الفصل الثاني
عماد الإمبراطورية
بلاد العرب والسودان
بعد أن دانت لمحمد علي الأمور وأصبح حاكم مصر الفعلي والأسمى، مرت فترة من الزمن تبلغ
العشرين ربيعًا، فدفعت به الظروف إلى أن يظهر بوجه عام بمظهر الخادم المخلص والعبد النشيط
المطيع لأوامر مولاه صاحب الجلالة سلطان الروم والخليفة ظل الله في الأرض … على أن طاعته
هذه لم تكن حقيقية، كما أن غيرته كانت مصطنعة. وأغلب الظن أنه منذ أول يوم خطرت له فكرة
أن
الاستيلاء على حكومة مصر ليس بالأمر الذي لا يمكن تحقيقه عمليًّا؛ فإنه شرع يغذِّي الأمل
في
أن يحكم وادي النيل يومًا ما، لا كنائب عن سيد آخر، بل كحاكم مستقل.
نعم؛ كان طاهر باشا زميله في حمل السلاح يحلم بالحكم المستقل، ولكن مواظبة محمد علي
قد
حققت هذا الحكم، فأخرجه من حيز التفكير إلى حيز العمل. ولقد عرض الزعيم الألماني على
الإنجليز في سنة ١٨١٢م،
١ كما عرض على الفرنسيين في سنة ١٨١٠م
٢ عقد محالفة فيما لو اعترف به هؤلاء أو أولئك حاكمًا للقاهرة، لا بل لقد عرض
فعلًا على ديوان الآستانة سنة ١٨١٠م أن يكون شأنه كشأن حكام ولايات البربر في شمال أفريقيا.
٣
ولكن الإنجليز والفرنسيين رفضوا الاقتراح المذكور؛ مراعاة للحالة السائدة في أوروبا
وقتئذ
من ناحية، واحترامًا لما بينهم وبين السلطان من المحالفات من الناحية الأخرى. ويلوح أن
محمد
علي لم يقدر تمامًا ما تقاضاه السلطان ثمنًا للإنعام الذي طلبه زعيم الألبانيين، على
أن هذا
الفشل من آن لآخر لم يَفُتَّ في عضده ولم يحوِّله عن رأيه، بل أدى فقط إلى حمل محمد علي
على
إخفاء نياته وكتمانها، ولقد كان من شأن إخفاقه في عقد التحالف مع إحدى الدولتين الأوروبيتين
سالفتي الذكر، أنه امتنع عن مناصبة الباب العالي العداء، ومع أنه قلَّما أطاع ما صدر
إليه
من الأوامر إلا إذا كان من الممكن تحويله إلى تعزيز نفوذه وتوطيد مركزه؛ فإن تصريحاته
العلنية كانت دائمًا، والحق يُقال، تصريحات التابع الموالي المخلص. وبالجملة، فقد كان
ثمة
خلال هذه الفترة خلاف حاد بين ما يجاهر به محمد علي علنًا وبين الغاية الحقيقية التي
كان
يرمي إليها سرًّا.
ولقد كانت الحالة الداخلية في الإمبراطورية العثمانية كثيرة الشبه وقتئذ بحالة إمبراطورية
المغول في أوائل القرن الثاني عشر؛ فقد نخر السوس عظامها سواء بسواء، فديوان الآستانة
كقصر
المغول من قبله كان قد أصبح ولا شاغل له إلا شئون الوزراء الخصوصية والمصالح الفردية
لكل
منهم، ثم إن باشوات الإقليم التركية كنواب حكام المغول لم تكن تربطهم بالحكومة المركزية
إلا
روابط واهنة.
وقد كانت بغداد والقاهرة عاصمتين منفصلتين، كما كانت حيدر أباد ولكناو من قبل، ولكن
كان
ثمة فارق فيما يحيط بالإمبراطوريتين المتداعيتين من العوامل السياسية، فإن جيران المغول
من
قبائل ماراتا أو الأفغان كانوا بعيدين بعضهم عن بعض، ثم إن تصرفاتهم السياسية كانت مُسيَّرة
إلى أبعد حد بقانون الطبيعة، بحيث أن كلا الفريقين لم يحجم عن الاستيلاء على دلهي إلا
خوفًا
من أن يخرج الفريق الآخر بنصيب الأسد من الغنيمة، أما أملاك السلطان فقد كانت — على العكس
من ذلك — متاخمة لسلسلة من الدول الأوروبية، مرتبطة فيما بينها بعدة روابط كل منها متيقظة
تمام التيقظ لتوسع الأخرى وانتشار نفوذها، فكانت النتيجة أن إمبراطورية المغول، بينما
تُرِكت وشأنها إلى أن تحللت بفعل العوامل الطبيعية وضربت فيها الفوضى أطنابها، فإن الأملاك
العثمانية ظلت متماسكة بفعل المؤثرات الخارجية أمدًا طويلًا حتى بعد أن زال تماسكها
الداخلي. من أجل هذا كان تصرف محمد علي بصفته دعامة الإمبراطورية مدفوعًا بهذا
الاعتبار.
ولم يكن ثمة ما يدعو محمد علي إلى الاعتراف بالجميل؛ لأن الباب العالي إذا كان قد
ظهر
ثبات في موقفه فقد كان فقط في عدائه لوالي مصر؛ فلقد بدأ باتهامه بالتآمر مع بيكوات
المماليك لتحقيق لباناته الشخصية وإنزال الأضرار بالدولة، فلما أرسل رءوسهم لتُعلَّق
على
الأعمدة عند مدخل البوابة الكبرى لقصر الآستانة، وجَّه إليه الباب العالي أشد اللوم لإقدامه
على قتل أخلص أنصار السلطان،
٤ بل إن الباب العالي كثيرًا ما طالبه أثناء كفاحه مع المماليك من أجل عرش مصر أن
يتأهب لقمع حركة الوهابيين في بلاد العرب، ولكن كان محمد علي يعتذر في كل مرة لغاية سنة
١٨١١م، بما قد يترتب من الخطر بسبب ترك «أولئك الزعماء المصريين البؤساء خلفه في مصر»،
ويشير إلى ما يصلهم من التشجيع والمساعدة من باشا سوريا المجاور لهم، ويبالغ في مصاعب
الحصول على السفن اللازمة للملاحة، ولنقل مهمات الحملة في البحر الأحمر؛
٥ فإذا كان محمد علي قد قرر في النهاية أن يصدع بأمر الآستانة، وأن يطيع ما يشير
به السلطان، فلم يكن ذلك باعثه مجرد العواطف الجوفاء كالطاعة أو الولاء؛ فلقد رأى ألا
حرج
عليه من القيام بالحملة المذكورة ضد بلاد العرب بعد أن دانت له الأمور واطمأن باله من
ناحية
المماليك، ثم إنه رأى من ناحية أخرى أن الحملة قد تشغل أولئك الجنود الألبانيين المشاغبين
الذين أطلقوا عليه النار وهو لا يزال منهمكًا في مكافحة المماليك، وقبل أن تتم له الغلبة
عليهم؛ لذلك أحسَّ أن وجود الجنود الألبانيين في مصر أثناء تغيب بقية الجيش في بلاد العرب
قد يغريهم ويدفعهم إلى أعمال الشغب بعد أن خلا لهم الجو ولم يَبْقَ أمامهم من يضرب على
أيديهم. وأخيرًا، رأى في إخراج الوهابيين من الأراضي المقدسة ما قد يرفع من شأنه ويعلي
من
مكانته في كافة أنحاء العالم الإسلامي.
وكان أول ظهور المذهب الوهابي في بلاد العرب حوالي منتصف القرن الثامن عشر، فإن زعيم
الجماعة محمد بن عبد الوهاب بعد أن أتم دراسته في دمشق وبغداد ولى وجهه شطر مكة وألقى
عصار
التسيار فيها، وهناك جعل ينعم البصر عن كثب في كيفية معيشة الحاج وعاداتهم، ولم يكن من
شأن
كل هذا إلا أن يقوي في نفسه الاعتقاد بأن الإسلام قد أغارت عليه البدع، وأفسدته التقاليد
الجديدة ولا محيص له من العودة إلى ما كان عليه في عهد السلف الصالح من الطهارة والبساطة،
ومن ثم شرع يشن الغارة على زخارف الحياة في عصره، ويذكر الناس في عبارات بليغة مؤثرة
بأعمال
الهدى كما نص عليها القرآن الكريم، ويبين لهم متى يمكن تسويغ الانحراف عن المرمى المقصود
من
المعاني القرآنية، وقد طفق يبشر بهذه المبادئ الطهرية في قريته من أعمال نجد. ولما لم
يكن
كبير الشأن في قريته التي كان فيها مسقط رأسه، ونظرًا إلى أنه كان إلى ذلك الحين بمثابة
نبي
غير مسلح، فقد هاجر كما هاجر من قبله النبي محمد ﷺ إلى حيث يستظل بحماية أمير
الدارعية محمد بن السعود.
وسرعان ما اعتنق الأمير المبادئ التي كان يبشر بها محمد بن عبد الوهاب، وهكذا وجدنا
في
قلب نجد حكومة دينية متوحشة جعلت ديدنها شن الغارة وإعلان الحرب على جيرانها المسلمين
الذين
انحرفوا عن الدين بما ابتكروه من البدع. وقد سارعت الحكومة المذكورة إلى التنديد بالخلافة
التركية، وبادرت إلى تحدي من يجاورها من باشوات الإمبراطورية العثمانية، وكان طبيعيًّا
أن
لا يجد المذهب الوهابي كبير مقاومة في حالة الضعف والوهن التي كانت فيها الإمبراطورية
المذكورة وقتذاك، وقد ساوى الوهابيون في كرههم بين الشيعة والسنيين بانتهاك حرمة الأماكن
التي يقدسها الفريق الأول في كربلاء والفريق الثاني في مكة والمدينة، ولم يتورعوا عن
أن
يقتلوا مئات المتعبدين والناسكين في داخل حرم الأماكن المذكورة.
وقد أحدث احتلال الوهابيين الحجاز رجة وأي رجة في أنحاء العالم الإسلامي، وكيف لا
وقد
ترتب عليه تعطيل حركة الحج السنوي إلى الأماكن المقدسة تعطيلًا تامًّا؟! ففي سنة ١٨٠٥م
وكذلك في سنة ١٨٠٦م اضطر الحج السوري أن يعود أدراجه إلى الشام دون أن يتمكن من الوصول
إلى
الحرمين؛ مما أدى إلى معاقبة باشا دمشق واستبداله بآخر. وفي الحق، لقد كان هذا العقاب
في
محله، فإن أموال «الميري» عن أراضي مديريتي دمشق وطرابلس الشام قد خُصِّصَتْ «بحسب الأساليب
التركية في الشئون المالية» للقيام بما يستلزمه إرسال الحج الشامي إلى الحجاز وحمايته
من
النفقات. وكأنما رأى باشا دمشق أن الوهابيين كانوا للحجاز بمثابة نعمة جادت بها السماء
عليه؛ لأن تعطيل الحج يمكنه بناء على ذلك من تحويل الأموال المذكورة إلى جيبه الخاص.
ومن
هنا لم يُلاحَظ على باشا دمشق هذا أنه قام بأي مجهود يُذكَر لإقلاق خواطر الوهابيين
وإقصائهم من مكة والمدينة.
٦
وكان السلطان قد ظل السنوات العديدة قبل ذلك، وهو يصدر من الأوامر التي لا يُؤبَه
لها إلى
كلٍّ من والي دمشق وبغداد لطرد المغيرين من الأراضي المقدسة؛ ذلك لأن حماية تلك الأراضي
يُعتبَر في نظر التقاليد الإسلامية من أسمى علامات الشرف، فلم يكن غريبًا والحالة هكذا
أن
يُعتبَر طرد الأتراك منها عارًا وأي عار. لهذا ولى الباب العالي وجهه شطر باشا القاهرة
الناشئ، وقد خُيِّل إلى السلطان أن يكون في الوقت نفسه قد قام بمناورة عظيمة لو أنه تمكن
من
حمل باشا القاهرة على إنهاك قواه وتبديد موارده باستخدام جنوده في القضاء على الوهابيين؛
لأنه بذلك لا يستعيد الحجاز فقط بل ويستعيد أيضًا مصر إلى قبضة يده. وهكذا رأينا الباشا
والسلطان يتَّحدان في النهاية (وإن كان هذا الاتحاد لبواعث مختلفة) تحدوهما رغبة واحدة
في
إعادة فتح بلاد العرب التي تُعتبَر مهد الإسلام.
ومن ثم، بدأ ابنه طوسون زحفه الحقيقي في أواخر سنة ١٨١١م، وهو الزحف الذي بدأ مرة
قبل ذلك
بالوليمة التي شهدت مأساة المماليك في القلعة وطاحت فيها رءوسهم، على أن المأساة وقعت
في
هذه المرة، لا قبل الشروع في الزحف بل بعده؛ لأن الحملة نزلت في السفن في السويس وألقت
مراسيها في ينبع، ولكنها حُوصِرَتْ في أوائل سنة ١٨١١م في مضيق واقع على الطريق المؤدي
إلى
المدينة، ودارت رحى القتال مدة ثلاثة أيام كانت نتيجتها عودة المغيرين القهقرى إلى ينبع،
بعد أن فقدوا كافة بطاريات الطوبجية،
٧ أما الانسحاب فقد بدأه كبير ضباط طوسن إلى أن وصل إلى ينبع في أمان، ولكن سرعان
ما أُطِيحَتْ رأسه — بناءً على أوامر محمد علي — لشد عزيمة بقية الجنود. وقد انتهز الباشا
فرصة هذا الانسحاب للتخلص من بعض المشاغبين من زعماء الألبانيين ممن كانت لهم نزعات ثورية
وميول للشغب تسبب قلقًا له، وكان طبيعيًّا بعد ما لحقهم من عار الهزيمة، وبعد أن ضاقوا
ذرعًا بمصاعب ومشاق القتال في بلاد العرب القحلاء، حيث لا تزيد فيها الغنيمة عن بضعة
إبل مع
ما يتعرض له الإنسان من خطر القتال، نقول: كان بديهيًّا بعد ذلك كله ألا يطيل أولئك الزعماء
الألبانيون اعتراضهم عندما اقترح عليهم الباشا أن يغادروا مصر، وأن يبحثوا عن خدمة في
الجيش
العثماني في جهات أخرى تكفل لهم المكسب وتدر عليهم الأرزاق.
وقد انقضى فصل الحر عام ١٨١٢م في اتخاذ هذه الإجراءات والقيام بتجهيز الاستعدادات
لحملة
ثانية، وقد تضمنت هذه الاستعدادات إغواء بعض القبائل العربية في الحجاز بوسائل عرفناها
في
العصور الحديثة؛ لتسهيل الزحف على المدينة. وقد كُلِّلَتْ هذه الإجراءات بالنجاح، وكانت
نتيجتها طرد الوهابيين من المدينة في شهر نوفمبر، ومن مكة ثم جدة في أوائل العام التالي.
ومن ثم بسط محمد علي ظِلَّه على الحجاز وأصبح سلطان الآستانة يُنادَى باسمه من جديد من
فوق
المنبر في الأراضي المقدسة.
٨
ثم ذهب محمد علي بعد شهور قليلة بنفسه إلى مكة «لتوطيد دعائم النظام» في ممتلكاته
الجديدة،
٩ ولكن تبيَّن أنه كان يرمي من وراء هذه الزيارة إلى تعيين «شريف» جديد في مكة؛
لأن الشريف القديم لم يكتفِ على ما يُظَن بالعطف على الوهابيين وتقديم المساعدة لهم،
بل
كانت في حيازته أيضًا أموال طائلة، وقد تم خلع الشريف بمنتهى السهولة وأرسل هو أولاده
الثلاثة إلى القاهرة،
١٠ على أن هذا التصرف قد أقلق عددًا من القبائل العربية، ومن ثم شرع الوهابيون
يحشدون قواتهم من جديد في الصحراء، وإذ ذاك أُرْسِلَت التعليمات إلى القاهرة في طلب عدد
جديد من الجنود لصدِّ هذا الخطر، فأمر الباشا بإرسال ١٠٠٠٠ جندي في أسرع وقت ممكن، ولما
لم
يكن في مصر وقتئذ سوى ١٢٠٠٠ جندي؛ فقد كان لا مناص من الالتجاء إلى التجنيد العنيف لسد
هذا
الطلب. ولهذا أخذ المراكشيون من بلاد البربر والرقيق السوداني واليونانيون — بل والأرمن
—
يلتحقون بالجيش ويُرسَلون أفواجًا أفواجًا إلى جبهة القتال
١١ هذه الحملة التي بدأت في سنة ١٨١٤م افتُتِحَتْ بكارثة كما افتُتِحَتْ حملة طوسن
من قبل.
فإنَّ إحدى فصائل الجيش قد هاجمها العرب على غرة منها، وهي على مسيرة يومين من الطائف،
وما كان الفريقان يلتحمان حتى فرَّ من الميدان عشرة من الضباط الكبار الاثنى عشر وقد
أخذوا
معهم معظم رجالهم.
وهنا اعتلى محمد علي ظهر بعيره وانطلق كالسهم لمقابلة الفارين الذين لم ينفع الوعد
ولا
الوعيد في لمِّ شملهم، فكانت نتيجة ذلك أن سبعة قومندانات حُرِموا من رتبهم وأُعِيدوا
إلى
القاهرة. والمظنون أن الثلاثة الباقين قد أُعدِموا،
١٢ وقد أُصِيبَ المصريون بهزيمة أخرى عندما شرعوا في مهاجمة «طربا» بقيادة
طوسن.
ويظهر أن الفصيلة المذكورة قد ضللها الدليل؛ ولهذا داهم الوهابيون خيامها ليلًا واستولوا
على كافة أمتعتها ومدفعيتها، وكانت نتيجة هذه الكارثة تفشِّي اليأس بين الجنود المصريين.
ولقد ذكر أحد أذكياء السائحين — ويشير ميسيت بهذا الوصف إلى الرحالة بوركنهاردث الشهير
الذي
كان وقتئذ في جدة؛ أي: في شهر أغسطس — ذكر أن الجنود قد خارت عزائمهم بصفة عامة، واستولى
عليهم القنوط والتذمر بسبب غلاء المعيشة، حتى بلغت الأثمان هنا ضِعْفها في مصر، وخاصة
أنه
ليس ثمة أمل في المكسب ولا مجال للسلب والنهب؛ فليس في بلاد العرب فلاحون يمكن انتهابهم،
ولا قرى عامرة صالحة للاستلاب؛ فأعداؤهم ليسوا إلا مجرد رجال بدو في أطمار بالية، وكل
ما
يطمع الجند المصري أن يغنمه بعد الجهود الشاقة هو بعير عراه الهزال من شدة الجوع.
١٣
ثم دار الزمن دورته وبدأ الحظ من جديد يبتسم للجنود المصرية. وجلية الخبر أن ابن
السعود
فارق هذا العالم في شهر أبريل ولم يتمكَّن أولاده الثلاثة من الاتفاق فيما بينهم،
١٤ وفي الوقت نفسه وصلت الإمدادات للجيش المصري، وأمكن استرضاء زعماء العشائر
وأشياع مشايخ القبائلي، ونزل الباشا بنفسه بعد الاحتفال بالعيد في مكة إلى حومة الوغى
بقيادة الجيش، ويُقال إن الوهابيين كانوا قد حشدوا قوة تُقدَّر بأربعين ألف مقاتل في
جبهة
«بصيلة» على مسافة ١٢ ميلًا في غرب «طربا» فداهمهم محمد علي، وبعد معركة دموية حامية
— وهذا
وصف محمد علي نفسه — تفرق الوهابيون أيدي سبأ، وواصل الفرسان المصريون تعقب آثارهم مدة
ساعة
ونصف ساعة، وقد استولوا على المخيم الوهابي بما في ذلك ٥٠٠٠ رأس من الإبل وكثير من الأجهزة
والأمتعة.
١٥
وقد كان هذا الانتصار الباهر خليقًا بأن يؤدي إلى قمع الحركة الوهابية بصفة نهائية،
ولكن
هذا الأمل لم يتحقق لعدة أسباب، فإن الباشا كان بعيدًا عن القاهرة أكثر من عام، ثم إن
الباب
العالي حاول مرة على الأقل أن يخلعه من باشوية مصر،
١٦ وفوق هذا، فإن عودة بونابرت من «ألبا» قد فتح الباب لحدوث اضطرابات جديدة في
القارة الأوروبية بما يمكن أن يفيد محمد علي منها سياسيًّا؛
١٧ فلهذه الأسباب وغيرها قرر محمد علي أن يعهد لابنه طوسن بأن يواصل القتال إلى
النهاية، وقد أظهر هذا عجزه كما أظهره في المرة السالفة، فلقد بدأ الزحف الذي كان ينبغي
أن
يؤدي به إلى قاعدة الوهابيين في «الدارعية»، ولكنه وجد أن المئونة قد نفدت، ونحسب أن
الوهابيين لو كانوا تحت قيادة زعيمهم المتوفي وقتئذ لأنزلوا بالمغيرين المصريين هزيمة
حاسمة، ولكن عبد الله أميرهم الجديد كان قد استولى عليه اليأس وفقد كثيرًا من توازنه
بعد
انتصار المصريين في بصيلة؛ فأحجم عن الهجوم كما أحجم طوسون عن مواصلة الزحف، وكانت النتيجة
أن الفريقين اتفقا على عقد صلح تنازل بمقتضاه الوهابيون عن كافة حقوقهم على القبائل الضاربة
في الجهات التي استولى عليها محمد علي. ولما كان هذا الصلح قد ترك في أيدي الوهابيين
بعض
المناطق الواقعة في شمالي المدينة وشرقيها وفيما بينها وبين مكة؛
١٨ فقد كان يُعتبَر بمثابة هدنة مؤقتة تُحترَم إلى أن يأنس أحد الفريقين من نفسه
القوة الكافية على استئناف القتال.
وفي أوائل شهر يناير سنة ١٨١٦م، أي بينما كانت القارة الأوروبية المتعبة تتمتع بفترة
طويلة من السلام لم تعتدها من قبل، وصلت الأنباء — أو على الأصح أُذِيع في القاهرة —
أن بعض
القبائل العربية قد عكرت صفو السلام، وأشعلت نار الثورة بتحريض الوهابيين، وكانت المنية
قد
أنشبت أظفارها في طوسون بعد عودته من حروب الصحراء، ومن ثم عهد الباشا بقيادة الحملة
الجديدة إلى إبراهيم وهو الابن الثاني لباشا مصر، وقد كان يُسمَّى «أسد الشجعان الذي
كانت
آراؤه سديدة موفقة في كل حين.»
١٩ وشاءت الأقدار أن يلعب هذا القائد الجديد دورًا مهمًّا فيما يقع في السنوات
المقبلة من الحوادث الخطيرة.
كانت ولادة إبراهيم في قولة سنة ١٧٨٩م، وكانت سنه لا تتجاوز السادسة والعشرين ربيعًا
عندما اختير لقيادة هذه الحملة، كان قصير القامة قويَّ البنية وعلى جانب عظيم من النشاط،
وكان في وسعه أن يقاوم متاعب اللذات ومتاعب الحرب على السواء، كان أزرق العينين عالي
الجبين
ذا لحية شقراء، وكان كثير النشاط عقلًا وجسمًا، وكان أشبه بوالده محمد علي من حيث الشجاعة
المقرونة بأصالة الرأي، ولكن كانت تنقصه حلاوة حديث أبيه وجاذبية أخلاقه وصدق فراسته،
سواء
في الناس أو في المواقف،
٢٠ وكان صارمًا يبعث الرهبة في النفوس بعكس أبيه الذي يبعث الإعجاب ويسحر الناس
بحلو حديثه. وأحسب أن إبراهيم ما كان ليستطيع أن يشق لنفسه طريق المجد كما فعل أبوه محمد
علي، ولكنه كان جنديًّا يُشار إليه بالبنان على كل حال، فقد أصبح الساعد الأيمن لأبيه،
يُنظَر إليه بعين الهيبة المقرونة بالطاعة البنوية، وينفذ أوامره بمنتهى الإخلاص والدقة،
ثم
إنه ورث عن أبيه أيضًا حب النظر في المسائل بنفسه، بدلًا من وضع ثقته فيما يُقدَّم له
من التقارير.
٢١
وكان أول ما وجه إليه اهتمامه ليس إدراك فوز حربي معين، وأنه كان يرى أن الوقت المناسب
لم
يَحِن له بعد، بل اكتساب بعض زعماء القبائل إلى الجانب المصري، بعد أن أخذوا يضيقون ذرعًا
بالحكم الوهابي. وبهذه المناسبة كتب «هنري صولت»، وهو الذي خلف ميسيت في منصبه في أوائل
سنة
١٨١٧م، يقول: «إن ما أبداه إبراهيم من المواهب في استمالة مختلف القبائل البدوية ليدل
على
أن النجاح سيكون حليفه في النهاية.»
٢٢ ولم يَعُد هذا العميد الحقيقة عندما عزا نجاح إبراهيم إلى عزيمته التي لا تُفَل
أو على الأصح قسوته حيال معارضيه، وإلى إشرافه على خزانة الأموال وإلى ما كان له من حسن
السمعة وشدة المحافظة على وعوده؛ وهي خلال ثلاث لا مناص منها لبسط نفوذ الإنسان بين القبائل
العربية،
٢٣ ثم إن إشرافه على مرءوسيه كان في الوقت نفسه يخالف كل المخالفة تساهل طوسن
حيالهم. وقد ضرب لنا صولت مثلًا على صحة هذا الأمر، فقال: «إن المدعو حسن أغا المشرف
على
شئون حدود الحجاز وقع في كمين؛ فبدلًا من أن يكون أول الفارين إذا بالأغا يطلق النار
على
جواده فيرديه أمام خط القتال، وبذا شارك الأغا مصير رجاله.»
٢٤ ولعمري إذا كان في استطاعة إبراهيم أن يثير في نفوس رجاله مثل هذا الشعور
الشريف بالواجب فجدير به أن ينجح.
أما عبد الله بن سعود، فقد خُيِّل إليه أنه في مأمن من طوارئ الحدثان؛ لوجوده في معقله
الصحراوي في الدارعية، على أن إبراهيم سرعان ما زحف بعد أن أتمَّ خططه وأكمل استعداده،
وقد
واصل زحفه لا كفاتح، ولكن كصديق وحامٍ، ولم يكن هناك أي توازن في دفع ما يطلبه الجيش
من قرب
المياه أو التمر أو الخشب.
ثم إن ما سنَّه من النظام القاسي حال دون ما اعتاده الجنود من أعمال السلب وارتكاب
المحظورات، وكان جديرًا بأن يكسب بهذا التصرف شيئًا من التأييد الذي كان من نصيب الجيش
الإنجليزي أثناء زحفه في الهند. ولكن برغم هذا كله فإن الحملة قد أبهظ عاتقها ما كان
يحيط
بها من المصاعب الناشئة عن طول طرق المواصلات، وارتكازها على القاعدة البحرية في جدة.
وفي
الحق أن ما لا يقل عن ٨٠٠٠٠ بعير قد استُخْدِمَت في صيانة طرق المواصلات،
٢٥ ولم يكن لدى إبراهيم عندما وصل إلى الدارعية سوى ٦٠٠٠ جندي فقط. وقد لبث أمام
المدينة ثلاثة أشهر كاملة دون أن يستطيع شيئًا، ومما زاد الطين بلة أن مخزن الذخيرة انفجر
بفعل النار. ونحسب أن قائدًا غير إبراهيم كان يهون عليه في ظروف حرجة كهذه أن يقود جنوده
إلى أعمال النهب وسفك الدماء على طول خط التقهقر، ولكن إبراهيم احتفظ بمكانته وصمد لهجمات
العدو إلى أن وصلته الإمدادات والذخيرة من جديد، ومن ثم أخذ يضيق الحصار، وأخيرًا تمكن
من
الاستيلاء على القلعة في سبتمبر سنة ١٨١٨م، وقبض على زعيمين من مشايخ الوهابيين، فحلق
لحيتيهما المرسلتين، وطمر أسنانهما، وجعلهما أضحوكة أمام الناس،
٢٦ وفي الوقت نفسه قضى بإبعاد عدد من أفراد الأسرة إلى القاهرة،
٢٧ وأرسل عبد الله بن سعود إلى الآستانة لمفاوضة السلطان في الصلح إن استطاع إلى
ذلك سبيلًا.
وهكذا تلاشى الخطر الوهابي مؤقتًا، ونجح ساعد إبراهيم القوي وعزيمة محمد علي المنظمة
فيما
أخفق فيه من قبل باشا بغداد أو باشا سوريا، وذلك على الرغم من قربهما النسبي من قاعدة
الوهابيين «الدارعية»، وبالرغم من تغافل إبراهيم عن تنفيذ المشروعات السابقة؛ لمحاولة
إقناع
دعاة المذهب الجديد بالوسائل السلمية بأنهم قد حادوا عن طريق الصواب.
وقد أهدى أهالي الصوفية في فارس إلى محمد علي سيفًا مقوسًا نفيسًا رُصِّعَتْ قبضته،
فضلًا
عن غمده بالأحجار الكريمة النادرة.
٢٨
بل إن الباب العالي لم يتمالك نفسه من شدة الفرح بمثل هذا النجاح الخارج عن المألوف،
فأمر
بقطع رأس شيخ الوهابيين وكبيرهم، وعَيَّن إبراهيم واليًا على الحجاز والحبشة.
٢٩
هذا بينما القنصل الإنجليزي قد اهتزَّ طربًا للقضاء على من أسماهم عصبة من اللصوص،
برهنوا
على أنهم أشد تعصبًا وأقل تسامحًا وأكثر عداء لتقدم المدنية من نفس أتباع العقيدة الإسلامية
الذين كان الوهابيون يطمحون في أن يحلوا مكانهم.
٣٠
ويظهر أن الإمبراطورية العثمانية كانت مرتاحة كإمبراطورية المغول وإمبراطورية المرانا
والفرس والصينيين أشد الارتياح إلى عدم تعيين حدود أراضيها بصفة قاطعة؛ مما فتح الطرق
أمام
الآستانة لاستنكار أو تجاهل ما قد يقوم به الجيران من الحكام من أعمال الاعتداء والاستفادة
من أعمال ولاتها في الأقاليم أو التنصل منها حسب ما يتراءى لها، فلقد كانت توجد دائمًا
فيما
وراء الأقاليم الواقعة تحت إدارة السلطان الفعلية والاسمية مناطق مبتهجة كان الأتراك
قد
هبطوها مرة كفاتحين.
وكان وجودهم فيها داعيًا لإدخال الرعب مؤقتًا في قلوب زعماء هذه الجهات، وحملهم على
إعلان
خضوعهم وطاعتهم لهؤلاء الفاتحين أو لتقديم ولائهم للسلطان بصفته الخليفة؛ طبقًا للتقاليد
الإسلامية القائلة بوجوب الاعتراف به والنزول على أوامره ونواهيه؛ فهذه المطالب التي
لم تكن
لتحتمل البحث لو عُرِضَتْ أمام قضاة أوروبيين قد تناولت البقاع الممتدة على طول حوض البحر
الأحمر وما وراءها إلى عدن، ثم عبر البحر المذكور إلى بعض المواني الصغيرة كمصوع وسواكن
على
الشاطئ الأفريقي، وهذا هو السر في أن لقب إبراهيم باشا تضمن أيضًا الإشراف الاسمي على
الحبشة، وهو الإشراف الذي لم يكن يزيد في الواقع على مجرد الحق في تعيين حكام في المواني؛
لتحصيل المكوس على منتجات السودان كالصمغ والعاج والرقيق، وهي المنتجات التي كانت تسير
بها
القوافل لبيعها لتجار جوجاراتي الذين يؤمنون مواني البحر الأحمر.
٣١
على أن محمد علي لم يقتنع مطلقًا بهذه السلطة المحدودة؛ لأنه كان يطمع في الإشراف
على
التجارة نفسها؛ فلقد كان راسخًا في اعتقاده أن أراضي السودان والحبشة غنية بما فيها من
معدن
الذهب، كما أنه كان يعرف أن الجنوب هو المورد العظيم لأولئك الأرقاء السود والأقوياء
ولهم
قيمة كبرى في مصر؛ فهذه البواعث الثلاثة كلها كانت قوية. ومن المتعذر أن يقول الإنسان
هنا
هل كان محمد علي مدفوعًا برغبته في العثور على مناجم الذهب؛ ليتمكن من اكتساب صداقة ديوان
الآستانة بأسره، أم كان مدفوعًا بأمل الحصول على الرقيق؛ لتدريبهم على الشئون العسكرية
تمهيدًا لتكوين جيوش منهم تمكنه من الاستغناء عن مشاغب الألبانيين والأتراك، بحيث يستطيع
يومًا ما تحدي السلطان وكل ما يحشده من جنود وجحافل؟
ومن ثم أعدَّ محمد علي العدة للقيام بحملة كبيرة إلى جهات الجنوب متظاهرًا بأن الغرض
منها
رد إهانة قيل إنها موجهة من سلطان سنار، ثم لفتح الطريق أمام القوافل التجارية للوصول
إلى
القاهرة عن طريق النيل، ولم ينتصف العام حتى كان قد احتشد نحو ٥٠٠٠ جندي في وادي حلفا؛
وهي
المنطقة التي لم يكن نفوذ الباشا يتجاوزها كثيرًا، ثم عُهِد بقيادة الحملة إلى إسماعيل
ثالث
أولاد محمد علي، وقد عُيِّن في هذا المنصب للتمرس في شئون الحكم والحرب،
٣٢ وسرعان ما تمكن إسماعيل من فتح إقليم سنار والقسم الشرقي من السودان وإخضاع
زعماء هذه المناطق بعد قليل من المقاومة، ولم يكن ثمة ما يقتضي المباهاة في فتح هذه الجهات؛
أولًا: لقلة دراية السودانيين باستعمال الأسلحة النارية. وثانيًا: لانقسام الأهالي بعضهم
على بعض برياسة زعيمين كانا يتطاحنان على الزعامة، وقد قتل أحدهما الآخر ثم فر إلى الحبشة.
ومن ثم بادر الملك الأسمى إلى التسليم، ثم واصل الجيش المصري زحفه جنوبًا إلى أن وصل
إلى
نقطة واقعة بين خطي العرض ١٠ و١١ في الشمال
٣٣ على أن الزحف هنا لم يكن مصحوبًا بالتوفيق الذي شُوهِد في بدء الحملة؛ فقد كانت
الغابات والأحراش من أكبر العوائق في سبيل الفاتحين، مع أن الدفاع عنها كان سهلًا، وتفشَّتْ
الدوسنطاريا وأمراض هذه المناطق بين الجنود المصرية، وقلَّتِ المئونة، وهكذا رأى إسماعيل
نفسه مضطرًّا إلى الانسحاب إلى سنار.
وكانت تقدمت في الوقت نفسه قوة من الجند بقيادة صهر الباشا الدفتردار بك قاصدة إلى
كردفان
والشطر الغربي من السودان، وبعد مقاومة أشد مما شُوهِد في سنار سقطت الأبيض وأعمل الجنود
السلب والنهب فيها، وهكذا تم فتح السودان، ولكن إدارته تُرِكَتْ لأيدٍ غير متمرسة. ولقد
كان
في نية محمد علي أن يعهد إلى إبراهيم بإدارة ذلك القطر وتنظيمه، ولكنه أُصِيبَ بالدوسنطاريا
على أثر وصوله واضطر إلى العودة لمصر من فوره.
أما مناجم الذهب التي كانت مطمح أنظار محمد علي فلم يعثر عليها الجيش المصري، ثم
إن عدد
من وصل إلى أسوان من السودانيين القادرين على حمل السلاح لم يتجاوز الخمسمائة في شهر
مارس
سنة ١٨٢٢م
٣٤ بدلًا من الجيش العظيم الذي كان يحلم به محمد علي، ثم إن إسماعيل نفسه لم يظهر
كفاءة في إدارة السودان، وهذا ما حدا بمحمد علي أن ينصح ابنه مرارًا عديدة باستعمال وسائل
اللطف واللين، وأن يحكم بين الرعية بالعدل والعمل على مصالحة الناس.
٣٥
ولكنه كان على الرغم من هذه النصائح يُلِحُّ في مطالبة ابنه بإرسال فصائل جديدة من
الرقيق، وهو ما لم يكن يمكن تحقيقه إلا بمواصلة الغارات على الأهالي الذين كانوا قد
تملَّكَهم الرعب والهلع.
وبديهي أن من المستحيل استمالة شعب ومحاولة استعباده في الوقت نفسه، وكان إسماعيل
على ما
يظهر يرى أن الأمر الثاني هو أولى بالعناية، ففي أواخر سنة ١٨٢٢م ركب إسماعيل نهر النيل
ورسا في مقابل شندي، وطلب إلى الزعيم السوداني هناك أن يقدم له خلال ثلاثة أيام ١٥٠٠٠
ريال
و٦٠٠٠ رقيق. فأخبره الزعيم أن ذلك خارج عن مقدرته، فلطمه إسماعيل بالكرباج على وجهه صائحًا:
«أتهينني أيها العبد؟!» وهنا تدخل زعيم آخر ووعد بتنفيذ الأمر وانسحب الزعيمان، وقد كانت
الغاية من الانسحاب ليست النزول على أوامر إسماعيل، بل لجمع أنصارهما وأتباعهما. ولما
اجتمعوا أحاطوا بقوات إسماعيل وسدوا الطريق في وجهها لهجوم فجائي قاموا به في الليل على
غير
انتظار، أما إسماعيل ومن معه من الجند في الضفة الأخرى فقد استيقظوا ووجدوا أن الدار
التي
كانوا فيها قد شبَّتْ فيها النار، ثم انقضَّ عليهم الأعداء فمزقوهم إربًا إربًا.
٣٦
ولكن الزعيم السوداني المسكين كان قد نسي شأن الدفتردار بك في كردفان، فما كاد يسمع
بمصرع
إسماعيل حتى عاد إلى سنار على جناح السرعة، وهناك انتقم من الأهالي أشد انتقام، ويُقال
إنه
أطاح رءوس ما لا يقل عن ٣٠٠٠٠ شخص، وحدثت على أثر ذلك اضطرابات وقلاقل، وقام شخص يُدعَى
المهدي، وانضم إليه أنصار كثيرون. وقد نما إلى القناصل الأوروبيين أن ذلك المهدي وقع
في
الأسر وأُطِيحَتْ رأسه، ولكن تبيَّن بعد شهر أنه لا يزال على قيد الحياة، ومن ثم أُرسِلَتِ
الإمدادات من أسوان لقمع حركته،
٣٧ وهكذا قُمِعَت القلاقل، ولم يحل عام ١٨٢٦م حتى كانت السكينة مخيمة على ربوع
السودان، وأصبح محمد علي قادرًا على أن يتخذ ما يلزم من الإجراءات لإصلاح شأن ذلك الإقليم
وتنمية موارده؛ فقرر إرسال ثمانية من كبار أعيان الوجه البحري بصحبة ١١٠ أشخاص لتعليم
السودانيين طريقة الزراعة في مصر.
٣٨
ويلوح أن هذا التصرف وحده لم يأتِ بنتيجة ما، وأغلب الظن أن الجوع هو الباعث الوحيد
الذي
دفع شعبًا متأخرًا وساذجًا كالشعب السوداني إلى الإقبال على الصناعة، هذا فضلًا عن أنه
لم
يتعلم شيئًا البتة من معلميه المصريين الذين لم يكن يظن فيهم التحمس لهذا الواجب
الإلزامي.
ولعل أهم ما طرأ من التغيير في خلال السنوات العشر التالية هو أن الخرطوم تحولت من
قرية
صغيرة إلى مصاف المدن وبها ٥٠٠ منزل مبنية بالطوب الأحمر، هذا عدا الثكنات والمخازن وغيرها
من الحدائق التي يُزرَع فيها التين والعنب، وكان هذا من عمل خورشيد باشا الذي حكم الإقليم
سنوات عديدة واتخذ الخرطوم عاصمة له.
وليس من ريب في أن ازدهار مدينة الخرطوم ونموها كان النتيجة التي تنشأ، وخاصة في الشرق،
عن وجود قاعدة الحكومة في جهة معينة.
على أن محمد علي لم يكن كثير الارتياح لركود حركة الإنتاج في ذلك الإقليم؛ فلقد قضى
في
التفتيش في ربوعه ستة أشهر كاملة فيما بين سنتي ١٨٣٧ و١٨٣٩م، ولعل غايته من ذلك التفتيش
كانت لتحقيق الحلم الذي ظل يداعب محمد علي نفسه ألا وهو العثور على الذهب، ولكنه كان
يرمي
فوق ذلك إلى غاية مهمة؛ وهي تنمية الزراعة في تلك الجهات وتوسيع مداها.
وفي الوصف المذكور عن رحلته هذه دلائل ناصعة على تفاهة النتائج التي تحققت وعما كان
يجول
في خاطر الباشا من الأفكار عن طريقة تنمية السودان، وعلى الرغم من — أو بالأحرى بسبب
— ما
كان ينتظر من كثرة المحصول، وقد قدره وقتئذ بنحو ٦٠ ضعفًا، فإن الزراعة كانت ما تزال
مهملة
والأرض لم تخلُ من قشرتها القابلة للزراعة إلا بواسطة قطع الأخشاب الكبيرة؛ ومن ثم تقرر
إجراء تجربة أخرى ألا وهي تنمية زراعة قصب السكر والقطن والنيلة، واختير لهذه الغاية
عدد من
الشبان العرب من خريجي مدرسة المهندسخانة، وأعطى لكل منهم ١٠٠ فدان معفاة من الضرائب
لمدة
خمس سنوات، ووكل إلى كل منهم عددًا من الشبان السودانيين لتعليمهم الوسائل الراقية
المستخدمة في الزراعة المصرية.
ثم ألح الباشا في الوقت نفسه على الزعماء السودانيين أن يسعوا وراء تحسين الزراعة
ويعملوا
على تنشيطها، وكثيرًا ما كان يقول لهم: لو احتذيتم حذو غيركم من الناس؛ فليس من ريب في
أنكم
سوف ترتقون من مستوى العجماوات إلى مصاف الأوروبيين، ولسوف تبلغون من الثروة وتتعلمون
كيف
تنعمون بمسرات الحياة مما يحول جهلكم دون تصوره، ولكن هذا ما كان ليتم بدون الأيدي العاملة
وإلا لما تحقق شيء من هذه الأحلام. ويُقال إن سامعيه قد خلبت ألبابهم تلك الصورة الزاهية
التي رسمها لهم محمد علي عن المستقبل، حتى إنهم توسلوا إليه أن يأخذهم إلى مصر ليتعلموا
الوسائل الفنية، ولكنه نصح إليهم بأن الأفضل أن يرسلوا أبناءهم.
٣٩
ولما كان هذا كله قد تم في نهاية الفترة الإيجابية في إبان حكم محمد علي فلا مندوحة
عن
الاستنتاج بأن فتحه للسودان قد وطد سيادة مصر في ذلك الإقليم، ومَكَّن الباشا من الحصول
على
عدد معين من العبيد، ولكنه لم يؤثر مطلقًا فيما كان عليه السكان من الثقافة الفطرية،
كما
أنه — وهذا ما كانت له أهمية كبرى في نظر محمد علي — لم يؤثر أي تأثير في إنتاج الإقليم
من
الوجهة المادية، كما أن القضاء على الوهابيين لم تكن له أي نتيجة أكثر من إعادة فتح مكة
والمدينة للحاج.
ومن ناحية أخرى فقد كان لاتساع نفوذ محمد علي شرقًا وجنوبًا نتائج على جانب عظيم من
الأهمية، فبينما كان الساسة الفرنسيون واقفين وقفة المتفرج كانت للساسة الإنجليز مصلحة
مباشرة في الموضوع، ويمكن أن يُعزى منشأ ارتيابهم في سياسة محمد علي إلى الفترة الواقعة
بين
سنتي ١٨١١م و١٨٢٢م؛ فقد كانت لأعماله العسكرية في بلاد العرب والسودان آثار مباشرة في
ثلاث
مناطق كانت لهم فيها فعلًا مصالح حيوية، ألا وهي: البحر الأحمر، والخليج الفارسي،
والحبشة.
وكان معظم الأعمال التجارية في تلك المناطق تتناوله أيدي تجار معظمهم من أصل جوجاراتي
جلبون متاجرهم من صورات وغيرها من مواني غرب الهند. ولم يكن في استطاعة إمبراطورية المغول
—
حتى في إبان شوكتها — أن تقدم للسفن الهندية التجارية الحماية اللازمة، بل اضطر الإمبراطور
أكبر أن يحصل على جوازات من البرتغاليين، هذا في حين أن من جاء بعده من الأمبراطرة حصلوا
من
الهولنديين أو الإنجليز على خفر لحراسة السفن أثناء السفر. وفي أواسط القرن الثامن عشر
— أي
قبل أن تحصل شركة الهند الشرقية على ديوان بنغال — فإنها قد حصلت على لقب «أميرال
الإمبراطورية»، وما يلحق بذلك اللقب من أبواب الإيرادات والأراضي، وقد ظلت شركة بمباي
البحرية بعد ذلك سبعين عامًا كاملة، وهي تقوم بحراسة السفن التجارية الهندية بانتظام
بين
الهند والبصرة أو بينها وبين جدة، وترفع فوق سارية سفنها راية الشركة وراية الإمبراطورية
المغولية فوق جانبها، وقد ترتب على تضعضع قوة الفرس والعثمانيين أن أصبحت حراسة السفن
أمرًا
لا مناص منه؛ فلقد تفشَّت القرصنة واتسع مداها بسرعة شديدة، ثم إن ما كان يُقابَل به
من
يُقبَض عليهم من القراصنة من الرحمة والشفقة الغريبة عند إطلاقهم، يُضاف إليه سماح ولاة
الأمور لبعض التجار بنقل الأخشاب لإصلاح السفن التي كانت تهاجمهم؛ إن ذلك كله لم يكن
من
شأنه أن يؤدي إلى وضع حد لأعمالهم المرعبة أو لزجرهم عن غيهم،
٤٠ ومما ساعد على تفشي ذلك الشر من الوجهة الأدبية والسياسية والعملية نشوب الثورة
الوهابية؛ لأن الوهابيين أنفسهم أنشئُوا أسطولًا للقرصنة في كوم فودة إلى جنوب جدة، فلا
عجب
أن يلتجئ إليهم قراصنة الخليج الفارسي عند سنوح الفرصة الملائمة.
٤١
وفي سنة ١٨٠٨م وقعت إحدى السفن الإنجليزية في أيدي القراصنة الذين قتلوا الملاحين
عن بكرة
أبيهم، وفي نفس السنة استولى القراصنة على السفينة المسلحة التابعة للشركة واسمها «سيلف»،
٤٢ فأرسلت حملة لتأديب القراصنة، فأبادت كثيرًا من السفن التابعة لهم في الخليج
الفارسي. وفي سنة ١٨١٩م لم تتمكن الحملة القوية المجهزة في بمباي من الاستيلاء على أكبر
معاقل القراصنة في رأس الخيمة فقط بمساعدة إمام مسقط، بل أرغمت كافة القبائل العربية
المشتغلة بشئون الملاحة في الخليج أن تعقد معاهدة مع الشركة، وهي لا تقضي فقط بالعدول
عن
أعمال القرصنة، بل وترك تجارة الرقيق أيضًا،
٤٣ ولقد عللت الشركة نفسها بالأمل في أن تحصل على مساعدة إبراهيم باشا لتحقيق هذه
الغاية بعد الاستيلاء على الدارعية، ولكن محمد علي لم يكن مهتمًّا وقتئذ بالتطلع إلى
شيء من
هذا في مثل ذلك المكان السحيق؛ ولذا لم تصادف اقتراحات الشركة قبولًا.
٤٤
أما في البحر الأحمر، فإن الأمور كانت تسير سيرها الطبيعي الهادئ؛ فإن فتح مصر بواسطة
نابليون قد وجَّه الاهتمام إليها، فمُسِحت البلاد في سنة ١٧٩٥م على جناح السرعة وأصر
لورد
فالنشيا فيما بين سنتي ١٨٠٤م و١٨٠٥م على العودة بواسطة هذا الطريق عند ختام رحلته الهندية،
وكان يرمي إلى أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فكانت غايته الأولى البحث عن خير وسيلة لسد
البحر
الأحمر في وجه أي اعتداء يُحتمَل أن يجيء من العرب، والثانية تنمية التجارة الهندية.
ولتحقيق هاتين الغايتين عمد إلى زيارة كافة الموانئ الرئيسية الواقعة في طريقة ابتداء
من
عدن فما بعدها، وقد عُنِيَ بتدوين كافة ما يهمه من المعلومات عن سير الحالة التجارية،
وكان
من رأيه احتلال عدن. ولتحقيق الغايتين سالفتَي الذكر عقد محالفة مع الوهابيين ومع الحبشة،
٤٥ ولكن ظلَّتْ مقترحاته مجرد حبر على ورق، إلا فيما يتعلق بهنري صولت الذي كان قد
رافقه في رحلته الشرقية، وعُيِّن فيما بعد قنصلًا عامًّا في القاهرة؛ فإنه قد ذهب في
سنة
١٨٠١م إلى بلاد الحبشة في بعثة خاصة على أمل توسيع نطاق التجارة فيما بين تلك البلاد
وبمباي،
٤٦ وكانت شركة الهند الشرقية ينوب عنها مندوب يقيم في «مخا»، ومعه مساعده بلزوتي
الذي لعب فيما بعد دورًا له نصيب من الأهمية في بداية تاريخ الحفريات في مصر، وقد ظل
يتنقل
بين عدن وغيرها من الجهات حسبما تقضي الظروف.
وكانت الغاية التي جعلها محمد علي نصب عينيه وقتذاك — كما بيَّنا من قبل — أن يعيد
التوازن في المالية المصرية بواسطة التجارة، فلم يكتفِ بإمداد المتعهدين الإنجليز في
البحر
المتوسط بالحبوب، بل عرض على حكومة الشركة في الهند اقتراحات لتنمية التجارة في البلاد
الشرقية، ونظرًا لأن الاقتراحات المذكورة قُوبِلَتْ بشيء من الاهتمام فقد انتُدِب بلزوني
للسفر إلى القاهرة؛ حيث تمكن من عقد اتفاقية مؤقتة وتوقيعها في ٢٨ مايو سنة ١٨١٠م. وقد
نصت
الاتفاقية المذكورة على أن تكون الامتيازات التركية قاعدة المعاملات التجارية مع الهند،
وأن
يتعهد الباشا بألا يعتدي بأي حال من الأحوال على الأملاك والرعايا الإنجليز في حالة نشوب
حرب بين إنجلترا وتركيا، بل أن يمدهم على العكس بالحماية اللازمة، وأن يتعهد بإعادة الفارين
من السفن البريطانية حتى لو اعتنقوا الإسلام (وهو شرط كانت تركيا ترفضه باستمرار إلى
الآن
كما يُؤخَذ من كتاب أبوت تحت ظل الحكم التركي ص٢٩)، وأن يمر المسافرون الذين يصحبون أمتعتهم
الشخصية بدون دفع مكوس جمركية، وأن تصحب القوافل التجارية من السويس وإليها قوة من الحرس،
في مقابل ثلاثة دولارات إسبانية عن حمولة البعير الواحد، وأن تكون الضريبة الجمركية
٣٪.
على أن هذه الاتفاقية لم يُقدَّر لها أن تُبرَم، وأغلب الظن أن الباعث هو التخوف
من
الإضرار بالعلاقات البريطانية مع الآستانة، وقد رفضت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه
أن
تسمح لطرادة الباشا «أفريقيا» بالذهاب إلى البحر الأحمر عن طريق الرجاء الصالح،
٤٧ وقد بقي الباشا في شبه حيرة وتردد، لا يدري ماذا يصنع ليحيط المحالفة التي كان
يطمح إليها بما يجعلها جذابة ليحمل الإنجليز على توقيعها. ولقد رأيناه كثيرًا ما يحظر
على
السفن القادمة من بمباي — نزولًا منه على إرادة السلطان مع شيء من السخرية — بألا تواصل
سفرها إلى ما بعد جدة شمالًا
٤٨ على أنه صمم في نهاية الأمر أن ينزل بنفسه إلى غمار التجارة الهندية وعين فوزيس
وشركاه مندوبين عنه في بمباي التي أرسل إليها كمية هائلة من البضائع الأوروبية، عدا مليون
دولار سبائك ذهب،
٤٩ ثم إنه ألح على القنصل الإنجليزي في الوقت نفسه — وذلك نظرًا إلى نشاط القراصنة
الوهابيين — بضرورة إرسال قوة بحرية إلى هناك لرد إهانة القراصنة، وإلا أصبح من غير المأمون
أن يطلب إلى أولاده النقل من الحجاز واليمن.
وهنا حبذ صولت هذا الاقتراح وعضده؛ إذ كتب يقول:
إن من المستحسن أن يكون لسموه التفوق بحيث يحول دون تسلط هؤلاء القراصنة
الوهابيين على البحار، أما فيما يختص بمصر فإن سمو الباشا قد أصبح تاجرًا بكل معاني
الكلمة بحيث إنه أصبح في قبضة أيدينا وتحت رحمتنا، وقد أصبح إيراد الدولة متوقفًا
على التجارة … بحيث لا يستطيع بدونها معونة حكومته عدة أشهر. ثم إن أميرال البحر
الأبيض في حالة قطع العلاقات بوسعه أن يحمل محمد علي — على ما أعتقد — على الخضوع
لشروطنا في كل وقت، بدون طلب قوة إضافية، عدا التي يشرف عليها في الأوقات المعتادة،
وهذا بإلقاء مراسي أسطوله في أبي قير وضرب الحصار على الشاطئ، وهو ما يمكن أن نفعله
في البحر الأحمر؛ فإن سفينتين من سفن البضائع تقفان بين جدة والسويس كافيتان لقطع
مواصلات محمد علي عن طريق البحر وحمله على قبول شروطنا في أقرب وقت.
٥٠
وقد كان من نتيجة هذه الاقتراحات أن سُحِبَت الاعتراضات التي أُقِيمَت في سبيل السماح
بسفر طرادة الباشا إلى البحر الأحمر عن طريق رأس الرجاء الصالح.
٥١
فعلاقات الإنجليز مع الباشا بعد أن دانت له الأمور في مصر كانت للآن علاقة وداد وصداقة،
ولا ريب، ثم إنها لم تَشُبْها شائبة — كما رأينا — من جراء زحفه على الوهابيين، وإن كان
بعض
الأفراد الإنجليز قد استحسنوا تعضيد الأخيرين ومد يد المعونة إليهم،
٥٢ ولئن كان ميسيت قد ساءه فوز محمد علي في بلاد العرب، فما ذلك إلا لشدة خوفه من
أن هذا النجاح قد يغري الباشا بالتورط فيما سوف يؤدي إلى هلاكه «لأني أعتقد أنه إذا لقي
حتفه في هذه اللحظة المبكرة؛ فإن هذه البلاد — مصر — سوف تعود من جديد إلى حالة الثورة
التي
انتشلها منها.»
٥٣ ولقد صدرت الأوامر إلى الكابتن سادلير بإرسال تهانئه إلى إبراهيم بمناسبة ما
أحرزه في الدارعية من النجاح، واقترح عليه القيام بعمل مشترك في الخليج الفارسي. كذلك
عندما
أبدى صولت تخوفه من أن تكون الحملة الموجهة للسودان مقصودًا بها فتح الحبشة، ولفت نظر
الباشا إلى أن مثل هذا العمل لن يُقابَل في إنجلترا بالرضاء والارتياح، بادر محمد علي
إلى
التصريح جهرة أن البلاد — وإن كانت تعج بمناجم الذهب والمعادن الثمينة والدرر النادرة،
وبالرغم من أن الاستيلاء عليها لا يمكن أن يحوم الشك فيه — فإنه يفضل أن يعدل عن فتحها
على
أن يشوه علاقاته مع الإنجليز. وبهذه المناسبة كتب صولت، فقال: «ما عرفت الباشا يقطع لنا
عهدًا في أمر من الأمور إلا إذا كان ينوي المحافظة عليه.»
٥٤
على أن ديوان الآستانة كان يرى في تلك العلاقات خطرًا وأي خطر؛ فقد كان السائد في
الأفهام
هناك أن ذلك الباشا القوي البأس سوف يعقد مع إنجلترا التحالف الذي يرمي إليه، وبذلك يخلع
عن
عاتقه النَّيْر التركي بتاتًا؛ ومن هنا كان اهتمام الديوان بانتهاز كل فرصة سانحة لإثارة
القلاقل والمتاعب. مثال ذلك أنه حاول توريط محمد علي في تأييد قراصنة الخليج الفارسي
على أن
المتاعب الشديدة إنما نشأت عن تصرفات حاكم مخا، ففي سنة ١٨١٧م حجز أحد الأعراب في المصنع
الإنجليزي مدة وجيزة من الزمن، ثم أطلق سراحه إجابة لرغبة الحاكم، ولكن الشرذمة التي
تؤلف
حرس المصنع اعتُقِل رجالها مع قومندان إحدى السفن التجارية التي وُجِدَتْ هناك بالصدفة،
وكذا المقيم البريطاني وضُرِبوا ضربًا مبرحًا وعُومِلوا معاملة سيئة، بينما انتُهِب المصنع
وسُلِب ما فيه، وبعد إضاعة وقت طويل في البحث وتحري الحقائق تقرر إرسال قوة عسكرية للحصول
على الترضية المطلوبة.
ولم يكن اعتماد مخا على الإمبراطورية العثمانية وارتباطها بها إلا صوريًّا فحسب،
فقد كانت
أكبر مواني إمام صنعاء الذي لم يكن لسلطان تركيا عليه لا نفوذ ولا سيادة، ولكن محمد علي
تمكن في خلال سنة ١٨١٨م من أن يسلم إليه بعض الأراضي المتاخمة للميناء الشمالية (الحديدة)
في مقابل تعهده بتقديم كمية معينة من البن للسلطان سنويًّا؛ ومن ثم أصبحت بمثابة جزية
مفروضة على بلاد صارت منذ ذلك الحين تُعتبَر مُظلَّلة بالحماية التركية.
٥٥
وليس يخفى أن الدول الأوروبية ما كانت لتقبل مثل هذه النظريات، ولا أن تسلم بحقوق
لم تكن
مشفوعة بنفوذ حقيقي، ومن ثم راحت شركة الهند الشرقية تطالب إمام صنعاء بتقديم التعويض
اللازم، فعمد إلى سياسة المراوغة المألوفة، ومن ثم صوَّبت المدافع قنابلها على مخا وهددت
قلاعها.
٥٦
وسلَّم الإمام بحكم القوة ما كان ينبغي أن يسلمه من قبل من المطالب التي لا تستند
إلى قوة
السلاح؛ فعُقِدَتْ معاهدة نُصَّ فيها على أن تكون للمقيم قوة من الحرس، كما لزميله في
بغداد
أو البصرة، وأن يُسمَح له بالظهور أمام الملأ، وهو على ظهر جواده، وأن تُخصَّص مقبرة
لدفن
الموتى المسيحيين فيها، وأن يُعترَف أن تجار صهورات هم تحت الحماية البريطانية، وأن تُخفَّض
المكوس الجمركية التي يدفعها التجار الإنجليز إلى المستوى الذي يدفعه التجار الفرنسيون.
٥٧
وهكذا سقط هذا الحصن الإسلامي الذي كان المسيحيون فيه إلى ذلك الحين عرضة لكافة أنواع
الإهانات التي تذهب بلا حساب أو عقاب، وكان محكومًا عليهم بالسير على الأقدام مع حظر
مرورهم
أمام بوابة معينة وجعلهم يشهدون جثث مواطنيهم تنهشها الكلاب وابن آوى، وحيث أرغم التجار
الهنود على أداء مبالغ جسيمة من الأموال بتعريضهم للاختناق بدخان كبريت العمود.
٥٨
وكان بديهيًّا أن يؤدي مثل هذا التغيير الممقوت إلى سيل من الإشاعات؛ مثال ذلك أن
الشركة
كانت قد أنزلت إلى البرسلكا بحريًّا لاستعمال طراداتها. ومن ثم انتشرت الإشاعة من أن
حلقة
من هذا السلك قد نُقِشَتْ عليها اسم طلاسم سحرية، وأن السلك سوف يُستعمَل في سحب المدينة
بأسرها إلى البحر أو لانتزاع الجبال تمهيدًا لفتح طريق إلى صنعاء نفسها،
٥٩ أما في الآستانة التي كانت قد وصلها صدى هذه الإشاعات فقد وُجِّه نقد شديد إلى
السفير البريطاني، بينما صدر الأمر بتوبيخ محمد علي وتقريعه على مثل ذلك الإهمال، وكُلِّف
باحتلال كافة مواني البحر الأحمر لغاية عدن باسم السلطان.
وقد تلا هزيمة الوهابيين وفتح السودان تنظيم قوات محمد علي العسكرية تنظيمًا باهرًا
يلفت
الأنظار؛ فإن الجنود التي تسنَّم على أكتافها المجد لم تكن سوى جماعة من الغوغاء المسلحين
لا يحفلون بالنظام ولا سبيل إلى كبح جماحهم إلا بدفع مرتباتهم بانتظام وباستعمال العقاب
الصارم، وقد كانوا عقبة كأداء في سبيل احتفاظ الباشا بمركزه بقدر ما كانوا لازمين له
للوصول
إلى ذلك المركز. مثال ذلك أن ميسيت أرسل في تقرير له سنة ١٨١٦م يقول إن شطرًا كبيرًا
من
الجيش قد أُرْسِل إلى السواحل، وإنه عندما استفسر من محمد علي عن السر في هذا الترتيب
أخبره
أنه «بعد أن أيقن بعجزه عن كبح جماح أعمال العنف التي ارتكبها الجنود في خلال الأشهر
القليلة الماضية، رأى أن يلجأ إلى حيلة لطيفة بأن يكلفهم بالخروج من المدينة على أمل
أن
يسلس قيادهم، ويصبح في الاستطاعة إخضاعهم وجعلهم مطيعين للنظام بعد أن يصيروا شراذم صغيرة
متفرقة.»
٦٠
فلهذه الأسباب استقرَّ رأي محمد علي على إنشاء نظام جديد، أي إنشاء جيش جديد يكون
نظامه
وتدريبه والإشراف عليه أوروبيًّا. وبديهي أن احتفاظه بمركزه يترتب نسبيًّا إلى نجاحه
في ذلك
المشروع الذي كان — ولا ريب — يُعتبَر من أشق المشروعات وأصعبها؛ فإن السلطان سليمًا
قد
خُلِع ثم قُتِل حديثًا لاجترائه على أن يقحم آداب الكفار إلى الإسلام بمحاولته إدماج
جنود
الإنكشارية في فيلق جديد. ولم يكن الباشا ممن يتهيبون المضي في مشروعه لمجرد خطورته وصعوبته
لأنه لم يكن يؤمن بأن الإصلاح العسكري يُقابَل بالنفور من سواد الشعب، بل من الزعماء
وحدهم؛
لأنه لم يكن ينتظر منهم أن يصبروا على كشف أكاذيبهم التي ظلت مدة طويلة متسلطة على الخزانة
العامة،
٦١ وسرعان ما نهض الدليل على عدالة هذه النظرية عند أول محاولة لإدخال الطريقة
الأوروبية في التمرين العسكري.
وقد حدث هذا عند عودته من الحجاز. فلقد بدأ يطبق هذا الرأي في جماعات الجنود الذين
تحت
إشراف أقاربه، ولكن سرعان ما رأى علامات السخف والتذمر عندما أراد توسيع هذه الطريقة
وتطبيقها على الجنود الذين يقل سلطانه عليهم عنه في جماعات الجنود سالفة الذكر. وإذ ذاك
أصدر الباشا إعلانًا بأن كل جندي لا يميل إلى إطاعة الأوامر يمكن أن يأخذ ما يكون متأخرًا
له من المرتب وأن يرحل عن البلاد، على أن أحدًا لم يحاول أن يفيد من هذا العرض إلى أن
حدث
بعد ظهر أحد الأيام أن اجترأ لفيف من الجنود في ميدان الأزبكية بالقاهرة أمام قصر الباشا
وبدءوا ينهبون الدكاكين فجأة وهم يصيحون: «لا إله إلا الله.» وفي اليوم التالي انتشرت
الفتنة في كافة الأنحاء وأصبحت الدكاكين والمخازن عرضة للنهب والسلب، واعتدى على الحي
الفرنسي عدة مرات، وأصبح الأوروبيون لا يجرءون على الخروج من دورهم إلا بالزي التركي،
٦٢ ومن ثم تقرر العدول مؤقتًا عن المشروعات الجديدة.
على أن المقاومة بدلًا من أن تضعف عزيمة محمد علي أو تصرفه عن الغاية التي وضعها نصب
عينيه، جعلته يفكر فيما عسى أن يتبعه من شتى الوسائل لتنفيذ ما استقر عليه رأيه من
الإصلاحات. وقد بيَّنا فيما سبق أن بين بواعث إرسال الحملة السودانية كانت رغبته في الحصول
على العدد اللازم من الرقيق الذين يمكن تدريبهم على شئون الحرب على النمط الذي يهواه،
وهذا
هو السر في إصدار الأوامر إلى إسماعيل لجميع العبيد السودانيين، وإرسالهم إلى أسوان على
جناح السرعة، ولما لم يكن ينتظر بحال ما أن يكون أولئك السودانيون مادة صالحة لإيجاد
الضباط
منهم، فقد أُرسِل إلى أسوان للتمرس في شئون الحرب نحو ٣٠٠ من رقيق المماليك، وكانوا ملكًا
خاصًّا لمحمد علي.
وقد عهد إلى الكولونيل سيف الفرنسي بالإشراف على هذه المدرسة العسكرية الجديدة، وكان
الكولونيل المذكور قد تخرج من تحت السلاح، ثم شق لنفسه طريق المجد حتى استحق صليب الليجيون
دونير (جوقة الشرف)، ثم اعتزل الخدمة برتبة كابتن بعد أن أبلى خير بلاء في موقعة «ووترلو».
وفي سنة ١٨١٩م هبط سيف إلى مصر، وقد ملكت عليه حواسه حسن صفات الباشا وأخلاقه ورقة شمائله.
وفضلًا عن هذا فقد ترك دينه المسيحي واعتنق الإسلام، ولم يكن في عمله هذا شيء من الخفة
والنزق الذي يقترن دائمًا بالمرتدين عن أديانهم، ثم صار سيف الخادم الأمين والعبد الطائع
لمحمد علي. ولما أصرت بريطانيا العظمى بعد ذلك بعشرين ربيعًا إلى إعادة سوريا إلى مساوئ
الحكم التركي بُذِلَتْ مساعٍ عديدة مع سليمان باشا — كما كان الجنرال سيف يُسمَّى وقتذاك
—
لإرشائه وحمله على التخلي عن محمد علي، ولكن لا العرض يجعله واليًا على إحدى الولايات،
ولا
اقتناعه بخسران القضية التي يدافع عنها أثَّر فيه أو حوَّله عن ولائه، بل كان جوابه أنه
مدين لمولاه لا بواجب الشكر فحسب، بل بواجب الإخلاص والتفاني الذي لا حد لهما.
٦٣
وما من شك في أن الأعباء الأولى في إعداد النظام الجديد كانت من أصعب ما واجهه سيف
في مصر
طيلة حياته؛ فإن النظام العسكري تحت إشراف جندي أوروبي كان أمرًا مستغربًا وغير طبيعي
في
مصر، حتى إن حياة سيف كانت عرضة للخطر أكثر من مرة. مثال ذلك أنه بينما كان مرة منهمكًا
في
تعليم فرقة من حملة البنادق ضرب النار إذا به يسمع صفير الرصاص فوق رأسه،
٦٤ ويُقال إنه اكتشف مرة أخرى مؤامرة بين المماليك لاغتيال حياته عندما جمعهم
ليخبرهم بالمرسومات الجديدة التي تُتبَع في الجيش، فاضطر حينذاك أن يجرد حسامه وأن يدافع
عن
نفسه بمفرده، وأن يصد كل من تقدم إليه منهم.
٦٥
وكان معسكر أسوان في البداية يحتوي على شبان المماليك، وجماعة الرقيق السودانيين،
ولكن
الأخيرين قد خيَّبوا ما كان معقودًا عليهم من الآمال. نعم؛ إنهم كانوا على جانب عظيم
من
الشجاعة ولين العريكة، وقد خضعوا صابرين للنظام العسكري وأحسنوا دراسة تمريناتهم، ولكن
طبيعتهم لم تكن تعرف مقاومة الأمراض، فكانوا يموتون بالعشرات؛ فالأمراض التافهة التي
لم تكن
تقضي على الجنود الأوروبية أو العربية بملازمة الفراش كانت تفتك في السودانيين فتكًا
ذريعًا. ولذلك كنت تراهم يموتون كالأغنام، فلم يحل عام ١٨١٤م حتى كان عددهم في معسكر
أسوان
٢٠٠٠٠، ولكن لم يَبْقَ من هذا العدد في ذلك العام نفسه أكثر من ٣٠٠٠ شخص.
ولعل مرجع هذا الفشل — الذي يختلف كل الاختلاف عن تجاربنا في تلك الأصقاع — أن جنود
محمد
علي لم يكونوا أحرارًا بل كانوا أرقاء.
وقد أدى الإخفاق في استغلال ذلك المورد العسكري المنتظر إلى العمل بالنصيحة التي أبداها
دورفيتي — قنصل فرنسا العام — بتطبيق فكرة التجنيد على الفلاحين في مصر. ولعل هذه الفكرة
خطرت من تلقاء نفسها بعد ما شُوهِد من النجاح العظيم في تطبيق النظم الأوروبية على الهنود
في الجيش البريطاني، ولكن كل مقارنة من هذا القبيل يقلل من شأنها أنه لم يحلم إلى الآن
أحد
باستخدام الفلاح المحتقر كجندي، بينما أن الجندي الهندي كان طيلة حياته من صميم الطبقة
العسكرية.
على أن الاقتراح باستخدام الفلاحين سرعان ما وُضِع موضع التنفيذ، ولكن نظرًا لخروجه
عن
المألوف فقد أدى إلى حدوث القلاقل والفتن في بعض الأقاليم،
٦٦ وإن كان هذا لم يمنع من إرسال ٣٠٠٠٠ من الفلاحين إلى أسوان وسمح للكولونيل سيف
بزيادة ما لديه من المدربين الأوروبيين الذين جعل لهم هذا الضابط الفرنسي سمعة سيئة بعد
أن
عُيِّن رئيسًا لهم، فقد وصفهم بأنهم جماعة من اللاجئين ممن قذفتهم إسبانيا أو نابولي
أو
بيدمونت، وأنهم لا يعرفون الصدق ولا عهد لهم بالأمانة أو الشرف، وبالجملة فهم أسوأ عصابة
أشرار يمكن أن يعثر عليها الإنسان في أي جهة من جهات العالم.
٦٧
وبالرغم من ذلك فقد أدوا واجبهم تحت إشراف سيف على أكمل وجه، وقد رافق صولت محمد علي
في
زيارة معسكر التعليم في سنة ١٨٢٤م، وقد حدَّثنا أن من حق الباشا أن يبتهج ويفاخر بجيشه
الجديد. وهو رأي قامَتْ على صحته الأدلة العديدة في الخدمات العسكرية التي تمَّتْ فيما
بعد
تحت إشراف إبراهيم باشا في المورة وفي سوريا. ولعل أهم ما لُوحِظ من النقض بين هؤلاء
الجنود
عدم وجود مصلحة طبية منظمة على نحو ما يراه الإنسان في الجيوش الأخرى، ولم يكن في الاستطاعة
— كما قال «صولت» — أن تُغرَس مدرسة للطب كما يغرس البستاني حقل البطيخ، ثم إن الفلاحين
كانوا يتحولون إلى جنود بأسرع مما كانوا يتحولون إلى أطباء.
وأول ما بدأت هذه الأفكار تتجلى بشكل واضح في خلال حروبه في بلاد العرب؛ فلقد هدد
قراصنة
الوهابيين بقطع المواصلات البحرية بين السويس وجدة. ولذا حرص على إرسال طرادته المسلحة
«أفريقيا» إلى البحر الأحمر، فلما خاب أمله في ذلك من جرَّاء منع الإنجليز الإذن بمرورها
أصدر أمره بإنشاء «فرقاطة» حربية في بمباي،
٦٨ وقد سعى لحمل أحد زعماء القراصنة العرب للعمل معه،
٦٩ بل إنه تمكن من إنشاء سفينة حربية في السويس مسلحة بستة عشر مدفعًا،
٧٠ وبالجملة فقد تَمكَّن من أن يحشد في البحر الأحمر عمارة بحرية تستطيع صد غارات
الوهابيين ودفع عاديتهم.
وبعد ذلك بقليل بدأ بتنفيذ هذه النظريات في حوض البحر المتوسط، فبدأ بابتياع ما يمكن
ابتياعه من السفن الموجودة في هذه السواحل الشرقية للبحر المتوسط، أو التي بُنِيَتْ في
جنوا
أو البندقية، ثم سعى لتعزيز مركزه بالحصول على سفن أخرى من طراز أجود وأسمى.
وفي سنة ١٨٢١م طلب إلى كل من فرنسا وإنجلترا بأن تبني له كل منهما فرقاطتين من أحدث
طراز.
٧١
وقد أعارت الدولتان طلبة أُذنًا صماء، وبهذه المناسبة كتب كاننج يقول: «إن من المستحيل
استحالة باتة على حكومة جلالة الملك أن تلبي هذا الطلب، وإلا كان ذلك بمثابة انتهاك مباشر
لحرمة الحياد الذي أعلن الملك لأمنيته على مراعاته في خلال هذا النزاع المنكود بين الباب
العالي واليونان.»
٧٢ ومن ثم سعى محمد علي — وحصل فعلًا — إلى إنشاء فرقاطتين وسفينة حربية في
مرسيليا، وهكذا لم يبدأ محمد علي بأن ينشئ لنفسه جيشًا على الطراز الأوروبي فقط، بل وأن
يكون له سفن حربية تُمكِّنه من مكافحة اليونان، وأيضًا مكافحة أسطول السلطان نفسه في
يوم من
الأيام لا يستطيع التكهن به بصفة خاصة.