الفصل الخامس
فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
كان بالمرستون — على نحو ما مرَّ بك — هو الذي عزا إلى محمد علي فكرةَ إنشاء «إمبراطورية
عربية» تضم شمل كافة الأصقاع التي تنطق بالعربية. ومثل هذه الرغبة كان بديهيًّا أن تجيش
في
صدر نائب السلطان؛ فإن فتح سوريا بعد أن دانت له الأمور في مصر والحجاز والسودان لم يترك
أمامه ما يستحق الذِّكر من العقبات في سبيل تحقيق تلك الرغبة؛ إذ لم يَبْقَ لإتمام ذلك
التوسع الإقليمي إلا أن يحتل الطرق والخليج الفارسي وجنوبي بلاد العرب. وبديهي أن قطرًا
من
تلك الأقطار لم يكن مغريًا من الناحية الاقتصادية، اللهم إلا إذا استثنينا مصايد اللؤلؤ
في
جزيرة البحرين في أنها من الناحية العسكرية آهلة بقبائل رحالة أو شبه رحالة لن ترضى بسهولة
عن إنشاء حكومة نظامية، وخاصة إذا كانت مصحوبة بفرض ضرائب مقررة وسن قانون للخدمة العسكرية
الإجبارية. ولكن هذه الأصقاع إذا لم تكن قيمتها كبيرة إلا أن احتلالها كان له من الناحية
الأخرى مزايا معينة؛ لأن احتلال الطرق يجعل أملاك نائب السلطان متاخمة لإيران، ثم إنه
بواسطة إيران يصبح قريبًا من أواسط آسيا، أما احتلال جنوبي بلاد العرب فإنه يكفل له السيادة
على البحر الأحمر من ناحية والخليج الفارسي من الناحية الأخرى، ولهما ما لهما من المزايا
العسكرية في جميع الأزمان والعصور بحيث إنه قد يستطيع أن يحظر على العمارات البحرية
الإنجليزية الموجودة في الشرق المرور فيهما.
وبالجملة فإن ذلك التوسع وإن لم يؤدِّ إلى زيادة موارد محمد علي المادية زيادة تُذكَر،
قد
يضاعف كثيرًا من نفوذه السياسي ويزيد هيبته، وكان يعتقد — وبحق — أن جنوبي بلاد العرب
لن
يمكن أن تثبت طويلًا أمام قوة منظمة، وأن بغداد على الأكثر لن تبدي مقاومة ما؛ لأن الحالة
العامة في الأقاليم كانت حالة تعاسة وبؤس لا نظير لهما. وقد كتب الكولونيل تيلور وكيل
شركة
الهند الشرقية بهذه المناسبة يقول: «إن الأهالي من فرط بؤسهم يتطلعون إلى إبراهيم.»
١ أما تُجَّار بغداد فإنهم لا يرون حدًّا لأطماع الحكومة التركية وميلها إلى
السلب والنهب إلا تخوُّفها من وصول الجنود من الهند، وقد استهجنوا قرار بالمرستون بمنع
ضم
إقليمهم إلى ما أصبحوا فعلًا يسمونه «بالخلافة المصرية».
٢
وفي الواقع لو استطاع محمد علي أن ينادي باستقلاله لإحياء الخلافة المصرية من جديد؛
فإنه
كان يشرف على إدارة الحجاز، وهو المكلَّف بحمايته ضد المطامع الخارجية. ومهما كان شأن
ما
حاكه رجال الدين من ضروب الخبث والدهاء حول مركز الخليفة الديني؛ فإن الجمهور كان يعتقد
أن
خلافة السلطان لن يمكن أن تظل طويلًا بعد أن أفلتت منه سلطته الاسمية على مكة والمدينة؛
فالسلطان — كما كتب إبراهيم إلى أبيه — لا يمكن أن يُذكَر اسمه بعد اليوم في خطبة الجمعة
أو
يُشار إليه باعتباره خادم الحرمين،
٣ وحتى قبل نشوب الحرب السورية رددت الألسن في مصر أن شريف مكة على وشك أن يذيع
منشورًا بأن «من يملك الكعبة ويذود عنها هو الذي يصح أن يُسمَّى بحق حامي حمى الملة المحمدية.»
٤
ثم إلى جانب الاستيلاء على الحجاز قد كانت لمحمد علي السيطرة على مركز خطير آخر من
مراكز
النفوذ في العالم الإسلامي وهو القاهرة؛ لأن مكة وإن كانت تُعتبَر مهد الدين الإسلامي
من
الناحية الروحية إلا أنها لم تكن مركزًا للثقافة أو العلم الإسلامي؛ فلم يكن فيها مدارس
تُذكَر ولا مكاتب كبيرة يلجأ إليها طالب العلم، بل لم يكن فيها مكان واحد لبيع الكتب
أو
تجليدها. نعم؛ لقد كانت المحاضرات تُلقَى في المسجد الأعظم، ولكن لم يكن يُلقِيها أحد
من
علماء الإسلام الأعلام … هذا فضلًا عن أن القليلين الذين حضروا لاستماعها لم يخرجوا عن
كونهم شرذمة من جهلاء الهنود والمالاي والعبيد.
٥
ولكن القاهرة ودمشق كانتا وقتئذ قاعدتَي الثقافة الإسلامية، وقد كانت المدينتان في
قبضة
محمد علي، وهذا ما جعل له أهميته خاصة في العالم الإسلامي، فلو أنه استطاع ترقية هاتين
المدينتين وجعلهما مركزًا للثقافة العربية لا للثقافة الإسلامية فحسب، ولو أنه جعل نفسه
محاميًا للقضية العربية ضد القضية التركية؛ نقول: لو أنه فعل ذلك لتوصل إلى إيجاد روابط
للاتحاد بين البلاد التي يحكمها أقوى بكثير من روابط الخضوع لسيد مشترك.
ولقد وجَّهَ بعضهم إلى محمد علي قوارص اللوم على تهاونه في تحقيق هذه الفكرة، ولكن
صاحب
ذلك الانتقاد تناسى بعض العوامل الرئيسية في الحالة العامة كما كانت وقتذاك؛ فإن الإسلام
كدين من الأديان لم يشجع مطلقًا على ظهور القومية أو العنصرية؛ فإن صفته العامة قد أضعفت
بدلًا من أن تتقوَّى ما بين الأجناس من اختلاف في الثقافة مما كان يمكن أن يتحوَّل يومًا
ما
إلى خلال وطنية. ومما يلفت النظر حقًّا أن الحكام الوطنيين — حتى بعد مرور قرن بأكمله
لعبت
فيه الآراء والأفكار الغربية دورها — كانوا يشعرون بما تقيمه أمامهم تعاليم الدين الإسلامي
من العقبات بسبب غاياته العامة التي لا حصر لها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فلم تكن
بين
الأمم العربية إذ ذاك روابط مشتركة عدا رابطة اللغة ورابطة الخضوع لسيد واحد؛ فالسوري
والمصري والعربي المتنقِّل والفلاح والعلماء والكافة، كل أولئك كانوا منقسمين فيما بينهم
بسبب العادة والتقاليد أو الآراء المحلية إلى حد أنهم لم يكونوا ميالين إلى التسليم برابطة
أخرى غير رابطة الدين، وهذا ما جعل محمد علي يظهر بمظهر المدافع عن الأمة الإسلامية بدلًا
من الأمة العربية التي لم يمكنه حتى التفكير فيها، وهذه حقيقة اقتنع بها إبراهيم؛ فقد
تبيَّن له أن الخلافات بين السوريين والمصريين أكبر وأشد من أن تجمع الفريقين في صعيد
واحد
أو تجعلهم أمة واحدة.
أما محمد علي فكان يرى أن أهمية البلاد التي تتكلم العربية تنحصر في مزاياها العسكرية
لا
فيما يمكن أن تؤدي إليه من احتمالات لم يكن يمكن التفكير فيها أو تصوُّرها في عهده.
ففكرة الوطنية العربية لم تتولد وتظهر على المسرح السياسي إلا في أيامنا، ويرجع الفضل
في
ظهورها إلى ازدياد النفوذ الغربي وانتشار التعليم ووجود الصحافة الشعبية، وفوق هذا كله
إلى
سهولة طرق المواصلات.
فلم تكن فكرته متجهة إذن إلى إنشاء وحدة عربية داخل دائرة الإسلام، بل أن يصبح زعيم
الإسلام الأشهر المشار إليه بالبنان، وأن ينادي به الناس كإمام لهم. ولكن تحقيق هذه الفكرة
كان يقتضي إما خلع السلطان وتمزيق أملاكه أو قلب الديوان في الآستانة رأسًا على عقب وإحلال
نفوذ محمد علي محل نفوذ خسرو باشا. أما موقفه فإنه كان دائمًا غامضًا، وقد أصبح الآن
أشد
غموضًا، وخاصة بعد انتهاء الحرب السورية التي أسفرت عن انتصار إبراهيم الباهر. وقد كتب
كامبل يصف الموقف على حقيقته، فقال: «إنه تابع للسلطان من الوجهة القانونية ولكنه مستقل
عنه
في الواقع، ومع أنه لا يفتأ يعلن أنه تابع وخاضع للسلطان إلا أن توكيداته هذه أقنعتني
أنه
لا يرغب أن يعتقد غير ذلك عنه.»
٦ ولقد طالما عززت الصحف الفرنسية والتصريحات الرسمية الفرنسية الأمل في نفسه
بأنه لو أعلن الاستقلال لَقُوبِل ذلك الإعلان بكثير من العطف والتأييد. وكان يدفعه إلى
السير في ذلك الطريق نفسه ما كان يُظهِره السلطان ووزراؤه حياله من سوء النية الظاهرة
— وهو
أمر كان طبيعيًّا — وبهذه المناسبة كتب كامبل بعد ذلك بأسبوع، فقال: «إن ما بدا من ناحية
الباب العالي أخيرًا من التهديدات المصحوبة بالمظاهرات سوف يقوِّي عزيمة محمد علي في
رغبته
الحصول على الاستقلال وتحقيق الغاية التي لا شك في أنه يعمل لها، ألا وهي إنشاء خلافة
عربية
… وهو شديد الحنين إلى نيل السلطة والمجد طبعًا، ويختلف عن بقية المسلمين بأنه مدفوع
برغبة
شديدة في تخليد اسمه في صفحات التاريخ، ولا مناص من الاعتراف بأن النجاح كان على الدوام
حليفه.»
٧
وساعد مسلك السلطان في التجائه إلى الروسيا على اشتداد احتقار محمد علي واشمئزازه
من
الطريقة التي تُدار بها الأمور في الآستانة؛ لأنها أدخلت في دائرة النزاع عاملًا لم يكن
يحسب أحد حسابه، ولقد كانت بمثابة طعنة فجائية لم تفتق له الحيلة وسيلة لدرئها، بل كان
ذلك
المسلك أحد الأساليب القوية التي تجعله يشن الغارة على رجال الآستانة علنًا، وألا يتورع
عن
تقديم وتوجيه أشد عبارات النقد إليهم، وحسبك أن دعوة روسيا إلى مساعدة الباب العالي رجت
عواطف المسلمين رجة عنيفة وكادت تشق وحدتهم، وفي الحق أنها نفرت الناس جميعًا، بحيث إن
الغازي الذي وصل أخيرًا إلى القاهرة — والذي كان تعيينه في منصبه من الآثار البارزة الدالة
على سيادة تركيا على مصر — صرَّح بأن مهمته تقضي بإصلاح الأمور مع الباشا لإعادة المياه
إلى
مجاريها، وأنه واثق من أن كثيرين من أصحاب الرأي في الآستانة ينظرون إلى محمد علي باعتباره
أكبر دعامة للإمبراطورية العثمانية فيما لو نشبت الحرب بينها وبين روسيا يومًا ما،
٨ فلو أمكن معادلة التحالف المعقود بين تركيا وروسيا بتفاهم بين مصر وإنجلترا
لكان في الاستطاعة تحقيق الأحلام التي كانت تجيش في صدر نائب السلطان منذ سنوات
عديدة.
ومن ثم قدمت مذكرة ممتعة وعلى جانب عظيم من الأهمية إلى قنصل إنجلترا العام لإبلاغها
إلى
لندن، جاء فيها أن أول غاية يرمي نائب السلطان إلى تحقيقها هي اقتلاع نفوذ روسيا من تركيا،
وأن ينظم جيشًا لا تنحصر مهمته في حمل روسيا على احترام استقلال تركيا وحدها، بل واستقلال
إيران أيضًا، «أما الغاية التي كان يرمي إليها نائب السلطان من امتلاك سوريا فقد كان
باعثها
النية السابقة؛ ولذلك كان يعلل نفسه بعد معركة قونية أن يحدث انقلابًا في نظام الحكم
في
الآستانة، بحيث يتمكن بمساعدة فرنسا وإنجلترا من التعجيل بإحباط مآرب روسيا، ثم استطردت
المذكرة بأن الباشا سوف يكون لديه قريبًا جيش قوي يبلغ ١٥٠٠٠٠ كامل العَدَد والعُدَد،
وعلى
قدم الاستعداد للتعاون مع إنجلترا في المهمة المجيدة؛ مهمة تخليص تركيا وإيران من النير
الروسي، ثم انتهى الباشا بتوجيه خطابه إلى ما عُرِفَ عن الإنجليز من شيم العدالة وحب
الإنصاف؛ إذ كان يصح له في الوقت نفسه أن ينادي باستقلال مصر، وهو ما عول على فعله فيما
لو
استمرت عداوة الباب العالي له.»
٩
وكان معتمدو إنجلترا في الشرق ميالين في ذلك الوقت للموافقة على تلك الاقتراحات،
وإليك ما
كتبه بونسيني إلى كامبل في سنة ١٨٣٣م؛ إذ قال: «إذا كانت روسيا مدفوعة بعوامل الأثرة
والأنانية؛ فالمرجو أن تكون قوة محمد علي في الجهة التي تقضي مصلحته باستخدامها فيها،
أي من
يطرد من آسيا ومن كافة الأراضي التركية تلك الدولة التي إذا سُمِح لهما بغرس جذورها لتمكنت
قبل مرور وقت طويل من شلِّ مجهودات شعبه المصري والعربي الجديد.»
١٠ بل إن كامبل كتب في العام التالي يقول: إن من رأيه «فيما يتعلق بصدِّ روسيا
ووقف اعتدائها من ناحية آسيا أن إنشاء خلافة عربية برعاية محمد على قد يكون أقوى سد يمكن
إقامته لصد روسيا، بل لعل ذلك يكون أضمن من أي مقاومة يمكن أن يبديها الباب العالي، بل
إن
محمد علي فيما لو اقتضت الظروف ذلك قد يُقدِّم مساعدة عظيمة لإيران (إذا افترضت أنه استولى
على بغداد) فيما لو اشتبكت في حرب مع روسيا.»
١١
ومن المحتمل أن هذه الآراء اتفقت إلى كراهية بالمرستون لسياسة روسيا والغايات التي
ترمي
إليها؛ فلقد كان يُنظَر إليها باعتبارها الدولة الوحيدة التي يُرجَّح نشوب الحرب بيننا
وبينها، ولطالما أبدى تذمره مما كانت تبديه من روح العداء في مختلف الأنحاء، وهي الروح
المستمدة من خلق القيصر شخصيًّا ومن هيأة الحكم الدائم فيها، وفضلًا عن ذلك فقد كان يتلقَّى
في الوقت نفسه معلومات من أشخاص ليسوا تحت سلطة محمد علي ولا تحت تأثير سحره بأن روسيا
تعمل
بنشاط على ترسيخ أقدامها في منطقة الطرق الخطيرة، وبهذه المناسبة كتب معتمدنا هناك يقول:
«إن روسيا إذا ما وطدت أقدامها في بغداد؛ فإن وجود العراق في مركز وسط وما يجري فيه من
الأنهار الصالحة للملاحة وما لديه من الموارد الطبيعية كل هذا يكون بمثابة أحسن فرصة
للزحف
على الهند في المستقبل … أو على الأقل لترسيخ أقدام الدسائس ومواصلتها وهي أشد خطر من
الحرب نفسها.»
١٢
أفليس في الاستطاعة أن يؤدي الخوف إلى دسائس الروس وزحفهم عن طريق إيران إلى الهند
إلى
تحقيق ما كان يرجوه نائب السلطان من اعتراف الإنجليز ومساعدتهم إياه بعد أن خاب في تحقيقها
«أولًا» الجلاء عن المورة، و«ثانيًا» التلويح بعقد معاهدة مع فرنسا … ألم تَسْعَ الحكومة
الإنجليزية في الهند إلى عقد محالفة بين السيخ والأفغان وإيران عندما خِيفَ من زحف نابليون
على الهند بالطرق البرية.
بيد أن هذه الاعتبارات أغفلت إغفالًا تامًّا مركز بريطانيا العظمى وشخصية وزير خارجيتها،
وخلاف ذلك أنها كانت إلى ذلك الحين عالمة أو على الأصح معتبرة بأسها ومسئوليتها؛ لأنها
لم
تخسر في خلال الأجيال الخمسة الماضية إلا حربًا واحدة، وحتى في هذه المرة الواحدة لم
يضعف
من بأسها ويفتَّ في عضدها إلا علمها أنها إنما تقاتل شطرًا من أسرتها، أما الحرب الأخيرة
التي اشتبكت فلم تكن فقط أشد الحروب هولًا، بل إنها خرجت منها وهي أشد تيهًا بانتصارها
فيها
في أي حرب سابقة.
فهل كان يُحتمَل إذن أن تغيُّر القاعدة التي قامت عليها سياستها في أوروبا منذ أجيال
عديدة لتبتاع بدلًا منها محالفة ضد عدو محتمل لم يُعرَف في تاريخه، إنه انتصر في حرب
ما إلا
ضد الأتراك أو الإيرانيين … ثم إن بالمرستون لم يكن بالرجل الذي يحاول سد النقص بعقد
محالفة
أجنبية ليستغني بها عن تنمية قوة بلاده واستثمار مواردها؛ فإذا كان ثمة ما يستحق عليه
المؤاخذة فهو عدم سعة احتياله وليس خور العزيمة أو قلة الشجاعة. ولذا فقد اعتزم الوقوف
في
طريق تقدُّم روسيا بغير الوسائل التي كان يقترحها محمد علي؛ ولذلك أرسل ردًّا قاطعًا
من
شأنه أن يقفل الباب في وجه كل رجاء، فلقد كلف كامبل بأن يُبلِغ محمد علي أسفَه ودهشته
لتلك
الاقتراحات التي تتعارض مع توكيداته السابقة، فضلًا عن كونها تتنافى مع شرف الحكومة
البريطانية وتعهداتها، فمحمد علي في الواقع يرغب في أن تقره بريطانيا العظمى على اعتدائه
على السلطان، أو أن توافق على محاولته التخلص من ولائه لجلالته والمناداة بنفسه حاكمًا
مستقلًّا على البلاد التي يديرها الآن باسم مولاه السلطان، فكيف لنا أن نسمح بحدوث مثل
هذه
الفتنة، وهذا الاعتداء المباشر على حقوق ملك متوَّج تربطه محالفة بمليكنا.
١٣
وليس من شك في أن هذه اللهجة كانت تنم عن عنصر السخف، بل والبهتان؛ فإن بالمرستون
كان
يكتب عن موقف محمد علي إزاء السلطان كما لو كانت علاقة ذلك السلطان المجرد من السلطة
بوزرائه شبيهة بالعلاقات المألوفة في الغرب.
وقد عالج وزير الخارجية الموضوع كما كان يتوقع أن تنظر الولايات المتحدة إلى ما يقدمه
حاكم كندا العام من اقتراحات من هذا القبيل، أو كما كانت تقابل فرنسا اقتراحات كهذه من
حاكم
الهند العام.
إذ لا ريب أن مجرد قبولها، بل وحتى تشجيعها لا يمكن تسويغه إلا بوجود حالة يُنتظَر
معها
نشوب الحرب فعلًا، هذا في حين أن الوزير الذي تسمح له نفسه بطلب المعونة الأجنبية ضد
مليكه
لا يمكن أن يكون إلا متلبسًا بأسوأ أنواع الخيانة العظمى.
على أن هذه الآراء كانت على ما يظهر تُعتبَر كقضية مُسلَّمة لا وجود لها بالمرة؛ ذلك
لأن
حاكم كندا العام يستطيع أن ينام قرير العين، وهو يعلم أن نجاح إدارته لا يمكن أن يُعرِّضه
إلى حقد مليكه أو إلى الرغبة في الانتقام منه، كما أن حاكم الهند العام يستطيع أن يطمئن
إلى
أن رئيس الوزراء لن يعمل على تلويث سمعته وإرساله إلى المشنقة، والنتيجة أن الآراء السارية
في الغرب كانت تُطبَّق بلا حساب على الشرق، مع أنها لم تكن مفهومة على وجهها الصحيح،
بل
ومجهولة تمامًا.
على أن التسليم بهذا لا ينتقص من موقف بالمرستون؛ لأن تركيا قد أصبحت جزءًا من نظام
الدول
في أوروبا؛ فللمحالفة التي تُعقَد معها نفس الالتزامات التي للمعاهدات التي تُعقَد بين
الدول الأخرى، وهي التزامات لا يمكن — والحق يُقال — الاضطلاع بها بسبب الفوضى السائدة
في
شئونها الداخلية، كل هذا لم يكن ليجاري فيه أحد، وفي هذه الحالة ألقى الاسترشاد بالمبدأ
السياسي ما يعززه من الاعتبارات السياسية، وليس من ريب في أنه لم يكن ثمة ما يَحُول دون
إلغاء ما بيننا وبين السلطان من التحالف القديم، وأن نؤيِّد بعد ذلك محمد علي في مشروعاته
ضد الإمبراطورية العثمانية والخلافة التركية، ولكن فن السياسة الخارجية يتضمَّن بين ما
يتضمَّنه خدمة المصالح الوطنية في داخل الحدود التي يفرضها مراعاة المبدأ السياسي، ولا
سبيل
إلى إنكار أن هذا الأخير كان يصبح في خبر كان بإقرارنا والي مصر في مشروعاته — ولو سرًّا
—
كما أن الأول كان يصبح في خطر باتفاقنا علنًا مع محمد علي؛ إذ لا ريب في أن سحب مؤازرتنا
للسلطان كان يترتب عليها مبادرة الدول إلى اقتسام إمبراطوريته، وهو احتمال لم يكن يسعنا
أن
ننظر إليه بعين الارتياح؛ لأننا لم نكن لنستفيد من تحوُّل الأدرياتيك إلى بحيرة نمساوية
أو
الآستانة إلى ميناء روسية؛ فماذا عسى أن تكون الفائدة التي يُقدِّمها محمد علي، والتي
يمكن
أن تُعوِّضنا عن قلب القارة الأوروبية رأسًا على عقب؟ إذ ما الذي يحملنا على التبرع بمساعدة
حاكم مصر بأن يبسط سلطانه عن طريق الفتح العسكري إلى بقاع جديدة لا يستطيع أن يزعم أن
لديه
شبه حق في الاستيلاء عليها؟ … فلهذه الاعتبارات جميعًا نشأت سياسة ترمي إلى الاحتفاظ
بسلطة
محمد علي في البقاع الواقعة فعلًا تحت سلطانه مع إقامة للعراقيل في سبيل توسيع ذلك السلطان؛
ولذلك آثر بالمرستون وبحق أن يقوِّي مركزنا حول الطرق البرية الجديدة المؤدية إلى الهند
على
إنشاء دولة جديدة قد تنضم إلينا في يوم ما في حرب محتملة مع روسيا.
ولكن الطريقين البريتين الممكنتين إلى الهند هما طريق الفرات وطريق السويس، لم تخرج
إحداهما بعمل من أعمالنا من تحت سيطرة إحدى السلطات السياسية؛ فظهور محمد علي على المسرح
السياسي في مصر قد مكَّنه من وضع يده على طريق السويس، بينما كان وادي الفرات ما يزال
تحت
سيطرة السلطان، ولو أنها سيطرة اسمية، وأحسب أنه كان يكون منتهى الحمق لو أننا عملنا
بلا
باعث سياسي أو أدبي على وضع هاتين الطريقين تحت سلطة محمد علي في الوقت الذي بدأ يظهر
فيه
ما لهما من أهمية سياسية كبيرة.
١٤
ومن أهم العوامل التي زادت في أهميتها استعمال البخار في الملاحة، فطالما كانت طريق
البحر
الأحمر معطلة لمدة أشهر من كل سنة بسبب الرياح الموسمية، وطالما كانت طريق الفرات متعذرة
لا
يمكن اجتيازها إلا بسحب السفن وهي عملية مضنية؛ فإن هاتين الطريقين إلى الشرق — برغم
ما
لهما من الأهمية العسكرية — لم يكن يمكن أن تضارعا الطريق البحرية الطويلة حول رأس الرجاء
الصالح، على أنه قبل أن تضع الحرب مع نابليون أوزارها بدأ استعمال «اللنشات» البخارية
في
الأنهر والترع الإنجليزية، وبعد سنوات قليلة بدأ استخدامها في عبور خليج المانش. ولم
يحل
عام ١٨٢٠م حتى كان الناس يتوقَّعون استخدام البواخر في طرق المحيطات الكبرى، ولكن التقدُّم
كان بطيئًا هنا؛ ذلك لأن الآلات البخارية التي زُوِّدَتْ بها أول باخرة لعبور الأوقيانوس
كانت ضعيفة ومتلفة، بمعنى أنها استهلكت مقدارًا هائلًا من وقود الفحم، وهذا ما جعلها
لا
تجرؤ على الابتعاد عن السواحل لتأخذ حاجتها من الوقود. أما «طنبوشة الطارة» الكريهة المنظر،
فقد كانت عرضة لِأَنْ تقتلعها الأمواج في عرض البحر من أساسها، هذا إلى أن الآلات نفسها
كانت تُوقَف أكثر من مرة لتنظيفها وإصلاحها؛ فلهذه الأسباب كان استعمال السفن في بدء
الأمر
قاصرًا على الجهات التي تُوجد بها سلسلة من المواني؛ كالمانش والبحر المتوسط والبحر الأحمر
والخليج الفارسي.
وسرعان ما أدركت الهند أهمية هذه الاحتمالات؛ ومن ثم اجتمع تجار كلكتا في أوائل سنة
١٨٢٣م
وشكَّلوا لجنة لبحث الموضوع، فأدَّى نشاطهم إلى الرحلة التي قامت بها السفينة «انتربريز»
حول رأس الرجاء الصالح، وسلخت المسافة بين كلكتا ولندن في ١١٣ يومًا نصفها في السفر بالبخار
ونصفها في السفر بالشراع، وكان من أثر هذا الإخفاق النسبي أن أدرك الناس مضارَّ السفر
الطويل بهذه السفن على حالتها الفطرية، واتجهت الأنظار إلى الطريق الملائم المختصر طريق
السويس والبحر الأحمر.
وكان في طليعة محبِّذي هذه الفكرة مونتستيوارت الفنستون، وقد صادف ذلك الوقت الذي
شرعت
فيه لجنة كلكتا في القيام بحملتها، ولما خلفه السير جون مالكولم في منصب حاكم بمباي راح
يتحمس في تحبيذ الفكرة حتى إنه حاول في سنة ١٨٢٩م أن يرسل السفينة «انتربريز» من بمباي
إلى
السويس، ثم أمر بإنشاء سفينة جديدة اسمها «هيولندس»، وقد استطاعت في سنة ١٨٣٠م أن تقوم
بأول
رحلة بخارية في حوض البحر الأحمر.
ومع أن شركة الهند الشرقية لم يمكن وقتئذ حملها على إتمام المشروع بتخصيص سفن بخارية
إلى
الإسكندرية وبالعكس لمقابلة البريد والمسافرين عند وصولهم إلى السويس؛ فقد جربت السفن
في
رحلات مختلفة وأخذت السفن التابعة لوزارة البحرية تسافر من مالطة إلى الإسكندرية، وتشكلت
لجنة من الخبراء لوضع تقرير عن مسألة المواصلات البخارية مع الهند بحذافيرها، وأخذ التجار
يستخدمون طريق السويس بكثرة في شئون البريد حتى قبل إنشاء خط منظم،
١٥ ثم إن توماس وجهورن الذي كان حجر الزاوية في الترويج والدعاية اتخذ له مكتبًا
في الإسكندرية وشرع يعمل كوكيل لنقل الرسائل البريدية، وهذا بالرغم من إصرار شركة الهند
الشرقية على عدم الانتفاع بالطريق. وقد وصف لنا أوكلند حاكم الهند العام الحالة في سنة
١٨٣٦م وصفًا حيًّا، فقال في كتاب لهيهوس: «يتسلم التاجر في «أنديا هوس» تحاويله على خزانتنا
لدفع مقدار معين بعد الاطلاع، وذلك بمقتضى مدة السفر التي قررتها المحكمة (أي حول رأس
الرجاء الصالح)، ينبغي أن يكون بعد التاريخ بأربعة أو خمسة أشهر، ثم إنه يرسل هذه التحاويل
إلى الإسكندرية، وهناك يستأجر النشيط واجهورن قاربًا شراعيًّا ومعه حقائب البريد، ويقصد
إلى
«مخا»، ويضع هذه الحقائب على ظهر إحدى السفن التجارية فتصل إلى كلكتا فيما لا يزيد عن
شهرين
منذ خروجها من إنجلترا. وهنا يتسلم النجار الخطابات الواردة إليهم وأيضًا تحاويلهم؛ لأن
خزانتنا قد أُودع فيها نحو ٢٠ لكحًا من الروبيات لمكسب التجار ولخسارتنا نحن، وهكذا ترى
حركة الرسائل الخصوصية في ازدياد مستمر وسيل الصحف يقوى على ممر الأيام. أما أنا فبصفتي
حاكمًا عامًّا فإني أؤثر المواصلات عن طريق رأس الرجاء الصالح من طريق البحر الأحمر،
بل إني
أفضِّل طريق رأس هورن (في جنوب أمريكا) عن الطريقين المذكورين، ولكن إذا فُتِحت الطريق
المختصرة فلسوف يكون من دواعي العجب، بل ومن أسباب النقض، أن يستخدمها كل فريق ما عدا
الفريق الذي له في الهند مصلحة هائلة.»
١٦
ولكن كانت هذه الأحوال آخذة في التلاشي وبسرعة؛ ذلك لأن الفرنسيين أنشئوا في سنة ١٨٣٥م
خطًّا للسفر بالبواخر فيما بين مرسيليا والإسكندرية، وهكذا اضطرت شركة الهند الشرقية
تحت
ضغط لجنة المراقبة أن توصي بصنع سفينتين بخاريتين جديدتين للسفر فيما بين بمباي والسويس
وبالعكس، ومن ثم أصبح تحسين الطريق طبقًا لتوصيات لجنة الجزاء مضمونًا.
ولم تكن هذه هي الطريق الوحيدة الممكنة؛ فقديمًا كانت البصرة منافسة جديدة لميناء
السويس،
ولما كانت قد ظهرت فائدة البواخر في المياه الداخلية فقد جعل الناس يتساءلون طبعًا: أليس
من
الأصوب أن تتصل مياه أورنتس بمياه الفرات في هذا العصر الذي أصبحت فيه إنجلترا مغطاة
بشبكة
من الترع، وبخاصة وأن مثل ذلك المشروع يكون أقل كلفة من شق قناة في برزخ السويس؟
وفي نهاية سنة ١٨٣٠م وأوائل سنة ١٨٣١م شرع بمسح هذه الطريق في وقت واحد «بشيسني»
من ناحية
سوريا وفريق من ضباط الشركة من الهند، على أن الضباط قد حدث ما يعرقل أعمالهم بفعل الأعراب
الضاربين على ضفاف الفرات، وقد اغتالوا بعضهم فعلًا. أما شيسني فقد تمكَّن من إتمام المساحة
الابتدائية برغم ما قام في سبيله من عقبات جبارة، ثم أُرسِل مرة أخرى في سنة ١٨٣٤م على
رأس
بعثة اصطحبت معها سفينتين بخاريتين من سفن الأنهر ذوات القاع المسطح لاستخدامها في نقل
أعضاء البعثة من مياه الفرات الأعلى إلى الخليج الفارسي، وقد استُصدِر فرمان سلطاني بالسماح
بالملاحة في الفرات، وبعد أن ذلل شيسني مصاعب جمة تمكَّن من جمع سفينتيه على النهر المذكور،
ولكن سرعان ما أغرقت الريح إحداها ووُفِّقت الثانية في الوصول إلى البصرة، وبالرغم من
أن
كبير البعثة كان شديد التفاؤل بما يمكن أن يصل من الاحتمالات بهذه الطريق التي تمكَّن
من
مسحها بعد جهود جبارة؛ فإن الناس جميعًا كانوا مقتنعين بأنه مهما كانت أهمية هذه الطريق
من
الناحية السياسية؛ فإن طريق الفرات قد تستطيع منافسة طريق السويس والبحر الأحمر إلى الهند.
١٧
على أن البعثة كانت مدفوعة إلى أعمالها بغاية سياسية معينة؛ ذلك أن تلك المنطقة التي
يشغلها الفرات أصبحت لها أهمية هائلة بعد التقدُّم الذي تقدمته روسيا، وبعد أن تطوَّرَت
مشروعات محمد علي وتبيَّنت الغايات التي يرمي إليها؛ لذلك أصبح في طليعة المسائل السياسية
المهمة أن تُعرَف وسائل النقل في تلك المنطقة، وهل هي سهلة وإلى أي حد تُعتبَر هكذا.
ويلوح
أن روسيا كانت شديدة المعارضة لمحمد علي في إرسال البعثة المذكورة، وقد علم بونسيني في
الآستانة أن روسيا أبلغت الباب العالي بأن والي مصر على أتم استعداد لوضع كل ما يمكن
من
العراقيل في سبيل تلك البعثة إذا رغب السلطان ذلك،
١٨ ثم إن كامبل كان مقتنعًا وهو في الإسكندرية بأن قنصل روسيا العام حاول جهده
لاستثارة الباشا ضد المشروع،
١٩ وقامت المصاعب الشديدة بسبب العمال والمئونة. وكانت هذه الاعترافات معقولة؛ لأن
الروس لم يكن يروق في نظرهم ترسيخ قدم إنجلترا على ضفاف الفرات، في حين أن محمد علي كان
يخشى أن تكون نيتنا من وراء هذه الأعمال إنشاء قلاع هناك ترمي إلى احتلال النهر.
٢٠
كما أنه كان شديد الحرص — من الناحية الاقتصادية — على تحسين طريق البحر الأحمر أولى
من
طريق الخليج الفارسي. ولعله كان يؤمل أن تؤدِّي معارضتُه في مشروع يعلم أنه يهم الإنجليز
إلى تساهلهم معه في مسألة الاستقلال.
لهذا بينما كان يعمل إبراهيم خفية في سوريا كل ما يمكنه عمله لعرقلة تقدم شيسني؛
فإن محمد
علي ظلَّ يرفض بدوره إرسال أوامر معينة إلى ابنه إلا بطلب صريح من السلطان.
٢١
وهذا ما أثار حفيظة بالمرستون ودفعه إلى تحرير خطابين بنغمة جافة، قال في ثانيهما
إن
حكومة جلالة الملك مصممة على ألا يفشل المشروع … بسبب عراقيل تقيمها سوء النية أمامه
في
جبهة من الجبهات.
٢٢
وهكذا بينما كان محمد علي يعمل على عرقلة مساعي بريطانيا لاختبار مبلغ صلاحية أنهار
العراق للملاحة، كانت وزارة الخارجية البريطانية تنظر بعين يقظى إلى أملاك السلطان الباقية
حتى لا يعتدي أحد عليها؛ فلقد أراد محمد علي مثلًا أن يضم منطقة أورفة إلى أملاكه في
سوريا
مستندًا في طلبه هذا إلى أن المنطقة المذكورة لم يكن يحتلها الأتراك، وأنها في حالة فوضى
وتحت سلطة قُطَّاع الطريق وأن سكانها كثيرًا ما يُغِيرون على الجهات الواقعة حول حلب
وأنه
لا يتردد في دفع الإتاوة عنها، وأنها كانت من قديم الزمن جزءًا لا يتجزأ من ولاية حلب
٢٣ على أن ذلك لم يُفِدْه شيئًا، بل اضطر إلى الانسحاب من المنطقة المذكورة. وفي
سنة ١٨٣٥م احتل جهة «الدير» الواقعة على الفرات، وكان يرمي بذلك بلا ريب إلى مراقبة بعثة
شيسني مراقبة فعلية، وكانت حجته في ذلك الاحتلال أن القبائل الرحالة في تلك الجهات ألِفَت
الغارة على أراضيه،
٢٤ وقد صدر إليه تحذير حازم بألا يحاول الاقتراب من ولاية بغداد.
ومهما كانت نيات الباشا فإن مدينتَيْ بغداد والبصرة كانتا تُعتبَران في نظر الإنجليز
بأن
لهما أهمية خاصة، وقد صادف احتلال الدير نشاط الأعمال العسكرية في جنوبي بلاد العرب واحتمال
امتدادها إلى الخليج الفارسي؛ ولهذا بادر بالمرستون إلى الكتابة لكامبل بأن «بريطانيا
العظمى سوف تعتبر أن لمصالحها مساسًا مباشرًا بحيلولتها دون زعزعة هيبة السلطان في بغداد
أو
العبث بها.» ثم استطرد فكتب فيما يختص بأي حركة عسكرية موجهة إلى بغداد، فقال: «قُلْ
للباشا
صراحة إن بريطانيا العظمى لا يَسَعها الوقوف مكتوفة اليدين إزاء تنفيذ مثال هذه المآرب.»
٢٥
وليس من شك في أن هذه العبارات لم تكن مجرد بيان وجهة نظر بريطانيا. كلا؛ إذ مهما
يكن
نتيجة بعثة شيسني في نهر الفرات، ومهما تكن النتيجة التي تترتب على تحسين طريق السويس،
فليس
من شك في أن البحر الأحمر والخليج الفارسي كانا بمثابة طريقين مباشرين إلى الهند؛ ولذا
صممت
بريطانيا العظمى على السهر على حمايتهما بالقوات البريطانية.
أما الحوادث التي أدَّتْ إلى احتكاك المصالح بين بريطانيا ومصر وتوسيع الهوة بين
الفريقين؛ فقد نشأت عن الفتنة التي وقعت بين جنود محمد علي المرابطة في بلاد العرب؛ فإن
الحرب السورية كانت قد أنهكت مالية محمد علي واستنفدت موارده، وتأخر على ذلك دفع مرتبات
الجنود في بلاد العرب؛ مما دفع ضابطين من الضباط الألبانيين إلى إعلان تذمرهما.
وكان الباشا قد كتب في سنة ١٨٢٢م إلى حاكم الحجاز يُبلِغه أنه أرسل إليه ٥٠٠٠ كيس
لتهدئة
ثائرة الجنود، ولكن لا بد له من حمل الضابطين المذكورين على العودة إلى مصر أو القبض
عليهما
وإرسالهما إلى القاهرة مُكبَّلَيْن بالحديد،
٢٦ ولكن لا أكياس الذهب ولا القبض على الضابطين أدَّيا إلى النتيجة المرجوة، بل
سرعان ما رفع الجنود راية العصيان وأخذ زعماؤهم يتحدَّون حاكمَ الحجاز، ومن ثم أرسل إليهم
محمد علي أحد أصدقائهم الأقدمين لإعادة النظام، ولكنه اضطر إلى الفرار إلى القاهرة متسربلًا
بثياب الخزي والعار. أما النقود التي أُرسِلت لابتياع البُنِّ لحساب الباشا فقد استولى
عليها القواد وتقاسموها بينهم،
٢٧ وفي جدة وضع الثوار أيديهم على الممتلكات العامة كما استولوا على سفن الأفراد
وسفن الباشا،
٢٨ وفي أواخر سنة ١٨٣٢م كان الثوار قد رسخت أقدامهم في بلاد اليمن،
٢٩ واتخذوا «مخا» قاعدة لأعمالهم، وهنالك جعلوا يعبثون أشد عبث بتجارة سورات،
٣٠ ولم يكن يمكن القيام بعمل منتج في تلك الظروف، ولكن محمد علي أخطر كامبل في
منتصف عام ١٨٣٣م بأن في نيته إرسال تجريدة لإخضاع «مخا»،
٣١ وهو مشروع كانت شركة الهند الشرقية تُحبِّذه من صميم قلبها.
٣٢
وفي نهاية العام تحرَّكت التجريدة وهي مزوَّدة بالأموال لرشوة القبائل العربية المحالفة
للثوار،
٣٣ وأخيرًا كُلِّلَت هذه المحاولات بالنجاح؛ فإن مشايخ القبائل سرعان ما انتقلوا
من معسكرات الثوار إلى المعسكر المصريِّ بما عُرِف عنهم من الاستعداد للانتقال من جانب
إلى
آخر بمجرد التلويح لهم بالمال، ومن ثم لم يَسَع الضابط المتمرد الباقي على قيد الحياة
إلا
الفرار لإحدى البوارج التابعة لشركة الهند الشرقية، بينما وقع ١٦ من كبار معاونيه في
الأسر
وصدرت الأوامر بإطاحة رءوسهم.
٣٤
أما رؤساء العشائر، فإن كانوا قد أبدوا ميلًا إلى أخذ مال المصريين مقابل الانقلاب
ضد
الجنود الثائرين، إلا أنهم كانوا غير راغبين في ترك الحبل لمحمد علي على الغارب لينعم
بإدارة البلاد الواقعة فيما وراء مينائي الحديدة ومخا الواقعين في جنوب البحر الأحمر؛
ولذا
نشبت حرب طويلة الأمد بين ضباط محمد علي وشيوخ القبائل في العسير واليمن، على أن الضباط
لم
يربحوا من هذه الحرب فائدة ثابتة تُذكَر، في حين أن الحرب شلَّتْ حركة التجارة، وحتى
لغاية
سنة ١٨٣٨م كان كامبل ما يزال يُلِح على نائب السلطان، ويبيِّن له خطل السعي لكبح جماح
قبائل
العسير وإخضاعهم بدلًا من الاكتفاء باحتلال الموانئ وتشجيع شتى القبائل في الداخل على
إحضار
حاصلاتهم لبيعها في المواني المذكورة.
٣٥
على أن هذه الأعمال العسكرية إنما كانت أهميتها بالنسبة لبريطانيا العظمى؛ لأنها
قربت
الجنود المصريين من عدن، وفي الواقع لم يكن يُظَن بعد إخفاقهم في إحراز أي نجاح يُذكَر
لغاية سنة ١٨٣٨م أن هناك أملًا في أن يبسطوا سيطرتهم على شواطئ البحر الأحمر الجنوبية
…
ولكن محمد علي ما لبث أن أحرز فجأة في خلال العام المذكور انتصارين باهرين. وفي اليوم
الخامس من شهر أبريل حاول أحمد باشا أن يُطيح رءوس ٥٠٠ من رجال قبائل عسير، وأن يأسر
١٠٠٠
رجل منهم
٣٦ ووصل في الشهر التالي إلى جهة عنيزة القائد خورشيد باشا الذي كان قد قصد بلاد
الوهابيين، وتقع عنيزة في منتصف خط مستقيم يمتد من مكة إلى البصرة، وكانت عنيزة عامرة
بالتجار ويقصدها التجار من بغداد ودمشق؛ ولذا كان يُحتمَل اتخاذها قاعدة صالحة لمواصلة
زحف
الجيش في المستقبل، وبعد قليل من التردد قصد شيخ القبيلة ومعه وجهاء قومه إلى معسكر خورشيد
وقدموا طاعتهم، ولكن وقع حادث دفع الفريقين إلى تحكيم الحسام فورًا؛ ذلك أن أحد الجند
الأتراك أفرغ مسدسه في صدر أحد الأعراب في خلاف شخصي نشب بينهما وفي الشجار الذي نشب
بسبب
ذلك الحادث مزق الجمهور الساخط ذلك الجندي إربًا، وقد مات من الفريقين نحو اثني عشرة
شخصًا،
هذا عدا أن الجنود قد طُرِدوا إلى خارج المدينة وأُغلِقت الأبواب في وجوههم، وهنا لم
يجد
خورشيد مناصًا من إطلاق قنابله على المدينة مدة ثمانٍ وأربعين ساعة قبل أن يتمكن من إخضاعها،
٣٧ وتلا هذا مواصلة الزحف في العام التالي حتى وصل إلى شواطئ الخليج الفارسي. وفي
أوائل سنة ١٨٣٩م أشار معتمدو بريطانيا في الخليج إلى خضوع جبهة الحصى والقطيف، وكذا الأراضي
الواقعة على طول الشاطئ الغربي، وتوقَّعوا أن يُصِرَّ الحاكم الذي عيَّنه محمد علي في
نجد
على تحصيل الإتاوة «التي اعتادت جزيرة البحرين أن تدفعها.»
٣٨
أما خورشيد فقد كتب إلى المقيم الإنجليزي في الخليج يُبلغه اعتزامه احتلال جزيرة
البحرين
ولو اقتضى الأمر استعمال القوة،
٣٩ ولم يتورع الضابط الذي كان يقود الجنود المصريين عند دُنُوِّه من القطيف عن
استعمال لهجة جافة في مخاطبته للأميرال البريطاني الذي كان يزور الخليج وقوله له إنه
ذاهب
لإخضاع البصرة وبغداد، هذا بينما قد عزى إلى خورشيد نفسه أنه قال إنه ينتظر وصول المدد
من
المدينة ليزحف بكامل جيشه.
٤٠
على أن هذا النشاط فضلًا عن منافاته للحكمة؛ فقد جاء في غير الوقت الملائم، وحسبك
أنه
انطوى على التعمق في غير حاجة في منطقة لبريطانيا فيها نفوذ عظيم، فلقد كان شيخ البحرين
أحد
زعماء العرب المسالمين في الخليج الفارسي (على حد التعبير الغريب الذي كان يستعمله قلم
الشئون الهندية في السياسة)، وأنه قد وقَّع المعاهدة العامة في سنة ١٨٢٠م؛ ولذا رأت حكومة
الهند وبحق أن تصد ذلك الاعتداء الموجَّه إلى موقعنا؛ وذلك بإصدار الأوامر باستعمال لهجة
خشنة حازمة ردًّا على خورشيد وقومه على أن تشفع تلك اللهجة بإرسال الإمدادات، وأن تطلب
إلى
مشايخ القبائل أن يُقدِّموا معونتهم الودية لصدِّ مطالب مصر.
٤١
ولقد حاول محمد علي أن يسوِّغ نشاطه هذا بأنه لم يُرِد من ورائه إلا صدَّ الوهابيين
وحماية الحرمين والحصول على الإبل،
٤٢ وأن الإشاعات التي تُروَّج ضده في الآستانة وبغداد تتعمَّد أن تعزو إليه نيات عدائية
٤٣ … إلخ، ولكن هذه المحاولات تجرَّدت حتى من صفة مشابهة للحقيقة.
وأما نشاط محمد علي، فقد جاء في غير الوقت الملائم، فلأنه وقع في وقت وقوع حوادث
أخرى
يُؤسَف لها، وكان من نتيجتها جميعًا أنها أظهرت — إن خطأ أو صوابًا — أن المسألة «مُرتَّبة
ومطبوخة»؛ ففي سنة ١٨٣٥م كان في نية شاه العجم إرسال مندوب إلى القاهرة، وفي سنة ١٨٣٨م
ذهب
أحد أعضاء البعثة الإيرانية في الآستانة لزيارة محمد علي،
٤٤ ثم أُشيع في اليوم التالي أن الشاه ينوي إرسال ٥٠ شابًّا إيرانيًّا إلى القاهرة
للالتحاق بمدارسها،
٤٥ وفي أوائل سنة ١٨٤٠م وصل مندوب خاص من العجم يحمل معه بعض الهدايا الثمينة.
٤٦
ومن يدري أن هذه الروحات والجيئات تكون قد جاءت عفوًا بدون قصد معين، ولكنها وقعت
في وقت
كان لروسيا نفوذ كبير في البلاط الإيراني، وفي الوقت الذي ذهبت فيه سدى كافة محاولات
المندوب الإنجليزي وانتقاداته للشاه لحمله على العدول عن محاصرة مدينة «هيرات» في الوقت
الذي قامت فيه حملة من بمباي سنة ١٨٣٨م لاحتلال جزيرة «كرك» التي تملكها إيران في الخليج
الفارسي.
وحفلت إذ ذاك سوق الإشاعات بما راج فيها من الخرافات الغريبة، وتصادف أن هبط الإسكندرية
فيما بين سنتي ١٨٣٥م و١٨٣٦م رجلان من الآستانة يُدعى أحدهما محمودًا والآخر حسينًا، لم
يكن
ثمة ما يدعو إلى الارتياب لا في وصفيهما ولا في نواياهما، وقد قيل إنهما من جماعة
المخاطرين، ولكنهما شخصا قبل ذلك إلى زيارة روسيا في ثوب مندوبين من قبل بلاط دلهي. وقد
وقعت أعين الناس على محمود في القاهرة وفي الإسكندرية ثم اختفى فجأة. أما حسين فقد وصل
إلى
مصر بعد زميله بعدة أشهر وكان مصابًا بالطاعون؛ ولذلك طلب إلى وكيل القنصل الإنجليزي
الذي
استعاد ميله الشديد لمقارعة بنت الجان بسبب إلمامه باللغتين التركية والعربية، طلب إليه
أن
يُعنَى بأمتعة حسين؛ لأنه يحمل بين طياتها ٥٠ كيسًا من النقود، وما كاد وكيل القنصل يسمع
اللهجة الهندية في كلام حسين حتى ذكر أنه قابل زميله محمودًا عند اجتيازه الأراضي المصرية
واعترف حسين بأن ذلك هو الواقع، ولكنه كان مريضًا بحيث لا يستطيع مواصلة الحديث.
وفي اليوم التالي أصابته حمى جعلته يهذي إلى أن أدركَتْه منيَّتُه، ومن ثم أُخِذت
الأوراق
الخاصة به من المستشفى؛ فإذا بها مجموعة خطابات باللغة الفرنسية من الصدر الأعظم إلى
بعض
الزعماء الهنود ومعها خطابات باللغة التركية يُقدِّمه فيها الصدر الأعظم إلى محمد علي.
٤٧
فلم يكن ثمة مناص من أن يحيط هذا الجو السياسي المكفهر بزحف محمد علي في اتجاه الخليج
الفارسي بجوٍّ من الشكوك؛ ولذا صدرت التعليمات إلى الأميرال المرابط في المحطة التابعة
لشركة الهند الشرقية بأن يذهب إلى زيارة الخليج، وهناك يبذل كل ما في وسعه للحيلولة دون
وقوع أي اعتداء على جزيرة البحرين، وإن كان أوكلند قد عارض في أن يُحرِّك أصبعًا في الموضوع
ما لم تَصِله تعليمات صريحة في اتباع خطة حازمة.
وكانت لندن قد عقدت نيتها على اتباع خطة الحزم؛ فلقد صدرت إلى بونسني في الآستانة
التعليمات بأن يستفهم هل تمت فتوحات محمد علي بإرادة الباب العالي،
٤٨ وصدرت الأوامر في الوقت نفسه إلى كامبل في الإسكندرية بأن يُبلغ نائب السلطان
بأن التعليمات أُرسِلت إلى الأميرال ميتلند بأن يَحُول دون احتلال البحرين ولو اقتضى
الأمر
استعمال القوة،
٤٩ وكان كامبل قبل أن تصله هذه التعليمات قد أصرَّ، بناء على تعليمات سابقة وعلى
الأنباء الواردة من الهند، على إرسال أوامر صريحة إلى خورشيد بأن يَدَع جزيرة البحرين
وشأنها.
٥٠
واتفق أن نشاط محمد علي في جهة اليمن أدى إلى ما يشبه هذه الحالة عند مدخل البحر
الأحمر؛
فإن انتصاره على قبائل عسير في سنة ١٨٣٨م جعله صاحب الأمر والنهي مؤقتًا في جهات بلاد
العرب
التي كانت تُسمَّى من قبيل التهكم «بلاد الرخاء»، وكان محمد علي ميالًا إلى اعتبار حاكم
عدن
مجرد تابع خاضع لإمام صنعاء الذي أُرغِم حين قَبِل الدخول في طاعة السلطان،
٥١ كما أنه ادَّعى من ناحية أخرى أنه يضع يده عليها؛ لأنها كانت من قبل جزءًا من
الإمبراطورية العثمانية.
٥٢
وبالطبع لم يكن من المستطاع النظر إلى هذه الدعاوى وأمثالها بعين جدية. نعم؛ لقد
حاول
إمام صنعاء بلا ريب من آنٍ لآخر أن يبسط نفوذه على عدن، ولكن لم يكن له في الواقع نفوذ
يصح
وصفه بأنه نفوذ حقيقي وثابت، فاعتراف الإنجليز بأنه كان يتمتع بحقوق السيادة كان يكون
إذن
ضربًا من ضروب الحمق والسخف، كذلك قُلْ عن دعوى الأتراك فإنها كانت وهمية. نعم؛ لقد احتلَّ
الأتراك عدن أيام عظمة إمبراطوريتهم إبان القرن السادس عشر والسابع عشر، فلما لم تسعد
حالتها تحت حكمهم تخلَّوا عنها في سنة ١٦٣٠م باعتبار أنها عديمة الفائدة. وشاءت الظروف
في
مناسبات عديدة في السنين القريبة أن يتصل الإنجليز اتصالًا وديًّا بسلطان عدن. مثال ذلك
أنهم عندما صحت عزيمتهم على سد طريق البحر الأحمر خوفًا من زحف نابليون على الهند اجتلوا
إلى أن تصير جزيرة «بريم» وهي التي كانت تُوصَف بأنها «الصخرة القائمة في وسط البحر لا
يملكها غير الله العلي القهار والتي لا تدفع إتاوة ولا يُنتظَر أخذ إتاوة منها.» فلما
تبيَّن لهم ألا سبيل إلى البقاء في تلك الصخرة الجرداء التي هي أشبه بالجحيم، وخاصة بعد
أن
ذهبت سدى كافة مساعيهم في نقر الصخرة جريًا وراء الأمل الكاذب — وهو العثور على الماء
— قر
رأيهم على الانتقال إلى عدن مؤقتًا، وهناك كانوا أحسن حالًا فلقد خُيِّل إليهم في الواقع
أنهم أصبحوا في فردوس بالنسبة لذلك الجحيم الذي كانوا فيه من قبل. ومما زاد في اغتباطهم
أن
سلطان عدن رحب بمقدمهم وعرض أن يُقدِّم لهم دائمًا عددًا من رجاله للخدمة العسكرية في
صفوف
الشركة الهندية،
٥٣ وفي سنة ١٨٠٢م عقد السير هوم بوبهام فعلًا معاهدةً مع السلطان، وفي سنة ١٨٠٨م
أشار إليها فالنشيا بحماس شديد في تقرير له قدَّمه أثناء رحلاته في حوض البحر الأحمر
إلى
كاننج؛ فبعد أن أسهب فيما أظهره سلطان عدن من ضروب الصداقة نحو الإنجليز استطرد يقول:
«إنها
تعتبر جبل طارق الشرق، ويمكن في مقابل مبلغ زهيد من المال تحصينها تحصينًا منيعًا.»
٥٤ وعندما ذهب مندوبنا في مخا لزيارة عدن إذا بها توشك أن تقع في قبضة محمد علي،
فلقد وافق السلطان على إبقاء حامية مصرية وسمح بإنشاء حلقة صغيرة على الخليج الشرقي،
بشرط
أن يُؤذَن له بامتلاك أبواب المدينة، وأن يباشر داخلها سلطته العسكرية والمدنية،
٥٥ ولسنا ندري ما السر الذي جعل محمد علي يُحجِم عن انتهاز تلك الفرصة، وخاصة
وقنصلنا العام صولت كان يتوقَّع انتهازها
٥٦ لا ريب في أن محمد علي قد أضاع وقتئذ تلك الفرصة الذهبية التي كانت تكفل له
السيطرة التامة على البحر الأحمر، كما أنه أضاع فيما بعد — أي في الحرب اليونانية — الفرصةَ
النادرة التي عرضت له طيلة حياته للحصول على اعتراف الدول باستقلاله التام.
ثم استمرَّت الحال على ذلك المنوال إلى أن بدأ يتحقق مشروع سكة السويس، وظهرت الحاجة
إلى
إيجاد محطات للفحم. وتدل الشواهد على أن الاختيار وقع في بدء الأمر على «سقوطرة»؛ ولذا
أُرسِلت حملة لاحتلالها من بمباي في سنتَيْ ١٨٣٤م و١٨٣٥م، ولكن دلَّ الاختبار على أنها
غير
صالحة لهذه الغاية، فإن شدة اندفاع المياه نحو الشاطئ جعل النزول إلى البر متعذرًا، ثم
إن
الجزيرة كانت موبوءة بحمى الملاريا؛ ولذا تقرر العدول عنها،
٥٧ وكانت الفكرة في سنة ١٨٢٨م قد اتجهت إلى عدن واتخاذها مستودعًا للفحم، وذلك
بمناسبة أول تجربة لتسيير السفن التجارية من بمباي إلى السويس، ولكن الباخرة «هيولندس»
تعذَّرَ عليها أكثر من ٣٠ طنًّا من الفحم يوميًّا لقلة الأيدي العاملة، وهو سبب يبدو
غريبًا
في عين السائح العصري.
٥٨
وفي أوائل عام ١٨٩٧م ارتطمت بالشاطئ بالقرب من عدن الباخرة «درايا دولة»، وهي من البواخر
التابعة لمدارس، فكانت الراية الإنجليزية تخفق على ساريتها، وقد كانت الباخرة تحمل عددًا
من
الحجاج عدا الهبة العظيمة التي اعتاد «نواب أرقوط» إرسالها إلى مكة سنويًّا لغرض
مقدس.
فالحجاج الذين نجوا من الغرق وقعوا غنيمة باردة في أيدي الأعراب الذين سلبوهم أمتعتهم،
كما أن أعوان السلطان أنقذوا كل ما يمكن إنقاذه من الباخرة تحت إشراف ابن السلطان
نفسه.
وتولى نائب السلطان الرئيس بيع هذه السلع في الأسواق.
٥٩
ولما بعث السير روبرت جرافت — حاكم بمباي — تقريرَه المُفصَّل عن هذه الحوادث، لاح
له أن
يتخذ التدابير المستعجلة، فقد كتب يقترح إنشاء مواصلة بحرية كل شهر مع البحر الأحمر بواسطة
البخار لا بتكوين عمارة من البواخر المسلحة يتحتم معها أن تكون لنا محطة خاصة على شاطئ
بلاد
العرب كالمحطة التي لنا في الخليج الفارسي.
أما الإهانة التي لحقت الراية البريطانية بسبب سلوك سلطان عدن، فقد حملتني على القيام
بتحقيق كانت نتيجته أنه لم يَعُدْ يخامرني أيُّ ريب في وجوب وضع يدنا على ميناء عدن.
٦٠
والأرجح أنه كتب ما كتب تحت تأثير توسع الفتوحات المصرية في اليمن على أن أوكلند
لم يشأ
أن يستعجل الحوادث، بل أشار بطلب تعويض؛ فإن أدَّاه سلطان عدن أمكن وقتئذ عقد اتفاق ودي
خاص
بمستودع الفحم. أما إذا لم يدفع التعويض المطلوب أمكن بعدئذ النظر فيما يجب اتخاذه من
الإجراءات.
٦١
وإذ ذاك تقرَّر إرسال الكابتن هينز من رجال الأسطول الهندي لمباحثة سلطان عدن في الموضوع،
وسارت المباحثات بادئ الأمر بشكل يبعث على الرضا.
وبعد مباحثات طويلة سلخ فيها السلطانُ الليلَ كلَّه مع مستشاريه وراء أبواب مغلقة،
وكان
يخشى أن تسقط «لحج» عاصمة بلاده من زمن قديم في قبضة محمد علي؛ قرر أن يتخلى لشركة الهند
الشرقية عن ميناء عدن الآخذة في الانحطاط في مقابل مبلغ معين من الدولارات، لا بل وضع
خاتمه
على وثيقة التنازل عن عدن للإنجليز.
وهنا نشأت بعض المصاعب؛ فقد كان ابنه الأكبر معارضًا في هذا التنازل، ولم يكن هينز
في
مركز يسمح له بإنزال جنوده لإتمام الصفقة.
٦٢
فلما أُذِيعَت الأنباء شرع جرافت يضرب على نغمة الضرورة المُلِحَّة من جديد «لأن
تحصل
الحكومة البريطانية في الفرصة الوحيدة؛ حتى تجعل تحقيق هذه الفكرة ممكنة لمدة قرون عديدة
على جهة مهمة وضعتها الظروف غير المنتظرة في متناول يدها.»
٦٣
ولكن حكومة الهند تراءى لها أن المسألة ينبغي أن يبت فيها ولاة الأمور في لندن.
٦٤
وهكذا أُرجِئ العمل إلى أن وصلت في شهر أغسطس رسائل معينة من اللجنة السرية،
٦٥ وبمقتضاها سمح أوكلند لحكومة بمباي في الشروع في العمل،
٦٦ فأُرسِل هينز من فوره إلى عدن، وهو يحمل في جيبه مشروع معاهدة وبصحبته حرس مركب
من ثلاثين من سكان بمباي الأجانب؛ وذلك خشية من أن يكر محمد علي على عدن ويستولي عليها،
بينما كانت الأوامر قد صدرت بإعداد قوة عسكرية أكثر عددًا وأوفر عددًا.
٦٧
ووصل هينز إلى عدن في ٢٤ أكتوبر، وهنا لا بد أن يلاحظ كل من له أقل إلمام بشئون الشرق
أن
قلة عدد رجاله شجعت ابن السلطان على أن يُلِحَّ على أبيه بألا يرضخ للاقتراحات الإنجليزية.
وقد نجحت مساعيه في هذا الصدد، وبعد أن كانت الأوامر صدرت بالتخلي عن البضائع المسروقة
من
الباخرة «درايا دوله» واختزانها، تقرَّر عدم السماح بنقلها، ثم مرَّت أيامٌ دَفَع الغرورُ
العربَ فيها إلى إطلاق النار على السفن الإنجليزية؛ فانسحب هينز إلى إحدى الجزر الصغيرة
في
انتظار وصول الإمدادات، وقد وصلت هذه في ١٦ يناير، ولم ينقضِ يومان حتى استولى على المدينة
عنوة.
وأما السير تشارلس ملكولم، فبعد أن كان قد اقترح بصفته مفتشًا عامًّا لقوة بمباي
البحرية
الحصول على امتيازات من السلطان … بدلًا من أخذ تصريح بإنشاء مستودع للفحم يظل تحت إدارة
أحد شيوخ العشائر الطامعين المذبذبين؛ فإنه أصبح الآن مغتبطًا بسير الحوادث، حتى إنه
كتب
يقول: «إن ميناء عدن وخليجها الذي يطل على الجهة الجنوبية فقط يَفُوقان كل تصوُّراتي،
وأحسب
أنه كان يستحيل الوصول إلى شيء أحسن من هذا يفي بكافة مطالبنا …»
٦٨
وليس من شك في أن هذا الاحتلال الإنجليزي لثغر عدن جاء مخيبًا لآمال محمد علي، بل
لعله
كان أكثر إيلامًا له من إصرارنا على انسحابه من الخليج الفارسي، فلقد قلب ظهرًا لبطن
كافة
مشروعاته التجارية والسياسية؛ فلقد كان المأمول — وإن كان ذلك الأمل لم يتحقق — أن تتحول
تجارة البن كلها من مخا إلى عدن،
٦٩ وبذا يفقد نائب السلطان امتيازًا له قيمته الكبيرة، وقد شكا القائد المصري من
نقص الرسوم الجمركية في مخا،
٧٠ وبديهي أن الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا وروسيا، لم تكن مرتاحة إلى هذا الانقلاب
الذي طرأ على عدن؛ لأنه لم يكن يُنتظَر أن يؤدي إلا إلى ترسيخ مركز الإنجليز في الشرق
وتوطيده.
ولما كتب كامبل يقول: «إنني على يقين بأن فرنسا وروسيا قد أفهمتا محمد علي، ولن تفتآ
تفهمانه بآراء خاطئة عن وجهة نظرنا في امتلاك عدن.»
٧١ على أن محمد علي مهما كان شعوره الداخلي حيال تقدُّم النفوذ الإنجليزي؛ فإنه
اجتنب الاحتجاج وقصر نفسه على التكلم برغباته وآماله؛ فعندما نمى إليه أن حكومات ولايات
الهند قررت إرجاء العمل إلى أن تصلها تعليمات صريحة من ولاة الأمور في لندن، لاحظ محمد
علي
«بأنه يؤمل أن تقتنع الحكومة الهندية بأن عدن جزء لا يتجزأ من اليمن … وأنه يرجو أن لا
تتشكك حكومة الهند في مبلغ ارتياحه إلى إنشاء مستودع للفحم في عدن وحدها، بل في كافة
ممتلكاته الأخرى.»
٧٢ ولعل أقرب عبارة للهجة الاحتجاج الرسمي قوله: «إنه مما يتنافى مع المعقول أن
نوافقه على إرسال تجريدة إلى اليمن، ثم نأتي بعد ذلك فنستولي على إحدى موانيها.»
٧٣
ولكن مثل هذه الأقوال لم يكن من شأنها تهدئة ثائرة بالمرستون، فأمسك القلم غاضبًا
ووضع
خطًّا غليظًا تحت الضمير في إشارة محمد علي إلى أملاكه، كما لو كان الضمير في نفسه بمثابة
خيانة ضد ميول محمد علي صديق بريطانيا الصدوق. أما فيما يختص بموافقتنا على إرسال تجريدة
إلى اليمن، فقد أجاب بالمرستون صراحة بأننا لم نُبْدِ معارضة في إرسال محمد علي تجريدة
لكبح
جماح جنوده الثائرين، ولكن التجريدة كانت أُرْسِلَتْ قبل وصول موافقتنا على إرسالها بزمن
طويل،
٧٤ ولما استصوب نائب السلطان استعادة الجنود من اليمن تفاديًا من وقوع حوادث على
الحدود رد عليه وزير الخارجية بأنه لا يرغب في استمرار احتلال الجيش المصري لليمن، بل
ما
أشد ما يكون اغتباطه على العكس إذا حدث ما يدل صراحة على أن الباشا مهتم بتحسين إدارة
الولايات المعهودة إلى حكمه بدلًا من تسخير جهود ذهنه وموارد القطر الذي يحكمه في إرسال
تجريدات عسكرية مهمتها شن الغارة على البلدان المجاورة ومناصبتها العدوان،
٧٥ وحتى قبل أن يحتل الإنجليز عدن فعلًا أنذر بالمرستون محمد علي «بأن كل محاولة
عدائية ضد عدن سوف تُعتبَر بمثابة اعتداء على أملاك إنجليزية، وإذ ذاك تُعالَج على أن
لها
تلك الصفة.»
ومن ذلك الحين فصاعدًا، وخاصة بعد أن أخذت العلائق تزداد توترًا بسبب حوادث سوريا،
ظلت
عدن مصدرًا للجفاء بين الفريقين، وقد أنذر محمد علي بألا يتعرض لرؤساء العشائر المتاخمين
للمستعمرة الإنجليزية الجديدة،
٧٦ وقد دار على الألسن فيما بعد أن نائب السلطان يحسن صنعًا لو أنه عمل باقتراحه
فأصدر أمره بالجلاء عن اليمن كلية،
٧٧ ثم راجت الإشاعات بأن الجنود المصريين قد حفزوا رؤساء العشائر لمهاجمة عدن،
ولسوء الحظ أن قنصلنا العام السخيف المجرد من اللياقة، وهو الذي خلف كامبل صدق تلك الإشاعات
وآمن بها كما لو كانت حقيقة لا ريب فيها،
٧٨ وحتى بعد أن انسحب محمد علي نهائيًّا من اليمن لم يكفِ ذلك القنصلَ العامَّ عن
تجريحه ولومه.
٧٩
فأنت ترى فيما سُقْناه أمامك من الحوادث التي وقعت فيما بين الحرب السورية الأولى
والثانية مبلغ وهن سياسة محمد علي وقوتها وعدم ثباتها في كثير من النواحي؛ فلقد رأى بحصافة
رأيه وبُعْد نظره أهمية الصداقة البريطانية بالنسبة إليه. ويظهر أنه كان يرغب دائمًا
في نيل
هذه الصداقة؛ فكان لا يفتر عن السعي لابتكار الوسائل التي تزيد في قيمة تعاونه في أعين
الإنجليز، ولكن يلوح هنا أن الباشا أساء فهم مركزه كما أساء فهم مركز بريطانيا
العظمى.
نعم؛ لقد كانت مصالح إنجلترا ومصر متشابكة، ثم إن استخدام طريق السويس إلى الهند جعل
من
الأهمية بمكان بالنسبة إلينا أن تظل مصر بعيدة عن الوقوع تحت أي سيطرة أجنبية، اللهم
إلا
إذا كانت تحت سيطرة بريطانيا، وأن نساعد على توطيد مركز حكومتها وزيادة رخاء سكانها هذا،
بينما كانت سيطرة بريطانيا البحرية سببًا في جعل إنجلترا خير حليف يمكن أن يحالفه قطر
لا
سبيل إلى مهاجمته إلا من ناحية البحر؛ لهذا كان عقد محالفة بين مصر وإنجلترا رأيًا صائبًا،
ولكن من وجهة نظرنا كان يوجد فارق كبير بين محمد علي باشا مصر الساعي لتوطيد دعائم النظام
وإقامة سنن العدل ونشر العلوم والمعارف في وادي النيل وبين محمد علي الذي يُسخِّر شعبه
في
فتح بلاد العرب وتدويخ سوريا ونشر سلطانه وبسط نفوذه شرقًا لغاية البصرة وجنوبًا لغاية
عدن،
مهدِّدًا بهذا أعصاب أوروبا بقلب الإمبراطورية العثمانية ظهرًا لبطن.
ولم يكن هناك ما يمكن أن يقنع بالمرستون — وفي هذا كان وزير خارجية بريطانيا على حق
— بأن
مصالح بريطانيا في حاجة إلى تأييد دولة عسكرية قوية في الشرق الأدنى كالتي كان محمد علي
وبخاصة ابنه إبراهيم يحلم بإنشائها، بل لم تكن مصالح بريطانيا في حاجة إلى حماية أخرى
عدا
حماية الأسلحة البريطانية، فلم يكن ثمة مناص من أن يؤدي بسط نفوذ الباشا شرقًا إلى اصطدام
المصالح وتعارض السياسات.
وكذلك لم يكن هناك شبه ظل لما زعم بعض الكُتَّاب المصريين العصريين لوجود عداء من
ناحية
بريطانيا العظمى لمصر؛ فلقد كان المجال فسيحًا أن يبلغ محمد علي شأو العظمة كما شاء في
داخل
حدود مصر الجغرافية الطبيعية، ولكن لم يكن من شأنه أن يُعرِّض مصالح أوروبا للخطر، أو
أن
يضطلع بالنيابة عن إنجلترا بأعباء تحس هي أن في وسعها الاضطلاع بها على أحسن وجه.
وقد كان بالمرستون حكيمًا ومُصيبًا عندما آثر أن يدعم سلطة إنجلترا في الخليج الفارسي
وعند مدخل البحر الأحمر، بدلًا من أن يسمح للغير — مهما كانت توكيدات صداقته — باحتلال
مناطق كان القَدَر قد أعدَّها لأَنْ تلعب دورًا خطيرًا في تاريخ الإنسانية.