن اللغة تتنقل تنقلاتٍ مفاجئة وتسير من التقرير الجاف إلى التأمل المجرد، ومن الكآبة الصافية العذبة إلى الانفعال أو الغضب العارم، ومن السخرية والتهكم المرير إلى لغة الحوار اليومي المملة المرهقة. وهذا التعدد في الأنغام هو الذي يربط كل أجزاء قصائده وهو الذي يخلع عليها وحدةً لا تستطيع الحالة النفسية أو الموقف الفكري الذي تقوم عليه — وما من أحد استطاع حتى الآن أن يصل إلى كنهها!— أن تخلعها عليه. صحيح أن هناك موضوعاتٍ أساسية تتردد في شعر إليوت: ضياع الإنسان ويتمه في صحراء المدينة الكبيرة، الإحساس بالزوال والفناء، التأمل الطويل في حقيقة الزمان ووظيفته، وفي غربة العالم واغترابه. ولكن هذه الموضوعات المختلفة تسري كالنسمات في هذه الحديقة الموحشة الساحرة، ولا تصلح أساسًا يمكن أن ينهض عليه. ولعلنا نجد هذا الأساس فيما يسميه إليوت نفسه «بالعاطفة الفنية» التي يريد لها أن تكون بعيدة عن الذاتية أو الشخصية كل البعد. إنها تمتد بين القمة والحضيض، وتسير، كما يقول بيتان من القسم الرابع من قصيدته «أربعاء الرماد» في الأبيض والأزرق، لونَي مريم، وهي تتكلم عن أشياءَ تافهة، وتعبر هذه العاطفة عن نفسها «بالمقابل أو المعادل الموضوعي» أي بالصور والأحداث التي تدور في عالم الناس والأشياء. ولكن أية صور وأية أحداث؟ يقول إليوت في إحدى ملاحظاته النقدية الخصبة إن التقلب والتضاد الحاد من أهم الخصائص المميزة للعصر الحاضر.
والواقع أنهما أيضًا من أهم الخصائص المميزة لأسلوبه الشعري. ومن هنا يمكن القول بأنه يلائم المدنية الحديثة التي تتطلب — بتعقيدها البالغ وتناقضاتها ومشاعرها وأفكارها المضطربة — أدبًا يتصف بالشمول ويلمح ويوحي ويتحدث حديثًا غير مباشر؛ أي أدبًا يجنح بالضرورة إلى الغموض والتعقيد.
في بداية «الأرض الخراب» نجد هذا البيت (البيت العشرين):
وفي آخرها نقرأ هذا البيت (البيت الأربعمائة والثلاثين):
وكلاهما يمكن أن يعد اعترافًا من الشاعر بأسلوب التجزئة والتفتُّت والشذرة، أو بالأحرى بقانونه الذي يحكم كل أعماله الشعرية. فهو يحدد عباراته التي تبدأ أحيانًا بحكايةٍ قصيرة ثم لا تلبث أن تقطعها لتمضي في مونولوجٍ داخلي، لا يلبث أن يقطعه أيضًا نصٌّ مقتبس يضمِّنه الشاعر في قصيدته لغير سببٍ ظاهر، يتبعه على الأثر نتفٌ من حوارٍ عادي بين أشخاص ليست لهم معالم ولا ملامحُ محددة، وما يقال في مجموعة من الأبيات ينسى على الأثر في مجموعةٍ أخرى، كذلك الشأن مع الصور والأحداث؛ فهي تركيبات (على طريقة المونتاج في السينما) من قطعٍ متفرقة متنافرة الأصول، لا تمت لمكان أو زمانٍ محدد. هناك قطع الأثاث المتهرئة وأنابيب الغاز، والفيران، والسيارات، وضباب لندن، وأوراق الشجر الجافة، ثم حوريات الماء. والعراف تريزياس، والجواهر النفيسة، إلى جانب حلاقٍ أشعث الشعر من أزمير، وكلها تختلط في اضطرابٍ غريب والحضارات المختلفة تتداخل في بعضها البعض، فلا يكاد الشاعر يتحدث مثلًا عن نادل حتى تلمع فجأة في عقله ذكرى أجاممنون. ومن أمثلة ذلك قصيدة «الرباعيات الأربع» التي يصف فيها أحد أيام شهر نوفمبر وصفًا مسهبًا يقطعه بعد حين ليقول: «كان هذا وصفًا غير مرضٍ.» ثم يتحدث عن نفس الموضوع بطريقةٍ أخرى، يعبر بها عن مضمونٍ مختلف عن المضمون الأول كل الاختلاف، متبعًا في هذا كله أسلوب الشاعر «لوتريمو» صاحب «أغنيات مالدورور».
أي عالم هذا الذي يرسمه لنا إليوت؟
إن كلمة «غير واقعي» تصادفنا كثيرًا في قصيدة الأرض الخراب كما نقرأ في «أربعاء الرماد» عن الرؤية المطلسمة في حلمٍ أسمى، وعن الكلمة التي لم تسمع. وكل هذه أشياء ترتبط ببعضها البعض لتؤكد أن الشاعر يعرف ما يصنع. إنه يستعين بقدرة «الحلم» على تحطيم العالم، وتصويره في صورةٍ غير واقعية، لكي يبثَّ فيه أسرارًا لم تكن لتشع منه لو بقي عالمًا واقعيًّا. إن تعدد الأنغام والأصوات السحرية في لغته يقربها مما «لا يقال»، ويجعلها تلتقط موسيقى الحلم التي لا تُسمع عن طريق الكلمات المحطَّمة والصور المشتَّتة.
(١٤) سان-جون بيرس٤١
تكلمنا في الصفحات السابقة عن فكرة اللاواقعية الحسية عند رامبو، ويبدو أن هذه الفكرة نفسها تصدق تمامًا على شعر سان-جون بيرس. إن من العسير أن نفهمه من جهة المضمون؛ فالأناشيد والأبيات الطويلة الشبيهة بالمزامير تكاد تغمر القارئ كالطوفان، والأصوات المهيبة الغامضة تتردد أصداؤها — كأصوات السحرة والعرافين القدماء — لتخلق سيلًا من الصور الكثيفة المتجددة التي تبهر القارئ وتحيِّره. ما من صورة منها تستقر أو تهدأ، وكأن روح العالم كله تجيش وتفور، هو عالمٌ غريب عالم «المنفى». الواقع الذي ينطوي عليه واقعٌ مجهول، عجيب، يأتي من بلادٍ مجهولة عجيبة، ويحكي عن حضاراتٍ مندثرة وأساطيرَ نادرة. ميزة هذا الشاعر أنه يضمِّن إبداعات خياله كثيرًا من الوقائع والحقائق الثابتة التي يلتقطها من بعيد، ويعبر عنها تعبيرًا سريعًا شاذًّا بحيث لا نحس بقيمتها الواقعية، وبحيث تتحول، كما يقول في إحدى قصائده، إلى لحن «أغنية لم توهب لشاطئ».
إن سعيه الدائب إلى اللامتناهي تقابله التفاصيل الدقيقة التي يغرق في أوصافها، ويشتق معظمها من عالم الحيوان. ولكن هذه التفاصيل الحسية الدقيقة ملغزة بعيدة عن الوضوح، يستعين الشاعر فيها بمصطلحاتٍ مستمدة من علوم النبات أو الطب أو البحرية أو الصيد وتضطر القارئ الفرنسي نفسه إلى اللجوء إلى القواميس المتخصصة لمعرفة معناها. ولعل الأوفق ألا يجهد الإنسان عينَيه في البحث عن معانيها، بل يحاول أن يسلم نفسه لها كما لو كانت أنغامًا تنبعث من آلةٍ موسيقيةٍ غريبة تأتي من بلدٍ غريب.
وبين التفاصيل المرهقة واللانهاية غير المحدَّدة تضيع — عن عمد — الخصائص العامة التي تميز الأشياء والمشاهد والمواقف. ولنأخذ لذلك مثالًا من قصيدته «مدائح»؛ فهي تضم فيما تضمه جبينًا بين أيدٍ صفراء، ذكرى عن سهامٍ ملقاة في بحر الألوان، سفن موسيقى على رصيف الشاطئ، جبالًا من خشبٍ أزرق، ولكن ماذا جرى للسفن؟ أصبحت أشجار نخيل. ثم هناك بحرٌ أليف تلجأ إليه الأسفار غير المنظورة، مدرج كسماء فوق الحدائق، منتفخ بالثمار الذهبية والأسماك والطيور البنفسجية والعطور ترتفع إلى الأعالي الساحقة، و«بفضل شجرة القرفة في حديقة أبي، ترنح عالم غريب!» أجل عالمٌ غريب. الإنسان الذي يحيا فيه مغامر يخاطر بنفسه في كل مكان وزمان، أمير يخطو نحو المجهول، إسكندر (ومن هنا يجيء عنوان أحد دواوينه من حملة الإسكندر «أنا باز») ولكن لا بد لهذا المغامر الفاتح أن يحطم كل ما سبقه. تقول بعض أبيات قصيدته أمطار: «امسحوا الوصمة من على عين الصالح المستقيم، وصمة الجدير الموهوب، امسحوا تاريخ الشعوب، الحوليات العظيمة والأخبار، امسحوا الواح الذكريات، امسحوا من قلب الإنسان أجمل كلمات الإنسان!» ذلك لأن الفاتح المغامر لا يريد أن «يوصم بخمر البشر وبكائهم». ولكن ما هو هدفه وأين يكون؟ الشاعر لا يجيب. إنه لا يزيد عن الكلام عن الانطلاق بعيدًا عن الأوطان وبعيدًا عن مسقط الرءوس، ولا يزيد عن الكلام عن «قصيدة لم تكتب أبدًا». ولا شك أن القارئ قد لاحظ أنفاسًا من رامبو؛ تحطيم المألوف رغبة في الانطلاق إلى المجهول، غير أن اللغة تقف عاجزة أمام المجهول. إن أقصى ما تستطيعه هو أن تنشد ألحانها الغريبة من أعماق الكلمات التي تقترب من الصمت أو تقترب من الجنون.
هنا نرى أيضًا كما رأينا عند رامبو رغبةً حارة في إبداع الصور المثقلة بالصفات الحسية التي لا تنتمي مع ذلك إلى أي واقعٍ مألوف. ويكفي أن نذكر بعضًا منها نختاره كيفما اتفق: «البحر في تشنجات الميدوزا»، «الصوف الأسود للإعصار»، «السماء ترضع عصارتها البنفسجية من إسفنجة الشجر الخضراء»، «إنسان يتأمل السماء ويريح ذقنه على النجم الأخير»، «وباء الروح في طقطقة الملح، في جير اللبن الحي»، «الرياضة المعلقة في جبال الملح الثلجية». إن كل عناصر الصورة حسية، ولكن الصورة في مجموعها تؤلف بين أجزاء لا تآلف بينها فتصبح صورًا غير واقعية. هي إذن لا واقعيةٌ حسية. ومن العجيب أن سان-جون بيرس يمزج صوره كثيرًا بالملح. لقد رأينا هذا عند رامبو، كما رأينا كيف تتكرر صورة «المنشار» التي وجدناها عند لوتريو في شعر إلوار ورسوم بيكاسو. لا بد إذن أنها ضرورةٌ كامنة في بناء الشعر الحديث. وتتأكد هذه الضرورة إذا عرفنا أن الملح كان في الكتابات الكيمائية القديمة أحد العناصر الطبيعية الأساسية إلى جانب الزئبق والكبريت.
ولعل من مظاهر وحدة البناء المشترك أن أشعار سان-جون بيرس قد حظيت بمترجمين هم أنفسهم شعراء كبار؛ فقد ترجمه إليوت إلى الإنجليزية وأنجارتي إلى الإيطالية، كما قدره الشاعر الإسباني جيان أعظم التقدير، وقدم الشاعر النمسوي هوفمنستال سنة ١٩٢٩م لديوانه «أنا باز» وأبدى بعض ملاحظاته العميقة الحساسة التي يقول فيها إن مالارميه وفاليري وسان-جون بيرس أفراد مبدعون، يلقون بأنفسهم في اللغة نفسها. وقد كانت هذه في رأيه هي طريقة الشعراء اللاتينيين في الاقتراب من اللاشعور، فهي لا تتم على طريقة الروح الجرمانية في تدفق نصف حالم، بل بتحطيم الأنظمة القائمة وبعثرة الأشياء في بعضها البعض على نحوٍ ساحرٍ قويٍّ معتم ينبعث من سحر الكلمات والإيقاعات.
(١٤-١) الخيال المتسلط
يقول «هوفمنستال» عن هؤلاء الشعراء إنهم أفرادٌ مبدعون، وهذا القول يفضي بنا إلى فكرة طالما تحدثنا عنها أثناء الكلام عن رامبو، وهي فكرة الخيال المتسلط أو الدكتاتوري، فهذا الخيال هو في الشعر المعاصر أيضًا أصل كل ما يصيب العالم الواقعي من تغيير وتحطيم. ولذلك فمن المستحيل أن نقيس إنتاج هذا الخيال بمقاييس الواقع أو نزنه بموازين الأحوال البشرية السوية، ولا بد أن نتخذ منه وسيلة للكشف والاهتداء فحسب. صحيح أن الشعر الغنائي كان في مختلف اللغات والعهود يلغي الفروق بين الواقع والظاهر أو بين ما هو موجود وما يبدو الخيال الشاعر كذلك، وصحيح أيضًا أنه كان ولا يزال يخضع مادته لسلطان النفس الشاعرة التي تغيره وتحوِّره كما يتراءى لها. ولكن الجديد أو المعاصر حقًّا هو أن العالم الذي يبدعه هذا الخيال الخلاق وهذه اللغة المتميزة أصبح معاديًا للعالم الواقعي كل العداء. ولقد قال بودلير في إحدى عباراته النقدية: إن الخيال أو المخيلة تبدأ بالتفكيك والتشويه ثم تواصل عملية إعادة البناء والتركيب بفضل قوانينها الخاصة، وهذه العبارة لا تصدق فحسب على الشعر في القرن العشرين، بل تؤكدها كذلك أقوال الشعراء أنفسهم، والفنانين التشكيلين كذلك. والشيء الذي يلفت النظر أن هذه الأقوال تصاغ على الجملة في صيغةٍ سلبية أو عدوانيةٍ ظاهرة. فلوركا مثلًا يصف شعر خيمنيث فيقول: «أي جرحٍ نقي وكبير تركه خياله في البياض اللانهائي!»
ويلاحظ أورتيجا أي جاسيت أن «النفس الشاعرة تهاجم الأشياء الطبيعية، فتجرحها أو تميتها.» ودييجو يقول إن الشعر هو خلق لأشياء لن نراها أبدًا. ومارسيل بروست يكتب قائلًا إن عمل الفنان أشبه بتلك الحرارة الشديدة التي تعمل على تحلل التركيبات الذرية وتجميعها في تركيباتٍ جديدةٍ مختلفة عن سابقتها تمام الاختلاف. والشاعر الألماني جوتفريد بن يتحدث عن الروح الغربي فيقول: إن من طبعه القدرة على «تفكيك» الحياة والطبيعة ووضعهما في إطارٍ جديدٍ نابع من القانون الإنساني. وبيكاسو يصف فن الرسم بأنه «صنعة عميان» ويقصد بذلك أن الفن متحرر من كل اعتبار لعالم الموضوعات الخارجية. وكل هذا يدل على أن سلطان الخيال الذي بدأ في الظهور منذ أواخر القرن الثامن عشر قد وصل إلى أقصى قوته في القرن العشرين، وأن الشعر قد أصبح بما لا يحتمل الشك لغة التعبير عن عالم من خلق الخيال وحده، عالم يرتفع فوق الواقع أو يحطمه ويلغيه.
(١٤-٢) آثار الخيال المتسلط
عديدة هي آثار هذا الخيال الطاغية المتسلط على المضمون وأسلوب التعبير في الشعر الحديث، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على لسان بعض الشعراء المعاصرين، فالمكان أيضًا يتفتت في الشعر ويفقد تماسكه وأبعاده المعتادة. ولقد عاب الشاعر الألماني الكبير فريدريش شيلر مرة على إحدى القصائد بأنها تتحدث عن حافة الجبال ثم تتحدث بعد ذلك مباشرة عن مرعًى في الوادي، وكان من رأيه أن الشاعر قام بطفرة «قطعت اتصال السياق». ويستطيع القارئ أن يقلب في بعض النصوص التي اخترناها من شعر إليوت أو سان-جون بيرس ليتبين بنفسه كيف تتنقل القصيدة الحديثة بين أجزاء المكان المتباعدة التي تفصل بينها مسافاتٌ شاسعة.
إننا نقرأ مثلًا في شعر جوج تراكل — أكبر الشعراء التعبيريين الألمان — قوله: «قميص أبيض من النجوم يحرق الأكتاف التي تحمله.» فيلغي المكان بهذا المزج بين النجوم والوجه البشرى إلغاء تامًّا. وفي قصيدة «منطقة» للشاعر الفرنسي أبوللينير نلاحظ تجاور أمكنةٍ عديدة في وقت واحد، فبراغ ومرسيليا وكوبلنز وأمستردام كلها مسرحٌ واحد يدور فوقه حدثٌ خارجي وداخلي واحد. وفي معظم الأحوال تختفي الإشارات المكانية أو تستخدم عكس استخدامها الصحيح. ففاليري مثلًا يقول إن البحر ينام فوق القبور، ورافائيل ألبرتي يقول: «فوق النجمة الريح، وفوق الريح الشراع.» أضف إلى ذلك قلب النظام المألوف الذي رُتبت الأشياء في العالم الخارجي بمقتضاه. فالشاعر الإيطالي كوازيمودو يقول إن الهواء يزفر أوراق الشجر المرة. والشاعر الإسباني جيان يقول إن الرطوبة المظلمة الملموسة تفوح برائحة الجسر. بل إن المثل الأخير يوضح كيف تستخدم الكلمة في غير موضعها؛ إذ نجد الرطوبة، وهي شيءٌ غير مادي، توصف بأنها ملموسة، مع أن الجسر كان أحرى بهذا الوصف. وهذا الأسلوب (الذي أجازته البلاغة اليونانية القديمة وإن اقتصدت فيه أشد الاقتصاد) قد انتشر في الشعر الحديث منذ عهد رامبو ثم تغلغل اليوم في الشعر المعاصر، لأنه فيما يبدو أقدر الأساليب على جعل الصور تتشابك في بعضها البعض بطريقة غير واقعية، وإضفاء الأهمية على الكلمات المستخدمة بعكس المقصود منها. وانظر مثلًا إلى هذه الأبيات؛ فجاك بريفير يقول. «عجوز من الذهب معه ساعة في حداد.» بدلًا من قوله «عجوز في حداد ومعه ساعة من الذهب.» وخيمنيث يقول: «غصن محزون وقلب جاف.» بدلًا من قوله: غصن جاف وقلب محزون. والأمثلة عديدة يستطيع القارئ أن يكتشفها بنفسه من نصوص هذا الكتاب.
ولا يقتصر الأمر في هذا كله على المكان؛ فالزمان أيضًا تصبح له وظيفةٌ شاذة. إن الشاعر الحديث يؤمن فيما يبدو بكلام أينشتين، ويرى معه أن الزمان هو البعد الرابع الذي يضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة بحيث يمكن — كما رأينا عند إليوت — أن تتجمع عناصرُ زمنيةٌ متفرقة في لحظةٍ واحدة تقابلها صورةٌ مكانيةٌ واحدة، أو أن تستخدم الصفات الزمانية بدلًا من الصفات المكانية المنتظرة (وقصيدة فاليري عن المرأة من أوضح الأمثلة على هذا). ويصل الأمر في أغلب الأحوال إلى إلغاء التدرج العادي في مراحل الزمن، بل إلى إلغاء الزمن نفسه.
ويتم هذا في أغلب الأحوال عندما تتنقل القصيدة في حرية بين الأزمنة المختلفة، دون أن تكون هناك حاجة لذلك من ناحية المضمون فإذا استخدم الشاعر صيغ الأفعال لم تزد هذه عن كونها منظورًا شعريًّا يعرض من خلاله شيئًا مستقرًّا متجردًا من الزمن أو مرتفعًا عليه. بل قد لا تزيد هذه الأفعال عن كونها متنوعاتٍ نغمية وإيقاعية تفرضها طبيعة اللغة نفسها واتجاه سيرها. وقد يلجأ الشاعر إلى استخدام صيغ الأسماء للتعبير عن أحداثٍ تجريبية تتم في عالمٍ واقعي من شأنه أن يحتاج إلى الأفعال، ثم يعبر بصيغ الأفعال عن حدث لا واقعي يتم في زمنٍ لا واقعي من شأنه أن يلغي التدرج الزمني ويمحو الفوارق الفاصلة بين المستقبل والحاضر.
وهناك قصيدة للوركا يمكن أن نسوقها دليلًا على تحكم الخيال وخضوعه لقوانينَ ذاتية تختلف عن قوانين الواقع، واستبعاده للتسلسل الزمني والترابط العلِّي المألوف في المنطق والحياة. والقصيدة التي نعنيها هي قصيدة «صيادون» وتتألف من ثماني أبيات، تسير بطريقةٍ بصرية تلخص الصور والأحداث. فهناك أربع حمامات يطرن إلى أعلى ثم يرجعن إلى الأرض وقد «جرحت ظلالهن.» والحدث بسيط غاية البساطة تعبر عنه لغةٌ موجزة غاية الإيجاز، لا تفصح عن الترابط السببي بل تمثل له بواو العطف أو بتغيير المكان (أعلى – الأرض).
وفي لحظة من اللحظات يبدو كأن اللغة تقترب من التعبير عن العذاب (في كلمة مجروح) ولكنها سرعان ما تؤجله على الفور حين تقول إن الظلال هي التي تجرح، وحين تمتنع عن التصريح بالسبب الحقيقي في تغير الصور والأمكنة وهو الطلقة النارية التي يسددها الصياد إلى الحمام، أضف إلى هذا أن بداية القصيدة ونهايتها مكتوبتان بصيغة الفعل المضارع على الرغم من أن طرفَي الحدث ينتميان أو ينبغي أن ينتميا لمرحلتَين زمنيتَين مختلفتَين، هذا لو أن الشاعر وضع الواقع الخارجي في اعتباره، ولكن الخيال يفرض حكمه وسلطانه؛ فيبدع صورًا متحركة تحذف من الحدث ما تشاء أو ما تستطيع حذفه، ولا تستثني من ذلك الزمن ولا التسلسل العِلِّي.
على أن الشاعر قد يلجأ إلى عكس ما تقدم؛ فهناك بيت لإليوت يقول: «اذهب، هكذا قال الطائر، لأن الشجر كان مزدحمًا بالأطفال.» فالبيت كما نرى يقيم علاقةً سببية بين أمرَين لا علاقة بينهما. فازدحام الشجر بالأطفال هو السبب الظاهر لنداء الطائر، مع أن الواقع والمنطق لا يشهدان بضرورة الجمع بينهما. هذه المفارقة وأمثالها كانت ممكنة في الشعر القديم، ولكنها كانت نادرة. أما الشعر الحديث فقد جعل منها قانونًا من أهم القوانين التي تحكم بناءه. ولولا الخيال الذي بلغ أقصى درجات قوته وحريته ما أمكن أن يوجد مثل هذا القانون الذي يحاول أن يلغي كل القوانين!
ومن الأساليب التي يلجأ إليها الشعر الحديث أنه يسوي بين الواقع المشاهد وبين الفكرة المجردة. فمن أمثال هذه التعبيرات التي تجمع بين الواقع والمجرد «رماد العار» لسان-جون بيرس، «أبناء الشكوى» لرافائيل ألبرتي، «ثلج النسيان» لإليوت. وكثيرًا ما تلجأ المخيلة إلى الألوان غير الواقعية بغية التحكم في المشاهَد أو المسموع، وغالبًا ما يكون الأخضر هو اللون المفضل، ومن أمثلة ذلك «خطوات تخضرُّ»، «عيناك الأرجوانيتان الخضراوان»، «شمس خضراء»، «ذهب أخضر»، «رائحة خضراء»، «موسيقى خضراء». ونخطئ لو تصورنا أن هذا كله نوع من ازدواج الإحساس أو «السينستزيا» كما يقول الاصطلاح المدرسي. فالواقع أنها ألوان من الأغراب والتنافر والنشاز التي تحكم بناء الشعر الحديث ويريد الشاعر أن يفزعنا بها كما تفزع الأطفالَ عفاريت الأساطير.
(١٤-٣) الاستعارة غيرت وظيفتها
ونود قبل أن نختم هذا العرض السريع لبعض ظواهر الشعر الحديث أن نلقي نظرةً سريعة على الاستعارة ووظيفتها المتغيرة فيه. فمن المعروف أن الاستعارة كانت دائمًا من أمضى وسائل الشعر لتغيير الواقع وإضفاء ثوب الشاعرية عليه. إنها، كما يقول أورتيجا أي جاسيت: أعظم قوة يملكها الإنسان. فهي تقترب من حدود السحر وكأنها أداة من أدوات الخلق التي تركها الله في ضمير مخلوقاته، على نحو ما يترك الجراح المشتَّت البال إحدى آلاته في بطن المريض.
كانت الاستعارة في الأدب التقليدي تقوم على أساس المشابهة بين الشيء والصورة فإذا قلت مثلًا إن شَعر العذراء ذهب، اتضح وجه الشبه على الفور (وربما جاز لنا أن نقول إن الأدب قد استطاع في بعض عصوره التالية للأدب الكلاسيكي القديم أن يستعين بالاستعارة ليحقق الترابط بين الأشياء بطريقةٍ شاعرية، وإن ذلك كان يقوم على عقيدةٍ دينية تؤمن بأن الكائنات جميعًا تتصل ببعضها في نظامٍ إلهيٍّ رائع). غير أن الاستعارة الحديثة قد أصبحت أهم أدوات الخيال غير المحدود، فهي تقلل من التشابه بين الأشياء أو تقضي عليه تمامًا، وهي لا تعبر عن الترابط بين الأشياء بقدر ما تجمع بين أشياء لا ترابط بينها في المنطق أو الواقع. إن أهم ما يميزها الآن هو التباعد الهائل بين الشيء والصورة، وطبيعي أن يتم هذا على حساب الشيء وقيمته الواقعية، وإن كان يفيد الصورة وكل ما يبدعه الخيال ويصل بالقوة العقلية التي كانت تكمن دائمًا في الاستعارة إلى أقصى درجاتها.
بهذا تصبح الاستعارة صورةً مطلقة، لا تحتفظ إلا بأثرٍ ضعيف غاية الضعف من الأصل ولا تأتي من التشابه بينها بل من قفزة أو طفرةٍ واسعة. ومما يوضح هذا أن نجد شاعرًا كبيرًا مثل «إزرا باوند» يتحدث عن الاستعارة فيطالب بأن تكون دوامةً مشعة تعصف خلالها أفكار تتردد أصداؤها ترددًا غير متناهٍ. وشاعر آخر يقول إن الشعر وحده هو الذي يعرف أن الريح يمكن أن تسمى بالشفاه مرة وبالرمال مرة أخرى.
ويمكن أن نوضح الوظيفة الجديدة للاستعارة في الشعر الحديث بأمثلة من قصائد ورد معظمها في هذا الكتاب. فإلوار يقول مثلًا: «في السهل العاصف تفسد جذور التنهد.» ولوركا يقول: «القمر يحصد ببطء رعشة النهر القديمة.» وكثيرًا ما يضع الشاعر الاستعارة إلى جانب الشيء مباشرة، حتى يكاد أن يوحِّد بينهما. والمثل المشهور على هذا هو البيت الأخير في قصيدة أبوللينير «منطقة»: «شمس – رقبة مذبوحة»، الذي يصور فيه غروب الشمس.
وفي بعض الأحيان تبتعد الاستعارة عن الشبه بالشيء الموصوف بعدًا شديدًا، وقد لا يذكر هذا الشيء إلا متأخرًا وقد لا يذكر على الإطلاق. ومن أمثلة ذلك ما يقوله الشاعر كارل كرولوف في أحد أبياته: «عملات النهر الفضية.» أو ما يقوله فاليري: «هذا السطح الهادئ» فنكتشف بعد ذلك أنه يقصد البحر.
وإذا كانت هذه الاستعارات جميعًا تقسر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط فإن هناك ألوانًا أخرى من الاستعارات الناشزة المتنافرة التي يحار فيها القارئ. ومن أمثلة ذلك وصف «رافائيل ألبرتي» للشواطئ بأن لها جباه حيات، أو قول لوركا «رمل المرآة»، أو إلوار: «قش الماء». والأمثلة كثيرة، ومن الأفضل أن يكتشفها القارئ بنفسه في النصوص التالية ليتأكد له أن هذا التنافر أو النشاز الذي يلاحظه إنما يخضع لقانونٍ كامن في بناء الشعر الحديث، بل وفي رؤية الرسامين المعاصرين مثل مارك، وكاندينسكي، والموسيقيين (وفي مقدمتهم استرافنسكي) والموقف العقلي والروحي الذي نعيش فيه اليوم بوجه عام.
إن الفنان الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم؛ ولذلك يزداد تلهفه للحرية وإلحاحه عليها. إنه لا يبخل في سبيل ذلك بشيء ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته.
إنه لم يعد يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقةٍ عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. ولذلك راح يخلق لنفسه عالمًا جديدًا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكةً غير واقعية، مملكة تتعمد أن تعلن العداء على كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.
إن الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتةٍ» عظيمة لم تُسمَع من قبل، ولكنها حدوتةٌ وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو الزهور فيه، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار والأصباغ الكيماوية وعجائب علم النبات الحديث، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. وإذا أراد القارئ أن يتجول في لياليه أو يعيش في جوه المتقلب فلا بد أن يستعد لتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئًا فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء «والمعجبون»، بل يؤثر أن يضل في المتاهات أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منا. إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه. ولكن هناك عوالم أخرى غير واقعية تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم.
لقد امتلأت لغة الشعر الحديث كما قدمنا بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، ولكنها ستظل لغةً شعرية وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم والمنقذ الوحيد لهم. كما يعرف أكثرهم وحدةً أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد إلى الأزل ويتصل بالأبد، وأعني به حرية اللغة وقدرتها المستمرة على أن تبتكر، وتجرب، وتلعب، وتغني فتسحر الأسماع والقلوب.