الفصل السابع
حكم محمد علي في مصر
سبق أن بينَّا أن من بين الأسباب التي حملت بالمرستون على المعارضة في امتداد نفوذ
محمد
علي عدم فهمه لحقيقة الأداة الإدارية التي وضعها الباشا. وقد كانت الأداة المذكورة على
التحقيق هي هدف المعاصرين يَكِيلون لها المديح بلا حساب أو يسلقونها بألسنةٍ حِداد لا
تعرف
معنى الاعتدال، فكنت إذا سمعت أناسًا متحمسين من أمثال واجهورن فلا تسمع عن الأداة الإدارية
المذكورة إلا أنها أداة صالحة أسفرت عما فيه خير البلاد والعباد.
وأمثال هذا الكاتب لا يعترفون طبعًا بأن كثيرًا من إصلاحات الباشا كانت إصلاحات عَرَضية
لا جوهرية، وبالعكس كنت ترى غيرهم من أمثال هولرويد مراسل بالمرستون لا ينظرون إلى المسائل
إلا بالعين البريطانية البحتة التي ترثي لحالة الفلاحين؛ لأنهم لا يعيشون في مساكن مبنية
بالطوب الأحمر ولا يأكلون اللحم البقري،
١ ولكن لا بد للحكم بنزاهة على إصلاحات الباشا وما يلحق بها من الآراء الإدارية
أن يلقي الإنسان باله دائمًا إلى عدة نقط بحيث لا يتناساها مطلقًا، فأولًا كان الباشا
يعمل
في بلد شرقي، ومعنى هذا أن وظيفة الحكومة ومهمتها كانت صورة مُشوَّهة عن مهمتها في بلاد
الغرب. وقد كان من المتعذر حقًّا على قوم ألفوا مبدأ «معلهش» أن يُقدِّروا قيمة نظام
يضطلع
بإرشاد كل فرد من أفراد الرعية في كل ناحية من نواحي الحياة، وبديهي أن تشبيه حالة مصر
بحالة حكومة الهند لم يكن له محل مطلقًا؛ لأنه فيما عدا القليلين في إنجلترا من رجال
«أنديا
هاوس» أو «النادي الشرقي» لم يكن يعرف أحد ما يصنعه مواطنوه في الهند؛ لهذا لم يكن مدهشًا
أن الناس لم يفهموا محمد علي حقَّ الفهم وأساءوا تأويل أعماله ونواياه، وفي الواقع لم
يكن
يسمع أحد بين حين وآخر عبارات الانتقاد المعقولة المنطوي على العطف إلا من أمثال صولت
أو
كامبل ممن كان لهم إلمام بحالة البلاد، أو من الموظفين الأنجلو أنديان الذين قامت أمامهم
في
الهند مشاكل كالتي قامت في وجه محمد علي وحوله رعية شرقية تنظر شزرًا إلى أعماله.
ثم لا ننسى من الناحية الأخرى أن الباشا ورث تركة مثقلة وحكومة عاطلة من كل شيء، ويتعذَّر
على الإنسان حقًّا أن يبالغ في وصف ما كانت عليه الولايات التركية في بداية القرن التاسع
عشر من حالة البؤس والشقاء.
ولقد حدَّثَنا بوركنهاردت — وكان في حديثه صادقًا — أن واليًا نزيهًا لا يمكن أن
يُعلِّل
نفسه بالبقاء طويلًا في منصبه؛ لأن الباب العالي لا ينفك عن المطالبة بتقديم الهبات ولا
شيء
غير الهبات والإعانات، وإذ ذاك يرى الباشا ترضية لجشع الباب العالي نفسه مَسُوقًا إلى
مضايقة رعاياه وإرهاقهم، وليس الوالي الذي يسهر على مصالح رعاياه ولا تحدثه نفسه بتقديم
شيء
عدا الجزية المعتادة، أو الذي يدع العدالة تجري مجراها من أن يبوء بسخط مولاه السلطان
ليس
لعدله، ولكن لأن عدله يَحُول بينه وبين انتهاب الشعب وتقديم بعض الأسلاب هدية إلى ديوان
الآستانة، وإذا باء بسخط مولاه ولا يرى له مخرجًا لإنقاذ حياته إلا أحد طريقين؛ إما تسليم
رعاياه البائسين في هدوء وسكينة إلى سياط وإلى مستبد يحل محله، وإما أن يعلن مولاه بالثورة
ويظل ينازع مزاحمة السلطان إلى أن يقتنع الباب العالي باستحالة عزله فيظل صابرًا على
جمر
الغضا إلى أن تسنح له الفرصة للتخلص من ذلك الوالي العادل،
٢ ومع أن هذه الأقوال قِيلَت في سنة ١٨١٠م، فكأنما تكهَّن قائلها بأنها ستنطبق
تمامًا على حالة محمد علي، وكان عدم إدراك هذه الحقيقة سببًا في حمل بالمرستون على إساءة
الظن بأعمال محمد علي والارتياب في غاياتها.
وإذا ما استثنينا العراق، فإن مصر كانت أسوأ حالًا من كافة الولايات العثمانية؛ فإن
المماليك كانت سياستهم قائمة على إرهاق البلاد واستلابها ولم يُفكِّروا مطلقًا في حماية
الفلاح لا من أسلحة البدو الذين كانوا يهاجمونه ويقضُّون مضجعه، ولا من عسف محصِّلي الضرائب
وسياطهم، بل لقد سوَّلت لهم أنفسهم أن يتركوا أراضيه بلقعًا بعد أن أصبحت الترع مسدودة
بسبب
ما تجمَّعَ فيها من الوحل والطمي، حتى إن الدلتا وهي أخصب أراضي العالم قد قلَّ خصبها
بنحو
الثلث تقريبًا. ثم إن غارات البدو في إقليم الفيوم كانت نتيجتها فرار السكان وترك الأراضي
خرابًا، ولم يكن أحد يعرف مبلغ ما يُنتزَع من الفلاح ولا مقدار ما اختُلِس من الإيراد
العام
في أثناء طريقه إلى خزينة الدولة. أما أعيان الفلاحين — وكانوا يُسمَّون روزنامجية —
فقد
كانوا معروفين بصلفهم وثرواتهم الطائلة،
٣ أما العدالة فقد كانت مسألة رشوة لا أكثر ولا أقل، وأما الغنى واكتناز الثروة
فقد كان عماده المحسوبية. أما الحياة نفسها فكانت عبارة عن مجرَّد حظ أعمى.
ذلك كان شأن الحكومة التي ورثها محمد علي وألَّفَها ونشأ في ظلالها في ولاية ألبانيا،
وليس من شك في أن استتباب الأمر له في مصر قد صيَّره حاكمًا أوتوقراطيًّا، ونحسب أن أحدًا
لا يدهش لقبوله لتلك التركة، أو أنه سلك في بعض الأحيان نفس المسلك الذي كان لا يُنتظَر
أن
يحيد عن أسلافه، ولقد قيل إن الجبرتي — صاحب التاريخ المعروف — لقِيَ حتفه خنقًا وهو
عائد
من قصر شبرا إلى القاهرة في إحدى ليالي شهر يونيو سنة ١٨٢٢م، وقد رُبِطَتْ جثته إلى أقدام
أتانه، وتهامسَ الناس بأن الباشا قد ضاق ذرعًا بانتقادات الجبرتي اللاذعة،
٤ كما قِيلَ إن الذي كان يعهد إليه بنقل خطاب سري كان يُجازى بإلقائه في نهر
النيل كضمان على عدم إفشاء السر إذا كان قد عرفه.
٥
ولقد ظل الباشا إلى أواخر أيامه والنزعة الأوتوقراطية متمكنة من نفسه، ولم يكن لأعيان
الإسكندرية مَيْل لإرسال أولادهم إلى باريس للتعليم، فاستعاضوا عن الأولاد الذين طلبهم
محمد
علي منهم بأبناء البوابين وما شاكلهم من أبناء الطبقات الدنيا. ولما سمع الباشا بما فعله
الأعيان قال في شيء من الغضب الممزوج بالاستغراب: «إذا كان هؤلاء الأشخاص يجهلون مزايا
التعليم والتجارة فليسوا أهلًا إلا لحمل الأثقال على ظهورهم كالشيالين والحمير.» ومن
ثم
أصدر أمرًا عاليًا بأن يعمل كل إنسان بنفسه كائنًا من كانت طبقته في إزالة تلال الأوساخ
والقمامة المحيطة بالمدينة؛ ومن ثمَّ كنت ترى أصحاب الحوانيت والتجار والكتبة العموميين
ورجال الدين يحملون على ظهورهم في أيام معينة سلالًا مملوءة طينًا وهم غارقون في لجنة
لم
يألفوها من العرق.
٦
ولم يكن الباشا الحاكم الشرقي الأوتوقراطي بحكم الميراث فقط بل كان كذلك بحكم البيئة
أيضًا، فإذا استثنينا العنصر الأوروبي الضئيل العديم الحيثية، ويدخل فيه القناصل العموميون
وبعض التجار الإنجليز والفرنسيون وشراذمة الموظفين الفرنسيين الذين كانوا يعملون في الإدارة
المصرية نقول إذا استثنينا هؤلاء لألفَيْنا الباشا إنما يعيش في وسط شعب لم يكن يتوقَّع
ولا
يرغب في شيء عدا الإدارة الأوتوقراطية، وأنت تعلم أن الحاكم الأوتوقراطي هو دائمًا بمعزل
عن
شعبه.
على أن محمد علي لم يكن تفصله عن شعبه سلطته غير المحدودة فحسب، بل كانت تُضاف إليها
سياسته ونواياه؛ ولهذا قال مرة للدكتور بورنج الذي هبط مصر لوضع تقرير عن سير الحركة
التجارية في سوريا ومصر ما معناه: «أرجو ألا تحكموا على أعمالي بمقاييس المعارف عندكم،
بل
ينبغي أن بيني وبين ما يُخيِّم حولي من الجهل المطبق … فبينما توجد لديكم طائفة من الأذكياء
النابهي الذكر لا أكاد أجد حولي من يفهمني ويعمل على تنفيذ أوامري، وكثيرًا ما يخدعني
الناس
وأنا أعلم أنهم يخدعونني، ولستُ أعدو الحقيقة إذا صرَّحْتُ أنني كنت وحيدًا طيلة حياتي
أو
على الأقل الشطر الأكبر منها.»
٧ وكان ما يظهر في خلال حكم محمد علي من أعمال صالحة من صنع الباشا نفسه دائمًا،
وبالعكس كانت الأعمال السيئة في الأغلب من عمل أشخاص اضطر إلى استخدامهم لعدم وجود من
يفوقونهم علمًا وذكاء، وقد كانوا من الموظفين الذين لا يتعففون عن ارتكاب الموبقات لإشباع
شهواتهم في الحصول على المال،
٨ وإلى هذه الحقيقة أشار الباشا مرة في حديث له إذ قال: «عندما هبطت أرض مصر كانت
البلاد بربرية وهمجية لأقصى حدٍّ، وهي لا تزال كذلك ليومنا هذا، على أنني برغم ذلك ما
زلت
أرجو أن تكون أعمالي قد حولتها إلى أحسن مما كانت عليه، فلا ينبغي أن تجزع إذا لم تجد
في
هذه الأقطار شيئًا من المدينة المعروفة في الأقطار الأوروبية.»
٩
وليس من ريب في أن ثلاثين سنة من حكمه قد أحدثت في البلاد انقلابًا سياسيًّا معدوم
النظير، ولكن لا يفوتنا أن جيلًا واحدًا ليس يكفي لترك آثار دائمة ونتائج ثابتة؛ فإن
مجرد
عدم توفيق الباشا إلى العثور على العدد الكافي من الأشخاص الذين يعتنقون آراءه ومراميه
بالحماسة المنبعثة عن الإخلاص، يُضاف إلى ذلك شعوره بالهوة السحيقة التي تفصل بين سياسته
وسياسة غيره من الرجال، إن هذا كله قد ادَّعى بطبيعة الحال إلى إيجاد عناصر الضعف وعدم
الثبات في أعماله، وقد أدرك بحق أن كل تحسين يتوقف تنفيذه على سعيه وحده، وإن ما لا يتمه
هو
شخصيًّا من الأعمال قد يظل كذلك دون أن يفكر أحد في إتمامه، ومن ثم كان هناك في بداية
الأمر
بعض نقص في التقدير لأعماله ممزوج بجزء غير قليل من الاستعجال لرؤية نتيجة هذه الأعمال
في
الحال. وبينما كنت تراه منهمكًا في وضع الأسس الراسخة إذا به يتحوَّل منها إلى التعجيل
بإقامة أسوار قصر أحلام وهو يقول: «أنا أعلم أنني رجل طاعن في السن؛ فإذا كان هناك ما
أرغب
في إنجازه فلا بد من إنجازه فورًا.»
ولقد تضافرت مؤثرات على تقويض إصلاحاته وتجريدها من القوة الدافعة الدائمة أو لتوجيه
نشاطه في غير وجهته المرغوبة، وبالرغم من هذا كله يتعذَّر على إنسان ما أن يجد حاكمًا
شرقيًّا نجح نجاح محمد علي في عمل هذه الإصلاحات العظيمة، مع أنه لم يكن مسوقًا إليها
بضغط
أجنبي، بل عمل ما عمله مدفوعًا بحب النظام والعدالة والخير. وعلى الرغم من عناد كل من
التفوا حوله إن لم نَقُلْ مقاومتهم السلبية.
ولم يُحْدِث الباشا تغييرًا يُذكَر في شكل الحكومة التي ظلت تسير طبقًا للقواعد التي
أظهر
الزمن صلاحيتها وملاءمتها لحاجيات البلاد، والتي لم نجرؤ نحن على البدء في تغييرها في
المهد
إلا من الجيل الماضي؛ فإن وحدة النظام الإداري كانت القرية وكبيرها شيخ البلد الذي يمثل
حاكم البلاد في كل صفة، ومن القرى تركبت الأخطاط، ولكل منها حاكم الخط، ومن هذه الأخطاط
يتركب المركز تحت حكم المأمور، وقد جعل عدد المراكز ٦١ مركزًا، ومن هذه المراكز تركبت
المديريات السبع، ويشرف على كلٍّ منها مدير أو حاكم، وتشمل دائرة اختصاص المديرين الأربع
والعشرين مديرية التي كانت مصر تتركب منها في عهد المماليك. ولم يكن ثم مندوحة عن وجود
هيئة
متشعبة الأطراف في المدن الكبرى، وقد كان هناك القضاة ورجال الشرطة المخصوصون للمحافظة
على
السكينة العامة والحيلولة دون وقوع الجرائم ومعاقبة فاعليها. وقسم الأهالي أيضًا حسب
مهنهم
أو حرفهم إلى طوائف ونقابات ويشرف على كلٍّ منها رئيس النقابة؛ ففي القاهرة مثلًا كان
هناك
ما لا يقل عن ٦٤ نقابة من هذا القبيل، وكان كل رئيس مسئولًا عن سلوك أعضاء نقابته،
١٠ وكانت هذه هي القاعدة التقليدية المألوفة في الشرق بأسره في تنظيم أرباب الحرف
والصناعات.
ولضمان سير هذه النقابات سيرًا يتمشى مع الأمانة والعدالة، لم يكن ندحة عن إبقائها
تحت
الرقابة الدائمة اليقظة، وبخاصة وأن اعتقاد الجمهور في عدم أمانة الهيئات الرسمية كان
متأصلًا في نفوسهم، وكانت الغاية المقصودة من هذا النظام الاحتفاظ برئيس مستعدٍّ للحيلولة
دون ظهور مستبدين عديدين. ولم يترك مشايخ القرى الفرصة السانحة لإرهاق إخوانهم الفلاحين،
١١ وحذا المديرون ومأمورو المراكز حذو مشايخ القرى في إرهاق كل من وقعت أيديهم
عليه، وليت عدم الأمانة كان النقص الوحيد في أخلاقهم، كلا بل كان عدم الأمانة مقرونًا
بالجهل المطبق، وقد يحدث أن يكون المتعلم فيها واسع الاطلاع في كتب الفلسفة الإسلامية
ملمًّا بدواوين شعراء العرب والفرس، ولكن المدارس وقتئذ كانت تُخرِّج علماء لا رجال أعمال،
وكان المدير لا يسترشد في أعماله إلا بما تواضعت عليه التجربة، وهذه التجربة لم تكشف
في
أغلب الأحايين إلا عن خير الوسائل للسرقة مع استعمال اللباقة والحذر،
١٢ ثم إن الحاجة التي تقضي الاتفاقات القائمة على عدم الأمانة بين الموظفين بعضهم
وبعض، كثيرًا ما نجم عنها تغيير هؤلاء الموظفين بغيرهم، ومن ثم كنت تجد المصالح يشغلها
رؤساء لا يعرفون من أعمالها وشئونها لا كثيرًا ولا قليلًا. وبهذه المناسبة كتب المستر
بورنج
في تقريره يقول: «لم يكن هناك اهتمام ما بكفاءة الفرد واستعداده للقيام بمهام العمل الذي
عُهِد إليه بإنجازه.»
١٣ ولم تكن لسوء الحظ ندحة من ذلك. وقد شهد بهذه المسألة كامبل، وهو كما تعلم لم
يكن شاهدًا متعنتًا؛ إِذ قال: «إن ما يصادفه تُجَّارنا من المسائل المثيرة للغضب مرجعه
عدم
وجود نظام معين يُضاف إليه جهل صغار الموظفين المحليين لسَيْر الأمور أكثر مما يرجع إلى
خطأ
من جانب محمد علي أو إبراهيم باشا، وعلة هذا كله عدم وجود أشخاص بالكلية قادرين على السير
بمختلف الشئون في كافة المصالح المختلفة، وبخاصة في الأماكن والفروع التي تمتد فيها التجارة
الأوروبية، يُضاف إلى كل هذا أن هناك نقصًا طبيعيًّا ينطوي على الرشوة في كل شيء تركي؛
بحيث
لا بد أن يُترك للزمن وحده أن يقضي على المساوئ الموجودة في الوقت الحاضر التي لا مفرَّ
من
وجودها، والتي نعتقد أنها آخذة في التناقض يومًا فيومًا.»
١٤ وفي الواقع لم يكن يمكن إدخال أي إصلاح ثابت ما لم ينشأ جيل جديد أكثر تعليمًا
وأدعى إلى الثقة من أبناء الجيل الحاضر.
وسدًّا لما أوجده المران والتعليم والأخلاق من النقص، لجأ الباشا إلى وسائل الضغط
والعقاب
والتفتيش، وإنك إذ تقرأ كتبه الدورية، وقد كانت تتضمن وسائل الضغط المذكورة؛ تجد أنها
كتب
ممتعة لذيذة ومفيدة، وإن كانت تثير الضحك تارة والأسى تارة أخرى؛ لأنها قد تتضمَّن أحيانًا
وعيدًا مخيفًا؛ فمثلًا هناك كتاب صادر في سنة ١٨٢٦م يتضمَّن شكاية الباشا من أن الموظفين
لا
يُعنون العناية الكافية بتحسين الزراعة، وقد جاء في هذا الكتاب أن الباشا يوشك أن يقوم
بنفسه بزيارة الأقاليم وتفتيش أراضيها الزراعية، وقد أنذر كل موظف يرى أثرًا للإهمال
في
منطقته بدفنه حيًّا في حفرة خاصة.
١٥ ولكن أمثال هذا الوعيد لم يكن يمكن أن ينظر إليه الإنسان نظرة جدية؛ ذلك لأنه
هدَّد بعد عام من ذلك التاريخ بمعاقبة المهملين في الشئون الزراعية بالعصا أو بالسيف،
١٦ وفي بعض الكتب الأخرى التي دفع الحقد باركر القنصل العام إلى رئيسه بالمرستون
بقصد تسليته، ترى الباشا وقد صبَّ جامَّ غضبه على الموظفين. وإنك لترى أثرًا لذلك لمناسبة
الإهمال في دفع الضرائب؛ إذ يقول للموظف المختص: «من ذلك يتبيَّن أنك غبي مهمل، وإنه
لدليل
جديد على أنك كالحمار في غباوته.» فإن لم تدفع الأموال فورًا «فكن على يقين بأنني سأقطعك
إربًا إربًا.»
١٧ وكتب مرة إلى أحد الموظفين بمناسبة التباطؤ في تقديم العدد اللازم من الأنفار
للقرعة العسكرية: «وأنت أيها الحمار ماذا عساك صانع؟! … إنني لم أضعك في هذا المركز إلا
لعدم وجود من هو أقدر منك على أن يشغله، وقد جعلتك مديرًا، فهل يكون ذلك أن تهمل في أداء
واجبك هذا الإهمال وكل هذا الوقت؟! … فبمجرد استلامك لأمري هذا ضع عقلك في رأسك وأرسل
بقية
الأنفار … وإن تباطأت في تنفيذه جعلتك مثلًا بين بقية مديري الأقاليم.»
١٨ وأما حاكم السودان فقد كتب إليه بلهجة مخففة عندما أرسل إليه غرارة مملوءة
بآذان العصاة كدليل على نشاطه في كبحهم، قال الباشا: «على من يعتلون كراسي الحكم وأصحاب
السلطة أن يدركوا أن فتح البلاد لا يكون إلا باقتناع الأهالي بالوسائل السلمية، وبتوخِّي
العدل في تسيير الأمور بقصد اكتساب ثقة الأهالي، وعلى الحاكم أن يقتدي بالقدوة الصالحة
التي
ضربها الفرنسيون في مصر وأن يُقلِّد المسلك الذي سلكه الإنجليز بعدهم.»
١٩
ولكن القارئ يجد في الكتاب الدوري الصادر في سنة ١٨٤٣م أقرب مثال للأوامر الإدارية،
قال
الباشا الهرم — وقد أصبح كذلك بعد أن أثقلت عاتقه السنون — يناشد موظفيه بتقديم المساعدة
له؛ لأن متاعبه أصبحت فادحة، بحيث ينوء بها عاتق شخص واحد، وقد ذكرهم بمركز مصر وخصبة
تربتها، فقال: «إن من حُسن الطالع أن ننعم بأرض كأرضنا لا مثيل لها بين أراضي العالم،
وعندي
أن التقاعد عن بذل كل ما يمكن بذله من الجهود في سبيل مضاعفة يسرها ورخائها لدليلُ العقوق
الذي لا يمكن أن يرضاه قلبي ويستحيل أن أُقِرَّه، فلا محيص لي من أن أناشدكم في كل حين
بأن
تسهروا على أداء واجباتكم لكي نصل إلى الغاية التي جعلناها نصب أعيننا، وحذارِ من التكاسل
والإهمال … إن الرجل العاقل لا يباهي بأخلاقه الحميدة، بل بما أصابه من النجاح في إدارة
ما
عُهِد إليه من الأمور، فلا يفوتنكم أنني سأواصل السهر على سعادة هذه البلاد ورخائها،
ولو
ضحَّيْتُ في هذا السبيل بحياتي وحياة أقاربي. إن كل من حولي يعرفون جيِّدَ المعرفة أنني
لا
يَطِيب لي إيذاء شخص ما، وقد سلختُ أربعين ربيعًا لم تمتدَّ فيها يدي بمعاقبة أحد عقابًا
شديدًا، فإذا ما أُرغمت يومًا على الخروج عن هذه القاعدة فلن يكون الذنب ذنبي، بل ذنب
غيري
… ولم يكن يدور بخلدي فيما مضى أن نصل إلى الحالة التي وصلناها الآن، والآن وقد سَمَتْ
مطامعي واتَّجَهَتْ إليَّ اتجاهًا أرقى من اتجاهها الماضي، فلأقدمن التضحية مهما جلت
وعظمت
في سبيل رخاء بلادي، وهي أقصى أمانيَّ حتى ولو جلس على عرشها أحد أقاربي وأصبح ملكًا
لسكانها البالغ عددهم ثلاثة ملايين.»
٢٠
ولم تنقضِ ثلاثة شهور على ذلك الكتاب حتى عمل كبار موظفيه على أن يقسموا أمامه على
أن
يخدموه بأمانة وأن يرفعوا اليد عن كل ما يقع تحت أنظارهم من الحيف أو إساءة استعمال السلطة،
فليس من شك في أن هذا الكتاب الدوري يشفُّ تمامًا عن مكنونات قلب الباشا الحقيقية؛ فلقد
وجَّهَه إلى الموظفين خاصة ولم يُذِعْ محتوياته بين القناصل العموميين، ولم يَرْمِ به
إلى
التأثير في الرأي العام الأوروبي، وإلى جانب هذا كله كان متلائمًا تمامًا مع اللهجة التي
كان يستعملها محمد علي في محادثاته الخصوصية مع أصدقائه الأوروبيين، ولكنه يعلم جيِّد
العلم
أن الإكراه كالعقوبة لا مناص منهما. نعم؛ لم يكن بطبيعته ميالًا إلى إيصال الأذى أو الشر
إلى أحد، وفي الحق أنه امتنع على العموم عن أعمال التأديب، ولكن هذا كان بمثابة ميل عام
لم
تكن له حيلة في الانحراف عنه بين آنٍ وآخر. مثال ذلك: أن محصل الضرائب في مديرية الجيزة
ذكر
كذبًا في سنة ١٨٢٢م أنه لم يستطع لا تحصيل العوايد العشورية ولا ضريبة المنازل، وقد كان
الباشا على حق أن يعتبر هذه المسألة في منتهى الخطورة، وقد ترجَّح عنده (ويستحيل البت
هنا
هل كان الترجيح عادلًا أم غير عادل) أن المحصل كان كاذبًا في دعواه، وأنه مَسُوق إلى
ذلك
بطمعه في الحصول على رشوة؛ فأصدر أمره إلى إبراهيم باشا — وكان وقتئذ مدير الجيزة — بأن
يتفاهم مع الرجل وأن يقنعه — إذا استطاع — بخطأه، فإن وُفِّق إلى إقناعه فبها ونعمت وإلا
أطاح رأسه حتى لا تتعرض مصالح الدولة للضياع بسبب مسلكه السيئ. ويظهر أن إبراهيم باشا
نفَّذَ الحكم بيده، وقد جاء بعد ذلك في كتاب إلى إبراهيم باشا أن الرجل قد لَقِيَ حتفه
بسبب
عناده لا بفعل الباشا وابنه، وأنَّ مركزه لا بد أن يشغله رجل فرنسي أو شقيق القتيل.
٢١
وكلما مرَّت الأيام وتحسَّنت الأخلاق العامة قلَّت عقوبة الإعدام تدريجيًّا، حتى
إن
المخالفات الكبيرة كان يُعاقَب فاعلها بالأشغال في الأعمال العمومية التي تمَّتْ في عهد
الباشا. وقد صدر في سنة ١٨٣٠م أَمْرٌ بحبس ٢٥ موظفًا من موظفي مصر الوسطى مع الأشغال
الشاقة
لمدة ستة أشهر،
٢٢ وفي سنة ١٨٣٣م أنذر الباشا مأموري المراكز بالعقاب إذا أرغموا موظفي الحكومة
بحرث الأرض الواقعة في دوائر اختصاصاتهم،
٢٣ وفي العام التالي، نظرًا لأن إرهاق الدماء كان عملًا مذمومًا في نفسه حظر على
المديرين ومأموري المراكز إصدار حكم بالإعدام إلا بعد الحصول على إذن خاص من الباشا.
٢٤
وقد صدر الأمر في سنة ١٨٣٦م بإعدام أحد شيوخ القرى؛ إذ قامت البينة على أنه ضرب بلا
مسوغ
شخصًا ضربًا مبرحًا أفضى إلى موته.
٢٥
ولكن الضمان على عدم خروج الموظفين عن حدود وظائفهم لم يكن إلا بإسداء النصح ولا
بإنزال
العقاب الصارم، بل زيارة الأقاليم بين آنٍ وآخر وتقصِّي أحوالها بدقة وعناية؛ ولذا لم
يُقصِّر الباشا في زيارتها زيارة منتظمة، وكثيرًا ما كان يزورها ويتجوَّل في أنحائها
باحثًا
منقبًا، وبخاصة عن حالة الحسابات ومسير الإدارة بوجه عام، بل كان كثيرًا ما يتجوَّل بمفرده
بدون حراس؛ حتى يتمكَّن أحقر الناس من الدنو منه ورفع شكواه إليه رأسًا، وقد كان من نتائج
زيارةٍ قام بها إلى السودان سنة ١٨٣٩م أن أصدر أمره بعزل طائفة من الموظفين الجهلاء الخربي
الذمة.
٢٦
أما الموظفون الأجانب في الإدارة العامة فيلوح أن عددهم كان ضئيلًا جدًّا؛ فمع أنه
كان
يوجد في أنحاء البلاد عدد من خوارج الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، فإنهم كانوا في الترسانات
والجيش،
٢٧ بينما العدد القليل جدًّا عمل في الإدارة العامة، ولم أعثر على أثر لاستخدامه
في الإدارة المدنية إلا في الخطاب الذي أشرت إليه سالفًا، والذي أرسله الباشا إلى إبراهيم
باشا بتعيين محصل فرنسي في مديرية الجيزة بدلًا من المحصل القبطي الذي أُعدِم.
كما أن المناصب الكبيرة لم يكن يشغلها أحد من أهالي البلاد؛ لأن الإدارة العليا كانت
في
أيدي الأتراك لا في أيدي المصريين، وبهذه المناسبة كتب بورنج يقول: «إن أحقر شخص له قليل
من
الدراية باللغة التركية يُعِدُّ نفسه فعلًا من طبقة أرقى من طبقة الوطنيين أبناء البلاد!»
٢٨ بل إن أحد الخدم المصريين لم يكن يمكن تكليفه بحمل رسالة إلى موظف ذي منصب
كبير.
وفي الحق كان الرجل التركي في مصر في عهد محمد علي يتمتع بشيء من المنزلة السامية
التي
كان يتمتع بها موظف شركة الهند الشرقية في الهند، وقد لاحظ الأجانب بشيء من الاستغراب
ما
كان سائدًا بين طبقات الأهالي من الشعور بالإصغار والإذلال؛ فلقد كنت تسمعهم يقولون:
«لسنا
إلا مجرد فلاحين …» ولم يَدُرْ بخلدهم مرة واحدة أن يتشكَّكوا في حقِّ الأجنبي في بَسْط
حكمه عليهم، وكانوا عُزَّلًا من السلاح كلية، وكان خضوعهم واستسلامهم تامًّا لا يطلبون
أكثر
من أن يُسمَح لهم بصبِّ مياه النيل بسلام فوق أراضيهم الخصبة.
٢٩
ولكن الباشا لم تُسوِّل له نفسه أن تظل هذه الحال أمدًا طويلًا؛ لأن ثقته بالأتراك
كانت
إلى حد ما، وقد كان يحس أنهم يعطفون على الآستانة، وأن نفوسهم تتوق إلى وسائل الحكم القديمة
القائمة على الفساد والرشوة، وهي الوسائل التي كان الباشا قد عقد نيته على استئصال
شأفتها.
لذلك عَمِلَ كلما مكَّنته الفرصة على أن يستبدل بأولئك الموظفين الأتراك غيرهم من
المصريين، وكان دورفيني القنصل الفرنسي أول من اقترح عليه هذه الفكرة التي تُعتبَر وقتئذ
جريئة.
وكان الباشا قد أرسل إلى المدارس الفرنسية في سنة ١٨٢٦م ما لا يَقِل عن ٤٥ شابًّا
من
أبناء مشايخ القرى وغيرهم للتعليم على نفقة الحكومة المصرية على أمل أن يصبحوا صالحين
فيما
بعد للوظائف العمومية.
٣٠
وتصادف أن الباشا في أثناء زيارته لأقاليم الدلتا في سنة ١٨٣٣م أن عرج وبصحبته «الفلقة»
على صغار الموظفين الأتراك الذين يعملون في تحصيل الضرائب، فراعَهُ عدم حدبهم على الأهالي
الفلاحين وتشدُّدُهم معهم في أخذ الأموال لشئونهم الخاصة، وهنا أعلن الباشا أن مشايخ
القرى
الفلاحين ينبغي من الآن فصاعدًا أن يرفعوا شكاياتهم إليه رأسًا،
٣١ وكانت إحدى نتائج هذا القرار اجتماع رهط من المشايخ في الإسكندرية بعد ذلك
ببضعة أشهر، ويُؤخَذ من بيانات سكرتير الباشا للقناصل العموميين أن الباشا أراد انتهاز
هذه
الفرصة ليلفت أنظار المشايخ إلى ضرورة القيام بواجباتهم على الوجه الأكمل.
وقد ذكر كامبل في تقرير له نصَّ محادثة ودية دارت مع المشايخ المذكورين، وقد أقسموا
ليبذلن كل جهد في سبيل تنفيذ أوامر الباشا حرفيًّا،
٣٢ على أن ما نُشِر من البيانات لا يدل على شيء.
ويظهر أن محمد علي قد أدرك أنه لا يستطيع الاسترسال طويلًا في سياسة استبدال الموظفين
المصريين بالموظفين الأتراك؛ ذلك لأن الموظفين الأتراك كما لاحظ أحد الأجانب متمرنون
أكثر
من الموظفين المصريين على السرقة بلباقة، يُضاف إلى ذلك أن الدساسين ومحبِّي الصيد في
الماء
العكر، وهم الذين يكثر عددهم عادة في ظل الحكم الفردي مهما كان ذلك الحكم نافعًا وصالحًا،
كانوا يعملون على استغلال ميول الباشا الصالحة في قضاء لباناتهم، فإن مشايخ القرى — كما
علم
الباشا بعد ذلك — كانوا يُحرِّضون إخوانهم على التلكؤ في تحصيل الضرائب أملًا في أن يقع
اللوم على عاتق الموظفين الأتراك، فيطردهم محمد علي ويُعيِّن مكانهم المشايخ، فصمم الباشا
على وضع حدٍّ لهذه الحالة فورًا، وكان من رأيه عدم إضاعة الوقت في القيام بتحقيقات مملة
وغير منتجة لن تؤدي إلا إلى جملة أكاذيب؛ ولذا قرَّر معاقبة كل شيخ متهم بمثل ذلك المسلك
الخطير بدون إضاعة الوقت سدى،
٣٣ ويستبعد على ما يظهر أن تكون هذه المسألة قد تُنوسِيَتْ في أثناء اجتماع
المشايخ في الإسكندرية، وهو الاجتماع الذي أسلفتُ الإشارة إليه، ولو أن البيان الذي أعطاه
سكرتير الباشا إلى الكولونيل كامبل لم يذكر شيئًا من هذا، فلم يكن ثمة مفر من أن تنتظر
سياسة التوسع في توظيف المصريين لتطورات مشروعات الباشا التعليمية.
أما الأعمال في مركز الحكومة في حاضر القطر؛ فكانت موزعة بين سبع مصالح: الحربية
والأسطول، والزراعة، والمالية، والتجارة، و«العلاقات الخارجية»، والتعليم، والبوليس.
ومع أن
الوزراء الذين كانوا يَشْغلون هذه المناصب كانوا يُعتبَرون من طبقة أرفع من طبقة مديري
الأقاليم، لم تكن لهم أي سلطة على هؤلاء المديرين؛ لأن الباشا كان يحرص على أن تكون بيده
كافة أعنَّة الحكم، كما أنه لم يسمح لهذه المصالح المركزية أن تجري في مجراها الطبيعي
وتتسع
دائرة أعمالها؛ حتى تصبح وزارات كبيرة تكون أول ما تضعه نصب عينيها أن تُبرِّر وجودها
بتعقيد الإجراءات العامة. وقد ألغى ٢٠٠ وظيفة من وظائف الخزانة العامة، وكأنه لم يكتفِ
بها
بل راح يذكر المراقب بأنه في وسع كبار التجار الإسكندريين بأربعة من الكتبة فقط أن يراقبوا
حركتهم التجارية التي لا يقل إيرادها عن ثلث إيراد الخزانة، وهل تناسى جنون الباشصراف
في
ملء الوظائف العمومية بالأقباط؟! … فإن لم يستطع المراقب إدارة شئون الخزانة بطريقة أحسن
من
ذلك فلسوف تُسنَد مهمة مراقبة الخزانة لشخص آخر.
ولعل أهم ناحية في حكم محمد علي هي — بلا جدال — حرصه على تنمية وتوسيع دائرة بحث
المسائل
العامة في عمل ما، فلقد أنشأ في سنة ١٨١٩م مجلسًا أو ديوانًا قوامه سبعة أشخاص لإدارة
وبحث
ما يعقد من الصفقات بين الخزينة وبين التُّجَّار الأوروبيين،
٣٤ وطبق نظام التمحيص الرسمي هذا على كافة المصالح التابعة للحكومة المركزية،
وأصبح من المحتم أن تُقتَل كل مسألة بحثًا قبل عرضها على الباشا. ثم حدث التوسع في تطبيق
هذا المبدأ في سنة ١٨٢٩م؛ فلقد اختير إبراهيم باشا رئيسًا لاجتماع خاص مُركَّب من ٤٠٠
شخص
منهم كبار الموظفين المدنيين والضباط العسكريين والمديرون وبعض مشايخ البلاد، وتناول
بحثهم
خير الوسائل لإصلاح الفساد ولتحسين حالة الفلاحين. واستمرَّ هذا المجلس يعقد جلساته في
كل
مساء وأقسم أعضاؤه أن يتكتموا كل ما يدور فيه من المباحثات. وفي سنة ١٨٣٢م جرَّبَ الباشا
مشروعًا من هذا القبيل في سوريا، فقد أُنشِئ مجلس من الأعيان،
٣٥ وعددهم ٢٢ للنظر في شئون الرعية،
٣٦ وفي سنة ١٨٣٤م طالب فضيلة شيخ الجامع الأزهر ورئيس نقابة التُّجَّار بترشيح عدد
لائق من العلماء والتُّجار للاشتراك في أعمال المجلس الأعلى، وكلف المديرين في الوقت
نفسه
بأن يشكلوا في كل مديرية جمعية من الزراع ومشايخ البلاد وغيرهم لانتخاب شيخين من مشايخ
القرى لتمثيل مزارعي المديرية المذكورة في المجلس الأعلى. أما السائحون وكانت معلوماتهم
عنوان الرأي العام الأوروبي فقد أساءوا فَهْمَ هذه الأمور وأساءوا تصويرها لمواطنيهم؛
فقد
كان هناك من ناحية الشاب دزرائيلي الذي صوَّر الباشا للناس كأنه يقول إنه يود أن تكون
له
برلمانات عديدة كما كان للغليوم الرابع مع حرصه على أن ينتخب هذه البرلمانات بنفسه، وكان
يوجد من الناحية الأخرى بعض فلاسفة الراديكاليين ومن إليهم من أنصار سانت سيمونز، وكانوا
يُمثِّلون الباشا كأنه شخص اعتنق المبادئ الديمقراطية الغربية؛ فكان الفريق الأول لا
يرى
فيما يقوم به الباشا من التجارب إلا أنها مجرد حِيَل يُراد بها التغرير بالرأي العام
الأوروبي، وأما الفريق الثاني فكان يرى أن المقصود بها إنشاء حكومة نيابية.
٣٧
وليس من شك في أن أعمال محمد علي لم تكن هذا ولا ذاك؛ فإن الأعمال العامة البادية
العادية
في الشرق يبت فيها رهط من الموظفين يُقال لهم الديوان أو الديربار، وعلى رأسهم الباشا
نفسه
أو من عداه من كبار الموظفين، وأمام هذا الرهط المجتمع بصفة علنية يجتمع أرباب الشكاوى
والمتفرجون. وقد ذكر بارتل فرير بهذه المناسبة أن معرفة ميول الرأي العام في أي قطر من
الأقطار الغربية مهما كان لها من الأهمية، فإن أهميتها تزداد كثيرًا في الأقطار الشرقية؛
وذلك لأن الحكم الشرقي يحرص كل الحرص على معرفة ما يُردِّده الناس في الأسواق وفي مناحي
القوافل. نعم؛ إنه يستطيع الاعتماد على تقارير جواسيسه — والجاسوسية في الحكومات الآسيوية
مِنْ أثبَتِ العوامل والأدوات الحكومية — ولكن إلى جانب الجاسوسية كان يمكن الوقوف على
جانب
آخر من آراء الناس بالاجتماعات التي كان يعقدها محمد علي من آنٍ إلى آخر. ولقد كان الباشا
أحصف من أن يُفكِّر في نقل التقاليد الغربية بلا تمحيص أو يُقلِّدها تقليدًا أعمى، ولكنه
كان في الوقت نفسه من الحصافة بحيث يرى أن لا ضرر من نقل الصالح من التقاليد المذكورة
وتحريرها حتى تتلاءم مع العادات المرعية في البلاد بحيث تَعُود بالخير والفلاح على حكومته.
ولعله كان مدفوعًا بعامل آخر؛ فإن رجلًا له من القوة وتقدير أهمية التعليم كما كان لمحمد
علي لا يمكن أن يُقال إنه كان يجهل أن الجمعيات التمرينية التي كان يعقدها لم تكن مجرد
وسيلة من وسائل الحكم فقط، بل كان كذلك إحدى وسائل التعليم السياسي. ولو كانت مصر ورثت
من
ورث مواهب محمد علي العظيمة كما ورث ممتلكاته لقدَّمَتْ أمم الغرب من ضروب الإصلاح السياسي
ما يَقِلُّ في أهميته عمَّا قدمته اليابان، ولكن عمر فرد واحد وانقضى معظمه في تأسيس
ملك
سياسي لا يمكن بمفرده أن يفعل أكثر من وضع الحجر الأساسي العام لمعاهد الإصلاح والترقِّي
تاركًا لمن يخلفه تكملة البناء.
وقد كان النجاح المضطرد حليف إدارته المالية، ومن ثم خيَّب ظنون الذين كانوا يرقبون
أعماله ويتوقَّعون خرابه المالي قائلين إن حروبه المتعددة يُضاف إليها مشروعاته الداخلية
سوف تؤدِّي إلى إفلاسه وإفلاس خزينة البلاد العامة؛ ففي سنة ١٨٢٧م مثلًا بينما كان عاتقه
مثقلًا بنفقات الحرب في المورة وكانت موارده المالية متعبة بسبب هبوط منسوب فيضان النيل
عامين متتاليين، وكان محمد علي برغم ذلك منهمكًا في تأسيس المصانع وإنشاء رصيف للبحر
وترسانة في الإسكندرية،
٣٨ ولم يمضِ على ذلك سوى سنوات أربع فقط حتى كان يضع أساس مشروعات تزيد في نفقاتها
وضخامتها نحو عشرة أضعاف عن نفقات المشروعات السابقة،
٣٩ وقد نجح في الابتعاد عن إشراك الدائنين الأوروبيين،
٤٠ وقد خُيِّل لبعض الناس في سنة ١٨٣٧م أن هبوط أسعار القطن — وكان محمد علي
يحتكره — سوف يؤثِّر أشد تأثير في ميزانيته، ومع ذلك فقد تمكَّن الباشا من دفع ما لجنوده
من
المرتبات المتأخرة،
٤١ وفي الواقع كانت إدارته المالية مقرونة بالنجاح، حتى إن باركر نفسه كان يعتقد
أن الباشا قد عثر على مصباح علاء الدين المذكور في الأقاصيص.
ولم يكن هناك أثر للسحر فيما كان يعمله محمد علي الذي جعل رائده الحكمة واليقظة،
ولقد
كانت الحسابات العمومية عندما تسلم محمد علي أعنَّة الحكم بأيدي الكتبة الأقباط الذين
جعلوا
منها أنموذجًا للتعقيد، وكانت غايتهم من ذلك التعقيد مزدوجة؛ ذلك بأن يجعلوا خدماتهم
ما لا
يمكن الاستغناء عنها، وثانيًا لأن التعقيد يستر أغلاطهم بحيث يتعذَّر العثور عليها. ولم
تكن
الحسابات العمومية مُركَّزة في مصلحة معينة، بل كانت الضرائب المختلفة تُوزَّع بين المصالح
المتشعبة طبقًا للطريقة التركية المتبعة
٤٢ فلم تكن ثمة ميزانية، ولا أمل في وضع ميزانية، ولقد أظهر الباشا — والحق يُقال
— ميلًا لِأَنْ يدرس وينقل عن الغربيين في هذه المسألة كغيرها من المسائل فكلَّفَ باغوص
بلك
الأرمني وأشد الموظفين إخلاصًا بأن يحصل على مشروع لضبط الحسابات كالمعمول بها في المصالح
العمومية في أوروبا.
٤٣
وأُسْنِدَتْ إلى المسيو جرمار الفرنسي مهمة وضع نظام جديد، ولكن ذلك لم يُبطِل العادة
السيئة التي كانت متبعة، وهي تخصيص إيراد مناطق معينة لوزراء معينين لسدِّ نفقاتهم بدلًا
من
إرسال الإيراد جميعه إلى خزانة مشتركة، ولا ريب في أن سير الأمور في الأحوال الحاضرة
يؤدِّي
إلى الفساد وسوء استعمال السلطة؛ لأن لكل وزير خزانته الخاصة؛ أي إن هناك سبعة أبواب
مفتوحة
(وهي أبواب الوزارات السبع) للغش والتدليس، مع أن فتح باب واحد للفساد في بلاد كهذه هو
أكثر
من اللازم.
٤٤
وعندما زار بورنج القطر المصري في سنة ١٨٣٨م استطلع الباشا رأيه في مسألة الحسابات
وجيء
إليه بمختلف الحسابات العامة لإلقاء نظرة عليها، فأشار بعدة توصيات لإصلاح الحسابات.
وكان
في طليعة هذه التوصيات وضع ميزانية في ابتداء كل سنة لبيان الإيرادات والمصروفات، ثم
إرسال
كافة الإيرادات إلى الخزانة الرئيسية، ثم الفصل بين السلطة التي تستلم الإيرادات عن السلطة
التي تتصرف في الأموال العامة وتخويل وزير المالية السلطة الكافية لإقرار ما يُقترَح
عليه
من المصروفات أو رفضها، وأخيرًا وضع قاعدة لدفع الحسابات العامة فورًا وموازنتها وفحصها.
٤٥
وليس فيما بين أيدينا من الأدلة المقتضبة ما يكفي لإعطائنا صورة صحيحة أو صورة كاملة
عن
تاريخ الباشا من الناحية المالية، ولكن يلوح أنه استطاع في كل حين أن يخفض مصروفاته عن
إيراداته. خُذْ مثلًا على ذلك سنة ١٨٢٠م المتداخلة في سنة ١٨٢١م، (والمعلوم أن السنة
القبطية المستعملة في الحسابات المصرية تنتهي عادة في ٢٨ سبتمبر)؛
٤٦ فقد بلغت الإيرادات في تلك السنة ٢٤٠ ألف كيس، وبلغت المصروفات ١٩٠ ألف كيس،
وفي سنة ١٨٣٢م المتداخلة في سنة ١٨٣٣م زادت الإيرادات قليلًا عن ٥٠٠ ألف كيس، على حين
أن
المصروفات لم تبلغ ٤١٥ ألف كيس، أما في سنة ١٨٤٦–١٨٤٧م؛ فقد كانت الإيرادات أكثر من ٦٠٠
ألف
كيس والمصروفات أقل من ٤٦٠ ألف كيس، وليس من شك في أن الباشا كانت تصادفه سنون تكثر فيها
المصروفات، وإذ ذاك يلجأ إلى الرصيد المتراكم فيغترف منه، ولكن كانت الوفورات أكثر غالبًا
من العجز.
وقد كانت إيرادات الأطيان أو الميري كما يسمونها أهم باب من أبواب الإيراد، ولكنها
قلَّما
وصلت إلى ٥٠٪ من مجموع الإيرادات، بينما كانت نفقات الجيش والأسطول هي أكبر باب من أبواب
المصروفات؛ فلقد كانت تبلغ نحو ٥٠٪ من مجموع الإيرادات.
وكانت ملكية الأطيان في مصر في بداية القرن التاسع عشر هي نفس الحالة المضطربة التي
كانت
سائدة في الهند عندما بدأت شركة الهند الشرقية في إدارة أراضيها في الهند؛ فلقد كانت
مصر في
نظر المذاهب الإسلامية الأربعة بمثابة بلاد فُتِحَتْ بحدِّ السيف وخاضعة لسلطة الخليفة.
وتوكيدًا لهذا كان كل إمام مسجد في أي ناحية من نواحي القطر المصري يرتقي المنبر في يوم
الجمعة حاملًا سيفًا خشبيًّا أو سيفًا حقيقيًّا، وهو بذلك يُمثِّل خليفة المسلمين.
ولكن الحاكم كان يتخلَّى عن أراضي الحكومة «الجفالك» كما كان يحدث في كافة أنحاء العالم
وقتئذ بما يتنازل عنه من الهبات التي يمكن استردادها عند الطلب أو يُقال أحيانًا إنها
غير
قابلة للاسترداد، على أن الخلاف لم يكن كثيرًا على الشكل ولكن رجال القانون الإسلامي
تمسكوا
بهذا المبدأ البسيط؛ وهو أن الهبة مهما كانت ملزمة يمكن استردادها متى اقتضَتْ ذلك مصلحة
الدولة، وهي مسألة لا يمكن لأحد غير الحاكم أن يبت فيها.
ولقد كان من جرَّاء ما نشأ من تلك الفوضى في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر،
أن
وجدت طائفة من الملاك وفي طليعتهم زعماء المماليك والمزارعين الذين يؤدون الضرائب، وكانوا
وقتئذ يسمونهم الملتزمين، وبديهي أن الحكومة لم تحصل على إيرادات مطلقًا عما كان بأيدي
الفريق الأول من الأراضي، في حين أن ما كان بأيدي الفريق الثاني اشتمل على مناطق أخذت
تزداد
اتساعًا مع مضي الزمن دون أن تُدفَع عنها ضرائب، وكانت تُسمَّى أراضي الوسية، وكان من
باكورة أعمال الباشا — كما سلفت الإشارة إلى ذلك — أن استولى على أملاك أعيان المماليك،
وقام بالتحري عن الشروط التي تمَّتْ بها ملكية الأراضي الأخرى. وقد تمكَّن محمد علي فيما
بين سنتَيْ ١٨٠٤م–١٨١٤م من الاستيلاء على كافة الأراضي، وكافأ الملتزمين بمعاشات عوضًا
عما
كان لديهم من الأراضي،
٤٧ ولا يلوح أن الباشا تجاوَزَ في هذه الإجراءات الحدود الاسمية لحقوقه القانونية،
ولو أنه لا ينبغي أن يبرح الأذهان «الحقوق القانونية» هنا كانت تعني شيئًا آخر عدا ما
تَعْنِيه في أوروبا. وليس من شك في أنَّ تصرُّف محمد علي ذلك كان ينطوي على شيء من الشطط
الذي ربما كان في وسعه أن يُبرِّره نظرًا لحاجته القصوى وقتئذ إلى المال؛ إذ لا ريب أنه
لم
يسعه أن يؤسس حكومة ويقيمها على دعائم وطيدة إلا إذا استعاد تلك الأراضي التي تبلغ مساحتها
ثلاثة أرباع أراضي القطر، ولم يستولِ عليها الأفراد إلا بسبب خرق أسلافه وإهمالهم. وبديهيٌّ
أن الحاجة يمكن أن يلجأ إليها الإنسان لتسويغ كل شيء، على أن تصرُّفات محمد علي الآنفة
الذكر لم تُؤثِّر مطلقًا في الفلاحين ولا أحس بضيرها إلا عدد قليل من الملكيين، وقد كان
خليقًا بمن وجهوا إلى الباشا عبارات النقد من الإنجليز أن يعودوا إلى أنفسهم فيذكروا
أن
اللورد كوبونواليس لم يكتفِ بنزع أراضي عدد قليل من الأعيان، بل جاوزهم إلى الكثيرين
من
فلاحي إقليم البنغال. نعم؛ ليس يمكن الدفاع عن الظالم، ولكن جريمة ظلم الأقلية هي أخف
بكثير
من ظلم الأكثرية. ذلك الظلم في الحالة الأولى لا يؤدِّي إلا إلى نوع مُخفَّف من الشقاء
يسهل
تفاديه. وليس يخامرنا شك في أن لورد كورونواليس والباشا كانا يعتقدان أن سياستهما هي
لصالح
البلاد عامة.
وتلا استعادة الأراضي مسحها مسحًا دقيقًا أَوْلاه الباشا عنايته، وتشتمل سجلات المديريات
توقيعاته كدليل على اهتمامه بتلك العملية،
٤٨ ولكن عمله هنا لم يأتِ كاملًا لسوء الحظ بسبب رداءة موظفيه؛ فإن الذين تولوا
مسح الأرض كانت تنقصهم الخبرة والدربة، بينما كان رؤساؤهم تعوزهم الأمانة،
٤٩ وفي الواقع لم يكن لمحمد علي محيص من مواجهته، كما قام أمام شركة الهند الشرقية
من المصاعب في سبيل القيام بمساحة الأراضي التي تأتي بالإيراد في الأقاليم البنغالية،
ولم
يكن لها في الأقاليم الهندية الأخرى من نتيجة سوى إحداث سيل جارف من الأغلاط
الأولية.
ولنتقدم لك بمثال مما قام في وجه محمد علي من المصاعب؛ فقد اكتشف أن كبار الأعيان
وأصحاب
الأملاك الواسعة يرشون موظفي المساحة ليشهدوا على أن أراضيهم قاحلة جرداء تعوزها مياه
الري،
هذا بينما أولئك المسَّاحون يسدون العجز الناشئ عن هذا التخفيض بفرض ضرائب فادحة على
الأراضي التي يقوم بحرثها صغار الفلاحين،
٥٠ على أن عملية المساحة هذه مهما كانت مختلة في الأمور التفصيلية، وبرغم أنها
كانت في حاجة إلى مراجعة من آنٍ لآخر كلما ظهر النقص باديًا للعيان، نقول برغم هذا كله
فإنها قد كشفت عن مساحات زراعية كبرى كانت الآن غير معروفة للحكومة نتيجة لأعمال الغش
والتدليس المتعمَّد.
ومسألة أخرى كان لها أكبر نصيب من اهتمام الباشا، ألا وهي مسألة الري، فلقد أدخل
ما لا
يقل عن ٣٨ ألف ساقية أو ما يزيد عن نصف ما كان يُستعمَل من السواقي في سنة ١٨٤٤م،
٥١ وقد اهتمَّ الباشا بتطهير ترع الري القديمة وأمر بحفر ترع جديدة بجانبها، ثم
إنه حرص على إدخال مساحات كبيرة من الأراضي في الصعيد ضمن الأراضي القابلة للزراعة. ولم
يَفُتْ كامبل بهذه المناسبة أن يشير إلى حفر ترع جديدة أُريدَ بها أن تروي ما لا يقل
عن
المليون من الأفدنة،
٥٢ وقد شهد بورنج من ناحيته بأن ١٠٠ ألف من الأفدنة البور قد أصبحت فعلًا داخل
منطقة الأراضي القابلة للزراعة،
٥٣ وكان ساعد الباشا الأيمن في هذه المهمة المهندس الفرنسي المسيو لينانت الذي وضع
المشروع الخالد لتوسيع دائرة أعمال الري في الدلتا وضبطها، والمشروع المشار إليه طبعًا
مشروع قناطر الدلتا المشهورة التي اتفق الرأي على إنشائها عند تفرع رياحي النيل فيما
بعد
القاهرة.
وقد كان المأمول عند وضع تصميم هذا المشروع أن يكفل ريَّ أراضي الدلتا جميعًا حتى
في أسوأ
أوقات الفيضان، وأن يساعد على ري ما لا يقل عن ٢٠٠ ألف فدان إلى ٣٠٠ ألف فدان من الأراضي
الواقعة وراء القناطر المذكورة،
٥٤ على أن وجه الصعوبة في إنشاء القناطر الخيرية كان يرجع إلى المسألة الفنية؛ فإن
لينانت لم تكن له خبرة سابقة بمثل هذا المشروع؛ ولذا ظل البحث حول مشروع بناء القناطر،
وتقرر في النهاية تحضير تصميم لعرضه على لجنة المهندسين في فرنسا،
٥٥ وأظهر كثيرون من الناس ارتياحهم وقتذاك في إمكان تنفيذ المشروع الهائل الذي هو
من هذا القبيل يستغرق إتمامه نحو خمسة أعوام ويتطلب من النفقات ما لا يقل عن مليون ونصف
جنيه إنجليزي، على أن الحجر الأساسي للقناطر لم يُوضَع إلا في سنة ١٢٤٧ﻫ، ثم تبيَّن بعد
إتمام هذا العمل الكبير أنه لم يحقق ما كان معقودًا عليه من الآمال؛ ذلك لأن عدم أحكام
الأساس ساعد على تسرب مياه النيل، وهنا رفع المتشائمون عقائرهم، وقاموا يدللون على صواب
رأيهم، ولكن المهندسين العصريين يوزعون المسئولية بين عدم تأنِّي محمد علي وعدم خبرة
لينانت، وعلى كلٍّ فإن هذه المسألة توضِّح أحسن توضيح قوة عزيمة محمد علي وضعفها في وقت
واحد فإنها تكشف من جهة بُعْدَ نظره وفرط حبه للإصلاح والتحسين كما تكشف من الناحية الأخرى
عن تعجله ونقص ما كان لديه من الوسائل.
وبالرغم من عدم تحقيق مشروع القناطر للآمال التي كانت معقودة عليها؛ فإن الأراضي
الزراعية
التي كانت تحت حكم الباشا قد زادت مساحتها زيادة عظيمة، وشرع الباشا في توزيع الأراضي
على
الأهالي كهبة لتشجيعهم على الإكثار من الزراعة، ولقد كانت الأراضي تُعطى للأفراد من سنة
١٨٢٩م فصاعدًا على شريطة زرعها، وأسفرت هذه المنح في بداية الأمر عن إمكان استغلال ربع
الأراضي فقط بواسطة الزراع وورثتهم إلى أن حلَّ عام ١٨٤٢م فتحوَّلت الهبة من الانتفاع
بغلَّة الأراضي إلى امتلاكها نهائيًّا، وحوالي ذلك الوقت أخذ الباشا في توزيع الأراضي
التي
أصبحت بفضل مشروعات الري الجديدة الكبرى صالحة للزراعة بشكل «جفالك»، بشرط توسيع دائرة
الأعمال الزراعية فيها، وهذه الجفالك قد وزَّعها الباشا على أفراد أسرته،
٥٦ وهكذا عاد حقُّ الملكية الفردية مرة أخرى، وأخذ هذا الحق ينتشر في طول البلاد
وعرضها، وبذا أصبح الأفراد المُسجَّلة أسماؤهم في سجلات الري ملاكًا في الواقع، وأصبح
للأراضي في مصر كما في الهند سعر تُباع به، وها هو بورنج نفسه يشهد بأنه لم يسمع بأحد
نُزِعَتْ منه أراضيه في العهد الحديث إلا عقابًا له على عدم أداء الضرائب،
٥٧ وها هو ما كان ينتظر أن يحدث في الهند مثله في ظروف تشبه الظروف المشار إليها
هنا.
وكانت ضرائب الأراضي تُدفَع عينًا أو نقدًا، فالجهات التي كانت صالحة لزراعة بعض
محاصيل
معينة كالقطن أو النيلة، وهي الجهات التي احتكر الباشا حاصلاتها، نقول: كان الباشا يفرض
على
تلك الجهات أن تُقدِّم مقادير معينة من الحاصلات التي كانت تُزرَع فيها، وفيما عداها
كان
لصاحب الأرض أن يزرعها ما يشاء في مقابل ضريبة معينة تُقدَّر بالنسبة لجودة الأرض وقيمة
المحصول الذي يصلح زراعته فيها. وقد جرت العادة لغاية سنة ١٨٣٤م أن تُفرَض الضرائب بنسبة
المساحة بقطع النظر عما إذا كانت الأرض صالحة أو غير صالحة للزراعة متى كانت هناك مياه
تكفي
لري تلك الأرض ولو جزئيًا، ولكن الباشا رأى في تلك الساعة أن يسلك الطريقة العادلة بألا
يفرض الضرائب إلا على الأراضي التي يمكن ريها جميعًا.
٥٨
وأدخل الباشا حوالي ذلك الوقت إصلاحًا آخر له قيمته العظمى، وذلك بإلغاء العادة التي
كانت
متبعة في مختلف العصور، وهي الاستعاضة عن النقص في الإيرادات الناشئة عن الضرائب على
أطيان
شخص معين بزيادتها على أطيان الأشخاص الآخرين، ويظهر أن هذه العادة كانت مُتبعة في كافة
أنحاء الشرق وكانت معروفة في الهند بقدر ما كانت معروفة في مصر، وكان مُحبِّذو هذه العادة
يدافعون عنها بقولهم إنها تَحُول دون تمكين مشايخ البلاد وغيرهم من أرباب النفوذ الواسع
من
فرض نسبة غير عادلة من الضرائب على صغار الملاك.
٥٩
ويُخيَّل إلينا أن مقدار الضرائب قد زاد زيادة كبيرة، لا بل لقد رددت الألسن أن الضريبة
المالية قد زادت إلى نحو الضعفين،
٦٠ ولكن هذه المسألة بمفردها تُعتبَر مبهمة أو مضللة على التحقيق؛ لأنها تتجاهل
كثيرًا من الضرائب الإضافية وبعضها معترف به، والآخر غير معلوم مما كان يُحصِّله الموظفون
وهو ما لم يكتفِ البابا بمنعه، بل حظره حظرًا تامًّا، وكذلك لا ينبغي هنا أن يأخذ الإنسان
جديًّا ملاحظة من نفور الفلاحين الشديد من دفع ما استحق عليهم من الضرائب؛ فلقد علَّمتهم
التجارب القاسية في خلال قرون عديدة كما علمت الفلاحين الهنود من قبل أن المبادرة بدفع
الضرائب أمر غير محمود العاقبة؛ إذ كثيرًا ما كانت تلك المبادرة تَئُول إلى اعتقاد بوجود
المال بكثرة؛ ومن ثمَّ أدَّتْ إلى المطالبة بالمزيد. وليس من شك في أن عهد الحكم الضعيف
الذي سبق عهد محمد علي قد ساعد على رسوخ هذه العقيدة في النفوس، كما حدث في عهد حكومة
شركة
الهند الشرقية سواء بسواء، وها هم الكُتَّاب الفرنسيون الذين كانوا يراقبون حالة مصر
في عهد
نابليون يشهدون بما كان يتكبَّده المماليك من الصعوبات الشديدة في سبيل جمع الضرائب؛
فالفلاحون كما قال هؤلاء الكُتَّاب: «لا يدفعون ما عليهم من المال إلا في آخر لحظة، وحتى
بعد ذلك فإنهم يدفعون بالتي واللتيا ومليمًا مليمًا، بينما تراهم يُخبِّئون أموالهم ويُخفون
أمتعتهم ومنقولاتهم … فإذا ما أحسوا باقتراب الجنود منهم أطلقوا سيقانهم للريح تصحبهم
نساؤهم وأولادهم ومواشيهم تاركين وراءهم عششهم خاوية على عروشها، وأما إذا أَنِسوا من
أنفسهم قدرة على المقاومة، فإنهم لا يحجمون عن القتال بعد أن يستفزوا لمساعدتهم القرى
المجاورة، بل ورجال البدو أنفسهم.» ولهذا كنت ترى المماليك ملزمين باستبقاء الجنود في
كل
مديرية من المديريات المصرية، ولا عمل لهؤلاء الجنود إلا محاولة إرغام القرى على دفع
المال،
وهي مهمة كثيرًا ما كان الحظ يَخُونهم في أدائها، تلك كانت الحالة في عهد المماليك، ولكن
محمد علي كان أعزَّ سلطانًا وأقوى نفوذًا من هذا. ويَلُوح أن المقاومة العلنية لأداء
المال
كانت معدومة بتاتًا، ولكن المقاومة السلبية كانت ما تزال متواصلة؛ فإن الفلاح كان على
ما
يظهر يحسب أن الشرف منتهى الشرف ألا يؤدِّي حصته من المال إلا بعد أن تنهال السياط على
جوانبه، بل إن البطولة التي كانت تستحق التمجيد والاحترام في نظرهم هي التي كانت تدفع
أحدهم
إلى الاستماتة إلى النهاية في مقاومة دفع المال.
ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي يمكن المقارنة فيها بين الفلاح المصري والفلاح الهندي؛
فإن الحكومات التي أرادت العناية الإلهية أن تقوم للإشراف عليهما كانت بمقتضى العادات
القديمة تعتبر أن الفلاحين لم يُخلَقوا إلا للقيام بمهمة واحدة في حياتهم، ألا وهي حرث
الأرض فقط؛ فواجب الزارع هو الزراعة، فإذا ما قصَّر في أداء ذلك الواجب فعلى الحاكم أن
يعاقبه عقابًا صارمًا. وقد ذكر أحد الكُتَّاب أخيرًا مشيرًا إلى النظام الزراعي في الهند
الإسلامية والهندوسية، فقال: «إنه نظام عبارة عن مجموعة واجبات لا حقوق.»
٦١
ويلوح أن محمد علي وشركة الهند وترتا هذه العقيدة الأخيرة بدون أي محاولة لتغييرها،
وكان
الباشا بطبيعة الحال أشد من موظفي شركة الهند تشبثًا بهذه العقيدة. ومن ثم كنت تراه لا
يميل
بحال ما إلى رؤية الأراضي مهملة بلا حرث، وكان إذا علم مثلًا أن الأراضي الممنوحة إلى
مشايخ
القرى في مقابل خدماتهم للدولة ظلَّتْ بلا ري تعلوها الأعشاب الضارة أمر بأن يضرب هؤلاء
المشايخ بالسياط في جانب حقولهم ليكونوا عظة لغيرهم،
٦٢ وكان من رأيه أن الفلاح لا بد أن يبقى تحت المراقبة فذلك أكفل لمصلحته.
وكان الباشا معروفًا بحرصه على التدقيق في أسباب الشكاوى وسعيه لإزالتها، وهذا ما
دفع
القنصل صولت لأن يقول: «إن الفلاحين كانوا على الجملة في عهده يعاملون معاملة أحسن وهم
أسعد
حالًا مما كانوا منذ سنين طويلة …»
٦٣ وليس يخفى أن شهادة صولت لها قيمتها الخاصة؛ لأن سياحاته العديدة وكثرة تجوُّله
في مختلف أنحاء القطر باحثًا عن العادات جعلته يحتكُّ مباشرة بمختلف طبقات الفلاحين في
مصر.
وكان كثيرون ممن شهدوا حالة مصر على رأي الباشا في وجوب المراقبة، وإليك ما قرَّرَه
بيربرن في هذا الصدد؛ إذ قال: «بناء على تجربتي للأخلاق العربية كما نشاهدها اليوم لا
يسعني
إلا أن أُسلِّم بأن هناك شيئًا من الحقيقة في الفكرة القائلة بأن الفلاح المصري لو تُرِك
لنفسه ليفعل ما يشاء لقصر نفسه على الحاجيات المؤقتة التي يشتهيها، ولظلَّ أمدًا طويلًا
لا
يلتفت إلا إلى زراعة المحاصيل التي لا تقتضي زراعتها الكثير من الجهود والمال.»
٦٤
وعلى كل حال، فإن أحوال الفلاحين تدهورت كثيرًا بعد ذلك بزمن غير بعيد، ولعل ذلك لا
يرجع
سببه إلى فداحة الضرائب التي كانت تنوء بها الأراضي بقدر ما كان يرجع إلى نظام القرعة
العسكرية الذي سأتناوله بالبحث فيما بعد ذلك؛ النظام الذي أثَّرَ أيما تأثير في قوة إنتاج
القرى، في حين أن المطالبة بمال الحكومة بقيت على نسبتها الأولى دون مراعاة الأحوال
الجديدة.
ونسمع ابتداء من سنة ١٨٢٩م بسلسلة شكاوى من الفلاحين الذين هجروا قراهم، وعن صدور
الأوامر
الضارة لا ضد هؤلاء الفلاحين الذين يغادرون قراهم فحسب، بل وكذلك ضد كل من يوجد في كنفه
من
أبناء القرى الأخرى،
٦٥ وقد عزا محمد علي ترك الفلاحين لقراهم إلى سببين رئيسيين الأول سوء معاملة
الموظفين المحليين للفلاحين، والثاني الجهل. وبهذه المناسبة قال محمد علي: «ليس هناك
إلا
سيدان ألا وهما: السلطان محمود، والفلاح … إذن فلا ينبغي أن يُنظَر للفلاح بالعين السيئة.»
٦٦ وقال في مناسبة أخرى: «لا ينبغي حبس الفلاحين لإهمالهم الزراعة؛ لأن أول واجب
على الحكومة هو أن تكفل رخاء الشعب ورفاهيته.»
٦٧ ولقد خوَّلَ للفلاحين أن يرفعوا شكاياتهم إلى المديرين إن أساء إليهم صغار
الموظفين المحليين، لا بل وأن يرفعوا تلك الشكاوى إلى الباشا رأسًا إن لم ينصفهم المديرون.
٦٨
وكان يصحب هذا القلق المتزايد بين كافة طبقات الشعب تكدُّس الإيرادات المتأخرة، وقد
أصدر
الباشا إلى المديرين في سنة ١٨٣٣م إنذارًا حذرهم فيه بأنهم يكونوا مسئولين أمامه شخصيًّا
إن
لم يعملوا على أن يُسدِّد الأهالي مال الحكومة.
٦٩
وفي سنة ١٨٣٥م قام الباشا بزيارة الأقاليم بنفسه لبحث هذه المسألة بدقته المعروفة،
٧٠ وهناك رأي أن الحالة تُحتِّم عليه أن يُجري تخفيضًا كبيرًا في هذه الأموال.
٧١
وأخيرًا التجأ الباشا إلى الطريقة المريبة، وهي حمل كبار ضباطه على أن يأخذوا لحسابهم
القرى الغارقة في الدين في مقابل دفع الأموال المتأخرة بالتقسيط مع دفع الضرائب الحاضرة
في
مواعيدها في الوقت نفسه، ولما أظهر الضباط تذمرهم من هذا التصرف لم يَسَعِ الباشا إلا
أن
يصارحهم بأنهم أثروا في مدة حكمه فلن يمكنهم الآن من التخلِّي عنه.
٧٢
وعلى العموم كانت إدارة الإيرادات عرضة لما أصاب شركة الهند الشرقية في أوائل عهدها
في
الهند من ضروب النقص والخلل؛ فلقد كانت تفرض ضرائب فادحة لا يَسَع الزُّرَّاع أن يؤدُّوها
في عام واحد من الأعوام العادية يُضاف إلى هذا أن المرءوسين المكلفين بجمع الضرائب كانوا
على جانب عظيم من الإهمال وحب الرشوة، هذا فضلًا عن أن الضرائب المذكورة لم تكن متساوية
في
كافة القرى؛ مما كانت نتيجته أن بعضها كان يَقْدر على الدفع، في حين أن بعض القرى الأخرى
ناء كاهلها بها.
ومع أن نظام إيرادات الأراضي كانت له أهميته الأولى بالنسبة للبلاد عامة؛ فإن أحدًا
من
الدول الأجنبية لم يكترث له بتاتًا.
وبالعكس كان لسياسة محمد علي التجارية مساس بشئون البلاد في الداخل والخارج، وهذا
ساعد
على اهتمام الدول بأمرها أكبر اهتمام.
ولم يكن يخطر لأحد أن تكون للامتيازات التركية حرمة في مصر في عهد المماليك؛ لأن الحياة
كانت رخيصة ومعرضة للخطر، والتجارة غير منظمة ومضطربة، وبيكوات المماليك في حياة تمرد
وعصيان، والتجارة الأوروبية في مصر تافهة؛ بحيث لم تَرَ إنجلترا وفرنسا سببًا كافيًا
يدفعهما إلى محاولة التمسُّك بحقوقهما النظرية.
وقد ظلَّتْ هذه الحالة سائدةً أمدًا طويلًا حتى بعد أن استلم الباشا أعنَّة الحكم
في مصر،
ولم يُفكِّر أحد سنوات عديدة في أن يرفع عقيرته بالشكوى الرسمية من القواعد الموضوعة
لتنظيم
الشئون التجارية مهما بلغت الشكوى في الخفاء.
مع أن المتاعب الجديدة لم تبدأ إلا في خلال العقد الثالث من القرن الغابر، وقد وجه
وقتذاك
كامبل حملة من اللوم والنقد ضدَّ مَنْ سبقه من القناصل لما أظهروه من عدم الاكتراث وروح
الإهمال؛ فإن «الكثيرين منهم كان لهم ضلع في الأعمال التجارية أو مدينين لمحمد علي شخصيًّا،
وهذا ما جعلهم يخشونه في التمسُّك بما لمواطنيهم من حقوق عادلة.» أما القنصل موليه فقد
كتب
إلى ديلسبس بعد ذلك بعامين خطابًا يأسف فيه على ما أظهره الممثلون السابقون من شدة التسامح؛
ممَّا أدَّى إلى تقييد الأمور وجعل الشكوى متعذرة.
٧٣
ولقد كانت سياسة الباشا التجارية مدفوعة في منشأها وفي مراحلها الأولى بحاجته إلى
العثور
على المال، وبما في الاحتكار من مزايا ظاهرة كثيرًا ما خلبت أنظار الحكام الشرقيين بعدما
خلبت أنظار التُّجَّار في الغرب، وكثيرًا ما رفع صولت عقيرته بالشكوى في سنة ١٨٢٠م، ثم
في
سنة ١٨٢٧م من المساوئ التجارية الناشئة عن مركز محمد علي بصفته التاجر الرئيسي في البلاد
التي يحكمها؛
٧٤ فإنه لم يكتفِ بإرغام الفلاح على الزراعة، بل كثيرًا ما حدَّد نوع المحاصيل
التي ينبغي زراعتها في بعض الجهات وأمر بتسليم المحاصيل إلى شون الحكومة في مقابل سعر
معين،
وبديهي أن مساوئ ذلك النظام أظهر من أن تحتاج إلى بيان، ولكن كان للمسألة وجه آخر؛ ذلك
أن
موارد البلاد كان يجري استغلالها بشكل لا عهد لها به من قبل. وبهذه المناسبة كتب صولت
يقول:
«ولا ينبغي أن يفوتنا أن الباشا إلى حدٍّ معين قد أنشأ كافة مواد الإنتاج الطيبة التي
أصبحت
الآن أهم مواد التصدير كالقطن والنيلة والسكر، وباستعمال الحكمة في تخصيص مبالغ كثيرة
لإصلاح كثير من نواحي الصناعة، وهي تلك النواحي التي كان الفلاحون لا يجدون الوسائل الكافية
ولا الرغبة اللازمة لإصلاحها.»
٧٥
وأُدخِلت كذلك زراعة الخشخاش فيما بعد في كثير من نواحي الصعيد، كما غُرِست أشجار
التوت
وأُنشِئت المصانع لتكرير السكر وتقطير الروم.
وأُنشئت في رشيد مدبغة لسدِّ حاجة الجيش من الأحزمة والأحذية والسروج،
٧٦ وقد أُسِّسَت المصانع لحياكة الأقمشة القطنية، ولقد كان الباشا بأعماله هذه على
كل حال يُحقِّق المثل الاشتراكي الأعلى في ناحية من النواحي.
ولقد قامت معظم مظاهر النشاط هذه على أساس فكرة سقيمة مختلة؛ ولذلك سرعان ما دبَّ
دبيب
الفشل في المصانع الدقيقة فأُهملت آلاتها وتُرِكت أجزاؤها المتحركة في حاجة إلى الزيت،
هذا
بينما كانت الإدارة جاهلة مهملة، وكانت النيران هي مصدر القوة المُحرِّكة، مع أنه كان
من
الطبيعي تسخير بحري ومساقطه لهذه الغاية، وأظهر الفلاحون كراهيتهم لما لم يألفوه من نظام
ساعات العمل، ومن ثم لم يكن ندحة عن جمعهم بالقوة كما كان يُجمَع أنفار القرعة العسكرية،
وقد لاحظ بورنج «أن الباشا كان يسحب من الحقول الأيدي العاملة، حيث كانت تعمل لإخراج
الثروة
لاستخدامها في المصانع … حيث تبدو تلك الثروة بلا حساب.»
٧٧
ويُقال إن الباشا أنفق ما لا يقل عن اثني عشر مليونًا من الجنيهات على هذه المصانع
وعلى
الآلات التي جُهِّزت بها، وقد ذهبت كل هذه الأموال سدى. ومع أن هذه الجهود قد بُذِلَتْ
في
غير طائل فإنها تستحق الذكر المقرون بالاحترام؛ لأنها دليل على تحوُّل في فهم الباشا
لواجباته، فلقد بدأ حكمه بالسعي لإيجاد المال ولم يلبث أن اختتمه بالسعي — مهما كان خاطئًا
— بتحسين البلاد وتمدينها.
ولعلَّه كان مَسوقًا في هذا العمل بمغالاته في تقليد الغرب، ولكنه ما لبث أن أصبح
أنبل
وأشرف خلقًا من هذا المُخاطِر الشَّرِه الذي لا غاية له إلا تعزيز مركزه وجمع المال
والثروة، بل إن ما فرضه محمد علي على نفسه من ضروب الاحتكار لم يَخْلُ من جانبه الطيِّب،
فإذا قيل إنه ضايَقَ الفلاحين فلا جدال في أن مضايقته لهم كانت أهون بكثير مما كانت مضايقة
التجار الأجانب التي تكون لهم فيما لو ترك لهم محمد علي الحبل على الغارب ولكان عبء القروض
التجارية أفدح بكثير من المبالغ المتأخرة في جدول إيرادات الباشا، وهذه حقيقة كان محمد
علي
يؤمن بها.
٧٨
وبديهي أنَّ اتِّباع تلك السياسة كان يُثير غضب الحكومة البريطانية ويستفزها؛ لأن
مصر
بصفتها جزءًا من الإمبراطورية العثمانية كان يتعيَّن أن تكون خاضعة لنظام الامتيازات
التركية وهي — كما يفهمها التجار الإنجليز — تتضمن الحق في إطلاق حرية التجارة.
فلقد نصَّت المادة الثالثة والخمسون على أن للتجار مطلق الحرية في أن يبيعوا أو يبتاعوا
أو يُصدِّروا مختلف السلع التجارية دون أن يكون لأحد ما الحق في منعهم أو التعدِّي عليهم،
ولكن يوجد أولًا ما يُقيِّد هذا الحق الظاهر في إطلاق حرية التجارة؛ فإن هناك عبارة غامضة
غموضًا يبعث على الريب، وهي تقضي باستثناء «السلع الممنوعة» من الأحكام السابقة. وقد
لاحظ
صولت بحق أن هذه العبارة تترك تقريبًا كل شيء خاضعًا لثروات حكام الأقاليم ومديري البوليس؛
فقد يستغلون تلك العبارة فيضيفون إلى قائمة السلع الممنوعة أي سلعة أخرى يختارونها. وهو
رأي
وضعه ستراتفورد كاننج في تزييل لاحق بأنه رأي حكيم وقائم على أساس ثابت.
٧٩
ومن هنا بدأت المفاوضات التي قام بها بالمرستون بواسطة بونسيني لمراجعة قواعد التجارة
الإنجليزية في داخل بلاد الإمبراطورية العثمانية، وهي المفاوضات التي أدَّتْ إلى الاتفاقية
التجارية التي أُمضِيَتْ في سنة ١٨٣٨م، وقد نصَّتْ هذه الاتفاقيةُ بصراحة على إلغاء نظام
الاحتكار، وهو ما أصرَّ بالمرستون على تطبيقه في مصر مُدافِعًا عن رأيه بقوله: «ولعله
يتبيَّن لكل إنسان له إلمام بالمبادئ التي تقوم عليها أسس رخاء الأمم ويسرها … أن النظام
الذي يتبعه الباشا الخاص بالاحتكار … سوف يؤدي حتمًا إلى جعل مصر وسوريا في حالة فقر
مدقع.»
٨٠
وما كاد يتم توقيع الاتفاقية حتى طلب بونسيني إلى القناصل في سوريا أن يوافوه بقائمة
ما
احتكرته حكومة الباشا من الامتيازات، فأبلغه قنصلا حلب ودمشق بأنه لا توجد لتلك الامتيازات
قائمة، أما قنصل بيروت فقد بعث بقائمة طويلة دلَّتْ عند الفحص على أن الرجل يخلط بين
الامتيازات وبين إيراد الضرائب.
٨١
أما في مصر، فقد كانت الحالة أوضح مما كانت في سوريا. نعم كان الباشا محتكرًا لبعض
الامتيازات، ولكن الأمر لم يُنظَر فيه جديًّا إلا بعد تسوية أزمة سنة ١٩٤٠م؛ وذلك للسبب
الرئيسي الخاص بتأخير إبلاغ الفرمانات اللازمة الواردة من الآستانة. وقد ظهر وقتئذ مبلغ
الصعوبة في مصر مدى هذه الامتيازات؛ لأن المقادير الهائلة من محصول القطن أو السكر أو
غير
ذلك من النتاج الذي كان تحت إشراف الباشا كانت هذه المقادير تُسلَّم إليه؛ إما لأنه صاحب
جفلك أو كأنها جزء من إيراد أطيان الدولة.
وقد ظل بالمرستون يبعث برسائل
٨٢ غاضبة تنطوي على التهديد والوعيد، ولكن آراء رجال التجارة في كل من الإسكندرية
والقاهرة كانت قلقة ومتذمرة من جرَّاء سياسته السالفة التي ربما لم تكن تعلم تمامًا ما
هي
«المبادئ التي تنظم ثروة الأمم»؛ ولذا فإن التجار المذكورين لا يسعهم مساعدة القنصل برفع
الشكاوى إليه.
٨٣
وكان يوجد إلى جانب ذلك سبب آخر جعلهم ينظرون إلى الاتفاق التجاري بعين السخط ويتقززون
من
تطبيقه على مصر؛ لأن الاتفاق من حيث علاقته بمصر قد أُعِدَّ لا لنفع التجارة الإنجليزية،
بل
لنقص إيرادات الباشا بتجريده من امتيازاته العديدة. ومهما كان الاتفاق مفيدًا ونافعًا
في
الآستانة، أو في أزمير، أو في ما عدا ذلك من المواني الخاضعة لحكم السلطان؛ فإنه كان
على
العكس من ذلك في مصر لأن المصدِّر الإنجليزي كان مطالبًا بمقتضى الاتفاق المذكور بأن
يدفع
١٢٪ بدلًا من ٣٪، كما أن المحاصيل في سوريا إذا صدَّرها التجار الإنجليز جميعًا فإنها
تأتي
بثمرة قدرها ٢٪ بدلًا من ١٢٪، أما التجار الأجانب فإنهم طبعًا يظلون يدفعون على حساب
الأسعار القديمة؛ ولهذا كان يوجد مبرر قوي لسخط التجار على سياسة بالمرستون.
٨٤
وليت البلوى وقفت عند هذا الحد؛ فإن الاتفاق عيَّنَ الأسعار وحدَّدَها ولم يتركها
تتراوح
على حسب تقلُّبات السوق؛ ولهذا تبيَّنَ عندما بدأ العمل بهذه الأسعار في سنة ١٨٤١م أنها
٢٢٪
على حسب قيمة القطن وبين ٢٠–٢٥٪ على حسب سعر الصوف وأكثر بكثير من ٢٪ على حسب سعر الحبوب،
أما الضريبة على الواردات التي أُريدَ بها ألا تزيد عن ٥ في المائة فقد بلغت فعلًا ٩
في
المائة، وكانت نتيجة ذلك كله أن الباشا وافق في النهاية أن يفرض ضريبة قدرها ١٢ في المائة
على حسب سعر الصادرات و٥ في المائة على حسب سعر الواردات تُدفَع بالعملة المصرية،
٨٥ أما فيما يختص بما احتكره من الامتيازات، فقد وجد الباشا بأن يبيع حاصلاته في
المستقبل بالمزاد العام.
٨٦
ويتعذَّر على المرء ألا يعرض لهذه الأخطاء وما صحبها من المفاوضات الدالَّة على الغباء
دون أن يحس بحرج للعزة القومية.
ولقد كان في طليعة الأمور التي دعَّمت مركز الباشا أن تتجمَّع كافة القوى القادرة
على
مناهضة قوات مولاه السلطان ومقاومتها؛ فسعيه إذن لإنشاء جيش كبير كما تسمح بذلك موارده
كان
أمرًا طبيعيًّا ومعقولًا، أما كونه يسعى لإنشاء أسطول؛ فدليل على نشاط عقله وعلى الهدف
الذي
يرمي إلى تحقيقه؛ فلقد كان إنشاء ذلك الأسطول عاملًا رئيسيًّا في مشاريع محمد علي فيما
لو
اتجهت آماله يومًا ما إلى السيطرة على شئون الإمبراطورية العثمانية، ولكن كان لا بد لإنشاء
ذلك الأسطول من الابتداء بأول حجر في الأساس، وذلك في بلاد بلا تقاليد بحرية بتاتًا وتحت
إشراف حاكم لا يدري شيئًا من المسائل الفنية الخاصة بالأساطيل. على أن الباشا قد بدأ
إنشاء
الأسطول بالتوصية في الخارج على بناء السفن، كما فعل في بمباي وليجهورن ومرسيليا، ثم
ما لبث
أن طلب إلى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في سنة ١٨٢١م أن تبنيا له عددًا من
الفرقاطات.
ثم لم يمضِ على ذلك زمن طويل حتى أنشأ حوضًا كبيرًا في الإسكندرية، ومن ثم بدأ يبني
السفن
لحسابه مستعينًا بخدمات بنائي السفن الفرنسيين للإشراف على سير العمل، وفي سنة ١٨٢٨م
بدأ
الباشا بإنشاء ترسانة بحرية لتزويد القوات البحرية بما تحتاجه من المهمات والعتاد. ولم
يلبث
أن شرع في إنشاء أسطول يحل محل الأسطول الذي دُمِّر في موقعة نافارين، وكان على يقين
بأن
سفنه سوف تكون أحدث عهدًا وأحكم رعاية؛ مما عسى أن ينشئه السلطان من السفن، وبدلًا من
أن
يكتفي بالفرقاطات وجَّهَ عنايته إلى إنشاء بوارج كبيرة تحمل كلٌّ منها مائةَ مدفع أو
أكثر.
٨٧
وفي سنة ١٨٢٩م جاء الباشا بالقومندان البحري «سيريسي» من الأحواض الملكية في طولون
وعهد
إليه الإشراف على أحواض الإسكندرية.
وفي سنة ١٨٣١م أُنزِلت أول بارجة إلى البحر تحمل مائة مدفع وقد سُمِّيَتْ باسمه،
٨٨ وفي سنة ١٨٣٣م كان لدى الباشا ست بوارج يتراوح ما تحمله من المدافع بين ٨٤ و١١٠
مدفع هذا إلى جانب سبع فرقاطات.
ولم يحل عام ١٨٣٧م حتى بلغ ما لديه من النوع الأول ثمانية يُضاف إليها بارجة تاسعة
كان
العمل ما يزال جاريًا فيها،
٨٩ أما الترسانة فقد بلغ عدد العمال فيها ٣٠٠٠ تحت إشراف ٦٠ موظفًا أجنبيًّا، ولحق
بهذه الترسانة المدرسة البحرية الكائنة برأس التين، وقد بلغ مجموع تلاميذها ١٢٠٠
طالب.
وواصل الباشا هذه التحسينات تحت إشرافه الشخصي يدفعه الحماس الشديد الذي حمله أن يَسُوق
رعاياه إلى معاونته في العمل بالرغم منهم، وكان يلذُّ له أحيانًا أن يتجوَّل على ظهر
إحدى
سفنه في المياه المحيطة بالإسكندرية.
وقد مَرَّ بك ما قلناه عن محاولته مطاردة الأسطول اليوناني بإحدى البوارج المصرية،
وقد
وَضَعَ الباشا قانونًا للأسطول مستمدًّا من القواعد المعمول بها في الأسطولين البريطاني
والفرنسي، وراعى في هذا القانون التمشي مع القانون التركي،
٩٠ ولكن الباشا بينما كان في وسعه بمحض همته ونشاطه أن يجد حاجته من السفن الجيدة
الصنع؛ فإنه لم يستطع الحصول على الملاحين في بلاد لم يكن لها أسطول تجاري من قبل. وبهذه
المناسبة كتب قنصلنا الجنرال في سنة ١٨٣٢م، فقال: «إن هناك حركة متسعة النطاق ليس للحصول
على رجال تعوَّدوا عبور البحار، بل للحصول على الأفراد بدون تمييز أو تثبُّت من صلاحيتهم
للعمل الذي يُناط بهم. وقد جمعت الحكومة في الإسكندرية في خلال ثمانٍ وأربعين ساعة ما
لا
يقل عن ١٠٠٠ شخص لتكملة العدد المطلوب.»
٩١ وقد كان في الإمكان عمل شيء نافع حتى لطائفة من الملاحين من هذا القبيل لو
أُضِيفَ إليه عدد معين من الملاحين الحقيقيين تحت إرشاد ضباط بحريين ماهرين ومدربين،
ولكن
هؤلاء الملاحين الخام الذين جمعهم الباشا، كما لاحظ قنصلنا الجنرال العام السالف الذكر
«لم
يكن يوجد بينهم لا ضباط مدربون وطنيون ولا حتى البحارة العاديون.»
٩٢
وقد علَّلَ الباشا نفسه في سنة١٨٣١م بأن يسد هذا النقص باستخدام الضباط والملاحين
الإنجليز، وعهد إلى الكولونيل لايث ابن حاكم بنيانج على ما أظن أن يختارهم له. وكان محمد
علي في حاجة إلى اثنين من درجة قنطان واثنين من درجة كوموندور وإلى عدد من الضباط ونحو
٤٠
أو ٥٠ صف ضابط عدا من يلحق بهم من الملاحين القادرين،
٩٣ ولكن المسألة ظلت معلقة ردحًا من الزمن؛ لأن الحكومة البريطانية لم توافق إلا
في سنة ١٨٣٤م فقط على السماح للضباط البحريين المتقاعدين في الاستيداع بالخدمة في أسطول
مصر،
٩٤ وكان الباشا وقتذاك قد تمكَّن من استخدام بعض الضباط الفرنسيين، وكان الفيس
أميرال هوبيسون بك يعاونه بوظيفة رير أميرال حسن بك، وهو ضابط تركي تلقَّى علومه في جامعات
أوروبا.
ولكيما يُظهر الباشا مبلغ اهتمامه بالأسطول الذي وضعه تحت رعايته الشخصية قرَّرَ
أن ينشأ
أحد أنجاله، وهو سعيد بك، نشأة بحرية. وتنفيذًا لهذا القرار التحق الأمير الشاب، وهو
في سن
الثالثة عشرة بإحدى السفن بدرجة صف ضابط اسميًّا فقط ووقع الاختيار على ضابط فرنسي خبير
لتدريبه على الشئون الفنية، وبعد مرور خمس سنوات تولَّى الأمير قيادة إحدى الحراقات،
ولكن
الأمير كان مصدر متاعب لأبيه؛ نظرًا لما بدا عليه من علامات الكسل والإفراط في السمن
قبل
الأوان، وكان الأمير يُوزَن من حين إلى آخر، وكلما بدا عليه ميل إلى زيادة السمن أرسل
إليه
والده خطابًا يُشدِّد عليه فيه بالتمييز بين «الغث والسمين»، وبتنمية صفات الرجولة وبتخليص
جسمه من آثار الترهل البغيض في عيون الناس جميعًا.
٩٥
أما أسطول الباشا، فكان شأنه كشأن مصانعه سواء بسواء، أي إنه كان ينقصه الأساس المتين،
بمعنى أنه لم يكن في الاستطاعة الاحتفاظ به في حالة الاستعداد إلا إذا سهر مُنشئه على
مراقبته ورعايته بنفسه؛ لأن الأسطول لم يَرْقَ في أعين طبقة من طبقات الشعب، ولم يكن
له
ماضٍ طبيعي أو تقاليد مرعية قديمة، بل كان أبغض إلى الشعب من الجيش، وقد وقف هذا الأسطول
مكتوف اليدين في مياه الإسكندرية طيلة فترة الحرب السورية القصيرة الأجل، وقد حرمه القبطان
باشا من فرصة أداء المهمة التي لم ينشأ الأسطول إلا لأدائها.
وما كان الباشا ينتقل إلى عالم الخلود حتى بِيعَت السفن الصالحة الباقية إلى الباب
العالي، وكان ذلك دليلًا على فشل التجربة التي حاولها الباشا في إنشاء الأسطول.
أما نشاط الباشا وما بذله من الجهود في إنشاء الجيش وتوسيع نطاق أعماله؛ فقد كان أدنى
إلى
التوفيق من جهوده البحرية، ولقد سبق لي أن بيَّنْتُ أن محمد علي بعد أن كان جيشه في بداية
الأمر عبارة عن خليط من فِرَق أجنبية من الجنود المأجورين قد تحوَّل تدريجيًّا إلى جيش
عظيم
يتَّبِع الجيوش الأوروبية من حيث النظام والاستعداد، وقد تم إنشاؤه على النمط الأوروبي،
كما
أنه تكوَّنَ بإدخال نظام القرعة العسكرية في البلاد.
فلم يحل عام ١٨٣٢م حتى كان الباشا قد تمكَّن من جمع قوة نظامية كبيرة وكان جيشه وقتذاك
مركبًا من ٢٠ أورطة من المشاة و١٠ أورط من السواري، هذا عدا شرذمة صغيرة من الجنود الأتراك
غير النظاميين تصحبها قوة أكبر من البدو غير النظاميين أيضًا، وقد بلغ مجموع هذه القوة
٣٨
ألف جندي.
وبعد مرور ثلاثة أعوام ازداد عدد هؤلاء الجنود فبلغ في سوريا وحدها ٥٩ ألفًا؛ أي
إن معدل
الزيادة بلغ ٥٠٪
٩٦ ويغلب على الظن أن مجموع ما كان لدى الباشا تحت السلاح بلغ ١٠٠ ألف جندي، وكانت
هذه الجنود مجهزة في بداية الأمر ببنادق استوردها الباشا من فرنسا وإنجلترا، ولكن لما
كانت
البنادق المذكورة من نوع رديء فقد أنشأ مصنعًا خاصًّا لصنع البنادق في مصر، وقد حصل الباشا
من لندن على ٢٠٠٠ عينة من أمتن وأحدث البنادق، وجرى تدريب الجنود وتمرينهم أولًا تحت
إشراف
ومراقبة ضباط فرنسيين وغيرهم من ضباط القارة الأوروبية مثل الكولونيل سيف، أما الضباط
الذين
فُتِحَتْ لهم مدارس خاصة في الجيزة وغيرها من الجهات فكانوا من أسر تركية أو أسر أجنبية،
٩٧ وكان أكثرهم من موالي الباشا، وقد وقع عليهم اختياره نظرًا لما لاحظه فيهم من
حسن الاستعداد للخدمة العسكرية، أما الجنود (الأنفار) فكانوا جميعًا من الأسر المصرية
وبينهم بعض السوريين طالما كانت سوريا تحت حكم محمد علي.
ويقول البعض إن ما التجأ إليه الباشا من الوسائل لجمع الأنفار للخدمة العسكرية يُعتبَر
من
أسوأ ما ارتكبته إدارته من الأغلاط؛ فلقد أراد الباشا إحصاء عدد السكان، ولكنه اضطر إلى
العدول عن ذلك الرأي بسبب المعارضة العامة التي اشترك فيها بعض الموظفين التابعين للباشا،
٩٨ فلم يكن له ندحة من الالتجاء إلى مديري الأقاليم ليقوم كلٌّ بتوريد عدد معين من
الأنفار، وقد قُسِّمَ هذا العدد طبعًا بين القرى والدساكر المختلفة.
ومن ثم راح مشايخ القرى يضعون أيديهم على أكثر عدد من الرجال تاركين أولئك الذين
يُقدِّمون لهم أكبر رشوة لإطلاق سراحهم وإعفائهم، أما مَنْ قعد عن دفع الإتاوة فقد أرسلهم
المشايخ كل اثنين مصفدين في الأغلال كأنهم مجرمون،
٩٩ ولما كان الباشا في أوج عزه كان عدد من يطلبهم للخدمة العسكرية واحدًا من كل
ستة أشخاص؛ أي بمعدل ١٧٪ تقريبًا.
ولم يكن بين مصالح الحكومة ما يخشاه الأهالي ويكرهونه كالخدمة العسكرية، وقد يدخل
في باب
المبالغات ما كان يرويه معشر السياح عن وجود كثيرين من الأهالي كانوا يفرُّون من الخدمة
العسكرية بقطع سبابة اليد اليمنى،
١٠٠ وقد ذكر كامبل أن السائحين ربما يكونون قد علموا خطأ بأن بعض الأهالي كان
يتعمَّد للفرار من العسكرية قَطْعَ أحد الأصابع وخلع الأسنان وعمى العينين.
١٠١
نعم؛ قد يكون هذا من قبيل المبالغات، ولكن هذه الروايات قد قامت الأدلة على صحتها،
ولم
يَعُد ثمة مجال للشك فيها كما تشهد مكاتبات الباشا نفسه بذلك؛ فقد كتب يقول: «ليس من
يضعون
سم الفأر في أعينهم سوى حيوانات في صورة آدميين، وينبغي الحكم عليهم بالأشغال الشاقة
المؤبدة.»
١٠٢ وإذا ظهرت إدانة قرينة الحلاق التي ساعدتهم على وضع ذلك السم في أعينهم فلا بد
من إعدامها وترك جثتها في العراء مدة ثلاثة أيام،
١٠٣ واتُّهِمَت امرأة بتهمة من هذا القبيل فأُلقِيَتْ في النيل حية.
١٠٤
وقد أصدر الباشا تحذيرًا للائقين للاقتراع العسكري بأن من يتعمَّد تشويه عضو من أعضائه
فلن يكون جزاؤه السجن والأشغال الشاقة المؤبدة فقط، بل لا بد أن يُؤخَذ مكانه عضو آخر
من
أعضاء أسرته.
١٠٥
وقد حذَّر الباشا الموظفين بأن استمرار هذا التشويه دليل على تراخيهم في مراقبة الأنفار،
وأنه إذا استمر هذا العمل فلسوف يُجازَوْن بنفس العقوبة التي يُعاقَب بها الأنفار سواء
بسواء،
١٠٦ ولمَّا تبيَّنَ أن الأشغال الشاقة لم تكن رادعة لجأ الباشا إلى عقوبة الإعدام.
١٠٧
فهذه الأعمال كانت كلها ملموسة، بحيث إنها تُبرِّر امتعاض بالمرستون من حكم الباشا
وتُقوِّي الضرورات السياسية بالاعتبارات الإنسانية.
كما أنه لا يمكن عدلًا أن يُلقي اللوم كله على عاتق السلطان بسبب عناده وعدائه للباشا؛
فإن الاقتراع للعسكرية كان يمكن أن يُراعى فيه جانب العدل فيما لو خفَّفَ الموظفون من
وطأة
جشعهم وميلهم إلى الاضطهاد والظلم، ولا ندحة عن القول هنا بأن الباشا فيما يتعلَّق بهذه
المسألة قد ورَّطَتْه أحلامه السياسية إلى اتباع سياسة تذكر الإنسان بأنه حاكم تركي أولًا
ثم هو بعد ذلك مستبد عادل، ولكنا إذا تركنا جانبًا قوةَ ما لجأ إليه من الوسائل، فلا
يمكن
القول بأن المقصود والغاية من تجييش الجيوش كانت كلها سيئة؛ إذ لم يكن من سبيل آخر لإنهاض
عزيمة رجال ظلوا يرسفون في قيود العبودية قبل إنشاء الهرم الأول، ولم يخطر لأحد منذ الفتح
العربي أن يستخدمهم في أعمال القتال، بل لقد ظلُّوا قانعين طيلة تلك القرون بحرث الأراضي
والحقول وحمل الأثقال وتحمل الضرب وإطاعة الأمر والتناسل تاركين لأعقابهم هذا الميراث
المؤلم. وكذا بلغ هلعهم من أن يخطفهم مشايخ القرى ويسحبوهم للانخراط في سلك جيوش الباشا
إلى
حد أنهم كانوا يستهينون بقطع أحد الأصابع وخلع الأسنان ورمد الأعين، ولكن امتناعهم عن
التشبه بالرجال لا يمكن أن يَحْمِل الإنسان على توجيه اللوم للباشا؛ لأنه أكرههم على
ذلك
التشبه.
ولم يقف الإصلاح عند هذا الحد، فلقد أجمعت كلمة من شهدوا الحالة في مصر على أن النظام
الجديد كان أقل عنتًا للأهالي عن نظام الجنود الأجانب المأجورين، بمعنى أنهم لم يتركوا
وراءهم أي أثر من آثار التخريب، ولم يكن زحفهم بالبلاد مصحوبًا بآثار التدمير؛ لأنهم
لم
يجتازوا الأقاليم المصرية كما لو كانوا يخترقون بلاد العدو على نحو ما كان يفعله الجنود
الأجانب المأجورون.
وبالجملة لم يكن ما أوجده الباشا من التأسيسات العسكرية مجرد مظهر من مظاهر السلطة
مضى في
تنفيذها بلا مبالاة لرغبات رعاياه. كلا؛ بل كانت — والحق يُقال — وسيلة من وسائل التعليم
وضربًا من ضروب الإصلاح الإداري.
ومع أن القضاء كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح إلا أنه كثيرًا ما عرض إلى مسائل لم يكن
من
المستطاع مداراتها بالعنت العاجل.
بل كان أشد ما يكون ارتباطًا بالشريعة الغراء، بحيث لم يستطع الباشا مساسه أو التعرض
له
إلا بمنتهى الحذر.
ولقد كان المفتي هو المرجع الأعلى في كل ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية كالزواج
والطلاق، وبالأخص مسألة الميراث.
وكان تعيين هذا المفتي سنويًّا بواسطة الباب العالي أحد بقايا مظاهر السيادة العثمانية
على مصر. ولما كان هذا الموظف الكبير يبتاع منصبه هذا من الباب العالي نفسه فلم يكن ينتظر
من المفتي أن يكون نزيهًا في تطبيق العدالة ولا حريصًا في اختيار من يشغلون مناصب القضاء
تحت إشرافه؛ ولذا كان محمد علي شديد الارتياب في ذمة هؤلاء القضاة ونزاهتهم، وقد نصح
إحدى
الأسر بعد أن دبَّ دبيب الخلاف بين أعضائها بأن يعقدوا الصلح فيما بينهم وألا يلتجئوا
إلى
القاضي خيفةَ أن يقعوا في براثنه فلن يقتصر الضرر على أحدهم فقط، بل سيلحقهم جميعًا وتدور
عليهم الدائرة ويخرجون من التحكيم بصفة المغبون، بينما يفوز القاضي بنصيب الأسد.
على أن الباشا وإن لم يَسَعْه التدخل مباشرة في دائرة أولئك القضاة إلا أنه بذل ما
في
وسعه لتحديد نتائج أعمالهم؛ فلقد أنشأ في كلٍّ من الإسكندرية والقاهرة محكمة جديدة لا
تتقيَّد بقيود الشريعة الإسلامية، وقد جعل أعضاء هاتين المحكمتين من رجال التجارة بدلًا
من
رجال الدين وعهد إليهما بفض المشاكل التجارية، وبخاصة ما يجد منها بين المسلمين والمسيحيين.
على أن هذا الأمر الذي استلفت الأنظار في تكوين هاتين المحكمتين أن الأعضاء المسلمين
فيهما
لم تكن لهم الأغلبية؛ فمثلًا كانت محكمة الإسكندرية مُركَّبة من تسعة أعضاء بينهم أربعة
مسلمون، والخامس فرنسي، والسادس يهودي، والسابع والثامن من المسيحيين السوريين، والتاسع
من
الرعايا اليونانيين.
١٠٨
أما فيما يتعلَّق بأحكام الجنايات فكانت من اختصاص الهيئة التنفيذية عادة، ولم يدخر
الباشا وسعًا منذ جلوسه على الأريكة المصرية لوقف أو تقليل كافة الجنايات المنطوية على
استعمال العنف. وقد علَّق ميسيت في سنة ١٨١٣م على هذه الحقيقة الباهرة بأن سكان القاهرة
صاروا لأول مرة منذ أجيال عديدة يتمتعون بنعم الطمأنينة على النفس والمال،
١٠٩ إن هذا الشعور بالطمأنينة لم يتوطَّد إلا بعد استعمال مختلف ضروب الشدة وإعدام
كثير من الأشرار، وكثيرًا ما كانت بوابة زويلة مثلًا — وهي التي كانت يُنفَّذ في ساحتها
الشنق العلني تُعلِّق على جدرانها جثث المشاغبين — وكانت أحكام الباشا عرفية لا نقض لها؛
فكانت الأحكام مما لا يمكن التوفيق بينه وبين ما يجري في القارة الأوروبية.
مثال ذلك أنه لو اتُّهم شخص بالسرقة من مصنع البنادق فإنه يُحكَم عليه إذا كان شابًّا
بالأشغال الشاقة المؤبدة وهو مُصفَّد بالأغلال، أما إذا كان شيخًا فيصدر الحكم بإعدامه
ليكون عبرة لغيره.
١١٠
ولكن ليس ثمة ما يدل على أن تطبيق الباشا لقانون الجنايات كان أشد صرامة مما كان متبعًا
في إنجلترا لغاية ظهور الإصلاحات التي وضعها «بيل»، وهي التي خفت وطأتها على كل حال بمرور
الزمن.
وكثيرًا ما كانت تُستبدَل بعقوبة الإعدام الشغل في الجبال، وهذا ما حمل «عشماوي»
الحكومة
المصرية في القاهرة على أن يُصرِّح لبورنج أن عمله غدًا محدود أو ضئيل.
١١١
أما الرق والنخاسة فقد كانا من الأنظمة المتأصِّلة بحيث لم يكن في وسع محمد علي إلغاؤهما
مهما كانت رغبته في ذلك شديدة.
وكان عهد محمد علي بهما يرجع إلى زمن الصبا، بل زمن الطفولة، فقد كانا القاعدة المعمول
بها في الشرق من عهد بعيد، ولم يكن فيها ما تتقزز منه العواطف الأدبية في العقلية الشرقية.
لا بل إن ضمير الغرب وهو أكثر تأنفًا من ضمير الشرق لم يَضِق ذرعًا من مسألة الرقيق ويطلب
وقفها إلا منذ عهد قريب فقط وقبل ذلك لم يعمل شيئًا، بل ولم يكن في الاستطاعة عمل شيء
لتقييد سوق النخاسة في القاهرة أو التأثير في السلطة التي منحتها الشريعة الإسلامية للسيد
على مولاه. وقد لفت المسيو دي هامل قنصل روسيا الجنرال نَظَرَ الباشا في سنة ١٨٢٦م إلى
الموضوع، وسأله إذا كان في استطاعته أن يشل قدرة السادة على إنزال عقوبة الموت بمواليهم
أو
إلحاق الأذى بهم ومعاملتهم أسوأ معاملة؛ فأنعم محمد علي النظر مليًّا وخُيِّل إليه أنه
قد
يستطيع أن يصنع شيئًا في صدد الذكور من الرقيق، ولكنه لم يعلل القنصل بشيء من الأمل فيما
يتعلق بالنساء الرقيق، بل قال إنه لا يمكنه التدخل في شئونهن؛ لأن الحريم مكان مُقدَّس
ولا
يُسمَح لقريب — كائنًا مَنْ كان — بالدخول فيه،
١١٢ ثم وقفت المسألة عند هذا الحد.
ولا بد أن ما قام بينه وبين الدول الأوروبية من النزاع حول الشئون الخارجية قد حوَّلَ
نظره عن الدخول في مسألة شائكة كمسألة الرقيق لم تكن له شخصيًّا أي رغبة في إجراء الإصلاح
فيها أو تحسين شأنها.
وكانت النخاسة من أهم أركان التجارة في كافة البلاد والتي كانت تهم الباشا، وقد كانت
الغارات تُشَنُّ مِنْ آنٍ لآخر على الرقيق في السودان وفي المناطق الأخرى الواقعة جنوبي
السودان. ومن هناك كان الأسرى يُرسَلون إلى القاهرة في شكل قوافل كبيرة، وبالطبع كان
من
أصعب الأمور أن يحصل الإنسان على معلومات صحيحة في هذا الصدد، ولكن أحد الفرنسيين في
عهد
الاحتلال الفرنسي سأل قبطيًّا ظل مدة ثلاثين عامًا يُحصي عدد العبيد الذين يُرسَلون إلى
القاهرة؛ فعلم أن عددهم لم يكن يتجاوز الأربعة آلاف سنويًّا،
١١٣ ومن المحتمل أن يكون هذا العدد قد ازداد وتضاعف لأمرٍ ما بعد أن توطَّدَ حكم
محمد علي في السودان؛ فإن القارئ يذكر أن الباشا علَّلَ نفسه بإنشاء جيش كبير من هؤلاء
السودانيين، وقد كان أعوان الحكومة يقومون في فصل الخريف من كل سنة للحصول على العبيد،
وهكذا ظلَّتْ النخاسة في السودان امتيازًا قاصرًا على الحكومة وحدها.
١١٤
ولم تكن فتوحات محمد علي في جنوب السودان هي وحدها التي كانت السبب في انتشار تجارة
النخاسة، بل لقد ساعد احتلال روسيا لبلاد الكرج والحركش على تقليل عدد الرقيق الأبيض
الذي
كان يرسل منهما إلى الآستانة، وازداد الإقبال على الرقيق الأسود الموجود في سوق القاهرة.
ومن هنا انكشف سر المسألة؛ فإن ما أوجدته الحكومة الجديدة من حسن النظام قد ساعد فريق
الأجانب على التجوُّل في أنحاء السودان بمأمن من الخطر.
ولقد تمكَّن أحدهم وهو الدكتور هولرويد من الحصول على تفاصيل ضافية للأماكن التي
يقطنها
الرقيق وللغارات التي كانت تُشَنُّ عليهم وما كان ينتظر الأسرى من المعاملة، ولئن لم
تكن
هذه التفاصيل قد بلغت وصف فظائع هذه التجارة إلا أن بالمرستون قد استغلَّها لاستثارة
الرأي
العام في إنجلترا ضد حكومة محمد علي
١١٥ على أن الباشا بعد زيارته الطويلة لربوع السودان في سنة ١٨٣٨م قد اتخذ
الإجراءات الفعَّالة لتضييق دائرة النخاسة. فبعد أن كانت الضرائب تُدفَع بتقديم عدد معين
من
الرقيق قرَّرَ الباشا أن تُدفَع في المستقبل بتقديم مقادير معيَّنة من الحبوب وما إليها
من
المحاصيل، ومع أن قراره هذا كانت له نتائجه الفعالة طبعًا؛ فإن هذه العادة الوحشية المتأصلة
في البلاد — عادة شن الغارة على الرقيق — قد قُدِّر لها أن تَظَلَّ وقتًا طويلًا دون
أن
تُستأصَل شأفتها بتاتًا.
وكان على النقيض من تراخي الباشا حيال النخاسة والرق موقفه فيما له مساس بالشئون الصحية
أو شئون التعليم؛ ففي مسألة الرقيق لم يكن الباشا كثير الإيمان بنظريات رجال الغرب في
صدد
إطلاق الحرية للجميع، أما في المسائل الأخرى فقد كان على يقين بأن أطباء الغرب أعلى كعبًا
من «الحكماء» المصريين، وأن شعبه يفيد أكبر فائدة من التعاليم الغربية. وقد وضع محمد
علي
ثقته التامة في كل ما يتعلَّق بالشئون الصحية أو التنظيم الطبي في شخص كلوت بك، وهو أحد
أطباء الفرنسيين، وقد بُنِيَتْ تحت إشرافه مدرسةٌ للطب في جهة أبي زعبل، على أن هذه
المحاولة ما لبثت أن أعقبها الفشل، وتبيَّنَ أنها محاولة جاءت قبل أوانها؛ وذلك بسبب
ضعف
مستوى التعليم العام.
وقد كان كبار المعلمين فرنسيين ممن لا يعرفون التكلم بالعربية، بينما كان الطلبة
مصريين
ممن لا يفقهون الفرنسية، فلم يكن يمكن في هذه الحالة أن تُسفِر النتيجة الختامية إلا
عن
إخراج بعض «جراحين» لا دراية لهم بالطب الغربي. وليس من شك في أنه كان يكون أصوب لو أن
الباشا بدأ تنفيذ فكرته بإرسال عدد محدود من رجاله إلى الخارج للحصول على ما هم في حاجة
إليه من أنواع الخبرة والدراية، ولكنه كان راغبًا في أن تكون الوحدات المختلفة التابعة
لجيشه مزودة بالجراحين ومساعديهم، وهذا ما جعله يصر على الحصول عليهم فورًا، على أنه
كان
ميالًا لتشجيع الماهرين بين الزوار الذين يهبطون القطر المصري؛ فمن ذلك أن الدكتور شارل
تيلور حكيم العيون زار الإسكندرية في سنة ١٨٣٦م، وقد أجرى عدَّة عمليات كان النجاح حليفه
فيها كلها؛ مما دفع الناس من كافة الطبقات أن يقصدوه أفواجًا، وقد كان يذهل لمحاصرة داره
يوميًّا نحو ٧٠ إلى ٨٠ شخصًا على أمل استلفات نظره والاستفادة مما خُيِّل إليهم أنها
مهارة
فوق مهارة البشر، وقد طمع الباشا في أن يستبقيه في مصر لينتفع الناس بعلمه؛ فعرض عليه
مرتبًا قدره ١٢٠٠ جنيه في العام.
١١٦
وكان مستشفى البيمارستان من أفظع المناظر التي تصطدم بها أعين السائحين؛ فقد كانت
دارًا
في دور الإحسان والبر مُلحَقة بأحد المساجد، وكان الإنسان إذا زارها وجد جيشًا من المرضى
تنبعث منهم روائح كريهة، ويرى القمل في أجسادهم، أو أن يجد بعض مسلوبي العقل وهم عرايا
الأجسام مصفدين في الأغلال تنظرهم من خلال نوافذ ذات قضبان حديدية تَحُول دون فرارهم.
وكان
هؤلاء المساكين الذين هم أشد الآدميين بؤسًا في حراسة أحد المصريين المسنين، فكان يستعرضهم
أمام السائحين على أمل أن يُتحفوه بالهدايا وينفحوه بالبقشيش، وسرعان ما وافق الباشا
على
مشورة كلوت بك بإلغاء هذا الأثر المتخلِّف عن العصور المظلمة، وأمر أن يُقام بدلًا عنها
مستشفى في ميدان الأزبكية الشاسع.
١١٧
ومثل آخر يَدُلُّك على مبلغ حرص محمد علي واستعداده للأخذ بأهداب التحسين والإصلاح،
وهذا
المَثَل يتجلَّى في مبادرته إلى إنشاء إدارة الشئون الصحية؛ فلقد أُصِيبَتْ مصر في سنة
١٨٣٠م بوباء الكوليرا وكان شديد الوطأة، وقد نقل الحُجَّاج جراثيم هذا الوباء عند عودتهم
من
الحجاز إلى السويس، وسرعان ما سقط ضحية له نحو ١٥٠ شخصًا في خلال يومين.
وفي خلال الأسبوعين التاليين إذا بالوباء يظهر فجأة في القاهرة. وطمعًا في منع الوباء
من
الوصول إلى الإسكندرية استعان محمد علي بالقناصل العموميين واضعًا تحت تصرفهم كل من كان
من
جنوده على مقربة من الثغر، وأطلق الحرية الكاملة في صدد النفقات.
وقد لبَّى القناصل نداء الباشا، وإن كان يلوح أنهم قد داخَلَهم اليأس عن وقف انتشار
الوباء أو كبح وطأته؛ فأنشأ القناصل كردونين من الجنود في القاهرة والإسكندرية.
ولكن حدث ما كان يُنتظَر، وهو أن أعراض الوباء ظهرت بين الجنود، وما هو إلا أقل من
أسبوع
حتى كان ٨٠٠ منهم في المستشفى، أما الأطباء والصيادلة فالبعض منهم قد فَرَّ من البلاد
والبعض الآخر لَحِقَ بربِّه.
وهكذا دَبَّ الخلل في كافة المصالح العمومية وأُغفِلَتْ جميع وسائل الوقاية، وقبل
أن يتم
التغلب على هذا الوباء الفتاك كان قد ذهب ضحية له ٩٠٠٠ شخص في القاهرة وما يزيد عن ١٥٠٠
شخص
في الإسكندرية، وكان تعداد المدينتين وقتئذ يُقدَّر على التوالي بنحو ٣٠٠ ألف و٩٠ ألفًا.
١١٨
ولم تنتشر الكوليرا هذا الانتشار إلا في النادر القليل ولم تصبح وباء مرة أخرى إلا
في سنة
١٨٤٩م، ولكن التهاب الإبط وتورُّمها أصبح وباء يُثِير الذعر في قلوب الأهالي. ولعلَّ
من قرأ
قصة «أبوتن» يذكر كيف كان من عادة الفرنسيس عند سماعهم بانتشار الأوبئة في الخارج يحبسون
أنفسهم في أمكنة منعزلة عزلًا تامًّا عن باقي الناس، هذا بينما كان المسلمون يحاولون
بشيء
من الغموض أن يتجاهلوا الخطر المحدق بهم، على أن الذين كانوا يخترقون الشوارع مستهترين
بالخطر في مثل هذه الأوقات لم يكونوا المسلمين على اختلاف طبقاتهم، كلا فإن قليلًا منهم
ما
عدا طبقة الفقراء الذين كانوا يؤمنون بأن قضاء الله لا مرد له، ولما كانت طبقة الفقراء
في
فقر مدقع فإن ذلك جَعَلَها أقلَّ حرصًا على حياة البؤس واستمرارها.
أما من ساعدهم الرخاء والثروة على تذوُّق النعيم فقد كانوا أشبه في حرصهم على الحياة
بالفرنسيين غير المؤمنين، ولم يكن يُسمَح لأحد مطلقًا حتى ولا القناصل العموميين بزيارة
الباشا أو الدخول إلى مخبأه، وأُغلقت أبواب المصانع العامة ووُقِف دولاب العمل وقفًا
تامًّا.
١١٩
ولعلَّ أسوأ وباء وأشدَّه فتكًا بالأرواح هو الذي أصاب الوجه البحري سنة ١٨٣٥م؛ فلقد
كان
في رأي البعض أسوأ بكثير من الطاعون الذي أُصِيبَتْ به مصر قبل ذلك التاريخ بأربعين عامًا.
وقد بلغت ضحايا وباء سنة ١٨٣٥م في القاهرة وحدها ٣١ ألفًا، وذلك في خلال ٣ أشهر فقط،
ولكن
كامبل كان يعتقد أن العدد الحقيقي أكثر من ذلك وفي رأيه أن أكثر الضحايا كان من
المسلمين.
وحدث أن الوباء اختطف أرواح ١٣٥ فردًا من أعضاء إحدى الأسر الكبيرة فأقفلت أبواب
دورها
كما أقفلت أبواب ٢٠٠ دار من دور المسلمين، لا لسبب إلا لأن السكان قد حصدهم الطاعون على
بكرة أبيهم فلم يَبْقَ منهم أحد، وقد هلك من الأقباط نحو ربع عددهم، وهكذا زاد عدد الضحايا
بنحو ٢٠ ألفًا.
١٢٠
ولما كانت القورنتينة هي الوقاية الوحيدة التي كانت معروفة وقتئذ ضد الطاعون؛ فإن
الباشا
قد لجأ إلى القناصل مرة أخرى ينشد معونتهم؛ إذ لولاها ولولا موافقتهم لتعذَّرَ إن لم
نَقُلْ
يستحيل تنفيذ لوائح القورنتينات وتطبيقها على عدد كبير من السفن والملاحين الأوروبيين.
ومن
ثم اجتمع القناصل وشكَّلوا منهم لجنة كانت تُعرَف في أوقات مختلفة باسم مصلحة الصحة أو
اللجنة الصحية، وأُنشِئ محجر صحي بالقرب من الموضع الذي كانت تقوم فيه وقتئذ سكة كليوباترة
على شاطئ البحر عند الميناء الجديد أو الميناء الشرقي بالإسكندرية، وعند هذا المحجر كانت
السفن الداخلة في القورنتينة تلقى مراسيها.
١٢١
وقد نبَّه على حكمدار بوليس الإسكندرية بأن يسهر على تنفيذ كل ما عسى أن يشير به
القناصل
من الإجراءات الصحية، ولم يكن هذا لعمرك بالأمر الهين؛ ذلك لأن الأهالي لم يكونوا ميالين
إلى إطاعة الأوامر في هذا الصدد؛ لأنهم لم يفهموا الغاية المقصودة بها من جهة ولأن معظمهم
كان يعتقد أنها مما لا يتلاءم مع أصول دينهم. وقد أعلن الباشا في طول البلاد وعرضها أن
اجتناب العدوى لا يتنافى مع الشريعة، ووعد باستصدار فتوى من العلماء لتدعيم دعواه، وقد
ختم
الباشا رسالته إلى رئيس الديوان بقوله: «إن الأهالي هم أشبه شيء بالعجماوات لا يميزون
الطيب
من الخبيث.»
١٢٢
ثم تشكَّلَتْ بعد ذلك بقليل لجنة أخرى برئاسة الكولونيل كامبل نفسه للسهر على تحسين
الحالة الصحية العامة في منطقة الإسكندرية، وكانت باكورة أعمال هذه اللجنة إزالة عدد
من
العشش القذرة التابعة لصغار المصريين هذا إلى سد الخندق القديم الذي كان مملوءًا بالماء
الآسن الذين يحمل جراثيم مختلف الأمراض. ثم تقرر نقل مدبغة الجلود الأميرية من وسط المدينة
إلى طرفها وأُنشِئَتْ طريق واسعة لِتَفْصِلَ ما بين الحي الأوروبي والجمرك.
١٢٣
وقد تمكَّن كامبل في سنة ١٨٣٧م، وبالرغم من مجيء الحجاج بلا انقطاع من الجهات المصابة
بالوباء أن يُعلِن أن الوباء قد انقطع، وعزا نجاحه في وقف الوباء إلى نظام القورنتينة
الذي
طُبِّق تطبيقًا تامًّا على الجميع. وقد كتب كامبل بهذه المناسبة، فقال: «إن الباشا قد
ترك
مسألة القورنتينة كلية إلى عناية لجنة القناصل الصحية، ثم إنه لا يكتفي بتنفيذ كل ما
تصدره
اللجنة من الأوامر، ولكنه فضلًا عن ذلك يُقدِّم بلا صعوبة كل ما تشير به من النفقات للعناية
بشئون المحجر الصحي الذي أصبحت نفقاته باهظة بسبب توظيف عدد كبير من الموظفين الأوروبيين
فيه.»
١٢٤
وقد تفرَّقت هذه اللجنة وانهدَّ كيانها بعد استدعاء كامبل ووقوع حوادث سنتَيْ ١٨٣٩م
و١٨٤٠م، وكان أكبر ما شغل اهتمام هودجز خليفة الكولونيل الحصول على كافة المعلومات النافعة
عن حصون الإسكندرية، ولعل اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بمساعدة الإدارة المصرية في
مختلف الشئون الصحية.
فتشكلت لجنة صحية جديدة رشَّحَ محمد علي ثلاثة من القناصل العموميين للاشتراك في أعمالها،
ولكن لم يكن له حق الإشراف عليها باعتبار وظيفتهم، ثم نشأ الخلاف حول تشكيل اللجنة تشكيلًا
صحيحًا، وكذلك بدأ الأطباء أنفسهم يتشككون في كفاية الفورنتينة كوسيلة لمنع العدوى
ويُرجِّحون أن الطاعون قد يُمكِن انتقاله بوسائل أخرى عدا الاحتكاك الشخصي؛ ولهذا رُئِيَ
تخفيف وطأة النظام الصارم القديم تدريجيًّا إلى أن عُدِلَ عنه نهائيًّا، ولكن هذا يُعتبَر
بمثابة دليل لا سبيل إلى إنكاره على رغبة الباشا لاقتباس الأساليب الأوروبية واتباع
الإرشادات الأجنبية متى اقتنع أنها نافعة حقًّا.
وعلى أن فيما اتخذه من الوسائل لتشجيع التعليم وتعميمه المثل الباهر والبرهان القاطع
على
سياسته الإصلاحية؛ فلقد كانت القاهرة تُعتبَر أحد المراكز الكبرى للثقافة الإسلامية،
وكان
يُهرَع الطلبة من كافة العالم الإسلامي إلى الاغتراف من علوم جامعتها القديمة العظمى
الممثلة في الجامع الأزهر، ولكن هذه الجامعة كانت متأخرة لا في نظامها فقط بل وفي علومها
أيضًا؛ فلقد كان كلُّ همها إخراج علماء دينيين ومحامين شرعيين؛ أي لم تُعْنَ بتخريج رجال
الأعمال أو الإدارة.
وبينما ظنَّ الباشا يُولِي الجامعة الأزهرية القديمة عَطْفَه ويرعاها بعنايته إذا
به قد
أنشأ بجانبها سلسلة من المعاهد، وقد رمى من ورائها إلى تغيير طريقة تفكير الجماهير وجعلها
تتمشى مع مقتضيات الحضارة العصرية. وقد لخَّص أحد المعاصرين الإنجليز نيات محمد علي وخططه،
فقال إنه بينما تمهَّلَ السلطان محمود بما أدخله فجأة من الإصلاحات العنيفة قد أضعف ولاء
الأتراك له؛ فإن محمد علي قد ظلَّ على العكس من مولاه محتفظًا بالخلق السامي بين مختلف
الأمم الإسلامية باتباعه الطريق الرشيدة الوحيدة التي لم يكن محيص عن اتباعها مع شعب
كالشعب
المصري لم يغترف من أصول المدنية إلا القليل.
فإن الباشا بما سنَّه من ضروب الإصلاحات التدريجية التي لا تمس الإحساسات الدينية
ولا
تصطدم بها قد وضع أساس الإصلاح الدائم لمعاهد الأمة متيقنًا بأن التعليم سيزداد انتشارًا
بواسطة ما أنشأه من المدارس العمومية في مختلف أنحاء مملكته لتحقيق ما يرمي إليه من ضروب
الإصلاح.
١٢٥
ويلوح أن تاريخ هذه السياسة يرجع إلى سنة ١٨٢٠م، وكانت في منشأها تُعتبَر بمثابة
نتيجة
طبيعية لما أدخله الباشا من ضروب الإصلاح في الجيش؛ لأن التجاءه إلى اقتباس الأساليب
الأوروبية الخاصة بطرق التنظيم والتدريب اقتضى طبعًا الحصول على ضباط قادرين على دراسة
العلوم الأوروبية العسكرية والهندسية والحسابية. وكان أول دليل على أن الباشا مُسلِّمًا
بصحة هذا الرأي أنه استخدم في القلعة في القاهرة معلمًا إيطاليًّا يُدعَى كوشي وعَهِد
إليه
بتعليم الرسم والرياضيات، ثم صدرت الأوامر بعد ذلك بتعليم اللغة الإيطالية ولغات البلاد
الواقعة شرقي حوض البحر المتوسط، ثم طلب الباشا بعد ذلك معلمين لتعليم اللغة الفرنسية
واللغة التركية، هذا عدا استخدام أحد مهرة المهندسين.
١٢٦
فمن هذه البداية البسيطة نشأت المدارس لتدريب الضباط وإعدادهم للفروع الخمسة في خدمة
الباشا؛ وهي: الطوبجية، والهندسة، والسواري، والمشاة، والبحرية. تحت إشراف المعلمين
الأوروبيين.
ولتوسيع أساس التعليم أرسل الباشا طائفة كبيرة من الشبان المصريين إلى فرنسا ولفيفًا
منهم
إلى إنجلترا لإتمام دروسهم على حساب الباشا، وقد أينعت ثمار هذه السياسة الرشيدة في سنة
١٨٣٣م عندما أنشأ الباشا مدرسة الفنون والصنايع لتكون بمثابة مدرسة لتدريب كليات الضباط.
وكان بين أساتذة هذه المدرسة معلمان أوروبيان فقط أحدهما لتدريس الكيميا والآخر لتدريس
الرياضيات، وإلى جانب هذين المعلمين كان هناك أربعة من المعلمين الأرمن قضى أحدهما عشر
سنوات في مدينة ستوني هيرت بإنجلترا، هذا عدا ستة معلمين مسلمين تلقَّى ثلاثة منهم علومهم
في جامعة باريس والثلاثة الباقون في جامعات إنجلترا،
١٢٧ وتلا هذا التوسُّع إنشاء عدد من المدارس الابتدائية في كل مديرية، وأنشأ
مدرستين «تحضيريتين» كبيرتين إحداهما في القاهرة والأخرى في الإسكندرية لتغذية مدرسة
الفنون
والصنائع، وكان دخول الطالب في هذه المدارس بمثابة قبوله في خدمة الباشا، وكنت ترى الطلبة
وقتئذ يتناولون مجانًا الطعام والملبس والمسكن هذا عدا مرتبات شهرية قليلة تزداد تدريجيًّا
كلما انتقل الطالب من أحد الفصول إلى الفصل الذي يليه.
أما مستقبل أولئك الطلبة ونوع الخدمة التي يعملون لها وما يتلقَّاه كل منهم من التعليم
الفني؛ فهذه كلها مسائل لا رأي للطلبة فيها، بل الأمر متروك فيها للباشا ولموظفيه، ولقد
كانت مصر أول دولة شرقية أُدخِل فيها التعليم الغربي على ما يشبه القواعد المنظمة.
ولم يكن بورنج جانَبَ الحقيقة عندما وجَّهَ انتقاده إلى المشروع قائلًا إن التعليم
الابتدائي فيه قد وُضِعَ على أساس ضيِّق، وإنه يرمي إلى تعليم الأقلية تعليمًا عاليًا
بدلًا
من إيجاد نظام عام للأكثرية.
على أن الباشا ما كان يمكن عدلًا أن يُلام؛ لأنه لم يتَّبِع النظام الذي لم تكن قد
اتبعته
بعد أمم أوروبية أعلى كعبًا من مصر في المدنية الحديثة.
ولقد كان إنشاء هذه الكليات والمدارس مصحوبًا بإنشاء مطبعة وجريدة وغازيتة. ولم يَنْتَهِ
عام ١٨٣٧م حتى كانت مطبعة بولاق، وكانت وقتئذ من ضواحي القاهرة وممتدة إلى داخل نهر النيل،
وقد أنجز طبع ما لا يقل عن ٧٣ من أمهات الكتب العربية، وكان بين هذه عدد من تراجم الكتب
الفنية لاستعمالها في المدارس الجديدة،
١٢٨ ووضع الباشا مشروع جريدة تُنشَر باللغتين العربية والفرنسية،
١٢٩ وكانت هناك صحف أوروبية في الإسكندرية في سنة ١٨٢٤م، وفي هذه السنة نفسها نشر
صولت القنصل البريطاني العام قصيدةً وصفيةً من الشعر،
١٣٠ وفي ذلك الوقت تحسَّنَ أيضًا مركز الأوروبيين والمسيحيين عامة؛ فإن الأقباط
كانوا قبل ارتقاء محمد علي الأريكة المصرية عرضة لكثير من المتاعب والقيود، مثال ذلك
أنهم
كانوا ملزمين بتمييز أنفسهم عن بقية السكان المسلمين بلون ثيابهم، وكان محظورًا عليهم
ركوب
الخيل، وكانوا ممنوعين بتاتًا في أثناء شهر رمضان أن يأكلوا أو يشربوا أو يدخنوا في النهار
علنًا في الطرق العامة؛ وذلك لكي لا يذكروا المؤمنين بهذا الصوم الإجباري.
وكان الأجانب من سكان الإسكندرية والقاهرة يقطنون في أحياء متفرقة ويحمي الحراس مداخلها،
وكانوا كلما أرادوا السفر إلى الخارج لبسوا الزي التركي ليتفادوا الإهانات. وقد وردت
هذه
العبارات في منشور إعلان تركيا الحرب على روسيا في سنة ١٨٢٧م، وهو «أن كل عاقل يعلم حق
العلم أن كل مسلم هو بطبيعته العدو الألد للكفار، وأن كل كافر عدو لدود للمسلمين.» ولكن
روح
الحكومة في عهد الباشا تغيَّرَتْ تغيُّرًا محسوسًا كما تغيَّر لذلك إحساس الأهالي حيال
المسيحيين، وقد أسر الروس في الحرب التركية اثنين من أقارب محمد علي في سنة ١٨٢٧م، فلما
عادا من الأسر في سنة ١٨٢٩م إذا بهما يلهجان بالثناء على ما لقياه وغيرهما من الأسرى
من حسن
المعاملة في السجون الروسية.
وعندما خِيفَ في إحدى السنوات أن لا يبلغ فيضان النيل المنسوب المقرر إذ بالدعوات
الحارة
والصلاة لله لا يقوم بها مشايخ المذاهب الإسلامية وحدهم على ضفتي النيل، بل شاركهم فيها
حاخام اليهود والقسس المسيحية،
١٣١ بل إنه سمح للودلف المبشر المسلوب العقل بأن يخطب في الشوارع بلغة غريبة لم
يستطع أحدٌ فهمَها، ولكنه لما ملأ جدران القاهرة فيما بعد بإعلاناته وملاحظاته بلغة يفهمها
الجميع لم يَسَعِ الباشا إلا أن يسأله مغادرة القطر خيفة أن يعتدي عليه أحد الناس صدفة،
فلا
يجد من يقيه شر العدوان.
١٣٢
وقد ظلَّ كثيرون من رعايا الإنجليز يقطنون القاهرة والإسكندرية دون أن يصيبهم مكروه
في
أثناء الحوادث المشهورة التي وقعت في سنتَيْ ١٨٣٩م و١٨٤٠م.
وبديهيٌّ أن لا تصادف سياسة الباشا هذه قبولًا لدى مشايخ الأزهر، وكان أحد خطبائهم
وكان
اسمه الشيخ إبراهيم أشدهم وطأة في نقد هذه السياسة، وكان مما انتقد عليه هذا الشيخ أن
الباشا أعطى لليهود امتياز صناعة القصابين في الإسكندرية، وهكذا عرَّضَ للخطر إيمان
المؤمنين؛ ذلك لأن اليهود لم يراعوا تلاوة الصيغة المقدسة الإسلامية المألوفة عند القيام
بعملية الذبح، كما أنهم لم يحرصوا على توجيه رأس الحيوان المذبوح في اتجاه مكة، ثم إنهم
بدلًا من أن يقبضوا على المدية بالأصابع الخمسة كانوا يقبضون عليها بثلاثة أصابع،
١٣٣ على أن الباشا لم يصبر على لغو هذا الشيخ، بل أَبْعَدَه إلى تونس.
وهكذا كان الباشا في كافة هذه المسائل وأضرابها؛ مثل: إرغام رعاياه على التسامح الديني،
والسهر على ترقية الوسائل الصحية ونشر التعليم والثقافة وإقامة العدل بين الناس، وتنظيم
جيشه وإنشاء أسطول قوي، وتحديد الضرائب وتشجيع زراعة الحاصلات الجديدة، ومراقبة سلوك
موظفيه
عن كثب.
نقول إن الباشا كان يعمل في هذه المسائل كلها ضد إرادة رعاياه كلهم تقريبًا؛ ولهذا
رأينا
المشروعات التي كانت نفسه تطمح إلى تحقيقها يهملها أو يعدل عنها بتاتًا. ومن بين هذه
المشروعات مشروعات — كإنشاء الأسطول مثلًا — كانت محاطة بمصاعب لا يسهل تذليلها، وقد
أُصِيبَتْ معظم مشروعاته بالضعف وتولاها الفشل لا لشيء إلا لعدم ثقته بالمستقبل وشعوره
بأن
ما يعمل ينبغي أن يعمله شخصيًّا أو يُنجَز في حالة حياته المحدودة الأجل؛ ولهذا يمكن
الحكم
على أعماله بأنها كانت أعمالًا قائمة على العجلة ولم تنضج تمامًا وإما أنها جاءت غير
كاملة،
ولكن بالرغم من ذلك كله وبالرغم مما حدث من رد الفعل بعد اختفائه من على مسرح سياسة مصر
فإن
ما يتنافى مع العدالة وواجب الإنصاف أن يُقال إن أعمال محمد علي ذهبت أو أنها بمثابة
نفخة
في رماد؛ فإن ما أوجده من الاندفاع إلى الأمام يُضاف إليه ما أحكم من الصلات مع الغرب؛
كل
هذا قد استمر بعد انتقاله إلى الدار الأخرى، حتى إن مصر عندما بدأت فيما بعد أن تنفض
عنها
غبار الكسل، وأن تسير مرة أخرى إلى الأمام وجدت أنها تبدأ من نقطة تتقدَّم كثيرًا عن
النقطة
التي بدأ بها الباشا العظيم. ويرجع الفضل في ذلك كله وقبل كل شيء إلى آثار الثقافة التي
تفتَّحَتْ في عهده البلاد لها من أقصاها إلى أقصاها.