الفصل الرابع
مسألة الجزائر وفتح سوريا
تمتد بلاد البربر على طول الشاطئ الأفريقي من موغادور إلى بنغازي، هي إمارات مُكوَّنة
من
القراصنة، ومنها كانت تتركب بعض أجزاء الخلافة في الأيام الخالية، وقد احتفظت باستقلالها
بعد انهيار الإمبراطورية الإسلامية، ولم يكن من شأن قيام الإمبراطورية العثمانية أن تتدخل
في شئون تلك الإمارات التي ظلَّت حرة في أعمالها لا ترتبط بتلك الإمبراطورية إلا بروابط
الاحترام لتلك الدولة المتوحشة التي وطدت سلطانها في مدينة الآستانة وسلخت بلاد البربر
طيلة
القرنين السادس عشر والسابع عشر في حروب متواصلة ضد الملاحين الأوروبيين كافة.
على أن تأسيس أساطيل الدول الغربية في إبان القرن الثامن عشر، وإن كان قد قلَّل من
نشاط
تلك الولايات وضيَّق الخناق على ما كانت تقوم به من أعمال اللصوصية، إلا أنه لم يُغيِّر
شيئًا من ميولها ونزعاتها، وإذا كانت الولايات البربرية المذكورة قد خشيت العبث بالسفن
الإنجليزية أو الفرنسية فإنها لم تفتأ تشن الغارة على كل ما كان يقع في أيديها من سفن
إسبانيا أو جنوا أو نابلي.
وقد بلغ عدد ما استولت عليه بلاد البربر من السفن بين سنتَيْ ١٨٠٥م و١٨١٥م نحو ٩٠
سفينة،
وإذا كانت الإمارات المذكورة قد قللت شيئًا من أعمال القرصنة بعد أن أطلق لورد اسكموث
قنابل
أسطوله على مدينة الجزائر في سنة ١٨١٦م فإنها قد تمكَّنت على الرغم من ذلك من الاستيلاء
على
٢٦ سفينة أخرى في خلال السنوات العشر التالية، ومن ثم ذهب الأسطول الإنجليزي في سنة ١٨٢٤م
إلى مدينة الجزائر مرة أخرى؛ لأنه لم يَبْقَ مناص من تصفية الحساب نهائيًّا مع هؤلاء
الأقوام الذين كانوا يَدِينون بمبادئ أهالي القرون الوسطى.
وكان أهالي بلاد البربر — كغيرهم من المسلمين الطيبين — قد غضبوا أشد الغضب لتدخل
المسيحيين في شئون اليونان، وكذا بادروا بإرسال كل ما لديهم من السفن لمساعدة الخليفة
وهم
محنقون لزوال حرية البحار التي تمتعوا بمزاياها دهرًا طويلًا وغير حاسبين حسابًا لكارثة
نافارين التي كانت تنتظرهم، وقد كانوا يميلون في حالتهم العقلية المحنقة هذه إلى تحدِّي
الغرب وما لديه من الأساطيل؛ ففي أبريل سنة ١٨٢٧م دارت مناقشة عنيفة بين حسين باي الجزائر
وقنصل فرنسا العام المسيو ديفال، ولم يتحرج الباي من لطم القنصل الفرنسي بالمذبة على
وجهه،
فطلبت فرنسا تعويضًا عن تلك الإهانة، ولكن الباي أبى تقديم أي تعويض، ومن ثم سحبت قنصلها
المذكور وكلفت إحدى عماراتها بمحاصرة الجزائر؛ ونظرًا لأن الباي ظل مُصِرًّا على رأيه،
وأبى
الاستغفار عما فرط منه، ولأن الحالة العامة — وخاصة بعد نشوب الحرب الروسية التركية في
سنة
١٨٢٨م — لم تكن لتشجع على القيام بعمل حازم، فلقد حاول قنصل سردينيا ثم أحد ضباط فرنسا
البحريين أن يُقنِع الباي بقبول شروط أخف من الشروط التي كانت معروضة عليه أولًا، على
أن
هذه المحاولات لم تكن إلا لتزيد الباي اقتناعًا بأن فرنسا بدأت تضعف أمامه؛ مما زاده
صلابة
على صلابة. وفي أواسط سنة ١٨٢٩م تقرَّر إرسال السفينة «بروفانس» وهي رافعة العلم الأبيض
باقتراحات جديدة ومعها تهديد بإرسال حملة عسكرية في حالة رفض تلك الاقتراحات، ولكن الباي
حسين ظل مصرًّا على الرفض، وكان جوابه عندما هدده ربان السفينة بالقتال تلك العبارة
الخالدة؛ وهي: «لديَّ البارود ولديَّ المدافع، وبما أننا لا يمكن أن نتفق فالأولى أن
ترحل
من هنا.»
فلم يَسَع السفينة «بروفانس» إلا أن تُقلِع مراسيها وتعود إلى بلادها في ٣ أغسطس،
بينما
كان العلم الأبيض لا يزال يرفرف على ساريتها، على أن الريح قد غلبتها ودفعتها إلى أقرب
بطاريات المدينة، وقد عدَّ الأهالي عملها هذا بمثابة إهانة متعمدة، فأطلقوا عليها القنابل
وظلوا يطلقونها طالما بقيت السفينة في داخل مرمى المدافع حتى تمكَّنوا بعد إطلاق ثمانين
قنبلة من إصابتها ثلاث مرات.
فلما أن وصلت هذه الأنباء إلى باريس ازداد الرأي العام سخطًا على سخطه وأصبح قلقه
بسبب
التباطؤ في إخضاع الباي ينذر بالخطر، ولكن الوقت لم يكن ملائمًا بالمرة لاستعمال العنف
بل
كان داعيًا للحيرة؛ ذلك أن الروس كانوا وقتئذ قد احتلوا أدرنة وأصبح انهيار الإمبراطورية
العثمانية وتمزيق شملها قاب قوسين أو أدنى، فهل كان بوسع أي وزير بعيد النظر أن يقوم
في مثل
هذه اللحظة الخطيرة بتوريط قوات فرنسا البرية أو البحرية في الحرب في شمال أفريقيا؟ ثم
إن
المسيو بولنياك — الذي عُيِّن في أغسطس وزيرًا للخارجية — كان قد فرغ وقتئذ من وضع مشروع
لو
أمكن تنفيذه لضمن التفاف الشعب حول عرش شارل العاشر الذي كان مهددًا بالانهيار ولأحبط
اتفاق
الحلفاء على خلع نابليون،
١ وقد توهَّم أن روسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما معظم ما لتركيا من
الأراضي في أوروبا؛ وبذا تسنح لفرنسا الفرصة للمطالبة بتعويض عما ينشأ من الإخلال بالتوازن
الدولي، أما مشروعه فكان يتلخص في أن تستولي فرنسا على المقاطعات البلجيكية لغاية نهرَي
الموز والرين، ويمكن حمل بروسيا على الموافقة على هذا الترتيب بالسماح لها بضم ساكسونيا
والمقاطعات الهولندية الشمالية. أما ملك هولندا فيمكن تعويضه عن تقسيم مملكته بتنصيبه
ملكًا
على الآستانة وغيرها مما لم تزدرده روسيا والنمسا من الأراضي التركية في أوروبا، هذا
بينما
يمكن تعويض إنجلترا بإعطائها المستعمرات الهولندية التي تصبح وقتئذ غير خاضعة لأحد. وكانت
النية منصرفة إلى تنفيذ هذه الفكرة بمعاهدة تُعقَد بين فرنسا وروسيا، حتى إذا ما تمَّ
توقيعها تُدعَى بروسيا للاشتراك فيها، وبعدئذ يصبح لا مناص للنمسا من الانضمام إلى هذا
المشروع، وإذن تصبح إنجلترا مخيرة بين قبول جزيرتَي جاوا ومولاكاس أو رفضهما. وبمجرد
ما يتم
توقيع المعاهدة تحشد الدول المتعاقدة جيوشها ومواجهة أوروبا بقوة لا يسع أي دولة من الدول
الباقية أن تحلم بمقاومتها، وكان بوليناك يرى أن تحشد فرنسا ٢٠٠٠٠٠ جندي؛ ولذا كان يعتقد
أن
تنفيذ المشروع يُحتِّم عدم إرسال حملة بحال من الأحوال لتأديب باي الجزائر المشاغب.
ففي ظروف كهذه استقرَّ رأي وزير خارجية فرنسا على اتباع الفكرة التي طالما أوصى بها
دورفيشي الذي شغل منصب قنصل عام لفرنسا في مصر والذي كان قد عاد في سنة ١٨٢٩م في الإجازة.
أما هذه الفكرة فهي معاقبة الباي لا بِيَد فرنسا، ولكن بِيَد محمد علي الذي كان ميالًا
إلى
إعداد حملة كبيرة لفتح ولايات البربر الثلاث؛ وهي: طرابلس، وتونس، والجزائر. وضمِّها،
وكان
من رأي دورفيشي أن إرسال حملة فرنسية خليق بأن يُثِير حسد إنجلترا ومعارضتها، وبالعكس
فإن
امتداد سلطة الباشا على طوال الشاطئ الأفريقي لن يفتح باب الاحتجاج السياسي هذا عدا —
وهو
ما كان يَجُول في خاطر بوليناك — أن التفكير المزمع في تغيير الخريطة الأوروبية من شأنه
أن
يشغل بال الوزارة البريطانية، بحيث لا تفكر في مصير تونس والجزائر، بينما أن دول أوروبا
الأخرى سوف تُرحِّب بلا جدال بوجود حكم صالح في تلك المناطق. نعم؛ حكم قائم على النظام
والأمن كالمشاهد في القاهرة والإسكندرية.
٢
ويظهر أن هذا المشروع كان من بنات أفكار دورفيشي نفسه، فلقد لفت نظر محمد علي إلى
مزايا
الاتفاق مع فرنسا في الجزائر بدلًا من إثارة هواجس أوروبا بأسرها بما عسى أن يقوم به
من
المغامرات في سوريا،
٣ وقد توهم دورفيشي أن مزايا هذا الاقتراح لن تغيب عن أفكار الساسة الإنجليز كما
أنها لم تَغِب عنه شخصيًّا.
وفي سنة ١٨٢٩م كان المشروع قد ملك على دروفيشي حواسه حتى أصبح العضو الوحيد الذي
يتحدث
عنه حتى مع باركر القنصل الإنجليزي العام الذي حكم على المشروع بأنه خيالي محض، ولكن
المصاعب كانت تتلاشى تدريجًا من أمام عينيه كلما أصغى إلى أقوال دورفيشي وحماسته في تحبيذ
المشروع، هذا إلى أن مساعدة فرنسا في السفن والرجال كان من شأنها أن تكفل النجاح وتجعله
مضمونًا.
٤
أما خطة محمد علي فأغلب الظن أنها لم تكن كما حمل دورفيشي على اعتقادها، فإنه في
الواقع
لم يكن مهتمًّا ببلاد البربر، بل لعله كان يدرك أن امتداد سلطانه في تلك الجهات سوف يكون
مصدر ضعف لا مصدر قوة، وقد كان يدرك ما للمنطقة التي تضم إقليمَيْ سوريا وبغداد من الأهمية
العسكرية، ثم إنه كان يعلم جيد العلم أنه لو أُتِيح له يومًا ما أن يبلغ المنزلة والقوة
التي يطمح إليها فإن سوريا وبغداد تكون لهما قيمة لا تدانيها قيمة امتلاك الشاطئ الأفريقي،
ولكن في الوقت نفسه لم يكن ممن يقعدون عن انتهاز الفرص؛ فالاقتراحات الفرنسية — مهما
كان من
شأنها — فلسوف تؤدِّي إلى تحقيق أمرين:
- أولًا: أنها تتيح له الفرصة لإعادة إنشاء أسطوله المتلاشي.
- ثانيًا: احتمال عقد محالفة مع فرنسا نفسها.
وإذا كان في هذا ما يُقلق بال الإنجليز فلتكن المعاهدة مع إنجلترا، أو بعبارة أخرى
أنه
كان على استعداد لفتح الجزائر إذا كان ثمة مغنم له من وراء ذلك، أو أن يطرح المشروع جانبًا
إذا رأى أن في ذلك فائدة أكبر.
ويلوح أن دورفيشي قد أُغرِم بمشروعه إلى حدٍّ أعماه عن معرفة حقيقة نيات الباشا،
هذا
بينما كان بوليناك متعطشًا لاتباع أي خطة ترمي فورًا إلى تهدئة ثورة الرأي العام الفرنسي؛
وذلك بإنزال العقاب بالجزائر مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالقوات الفرنسية لتنفيذ المشروع
الأوروبي الخطير الذي كان ما يزال يَجُول في خاطره؛ ولهذا بادر بعرض الأمر على الملك
وحصل
منه على الموافقة، ثم راح بدوره يستشير زملاءه على ما يظهر، فأرسل تعليمات إلى جيبو مينو
سفيره في الآستانة وميمو قنصله العام في الإسكندرية، وقد كلَّف الأول بأن يطلب إلى السلطان
إصدار الفرمانات اللازمة إلى محمد علي لِأَنْ يقوم بإخضاع ولايات البربر، وأن يعزز هذا
الطلب بهاتين الحجتين:
- أولًا: أن فرنسا إذا ما أرسلت حملة تأديبية من عندها، فأغلب الظن أنها لن تغادر
تلك الجهات التي ستُفلِت من قبضة الباب العالي نهائيًّا.
- ثانيًا: بأن محمد علي سوف يدفع إتاوة بعكس الباي.٥
أما تعليماته إلى الثاني فكانت تتلخص في وجوب إبلاغ الباشا بأن فرنسا موافقة على
آرائه
وتؤيِّد خططه ضد ولايات البربر، وأن الأسطول الفرنسي — إذا طلب الباشا ذلك — سيكون على
استعداد للتعاون مع قواته، وأنه سيتسلم في الحال عشرة ملايين فرنك إذا ما أرسل الحملة
المذكورة فورًا.
٦
على أن مباحثات الآستانة والإسكندرية لم تجرِ بالسهولة التي كان يتوهمها بوليناك
بسبب
عجلته، فإن محمد علي استهجن أشد الاستهجان مفاتحة الآستانة في الموضوع قائلًا إن الآستانة
لن تسمح من تلقاء نفسها بامتداد سلطة باشا مصر، وأنها قد تسعى للحصول على مساعدة الأسطول
الإنجليزي لإحباط أعماله العسكرية في ولايات البربر أو لم يُؤخَذ رأيها مقدمًا في الموضوع
فإن الأرجح أن ترضخ للأمر الواقع،
٧ وقد بينت الحوادث أن هذه الاعتراضات كانت في محلها، فعبثًا حاول السفير جيبو
مينو الانتفاع إلى أقصى حد بالمشروع الفرنسي، فإن الباب العالي — كما تنبأ محمد علي بذلك
—
كان يعارض أشد معارضة — دون أن يُصرِّح بذلك — بازدياد نفوذ أو هيبة تابعه الكثير
المطامع.
فعرض بدلًا من ذلك اقتراحًا مضادًّا للاقتراح الفرنسي المذكور، وقد صرَّح الرئيس
أفندي أن
كل ما هو مطلوب لحسم الخلاف بين الباي وبين الفرنسيين هو أن يتوسط جلالة السلطان بما
له من
السلطة السامية. ولهذه الغاية عرض أن يرسل مندوبًا من طرفه — ألا وهو طاهر باشا أحد أعداء
فرنسا الألداء لحمل الباي على الرضوخ لحكم العقل بدون التجاء إلى القوة.
٨
وبينما كان البحث يدور حول هذا الاقتراح المراد به عرقلة الأمور إذا بوزير خارجية
تركيا
يشعر سفير بريطانيا السير روبرت غوردون بحقيقة ما هو جارٍ خلف الستار، وقد أصاب في تقديره
بأن هذه هي أخطر طريق لإحباط أي مشروع بغيض للديوان العالي.
٩
وأعلن محمد علي في الإسكندرية بأنه على استعداد لإرسال نحو ٢٠٠٠٠ جندي نظامي ومثلهم
من
رجال البدو بقيادة ابنه إبراهيم، ولكنه يطالب على الأقل بضعف المبلغ الذي سُمِح للقنصل
العام ميمو للمفاوضة على أساسه. وفوق ذلك كله فقد طلب كشرط أساسي في المساومة أن تعطيه
فرنسا — بمقتضى عقد بيع صوري — أربع بوارج حربية تحمل كلٌّ منها ٨٠ مدفعًا، وقد صرَّح
بأن
هذه السفن لا محيص من الحصول عليها لضمان نجاح الحملة بسرعة وللحيلولة دون أي تدخل أجنبي،
وقد ذهب عبثًا كل ما بذله ميمو وهيدرا، وقد أرسل خصيصًا لمساعدة ميمو — من المساعي لحمل
محمد علي على العدول عن طلب البوارج الأربع التي قال إنها كانت جزءًا لا يتجزأ من المباحثات
التي دارت بينه وبين دوروفيش.
١٠
ومن ثم قفل هيدرا راجعًا إلى باريس ليبسط هذه المطالب على بوليناك الذي أُطلِع عليها
في
٢٦ ديسمبر.
ومع أن معاهدة الصلح التي عُقِدَتْ في أدرنة قد أخرجت وقتئذ مسألة تعديل الحدود الأوروبية
من دائرة الاحتمال العملية فإن بوليناك كان ما يزال يُعلِّل نفسه بالحصول على تأييد روسيا
لضم الولايات البلجيكية إلى فرنسا.
ولهذا صحت عزيمته على قبول اقتراحات محمد علي وعرضها على زملائه في الوزارة، ولكنهم
تشددوا في معارضة الاقتراحات وأعلن أغلبهم أن الموافقة على نقل بوارج تحمل العلم الفرنسي
إلى دولة أجنبية يُعتبَر عملًا غامضًا، بل يكون متنافيًا مع مقتضيات الشرف.
ثم إن وزير البحرية عارض أشد معارضة في إضعاف الأسطول إلى هذا الحد، وأعلن أنه لا
يتأخر
عن تقديم استقالته فيما لو قبل الاقتراح المذكور، أما وزير الحربية بورمون فقد مرَّ بخاطره
طيف المجد الشخصي فيما لو ذهب إلى الجزائر على رأس حملة؛ ولذا رفض بتاتًا أن يحل محله
إبراهيم باشا في قيادة الحملة. وبعد محاولات عديدة لم يستطع بوليناك أن يقنع زملاءه بأكثر
من الموافقة على اعتماد بمبلغ ٣٨ مليون فرنك يسلم منه ٢٠ مليون فرنك لمحمد علي كطلبه
ويخصص
الثمانية الملايين الباقية لإنشاء أربع بوارج له في الحال، ولكن لا بد إلى جانب هذا من
إبقاء عمارة فرنسية على قدم الاستعداد لتقديم مساعدتها لإبراهيم فيما لو اقتضى الأمر
ذلك.
ثم عاد هيدرا إلى الإسكندرية حاملًا هذه الشروط المعدَّلة، وصدرت في الوقت نفسه التعليمات
إلى قائد العمارة الفرنسية في شرقي البحر المتوسط بالحيلولة دون تهديد الأسطول التركي
للإسكندرية أو مهاجمة النقالات المصرية المتجهة نحو ولايات البربر، ولما آن وقت العمل
على
المكشوف وأصبح قاب قوسين أو أدنى رأى بوليناك أن لا حرج عليه من مفاتحة الدول الأوروبية
في
الموضوع.
وعلى الرغم مما أبدته دوائر باريس السياسية من التكتم فإن الوزارة البريطانية لم
تكن تجهل
المشروعات التي استقرَّ عليها الرأي، فلقد أبلغها باركر فحوى محادثاته مع دوروفيش في
سنة
١٨٢٩م، ثم إن السفير غوردون أرسل من الآستانة الأنباء المهمة التي أبلغها له الرئيس أفندي.
يُضاف إلى ذلك أن مستر نينج أوقف الرسائل الفرنسية التي بعث بها جيبومينو من الآستانة
إلى
باريس وبادر بتقديم نسخ منها إلى سفيرنا لورد كولي، وكانت الحكومة الفرنسية في الوقت
نفسه
تُجِيب على كل سؤال تُوجِّهه إليها الحكومة البريطانية بالنفي الباتِّ، ولم يكن من شأن
هذا
التصرف أن يحمل أبردين أو ولنجتون على الاقتناع بما أبدى لهما من البيانات في النهاية
أو أن
يُوافقا على السياسة الصورية التي أُعلِنت أمامها. وفي ٢٣ يناير ذهب الدوق دي لافال —
سفير
فرنسا في لندن — لزيارة لورد ولنجتون، وتلا عليه رسالة صورية تلقَّاها من بوليناك. وقد
استُقبِل السفير بشيء من الجفاء وقِيلَ له إن محمد علي لا يمكن قانونيًّا أن يمتشق الحسام
ضد ولايات البربر إلا باسم مولاه السلطان ونزولًا على أمره الهمايوني. وأبديت للسفير
الرغبة
في أن تَعْدِل الوزارة الفرنسية عن العمل المشترك مع والي مصر،
١١ وكتب لورد أبردين من فوره إلى ممثلي بريطانيا في القاهرة والآستانة، فكتب إلى
ثانيهما يقول: «إذا كان السلطان قد وافق أو لم يوافق على هذا؛ فإن إنجلترا لا يسعها أن
تقف
وقفة المتفرج إزاء ما يُراد إدخاله من التغييرات على ملكية الأراضي المهمة الأفريقية
بواسطة
وسائل فرنسية وتحت النفوذ الفرنسي وعلى الأرجح خدمة لمصالح فرنسا.»
١٢ وكتب إلى الأول مشيرًا إلى معارضة إنجلترا في قيام الباشا بأمثال هذه المشروعات
بتعضيد الفرنسيين، ثم استطرد فقال إنه يرجو ألا يشك محمد علي في إخلاص البواعث التي دفعت
بريطانيا إلى إسدائه النصح بأن يزن جيدًا في هذه المناسبة ما سوف يترتب من العواقب الوخيمة
على المشروع الذي يلوح أنه ميال للتورط فيه.
١٣
على أن هذه المعارضة للمشروع الفرنسي لم يكن يُنتظَر أن تثير الدهشة في نفس أحد، وليس
يخفى أن توطيد دعائم النفوذ الفرنسي في الجزائر — سواء أكان مباشرة أو عن طريق فريق ثالث
يعمل لحساب الفرنسيين — كان يؤدِّي حتمًا إلى تغيير الموقف في حوض البحر المتوسط؛ وبذا
تنشأ
مسألة حماية المصالح البريطانية فيه، أَضِفْ إلى هذا أن المشروع كان يتضمَّن احتمالات
عظيمة
أخرى؛ فشبح المسألة الشرقية بأثرها كان يُطِل من وراء المسألة الجزائرية، وأن محمد علي
لو
تمكَّن من فتح الجزائر لحساب فرنسا لما كان لهذا الفتح أي معنى سوى أن يصبح فورًا تحت
الحماية الفرنسية؛ فإن مركزه حيال مولاه السلطان سوف يتأثر بذلك الفتح الذي يتغيَّر بمقتضاه
مركز مصر ضمنًا، فيكون معنى هذا أن تُصاب أسوار الإمبراطورية العثمانية وهي تترنَّح بتأثير
الشيخوخة بصدمة أخرى تهز كيانها وتُعجِّل بانهيارها؛ وبذا يصبح العثمانيون وهم أقل قدرة
على
كبح شهوات جيرانهم الروس، وهذه الحوادث قد تُرحِّب بها الحكومة الفرنسية الآن كما كانت
تفعل
في الماضي — باعتبارها فرصة سانحة لتوسيع سلطان فرنسا في أنحاء المعمورة — ولهذا كان
بوليناك قد بدأ يستغلها لفائدة الملكية.
ولكن كان الأمر على عكس ذلك في نظر الإنجليز؛ لأنهم كانوا يعتبرون الحوادث المذكورة
حافلة
بالمخاطر التي تنطوي على الشر المستطير مما كانت تقتضيه مصالحنا الحيوية إلا أن نصبر
على
توطيد إحدى الدول الأوروبية أقدامها على الطرق المؤدية إلى الهند.
ومن هنا ترى أن الاحتفاظ بالإمبراطورية العثمانية كان يُعتبَر في نظر الفرنسيين بمثابة
البديل الوحيد لتطورات لا سبيل لأحد أن يتكهن بمداها، وهي تطورات لا يسع العاقل على كل
حال
إلا أن يبذل كل ما في استطاعته لتأجيل حدوثها إلى أبعد حد ممكن. إذن؛ فالحالة في سنة
١٨٣٠م
كانت تمهيدًا يشير إلى تناقض السياسة الإنجليزية والسياسة الفرنسية الذي ظهر بصفة جلية
بعد
ذلك بعشر سنوات.
وقد شاءت الصُّدَف أن يجيء إعلان الإنجليز الحازم رفضهم لذلك المشروع في نفس الوقت
الذي
أخفقت فيه تدابير بوليناك لاستعادة حدود الرين وحبطت حبوطًا ذريعًا، فإن مباحثاته السرية
الغامضة مع سان بطرسبرج وهي المباحثات التي وُضِعت لها شفرة خاصة ثم أُلْغِيَتْ فيما
بعد لم
تُسفِر عن نتيجة تُذكَر، فإن بروسيا أجابت صراحة أن أحدًا لن يستطيع أن يحملها على السماح
لفرنسا الزحف إلى ضفة الرين اليسرى.
وهكذا أصبحت القوات التي كانت حتى الآن واقفة عاطلة على حساب مساعدة المشروع الأوروبي
فيما لو دعت الحاجة، أصبحت هذه القوات طليقة في نفس الوقت الذي تبيَّن فيه صراحة أن إنجلترا
ستضع نفوذها بأكمله في كفة الميزان ضد محاولة محمد علي احتلال ولايات البربر. وإذ ذاك
قرَّر
بوليناك مرة أخرى أن يُغيِّر خطته، وأن يقصر عمل محمد علي على احتلال طرابلس وتونس وأن
يرسل
حملة فرنسية إلى الجزائر.
وخُيِّل إليه أن والي مصر سوف يبقى على كل حال حليفًا إيجابيًّا لفرنسا يمكن الاعتراف
به
في الوقت المناسب «كما كتب بوليناك نفسه» بأنه من مساعدي ملك فرنسا.
١٤
ولكن بوليناك لم يحسب حساب حليفه المزمع في تقديراته هذه؛ فإن محمد علي كان من بداية
الأمر مصممًا على أن لا يخطو خطوة إلا إذا نال من المزايا البحرية والسياسية ما يُرجِّح
كفة
الفائدة من السير في هذا المشروع، ثم إنه لا يُعقَل أن يكون قد قابَلَ بالارتياح تردُّدَ
السياسة الفرنسية وقتئذ وتذبذبَها؛ لأنه — وهو الرجل المعروف بمضاء العزيمة — كان يشعر
بكثير من الاحتقار نحو أولئك الرجال الذين يُغيِّرون آراءهم وينقضون ما أبرموه بين عشية
وضحاها. وأغلب الظن أن اضطراب الخطط الفرنسية وتناقضها قد دفعه إلى الارتياب في فوائد
المحالفة التي يعقدها مع فرنسا، وهي محالفة – مهما كانت فوائدها ومزاياها — لا بد أن
يصحبها
عداء الإنجليز على طول الزمن؛ ولهذا كله استقر رأيه على رفض الاقتراحات الفرنسية قبل
أن
تبلغ له مذكرة لورد أبردين.
وبعد أيام قلائل استقبل القنصل البريطاني العام الذي حضر إلى القاهرة من الإسكندرية
خصيصًا ليبلغه نصائح أبردين، فاعترض نائب السلطان بأن تحذير الإنجليز لا لزوم له، ثم
راح
مرة أخرى — كما فعل مرة من قبل مع صولت — يشرح ميوله ويعلن رغبته في الوصول إلى تفاهم
ودي
مع بريطانيا العظمى، وقد سأل القنصل السؤال الآتي: «ألست ترى أن من المستحيل الاحتفاظ
بالباب العالي؟ قد تستطيعون الترقيع هنا أو الترقيع هناك، ولكن تعرفون أن كل هذا مجهود
ضائع
عبثًا؛ إذ ما عساكم تصنعون بحكومة فقدت ثقة الشعب في قلب العاصمة والأقاليم؟! …» ولهذا
كان
من العبث الاعتماد على الأتراك في مقاومة الاعتداء الروسي في المستقبل مقاومة فعالة،
وبالرغم من ذلك كله فإن الاحتفاظ بالباب العالي من الأمور التي تمس مصالح بريطانيا العظمى
في الصميم. ثم استرسل الباشا، فقال: «فالطريقة الوحيدة لتقوية السلطان تنحصر في تقويتي
وشد
أزري؛ لأنكم لو شددتم أزري لأصبح تحت تصرف السلطان في الحال جيش منظم يبلغ عدده ١٢٥٠٠٠
جندي
على استعداد تام للوقوف كالسدِّ المنيع في وجه روسيا لا في الآستانة وحدها بل في فارس
أيضًا؛ إذ لا محيص للإنجليز من الاصطدام بروسيا في فارس؛ إذ ما هي فائدة اختلاس النظرات
من
خلال أصابعك مع الادعاء في الوقت نفسه بأنك لا تبصر شيئًا؟! ولقد زال الباب العالي فينبغي
إذن على إنجلترا أن تُعِدَّ في آسيا قوةً لصد الروس؛ فأين يا ترى يسعها إيجاد هذه القوة
إلا
معي ومع ابني من بعدي؟! …»
ثم أخذ يسهب في سهولة انضمام العثمانيين إليه والتفافهم تحت رايته، قال: «لو استقرَّ
رأي
الإنجليز على تأييدي …» واسترسل في وصف موارده التي قال بحق: «إن الوزارة البريطانية
قد
بخستها قدرها.» وأخيرًا صرَّحَ قائلًا: «إن الإنجليز لو اتخذوني صديقًا لهم لأصبح في
وسعي
أن أفعل ما أريد، أما بدون صداقتهم فليس يسعني أن أفعل شيئًا … ولقد أدركت منذ أمد بعيد
أن
ليس في استطاعتي الإقدام على عظائم الأمور بدون إذن إنجلترا؛ لأنني أينما التفت بوجهي
أراها
واقفة لي بالمرصاد ومستعدة لإحباط تدابيري.»
ويندر أن يكشف الساسة مكنونات صدورهم لسامعيهم إلا بالقدر الملائم لا أكثر ولا أقل،
ولم
يكن محمد علي بالطفل الغر الذي يزل لسانه إلا بالشيء الذي يرومه.
ولكن ليس من ريب في أنه كان مخلصًا فيما قاله عن موقفه إزاء بريطانيا؛ لأنها كانت
تحيط به
من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، ولم يكن في استطاعة دولة أخرى عدا إنجلترا أن تُقدِّم
له
مساعدة فعالة كمساعدتها، ثم إنه لم يعد الحقيقة فيما ذكره عن موقفه وعن الفرص التي تنتظره،
ولقد كان وقتئذ القوة الوحيدة الحية القادرة على النمو والترقي في العالم الإسلامي بأسره،
وبهذه الصفة كان في وسعه بالاشتراك مع إنجلترا ومساعدتها له أن يؤسس في ظل الخلافة
العثمانية دولة عظيمة كالتي أنشأتها شركتنا الهندية الشرقية في ظل إمبراطورية دلهي.
ولكن لا بد لنا أن نسأل مرة أخرى: ما هي المزايا التي كان يسعه تقديمها لحمل الساسة
الإنجليز على ترك سياستهم التي أعلنوها واستبدالها بسياسة لإنشاء دولة جديدة في الشرق
الأدنى؟ فلو رسخت أقدامه يومًا ما على حدود فارس وامتد سلطانه من القاهرة إلى بغداد ألا
يمكن أن يتقدَّم إليه الروس بما يغريه على ترك أصدقائه الإنجليز وقلب ظهر المجن لهم،
وإذن
يصبح مركزنا في خطر محقق، إلا أن تأييدنا لسياسة مصر في الفتح لا يمكن أن يسوغه إلا باعث
قهري، ومثل هذا الباعث لا يحتمل على الأرجح أن يتهيأ إلا إذا حدثت أزمة أوروبية عظيمة
ليس
غير. وعلى كلٍّ، فإن مجرى السياسة الإنجليزية بوجه عام لم يكن على التحقيق معارضة عظيمة
لمصر كما توهَّمَ بعض الكتاب، بل لتظل مصر في أنحاء خارجة عن حدود البلاد الطبيعية.
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي كثيرًا ما رمى بعينيه إلى امتلاك أقضية سوريا الأربعة،
وقد
كان يعتقد أن امتلاكها يُؤمِّن أراضيه المصرية ضد غارات الأتراك ويضع في قبضة يده مدينة
القدس إحدى مدن الإسلام المقدسة؛ وبذا يرفع مكانته ويضاعف هيبته في نظر العالم الإسلامي
ويزيد من موارده في المال والرجال كما حسب ذلك وجاءت الحوادث تكذب حسابه. أجل؛ إن امتلاك
هذه الأقضية يعطيه دمشق إحدى المراكز المهمة للثقافة الإسلامية، ثم إنه بذلك يستولي على
مناطق غنية بأخشابها فيوفر على نفسه ابتياع الأخشاب من تريستا بأثمان باهظة، هذا إلى
أن ذلك
يقيم الدليل أمام الملأ على صحة النظرية التي يتشبث بها؛ وهي زوال سلطة الباشا الوالي
وانقراضها وقدرته وحده على تنظيم سلطة تركيا من جديد وردها إلى الشباب بعدما دبت فيها
الشيخوخة ونخر عظامها الهرم.
وكانت الأقضية الأربعة المذكورة في حالة رثة، فقد تغلغلت فيها القلاقل، بحيث لا يضمن
سعاة
البريد أن يجتازوها بسلام.
١٥
فلقد حكمها الباشوات منذ أجيال عديدة ولم يَقُد ميلهم إلى السلب والنهب إلا إلى تحديد
سلطتهم.
وعليه، لم يكن باستطاعة أحد من السكان أن يتظاهر بشيء من اليسار والبذخ، بل كان كل
إنسان
في حالة بؤس أو أنه كان يتظاهر بأنه كذلك.
ثم إن الأهالي مع ما كان بينهم من اختلاف الشيع والأديان كانت الأحقاد والمشاكل المتغلغلة
في نفوسهم تمزقهم كل ممزق؛ فهذه البلاد التي سادت فيها الفوضى كانت مطمع أنظار نائب السلطان
منذ زمن بعيد، فلقد تكلم إلى القنصل الإنجليزي سنة ١٨١٢م عن ميله إلى غزو فلسطين متى
سنحت
الظروف الملائمة.
١٦
ولكنه أقعده عن تنفيذ ذلك العزم وقتئذ ما كان قائمًا في سبيله من المصاعب التي لا
حصر
لها، ولعل أول هذه المصاعب حاجته إلى إنشاء جيش منظم يمكن أن يتخذه عدة صالحة لتنفيذ
غاياته.
ثم لا تَنْسَ إلى جانب تلك العقبة نفوذ السلطان الروحي، وقد كان ينبغي على محمد علي
أن
يحسب له حسابه وبخاصة في السنوات التي كانت الضرورة تقضي بإيقاظ روح التعصب الديني أثناء
الثورة اليونانية.
ولقد قال مرة لصولت في السنة التي وقعت فيها معركة نافارين ما ملخصه: «هذا هو مبلغ
تعصب
الأهالي الديني، غير أنهم ليهجرون الباشا متى كان مغضوبًا عليه من رئيس الكنيسة.» ثم
استطرد
فقال: «فلمقاومة السلطان مقاومة فعالة يجب أن يكون لدى الباشا من القوة ما يضمن له التفاف
الرأي العام حوله وليس هذا بالأمر الهين.»
وقد عزَّزَ هذا الرأي بالمثل الذي أورده عن أحد باشوات كردستان وقد شق عصا الطاعة
فانفضت
من حوله الجنود كما تسقط الرمال من قدم الحاج.
١٧
ولكن عام ١٨٣٠م رأى لمصر جيشًا كبيرًا منظمًا أحسن تنظيم، كما أن ابنه إبراهيم أقام
الدليل على أنه قائد محنك ماضي العزيمة، هذا في حين أن نظام القرعة العسكرية كان يبشر
بأن
يلتحق بالجيش العدد المطلوب من الرجال، ومن جهة أخرى فإن ما نزل بالأتراك من الكوارث
على
أيدي الكفرة سواء في البحر في موقعة نافارين أو في البر أثناء الحرب الروسية كل ذلك قد
نبَّه حتى البلداء من الأتراك إلى أن السلطان محمود لا يصلح بحال ما أن يكون دليلهم إلى
مواطن النصر والفوز. وفي الواقع فإن الإمبراطورية كانت بحيث تكفي رجة عنيفة واحده لأن
تلاشيها تمامًا وتمزق شملها.
وفي الوقت الذي تلاشت فيه المقتضيات السلبية التي كانت في الماضي تصد محمد علي عن
التفكير
في التقدم إلى الأمام ظهر سبب إيجابي جديد؛ ذلك أن الطعم الذي أغرق به الباب العالي محمد
علي للاشتراك في الحرب اليونانية كان وعده إياه بإعطائه أقضية سوريا الأربعة متى انتهت
الحرب المذكورة ووضعت أوزارها، ولكن هذا الوعد وُضِع الآن في الثلاجة بعد أن استعاد خسرو
نفوذه في الباب العالي، وكان نائب السلطان لغاية سنة ١٨٢٧م ما يزال يطالب عبثًا بالفرمانات
الخاصة بتوليته شئون الأقضية المذكورة،
١٨ ثم أدرك محمد علي أنه أضاع أسطوله وعرض جيشه وابنه للخطر والهلاك في غير مقابل،
فاستقر رأيه على أن يحتل سوريا قبل أن يسبقه أحد إلى احتلالها.
ولم تكن تعوزه الحجج اللازمة لتنفيذ ما استقر رأيه عليه؛ فلقد كان الباب العالي طلب
إلى
محمد علي أن يُقدِّم المساعدة لقضم ظهر الفتنة التي كان مصطفى باشا الأشقودة يرلي قد
رفع
رايتها في بلاد الرومللي، فأخذ محمد علي تحت ستار تنفيذ هذا الطلب يعد معداته العسكرية
دون
أن يثير الشكوك في نياته، ولكن لما أبلغها الباب العالي أن مساعدته قد استغنى عنها اقترح
أن
يستخدم قواته المتجمعة في محاربة عبد الله باشا والي عكا لابتزاز أموال التجار المصريين،
١٩ ثم إن هناك سببًا آخر انتحله محمد علي ألا وهو الاستقبال الرديء الذي استقبل به
عبد الله باشا الفلاحين المصريين الذين فروا من القرعة العسكرية وذهبوا إلى عكا، وقد
قِيلَ
إن عدد الفلاحين الذين فروا هكذا في خلال سنة ١٨٣١م قد بلغ نحو ٦٠٠٠، وقد أبى عبد الله
باشا
إعادتهم إلى مصر؛ فأجابه محمد علي بأنه سوف يأتي بنفسه لأخذهم،
٢٠ وفي أكتوبر سنة ١٨٣١م أصدر الأمر إلى جنوده بالزحف على عكا.
ولعل أبلغ مَثَل نُقدِّمه على عجز الباب العالي وقتئذ ووهن نفوذه إذ ذاك هو كيفية
استلامه
اقتراح محمد علي بمحاربة عبد الله باشا، فإن الصدر الأعظم مع علمه بأن استعدادات محمد
علي
إنما يراد بها احتلال الولايات العربية في داخل الإمبراطورية العثمانية — وتحسين إدارتها
وتنظيم شئونها ثم إعلان استقلاله — لم يَرَ وسيلة إزاء ذلك الخطر خيرًا من أن يلفت نظر
عبد
الله باشا بأن يستعمل الكياسة ويتجنَّب كل ما عساه أن يؤدي إلى الاشتباك في الحرب، ثم
إنه
كتب في الوقت نفسه إلى محمد علي كتابًا رقيقًا قال فيه: «إن شكوى بعض التجار لا يمكن
أن
تسوغ تحكيم الحسام وإشعال نار الحرب، وإن ما ينشب من النزاع بين الباشوات المتجاورين
لا
يمكن أن يُسوَّى بإشهار السيف بل بتدخل الباب العالي.»
٢١ ولكن تركيا لم تعمل من ناحيتها استعدادات مطلقًا لدفع الخطر المنتظر.
وحُوصِرت عكا برًّا وبحرًا طبقًا للخطة التي وضعتها القيادة المصرية، ولكن المصريين
فُوجِئوا بمقاومة لم يكونوا يتوقعونها، أما عبد الله باشا فإنْ صحَّ القول بأنه لم يكن
نزيهًا ولا حكيمًا فإنه كان شجاعًا، وهذا بالرغم من أن الحصار في مرحلته الأولى لم تُدبَّر
شئونه بالمهارة اللازمة، ثم بُذِلَت محاولة في اليوم التاسع من شهر ديسمبر للتغلب على
المدينة بإطلاق القنابل من البوارج الحربية ومن البطاريات البرية، ولكن السفن أُصِيبت
بعطب
كبير، بينما كان ما تركته البطاريات البرية من الأثر تافهًا زهيدًا. وبعد مجهودات عدة
في
خلال الأشهر الثلاثة التالية بُذِلَتْ محاولة جديدة للاستيلاء على أسوار المدينة عنوة
وكادت
المحاولة تُكلَّل بالنجاح فإن لفيفًا من المهاجمين قد توغَّلوا حتى وصلوا سوق المدينة،
ولما
لم يجدوا المدد خلفهم اضطروا إلى العودة من حيث أتوا، ومن ثم بدأ مركز إبراهيم يتحرج،
٢٢ وخاصة بعد ما أخذت شراذم من الجنود تتجمع لتخفيف الضغط عن المدينة، وبعدما تشجع
الباب العالي بما رآه من طول دفاع عكا فقرَّرَ شطب اسم محمد علي وإبراهيم من قائمة أسماء
باشوات الإمبراطورية التي تُنشَر سنويًّا في عيد الأضحى، والتي حان موعد نشرها في سنة
١٨٣٢م
في ذلك الوقت، ومن ثم بدأ ينتشر شعور القلق لا في القاهرة وحدها، بل وفي الإسكندرية أيضًا،
وبدأ الناس يتهامسون ضد حكومة نائب السلطان وفي ١٤ مارس، وكذلك في ٢١ و٢٣ منه عثر الناس
بالقُرب من باب زويلة بالقاهرة على جثث ثلاثة أتراك عارية، وقد أُطِيحَتْ رءوسهم حديثًا
وكان اثنان منهما من رجال الجندية والثالث من العلماء، وقد تدلَّتْ من صدورهم رقعة كُتِبَ
عليها: «هذا هو المصير الذي ينتظر كل من يعجز عن ضبط لسانه.»
٢٣ وفي يوم ٢٧ عثروا على جثتين عاريتين مع هذا التحذير «هذا العقاب ينتظر أولئك
الذين يتكلمون ضد الحكومة.»
ويلوح أن جماعة المتذمرين لم يحسبوا حساب جواسيس محمد علي ولا حساب قواد القوات التركية
البعيدين عن المهارة، وبعد حبوط الهجوم الذي قام به إبراهيم على عكا في ٩ مارس قرر أن
يترك
٥٠٠٠ جندي لمواصلة الحصار وزحف ببقية الجيش لتفريق شمل ما جمعه خصومه من القوات؛ فبعد
أن
شتت الجيش التركي المركب من ١٢٠٠٠ جندي بالقرب من حمص عاد إبراهيم لتجديد الهجوم على
عكا.
وفي فجر يوم ٢٧ مايو تولى قيادة الهجوم على المدينة بنفسه، وإذ ذاك نشبت معركة حامية
قيل
بشأنها إن إبراهيم قتل بسيفه بعضًا من الضباط الذين حاولوا التخلف عن إخوانهم المهاجمين،
وما كاد يخيم الظلام حتى كان إبراهيم قد نجح في الاستيلاء على المكان بعد جهود الجبابرة،
وهنالك عمَّت الفوضى ودار السلب والنهب طبقًا لقواعد الحرب كما كانت معروفة إذ ذاك في
بلاد العرب،
٢٤ وقد أعلن عبد الله باشا في كثير من المباهاة: «إنني عندما شرعت في الدفاع عن
عكا كانت لديَّ أسوار ورجال وأموال، فلما استولى عليها إبراهيم كانت الأسوار قد دُكَّت
دكًّا، أما جنودي الذين كان عددهم ٦٠٠٠ فقد طاح منهم ٥٦٠٠ ولم يَبْقَ في خزانتي إلا بعض
جواهر لا تسمن ولا تغني من جوع.» وقد ألقى بحق تبعة هزيمته على الباب العالي بشيء من
مرارة
النفس، فقال: «إن شرفه لأشبه شيء بشرف الراقصات!»
٢٥
وبعد سقوط عكا شرع إبراهيم في الزحف شمالًا مرة أخرى، فدخل دمشق بلا مقاومة في ١٣
يونيو،
وفي يوم ٨ يوليو رأى نفسه يهاجم القوات التركية بالقرب من حمص بدون أن يتوقَّع ذلك، وبعد
معركة قصيرة فرَّقها شذر مذر واستولى على بطارياتها ومخازن الذخيرة والمنقولات، وفي ١٥
يوليو استولى على حلب وفي ٢٩ منه هزم قوة تركية أخرى عند ممر بيلان، وهنا أوقف الأعمال
الحربية مؤقتًا.
وهنا رأى نائبُ السلطان نفسَه أمام طريقين؛ فإما أن يعلن استقلاله ويوالي الزحف ضد
الأتراك الذين اضمحلت قوتهم المعنوية، وبذا يرغم السلطان على الاعتراف بمركزه، وإما أن
يتوقَّف عن الزحف أملًا في أن يحصل بواسطة تدخل الدولة الغربية على التسوية التي يبتغيها،
وكانت لكل من هاتين الخطتين أخطارها العظيمة، فالزحف على الآستانة كما كان يقترح إبراهيم
قد
يحتمل مع الأسف أن يدفع الدول إلى التدخل في مصلحة السلطان. ومن هنا رفض محمد علي ما
اقترحه
إبراهيم من سك العملة باسمه، وأن يكون الدعاء باسمه أيضًا في خطبة الجمعة، وقد صرَّح
محمد
علي بأنه لم يصل إلى منصة الحكم إلا بانتهاج خطة الاعتدال؛ ولذا فهو لا يرضى بتاتًا أن
تُضاف إلى اسمه ألقاب شرف جديدة،
٢٦ وبينما كان إبراهيم يتوهم بما داخَلَه من الزهو بسبب انتصاراته أن كل ما يطلبه
هو وأبوه خليق بأن يتحقق بهزيمة الأتراك، كان أبوه يرى بثاقب نظره أن هناك دولًا أخرى
أشد
بأسًا من تركيا ينبغي أن يُحسَب حسابها إذا ما أُرِيد تثبيت ما أحرزه من النجاح، ولا
ريب في
أن زحف إبراهيم على الآستانة سوف يكون الإشارة الأكيدة لتدخل الدول الأخرى التي سبق أن
تدخلت في اليونان، ومن جهة أخرى فإن وقف الزحف معناه إمهال الأتراك للتغلب على ما نزل
من
الذعر بهم وجمع شتاتهم من جديد لحراسة الطريق المؤدية إلى الآستانة، ولكن الأتراك قد
غُلِبوا مرة على أمرهم، ومن السهل هزيمتهم مرة أخرى. وخلاصة القول أن محمد علي كان يعتبر
الجنود التركية كمًّا مهملًا وعدوًّا لا تُقاس خطورته بخطورة فرنسا أو إنجلترا؛ ولذا
آثر
وقف الزحف وأن يفتح باب المفاوضات.
وفي الواقع كان موقف الدولتين المذكورتين بالنسبة له موقفًا وديًّا، فإن ملكيته لولايته
كانت شديدة الرغبة في رؤية شوكة محمد علي تتضاعف طالما أن ذلك لا يؤدي إلى حدوث رد فعل
عنيف
في الآستانة يكون من ورائه فتح باب تجزئة تركيا قبل الأوان. وعليه، كان نفوذ فرنسا منذ
منتصف عام ١٨٣٢م فصاعدًا يتجه نحو حمل محمد علي بألا يستخذي فيما استولى عليه من البلاد
وأن
يحصر مطامعه في النقطة التي صرَّح بوجوب تسويتها وتحقيقها وأن يؤثر الاتفاق مع الباب
العالي
رأسًا عن مواصلة القتال.
٢٧
ولم تكن خطة الوزارة الإنجليزية مباينة لخطة فرنسا، فإن القنصل العام باركر بسبب
وقوعه
تحت تأثير آراء القناصل في سوريا، حيث سبقت له الخدمة فيها وحيث كان يفهم حق الفهم مزايا
نظام الرشوة والفساد كما كانت في عهد الأتراك، أعلن استهجانه لانتصارات إبراهيم وأبى
أن
يذهب لزيارة محمد علي وتهنئته بمناسبة سقوط عكا،
٢٨ وكان يطيب له أن يُسمَّى محمد علي بعد صدور فرمان الباب العالي بعزله «بنائب
السلطان سابقًا»، أو «بالنائب الثائر»، ولكن موقف باركر لم يكن يترجم بحال ما عن موقف
وزارة
الخارجية بلندن، فإن بالمرستون الذي ارتقى إلى منصب وزير الخارجية وتسلَّم أختامها في
نهاية
١٨٣٠م لم يكتفِ بتوبيخ باركر أشد توبيخ لاجترائه على تعجُّل خطة حكومة جلالة الملك نحو
محمد علي
٢٩ والاندفاع من تلقاء نفسه في سياسة لم يُقرَّها رؤساؤه، بل استبدله بعد قليل
بالكولونيل باتريان كامبل،
٣٠ وهو بلا ريب أقدر مندوبي إنجلترا في مصر في عهد محمد علي وأكثرهم فهمًا لحقائق
الأمور.
ولكيما يستر فتوحاته بستار يجعلها بعيدة عن إثارة الشكوك والانزعاج في نفوس الدول
الغربية؛ فإن نائب السلطان الذي ما برح يُسمِّي نفسه بهذا الاسم مهما تبرأ منه مولاه
راح
يضم أساس مشروع متناقض كان قد سبق أن عرضه على بريطانيا العظمى، هذا المشروع هو أنه ما
زال
في أعماق قلبه خادمًا أمينًا للإمبراطورية العثمانية إن لم يكن للسلطان العثماني نفسه،
وأنه
إنما قام بما قام به لخير الباب العالي ولرفعة مجده، وأنه لا يطمع بحال ما في الاستقلال
أو
الانفصال عن الإمبراطورية، وأنه إذا كان قد فتح سوريا فليس إلا لتوطيد دعائم الحكم التركي،
٣١ ولكن وقد أثبتت التجارب أن السلطان محمود قد أصبح عاجزًا عن قيادة الشعب التركي
إلا في طريق الهزيمة والخسران، ونظرًا لِأَن الديوان قد تملكت من نفسه البغضاء ومن الرجل
الوحيد — ألا وهو محمد علي نفسه — الذي في وسعه إنقاذ الإمبراطورية من الخراب، إذن فقد
أصبح
واجبًا محتمًا عليه بصفته تركيًّا مخلصًا أن يخلع محمودًا من على العرش وأن يجلس مكانه
نجله
الأصغر عبد المجيد، على أن يكون له ديوان يكفل تسيير شئونه في طريق الحكمة والرشاد،
٣٢ وفي شهرَيْ أغسطس وسبتمبر قام محمد علي بتجربة لإلغاء شارة البيادة الوحيدة
للسلطان محمود على مصر، فبحجة أن العملة التركية قد أصابها التدهور منذ سنوات عديدة،
وأنها
آخذة في الاضمحلال المستمر، بحيث تسير من سيئ إلى أسوأ فقد أمر محمد علي بأن يقف التعامل
بها في كافة أنحاء مصر؛ وذلك لمنع حلولها محل العملة الأوروبية والمصرية المتداولة في
البلاد. ولم تكن لهذه التجربة أي صلة بالقانون المشهور الذي وضعه جريشام، وفي الحق كانت
محاولة محمد علي هذه محاولة تدل على منتهى الذكاء؛ فقد تَمكَّن تحت ستار الإصلاح الاقتصادي
من أن يعلن للشعب المصري أنهم لم يعودوا يحكمون باسم السلطان محمود.
كانت المباحثات في الوقت نفسه متواصلة بين الإسكندرية والآستانة؛ فإن السلطان قد
بعث
مندوبين في نهاية عام ١٨٣١م إلى القُطْر المصري حيث استُقبِلوا بكافة مظاهر الحفاوة
والتبجيل، ولكن المباحثات نفسها استمرت طيلة الشهرين التاليين، ولم تسفر عن شيء ثابت
سوى
الدخان المتصاعد من الجبلين اللذين ظل الرجلان يتسليان بتدخينه يومًا بعد يوم في قصر
نائب
السلطان، ثم دارت المفاوضات بطريقة غير مباشرة بواسطة قبطان باشا التركي. وفي شهر سبتمبر
أبلغ محمد علي المستر باركر أنه لم يتسلَّم ردًّا شافيًا، وأنه لم يبقَ أمامه إلا مواصلة
الزحف على الآستانة، وأنه قد وصلته أنباء سرية بأنه «لا يوجد الآن ما يَعُوقني أن أفعل
هذا.»
٣٣ على أنه كان برغم ذلك على استعداد لِأَنْ يفتح باب المفاوضة في شهر نوفمبر مع
أي رسول يَرُوق للسلطان أن يرسله إلى الإسكندرية.
٣٤
وأرسل يوصي ابنه إبراهيم بألا يعلن انتهاء حكم السلطان في سوريا ما لم يحصل أولًا
على
فتوى من رجال الشرع المحليين بأن السلطان محمود قد خُلِع لعدم لياقته للحكم.
٣٥
على أن السلطان كان تحت ستار هذه المحاولات يُعِد العدة لبذل مجهود نهائي لطرد قوات
الوالي الثائر من سوريا. وفي الواقع لم تكن مفاوضاته إلا ذرًّا للرماد في عينَي العدو
لتخدير أعصابه وليلهينه عن مواصلة الزحف على الآستانة أو مضاعفة قواته ريثما تتم
الاستعدادات التركية.
أما إبراهيم فكان قد وصل بجيشه شمالًا إلى قونية، حيث اضطر لوقف الزحف بسبب تخوُّف
أبيه
من أن تؤدِّي مواصلة الزحف إلى تدخل الدول الغربية، وفي نهاية سنة ١٨٣٢م تولَّى رشيد
محمود
باشا الصدر الأعظم بنفسه القيادة ضد إبراهيم.
وكان الجيش التركي كثيرَ العدد تسنده وحدات قوية من البوسنة وألبانيا، وفي ٢١ ديسمبر
التحم الجيشان بالقرب من قونية فلم تلبث الخيالة التركية أن غادرت المعمعة، بينما المشاة
قد
سُمِح لهم بالهجوم إلى أن تبيَّنوا فجأة أنهم بين نارين وقد هُزِموا شر هزيمة، ووقع الصدر
الأعظم نفسه في الأسر، ومن ثمَّ صارت الطريق إلى الآستانة مفتوحة ولا مدافع عنها، فاستقر
رأي إبراهيم على مواصلة الزحف فورًا على أمل مواجهة أوروبا بالأمر الواقع وهو خلع السلطان،
ولكنه تلقَّى في قوتاهية كتابًا من أبيه يأمره بالتوقف أينما كان.
وقد كان هذا القرار بناء على التدخل الأوروبي الذي كان يخشاه محمد علي منذ زمن، فإن
الإشاعات راجت في ١٢ يناير سنة ١٨٣٣م ووصلت إلى إسكندرية بأن الأتراك قد قبلوا المحالفة
التي عرضتها روسيا عليهم،
٣٦ وكانت هذه الإشاعات سابقة في الواقع لأوانها؛ ذلك لأن قيصر الروسيا وإن كان قد
عرض فعلًا على السلطان أن يعضده ببعض قواته العسكرية المسلحة ضد محمد علي إلا أن العرض
لم
يكن قُبِل فعلًا، ولكن لم تمر سوى أيام قلائل حتى وصل إلى الآستانة أحد الضباط الروس
ألا
وهو اللبوتونانت جنرال مورافييف يحمل تعليمات بأن يذهب رأسًا إلى الإسكندرية ليطلب إلى
نائب
السلطان أن يَكُفَّ عن زحفه ضد تركيا، فوصل إلى الإسكندرية في يوم ١٣ يناير، وفي صباح
اليوم
التالي حَظِيَ بمقابلة نائب السلطان مقابلة قصيرة، ولم يقدم الجنرال إلى محمد علي مستندات
رسمية من أي نوع، ومن ثم أُذِيعَ أنه جاء كوسيط في الصلح، ولكن كان السائد على الأفهام
أن
مهمته تنحصر في مطالبة محمد علي بالانسحاب من كرامانيا وسوريا، وأن يسلم أسطوله إلى السلطان
وأن يخفض جيشه إلى ٢٠٠٠٠، وبعد يومين، وكذلك في يوم ١٨ يناير حظي بمقابلة نائب السلطان
وحادثه مليًّا وكان حديثهما سريًّا، وقد أذعن محمد علي ووعد بأن يقدم خضوعه للسلطان،
وأن
يقف القتال كدليل على حسن نيته.
٣٧
وكان الديوان التركي يتطلع بطبيعة الحال في تلك الساعات العصيبة إلى معونة إنجلترا
بصفتها
حليفته التقليدية لا إلى روسيا عدوته اللدودة القديمة، ولهذه الغاية أرسل إلى لندن رسولًا
خاصًّا للحصول على مساعدة بعض البوارج البريطانية، ولكن بالمرستون لم يكن على استعداد
للتورُّط في عمل معين من هذا القبيل، فرفض وترتَّبَ على هذا الرفض أن السلطان محمود قرر
برغم إرادته أن يتفق رأسًا مع نائبه الثائر، ومن ثم وصل إلى الإسكندرية في ٢١ يناير خليل
قبطان باشا يحمل اقتراحات لعقد الصلح.
وكانت مقابلة نائب السلطان للقبطان باشا محاطة بكافة مظاهر التبجيل والأبهة؛ فلقد
تقدم
ضابطان من كبار ضباط محمد علي من القبطان باشا وتأبَّطا ذراعيه لمساعدته على ارتقاء درج
قصر
رأس التين، أما محمد علي نفسه فقد نزل إلى نصف الدرج لاستقبال زائره ولم يسمح له بتقبيل
يده، بل عانقه وقَبَّل وجنتيه. ومن هناك قصدا إلى حجرة الاستقبال، ويد كلٍّ منهما في
يد
الآخر، بينما طوَّق خليل باشا بذراعه الطليق وسط الباشا الهائل، ولما استقر بهما المقام
جلس
خليل باشا راكعًا على ركبتيه مبالغة في الاحترام، وكانت هذه الرسميات بمثابة تمهيد طبيعي
لما سيعقبها من محادثات طويلة مملة وبعيدة عن الإخلاص.
ونتساءل هنا: ماذا عسى كان محمد علي يطمح إلى نيله من شروط الصلح، لقد كتب إليه إبراهيم
من معسكره في كوتاهية يقترح عليه سلسلة مطالب، وقد ذكر في رأسها الاستقلال باعتباره «مسألة
جوهرية بالنسبة لنا تَفُوق في أهميتها كافة المسائل الأخرى.» ثم طلب ضم الأناضول وكليكية؛
نظرًا لما فيهما من الخشب اللازم لمصر والذي لا بد لها من ابتياعه من الخارج إذا أصرَّتْ
على الاحتفاظ بأسطولها، وطلب في النهاية جزيرة قبرص كقاعدة صالحة للأسطول، أما بغداد
فقد
كانت في نظره قليلة الأهمية، ثم إنها بعيدة وفقيرة.
٣٨
وقد كانت هذه الطلبات مرغوبًا فيها من وجهة النظر المصرية، ولكن كان بديهيًّا أن هذه
لا
يمكن أن يطالب بها إلا الفريق الغالب أو بعبارة أخرى لا يمكن تحقيقها إلا بتوفير القوة
المتفوقة، ولم يكن ثمة من سبب يحمل أوروبا على الموافقة على مطالب كهذه؛ إذ تبيَّن لها
أنها
غير مرغوب فيها من الناحية السياسية.
وللمقارنة النافعة بوجهة نظر إبراهيم هذه نذكر تلك التعليمات التي بعث بها بالمرستون
في
الوقت نفسه إلى الكولونيل كامبل؛ فقد كتب يقول: «إن حكومة جلالة الملك تُعلِّق أكبر أهمية
على صيانة أملاك الإمبراطورية العثمانية؛ لأنها تعتبر أن سلامة تلك الدولة عنصر أساسي
في
التوازن الدولي في أوروبا. فمن رأيها أن كل انتقاص خطير من الأملاك الآسيوية التابعة
للسلطان، وما يترتب على ذلك من الموارد التي لا غنى عنها لجلالته؛ مما يكفل الدفاع عن
أملاكه في أوروبا، من رأيها أن ذلك كله لا بد أن يؤثِّر بالنسبة عَيْنِها في موقفه إزاء
الدول المجاورة لها، وهو ما لا بد أن تكون له عواقب ضارة خطيرة على مصالح أوروبا العامة؛
ولذا ترى حكومة جلالة الملك أن ليس من المهم أن تَحُول دون تمزيق أوصال الإمبراطورية
العثمانية فقط، بل أن تعارض حتى في فصل بعض ممتلكاتها، وكان من المستحيل بداهة إعادة
الحال
إلى ما كانت عليه؛ ولذا كان خير حل للإشكال أن تعطي سوريا لمحمد علي في مقابل شروط خاصة
بالحربية والتجنيد مما يترك موارد الباب العالي كاملة غير منقوصة.»
٣٩
أما الحقيقة التي لا مراء فيها؛ فهي أن عجلة إبراهيم واعتماده على الحسام برغم تجاربه
القاسية في المورة كانا سببًا في انقلاب الأمور عليه وترجيح كفة الميزان ضد ما كان يجيش
في
صدره وصدر أبيه من المطامع الكبيرة؛ لأن الآستانة عندما سمعت باعتزامه الزحف عليها على
أثر
إرسال خليل باشا إلى الإسكندرية وقعت في حيرة وأدركها الهلع الحقيقي الذي لا يرى فيه
الإنسان أي مبالغة، فلم يكن هناك جيش تركي منظم يصد إبراهيم عن الزحف، بل كل ما كان هناك
هو
الوحدات المهشمة التي بقيت بعد اندحار جيش رشيد باشا للصدر الأعظم؛ لذلك خِيفَ طبعًا
أن
يؤدي زحف إبراهيم إلى إيقاظ الفتنة النائمة، ومن ثَم يساعد أعوان محمد علي على توسيع
الخرق
إلى أن تعم الفتنة العمياء، فتحرق الأخضر واليابس، فيتمزق شمل الإمبراطورية ويتزلزل العرش
وتسقط الوزارة، وقد يكون نصيب الوزراء في ذلك الانقلاب أن يعجل إبراهيم منيتهم؛ لهذا
ولَّى
الوزراء في هلعهم وجوههم شطر الروسيا التي كانت عرضت قبلًا مساعدتها العسكرية؛ فتوسلوا
إليها أن ترسل على الأقل ٢٠٠٠٠ جندي لإنقاذ الآستانة فلبَّتْ روسيا الرجاء، وهي أشد ما
تكون
فرحًا واغتباطًا، وحتى بعد أن عاد موزاييف من الإسكندرية وهو يحمل البشرى بأنَّ زَحْفَ
إبراهيم قد وقف، وحتى بعد أن أكَّد مندوبا إنجلترا وفرنسا للباب العالي بأن المعونة
العسكرية لم يَعُدْ لها معنى أو حاجة؛ فإن الباب العالي ما زال رافضًا سَحْبَ توسُّله
إلى
روسيا، وكانت النتيجة أن جيش روسيا بدأ يعسكر على ضفة البسفور الآسيوية.
وفي الواقع أن إبراهيم ارتكب شططًا كبيرًا بعمله هذا؛ فإنه لم يقتصر على إثارة روسيا
وحدها، بل أثار الدول الغربية على بكرة أبيها، فبعد أن كانت طيلة المراحل الأولية في
الحرب
السورية واقفة موقف المتفرج ترقب مجرى الحوادث دون أن تحاول التأثير فيها رأت نفسها الآن
مضطرة إلى التدخل بعد أن لم يَعُد منه مناص، وقد رأت الدول المذكورة أن لا مفر من موضع
نهاية لهذه الحرب السورية لتبديد مخاوف الآستانة أولًا، وللتخلص من الرُّوس بأسرع ما
يمكن
ثانيًا، ولوقاية الأتراك إذا سمح القدر من مغبة العواقب الناشئة عن سوء تصرفاتهم ثالثًا.
وذلك خوفًا من أن يؤدي تمزيق إمبراطوريتهم إلى إشعال النار في أوروبا.
وعبثًا حاول محمد علي أن يُصلِح زلة ابنه بإحياء مشروعه القديم؛ وهو تجنيد الإمبراطورية
وبعثها من موتها عن طريق الثورة، ولم يخطر له أن ينادي باستقلاله، لا بل أكَّد لكامبل
أن
إنجلترا وفرنسا بتقديمهما المساعدة له إنما يؤيدان السلطان في الواقع بأحسن وسيلة فعالة
مستطاعة.
٤٠
وقد جاء في المذكرة التي دفع بها إلى كامبل «أن التأمل الهائل والنظر الثاقب يدلان
على أن
الحكم التركي قد نخره السوس من كل جانب، وأن قواعده قد أصبحت عرضة للانهيار، وأن موارده
المادية والأدبية قد نفذت، وأن الأمة قد أشاحت بوجهها عنه وأصبحت تزدريه.»
٤١ لا بل إنَّ سُمعتَه انحطَّتْ في نظر أهالي الآستانة أنفسهم، وأصبحوا يشكون فيه
ويرتابون؛ لأنه لم يَعُد يستطيع حماية نفسه ولا حماية الأمة، وبالجملة فإنه قد ترك نفسه
ألعوبة في يد الأقدار وأصبح فريسة جاهزة في براثن روسيا،
٤٢ ولكن مزاعم الباشا — وإن كانت في الواقع لم تَعُد الحقيقة كما كانت تعرفها
أوروبا المعاصرة — إلا أن الساسة في الغرب لم يكونوا ميالين إلى التسليم بأن محمد علي
هو
الشخص الوحيد الذي يستطيع بَعْثَ الإمبراطورية العثمانية من موتها — بل إن الأمم الأوروبية
قد تبادر بتقديم المعونة اللازمة للسلطان؛ لأن الاحتفاظ به دون أن يلحق به كبير ضرر قد
خُيِّل إليها أنه أعود بالفائدة وأكفل بتحقيق المراد من حيث إقصاء الروس وإبعادهم عن
ذلك
الموقف الغريب الذي لا نظير له في الماضي، وهو تظاهرهم بشد أزر الأتراك؛ هذا أكفل لتحقيق
المرغوب من كافة ما لدى إبراهيم من القوات والعتاد.
ونظرية أخرى حاول الباشا التشبث بها، وهي بمبدأ تقرير المصير «كما ينبغي أن نسمِّيه
اليوم»، وهذا لعمرك من الأمثلة اللطيفة على السهولة الكاذبة التي يُستطاع بواسطتها تسخير
المبادئ السياسية المعروفة في الغرب في شهر أعمال تختلف كل الاختلاف من حيث الجوهر؛ فلقد
زعم محمد علي أنه إنما فعل ما فعل باسم أئمة «الإسلام» ولتبرير هذه الدعوى لفت نظر ابنه
إبراهيم إلى ضرورة الحصول على فتاوى من علماء سوريا بأن السلطان محمود عُزِل أو ينبغي
عزله؛
لأنه غير أهل للحكم.
وقد أجاب إبراهيم على ذلك بأن بيَّن له أن من خطل الرأي أن يتوقع موافقة علماء دمشق
على
رفض سيادة السلطان قبل أن تصبح هذه السيادة لشخص آخر يحل محله ويدعم حقه فيها بالقوة.
ومن
ثم نشأت صعوبة أخرى عن وجود قناصل للدول الأجنبية في كافة أنحاء سوريا، وألَّا سبيل للحصول
على الفتاوى المذكورة دون أن تردد الألسنة ذكر الوسائل التي لا يمكن الحصول على الفتاوى
المذكورة بدونها، على أن ما لم يمكن الحصول عليه في سوريا بدون فضيحة وما بُذِل في سبيله
من
استعمال الرشوة والضغط يمكن طبعًا أن يُقال عن الجهات النائية التي لم يكن للدول قناصل
فيها، وقد ظهر تصريح منسوب إلى جماعة من الأكراد الضاربين على شواطئ البحر الأسود، وقد
نقضوا ولاءهم للسلطان ونادوا بدخولهم تحت حكم باشا مصر، وكان من المدهش حقًّا كما لاحظ
ذلك
قنصل فرنسا الجنرال أن يصدر مثل ذلك التصريح من ولاية لا يستطيع محمد علي أن يحميها ضد
أعوان السلطان في الوقت الحاضر على كل حال، وأن يتمكَّن واضعو التصريح من السفر عن طريق
أنقرة دون أن يلحقهم أذى أو ضرر.
٤٣
على أن أمثال هذه النظريات لم يكن لها تأثير قائم أمام الأوروبيين؛ فلقد كان في وسع
الباشا أن يزعم بأنه موضع العطف العام بقدر ما كانت أوروبا تعطف على البلجيك أو اليونان،
ولكن عباراته الساحرة ولسانه الجذاب لم يكن ليخفي عن الناس هذه الحقيقة، وهي أن الباشا
كان
يعمل في الواقع لحساب نفسه؛ وذلك لأنه لم يكن يمثل أمة معينة تكافح من أجل حريتها، ثم
إن
تفوُّقه على تركيا من الوجهة العسكرية لا يجعله محلًّا لأي عطف خاص، فإذا كانت له دعوى
—
إذا صحَّ أن نسميها بهذا الاسم — فمرجعها إلى تفوُّق النظام وضمانة العدالة واطراد الأحوال
في بلاده، وهي أمور ربما استطاع إدخالها في فتوحاته الجديدة كما أدخلها في مصر من قبل،
وحتى
لو تمكَّن من ذلك ألم يكن في استطاعة الساسة الغربيين — ما دامت إدارته سوف تكون شرقية
حتمًا — أن يجدوا دائمًا فرصًا عديدة للتجريح والتشكيك … إذن فالضرورة السياسية كانت
الوجهة
الوحيدة التي يمكن من ناحيتها بحث الموضوع في كل من باريس ولندن.
واتحدت على الأقل وجهتا النظر الفرنسية والإنجليزية اتحادًا تامًّا، لا على ضرورة
إقصاء
ذلك النفوذ الروسي الذي ظهر فجأة على ضفاف البوسفور، بل وعلى ضرورة وقف زحف إبراهيم الذي
ولَّدَ في قلب الباب العالي ذعرًا خارجًا عن حد المألوف، ومن ثم طلبتا إلى محمد علي
الانسحاب من آسيا الصغرى، بل وذهبتا إلى أبعد من ذلك بأن هددتاه في حالة عدم الإذعان
بضرب
الحصار على الإسكندرية.
٤٤
على أنه بينما كان بالمرستون معارضًا كل المعارضة في أي تغيير في مركز الباشا من
حيث
تبعيته الصورية لتركيا؛ فإن الفرنسيين كانوا على العكس ميالين لمداعبة فكرة الاعتراف
به
حاكمًا مستقلًّا يومًا ما على شاكلة الباي في ولايات البربر على أمل التوصل إلى حمله
يومًا
ما على قبول شروط غير مقبولة لديه بدون إبداء كثير من الغضاضة، بل لقد أرسلت مندوبًا
إلى
الإسكندرية وهو خطأ جعل ممثل النمسا يتساءل عن مركز ذلك المندوب وفي أي بلاط يمثل الدولة
التي أرسلته، وإذ ذاك اضطر قنصل فرنسا الجنرال إلى التصريح بأنه لا يختلف مركزه عن مركز
مندوب موفد بمهمة خاصة.
٤٥
وهكذا بينما كانت الدول الغربية تسعى إلى التحايل على نائب السلطان أو تهديده لحمله
على
سحب جنوده إذا بالباب العالي يسلم فجأة بمطالب محمد علي إلى حد أنه منحه جزيرة كريت
والأربعة ألوية السورية محتفظًا فقط بإقليم أطنة. وقد وردت الأنباء بهذا في يوم ١٦ أبريل،
واستقبل رسول السلطان في مصر قنصلَيْ إنجلترا وفرنسا الجنرالين، وما كاد ينتهي رسول السلطان
من تبليغ ما يحمله من التعليمات الخاصة بتنازل الباب العالي عن الألوية المذكورة حتى
«نهض
الباشا وعَيْناه مغرورقتان بدموع الفرح، ثم خرج عن كل ما له علاقة بالوقار التركي وضحك
ضحكة هستيرية.»
٤٦ ولا ريب في أنه اعتقد أن هذا التسليم علامة على أن الباب العالي قد تولَّاه
الضعف، وأنه لا بد من أن يسلم بأطنة أيضًا بعد قليل من الزمن، ولكن فرنسا وإنجلترا والنمسا
ما فتئت تلح على محمد علي بضرورة التسليم والإذعان، وأخيرًا أعلن على رءوس الأشهاد «أنه
على
أتم استعداد للعدول عن المطالبة بحكم أطنة، وأن يقطع فوق ذلك عهدًا لكافة الدول العظمى
بأن
يظل إلى الأبد الخادم المطيع للباب العالي، وألا يعكر مزاج مولاه بحال ما بشرط أن يعلن
الباب العالي من ناحيته أمام مندوبي الدول بألا يحاول مطلقًا أن يسحب الحقوق التي سبق
منحها
له أي لمحمد علي.»
٤٧
وبعد أيام قلائل صرَّح محمد علي أمام «المندوب الخاص» الفرنسي بنفس الروح السابقة،
فقال:
«أنا رجل مسالم لا يرمي إلى غرض آخر سوى أن يُكرِّس بقية أيامه في سبيل سعادة البلاد
التي
حكمها الآن، إنهم يطلبون برهانًا على أن هذه نياتي، وإني أقدم لهم البرهان بأن أتوسَّل
إلى
أوروبا أن تحمي تركيا من أي اعتداء يأتي من ناحيتي، وأن تحميني في الوقت نفسه من أي اعتداء
يأتي من ناحية تركيا.»
٤٨
وقد دارت هذه المفاوضات بكثير من الفتور، ولكنها كانت بمثابة فرصة ثمينة سنحت للباشا
لإظهار نياته والتصريح بآرائه؛ لأن الباب العالي قرَّر في يوم ٣ مايو التنازل عن أطنة
أيضًا. وهكذا سُوِّيَتْ كافة المسائل المختلف عليها اللهم إلا مقدار الجزية التي يدفعها
الباشا عن الولايات التي تنازلت له تركيا عنها، ولكن الاتفاق قد تمَّ في سبتمبر التالي
على
هذه المسألة أيضًا، وهو يتلخص في أن يدفع الباشا ٣٠٠٠٠ كيس سنويًّا عن مصر وأطنة وسوريا
وطورسوس.
٤٩
وهكذا وضعت الحرب السورية أوزارها دون أن تعود على أحد بفائدة؛ فالسلطان قد خرج منها
بعار
الهزيمة على أيدي أحد باشواته الثائرين، بينما لم يُحقِّق محمد علي أحلامه لا من حيث
الاستقلال ولا من حيث المركز الممتاز في البلاط العثماني. وبينما كانت الدول الغربية
حانقة
على انتصارات إبراهيم التي فتحت ثغرة نفذ منها الجنود الروس كانت روسيا نفسها متألمة؛
لأنها
لم توطد أقدامها كما ينبغي على ضفاف البسفور، على أن روسيا على كل حال لم تنسحب إلا بعد
أن
نالت بمقتضى بند سري وارد في معاهدة «أونهكيار يوكليس» المعقودة في ٨ يوليو الحقَّ في
إقفال
بوغاز الدردنيل في وجه البوارج الأجنبية، ولعل هذا على الأرجح هو السر في ذلك التشكك
الغريب
الذي كان بالمرستون ينظر به إلى سياسة محمد علي. وحتى قبل توقيع المعاهدة المذكورة كان
بلمرستون غيرَ ميَّال لمشروعات محمد علي، وإن لم يكن شديد المعارضة فيها. وفي هذا الصدد
كتب
بالمرستون يقول: «إن غاية محمد علي الحقيقية ترمي إلى إنشاء مملكة عربية تضم كافة البلاد
التي تتكلم العربية، وقد لا يكون هناك وجه للخطر من تحقيق هذا المشروع في حد ذاته، ولكن
لما
كان تحقيقه يتضمن تمزيق شمل تركيا ولم يَبْقَ لنا مناص من معارضته، ومن جهة أخرى لا فرق
بين
أن تضع تركيا يدها على طريق الهند وبين أن تكون تلك الطريق في يد ملك عربي قوي.»
٥٠ وهذه الخطة طبيعية حيال الأحلام التي كانت تجيش في صدر رجل كانت مطامعه سببًا
في إثارة مسألة من أعقد المسائل الأوروبية في شكلها الحاد. وهكذا أصبح من غير المحتمل
أن
يتم ذلك التعاون في المستقبل بين إنجلترا ومصر — وهو ما كان يطمح إليه الباشا — بسبب
ضعف
تركيا أو بسبب ما بين الدول الأوروبية من التنافس. وليس من ريب أن التمسك بأي مبدأ سياسي
كالمطالبة بالاستقلال الوطني أو بإحلال الحرية السياسية محل الظلم والاستبداد — نقول:
لا
ريب في أن شيئًا من هذا القبيل يصلح لِأَنْ يتخذه قاعدة لإثارة القلاقل السياسية، ويمكن
على
الأقل أن يُستخدَم في اكتساب العطف العام من الشعوب الأخرى — ولكن مجرد المطالبة بإحلال
حكم
أوتوقراطي صالح محل آخر فاسد لم يكفِ لإثارة أي عاطفة في صدر حزب الأحرار — ومما يدعو
إلى
الأسف حقًّا أن عملية الإصلاح التي بدأها محمد علي وما ترتب من النتائج الحسنة على الحكم
الفردي الجاف المنظم وقدرته على أن يدخل في شعب كالشعب المصري مركب من عناصر غير متجانسة،
وذلك الشعور المشترك الذي لا سبيل للوطنية بدونه، لا بل إن عوامل التمدين التي كانت تتجلى
تدريجيًّا في إدارته نقول إن مما يدعو إلى الأسف أن ذلك كله قد تُنُوسِيَ فيما كانت
تُردِّده الألسن عن قسوة نظام الجندية الإجباري والشدة التي كانت تتجلى في عقوباته والإرهاق
الذي ظهر أثره في امتيازاته، ولا ينبغي ألا نتنحى باللائمة الشديدة على بالمرستون؛ إذ
لم
يكن قد فهم حق الفهم أهمية حكم محمد علي الذي لم يكن في رأيه سوى الرجل الذي كادت مطامعه
البعيدة أن تُثبِّت تقدُّم الرُّوس في مركز خطير على ضفاف البوسفور.