الفصل الثالث
عماد الإمبراطورية
الحرب اليونانية
كان من نتائج فتح بلاد العرب والسودان تنظيم جيش محمد علي، وتأسيس قوة بحرية، واتساع
نفوذ
الباشا وسلطانه إلى حد بعيد. على أن تقدمه هذا لم يؤدِّ إلى هذه اللحظة إلى اشتباك في
عراك
مع إحدى الدول الأوروبية؛ فقد كانت سياسة فرنسا وقتئذ بعيدة عن كل عدوان، ثم إذا كان
هناك
بعض أفراد من الإنجليز ينظرون إلى استخدام الضباط الفرنسيين بعين الغيرة؛ فإن لندن نفسها
لم
يَبْدُ عليها شيء من القلق. هذا بينما كانت كلكتا أكثر ميلًا إلى التعاون على توطيد دعائم
الأمن العام بدلًا من مقاومته في المناطق المهمة التي تروج فيها سوق التجارة الهندية
الخارجية،
١ وقد أخفقت حتى الآن كافة محاولات الباب العالي لتوريط محمد علي في نزاع مع
بريطانيا.
وفي أبريل سنة ١٨٢١م اغتنم اليونانيون فرصة الفتنة التي أشعل علي باشا نارها في يانينا
فرفعوا راية العصيان، وكان يوجد نحو ٢٠٠٠٠ من المسلمين موزعين في أنحاء البلاد فلم يشعروا
إلا وقد بدأ اليونانيون في الاعتداء عليهم، فالتجأ من استطاع منهم إلى الحاميات التركية،
أما الباقون فقد أُبِيدوا عن بكرة أبيهم. ومن ثم بدأت محاصرة الحاميات؛ فاستسلم بعضها
بعد
الحصول على وعد بالأمان وسلَّم البعض الآخر نزولًا على حكم العقل ومنطق الحوادث.
بيد أن هذا لم يكفل لا للأولين ولا للآخرين تمييزًا في المعاملة؛ فإن اليونانيين
قد
أعملوا السيف فيهم جميعًا. وقد تمكَّن ٣٠٠٠ يوناني من هزيمة ٥٠٠٠ تركي بالقرب من تريبولتزا،
وكانت نتيجة هذه الموقعة أنهم قد استولوا على هذا المكان وكذا نافار، ولم يراعِ الثوار
شروط
التسليم في كلا هذين المكانين، بل قتلوا في تريبولتزا ما لا يقل عن ٨٠٠٠ من رجال المسلمين
ونسائهم وأطفالهم. وقد تَلَتْ هذه الحوادث طبعًا مذبحة عظيمة في الآستانة وغيرها ذهب
اليونانيون ضحية لها؛ حيث شُنِق بطريرك الروم وأربعة من كبار الأساقفة وقُتِل على أقل
تقدير
يوناني واحد في نظير كل مسلم سقط ضحية حوادث المورة، بل إن شيخ الإسلام — وهو كبير رجال
الدين في الآستانة — قد عُزِلَ من منصبه وخرج مغضوبًا عليه لمحاولته وقف تيار هذا الانتقام.
٢
وكان طبيعيًّا أن تنتشر الحركة ويتسع نطاقها إلى أن تشمل جزر البحر، وكانت السفن الصغيرة
التي تنقل معظم تجار البلاد المتاخمة إلى شاطئ البحر المتوسط في الشرق ملكًا لليونانيين
من
سكان الجزر، ثم إن الأيدي العاملة في هاته الجزر كانت كلها يونانية، كما أن الملاحين
كانوا
أيضًا يونانيين، وهكذا أمكن تكوين أسطول حربي أصبح بعد قليل صالحًا لضرب النار، وقد أزعجت
هذه الأعمال الملاحين الأتراك وأدخلت في قلوبهم الرعب، ولا ريب أن السيادة في البحر معناها
انتصار الثوار في البر، فتشكلت حكومة وطنية وعُقِدَتْ جمعية شعبية. ولئن كان في وسع السلطان
أن يثأر للدم بالدم في أزمير والآستانة؛ فإن ذلك ما كان ليمكنه من استعادة أملاكه المفقودة،
وفي الحق لقد كان عجزه أمام الأروام الكبار أشبه بعجزه إزاء الوهابيين.
ويلوح أن محمد علي كان ينظر إلى هذه الحوادث بشيء من عدم الاكتراث؛ فقد تخلَّص في
الوقت
المناسب من جنوده الألبانيين الذين لم تكن له بهم حاجة بأن شجَّعهم على ترك خدمته
والاستعاضة عنها بالخدمة في يانينا، ولقد نما إليه نشاط الجمعيات اليونانية الثورية التي
أُسِّسَتْ في الإسكندرية والقاهرة، ولكنه لم يُحرِّك أصبعًا لوقف حركاتها، بل إنه لم
يحاول
بعد أن يمنع سفر متطوعي الأروام من الإسكندرية. وأكثر من هذا أنه أطلق سراح بعض اليونانيين
الأرقاء الذين أرسلهم إليه باي الجزائر بمثابة هدية.
٣
وفي سنة ١٨٢٢م وهبه السلطان كريت بعد أن تَمكَّن من إطفاء نار الثورة فيها، أما الجزيرة
فقد كانت ميدانًا للمذابح من الفريقين، ومن ثم تقرر إرسال حسن باشا زوج إحدى كريمات محمد
علي إلى الجزيرة، ثم بعد وفاته تقرر إرسال حسين بك، وكان ثوار كريت كثيري العدد وعلى
جانب
عظيم من الشجاعة والإقدام، ولكنهم خضعوا في النهاية بعد ما تلقوه من دروس القمع العديدة
وقد
استغرقت هذه العملية نحو عامين، فلم يحلَّ عام ١٨٢٤م حتى كان لمحمد علي مركز يسمح له
أن
يعلن أن «سناكيا» الحصن الأخير الذي اعتصم به الثوار قد أصبح خلوًّا منهم وأن زعماءهم
قد
أُعدِموا. ولإقامة الدليل على صدق قوله أرسل إلى الباب العالي «غرارة» بآذان القتلى
لتعليقها على البوابة الكبرى للقصر.
٤
ولم يكتفِ حسين بك بهذا الدليل على نجاح أعماله العسكرية، بل أراد إقامة دليل آخر،
وذلك
بتوسيع دائرة تلك الأعمال. وكان يوجد بالقرب من شمال جزيرة كريت للشرق جزيرتان صغيرتان،
تُسمَّى الأولى «كاسوس» والثانية «سكاريانتو»، وكانت أولاهما مقر عدد كبير من البحارة
الذين
سبق أن عضدوا قضية استقلال اليونان أعظم تعضيد، وذلك باصطياد التجارة التركية ووضع يدهم
عليها، فجهَّز حسين بك حملة عسكرية ضد هاتين الجزيرتين، أما سكان كاسوس فقد رفضوا دعوته
إلى
التسليم، وإذ ذاك أغارت الجنود على معاقلهم واستولت عليها عنوة، ثم أطلق القائد أيدي
جنوده
في أعمال السلب والنهب مدة ٢٤ ساعة، فتمكنوا في هذه الفترة من قتل ١٠٠ نفس وأخذوا أسرى
ما
لا يقل عن ٩٠٠ من النساء والأطفال. هذا عدا ما غنموه من السلع التي ادخرها أهل الجزيرة؛
كالبُنِّ والحرير … إلخ.
ولمضاعفة العقاب اختار حسين بك من رجالهم نحو ٥٠٠ شخص للخدمة في السفن بنفس الأجور
التي
كان يتقاضاها الملاحون المصريون وقتئذ.
أما سكان الجزيرة الثانية «سكاربانتو» فقد ألقوا سلاحهم بمجرد وصول الإنذار إليهم،
فاكتفى
حسين بك بتكليفهم بدفع جزية الأعوام الثلاثة التي كانت عليهم للحكومة العثمانية. وهذا
الحادث يمكن أن يُتخَذ دليلًا عادلًا على سياسة محمد علي، وهي تقضي بإبادة العصاة شديدي
المراس بلا رحمة ولا شفقة واستعمال الرفق والهوادة مع غيرهم ليظل شعور الأمل، وكذا شعور
الرهبة حيًّا في النفوس.
وكان طبيعيًّا أن يؤدي نجاح الثورة الكريتية إلى زيادة مطالب الباب العالي من الباشا،
ففي
أوائل سنة ١٨٢٤م أصدر السلطان محمود الثاني فرمانًا تعطَّف فيه بإسناد ولاية المورة إلى
محمد علي. وليس من المعقول أن يكون قبول هذا التعطف السامي مَنْشَؤه الخوف من إغضاب
السلطان. كلا؛ فقد كان هناك الجيش الجديد الذي أبلى بلاءً حسنًا في كريت، وأراد محمد
علي أن
يجربه في أعمال أخرى أوسع نطاقًا، وكانت بريطانيا العظمى ما تزال ملتزمة الحياد، وليس
في
وسع أي إنسان مشهور في القاهرة بمعرفته ببواطن الأمور — ولو عن بعد — التكهن بمعرفة العوامل
التي كانت ستدفعها بعد زمن قريب إلى تغيير سياستها والاشتراك في الموضوع اشتراكًا فعليًّا.
وإلى جانب هذا كانت توجد الفكرة القائلة بأن التغلب على الكفرة بعد التغلب على جماعة
الهرطقة سوف يرفع اسم الفاتح في نظر العالم الإسلامي، بحيث يجعل الناس يتناسون ما أحدثته
من
الأثر السيئ محاولة تقليد المسيحيين في استعمال الشوكة والسكين عند تناول الطعام في المنازل
أو اكتراع الشراب المسيحي أو حماية أرواح المسيحيين وأموالهم في داخل بلاده بيد حازمة
قوية.
وبالجملة، فإن كبح الأروام سوف يجعله زعيم العصر ويفسح أمامه الطريق — إذا أراد — لأن
يتحدى
أوامر السلطان ويؤهله — هكذا خُيِّل إليه — لاحترام وصداقة إحدى الدول العظمى. وانقضت
ستة
أشهر في تجهيز الحملة، وفي أول يوليو غادرت ميناء الإسكندرية، وكان عددها لا يقل عن ١٦
ألف
جندي ومائة نقالة و٦٣ سفينة مسلحة،
٥ وقد عُهِد بقيادتها إلى إبراهيم باشا. ولم تكن الحملة تامة كما كان يشتهي أبوه
محمد علي، وقد عينه واليًا على المورة وخوَّله السلطة التامة على الجنود وعلى بعض السفن
٦ فقط؛ لأن السلطان كان قد عهد إلى قبطان باشا — ألا وهو خسرو باشا — بالقيادة
البحرية العليا. وبذا تعددت القيادة، وهي عادة — وإن كانت جاءت بما يسوغ اتباعها — إلا
أنها
وضعت المبدأ الضار، ألا وهو تقسيم السلطة. ولقد لُوحِظ حتى في السفر أنه حدث دائمًا أنه
عندما سُلِّمَتْ قيادة الجيش إلى شخص معين والأسطول إلى شخص آخر أن انشغل القائدان بالتنازع
فيما بينهما عن السعي لإنزال الهزيمة بالعدو. وقد وصلنا إلى هذه النتيجة في الحالة التي
نحن
بصددها باختيار خسرو قبطان باشا، فلقد كان العداء بين خسرو ومحمد علي من الأيام التي
طُرِد
فيها خسرو بطريقة مهينة من ولاية محمد علي. وهكذا كان السلطان واثقًا بأن قائدَي الأسطول
والجيش لن يتحدا على خلعه. كما أنه كان على يقين بأنهما لن يتقدما إليه بغنائم النصر
المشترك الذي أحرزاه، وقد جاءت النتائج طبقًا لما كان منتظرًا، وكانت الخطة المرسومة
أن
يتقابل الأسطول التركي مع الحملة المصرية على مقربة من جزيرة رودس على أن يعقب ذلك
الاستيلاء على منازل الملاحين المسلحين اليونانيين، ومن ثم تبدأ عملية فتح المورة من
جديد.
وكان محمد علي هو الذي وضع الخطة، وهي تدل أشد دلالة على عظم تقديره للسيادة البحرية،
أما
خسرو فقد بدأ بتنفيذ الخطة بإحكام؛ ففي اليوم الثالث من شهر يوليو استولى على جزيرة بسارا،
وكانت بمثابة بؤرة القراصنة وتقع غرب ساقس.
أما جزيرة ساموس، فإن دورها كان بعد جزيرة بسارا، ولكن خسرو قضى نحو شهر في الاحتفال
بما
أحرزه من الانتصار؛ مما كانت نتيجته أن التقى غرب ساموس بعمارة من سفن اليونانيين، وقد
أضاع
خسرو في المعركة التي نشبت في ١٦ أغسطس بين الفريقين فرقاطتين وسفينة مسلحة. وإذ ذاك
اضطرت
العمارة التركية أن تولي الأدبار «بعد أن استولى عليها الرعب».
وقد وصل إبراهيم باشا إلى رودس في ١٣ أغسطس. وفي يوم ٢٩ منه انضم إلى قبطان باشا بالقرب
من بودرن عند الجهة القديمة المعروفة باسم «هاليكارناساس»، ثم وقعت عدة ملاحم في شهر
سبتمبر
مع اليونانيين، وكانوا هم البادئين بالهجوم على الدوام، وكان الحظ إلى جانبهم في كل مرة.
هذا بينما لُوحِظ أن السفن التركية في الأسطول الإسلامي تسعى جهدها لاجتناب منازلة العدو.
وفي نهاية الشهر استُدعِي خسرو إلى الآستانة مؤقتًا، فلما انفرد إبراهيم بالأمر لم يسعه
طبعًا إلا أن يلتزم خطة الدفاع، ولكنه تمكَّن في نهاية العام من حشد سفنه ورجاله في خليج
سودا في شمال كريت الشرقي بدون أن يعرض نفسه لخسارة تُذكَر.
ولا بد من الاعتراف هنا بأن هذه النتيجة السلبية كانت عملًا باهرًا جدًّا إذا ذكرنا
العجلة التي اتُّبِعَتْ في إعداد عمارته، ولم تستسلم العمارة المصرية — وهي التي كانت
تتجلى
فيها عزيمة قائدها المقدام — للذعر الذي غمر خسرو عند التغلب عليه. ثم إن محمد علي في
مصر
كان آخر رجل في الوجود يستسلم للهزيمة؛ فقد قال في هذا الصدد: «أنا أعلم جيد العلم أنني
لا
أستطيع أن أنشئ أسطولًا على رمال الأهرام وأنني لا محيص لي من تحمل الخسائر، ولكن سوف
يكون
لي أسطول قوي مهما طال الزمن، وهنالك أستطيع منازلة اليونانيين وقهرهم.»
٧
وبمثل هذه المغامرة الباعثة على الإعجاب عكف الباشا على تعزيز أسطوله، وقد وصلت السفن
الأربع التي كان سبق أن أوصى عليها في مصانع السفن الإيطالية.
ثم ابتاع الباشا له (بطريق غير مباشر) خمس سفن أخرى من الثوار اليونانيين، وكَلَّف
في
الوقت نفسه أحد الضباط الفرنسيين بالعودة إلى فرنسا للحصول على إذن بإنشاء فرقاطتين وسفينة
مُسلَّحة في مصنع الملك تحت إشراف موظفين فرنسيين رسميين،
٨ وقد صدرت الأوامر بناء على ذلك بإنشاء هذه السفن في مرسيليا.
٩
ثم لُوحِظ أن بعض التجار الأروام كانوا منهمكين في إنشاء سفن لحساب محمد علي، بالرغم
من
أن آباءهم قد ذهبوا ضحية المذابح في ساقس، وبقطع النظر عن أن عملهم هذا قد جلب عليهم
سخط الكنيسة،
١٠ وكانت هناك سفن أخرى يجري بناؤها في أحواض البندقية وليجهورن.
١١
وأرغم الأسطول اليوناني في الوقت نفسه على التخلي عن مراقبة السفن المصرية بسبب إلحاف
الملاحين اليونانيين في المطالبة بدفع مرتباتهم المتأخرة؛ ولهذا تَمَكَّن إبراهيم باشا
في
يناير سنة ١٩٢٥م من أن يَعْبُر بلا كبير مقاومة من خليج «سودا» إلى «مودون» وتقع في خليج
المورة بغرب، وقد تجلى للناس أن اليونانيين ليسوا أكفاء له في حومة الوغى، فلم يكن عجيبًا
أن تدور الدائرة على جزء كبير من جيشهم في نافار، وأن تلقي هذه المدينة سلاحها في ١٨
مايو.
وفي الشهر التالي استولى على تريبو لنزا في وسط شبه الجزيرة، وتلا ذلك نشوب حرب العصابات؛
حيث كان الحظ إلى جانب اليونانيين، على أن إبراهيم وضع حدًّا لهذا النوع من القتال بأن
أحرق
المدن المسئولة عن الحرب وأتلف محاصيلها واستولى على أغنامها ودوابها، فلم يَمْضِ إلا
وقت
قصير حتى كان اليونانيون قد ملوا القتال وبادروا إلى إلقاء السلاح.
ويظهر أن اليونانيين لم يفيدوا من تفوقهم في البحر. ولعل أهم ما عملوه في هذا السبيل
أنهم
حاولوا مرة الإغارة على ثغر الإسكندرية بقصد إشعال النار في السفن الراسية فيها؛ ففي
عصر ١٠
أغسطس تقدَّمَتْ سفينة تحمل الراية الروسية، وما كادت تقترب من إحدى السفن الراسية حتى
اشتعلت فيها (أي في السفينة الروسية) النار، وإذ ذاك بادر الملاحون إلى النزول في أحد
القوارب في مؤخرة السفينة ويمَّموا وجوههم شطر سفينة أخرى كانت بانتظارهم عند مدخل الميناء.
وقد حبطت المحاولة حبوطًا ذريعًا؛ فإن السفينة التي اشتعلت فيها النار عمدًا التهمت النيران
قلوعها، وإذ ذاك ضلت الطريق ودفعتها الرياح إلى أن تجاوزت السفن الحربية. وتصادف أن كان
محمد علي جالسًا في قصر رأس التين يرقب الميناء وما فيها من الحركة، فبادر إلى امتطاء
بغلته
وقصد إلى أقرب بطارية مدافع على أن يدرك العدو قبل التمكُّن من الفرار والابتعاد عن مرمى
المدافع، فلما لم يساعده الحظ في ذلك أَمَر بعض السفن بأن تتعقب السفن اليونانية فورًا.
وشاء سوء الحظ أن تكون إحدى السفن المصرية على قدم الاستعداد؛ فأمرها بالذهاب وحدها لتعقُّب
الفارِّين.
وفي اليوم التالي ذهبت ثلاث سفن أخرى في أثرها، ثم جاءت الأنباء في يوم ١٢ أغسطس بأن
السفن اليونانية أحرقت سفينة محملة خشبًا (سطاليا) على مرأى من السفينة الحربية المصرية
التي كانت قد أقلعت في ١٠ أغسطس لتعقب أثر اليونانيين؛ فاحتدم الباشا غيظًا لسماع هذه
الأنباء، وقد دفعه الغضب إلى أن يأخذ أول سفينة بقرب الشاطئ وانطلق بها إلى عرض البحر،
حيث
لبث أسبوعًا كاملًا يبحث بلا جدوى عن السفن اليونانية والسفن المصرية.
وليس من ريب في أنه لو التقى باليونانيين للقي حتفه حتمًا، ولكنه عرَّض نفسه لخطر
أكبر
آخر؛ ذلك أن الرعب استولى على الإسكندرية عندما أصبح الأهالي في اليوم التالي لسفر محمد
علي
ووقعت أنظارهم على أسطول مركب من ٤٠ سفينة حسبوها لأول وهلة سفن اليونانيين، وأنهم عادوا
لتجديد الهجوم على الثغر بكامل قوتهم، ولكن تبيَّن فيما بعد أن هذه عمارة قبطان باشا
ونقالاته، وقد أُرغِم بسبب نفاد المئونة والذخائر على التخلي عن الجنود التي كانت تحاصر
ميسولونجي، والتي كانت مهمته أن يحمي ظهرها من ناحية البحر. وأغلب الظن أن وصوله إلى
الإسكندرية لم يُخفِّف القلق الذي استحوذ على قلوب الأهالي أو الوزراء، وقد بادر الأخيرون
إلى عقد جلسة مستعجلة استشاروا في خلالها قنصلَيْ بريطانيا وفرنسا العموميين في ما ينبغي
اتخاذه من الإجراءات؛ فتقرر السماح بدخول الأسطول التركي إلى الميناء ومنع قبطان باشا
من
النزول إلى البر منعًا باتًّا، وطارت الإشاعات حتى وصلت القاهرة بأن قبطان باشا فَصَل
سبعًا
من سفنه وكلَّفها بسدِّ مدخل فرعَي النيل عند دمياط ورشيد، وأنه عَقَد النية على أَسْر
محمد
علي فيما لو مكَّنته الظروف من ذلك.
١٢
وقد استولت على القنصلين الإنجليزي والفرنسي الدهشةُ لمخاطرة محمد علي وتوغُّله في
البحر
على ظهر سفينة واحدة لا تحرسها سفن أخرى في وقت كانت فيه زبدة جنوده وخيرة قُوَّاده منهمكين
في الحرب في شبه جزيرة المورة. وقد تنفَّس الناس الصعداء عندما علموا أنه قد عاد إلى
الميناء ودخلها في جنح الظلام ليلة ٢٠ أغسطس واتَّجَه مباشرة إلى قصر رأس التين قبل أن
يشعر
به أحد.
ومهما تكن نيات خسرو باشا عندما جاء إلى الإسكندرية، وألفى عدوه القديم متغيبًا عنها؛
فإنه سرعان ما غطَّى تلك النيات بما قدَّمَه من التهاني الحارَّة لمحمد علي بمناسبة عودته.
وأرفق هذه التهاني بأن طلب باسم الباب العالي بلهجة الأدب والاحتشام أن يقدم له الباشا
ما
في وسعه من المساعدة في المال والذخائر، لا بل إنه حرص على أن يكون هو البادئ بزيارة
الباشا
وتقديم التحية له، وقد استقبله محمد علي عند الرصيف وذهبا إلى القصر معًا، وما كادا يَصِلان
إلى قاعة الاستقبال حتى بادر كل منهما بدفع الآخر دفعًا رقيقًا لإجلاسه على كرسي الشرف،
كما
أن كلًّا منهما حاول اختطاف المذبة لطرد الذباب عن وجه الآخر. ثم صدرت الأوامر بتقديم
المئونة إلى الأسطول وسلَّم محمد علي إلى خسرو نحو ٨٠٠٠٠ دولار لدفع مرتبات بحَّارته،
١٣ ولما كان موعد الرحيل في أكتوبر افترق الرجلان وكأنهما أخوان شقيقان، وقد صحبت
خسرو سفن محمد علي الجديدة وعدد وافر من الجيش أي نحو ١٥٠٠ جندي راكب و٨٠٠٠ من المشاة.
وقد
قصد محمد علي أن يعزز مركز ابنه إبراهيم في المورة، وأن يشترك في حصار ميسولونجي التي
ظل
الأتراك طيلة الشهور الستة الماضية يهاجمونها عبثًا،
١٤ وقد كُلِّلَتْ هذه الإجراءات بالنجاح، فإن إبراهيم عَهِد إلى الكولونيل سيف
بالقيادة في المورة واتَّجَه هو إلى ميسولونجي. وقد تمكَّن الأتراك بفضل معونة إبراهيم
هذه
من مهاجمة المدينة والاستيلاء عليها عنوة في مستهل عام ١٨٢٦م، ثم تلا هذا الفوز فوز آخر
بمحاصرة أثينا نفسها والاستيلاء عليها. وهكذا كانت قوة اليونان آخذه في الانهيار؛ فبعد
أن
تمكَّنت من هزيمة الأتراك أناخ عليها إبراهيم باشا وتمكَّن من سحقها بفضل الجنود النظاميين
الذين درَّبَهم أبوه، وبفضل السفن التي حشداها سويًّا.
وقد ثمل محمد علي بما أحرزه من النصر في كل من بلاد العرب وبلاد اليونان، حتى خُيِّل
إليه
وقتئذ أنه ليس ثمة ما ينبغي أن يَحُول دون توسُّع سلطانه، ثم حدثته نفسه بإبلاغ جيشه
المنظَّم إلى ١٠٠٠٠٠.
وما كاد محمد علي يفرغ من قمع الفتنة في المورة حتى رأى نفسه مُطالَبًا بأن يسلم هذه
البلاد القاحلة إلى سيدها الشرعي، أي المولى الأكبر واسترجاع جنوده وسد ما حدث في الصفوف
من
الفراغ، كما رأى نفسه مطالبًا بفتح اليمن والاستيلاء على شواطئ البحر الأحمر وتوطيد دعائم
الأمن في الخليج الفارسي مع احتلال ولايتَيْ عكا ودمشق.
ثم بعد أن استتبَّ له الأمر في هذه البقاع التعيسة يمَّمَ وجهه بعزيمة مضاعفة شطر
الدجلة
والفرات، وهناك أخذ يُفكِّر في أي الفتوحات أعود بالفائدة والكسب. وقد صرح مرة، فقال:
«لقد
أكسبني السيف بأسًا، ووضع في يدي من السلطان ما أكون معه ناكرًا للجميل إن لم أواصل
استعماله في سبيل خدمة الإمبراطورية التركية وإنقاذها.» وهنا اعترض الضابط الفرنسي الذي
قِيلَتْ أمامه هذه العبارات الخصوصية، فقال: «ولكن أتظن يا باشا أن الإنجليز يتركون لك
الوقت الكافي لإتمام هذه المشاريع الهائلة؟!»
أما الحقيقة فهي أن الباشا ما كان في استطاعته أن يُحقِّق شيئًا من هذه المشروعات
ما لم
يتوصَّل قبل ذلك إلى اتفاق مع بريطانيا العظمى، وبذا يضمن معونتها. وأغلب الظن أنه كان
يعلم
كغيره هذه الحقيقة حق العلم، ولعل الوقت كان يقترب لإدراك هذه الغاية أكثر من أي زمن
في
تاريخ حياته، وكان لا بد لجعل المعاهدة مقبولة في أعين الإنجليز من توفر شرطين؛ أولًا:
أن
تتوتر علاقاتنا مع السلطان أشد توتر — هذا إن لم تُقطَع بتاتًا — وهو شرط لم يكن مناص
منه
قبل التفكير في الاعتراف لمصر بوجود سياسي مستقل. الشرط الثاني: أن يكون لدى الباشا مزايا
يستطيع منحها أو منعها تتناسب مع ما تتضمنه المحالفة من الالتزامات. وقد بُذِلت فعلًا
محاولة في هذا الصدد بعقد معاهدة مع حكومة الشركة في الهند، ولكن تبيَّن في سنة ١٨١٠م
للسلطات الإنجليزية أن تنمية التجارة عن طريق السويس مشكوك فيها؛ ولذا لم تُبرَم المعاهدة
المذكورة. أما الآن فلعل فتح إبراهيم لشبه جزيرة المورة يكون بمثابة ضمان أقوى له قيمته
العظمى.
فلقد كان من شأن الثورة اليونانية أن تثير الاهتمام في كافة أنحاء أوروبا؛ ولهذا حياها
الشعراء والأحرار شعرًا ونثرًا ووصفوها بأنها بمثابة مولد الحرية من جديد، بل إن الخاملين
من المؤرخين أحسوا في حجراتهم المهجورة بروح الإعجاب تَجِيش في صدورهم؛ لما اعتبروه تكرارًا
لذكريات ماراتون وسلاميس، فلما تبيَّن لأولئك المعجبين أن الثورة توشك أن تُقمَع في بحر
من
الدماء هاج هائجهم وراحوا يجأرون بصيحة الغيظ والحنق على محمد علي وولده إبراهيم. ومن
ثم،
اشتدت النعرة ضد مساوئ الحكم التركي وأخذوا يبالغون في وصف تلك المساوئ، لا بل إن أولئك
المولهين في حب اليونان رفضوا في حدة وغضب قول القائلين بأنه يوجد بين اليونان الحديثة
واليونان المعروفة في التاريخ بون شاسع. ثم سارت الركبان بالأراجيف بأن إبراهيم قد بيَّت
نيته على استعباد الشعب اليوناني كله، وأنه يزمع إقصاءه عن بلاد المورة وإحلال الأتراك
أو
العرب مكانه. وحتى جورج كاننج الذي لم يكن يحفل بالأراجيف رأى أن الحالة تتطلب التدخل؛
فكتب
إلى ابن عم له، وهو سفير بريطانيا في الآستانة، يقول: «إنَّ بيع الناس في سوق الرقيق
وتحويلهم عن عقائدهم الدينية بالعنف وإقصاء المسيحيين عن أوطانهم واستبدالهم بأناس من
البلاد الإسلامية، وبالجملة فإن السعي لإنشاء سلطة بربرية جديدة كل هذه الحقائق … جديدة
في
نفسها وجديدة فيما تنطوي عليه من المبادئ وجديدة وغريبة وغير مفهومة إلى الآن فيما قد
تؤدي
إليه من العواقب، أقول: إن هذه الحقائق يصحُّ في رأيي أن تكون قاعدة جديدة للتخاطب إن
لم
تكن للعمل …»
وليس من شك في أن اتجاه حرب المورة في سبيل قسمة الأراضي وتوزيعها، وما كان للجيوش
الإسلامية من التقاليد المعمول بها قد أحدثا حالة شبيهة بالتي أسخطت كاننج وأثارت استهجانه.
وقد جرَّبنا نحن — كما قُدِّر لنا أن نجرب مرة أخرى في أرلندا — فقد كان يستحيل علينا
التمييز بين الفلاح وبين الجندي؛ لأن الشخصيتين قابلتان للتبديل والتغيير. ثم إنه كان
من
العادات المعمول بها أن الأسرى من الرجال قد يصبحون أو لا يصبحون ملكًا للقائد، ولكن
الأسرى
من النساء والأطفال يصبحن ملكًا خاصًّا لمن يأسرهن. وحدث أن الآستانة كانت غاصة بالرقيق
المجري أثناء انهماك الأتراك في الحرب مع المجر، كذلك أصبحت سوق النخاسة بالقاهرة غاصة
بالرقيق اليوناني أثناء حرب إبراهيم في المورة، وكان من شأن هذا أن تصطدم عواطف الجيل
الذي
قد ينشأ حديثًا بفظائع النخاسة وما يمر على الإنسانية من الويلات والنكبات.
على أنه ليس من الإنصاف في شيء توجيه أي لوم شخصي إلى محمد علي أو ابنه إبراهيم. وبهذه
المناسبة أشار قنصلنا الجنرال إلى الحقيقة المُرَّة الكاملة، فقال: «ينبغي ألا يَفُوتنا
أن
هذه المسألة لا تُعتبَر صفة خاصَّة ملازمة للنزاع الحاضر، بل هي وسيلة أَلِفها الأتراك
في
كافة ما أثاروا من الحروب … كما لا ينبغي أن نفترض أن الباشا كان في وسعه إلى الآن أن
يُحْدِث تعديلًا مذكورًا في هذا الصدد، وإنه إذا كان قد تمكَّن من تحقيق شيء فإنما كان
ذلك
لعدم خروجه عن المعتقدات الراسخة في نفوس رعاياه.»
ثم إن العدو كان أقلَّ بمراحل من الآلات التي ابتدعها الخيال؛ فلقد كان مجموع الرقيق
اليوناني الذين جيء بهم إلى القاهرة ٣٠٠٠، وقد جاء بهم فريق من محبِّي المضاربة، وقد
ابتاعوهم من الجنود.
ثم إن أكثر من نصف هذا العدد قد أُطلِق سراحهم بتدخل هيئات مختلفة، فقد افتداهم بالمال
بعض السكان الأوروبيين الموجودين في مصر، كما أن البعض الآخر قد أفرج عنهم الذين ابتاعوهم
بمجرد شفاعة خَدَمِهم اليونانيين.
ولقد شجَّع محمد علي نفسَه على الإفراج عن هؤلاء الرقيق إما بإصدار الأوامر وإما
بتقديم
المال من جيبه الخاص.
١٥
ولقد كانت أساليب هذه الحرب بربرية بلا جدال، ثم إن الوقت كان قد حان للقضاء عليها
ولكنها
لم تكن شخصية ولا متعمدة، ثم إنها لم تكن بهذا المقياس الهائل الذي زعموه. وعلى كلٍّ
فإن
صحَّة الرواية ليست لها علاقة تُذكَر بما تتركه من الأثر في النفوس.
ولقد لعب الاعتقاد بأن الجنس اليوناني بأسره قد يُباع في أسواق النخاسة دورًا هائلًا
في
دفع الدول الغربية العظمى إلى التدخل.
وإليك حقيقة راسخة أخرى تدلُّك على مبلغ استحقاق اليونانيين لكل هذا العطف المصطنع؛
فلقد
نجح اليونانيون في الجُزُر في صدِّ غارات خسرو القبطان باشا، ولكن حاجة هؤلاء إلى النقود
سبَّبَت أكبر صعوبة في طريق الاحتفاظ بوحدات الأسطول اليوناني. ولم يكن الملاحون اليونانيون
راغبين حتى في خدمة بلادهم مجانًا، وما دام دفع مرتباتهم قد أصبح متعذرًا؛ فقد سمح لهم
بالقيام بأعمال السلب والنهب. فبحجة الحصار البحري بدءوا في أعمال القرصنة جملة والاستيلاء
على أمتعة الناس.
وحدث أن سفينة فرنسية كانت قاصدة «كانديا» وعليها شحنة من الذهب لدفع ثمن ما تبتاعه
من
الزيوت، فاستولى عليها اليونانيون وأخذوا في تعذيب بحَّارتها لإفشاء مخبأ الذهب، وكان
ثغر
«هيدرا» وثغر «سبزيا» أروح الثغور لأعمال القرصنة؛ ففي هيدرا أرسل الأميرال الفرنسي «دي
نرنجي» ضابطًا إلى الشاطئ ليطلب إعادة ما أخذه اليونانيون من على ظهر إحدى البواخر
الفرنسية، وإذ ذاك اجتمع الأهالي وهددوا بقتل كل من حدَّثَتْه نفسه بإفشاء أي معلومات
عن
القراصنة المسئولين عن نهب الباخرة المذكورة. وكانت توجد في جبهة نابلي محكمة مخصوصة
للبتِّ
في أمر الغنائم، فحضر إليها القراصنة شاهِرِي مسدساتهم، وتوعَّدوا بإحراق بيوت القضاة
إذا
ترددوا في إصدار الحكم بإبقاء الغنائم في أيدي مقتنصيها.
وحدث مرة أن قائد العمارة النمساوية اضطر إلى وضع يده على بعض السفن اليونانية في
هيدرا
وسبزيا لتعويض ما لحق بعض الرعايا النمساويين من الخسارة، كذلك اضطر أحد القواد الإنجليز
بعد يأسه من العدالة اليونانية إلى أن يدخل إلى ميناء هيدرا، وأن يقبض على من رآه فيها
من القراصنة.
١٦
فأنت ترى أن الأسطول اليوناني بعد ما أظهره بادئ ذي بدء من المهارة والبسالة قد تحوَّل
تدريجيًّا إلى منسر لصوص وقراصنة، غايته سلب البواخر الأوروبية ونهبها أكثر من القضاء
على الأتراك.
١٧
ومن ثم تبيَّن للناس أن الفقر في داخل الإمبراطورية العثمانية أنه إذا مسَّت حرية
التجارة
في عرض البحار؛ إذ كان الأتراك أنفسهم قد عجزوا عن تقليم أظافر القراصنة اليونانيين فإن
الدول التي أُصِيبَتْ تجارتها بالضرر لا مفر لها من التدخل في الأمر لوضع حد لهذا
الكفاح.
على أن الباعث الحقيقي الذي دفع الدول إلى تقرير التدخل في النزاع لم يكن منشؤه أراجيف
محبي الإنسانية ولا ما ارتكبه القراصنة اليونانيون من الجرائم والفظائع. كلا؛ بل كان
مردُّه
إلى ما لروسيا من مطامع سياسية تبتغي تحقيقها. فإن الإمبراطور إسكندر كان ينظر دائمًا
إلى
حمايته الطبيعية للكنيسة الأرثوذكسية باعتبارها خير وسيلة للتدخل في الشئون التركية على
أنه
لم يكن ميالًا بين سنتَيْ ١٨٢٣م و١٨٢٤م إلى الانفراد بعمل خاص يقوم به دون الدول الأخرى،
ومن ثم وضع تدابير باسم المؤتمر الأوروبي من شأنها أن تؤدي إلى جعل كلمة روسيا هي العليا
في
اليونان. ولكن كاننج تمكَّن من التنصل من هذا المؤتمر، ولما توفي الإمبراطور إسكندر في
نهاية عام ١٨٢٥م وخلفه الإمبراطور نقولا على العرش رُؤي ألا مفر من اتخاذ إجراءات أخرى
للحيلولة دون نشوب الحرب بين روسيا وتركيا بسبب المشكلة اليونانية، وفي هذه الحالة اقتُرِح
مبدأ تدخل روسيا وإنجلترا في النزاع وتم الاتفاق على ذلك، واقتنعت فرنسا بضرورة الانضمام
إلى الدولتين المذكورتين، وكانت نتيجة كل هذه المباحثات عقد اتفاق ٦ يوليو سنة ١٨٢٧م
الذي
ارتبطت فيه الدول الثلاث آنفة الذكر ببذل مجهود مشترك لحمل فريقَيْ الخلاف على أن تلجأ
الدول المذكورة في حالة الرفض إلى استخدام ما تهيئه الظروف من الوسائل الفعالة لمنع أي
اصطدام آخر بينهما، أما الطريقة العملية التي رُؤِي استخدامها لتنفيذ المشروع فتتلخص
في ضرب
الحصار على المورة بواسطة أساطيل الدول الثلاث لتدويخ إبراهيم جوعًا.
وكان سفراء الدول الثلاث قد تقدَّموا إلى الباب العالي من قبل بالتماسات عديدة لوقف
القتال، ولكن لم تُقابَل هذه المساعي في كل مرة إلا بالجواب الجاف؛ وهو أن الثورة اليونانية
تُعتبَر مسألة داخلية بحتة ليس لها أهمية شرعية بالنسبة للدول الأوروبية. وفي يوم ١٦
أغسطس
حمل تراجمة السفارات الثلاث إلى الرئيس أفندي — أي وزير الخارجية — مذكرةً رفضَ استلامَها،
وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه كرَّروا الزيارة؛ فأكد لهم الرئيس أفندي أن
السلطان لن يَقْبَل أي اقتراح أو مسعى خاصًّا باليونان، وأنه لن يتزحزح عن موقفه هذا
إلى
يوم القيامة. وفي يوم ٣١ من الشهر المذكور، ذهب السفراء الثلاثة يحملون تصريحًا جديدًا،
وقد
رفض الرئيس أفندي استلامه أيضًا بعد ادعائه بشكل أقرب إلى ادعاء الأطفال بأنه لم يفهم
محتويات ذلك التصريح،
١٨ فلم يبقَ ثمة أمام الدول المذكورة إلا الالتجاء إلى القوة.
وليس من شك في أن السبب في هذا القرار الجنوني إلى الاعتقاد بأن أوروبا كانت منقسمة
على
نفسها بحيث لا تستطيع التدخل بصفة فعالة وأن روسيا لن توافق على أي عمل تقوم به العمارتان
الفرنسية والإنجليزية، وقد كان هذا الاعتقاد يرتكن أولًا إلى ما للمحالفات الأوروبية
من
التاريخ المملوء بالمصاعب وثانيًا إلى سلوك السفير الروسي،
١٩ وأخيرًا إلى ما اقترحته النمسا عن عمد، فقد كان ميترينج ينظر إلى الثوار
اليونانيين نظرته إلى الثوار الإيطاليين سواء بسواء، وكان مقتنعًا في الوقت نفسه بأن
الدول
الأخرى سوف تجني من الفائدة إذا تدخلت في الشئون التركية أكثر مما تجنيه النمسا، وعقد
المترجم الأول للوسيط اجتماعات طويلة غامضة مع كبار الموظفين المحيطين بشخص السلطان،
٢٠ ونحسب أننا بعد أن عرفنا ما فيه الكفاية عن مسلك الساسة النمساويين في البلدان
الأخرى أصبحنا على يقين أن الغاية التي كان الوسيط يرمي إليها هي الإلحاح على السلطان
بأن
يعمل بالقضاء على الثائرين في أقرب وقت، ولا ريب في أن هذا الرأي كان يتفق مع ما رأى
السلطان محمود نفسه.
ولقد كانت نتيجة أول تلميح لاحتمال التدخل المشترك أنه أرغى وأزبد وأخذ يُقْسِم بأغلظ
الأيمان والدمع يجري في مآقي عينيه ليُمزِّقن كل ولاية وليخربن كل مدينة يمتلكها في أوروبا
عن أن يرضخ لمثل هذا الإذلال الذي لا يمكن الصبر عليه،
٢١ ثم أصدر الأوامر لموظفيه أن يعلنوا على الملأ أن التدخل لن يؤدي إلى مَحْق
اليونانيين مَحْقًا تامًّا، ثم قال: «ولنقتلنَّ كل يوناني في بلادنا حتى إذا ما بدأ الدم
يسيل، ثم قال: ما أسوأ ما تكون العاقبة لو أن الأرمن — وهم أعداؤنا الآخرون — والفرنسيين
اختاروا أن يمزجوا دماءهم بدم المدنيين.»
٢٢ على أن السلطان محمود كان لا بد له أن يعلم عندما فاه بهذا الوعيد أنه ليس
كسليمان القانوني.
وليس من شك في أن هذه الخزعبلات والأوهام لم يكن لها نصيب بين المشروعات التي كانت
تَجُول
في خاطر محمد علي؛ فلقد كانت الغاية الوحيدة التي يسعى طول الوقت لتحقيقها هي تعزيز مركزه
في داخل الإمبراطورية العثمانية وخارجها مع تفضيل الفكرة الثانية، فيما لو مكنته الظروف
من
ذلك، وقد قلق أشد قلق عند سماعه بنبأ التحاق لورد كوشران — ذلك الأميرال المتقلب — بالأسطول
اليوناني،
٢٣ وأنه نظر إلى التوبيخات الإنجليزية بغير العين التي نظر بها الرئيس أفندي
إليها، وقد قيل إنه عثر على المفتاح اللازم لتحريك العالم الأوروبي.
فقد عرض على إنجلترا قبل بداية الثورة اليونانية بزمن بعيد شروطًا اختيارية، ومن
أجل هذه
الشروط كان صولت شديد الرغبة في زيارة لندن سنة ١٨٢٠م لأسباب صحية — على ما قيل — ولكن
في
الواقع لأسباب تتعلَّق بشئون الدولة. وقد كتب صولت بهذه المناسبة: «إن رجلنا العظيم هنا
قد
ألحَّ عليَّ في تبليغ رسائل لا أستطيع إثباتها على الورق.»
٢٤ وعلى أن شيئًا لم يترتب على هذا العرض. وفي سنة ١٨٢٦م حظرت لاسنداتفورد كاننج
في الآستانة هذه الحقيقة البديهية؛ وهي أن أسهل طريقة لتليين قناة الحكومة العثمانية
هي
الحصول على تأييد باشا القاهرة.
ولهذا كتب إلى صولت يسأله «ألا يعتبر محمد علي أنه بدلًا من محق اليونانيين مع ما
في ذلك
من المجهود أن الأصلح له أن يحصل على نصيب في الجزية التي كان يقترح وقتئذ أن تُقدِّمها
اليونان إلى الباب العالي يُضاف إليها إعطاء ولاية سوريا لولده إبراهيم.»
٢٥ وقد خطر لصولت في بداية الأمر أن من المستحيل أن يتوقع الإنسان النجاح في جرح
الشعور الإسلامي إلى هذا الحد لحمله على تأييد القضية اليونانية،
٢٦ ولكن لم يمر أسبوعان حتى بدأت سلسلة من المحادثات أخذ الباشا يبسط فيها آراءه —
تدريجيًّا — على أنه بدأ بإغفال أي فكرة ترمي إلى تأييد وجهة النظر الإنجليزية في الآستانة؛
لأن الديوان كان كثير التذبذب، بينما كان السلطان شديد التعصب، ولكن كانت ثمة وسائل لتحبيذ
سياستنا، وأنه يهمه معرفة ماذا عسى أن تعرضه الحكومة البريطانية عليه من الشروط المرعبة.
ثم
مرَّ أسبوع آخر حيث ذكر صولت بأنه لما يضع إلى الآن على خاتمه سوى اسمه فقط، إلى أن قال:
«فأنت ترى أن حظي من أمارات الباشوية قليل، اللهم إلا إذا استثنيت الجاويشية — العصا
الفضية
— وديواني.» ثم استطرد الباشا فقال: «إن مصر وإنجلترا يمكن من الوجهة الجغرافية والتجارية
أن تفيد إحداهما الأخرى، وهذا غاية ما أتمناه.» ولما عرض صولت مسألة الجلاء عن المورة
أجابه
الباشا: «إن هذه ليست بالمسألة السهلة؛ لأنها في حاجة إلى معونة رجل سياسي قادر لتحقيقها،
أما إذا وُجِد من يرغب في ذلك فلا ريب في أنهم يستطيعون حل الإشكال.» على أن الباشا كان
أقرب إلى الصراحة في آخر سلسلة هذه المحادثات، وقد دارت في ٢٦ سبتمبر، فقد قال: «إني
أضع
قدمي الآن في ركابين، وعليه فالأمور سوف تبقى معلَّقة في الميزان لحين حلول فصل الربيع،
فإذا ما وُجِد وقتئذ أن لدى حكومتكم اقتراحات مُرْضِية لي فإني على استعداد لقبولها،
وإذن
يمكن إيجاد أسباب للانسحاب نهائيًّا من اليونان. أما إذا جاء الأمر على عكس ذلك فلسوف
أجمع
كافة قواتي ثم أحصل بما لدي من النفوذ لدى الباب العالي على قيادة الأسطول العثماني بأكمله؛
لأن القبطان باشا سوف يكون قد ساءت سمعته؛ ومن ثم أضع نفسي على رأس الأسطول. وبذا أُوجِّه
كل اهتمامي إلى الفراغ من المهمة وحلها نهائيًّا.» وإذ ذاك سأله صولت عن الخدمات التي
ينتظرها الباشا من إنجلترا في مقابل ذلك، فأجابه محمد علي: «إنه ينتظر المساعدة في صدد
زيادة الأسطول ثم الجزية للتوسع في بلاد العرب.» ولكن صولت أضاف هنا: «إنني مقتنع بأنه
يرمي
في صميم فؤاده إلى الحصول من حكومتنا على تأكيد عام بالموافقة على استقلاله فيما لو دفعته
الظروف إلى قطع علاقته مع الباب العالي.»
ولكن الباشا تحاشى الخوض في هذه النقطة.
٢٧
وما هو أن انتهت هذه المباحثات حتى هبط إلى الإسكندرية أحد الساسة النمساويين موفدًا
بمهمة من ميترينج، وهذا السياسي هو بروكسن أوستمد الذي قام في تاريخ آخر بعد ذلك بزيارة
أخرى غريبة للباشا.
وقد جاء إلى مصر في هذه المرَّة ليستحث الباشا ليترك التردد وليُلِحَّ عليه في القيام
بحملة ضد اليونانيين في الشتاء؛ ليضمن لنفسه الغلبة عليهم قبل أن تتمكَّن روسيا والدول
الغربية الأخرى من التدخل في الأمر.
وقد أسهب في وصف ما في استقلال اليونان من الخطورة على التجارة المصرية، وأخذ يُطْنِب
في
ميل الإنجليز إلى بقاء مصر في حالة ضعف، وزعم بأن بضائع بريطانيا مهما كانت تحمل في ظاهرها
الخير إلا أنها ترمي في الواقع إلى مساعدة مُمثِّل السلطان بل إلى شلِّ حركته، على أن
هذه
النظرية لم تنفع في إقناع محمد علي بأن أي محالفة توازي في فائدتها صداقة بريطانيا العظمى
أو أن أي فائدة يمكن أن تعوِّض عليه ما يخسره بسبب معاداة سيادة بريطانيا البحرية، وفي
النهاية توجَّه بهذا السؤال الصريح إلى محادثه النمسوي، فقال: «إذا لم ترغب إنجلترا في
أن
تقوم بما تشير به عليَّ فما حيلتي معها إذن؟!»
٢٨
ولما مرَّت الأسابيع دون أن يَصِله ردٌّ على مقترحاته كان فكره قد اتجه بطبيعة الحال
إلى
المشروع الآخر، وهو الحصول على الإذن من الباب العالي يجعله المشرف الأعلى على الحرب
اليونانية وبخاصة؛ لأن نجاحه في الآستانة لن يَحُول مطلقًا دون الوصول إلى اتفاق مع
الإنجليز، هذا فضلًا عن أن ذلك النجاح من شأنه أن يَدْفَع بعدُوِّه الشخصيِّ خسرو في
سبيل
الذل والعار. وكان محمد علي قد أرسل الشكاوى العديدة من سوء إدارة خسرو في قيادة الأسطول
التركي.
٢٩
ثم إنه أرسل في يوم ٧ يناير سنة ١٨٢٧م خطابَيْن؛ أولهما إلى الصدر الأعظم، وثانيهما
إلى
معتمده في الآستانة،
٣٠ وقد ذكر في أولهما أنه لم يدخر أموالًا ولا رجالًا في سبيل خدمة السلطان وأن
موارده قد نفدت الآن، هذا فضلًا عن ظَهْره فقد أصبح منحنيًا تحت ثقل سِنِّه المتقدمة،
وإنه
لهذه الأسباب يرجو أن يُعفَى من إجابة مطالب جديدة؛ لكي يقضي ما بقي له من عمر في سلام
داعيًا لمولاه بدوام الصحة والسعادة. على أن أهمية هذا التوسُّل المتواضع قد بيَّنها
ما ورد
في الخطاب الثاني؛ إذ قال: «إن اشتراك خسرو باشا في شئون الحرب كان من شأنه أن يؤدِّي
إلى
الإهمال والتكاسل، فإذا ما ظلَّ في منصبه فلسوف أكف عن التعاون معه وأطلب إقالتي من هذه
الخدمة.»
٣١ وقد حدث أنه على أثر وصول هذين الخطابين إلى الآستانة أنْ تقدَّم ستراتفورد
كاننج بسلسلة اقتراحات غير مقبولة لدى الباب العالي في صدد اليونانيين؛ فلم يكن من سبيل
إلى
التسويف في هذه الظروف حتى في الديوان التركي نفسه. وفي الحال صدر الأمر إلى أحد كبار
الأغوات بالذهاب إلى مصر في مهمة سرية، وقد حاول أن يَعْبُر البحر في بارجة إنجليزية
خوفًا
من وقوعه في أيدي اليونانيين، ولكن ستراتفورد كاننج رفض لاقتناعه بأن المهمة لن تكون
مُرْضِية لنائب السلطان
٣٢ ولكن لم تكن هناك حاجة لِأَنْ يقلق كاننج كل هذا القلق؛ لأن الأغا كان يحمل معه
نبأ بإبعاد خسرو عن منصب القبطان باشا، وهذا عدا الفرمانات اللازمة بجعل محمد علي المسئول
وحده عن إدارة دفة الحرب.
ولكن هذه الأنباء لم يكن من شأنها أن تتغلَّب على حكمة محمد علي أو تدفعه إلى سحب
قَدَمه
من أحد الركابين، بل شَرَع على مهل في إجراء استعدادات لاستئناف الحملة. وحتى في منتصف
شهر
يونيو التالي كانت سفنه ما تزال موجودة في مراسيها في الإسكندرية، كما أن إمداداته لإبراهيم
لم تكن قد تمَّت بعد، ولكنه شرع في الإلحاح على قنصلنا العام بإرسال جواب على اقتراحاته
المتقدمة؛ لأنه لا يستطيع تأخير الأسطول إلى أجل غير مسمى. يُضاف إلى ذلك أن الديوان
في
الآستانة قد لاحظ أن التغيير في القيادة لم يُغيِّر شيئًا من بطء سير القتال كما أن خسرو
الماكر كان قد نال الحظوة التي كانت لمحمد علي، وأنعم عليه بالعطف والسيف، إشارة لجعله
صاري
عسكر وقائدًا عامًّا لقوات السلطان. وفي ١١ يونيو، أكَّد محمد علي لصولت رغبته في النزول
على إرادة الحكومتين البريطانية والفرنسية، ثم قال: إذا كان في نية هاتين الدولتين فعلًا
أن
تتدخلا فيحسن أن يظهر الأسطول الإنجليزي والفرنسي أمام الإسكندرية لعمل مظاهره لإرغام
سموه
على الامتناع عن الحرب، فإذا ما أظهر أن الامتناع لفائدته فإنه في هذه الحالة يبادر بسحب
جنوده وولده من الموت. وقد أكد لي سموه أنه إنما يطلب طلبًا مسوغًا معقولًا لاتخاذ هذه
الخطوة الحاسمة،
٣٣ ثم إنه برغم إلحاح الباب العالي، وبرغم تحريض القنصل النمساوي ما زال متمسكًا
بخطة التريث والانتظار مدة ثمانية أسابيع أخرى،
٣٤ وأخيرًا، أقلع الأسطول في يوم ١٦ أغسطس، وبعد ذلك بيومين وصل رسول إنجليزي
بمهمة خاصة.
٣٥
وكان هذا الرسول الميجر كرادوك الذي أرسله كاننج خصيصًا لإبلاغ الباشا بقرار الحلفاء
في
لندن والتخلي عن المورة فورًا بلا لف ولا دوران. وكان عليه أن يُبيِّن له أن الدول العظمى
قد اتفقت كلمتها، مع أنه لا ينتظر أي تدخل من ناحية تركيا، وأن قوات كافية تُرسَل إلى
شرق
البحر المتوسط فإن شاء الأتراك أن يواصلوا المقاومة «فإن عواقب انضمام الباشا إلى الباب
العالي في نضال غير متساوٍ كهذا قد تكون ضارة لمشروعات التحسينات البحرية والتجارية التي
ظلَّ سموُّه حتى الآن يواصلها بقسط كبير من النجاح. وقد خطر لكاننج أن مثل هذه الاعتبارات
لا بد أن تكون لها نتيجة فعالة مع رجل حذر فطين لا يُعتبَر من المسلمين المتعصبين كما
أنه
ليس من الخدام المخلصين للباب العالي.»
٣٦ ومع أن كرادوك قد أمر بأن يُجتنَب استعمال التهديد فإن مهمته لم تكن بالمهمة
السهلة؛ لأنها كانت كما عدَّها صولت بمثابة «طلب إلى محمد علي بالتزام الحياد الذي قد
يضر
أبلغ الضرر لعلاقاته مع الباب العالي بدون أي مقابل معين.»
٣٧
ولقد انقضى نحو أسبوع في هذه المباحثات أظهر الباشا في خلاله كل ما كان في استطاعته
من
الميل وألحَّ عليه صولت بأن ينتهز هذه الفرصة لإيضاح رغباته للحكومة البريطانية بعبارة
جلية
محدودة؛ لأنه إذا أضاع هذه الفرصة الطيبة للتحبُّب للدول العظمى «فلن ينتظر أن تسنح له
فرصة
مثلها في المستقبل»، وهنا أشار محمد علي بأن تطلب أميرالية الحلفاء من إبراهيم باشا بصفة
رسمية بألا يهاجم «هيدرا» وهي الهدف الحربي الثاني في سلسلة الأعمال الحربية التي يقوم
بها
إبراهيم، وقد لمح محمد علي بأنه سوف يصدر من ناحيته أوامر بهذا المعنى إلى إبراهيم، ثم
استطرد فقال: «لتقف إنجلترا بجانبي، وبذا أستعيض بما أخسره في ناحية أخرى، ولقد طالما
رغبت
من صميم فؤادي … أن أعقد معها اتفاق صداقة وتجارة لا تبليها الأيام. ولعلها تشعر الآن
— على
ما أرجو — أنها ملزمة بمساعدتي» وقد ردَّ صولت على هذا بما يُعبِّر عن رأيه الشخصي، فقال:
«متى حان الوقت المناسب، وإذا ما نفَّذَ الباشا هذه الخطة بنجاح فإن إنجلترا لن تتخلى
عنه.»
ومن ثم اندفع الباشا يتكلم وقلبه مفعم بالآمال في المستقبل، فقال وقد لمعت عيناه وتهلل
وجهه: «إن سوريا ودمشق وبلاد العرب كلها في متناول يدي، فإذا ما ساعدتني حكومتكم كما
أؤمل،
وإذا ما اعترف بي كأمير مستقل متى سنحت الفرصة فلسوف أكون راضيًا الرضا كله.»
٣٨ وقبل أن يخرج كرادوك التفت إلى باغوص بك الخادم الأمين للباشا وقال: «إنه يعتقد
شخصيًّا أن مصر إذا أعلنت استقلالها واستطاعت الاحتفاظ به فلسوف تعترف بها إنجلترا.»
٣٩
وانتهت المحادثات دون أن يتقيد أحد الفريقين بأمر معين، وألمح ممثل السلطان إلى إبقاء
جنوده في المورة بلا عمل. وإذ ذاك ردَّ المندوبان الإنجليزيان بأنه يستطيع في هذه الحالة
أن
يعتمد على حسن نية الحكومة البريطانية على أن ما يُؤسَف له حقًّا أن كرادوك لم يتمكَّن
من
الوصول إلى الإسكندرية في الوقت المناسب ليحمل الباشا على تأجيل إرسال أسطوله إلى
المورة.
ولذا كان موقف الباشا يبعث على الحيرة؛ فإن السلطان كان يأمره من ناحية بأن يبادر
في
الحال إلى سحق الأروام، بينما كانت فرنسا وإنجلترا تطالبه بالانسحاب فورًا من
المورة.
فإزاء هذا الموقف المحير لم يكن للباشا مفر من أن يغضب أحد الفريقين غضبًا تامًّا،
ولقد
كان مقتنعًا في قرارة نفسه بعبث الاسترسال في مقاومة رغبات الحلفاء، ولكنه في الوقت نفسه
كان مرتبطًا ببلاط يأبى عليه جهله الشديد وصلفه أن يسلم بأنه قد فات الوقت الذي كان غضب
السلطان يكفي وحده إلى حبس سفراء الدول الغربية في قصر الأبراج السبعة، أو أن يستطيع
الأتراك أن يصمدوا للقوات المسيحية المتحدة على قدم المساواة.
لقد بذل في يوم ٥ أكتوبر مجهودًا جديًّا ليفتح عينَي الديوان إلى خطورة الموقف؛ فكلَّف
معتمده أن يُبلِغ البلاط أن مطالب الحلفاء قد تكون مجرد بلف، ولكن ليس معنى ذلك أنها
لا
يمكن تنفيذها، وأن العقلاء من شأنهم الاستعداد لتقلبات الحظ بدلًا من تعليل أنفسهم بالسعادة
والهناء، وأن عمارات الحلفاء إن التجأت إلى استعمال القوة فإن العمارة التركية في رأيه
الضعيف تتمزق شذر مذر ويهلك معها ٣٠٠٠٠–٤٠٠٠٠ نفس.
ثم استطرد، فقال: «من الخطر المحض أن يقصر همه في شئون الحرب على التوكل على الله،
بل
ينبغي في الوقت نفسه أن يغفل عن كل ما ينبغي عليه فعله. نعم؛ إن النصر من عند الله، وإنه
هو
وحده صاحب الحَوْل والطَّوْل، ولكنه أمرنا في قرآنه الكريم بالسعي، ثم وعدنا بالمساعدة
لنيل النصر.»
٤٠ والخلاصة أن الإيمان وحده لا يمكن أن يعوض عن البارود المبلل أو عن السفن
الرديئة.
وقد جاءت الحوادث لسوء الحظ محققة لما كان يتوقعه؛ فإن أميرالي الحلفاء وهما كودوربنجتون
ورمني — لأن العمارة الروسية لم تتدخل إلى حلبة النزاع قبل يوم ١٣ أكتوبر، بدآ لفورهما
باستعمال الضغط على فريقَي المتحاربين، وقد بادر الأروام طبعًا إلى إعلان موافقتهم على
عقد
الهدنة، ولكن نظرًا لأن السلطان رفض الهدنة فقد اعتبر هؤلاء أنفسهم في حل من أي ارتباط؛
لذا
أعدُّوا حملة لتوجيهها إلى ألبانيا حيث دمَّروا عمارة بحرية تركية صغيرة في جالاكسيدي.
وبعدئذ اجتمع الأميرالان بإبراهيم شخصيًّا فوافق على وقف الأعمال الحربية مدة شهر إلى
أن
تصله تعليمات؛ إما من الباب العالي أو من أبيه، ولكنه عندما سمع بأن الأروام يواصلون
أعمالهم الحربية اتخذ الاحتياطات اللازمة لإرسال المئونة إلى باتراس، وأن يطهر البلاد
التي
يحتلها جنوده ممن يُحتمَل أن ينقلبوا إلى أعداء، وحاول الأميرالان مراعاة العدل بين
الفريقين، فإذا كان كودرنجتون مثلًا قد أرغم الأسطول التركي من جهة على الالتجاء إلى
نافارين بدون إرسال الإمدادات إلى باتراس؛ فإنه من الجهة الأخرى حظر على الأروام أن يسيروا
حملتهم التي انتووا إرسالها إلى ألبانيا، ولكن كودرنجتون كان يميل هو وزملاؤه إلى منع
استمرار أعمال التخريب في المورة. ولما لم تكن لديهم إلا قوة بحرية فقد حسبوا أن يدركوا
غايتهم المذكورة بالقيام بمظاهرة مزدوجة ضد الأسطولين التركي والمصري.
٤١
ففي يوم ٢٠ أكتوبر أقلعوا بسفنهم الحربية قاصدين إلى خليج نافارين، ولكن الأتراك كانوا
دائمًا يرتابون في نوايا كودرنجتون وأصحابه؛ ولذلك أطلقت البنادق الرصاص على بحارة إحدى
السفن الإنجليزية؛ فأجابت هذه على ذلك بإطلاق قنابلها على الأسطولين التركي والمصري،
وإذ
ذاك نشبت معركة حامية استمرت من منتصف الساعة الثالثة إلى الغسق، وقد أسفرت عن تدمير
الأسطول الإسلامي على بكرة أبيه.
وقد هلَّلَ كافة أنصار القضية اليونانية لهذا الحادث الذي قابلَتْه حكومات الحلفاء
بالدهشة والاستغراب؛ ذلك أن الحكومات المذكورة كانت قد حاولت أن تستخدم القوة البحرية
في
أكثر ما يمكن أن يتحقق بواسطتها إذ ليس يخفى أن تأثير الأعمال البحرية في الأعمال البرية
بطيء ومحدود وتدريجي، في حين أن ما كان يتمناه الحلفاء هو وقف الأعمال العسكرية في الحال،
فهم والحالة هكذا قد كلفوا أميراليهم بمهمة شاقة تكاد تنوء بها كواهلهما، ثم إن تعليماتهم
كانت خاطئة وناقصة. وهذا بلا ريب نتيجة الموقف الذي وقفوه مما يتعارض مع المنطق؛ لأنهم
في
الوقت الذي تظاهروا فيه بالتدخل بين السلطان ورعاياه المتمردين كان تدخلهم في الواقع
لإنقاذ
اليونانيين، فبينما قد تجاوز هذا العمل البحري المدى الذي كانت تنوي الدول الغربية الذهاب
إليه فإنه في الوقت نفسه قد ساعد كل المساعدة على تحقيق الغاية المنشودة. هذه المعركة
كانت
بمثابة خدمة مزدوجة لمحمد علي، فإنه كان على استعداد لفتح باب المفاوضات مع الحلفاء.
وأكبر الظن أن كرادوك، ولو كان عجل بالوصول إلى مصر بيومين اثنين فقط لما أقلع الأسطول
المصري قاصدًا إلى المياه اليونانية بتاتًا على نحو ما قاله كاننج، ولما اشتبكت الأساطيل
في
معركة بافارين، وكان من رأي إبراهيم وديوان الآستانة بادئ ذي بدء الانسحاب من المورة
شمالًا
أي إلى خارج مرمى مدافع أساطيل الحلفاء، ولكن محمد علي لم يَرَ معنى لمواصلة هذا الكفاح
العقيم. وفي اليوم التالي الذي وصلت إليه أنباء معركة نافارين أبلغ القنصل الإنجليزي
بأن
الحرب لو اشتعلت بين تركيا وبريطانيا العظمى فلا خوف مطلقًا على الرعايا الإنجليز في
مصر،
ثم قال: «أعلم كيف أقدر أن أحتفظ بما لي من سمعة حسنة على السهر على العدالة والسخاء.»
٤٢ ثم كتب في اليوم نفسه إلى ولده إبراهيم يخبره أن حمق الديوان هو سبب هذه
النكبة، وأنه يأمره بألا يبرح معسكره وألا يقوم بأي محاولة ضد الأروام،
٤٣ ولما سمع بالاقتراح المقصود به سحب جيش إبراهيم إلى الشمال رفع عقيرته
بالاحتجاج الشديد الذي كان له مفعوله،
٤٤ ومن ثم ظل إبراهيم باقيًا في المورة إلى أن تحرَّج مركزه بسبب القوة الفرنسية
التي نزلت إلى البر، حتى إن الباب العالي لم يَسَعْه إلا التسليم بألا مناص من الإذعان.
وفي
اليوم السادس من شهر أغسطس سنة ١٨٢٨م ذهب كودرنجتون إلى الإسكندرية لزيارتها وتوقيع الاتفاق
مع محمد علي، وبمقتضى هذا تمَّ الجلاء عن المورة نهائيًّا،
٤٥ مع أن السلطان ظلَّ مُصِرًّا على رأيه، فاضطرت روسيا إلى أن تلجأ إلى استخدام
القوة. وفي العام التالي أرغمت الباب العالي على توقيع معاهدة أدرنة التي سلم فيها بنفس
الآراء التي أبداها والي مصر من قبل ذلك بعامين.
ولا ريب في أن تورط محمد علي في شئون أوروبا السياسية على نحو ما بسطناه هنا قد أنهك
موارده إلى أقصى حد؛ فإن ما أنفقه من الأموال الطائلة على بناء سفنه وفي شراء المؤن
والذخائر التي تدفقت على المورة، ثم إن ما جمعه من الرجال ودرَّبَه من الجنود وبعث به
إلى
ميادين القتال كل هذا قد ذهب أدراج الرياح بين عشية وضحاها، وقد عاد جيش إبراهيم من المورة
وهو في حالة جوع وعجز وبؤس شديد، بل إن الكثير من الجنود قد غلبتهم الفاقة حتى عجزوا
عن
مواصلة السير.
٤٦
وهكذا نجح الباب العالي في تسخير الثورة اليونانية لخدمة غاياته وأغراضه، فإن باشا
مصر
القوي لم يَعُد الآن صاحب القوة التي كان عليها عندما سمَّى نفسه حامي الإسلام. على أنه
لم
يتورَّط في عداء الدول الغربية إلى الحد الذي كان يرغب فيه الباب العالي برغم من إحراق
أسطوله وتجويع جيشه، بل كان لديه لسوء الحظ من أصالة الرأي وبُعْد النظر ما يجعله يُلْقي
تبعة هذه النكبات على عاتق «السلطان العنيد» ووزرائه المأفونين الذين لم يحفلوا بما بذله
لهم من الآراء السديدة. وقد انسحب محمد علي من حومة الوغى وظلَّ يشهد سير الأمور من مكانه
الحريز، بينما كان أهالي الآستانة يتوقَّعون وصول الرُّوس الفاتحين إليها يومًا بعد يوم،
وقد امتلأت جوانح محمد علي بالازدراء لعجز الباب العالي وحقده، وصار الآن أشد تصميمًا
منه
في أي زمن مضى على تحرير نفسه تحريرًا نهائيًّا من نفوذه السيئ، ثم إنه أصبح الآن أشد
إيمانًا بأهمية السيادة البحرية وبخاصة سيادة بريطانيا البحرية، وقد تبيَّن له الآن أن
امتلاك المورة لا يصح أن يُعتبَر الضمان الذي يمكنه تقديمه في مقابل الحصول على محالفة
إنجليزية؛ لأن السيادة البحرية قد انتُزِعَتْ من قبضة يده في عصر يوم واحد ذلك الضمان
الذي
حسبه ضمانًا قويًّا، ولكنه قد يُوفَّق إلى الحصول على الضمان المطلوب يومًا ما، فهلا
يمكن
أن يكون هذا الضمان هو الاستيلاء على طريقَي الهند، بل ألا يمكن أن يكون هذا الضمان هو
التهديد بعقد محالفة مع مزاحمة إنجلترا في البحر الأبيض؟