الفصل السادس
الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
كانت النتائج التي تولَّدَتْ من مشكلتَي البحر الأحمر والخليج الفارسي كثيرة الشبه
لسوء
الحظ في اتجاهها وآثارها بالنتائج التي أسفر عنها تطوُّرُ الحوادث في سوريا وما جاورها
من
البلاد؛ فإن التسوية التي وصل إليها الفريقان في صلح قوتاهية لم تكن تسوية بالمعنى المفهوم
من هذه اللفظة؛ لأنها تركت كلًّا منهما مغيظًا غير راضٍ يتربَّص الفُرَصَ لإحداث تغييرات
جديدة، وكان هذا هو المعروف بين الشخصين البارزين في هذا النضال العنيف.
ففي الآستانة كان السلطان محمود وصاري عسكر خسرو مصمِّمَيْن: الأول على استعادة سوريا،
والثاني على إذلال منافسه القديم.
وفي الناحية الأخرى كان محمد علي الذي بسط نفوذه على كثير من البلاد، ولكن كان احتفاظه
بها في مقابل شروط مُجْحفة. كيف لا وقد كان يؤدي الإتاوة التي تتجدَّد كل عام ويستولي
عليها
السلطان سنويًّا؟!
وكان الباشا يُعرَف أنه أصبح هرمًا، وأنه لا يرجو أن يفسح له الأجل طويلًا، فجعل يسائل
نفسه عما يكون مصير ممتلكاته ومصير أسرته بعد انتقاله إلى الدار الباقية، ولم يكن يخالجه
أي
شك في أن انتقاله من على المسرح السياسي سوف يكون بمثابة إشارة لخصومه لتجديد محالفاتهم
القديمة لا لإعادة سوريا وحدها إلى قبضة السلطان ووضعها تحت نفوذه المباشر، بل واستعادة
القطر المصري أيضًا، وإذ ذاك يطاردون أسرته انتقامًا من مسلك كبيرها ومؤسسها حيال السلطان.
كما أن الولايات التي بُذِل فيها من الجنود ما بُذِل لتحسين الإدارة ونشر المعارف والعلوم
سوف تُقتسَم بين باشوات من الطراز القديم، فلا يكون لهم هم إلا أن يمتصُّوا دماء الأهالي
ويستلبوا ما عندهم من حطام ونشب قبل افتضاح الأمر وإحالتهم إلى الاستيداع. وفي الحق لقد
تكهَّن محمد علي بأن أسرته وإصلاحاته لن يطول أجلهما بعد وفاته، وأن الأمس سوف يصبح
منسيًّا، كما أن العمل الذي وقف حياته وجهوده عليه سوف يتلاشى كأن لم يكن، وكلما تقدمت
به
السنون كلما ازداد يقينًا بأن عمله ما زال غير ثابت، وأنه يخشى عليه من تقلبات الأزمان
وتصرفات الحدثان.
ولقد دلت العلاقات بين السلطان وبين الباشا بعد انتهاء الحرب مباشرة إلى أي حد كان
صلح
قوتاهية صلحًا أجوف لا قيمة له؛ فقد كانت هناك مسألة الإتاوة، فحتى بعد أن تحدَّدَ مقدارها
وانتهى البحث فيها ظَلَّ السلطان متمسكًا بدفع المؤخَّرات التي رفض محمد علي دَفْعَها
رفضًا
باتًّا. وحدث أنه في أثناء البحث في مسألة الزيادة أن انتهز محمد علي فرصة زواج إحدى
أميرات
البيت السلطاني، فأرسل إلى الآستانة مندوبًا خاصًّا متظاهرًا برفع تهاني الباشا، بينما
كانت
مهمته الحقيقية ترمي إلى أكثر من ذلك. وذهب المندوب تصحبه حاشية عددها اثنا عشر شخصًا،
وقد
زوَّدَه محمد علي بالتعليمات بأن يتظاهر في الآستانة «بكافة مظاهر الأبهة التي تليق بإحدى
الوزراء» فيوزع ما قيمته مليون قرش بشكل هدايا،
١ وكلَّفَ المندوب في الوقت نفسه بأن يبيِّن للسلطان محمود بأنه طالما بقي خسرو
في الديوان فإنه لن ينفك عن تسوئة سلوك الباشا، وأن السلطان لو أصدر أمره الكريم بإبعاد
الصاري عسكر عن ديوانه السامي؛ فإن الباشا لن يكتفي بالمواظبة على أداء الإتاوة في مواعيدها
… بل يدفع شطرًا كبيرًا من المؤخرات التي يطالب السلطان بها، وقد كان المظنون أن يجتمع
في
الآستانة لهذه المناسبة عدد كبير من كبار خصوم خسرو، وبذلك تكون الفرصة سانحة،
٢ وعلى كلٍّ، فلم تفشل البعثة فقط في تحقيق غايتها، بل لقد كان وجودها في
الآستانة بمثابة فرصة لتوجيه الإهانات والعبارات الجارحة إلى مرسلها محمد علي، مثال ذلك
أنه
لم يسمح لرئيسها حبيب أفندي أن يضع علمًا على قاربه، ولا أن تكون له «تندة» ليتقي بها
حرارة
الشمس، كذلك لم يسمح للعمال الذين تولوا عملية التجديف في القارب بأن يُؤدُّوا مهمتهم
بالشكل المألوف عندما ينقلون شخصًا له مركز هام. وقد كانت نتيجة ذلك كله أن كثيرين من
ذوي
الحيثيات في الآستانة خشوا الذهاب إلى مقره لزيارته علنًا ولم يستقبلوه في منازلهم إلا
خفية، بل إن السلطان نفسه تذمَّرَ عندما علم بأن بحَّارة القارب الذي أقلَّه إلى الآستانة
صعدوا الأسكلة وردَّدوا قولهم: «على الطراز الأوروبي» اعترافًا بكرمه عندما وزَّعَ بينهم
هبات تُقدَّر بخمسين ألف قرش.
٣
وأخيرًا تمَّ الاتفاق في خلال سنة ١٨٣٤م على مسألة الإتاوة، وذلك بأن يؤدَّى المبلغ
السنوي وتُهمَل المؤخرات بتاتًا، على أن ذلك الترتيب لم يشف عن أي تحسين حقيقي فيما بين
السلطان محمود ومحمد علي من العلاقات المضطربة الغامضة؛ فإن الأول مثلًا لم يَدَعْ فرصةً
تَمُرُّ إلا وانتهزها لإثارة الاضطرابات والقلاقل في سوريا، ولقد سبق أن أدخل إبراهيم
في
هذه الولاية نظام الخدمة العسكرية الإجبارية مع بعض إجراءات لحماية السكان المسيحيين،
وبذا
أثار عوامل السخط بين طبقات الشعب، ثم تجمَّعَت العاصفة وانفجر مرجل الثورة في المنطقة
الواقعة حول القدس، وتحرَّجَت الحالة وأصبحت من الخطورة، بحيث رأى الباشا بأن يذهب لزيارة
سوريا بشخصه. ولم يكن هناك أقل ريب في أن الثورة إنما كانت بإيعاز أشخاص معينين كانوا
يعملون لحساب الآستانة، ويمكن من الحادث الآتي الذي وقع في نابلس استنتاج الغاية التي
كانوا
يُبشِّرون لها؛ فلقد صعد أحد الأتراك إلى مأذنة أحد المساجد وجعل يصيح بأعلى صوته: «ألم
يَعُدْ ثمة وجود للديانة الإسلامية؟! هل تلاشت وعفا أثرها؟! … ألسنا عثمانيين؟! فليُهرَعْ
كلُّ مَنْ يحب النبيَّ محمدًا
ﷺ إلى السلاح، وليصمد لذلك الرجل الذي يُسمَّى إبراهيم
باشا، والذي لا إيمان له. ذلك المدمن الذي يعاقر الخمر ويأكل لحم الخنزير وكل ما يخرجه
البحر من القاذورات (يشير بذلك إلى أكل إبراهيم باشا الترسة وغيرها من أسماك البحر التي
يُحرِّمها الدين الإسلامي) تشبُّهًا بالمسيحيين، والذي يسكن الأديرة مع القسيسين ويصلِّي
معهم مع أنه لا يذهب إلى المسجد مطلقًا.»
٤
وعلى كلٍّ فقد اتُّخذت الإجراءات القاسية لقمع الثورة، وقد جِيء إلى محمد علي بثلاثة
من
زعماء الثوار فأمر بإطاحة رءوسهم في الحال،
٥ وتم نزع سلاح المناطق الثائرة، ونُفِّذ نظام الخدمة العسكرية الإجبارية.
وبالجملة، فقد قُمِعَت الثورة دون أن تزعزع شيئًا من شوكة الباشا.
ولكن الحالة العامة كانت تنذر بالخطر؛ فإن كل فريق كان يرتاب في نيات الآخر ولا يطمئن
إليه؛ ولذا أخذ كلٌّ منهما يُعِدُّ العُدَّة للنضال الحاسم المقبل، وبهذه المناسبة كتب
القنصل البريطاني في حلب: «إن كل شيء في سوريا أصبحت عليه الآن مسحة عسكرية، وقد اتخذت
كافة
الإجراءات لتقوية الجيش وزيادة عَدَده وعُدَده، وقد حصنت حزون جبال طوروس وأصبحت جنود
الباشا متجمعة خلف حدوده الشمالية، وليس من شك في أن الحالة في الجانب الآخر من الحدود
مشابهة للحالة هنا، فلقد حشد الأتراك في قونية ما لا يقل عن ٩٠٠٠ جندي.»
٦
أما الشيء الذي استلفت النظر بصفة خاصة في إنجلترا، بل وأدَّى إلى الامتعاض والتذمر،
فهو
نظام الخدمة الإجبارية الذي تمكَّن الباشا بمقتضاه من الاحتفاظ بقواته العسكرية كاملة
غير
منقوصة بعد أن ازدادت وحداتها. ولم يكن هذا النظام سوى بدعة غير مرغوب فيها في سوريا؛
فإن
الباشوات الأقدمين لم يَدُرْ بخَلَدهم شيء من هذا القبيل، بل كانت عاداتهم استخدام بعض
الجنود الألبانيين أو غيرهم من الجنود الأجنبية المأجورة؛ لأنهم كانوا يستصغرون شأن صفات
السوريين العسكريين.
٧
ولكن محمد علي عَقَدَ النية على استخدام السوريين في الأعمال الحربية، وإن لم يكن
هناك
إحصاء بعدد السكان يمكن أن يعتمد عليه الإنسان، كما أنه كان يستحيل عمل مثل هذا الإحصاء،
فلم يكن ثمة ندحة عن الالتجاء إلى النظام الروماني لتنفيذ هذا المشروع الذي كان يُعتبَر
في
كل جهة بأنه منحوس في حد ذاته ولا مفر من أن يؤدِّي إلى زيادة عبء الضرائب. ويَلُوح أن
السوريين كانوا لا يزالون يُعلِّلون به أنفسهم من الاعتقادات في عهد أوجبسترس؛ فلقد كانوا
يعتقدون أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تنفيذ نظام الخدمة الإجبارية، وهو دعوة عدد
معين
من الأشخاص في منطقة معينة إلى الخدمة العسكرية وإلقاء القبض عليهم عنوة، ولكن السوريين
الذين كانوا يؤثرون ما يلحقهم من إهانات الجنود المأجورين غير النظاميين على التحاقهم
أنفسهم بالجيش لم يتركوا حيلة إلا ولجئوا إليها لاجتناب القبض عليهم؛ ففي حلب مثلًا اختفى
الأشخاص الذين بلغوا السن القانوني عن الأعين عندما صدرت الأوامر في سنة ١٨٣٣م بدعوة
١٠٠٠٠
رجل للالتحاق بالجيش، ففرَّ بعضهم إلى دور القنصليات ليحتموا بحرمها، وجيء بآبائهم لجلدهم
بالقرب من النوافذ على أمل إخراج الفارين من مخابئهم، وأخيرًا كلف مشايخ أقسام المدينة
بذكر
عدد الرجال الذين يستطيعون جلبهم للالتحاق بالجيش.
٨
وفي سنة ١٨٣٥م تكررت هذه الإجراءات وأشباهها، وكانت مصحوبة بنفس المقاومة السلبية،
ففي
بيروت أحاطت السلطات بالمساجد وألقَت القبض على الذكور اللائقين للخدمة العسكرية، وفي
حلب
أُغلِقت المساجد والدكاكين ووقف دولاب التجارة حتى تعذَّر الحصول على الخبز واللحم وغيرها
من أنواع التغذية مدة يومين كاملين، وإذ ذاك أخذ كثير من الناس يفرون إلى القرى الواقعة
في
سفح جبال طوروس، بينما لجأ آخرون إلى التزيي بزي النساء، وتمكَّنوا بهذه الطريقة من اجتياز
الحدود إلى أراضي السلطان، ولشد ما كانت خيبة آمالهم عندما أبصروا أن السلطان محمودًا
كان
يحتذي حذو محمد علي في جمع الأنفار، وأنه كان يُنفِّذ الخدمة الإجبارية بمنتهى الصرامة
والقسوة.
ولقد بُولِغ في رواية هذه الحوادث أشد مبالغة أدَّت إلى أن تُعلِّق عليها الصحف والدوائر
السياسية تعليقات ملؤها السخط والاشمئزاز، وقد أصدرت إلى كامبل تعليمات بأن يبلغ محمد
علي
بصفة خصوصية غير رسمية بأنه إن كان يرغب في التجنيد الإجباري حقيقة، فلا أقل من أن تُوضَع
أسماء الأشخاص اللائقين في جداول منظمة، وأن يُنفَّذ المشروع بطريقة نظامية لا أن يُخطَف
الناس من الطريق خطفًا بالقوة العسكرية وبدون تمييز بين اللائق منهم للخدمة وغير اللائق،
كما يحدث عندما يُراد اقتناص عدد من الحيوانات البرية أو قطيع من المواشي في الصحراء.
٩ على أن هذا الشعور الإنساني ما لبث أن خُفِّف لتأييده في نواحٍ معينة بعض
الصوالح الخاصة.
وكان يوجد أحيانًا ما يسوغ ذلك العطف والتأييد، مثال ذلك ما حدث في سنة ١٨٣٥م عندما
قبض
الجنود في بيروت على بعض أشخاص في خدمة القنصليات؛ ففي هذه المناسبة أوفد محمد علي
الكولونيل سيف «سليمان باشا» بعمل تحقيق خاص في الموضوع، وطلب إلى قناصل الدول العموميين
في
الإسكندرية أن يختاروا مندوبًا لمرافقة سليمان باشا،
١٠ وأحيانًا كنت ترى بالمرستون يقوم ويقعد ويرغي ويزبد عند سماعه أنباء غير حقيقية
تفتقر إلى إثبات، مثال ذلك أنه علم في سنة ١٨٣٥م بأن المسيحيين جُنِّدوا كأنفار، فكتب
من
فوره إلى كامبل يقول: «إن لأوروبا الحق في أن ترجو معافاة المسيحيين التابعين للباب العالي،
والذين يسكنون الأقطار التي عهد بها السلطان في الوقت الحاضر إلى حكم محمد علي من ذلك
التجنيد الجديد الذي يُخيَّل إلى الباشا أنه يستطيع أن يرهق به السكان المسلمين الذين
عُهِدَ إليه بالمحافظة على صوالحهم والسهر على رخائهم ويسرهم.»
١١ ولكن كامبل تغافَلَ عن هذا التهكم اللاذع، وراح يُؤكِّد لرئيسه أن مسيحيًّا
واحدًا لم يُطبَّق عليه نظام الخدمة الإجبارية؛ فلقد قام أخيرًا برحلة طاف فيها أنحاء
سوريا، فلقي كثيرين من الحجاج وقد وشموا الصلبان على سواعدهم، فلما سألهم عن السر في
ذلك
أخبروه أن الوشم عادة شائعة لا تنحصر مزيتها في تمييز المسيحيين من المسلمين، بل إنها
تحميهم من التجنيد الإجباري.
١٢
على أنه لو كان للمبادئ الإنسانية والعواطف المسيحية دَخْل في تذمر الدول العظمى،
وبخاصة
بريطانيا، من عملية التجنيد الإجباري في سوريا فإن الاعتبارات السياسية جعلت للمسألة
خطورة
مزعجة؛ ذلك لأن نشوب الحرب بين السلطان والباشا كان نذيرًا بظهور الروس من جديد على المسرح
السياسي وتعزيز نفوذهم في الآستانة طبقًا لنصوص معاهدة انكيار سكيليسي، وإذ ذاك لا يكون
أمام بريطانيا إلا أحد أمرين؛ فإما السكوت على أن يكون لروسيا التفوق في بوغازي البوسفور
والدردنيل أو تلجأ إلى الحسام لتهدم ذلك التفوق والقضاء عليه. وبديهي أنه لم يكن من السهل
التفضيل بين أحد هذين الأمرين؛ إذن فلا بد من منع محمد علي من مهاجمة الباب العالي، أو
إذا
لم يكن منع نشوب الحرب؛ فإن بريطانيا تنضم إلى روسيا في تأييد السلطان وشد أزره؛ ولهذا
وجهت
إلى محمد علي عبارات اللوم والتقريع في مرات عديدة.
وفي نهاية سنة ١٨٣٧م اضطر كامبل أن يبيِّن له أن الدول العظمى لن تسمح له بالاحتفاظ
بكل
هذه التسليحات التي لن تكون لها نتيجة أخرى عدا وقوعه في أشكال مع السلطان، وبذا يتعذر
نشر
ألوية السلام في ربوع الشرق.
١٣
أما بالمرستون فقد رفع عقيرته وردَّدَ عبارات التحذير عالية، وطلب إلى كامبل بأن
يلفت نظر
الباشا إلى العواقب السيئة التي سوف تكون حتمًا من نصيبه إذا ما عاد إلى الاعتداء على
أي
قطر من الأقطار التابعة للسلطان، ثم عليك أن تُبلِغ الباشا بأن نظامه الخاص بالتجنيد
الإجباري وتنفيذه إلى مدى واسع مضافًا إليه تأهباته العسكرية الإيجابية وحشده الجنود
في
سوريا؛ كل هذا خليق بأن يثير الارتياب في نياته حيال الباب العالي،
١٤ ولكن محمد علي لم يكن له إلا رد واحد على هذه الاعتراضات، وكان هذا الرد مفحمًا
يصعب ألا يرضخ له الإنسان؛ ذلك أن السلطان محمودًا كان منهمكًا في إعادة تنظيم جيشه،
ثم إن
الضباط الألمان بما فيهم الجنرال فون ملتكه الشهير قد استأجرهم السلطان لتمرين الجيش
وتنظيمه.
ولما كان الباب العالي وقتذاك غير مشغول بحرب خارجية ولا مهدد بثورة داخلية يستعد
لقمعها،
فما معنى هذه الاستعدادات إن لم تكن موجهة ضد مصر؛ فإذا كان الباشا يستعد من ناحيته
فاستعداده ذلك إنما هو ما تمليه عليه رغبته الصادقة في الاحتفاظ بالسلام، وهي الترجمة
الشرقية للعبارة اللاتينية: «إن أردت السلام فعليك بالاستعداد للحرب.»
ولم يَرُق هذا الرد طبعًا في نظر بريطانيا وفرنسا، بل اغتاظتا له أشد الغيظ فأصدرتا
لقنصليهما العموميين التعليمات اللازمة بالتكلم مع الباشا في الموضوع بلهجة حازمة شديدة،
بل
إن بالمرستون كتب في هذا الموضوع مرتين متواليتين في شهر مارس سنة ١٨٣٨م؛ فقد طلب أول
مرة
بيانات صريحة عن نيات محمد علي،
١٥ أما في المرة الثانية فقد حذَّره من عواقب الحرب الخطيرة؛ فقد استطرد في هذه
الرسالة الثانية يقول لكامبل: «ولا يفوتك أن تُبيِّن للباشا أنه ينبغي عليه أن يفهم أن
مواهبه وجهوده — على عظمتها في أعين العالم جميعًا — سوف تجد مجالًا واسعًا للبروز في
إيجاد
نظام محمود للإدارة في الأقطار الخاضعة لحكمه.»
١٦
ولكن بالمرستون برغم هذه الألفاظ المعسولة، وبرغم هذا السخط الأدبي لم يكن ينظر —
ولعله
لم يكن يستطيع في مكانه ذلك أن ينظر — إلى الموقف نظرة عادلة مجرَّدة عن الهوى؛ فإنه
كان
يطالب الباشا بالتنازل عما لا يمكن التنازل عنه إلا خضوعًا للقوة، وقد اقترح كامبل اتخاذ
خطة أدنى إلى العدل عندما كتب إلى رئيسه في نهاية سنة ١٨٣٧م، يقول: «ليس يسعني إلا أن
أشعر
أن محمد علي استطاع أن يكون آمنًا على نفسه ضد أي اعتداء من جانب السلطان، ثم إنه إذا
اضطر
وقتئذ إلى تخفيض جيشه وأسطوله إلى حد معين، ولو حُظِر عليه الالتجاء إلى الخدمة الإجبارية
في أي قطر من الأقطار التابعة له؛ فليس من شك في أن هذا التعبير الصالح سوف يظهر أثره
الحسن
عاجلًا في كافة أنحاء البلاد.»
١٧ وهذا لعمرك هو الحق الذي لا ريب فيه، فإن الباشا لم يكن يمكن أن يزيل مخاوفه
ويُبدِّد شكوكه ويُغْنِيه عن الحاجة إلى التسليح إلا ضمان من هذا القبيل، اللهم إلا إذا
كان
المقصود أن يستعد الباشا لتسليم السلطان أي قطر من الأقطار التابعة له يقع عليه اختيار
عاهل
الآستانة. ولقد كان من بواعث الأسف أن موقف روسيا جعل تقديم مثل هذا الضمان ضربًا من
المستحيلات؛ ولذا لم يَسَعْ بالمرستون إلا أن يُردِّد النظرية الرسمية؛ وهي أن محمد علي
لم
يخرج عن كونه مجرد خادم السلطان ووزيره، وأن لهذا الحق كل الحق في أن تتطلع نفسه لاستعادة
أملاكه في أي وقت شاء، وأن ما يقوم به الباشا من الاستعدادات الحربية هو في الواقع عمل
غير
قانوني ومنافٍ لقواعد الولاء وينطوي على الخيانة.
وغير خافٍ أن هذه الصفات نفسها كانت هي نفس النظرية التي تُردِّدها الإمبراطورية
العثمانية، ولكن كانت هناك نقطة تنتهي عندها هذه الخرافات القديمة وتصبح لا مفعول
لها.
فلقد حدث في الهند أن حكومة شركة الهند الشرقية قررت أنها في حِلٍّ مما عليها حيال
إمبراطورية المغول من الواجبات بمجرد ما تخلَّى عن حمايتها، وانضمَّ إلى قبائل الماهراتا
وهم أعداء الشركة المحتملون. ولقد أجمع العقلاء على تسويغ عمل الشركة، وإنما سُقْنا هذا
المثال لنبيِّن أن محمد علي لم يكن يختلف موقفه عن موقف شركة الهند الشرقية الشريفة،
ولعل
الخلاف — إن وُجِد — يرجع إلى ملابسات السياسة أكثر مما يرجع إلى المبادئ السياسية؛ لأن
خروج «دارين هيستنجز» على سلطة عاهل المغول «شاه علام» لم يكن من شأنه أن يُعرِّض سلام
أوروبا للخطر كما كان يُعرِّضها خروج محمد علي على السلطان محمود عاهل الآستانة، وكانت
النتيجة أن الباشا العظيم مع أنه كان أهلًا للعطف بسبب ما كان يبذله من المساعي والجهود
لتوطيد دعائم ما بذله من الإصلاحات التي أدخلها وأن ينقذها من عبث الإدارة التركية؛ فقد
بقيت بعض أسباب قوية تسوغ سياسة بالمرستون برغم الكثير من النظريات غير المقنعة التي
استند
إليها في قضيته ضد محمد علي، أو بعبارة أخرى أن بالمرستون كان يحسب حساب الصوالح العالمية
الكبرى ويرى مراعاتها أهم بمراحل من تعزيز نفوذ محمد علي أو الاحتفاظ بإصلاحاته، ولا
يمكن
أن تعدل مزايا هذه الإصلاحات الأخطار التي تنشأ حتمًا من نشوب حرب أوروبية. ولقد صرح
بالمرستون في سنة ١٨٣٣م — وكان على حق فيما قاله في ذلك الحين — أن العناية الكبرى التي
جعلتها الحكومة البريطانية نصب عينيها هي المحافظة على السلام … إننا لا نميل إلى إحداث
تغييرات كبيرة في توزيع السلطة السياسية توزيعًا نسبيًّا؛ لأن حدوث هذه التغييرات لا
يكون
إلا بالحرب، أو إذا اقتضت حدوثه جدلًا فلا بد حتمًا أن يؤدي عند إتمام التغيير إلى نشوب
الحرب.
١٨
ونحسب أن من حق محمد علي علينا أن نرجئ الخوض في طبيعة إدارته وكفايتها إلى فصل آخر،
ولكن
لا يفوتنا أن نذكر هنا أنه مهما كانت قيمة تلك الإدارة فقد كان عنصرًا رئيسيًّا في سياسة
بالمرستون أنه كان ينظر إلى إدارة محمد علي بعين الشك والارتياب؛ فقد كان من رأي ذلك
السياسي الحر (التابع لحزب الأحرار) أن الغايات الصالحة الإنسانية المتنورة التي قال
الناس
إن محمد علي وضعها نصب أعينه تتنافى بتاتًا مع قبضه على الناس بالقوة للخدمة في جيوشه،
ولم
يكن في استطاعة لورد بالمرستون بصفته من كبار الأعيان أن يُوفِّق بين الحكومة العادلة
وبين
تجريدها للناس من أملاكهم، هذا إلى أن رجال الاقتصاد في الغرب أجمعوا على استهجان
الاحتكارات التجارية التي أوجدها الباشا في مصر وفي غيرها من البلاد التابعة له.
فهذه الأسباب العامة وغيرها هي التي جعلته لا يميل إلى النظر بعين العطف إلى مطالب
محمد
علي وآرائه؛ فكان كلما أشار كامبل إلى حماية الباشا لممتلكات الأشخاص يرد عليه بالمرستون
بقوله: «ما عدا ممتلكات الشعب الذي يحكمه محمد علي.» وكلما أشار القنصل العام إلى حب
الباشا
للخير يُجيبه وزير الخارجية: «وليس حب الخير هذا هو ميله للحرب وفتح البلاد واستلاب الناس
وسَنِّ نظام الخدمة الإجبارية وإيجاد الاحتكارات التجارية.»
١٩ فهذه الآراء وإن كانت بلا قيمة في تقدير ما قام به محمد علي من جلائل الأعمال
تساعد بلا شك على تفسير سياسة بالمرستون في الأزمة التي كانت ستهب ريحها في القريب
العاجل.
ولم تكن هذه الآراء مجرد نتيجة أفكار عامة أو منشأها المضايقة مما كان يبديه الباشا
من
نشاط لا يدعو إلى الارتياح، وكان سير الإدارة في سوريا كما سأبيِّن بعد أقل توفيقًا وأبعد
عن النجاح مما كان في مصر، ولم تتورع الصوالح المغرضة عن المبالغة في مساوئ الإدارة السورية
بلهجة لبقة خداعة، وليس من شك في أن تدهور الإدارة التركية وإهمال الباشوات يُضاف إليهما
استمرار انحطاط قوة تركيا العسكرية، ثم ما ترتَّب على ذلك من إحجام الديوان وتخوفه من
معالجة المسائل الخاصة بالشئون الخارجية؛ كل هذا قد شجَّع بعض العناصر في التمادي والإغراق
في إساءة استعمال الامتيازات التركية. من ذلك أن القناصل زعموا أن لهم الحق في معافاتهم
من
كافة الضرائب والرسوم، اللهم إلا شيئًا تافهًا محددًا، وأن لهم الحق في تطبيق هذه المعافاة
على كل من يستخدمونه وعلى أي شخص يقولون إنه من رعاياهم.
وقد أثبت «لبارد» أن معظم القناصل في سلانيك كانوا يعيشون على الإيرادات المتحصلة
من بيع
جوازات السفن أو الحماية للمسيحيين الوطنيين،
٢٠ وقد كانت هذه الفضائح تُرتكَب في سوريا بلا رادع. وبهذه المناسبة كتب كامبل «إن
القناصل والأعوان اعتادوا أن يحموا عددًا لا حصر له من رعايا الترك المسيحيين، وكذلك
للتجار
بتوصية بعض السماسرة للتراجمة … إلخ، وكانت هذه الحمايات تُباع للرعايا المسيحيين، وكان
بعض
هؤلاء من الثروة الضخمة ما يجعله يدفع الأموال الطائلة للقنصل في سبيل التظلل بحماية
تُخرِجه من طائلة القانون التركي.»
٢١
بل إن ليدي «هيستر ستانهوب» لغير ما سببٍ سوى مزاجها الأوتوقراطي أعطت ٧٧ حماية بعضها
لأشخاص ذوي ثروة ضخمة، وقد أُعطِيَتْ كافة هذه الحماية لأشخاص لم يكونوا في خدمتها يومًا،
بل ولم تكن تدفع لهم مرتبات مطلقًا.
ثم إن القناصل اعتادوا أن يُصْدِروا شهادات بأن البضائع الموجودة في الجمارك التركية
تابعة لهم، «فهي إذن معفاة من الرسوم ولا يمكن تفتيشها»، مع أن الناس كانوا يعرفون جميعًا
بأن القناصل إنما يتستَّرون على بضائع تابعة لبعض التجار الوطنيين.
٢٢
ولقد كان من نتائج قيام حكم محمد علي في سوريا مع ما تضمَّنَه قيام هذا الحكم من
إدخال
نظام الخدمة الإجبارية أن زاد ثمن الحماية التي يحصل الإنسان عليها من القناصل، ولقد
عاد
الكولونيل سيف الذي أرسله محمد علي إلى سوريا للتحقيق في حوادث الاعتداء على دور القنصليات
٢٣ بتقرير شنيع وقاسٍ، وقد أيَّده فيه مندوب القناصل العموميين الذي ذهب لمرافقته
في مهمته، وفي التقرير أن معظم التراجمة الملتحقين بالقنصليات هم جماعة من أغنياء التجار
ليس في استطاعة أحدهم أن يؤدي للقنصل وظيفة الترجمة؛ لأنهم لا يعرفون لغة أخرى غير اللغة
العربية، ثم إن الجنود الانكشارية كانت لهم ركالين، وانخرطوا في سلك التجارة. هذا إلى
أن
الكُتَّاب العموميين صاروا تجارًا وبعضهم كانت له ثروة ضخمة، وكان الكثيرون من هؤلاء
الموظفين «بالاسم فقط» لا يضطلعون بواجباتهم؛ إما لأن مرتبهم أسمى من أن يسمح لهم بذلك
وإما
لأنهم كانوا عاجزين فعلًا عن أداء هذه الواجبات، ولكنهم كانوا مع ذلك يدفعون مبلغًا طائلًا
في مقابل الوظائف التي يشغلونها، وبخاصة لأن الحماية المعطاة لهم من القناصل لم تكن قاصرة
على أولئك الموظفين وحدهم، بل كان مفعولها نافذًا على أسرات هؤلاء الموظفين وخدمهم أيضًا.
٢٤
وقد قدَّم كامبل نَفْسُه أدلةً معينةً وصلت إلى علمه تُثبِت سوء استعمال الامتيازات؛
فلقد
رأى في بيروت في سنة ١٨٣٦م أن القنصل البريطاني كان يحمي شحنة من القمح تبيَّن فيما بعد
أن
أحد اليونانيين أرسلها إلى آخر؛ فلما أشار القناصل العموميون في الإسكندرية بناء على
شكاوى
محمد علي المشروعة بتحديد
٢٥ هذه الحمايات الرباحة في نفس الوقت الذي كان يُبشر بأن تدر من الربح أضعاف
أضعاف ما كانت تدره في الماضي، تألم القناصل غاية الألم لسخر القدر هذا؛ فلقد كان من
رأيهم
أن أيام سوء الإدارة التركية منذ كان في استطاعة أي شخص من رعايا تركيا المسيحيين أن
يحصل
(لأي اعتبار من الاعتبارات) على الجنسية الروسية أو الفرنسية أو البريطانية أَعْوَد بالربح
وأضمن للمكسب من نظام الإصلاحات البعيد عن المكسب الذي جلبه لهم محمد علي من مصر، فلم
يكن
عجيبًا أن نرى في تقاريرهم صورة لإحساساتهم المحزنة وأيديهم الخالية من الذهب.
وكثيرًا ما رأى كامبل نفسه مضطرًّا إلى الإشارة إلى ولع بعض أولئك القناصل ورغبتهم
الشديدة في انتهاز كل تافه من الأمور، يحتمل أن تغضب حكومة جلالة الملك على نائب السلطان،
كما أنهم كانوا يتحادثون من آنٍ لآخر عن امتيازات لم يكن لها وجود في يوم من الأيام؛
٢٦ فلقد طلبوا أن التراجمة الإنجليز ومعظمهم من سكان شرقي البحر المتوسط، مما لم
يكن لهم سوى حظ بسيط من التعليم — فضلًا عن صفة النسب — يُستقبَلون بنفس مظاهر الإكرام
كما
يُستقبَل التراجمة الفرنسيون، وقد كانوا من الأوروبيين المثقفين الذين يعملون في وظائفهم
باسم مليك بلادهم وهم مرشحون مع الزمن للترقية في السلك القنصلي،
٢٧ لا بل إن أحدهم ذهب إلى حد تقديم عريضة مزورة وبأسماء مصطنعة ضد ولاة الأمور
المصريين دافع فيها عن مساوئ لا سبيل للدفاع عنها.
٢٨
وإلى جانب ذلك كله لم تمر على القناصل الوسائط الملائمة التي يتصلون عن طريقها بالسفارة
البريطانية في الآستانة؛ فقد كان الترجمان الثاني بشارد وود صهر المستر مور القنصل
البريطاني في بيروت، ويمكن الحكم على مزاجه بالحادث الآتي: «فبينما كان كامبل يجوب أنحاء
سوريا في سنة ١٨٣٦م التقى بهذا الرجل وسمعه يقص عليه حكاية تشمئز منها النفوس عن فظائع
إبراهيم في قمع ثورة كانت قد نشبت حديثًا، وبخاصة إحراقه ما لا يقل عن ثلاثين قرية لم
يَبْقَ لها أثر.» فسأله كامبل عن أسماء تلك القرى فأُرتِج الأمر على مور ولم يحر جوابًا،
فهل رأى القنصل هذه القرى المحروقة؟ … كلا؛ بل سمع بها فحسب. وقد أصاب كامبل عندما طلب
إلى
القنصل مور أن يتثبَّت من صحة الرواية، ومع أن مور لم يستطع التثبُّت منها؛ فإن صهره
وود
أبلغها إلى السفير بونسيني في الآستانة باعتبارها حقيقة لا ريب فيها.
٢٩
وليس من شك في أن هذه التقارير الواردة من القناصل كانت على اتفاق مع حالة بالمرستون
العقلية، وهي التي أصبحت مشتتة من جرَّاء ما وصفناه لك في الفصل السابق عن تضارب السياسة،
ثم انقلبت إلى ثورة غضب بما كان يُهدِّد سلام أوروبا من الخطر الكائن فيما بين السلطان
ومحمد علي من علاقات متوترة؛ لهذا كان نظره إلى الموقف الأوروبي وارتيابه في حقيقة إصلاحات
محمد علي يدفعانه إلى تأييد السلطان ضد الباشا.
أما خطة فرنسا فكانت تختلف كل الاختلاف عن موقف إنجلترا؛ ذلك لأن فرنسا لم تكن تنظر
إلى
الإمبراطورية العثمانية باعتبارها كعبة مقدسة لا يصح قص شيء من أطرافها، بل لم تتردد
في قطع
الجزائر منها.
وفي حين من الأحيان لم تحجم فرنسا عن إرسال وزير مفوض إلى الإسكندرية رأسًا، كما
أن لويس
فيليب أشار في محادثة خاصة إلى استقلال محمد علي بأنه أمر لا بد من تحقيقه مع الزمن.
٣٠
ولقد سبق لفرنسا أن قدمت إلى محمد علي ما يحتاجه من الضباط لجيشه ولأسطوله كما قدمت
ما
طلبه من الخبراء لمصانع البوارج والترسانات المصرية.
ثم لا ننسى الممولين الفرنسيين الذين زوَّدوه بالقروض.
٣١
وكانت علاقة قنصل فرنسا العام بالباشا علاقة ودية وثيقة. وإذا كانت فرنسا بحثت كإنجلترا
في الاحتفاظ بسلام أوروبا؛ فإنها كانت تختلف عنها إلى تحقيق ذلك السلام بمنع السلطان
من
مهاجمة محمد علي بدلًا من منع محمد علي من تقوية نفسه ضد مولاه التركي؛ ولهذا كانت الخطوة
الأولى في برنامجها أن تصلح السلطان مع الباشا، وبهذه المناسبة كتب المسيو ميمو قنصل
فرنسا
العام يقول: «إن من واجب فرنسا أن تؤلِّف بين شقي الإمبراطورية.» وفي خلال سنة ١٨٣٦م
أُرسِلَتْ إلى السفير الفرنسي في الآستانة تعليمات يعرض فيها وساطته لمصلحة الفريقين،
والظاهر أن الفرنسيين كانوا على استعداد لضمان مركز محمد علي طول حياته في مقابل تخفيض
جيشه
وأسطوله بمقدار النصف، وهذا يساعد الباب العالي بدوره على احتذاء حذو الباشا.
٣٢
وفي اليوم الذي سافر السفير في مسائه إلى باريس لمباحثة الميوتير ودارت فيه المباحثة
بين
قنصل فرنسا الجنرال ومحمد علي، أعلن السفير للرئيس أفندي بأن على الباب العالي أن يَعْدل
عن
خطته العدائية نحو باشا مصر،
٣٣ وكانت نتيجة هذه الاقتراحات وما دار من المباحثات الغامضة بين السلطات الفرنسية
والباب العالي ومندوبي محمد علي
٣٤ أن تم الاتفاق على إرسال صارم أفندي على رأس بعثة خاصة إلى مصر. ولم يكن هذا
العمل إلا مثالًا آخر على سوء نية الباب العالي المعلومة، ففي الوقت الذي كان يتظاهر
فيه
بتنفيذ رغبات فرنسا شرع (وربما بالإخلاص نفسه) في أن يكتب لوزيره في لندن بأنه يعمل على
ترضية السفير الفرنسي بدون كشف نوايانا، وأن بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن
تعتمد
تركيا عليها.
٣٥
وعندما وصل صارم إلى الإسكندرية تبيَّن لمحمد علي أنه إنما جاء لتملُّقه ومعرفة طوايا
نفسه. وبعد يومين من خروجه من الكورنتينا التي فرضها الخوف من انتشار الطاعون على كل
وارد
من الآستانة استقبل محمد علي المستر كامبل، وانتقل بهما الحديث إلى ما تتناقله الألسن
عن
نوبات الجنون التي تصيب القيصر نقولا، ثم استرسل الباشا فقال: «لست أعتقد أنه هو الملك
الوحيد الذي يُصاب بهذه النوبات؛ فإن مليكي لا يلوح عليه أنه سليم في عقله.» فقد أرسل
مندوبًا للاتفاق على التعاون بين القاهرة والآستانة دون أن يُزوِّده بالسلطة الكافية
لعرض
شروط معينة،
٣٦ وفي المناقشات التي دارت بعد ذلك التاريخ اقترح صارم استبقاء مصر وعكا، ولكن
الباشا أصرَّ على أن يكون العرض شاملًا لكافة الممتلكات التي تحت يده،
٣٧ ولذلك باءت البعثة بالفشل التام كما أراد ديوان الآستانة ذلك، ولكن العقبات
التي تَحُول دون الوصول إلى تفاهم شامل قد أصبحت الآن أشد وضوحًا،
٣٨ وهكذا بقي سوء نية الآستانة على حالة لم يغيره شيء.
ولم يَخْفَ على أحد الدَّور الذي لعبته فرنسا في هذه المحاولة العقيمة؛ فلقد كان
السائد
في الأفهام أنه لولا تشجيعها لمحمد علي وتأييدها إياه لكان اهتمامه باقتراحات بالمرستون
أشد
وأكثر. وفي الحق أن فرنسا كانت شديدة الحرص على تحذير محمد علي مما كانت تعتقد أنها سياسة
عدائية مطردة من ناحية بريطانيا،
٣٩ ولعل سياسة ميترننج كانت ترمي إلى إثارة شكوك بريطانيا في خطط فرنسا؛ لذلك كان
مندوبوه يضعون تحت تصرُّف زملائهم البريطانيين كل ما كانوا يستطيعون اكتشافه أو سرقته
أو
اختلاقه في هذا الصدد. فمثلًا لم يكتفِ دي لوران قنصل النمسا الجنرال بأن يبلغ كامبل
فحوى
رسائله إلى وزارة الخارجية، بل أبلغه كذلك الوقائع التي «حملها» من القنصلية الفرنسية،
وقد
أطلع كامبل مثلًا على خطاب بعث به الكولونيل سيف إلى ميمو وعليه توقيع ميمو وملاحظاته
على
الهامش، وقد كتبت بخطه
٤٠ على أن سياسة فرنسا لم يكن يعرقلها خداع الأتراك وحده أو مشاغبة الأجانب ممن
ألفوا الصيد في الماء العكر. كلا؛ بل إن عدم خضوع مندوبيها للنظام المركزي — كما أظهر
ذلك
مندوبوها في الشرق في أكثر من مرة — جَعَلَ أمثال سفيرها «روسان» في الآستانة أو «سبستياني»
سفيرها في لندن يتمسَّكان بآراء تتنافى كلية مع آراء حكومة باريس.
٤١
وأخيرًا لما تبيَّن لمحمد علي في سنة ١٨٣٨م أنه لم يفد شيئًا من نوايا فرنسا المنبعثة
عن
الإخلاص، عوَّل على أن يدفع الأمور حتى تؤدي إلى النقطة الحاسمة، وقد خُيِّل للسفارة
البريطانية في الآستانة أن قرار محمد علي هذا كان بإيعاز روسيا. ولقد رسخت هذه العقيدة
في
نفس السفارة المذكورة واستقرت عدة سنوات، وهناك ما يحمل على الظن بأن الذي أوجد هذه الفكرة
وساعد على رسوخها هم جماعة القنصل
٤٢ الذين من أصل «ليفانتي» ممن أغاظهم حكم محمد علي. أما كامبل فلم يُصدِّق تلك
الفكرة، بل هزأ بها وبيَّنَ أن صحة هذه الحكاية مشكوك فيها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين
استدعاء قنصل روسيا الجنرال قبل إتمام سلسلة دسائسه ولا بين قلة الزيارات التي يقوم بها
خلف
ذلك القنصل لمحمد علي،
٤٣ وكانت معلومات كامبل في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل الخاصة بمصر أصدق
واستنتاجاته أدق من معلومات واستنتاجات سفيرنا الهوائي المتصرف.
٤٤
أما الذي ساق الباشا في الظاهر إلى أن يخطو الخطوة الثابتة، فلم يكن إيعاز السياسة
الروسية الخدَّاعة ولا تأثير من رجال السياسة في سان بطرسبرج، كلا بل الذي حفزه إليها
ما
كان يُبديه نحوه التجار البريطانيون والفرنسيون من الميول الطيبة الصادرة من نفوس مخلصة.
ولقد سبق أن بينت للقارئ مبلغ أسفهم لأن محمد علي لم يسمح له بأن يضيف بغداد إلى أملاكه.
ولقد كان يمكن تعليل هذه الميول بأنها رغبات تنم عن الجهل من رجال يتاجرون في ظل نظام
قائم
على الرشوة وعدم الكفاية، ولكن رغباتهم هذه لم يكن يشاركهم فيها تُجَّار بغداد الأوروبيون
وحدهم، بل شاركهم إياها تجَّار القاهرة والإسكندرية، بل كانت هذه رغبة شركائهم ومراسليهم
في
لندن وباريس ومرسيليا. نعم؛ كان الباشا مولعًا باتباع نظام الاحتكارات، ولكن لا ينبغي
أن
ننسى أن العدالة المطلقة والنظام لم يستتبَّا في جهة من جهات شرق البحر المتوسط كاستتبابهما
في الجهات التي كان يحكمها محمد علي. وبالجملة، فإن حكومته كانت الحكومة الوحيدة التي
كان
يمكن المساومة معها بشيء من الاطمئنان. ولقد كان التجار الفرنسيون والبريطانيون — بقطع
النظر عن الاختلاف بين حكومتهم — على اتفاق في تمنيهم بأن يظل حكم محمد علي قائمًا إلى
ما
شاء الله، فمثلًا «واجهورن» مندوب القفل بالترانسيت عن طريق السويس قد أكد للباشا على
ما
يظهر بأن بريطانيا سوق تعترف باستقلاله
٤٥ كذلك فأمر التجار الإنجليز أن يغادروا القاهرة والإسكندرية عند انسحاب قنصل
بريطانيا الجنرال، وعندما شرعت الجنود البريطانية في مهاجمة إبراهيم باشا في سوريا، ولما
خمدت القلاقل في سنة ١٨٤٢م تشكلت في لندن لجنة مخصوصة للتوصية على صنع مدالية ذهبية كتذكار
للحماية التي «قدَّمَها الباشا بنبل» إلى الإنجليز المقيمين في مصر،
٤٦ هذا في حين أن قنصلنا الجنرال كان يشعر بكثير من الحيرة عندما طُلِب إليه أن
يُقدِّم إلى الباشا خطابًا موجهًا إليه من الغرفة التجارية في بنغال يتضمن عبارات الاغتباط
بالمثل الحسن الذي ضربه للأمم المسيحية، وكان له خير وقع في النفوس.
٤٧
فينبغي في نظري — التماس العذر لمحمد علي إذا اعتقد خطأ أن اتجاه الرأي العام في مسألة
من
المسائل لا يمكن إلا أن يترك أثره في موقف الحكومة الشعبية.
من أجل هذا رأى محمد علي أن يطالع قنصل بريطانيا العام وزميله الفرنسي في ٢٥ مايو
سنة
١٨٣٨م، ثم من بعدهما قنصلَي النمسا وروسيا بتصريح رسمي أبلغهم فيه أن رأيه استقرَّ على
أن
يعلن نفسه مستقلًّا عن السلطان، وقد ذكر سببين لتسويغ خطته هذه؛ السبب الأول: مراعاة
مصالح
أسرته، والسبب الثاني: صيانة الإصلاحات التي أدخلها. ولقد روى كامبل عن محمد علي أنه
قال:
«إنه لا يسعه أن يوافق على أن تضيع تلك الغاية السامية التي وضعها نصب عينيه، أو أن تعود
إلى الباب العالي بعد انتقاله إلى الدار الأخرى كافة ما أنشأه من التأسيسات النافعة ذات
الأكلاف الضخمة كالترسانة والأسطول والسفن التجارية ومصانعه المزودة بالماكينات الأوروبية
والعمال، سواء الأوروبيين أو المصريين الذين أنفق عليهم ما أنفق في سبيل تعليمهم في
أوروبا.» ثم إن المدارس العديدة النافعة والمعاهد الأدبية التي أسسها على النظام الأوروبي
البحت، وما فتحه في سوريا من مناجم الفحم والحديد، ولا ما أنشأه من الطرق والترع في مصر،
وأنه سوف يتألم عندما يحس أن كافة ما قام به من ضروب الإصلاح كان كله لحساب الباب العالي
الذي سوف يترك تلك الإصلاحات تلعب بها يد الخراب والتلف، هذا بينما أن أسرته وأولاده
وأحفاده قد يكونون عرضة للحاجة والعوز وبل وقد يتخطفهم النطع واحد بعد واحد.
على أن اقتراح محمد علي هذا كان نصيبه الاعتراض الشديد من جانب فرنسا وبريطانيا، ولقد
صدرت التعليمات إلى القنصل كوسيليه أن يبلغ الباشا «بأن دولتي إنجلترا وفرنسا اعتزمتا
الالتجاء إلى القوة إذا ما اقتضى الحال ذلك لحمل الباشا على البقاء داخل حدوده كتابع
لسيده
السلطان.» أما كامبل الذي قدَّم كثيرًا من النصائح الأدبية، فقد طلب إليه أن يعرف الباشا
بقلق الوزارة البريطانية، وهو قلق مصحوب بالرجاء بأن يعمل الباشا على الوصول إلى قرار
أحكم
من القرار الذي صمَّمَ عليه، ولكن كان لا يزال هناك أمل بأن تنفضَّ الأزمة دون أن تؤدِّي
إلى انفجار، وقد خُشِي وقتئذ أن يظهر الأسطول التركي أمام الشواطئ المصرية؛ لأن محمد
علي
أعلن للملأ أن الأسطول المذكور لو جاء فعلًا إلى المياه المصرية لما تردَّد الباشا في
الكر
عليه وإبادته بنفسه، وإذ ذاك بادر بالمرستون إلى اقتراح أن يطوف الأسطول التركي تصحبه
العمارة البحرية الإنجليزية المرابطة في البحر المتوسط بجهات البحر المذكور، وأن يذهبا
حيثما شاءَا.
وقد رمى بهذا الرأي إلى تهدئة خاطر فرنسا والباشا من ناحية، وأن يبيِّن لهما أن الأسطول
التركي لم يترك موانئه إلا للتمرين والتعليم فقط، بينما كان غرضه الحقيقي أن يُظهِر للملأ
ما بين تركيا وبريطانيا من صلات ودية وثيقة العرى.
٤٨
وتسلَّم الباشا في الوقت نفسه الردود الباعثة على اليأس والقنوط، مع كثير من رباطة
الجأش
وضبط النفس، ولم يُزِدْ على قوله إنه لا يستطيع الرجوع فيما اعتزمه، بل يُؤمِّل أن تقف
منه
الدول العظمى موقف أقرب إلى العدالة والإنصاف،
٤٩ ويغلب على الظن أن آماله وقتئذ تزلزلت في إمكان وصوله إلى تفاهم مع الباب
العالي يَسُدُّ عليه طريق الأسباب الفنية التي من أجلها تقاوم الدول اقتراحاته، ولم يكن
هناك أي شيء في أن للمال في الآستانة قوة وسلطانًا على النفوس أكثر مما له في أي عاصمة
أوروبية أخرى، وكان الباشا قد أراد جس النبض أولًا فسأل «ميديم» قنصل روسيا الجنرال كما
سأل
كامبل عن موقف حكومتيهما فيما لو تمكَّن من إقناع الباب العالي بالاعتراف به كحاكم مستقل،
أو أن يكون وراثيًّا في أسرته.
ولكن جواب القنصلين لم يكن باعثًا على الأمل،
٥٠ أما الفرنسيون فكان ردهم أشد عطفًا من زملائهم؛ فلقد كانوا في مستهل العام
التالي ما يزالون منهمكين في محاولة حمل الباشا على الكف عن الأعمال العدائية، وذلك بتعليله
بالوصول إلى اتفاق مع السلطان يضمن مركز سلالته في المستقبل،
٥١ ولكن هذا الاقتراح لم يكن بالمرستون ميالًا إلى قبوله ما لم يوافق الباشا على
التنازل عن الجزء الأكبر من سوريا.
٥٢
فلما اطمأنَّ السلطان محمود إلى موقف الدول العظمى حياله وقويَ أملُه في حمايتها
له فيما
لو دارت عليه الدوائر استقرَّ رأيه على إشعال نار الحرب التي كان يعد عدتها من زمن طويل.
ويغلب على الظن أن مندوبي روسيا لعبوا الدور الأكبر في أعمال التحريض على أمل أن تدور
دائرة
الحرب على الأتراك فيلجأوا إلى طلب المساعدة من روسيا وإرسال نجدة من جيوشها إلى الآستانة،
٥٣ وفي شهر فبراير نمى إلى علم بونسيني أن السلطان محمودًا قد اعتزم إعلان الحرب
في الربيع؛
٥٤ فلقد رددت الألسن أنه أرسل أمرًا إلى مجلس وزرائه، قال فيه: إن الصار عسكر حافظ
باشا قد صرَّح بأن جيشه في حالة تضمن له التغلب على جيش محمد علي، وأن قبطان باشا أعلن
بأن
الأسطول التركي في وُسْعِهِ سَحْق الأسطول المصري، وأنه ينتظر بناء على ذلك أن يبدي مجلس
الوزراء ما يلزم من الشجاعة والحزم في أداء الواجب،
٥٥ ولقد ظل حافظ باشا يُلِح ومعه ضباطه الألمان ليبدأ الزحف ضد جيش إبراهيم باشا
في سوريا،
٥٦ وفي شهر أبريل عَبَرَ الأتراكُ نهرَ الفرات أمام «بير»، وانقضى شهران دون أن
يحدث ما يستحق الذكر، وهنا طلبت روسيا من فورها أن ينسحب جيش إبراهيم إلى دمشق ووعدت
عند
موافقة إبراهيم أن تحمل السلطان على الانسحاب من الحدود السورية،
٥٧ فأجاب الباشا بأن إبراهيم سوف ينسحب بمجرد عودة الأتراك إلى ما وراء الفرات،
وأنه إذا ضمنت أربع من الدول العظمى ألا يهاجمه الباب العالي، وأن تؤيِّد رغبته في أن
يكون
الحكم وراثيًّا في أسرته؛ فإنه يسحب بعض جنوده من سوريا نهائيًّا،
٥٨ وهنا أرسلت فرنسا إلى السلطان محمود رسالة طلبت فيها منه اجتناب الأعمال
العدائية، وأعلنت أنه إن لم يرتدَّ حافظ باشا إلى ما وراء الفرات؛ فإنه يُعتبَر الفريق
المعتدي،
٥٩ وطلبت من محمد علي في الوقت نفسه أن ينسحب أيضًا،
٦٠ ولم ينتصف شهر يونيو بعد أن يئس الباشا من طول الانتظار للحصول على حلٍّ
مُرْضٍ، بينما كان القائد التركي يحاول إثارة الفتن فيما وراء جيش إبراهيم حتى أعلن أنه
لم
يَعُدْ يَسَعُه الصبر على إطلاق الحرية لولده.
٦١
وفي باكورة صباح ٢٤ يونيو، أي بعد الفجر بساعتين، بدأ إبراهيم بمهاجمة معسكر حافظ
باشا في
نصيبين.
ولقد أسهب الضباط الألمان في ذكر الأسباب التي كان ينبغي بمقتضاها أن يكسب الأتراك
هذه
الملحمة التي كانت أشبه باندحارٍ تامٍّ منه بمعركة؛
٦٢ لأن إبراهيم استولى على كافة مدافع خصمه وخيامه وأوراقه، أي إن الجيش التركي
ذاب ذوبان الجليد تحت أشعة الشمس.
على أن الفوز الباهر قد اكتمل بنبأين آخرين يبعثان على السرور؛ ففي أول يوليو وردت
الأنباء بانتقال السلطان محمود إلى الدار الأخرى.
٦٣
فلقد زادت همومه مما أصابه من خيبة أمل مقرونة بالقلق، وكان رئيس قسم الملابس قد
لاحظ قبل
ذلك بأشهر تهدُّل ثياب مولاه، فأوعز إلى الترزي بأن يضيقها قليلًا حتى لا تلوح فضفاضة
على
هيكل سيده الذابل،
٦٤ وقد ظل السلطان يرقب ما يجري من التأهبات لمهاجمة محمد علي بكثير من اللهفة
المتواصلة، حتى لقد قيل إنه كان يخفف من قلقه بتناول المشروبات الروحية المحرمة؛ فلقد
حوَّلته كراهيته العنيدة إلى عدو خطير. لذلك كله كان من حق باشا مصر أن يغتبط بوفاة خصمه،
ولقد خلفه على أريكة السلطنة ابنه الأكبر عبد المجيد، وهو فتى في السادسة عشر من عمره
وقد
نشأ في الحريم وكان له أصدقاء أخصاء ثلاثة، وهم خصيان أسودان وقزم،
٦٥ وبديهي أن عناء محمود، وإن لم يلطف من حدته إلا بعض طفرات من الذكاء إلا أن
مجلس شورى الإمبراطورية لا بد أن يصيبه الوهن والضعف ما لم يجد إرشادًا من الخارج.
وبينما كان الناس لا حديث لهم إلا فوز إبراهيم الباهر ووفاة السلطان محمود، إذا بالأسطول
التركي قد ظهر في مياه الإسكندرية لا ليطلق قنابله عليها، بل ليعلن انضمامه إلى محمد
علي.
ولقد تبادر إلى أذهان الكثيرين من الناس أن هذا الانضمام كان نتيجة رشوة، ولكن هناك أسبابًا
تكفي بنفسها لتعليل سلوك القومندان قبطان باشا؛ فلقد صدرت الأوامر إلى أحمد مشير قومندان
الأسطول بالذهاب إلى شاطئ سوريا لمعاونة حافظ باشا في مساعيه لإيقاد نار الفتن ضد محمد
علي،
وقد زود لتحقيق هذه الغاية بنحو ٦٠٠٠ من البحارة.
٦٦
ولكنه ما كاد يَعبُر الدردنيل حتى تلقَّى أوامر جديدة بالذهاب إلى رودس، فأثار هذا
العمل
هواجسه، وإنه علم من الكابتن الذي جاءه بالأوامر المذكورة أن النية باتت معقودة على تجريده
من القيادة عند وصوله إلى رودس واستدعاء الأسطول إلى الآستانة، فجمع ضباطه وأعلن فيهم
أنه
مقتنع تمام الاقتناع أن خسرو باشا يعتزم تسليم الأسطول التركي لروسيا، وأنه في هذه الحالة
يؤثر الانضمام إلى محمد علي، فأقرُّوا هذا الرأي بالإجماع،
٦٧ وكان قبطان باشا من ألد أعداء خسرو، ولما لم يكن هناك ريب في أن وفاة السلطان
محمود ستعزِّز مركز خسرو وتضاعف نفوذه، فقد كان طبيعيًّا أن يذهب أحمد مشير إلى الإسكندرية،
ويقترح على ضباطه الانضمام إلى محمد علي عسى أن يؤدي تعاونهم جميعًا إلى القضاء على خسرو
عدوهم المشترك؛ فالشيء الذي كان يحتمل أن يُعتبَر في أي دولة أوروبية بمثابة عمل ينطوي
على
الخيانة كان في السياسة التركية يُعتبَر دليل الفطنة المقرونة بأصالة الرأي وبُعْد
النظر.
وبهذه المناسبة كتب كامبل يقول: «ولا أعرف شخصًا تركيًّا … ولم يصدر في كافة أعماله
من
غير مصلحته الشخصية، أو كان مدفوعًا بغاية أخرى عدا شهوة الحكم ورغبته في القضاء على
خصمه الشخصي.»
٦٨
ولقد كان من نتائج تسليم الأسطول أن أصبحت لمحمد علي الكلمة العليا وأن يفعل كما
يشاء،
وكيف لا ولم يكن ثمة ما يَحُول دون زحف إبراهيم على البوسفور بطريق البر، بينما احتشد
الأسطول التركي والمصري أمام الآستانة؟! ولم يخامر بونسيني أي شك في أن قلاع الدردنيل
سوف
لا تصمد لمقاومة الأسطولين بالهمة المطلوبة، وأن الأمر سيؤدي إلى تشكيل حكومة جديدة في
العاصمة التركية يكون لأصدقاء محمد علي الرأي الأعلى في كيفية إدارتها.
٦٩
ولكن الباشا مع ما فُطِر عليه من حب الاعتدال لم يشأ الذهاب إلى هذا الحد البعيد،
فما كاد
يسمع بوفاة السلطان محمود حتى أصدر أوامر إلى ابنه إبراهيم بوقف رحى القتال. وفي اليوم
التالي لوصول أحمد مشير إلى الإسكندرية أرسل خسرو مندوبًا خاصًّا إلى محمد علي يحمل خطابًا
رسميًّا بارتقاء السلطان عبد المجيد الأريكة السلطانية، وكانت لهجة الخطاب ودية. وصفح
السلطان الجديد عن سلوك الباشا نحو أبيه الراحل ووعد بأن يُغدق عليه النعم وأن يوليه
ملك
مصر وملحقاتها على أن يكون ذلك ميراثًا بين أفراد أسرته، وأخيرًا ناشد الباشا أن يساعد
على
ترقية الإمبراطورية وزيادة رخائها ويسرها.
٧٠
على أن هذه الشروط الإجمالية لم يكن يُحتمَل أن يقنع بها محمد علي أو تجعله راضيًا
عنها،
ولكنه كان واثقًا بأن في استطاعته الآن تحقيق ما كان يطمح إليه؛ وهو جعل حكم البلاد الخاضعة
له وراثيًّا في ذريته؛ ومن ثمَّ أخذ يُصرِّح أمام الملأ بعزمه على الذهاب إلى الآستانة
لإعلان ولائه الشخصي للسلطان الفتى.
ولكن الوزراء العثمانيين، كما كتب بونسيني «رجال أخساء حقراء»؛ فإن خسرو الذي يجري
النفاق
في عروقه ولا يعرف معنى الشرف والأمانة أرسل إلى مصر سلسلة خطابات أخرى عدا الخطاب الودي
الذي أرسله إلى الباشا؛ فقد كتب إلى أربعة من كبار ضباط الأسطول يأمرهم بالقبض على قبطان
باشا وإحضاره إلى الآستانة.
وإذ ذاك تقبَّل محمد علي هذا التحدي من فوره وكتب إلى خسرو يأمره باعتزال منصبه بعد
أن
أصبح من المستحيل الوثوق به من كبار رجال الدولة ولا من الأمة بصفة عامة،
٧١ وزاد على ذلك أن أرسل منشورًا إلى كافة باشوات الإمبراطورية ناشدهم فيه
المساعدة للتخلص من هذا الصدر الأعظم الخسيس الذي لم ينتفع بسلوكه لا العرش ولا الأمة،
بل
كان سبب كل ما نزل بالدولة من الرزايا والمصائب مدة سنوات طويلة.
٧٢
واستولى الهلع على قلوب الناس في الآستانة وتولَّاهم الجزع، ورأى خسرو أن المخرج الوحيد
لنجاته من الخطر المنتظر هو النزول على إرادة الباشا وتلبية مطالبه بجعل حكم البلاد التي
في
قبضته وراثيًّا في ذريته.
وما كاد أن يتم وضع هذا القرار حتى كان وزير النمسا المفوض قد تلقَّى من ميترنج تعليمات
من شأنها أن تُغيِّر الموقف ظهرًا لقلب، فلقد كان الموقف في نظر وزير النمسا — كما كان
في
نظر صولت في باريس أو بالمرستون في لندن — ينذر باحتمال تدخُّل الروسيا بمقتضى معاهدة
أونكيار سيكيليس؛ ولذا صدرت التعليمات لممثل النمسا بأن يخاطب ممثل فرنسا وبروسيا وروسيا
وبريطانيا العظمى للاشتراك معه في تقديم مذكرة إلى الباب العالي يصارحونه فيها بأن الاتفاق
بين الدول الخمس العظمى أضحى مضمونًا، وأن الباب العالي يُحسِن صنعًا إذا لم يبتَّ في
أمر
من الأمور بدون استشارة الدول العظمى، وقد أُمضيت المذكرة في نفس اليوم الذي وصلت فيه
التعليمات وسُلِّمت إلى خسرو في باكورة اليوم التالي،
٧٣ وكان من شأن هذه المذكرة أن تُشجِّع خسرو على نقض القرار الذي كان قد استقرَّ
عليه رأيه. وفي يوم ٦ أغسطس أرسلت إلى محمد علي مذكرة السفراء بناء على طلبهم فوجم لقراءتها
وكانت ملامحه يبدو عليها القلق الناشئ على هذا التغيُّر الجديد الفجائي. وكان بونسيني
شديد
الاغتباط بهذا التطور؛ فلقد كان مصابًا بنوع من حمى كراهة روسيا؛ ولذلك كنت تراه يشتم
رائحة
الدسائس الروسية في كل ما يجد من الأمور، فلقد كان شديد الاعتقاد بأن مصر لا تخدم إلا
مصالح
روسيا. وقد انتقلت منه هذه العدوى إلى بالمرستون، وقد حدث في أوائل سنة ١٨٣٦م أن محمد
علي
ارتأى تخفيض الرسوم التجارية المستحقَّة على البضائع الروسية، ولكنه لم يكن ميالًا إلى
معاملة البضائع الإنجليزية بالمثل، وقد اعتبر عمله هذا مؤيدًا لما كانت تتناقله الألسن
بأن
هناك تفاهمًا وثيقًا بين الباشا وبين الحكومة الروسية، وأنه يتضمن من الأمور أكثر مما
اعترف
به أحد الفريقين إلى الوقت الحاضر، وقد أصبح ما يفعله الباشا من الآن فصاعدًا يُعتبَر
خطأ
بأنه بإيعاز روسيا، ولقد قيل إن هناك معاهدة بينه وبين روسيا وفارس.
وإن روسيا كانت تؤيِّد وجهة نظره وإن حزبًا جديدًا قد تألَّف لإسقاط خسرو بمساعدة
روسيا،
وعبثًا حاول كامبل أن يبيِّن سخف هذا الزعم مستعينًا بكل ما كان يخطر له من الخواطر
والنظريات.
ومن المدهش أن سفيرنا الحادَّ الشمَّ لم يحس شيئًا يدعو إلى الاستغراب في مبادرة السفير
الروسي إلى توقيع المذكرة المشتركة ما دامت الغاية المزعومة التي يرمي إليها هي المحافظة
على الحالة الخطيرة القديمة ليتمكَّن من تحقيق المآرب الروسية.
كان أول ما استقرَّ عليه الرأي هو غل يد الباشا عن العمل، بينما كانت أوروبا منهمكة
في
بحث الحالة من جميع نواحيها. وقد اتفق رأي فرنسا وإنجلترا في هذه المسألة، حتى إن القنصل
الفرنسي حذَّرَ محمد علي بأن العمارتين الفرنسية والإنجليزية قد تُستخدمان سويًّا في
تنفيذ
إجراءات الضغط. ولقد كتب بالمرستون إلى كامبل يقول: «وينبغي أن يفهم الباشا جيد الفهم
بأنه
ليس في مركز — لا من الوجهة الجغرافية ولا من السياسية، بل ولا من حيث الاعتبارات الحربية
أو البحرية — يمكن أن يستطيع معه أن يتحدى بلا حساب أو عقاب حكومات أوروبا عامة والدول
البحرية خاصة.»
ولقد كان مما استرعى الأنظار حقًّا أن قررت وزارة الخارجية استدعاء الكولونيل كامبل
في
تلك الظروف، وكان قد ظل في منصبه في مصر منذ سنة ١٨٣٣م فأُتيح له في خلال وجوده في القاهرة
أن يشهد سياسة الباشا عن كثب وتطوراتها في الداخل والخارج، هذا إلى أنه زار كافة أنحاء
القطر المصري كما زار سوريا وكريت. وفي الحق أن كامبل لم يكن أحد المعجبين بالباشا إعجابًا
أعمى، بل بالعكس لقد انتقد سياسته في مناسبات مختلفة وانتقدها بشدة، ولكن أخلاقه المرضية
تُضاف إليها لهجته الجذابة في المخاطبة وما يتبعه وجوده من الهيبة، هذا إلى أصالة رأيه
وحكمه على الأمور حكمًا صحيحًا؛ كل هذه المزايا والصفات أكسبته حظوة ونفوذًا كبيرًا لدى
محمد علي الذي أنزله منزلة الصديق الحميم، ولكن كامبل قد غفل عن مصلحته؛ لأنه حاول صد
التيار السياسي في الوقت الذي كان يشتد فيه ضد الباشا. خذ مثلًا على ذلك أنه سعى لتخليص
بونسيني من الأوهام والخزعبلات التي كانت تشغل فكره عن علاقة روسيا بمحمد علي، كما أنه
عمل
على أن يبيِّن لولاة الأمور بصراحة سابقة لأوانها أن اليهود والمسيحيين سوف يصيبهم المكروه
فيما لو أُعيدوا إلى حكم السلطان مباشرة،
٧٤ ولم يَنْسَ له رؤساؤه اجتراءه على القول بأن الإمبراطورية العثمانية يمكن أن
يَعُود إليها سابق تقدُّمها ويسرها فيما لو أبعد خسرو عن منصبه، ودُعِي محمد علي إلى
التعاون في عملية الإصلاح.
٧٥
وكان مما لا يمكن أن تطيقه النفس في عين الرؤساء الرسميين أن يلح كامبل بصفته الرجل
الذي
خبر شعب مصر وشعب سوريا وشهد بعينه مبلغ ما عمل من الأعمال النافعة الصالحة باختلاف رأيه
عن
الرأي الرسمي السائد وقتذاك بأن إصلاحات محمد علي لم تكن إلا إصلاحات جوفاء عارية، وكم
كان
استغراب أولئك الرؤساء؛ لأن كامبل لم تستولِ عليه الدهشة عند سماعه بطلب محمد علي أيضًا
على
إبعاد خسرو عن كرسي الحكم وهي دهشة تشبه ما كان يصيبه لو أن لورد أو كانت طلب في ساعة
غضب
إبعاد لورد بالمرستون من وزارة الخارجية،
٧٦ وفي شهر سبتمبر أبلغ بإيجاز أن بالمرستون ينوي أن يشير باستدعائه،
٧٧ وهو أمر كان موضع تفكير الوزير منذ عام،
٧٨ وكأنما أراد القدر الساخر أن لا يُنقَل إلى مالطة أثناء احتلال الجنرال كين
لمدينة كابول إلا بالباخرة التي وضعها الباشا تحت إشارة الكولونيل كامبل.
٧٩
وفي شهر ديسمبر سنة ١٨٣٩م هبط القاهرة الكولونيل هودجز الذي عُيِّن خلفًا للكولونيل
كامبل،
٨٠ وقد دلت الحوادث على أنه رجل حاد المزاج محب للشغب والنزاع، وكانت باكورة
أعماله في منصبه الجديد المشاجرة مع مندوب مصلحة الطرود في الإسكندرية؛ لأنه فرض عليه
رسومًا بريدية طبقًا للتعليمات الصادرة من مدير مصلحة البريد،
٨١ ثم راح يضع ثقته في شخص وكيل قنصل معين كان من شأن الروايات التي يذيعها أن
تثير ثائرة القنصل الجنرال ووزير الخارجية أيضًا.
وكانت أخلاقه كفيلة بأن تجعله موضع سخط القناصل جميعًا، وقد رأى رؤساؤه قبيل إعادة
فتح
القضية العامة من جديد في سنة ١٨٤١م أن الحكمة تقضي بإرساله إلى حيث يمكن تلطيف مزاجه
الحاد
في جو هادئ كجو همبرج،
٨٢ وحسبك دليلًا على الاعتراف بما قدَّمه من الخدمات في أزمة ١٨٤٠م أنه سمح له
بقبول وسام قائد فرقة تركية.
٨٣
ولنذكر هنا — لا على سبيل الحصر، بل على سبيل المثال — حادثين تافهين لهما أهميتهما؛
إذ
يدلان كيف كانت الأمور بعمله غير مأمونة العواقب ومصحوبة بكثير من التهور وعدم الاعتدال.
فلقد ذكر هودجز أن قنصل السويد العام حبَّذ عمل محمد علي في اعتقال الأسطول التركي، وفي
الحال بدون انتظار وصول تفاصيل أخرى طلب بالمرستون إلى الحكومة السويدية استدعاءه، ولكن
هذه
الحكومة أصرَّتْ على معرفة الأسباب، وهنالك كتب بالمرستون إلى هودجز يطلب بعض تفاصيل
ومناسبات تخدش سمعة القنصل وتحرجه في نظر حكومته، ولكن هودجز عجز عن تلبية رغبة رئيسه.
٨٤
وفي الحادث الثاني سنة ١٨٤٠م ذلك أنه وصلت إلى هودجز في ٥ مايو رسالة خاصة بمحاكمة
بعض
اليهود في دمشق، وقد طلب إليه في الرسالة المذكورة أن يهول بما تركته «هذه الفظائع الوحشية»
من آثار العار حول اسم حاكم يفاخر بأنه ممن يعملون على خدمة قضية المدنية،
٨٥ وقد جاء في رسالة تالية وصف «لشعور السخط العام» الذي عمَّ البلاد الإنجليزية
من أقصاها،
٨٦ وحسبك هذا دليلًا على مبلغ الاستعداد وعدم التردد في تصديق أسوأ الإشاعات
والأقاويل. أما الحادث المشار إليه فيتلخص في اتهام اليهود بذبح أحد المسيحيين لخلط دمه
بالخبز غير المخمر. وقد كان الاعتقاد بوجود هذه الإجراءات سائدًا في شرق شاطئ البحر المتوسط
كما كان سائدًا في أوروبا في العصور الوسطى، وقد قُبِض على المتهمين وحُوكِموا أمام المحاكم
العادية وصدر الحكم عليهم، ولكن تبيَّن لسوء الحظ هناك ما يدعو إلى الظن بأن شريف باشا،
وهو
الحاكم الذي عيَّنَه محمد علي في دمشق قد توخَّى الاعتدال في تصرفاته؛ ذلك أنه نزل على
نصيحة مندوب القنصل الفرنسي.
وأدعى إلى الأسف من هذا أن القنصل البريطاني المستر «دري» لم يخطر له فقط أن البينة
قد
قامت على المتهمين بما اتُّبع من الإجراءات أثناء محاكمتهم، وراح يؤكِّد أن ما اتخذه
شريف
باشا من الإجراءات العاجلة قد أنقذ اليهود من مذبحة عامة يذهبون فيها ضحية السلب
والنهب.
ولقد كان ما أبداه بالمرستون من القلق العصبي في هذين الحادثين نتيجة ما قام أمامه
من
المصاعب في سبيل الوصول بالمسألة العامة التي هي مثار النزاع إلى نتيجة مُرْضية؛ لأن
الأمور
قد جَرَتْ على خلاف ما كان يهواه، فإن الصعوبة الرئيسية المنتظرة كانت تدور حول حمل روسيا
على التعاون مع الدول الأخرى ومنعها من توطيد مركزها بالانفراد بالعمل، ولكن تبيَّن أن
هذه
الصعوبة بُولِغ فيها؛ لأن القيصر نقولا لم يكن شديد الميل إلى العمل بنصوص معاهدة أونكيار
سكيليس، علمًا منه بأن عودة الرُّوس إلى الآستانة ربما أدَّى إلى الاشتباك في الحرب مع
إنجلترا، وربما مع فرنسا أيضًا، هذا إلى أنه قد يؤدِّي إلى توطيد مركز محمد علي في الشرق
الأدنى، وهي غاية بعيدة كل البعد عن تفكير القيصر، وفضلًا عن ذلك قد بدأ دبيب الخلاف
في
الرأي يظهر بين بالمرستون و«صول» وزير خارجية فرنسا؛ فإن الأول أعرب عن رغبته في ردِّ
سوريا
إلى حظيرة السلطان، بينما ارتأى الثاني إبقاءها في حيازة الباشا، فإذا ما عمد القيصر
إذن
إلى تأييد سياسة بالمرستون بدلًا من الانفراد بالعمل، فإنه يكون بعمله هذا أدنى إلى تحطيم
التعاون بين بريطانيا وفرنسا منه إلى توثيق عراه،
٨٧ وهكذا استقرَّ رأيه على إرسال البارون «برينون» في مهمة خاصة إلى لندن في سنة
١٨٣٩م.
ولكن ما كادت هذه الصعوبة تتلاشى حتى قامت مكانها صعوبة أخرى؛ لأن بالمرستون كان شديد
الميل إلى اجتذاب فرنسا إلى رأيه كما اجتذب روسيا إن أمكن، ولكن السياسة الفرنسية وقتئذ
كما
كانت قبل ذلك بعشر سنوات تتخللها المصاعب الجمة؛ فإن النظام الملكي الذي كان موجودًا
في شهر
يوليو كان كالنظام الملكي السابق أضعف من ألا يكترث بتيارات الرأي العام المختلفة، وقد
كان
شعور الفرنسيين بصفة عامة إلى جانب محمد علي. ولا يفوتنا أن السياسة كانت وقتئذ كما كان
شأنها في كل حين عرضة للتحوُّل والتقلُّب بسبب المصالح القارية والاستعمارية المتشابكة؛
فالخوف من ألسنة الصحف جعل من الصعب على «صول» أن ينسحب من الموقف الذي كان فيه، وقد
اعتزلت
الوزارة التي كان عضوًا فيها في نهاية فبراير سنة ١٨٤٠م بسبب مسألة داخلية بحتة، وخلفه
في
منصبه البارون تير.
ونهج وزير الخارجية الجديدة منهج سلفه، ولكنه كان شديد العداء نحو بريطانيا، وكانت
باكورة
أعماله استئناف المفاوضات المنفردة مع الباب العالي وبين الباشا بواسطة المسيو بونترا
سفير
فرنسا في الآستانة؛ أملًا منه في أن يواجه بريطانيا العظمى وروسيا بتسوية لا يسعهما أن
يجدا
سببًا معقولًا لنقضها أو تبديلها،
٨٨ ويُرجَّح أن يكون إبعاد خسرو عن وظيفته نتيجة هذه المساعي، وإذ ذاك قرر محمد
علي من فوره إرسال سكرتيره الخاص سامي بك إلى الآستانة في مهمة خاصة، وكانت حجته الظاهرة
في
هذا التصرف رغبته في رفع التهاني بمناسبة ميلاد كريمة السلطان وتقديم هدية تُذكَر بهذه
المناسبة، وهي إعادة الأسطول التركي،
٨٩ وكان رد إنجلترا على هذا العمل أنها عقدت مع روسيا والنمسا وبروسيا معاهدة
نُصَّ فيها على أن تكون مصر ملكًا لمحمد علي وذريته من بعده، وأن يظل حكمه في جيبولي
قائمًا
مدة حياته فقط، بشرط أن يقبل هذا العرض في خلال عشرة أيام من وصول المذكرة إليه، أما
إذا
أظهر تردُّدًا بطول أمده إلى ٢٠ يومًا فإن مصر وحدها تكون ملكًا له ولذريته، وإذا ما
رفض
نهائيًّا فإن الدول الأربع تبادر إلى محاصرة الشواطئ المصرية، فإذا ما حاول الزحف على
الآستانة فإن الدول المذكورة تتعاون في الدفاع عنها بناء على طلب السلطان؛ ومن ثم يُستأنَف
العمل بالمادة الرابعة من النظام القديم للإمبراطورية العثمانية، وهي القاضية بإغلاق
الدردنيل في وجه كافة السفن الحربية في أثناء وجود الإمبراطورية في حالة السلم، وقد
أُمضِيَتْ هذه المعاهدة في ١٥ يوليو سنة ١٨٤٠م؛ وبذا نجح بالمرستون فيما كان يسعى إليه
من
إرباح معاهدة أونكيار سكيليس في اتفاق أعم ولكنه أخفق في الحصول على تعاون فرنسا.
وأثارت هذه الأنباء عاصفة من التذمر والاستياء في العاصمة الفرنسية، وأخذت الصحف
الباريسية والوزراء بل وملك فرنسا نفسه يتكلمون كما لو كانت الحرب أصبح وقوعها لا مفر
منه،
ولكنهم كانوا يعلمون كما كان بالمرستون يعلم أن الحرب غير واقعة. وبهذه المناسبة كتب
بالمرستون إلى هودجز يقول: «إن فرنسا لن تستطيع.» أي الباشا؛ أن تُقدِّم له أي مساعدة
… ثم
إن تعوزها الوسائل لتنفيذ عزيمتها فيما لو أرادت مساعدته.
نعم؛ إن لها ١٥ سفينة في البحر المتوسط، ولكن هذا هو كل أسطولها، ثم إن لها جيشًا
يبلغ
عدده ٦٠ ألفًا يرابط في الجزاير، وهو في حاجة إلى عدد كبير من جنود الاحتياطي لسدِّ النقص
الذي «يُسبِّبه المدافعون الجزائريون والحمى»؛ فكيف يَسَع فرنسا في هذه الحالة أن تشتبك
في
الحرب مع أقوى الدول العسكرية في القارة الأوروبية.
٩٠
وكان ثاني ما علَّلَ به المسيو تير نفسه من الآمال أن يستمر الحوار، وتظل المسائل
معلقة
بحيث لا يُبَت النزاع نهائيًّا ريثما يأتي الشتاء فتتفرق من الأساطيل المحاصرة وتقف حركات
الجنود، وإذ ذاك يتمكن من تحطيم ذلك الاتفاق الذي عقدته الدول ويثبت نفوذ فرنسا من جديد،
وإذا جعل هذه الغاية نصب عينيه فقد نصح للباشا بتقوية مركزه والتزام خطة الدفاع وعدم
التزحزح قيد شعرة عن موقفه،
٩١ ولقد كانت نصيحته هذه أسوأ نصيحة يمكن تقديمها؛ إذ لا ريب في أن مواصلة الزحف
بغتة على الآستانة ربما كان يؤدي إلى حدوث تطوُّر أساسي يتمكَّن معه الباشا من الحصول
على
شروط مُرْضية وأدنى إلى تحقيق مآربه، أما أن يرفض شروط الحلفاء ثم يكتفي بمجرد المقاومة
السلبية فقد كان معناه الهزيمة بعينها، وهذا هو أيضًا نفس ما حسب بالمرستون حسابه؛ إذ
قال:
«إن فرنسا سوف تنتظر وتتحيَّن الفرصة، حتى إذا ما استطاع محمد علي مقاومة الحلفاء أمدًا
طويلًا عرضت فرنسا أن تتدخَّل في الأمر كوسيط، ولكن مهمة الدول الأربع تنحصر في تضييق
الخناق على محمد علي بحيث لا تَدَع لفرنسا فرصة كالتي تُعلِّل بها نفسها.»
٩٢
ولقد ظلَّ باشا مصر رافعًا رأسه عاليًا إزاء ذلك الاتفاق الدولي الخطير الذي كانت
عُراه
تتوثق تدريجيًّا ضده، ولعل الأرجح أنه اعتقد أن من المستحيل أن تتفق فعلًا كلمة الدول
على
خطة معينة للعمل في مسألة كانت على الدوام سببًا في اختلاف تلك الدول وانقسامها بعضها
على
بعض أشد انقسام، وكان يعتمد على روسيا وفرنسا أن تلغيا عمل إنجلترا فيما لو قررت هذه
أن
تقوم بعمل ما، وعندما صدرت إلى هودجز التعليمات بأن يستحثَّ ضباط الأسطول العثماني على
أداء
واجبهم بالالتفاف حول راية السلطان والخليفة
٩٣ نهض الباشا واقفًا من مقعده وأقسم بأغلظ الأيمان ليطلقن الرصاص على أول من
تحدثه نفسه بالفرار؛ ومن ثم قرَّر هودجر أن الأصوب ألا يُنفِّذ التعليمات الواردة له،
٩٤ وإذ ذاك جنَّدَتْ أورطة جديدة، واستُدعِيَ الجيش من بلاد العرب وأُنشِئ معسكر
قرابة ٣٦ ألف جندي في دمنهور، وهو اختيار حكيم نظرًا لتوسط مركز المدينة المذكورة، وقد
تمَّ
هذا كله بنظام وترتيب لم يكن يعلم به هودجز.
٩٥
ولكن هودجز نفسه بدأ يتأثر بطريقة معيشة ذلك الباشا المسن، كما بدأ يدرك مبلغ نشاطه
وفرط
ذكائه، ولقد خشي إنْ هو تشدَّدَ معه أن يدفعه اليأس إلى إحداث انفجار عام «قد تنشأ عنه
اتفاقات دولية جديدة أو تظهر فيه صوالح جديدة أو تسنح منه فرص يمكن أن تُستخدَم لمصلحته.»
٩٦ «ولكن العام لم ينتصف حتى كان القلق الذي لا نهاية له قد بدأ يفعل فعله في صحة
الباشا فلقد أثرت فيه نوبات الحمى والقلق.»
٩٧ حتى إن القنصل العام الروسي عندما دخل عليه في أحد أيام شهر أغسطس ألفاه
مستلقيًا على الديوان في حالة نوم عميق، فأخبره محمد علي بأنه لم يَذُق طعم النوم لعدة
ليالٍ سويًّا. وبهذه المناسبة كتب القنصل المذكور: «إن حالة سموه الصحية تُضاف إليها
الآلام
والعذاب التي كان على ما يظهر فريسة لها، هذا فضلًا عما كان يبذله من الجهود للتغلب على
روح
السخط والتذمر التي نشأت عن موقفه الحاضر، ثم إلى جانب هذا الشعور المتناقض الذي يشعر
به
الرجل الذي بلغ الحلقة الثانية من العمر، ذلك الشعور الذي يعمل على هدِّ القوى التي امتاز
بها الباشا، إن هذه العوامل مجتمعة قد جعلت محادثاتنا مؤلمة إلى أقصى حد.»
٩٨
ولكن الباشا برغم هذه العوامل كلها لم تُفلِت منه قدرته على القبض على ناصية الحال،
كما
لم تَخُنه مهارته في وزن الفرص وتقديرها، فلقد كان مثله كمثل المسيو تير؛ إذ أدرك بثاقب
فكره أن الحلفاء لم يتوخوا السرعة في أعمالهم، وأن الحصار البحري متى أعلنوه لن يُسفِر
عن
نتيجة حاسمة مباشرة، وقد ارتأى له أنه يستطيع أن يعتمد لا على تأييد فرنسا المادي، بل
على
مساعدتها الأدبية. ثم إنه كان يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن شعور الجمهور الإنجليزي هو في
صفة
أكثر مما هو في صف الباب العالي؛ ولذا خُيِّل إليه أنه إذا لم تأتِ طِبْق ما يشتهي فإنه
يمكنه أن يضمن على الأقل أن يكون ملك مصر وراثيًّا في ذريته، أما لو تصدَّع التحالف من
الناحية الأخرى لسبب من الأسباب فإنه قد يحصل على سوريا أيضًا،
٩٩ من أجل هذا أبى محمد علي عندما حضر مندوب الآستانة ورفع القناصل العموميون إلى
الباشا مطالب الحلفاء أن يُصغي إلى طنطنة
١٠٠ الكولونيل هودجز وبلاغة عباراته، وأصرَّ على المطالبة ببيان كتابي.
١٠١
ثم مرَّت الأيام العشرة الأولى بدون ردٍّ رسمي من جانب محمد علي، ولما أوشكت مدة
العشرين
يومًا أن تنقضي عرض محمد علي قبول الحل الثاني، ولكنه أبى أن يؤكِّد موافقته على الحل
المذكور بإطلاق سراح الأسطول التركي،
١٠٢ ثم انقضى الأجل المضروب، ولكن القناصل العموميين ما يزالوا يتباطئون في
الإسكندرية، بالرغم من وصول الأنباء في يوم ٧ سبتمبر بأن السلطان قد خلع محمد علي من
كافة
المناصب، وبالرغم من أن الأوامر قد صدرت من سحب القناصل العموميين،
١٠٣ وفي الواقع لم يبرح القناصل المذكورون الإسكندرية قبل يوم ٢٣ سبتمبر.
١٠٤
ويُرجَّح أن يكون بين الأسباب التي أخَّرت سفر القناصل رغبتهم في أن يرقبوا عن كثب
سلوك
قنصل فرنسا الجنرال، وسبب آخر أنهم كانوا قليلي الثقة بعضهم ببعض، مثال ذلك أن إحدى البواخر
وصلت من بيروت في يوم ٧ سبتمبر، وما كادت تلقي مراسيها في ثغر الإسكندرية حتى أرسلت ما
قيمته ٥ آلاف جنيه من النقود التركية في قارب ترفرف عليه الراية البريطانية لوضعه على
ظهر
إحدى البواخر الإنجليزية التي كانت مرابطة في الثغر الإسكندري، ولكن قومندان الميناء
وضع
يده على القارب وعلى النقود؛ لأن القانون التركي يحظر تصدير الذهب، وهنا استولى الغضب
على
هودجز وتهدد من إنزال الراية من على داره وأدرك ممثلَا الروسيا والنمسا أن هذا التصرف
يُحتمَل أن يثير نزاعًا بين الباشا وبريطانيا العظمى؛ مما تجد معه الثانيةُ الفرصةَ سانحة
للانفراد بالعمل دون الانتظار لتدخُّل حلفائها؛ ولهذا تدخَّلا في النزاع بقصد تسويته.
١٠٥
ومع أن هذا الحادث كان من أعمال التحريض فإنه لم يبلغ حدود الامتهان والإذلال الذي
تحمَّلَه هودجز آخر أيامه في الإسكندرية؛ فقد كانت هناك مسألة البريد الهندي أيضًا. فقد
وصلت إلى هودجز قبل ذلك بأشهر عديدة تعليمات بأن يستفسر من الباشا عمَّا ينوي اتخاذه
حيال
البريد المذكور فيما لو استعمل الضغط ضده،
١٠٦ وفي يوم ١٩ سبتمبر وصل البريد الهندي، وهنا وقع هودجز في حيرة شديدة وقام من
فوره قاصدًا الديوان راجيًا ألا يعتدي أحد على البريد، فما كان من الباشا إلا أن هزَّ
رأسه
علامة الإيجاب، ولكن القنصل العام طلب توكيدًا على ذلك فردَّ عليه الباشا بأنه لا يجيبه
إلى
طلبه.
وهنا أبدى هودجز استغرابه ودهشته فلم يَسَعْ محمد علي إلا أن يردَّ عليه بحدة قائلًا:
«إن
الدول التي تزعم أنها متمدينة قد شرعت في اتخاذ إجراءات قد ترغمني على أن أحتذي حذوها
فيها.»
فلما طلب إليه هودجز أن يوضِّح ما يريده من هذه العبارة استطرد الباشا، فقال: «إن
تصريحات
تلك الدول لا يمكن الارتكان إليها والثقة بها.»
وهنا قال هودجز إنه لا يسعه احتمال تلك الملاحظة إذا كان المقصود بها إنجلترا، فابتسم
الباشا ابتسامة التهكم وقال: «فلتُؤخَذ هذه الملاحظة بأنها تعني إنجلترا أو لا تعنيها،
ولكن
ملاحظتي هذه ليست إلا صدى ما تتناقله الأفواه في كل مكان.»
وأخيرًا، أخبره محمد علي أنه يسمح بمرور البريد هذه المرة فقط، ولما عاد هودجز إلى
دار
القنصلية والغضب مستولٍ على حواسه أبرقَ إلى لورد بالمرستون وإلى حكومة بمباي بأن البريد
لن
يُسمَح بمروره في المستقبل.
وفي مساء اليوم نفسه بينما كان الحديث دائرًا بين هودجز ومدير بريد حكومة جلالة الملك،
أخبر الثاني الأول «بأن إنسانًا ضعيفًا قد أثار الفزع والرعب الكاذب بلا مسوِّغ» حول
مسألة البريد.
١٠٧
وفي اليوم التالي علم هودجز من قنصل روسيا العام أن محمد علي قد أكد لوكيل شركة الهند
أنه
طالما يبقى على عرش مصر فإن البريد سوف يكون في أمن تام.
١٠٨
وهنا ثارت ثائرة القنصل العام وتغلَّبَ الغضب على حواسه، فأرسل إلى رؤسائه شكوى مُرَّة
من
مدير البريد ووكيل الشركة قال فيها: «أصبحت المسألة منحصرة فيما إذا كان يحق لمحمد علي
أن
يجعل أحد الموظفين الساخطين يمشي مشية الجواد البطيء ليسخر من معتمد جلالة الملكة، وأن
يقلل
من اعتباره ليوجد في مكانه سلطة إنجليزية مجهولة.» وبالاختصار: هل يحق لمحمد علي أن يحول
معتمد جلالتها إلى كمية سياسية مهملة؟ ثم استطرد فقال: «إنه لم يتوقع إلا العداء والخذلان
من كافة الأفراد الإنجليز هنا، ولكنه كان يؤمِّل على الأقل أن يلقى شيئًا من العطف من
جانب
الأشخاص الذين يشغلون مناصب عمومية على الأقل.»
١٠٩ وفي الحق أبدى بالمرستون عطفه عليه إلى حد أنه شكا إلى رئيس لجنة المراقبة ضد
وكيل الشركة، ولكن الرئيس أخبره بصراحة «أن الشكوى إذا بُعِثت إلى رئيس الشركة فلسوف
يعلم
بها البلاط، ومن ثم ينكشف أمرها وتصبح معلومة عند الجمهور.»
١١٠
أما من ناحية محمد علي فإنه قد أوفى بعهده، فعلى الرغم من سحب القنصل الجنرال وبالرغم
مما
وقع في سوريا من أعمال العدوان، وما كان يُنتظَر أن يحدث من القلاقل في مصر؛ فإنه لم
يكتفِ
بالسماح بمرور البريد، بل وضع إجراءات خاصة لحماية المسافرين عن طريق السويس،
١١١ وكثيرًا ما كان يقول إن الحرب ليست بينه وبين الشعب الإنجليزي، بل بينه وبين
بالمرستون.
ومع أن محمد علي هو الذي ضحك على ذقون خصومه إلا أنه قد خرج مخذولًا من الميدان؛ لأن
القوات التي تجمعت ضده كانت أكثر مما كان يستطيع مكافحته، ثم إن القيادة التي كان لها
الإشراف على تلك القوات لم يكن يعوزها الحزم والعزم، كما أنها لم تكن تعرف التواني أو
التقاعد، ففي يوم ١١ سبتمبر نزلت إلى البر السوري بقرب بيروت قوة مركبة من البحارة الإنجليز
والجنود التركية، وقد حدث هذا بعد أن قضى الأعوان الأتراك الأشهر الطويلة في حض السوريين
على رفع راية العصيان، وكان جيش إبراهيم وقتذاك متفرقًا في أنحاء البلاد وفي حالة ضعف
شديد،
فضلًا عن حاجته إلى الذخائر والمؤن، ولم يحلَّ شهر أكتوبر حتى رفع الدروز راية العصيان.
وفي
١٠ أكتوبر التقى الكولونيل نابيير في جهة بيت ماني بإبراهيم على رأس شرذمة من الجند،
فأنزل
به الهزيمة واستولى على رايته، ثم سقطت بيروت. وفي اليوم الرابع من شهر نوفمبر سلمت عكا
بعد
ضربها بالقنابل يومًا واحدًا، وهي التي قاومت إبراهيم من قبل مدة ستة أشهر كاملة، وبسقوط
عكا انهار حكم مصر في سوريا، أما في باريس فإن وزارة تيير التي أوشكت أن تجر فرنسا إلى
حافة
الحرب؛ فقد سقطت قبل ذلك بأيام أي في يوم ٢٩ أكتوبر، وفي يوم ١٥ نوفمبر ظهر الكولونيل
نابيير في مياه الإسكندرية على رأس عمارة بحرية قوية. وفي اليوم السابع والعشرين من الشهر
المذكور عقد مع الباشا اتفاقًا بدون أن يكون له سلطة لعقد مثل ذلك الاتفاق، وقد وافق
الباشا
على الجلاء عن سوريا وإعادة الأسطول العثماني في مقابل أن يُعترَف به حاكمًا على مصر
هو
وذريته من بعده. وفي يوم ٢٩ نوفمبر أُرسلت التعليمات لاستدعاء إبراهيم من سوريا.
وما كادت تُذاع هذه الأنباء حتى دهش لها رجال السياسة في الآستانة أيما دهشة، وقد
كتب
هودجز بهذه المناسبة بلهجة لم يُراعِ فيها منزلته القنصلية، فقال: «إن ما فعله نابيير
قد
أثار ضجة شديدة بين رجال السلك السياسي هنا.» ولقد كان في مسلكه بعض ما عُرِف به الملاحون
من الخروج على العرف؛ فقد أُبلِغ الباشا القرار الذي وضعه بالمرستون والوزارة الإنجليزية
في
أكتوبر مراعاة لشعور فرنسا. ويقضي القرار المذكور بالتوصية على أن يكون عرش مصر وراثيًّا
في
أسرة محمد علي في مقابل مبادرته بسحب جنوده من الأراضي التركية الأخرى وتسليم الأسطول
العثماني.
ولما وصلت صورة الاتفاق الذي وضعه نابيير إلى لندن أقرَّتها الوزارة البريطانية في
الحال
على أن هواجس بونسيني وظنونه ما زالت تضع العراقيل في سبيل التسوية التامة؛ فلقد حمل
الباب
العالي على أن يُصدر فرمانًا بتاريخ ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م يشتمل على عدة تحفظات غير مرغوب
فيها،
١١٢ ولكن محمد علي بناءً على نصيحة نابيير رفض العمل بهذا الفرمان، وألحف بالمرستون
وميترننج في طلب تعديل المنحة وقد تمَّ لهما ما أرادا، وصدر فرمان جديد بتاريخ أول يونيو
متضمن جَعْلَ العرش وراثيًّا للأرشد فالأرشد
١١٣ من الذكور من أعقاب محمد علي مباشرة. وقد حدَّدَ هذا الفرمانُ الجزيةَ، فجعلها
٨٠ ألف كيس دراهم، وجعل عدد الجيش ١٨ ألف جندي إلا في حالة الحرب، أو إذا صدر تصريح خاص
بزيادته، وقد حظر الفرمان على مصر إنشاء سفن جديدة، وهكذا أصبح حاكم مصر وليس في قدرته
أن
يُهدِّد سلام أوروبا مرة أخرى، ولئن قيل إن محمد علي قد أخفق في تحقيق غايته الرئيسية
وهي
إنشاء إمبراطورية؛ فإنه توصل بلا شك إلى تحقيق أشياء هامة؛ فإن مصر قد أصبحت بفضله مستقلة
عن الباب العالي فيما عدا الاسم، ثم إن إدارتها أصبحت إدارة منفصلة، وقد أصبح هذا الامتياز
مضمونًا باتفاق كلمة الدول، مع أن الباشا لم يُوفَّق إلى تحقيق مشروعه الأكبر إلا أنه
تمكَّن من وضع أسس دولة جديدة.