الفصل الثامن
آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
في أثناء الحرب اليونانية وضع جلالة السلطان جزيرتي قبرص وكريت تحت رعاية محمد علي
ظنًّا
من جلالته بأن الباشا هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يصد عنهما حملات اليونانيين، وفي
سنة
١٨٣٠م عهد السلطان إلى الباشا بصفة رسمية بأن يباشر الحكم في جزيرة كريت، على أن محمد
علي
اشترط لقبول هذا العبء أن يسمح له بإبعاد الجنود العثمانيين المقيمين في الجزيرة، وأن
يحل
محلهم بعض الأورط المصرية.
١
وقد بدأ محمد علي بتنفيذ خطته فولَّى على الجزيرة قومندانًا اسمه عثمان بك كان قد
أرسله
من قبل لتلقِّي العلوم في فرنسا وإيطاليا،
٢ أما أهالي الجزيرة فكانوا خليطًا ويغلب فيهم العنصر اليوناني الذي كان عدده نصف
السكان، وقد قدر سافاري عدد سكان الجزيرة قبل ذلك بخمسين سنة بنحو ٣٨٠ ألفًا، ولكن هذا
العدد قد نقص بسبب الحروب والطاعون والبؤس المخيم على الجزيرة إلى نحو ١٠٠ ألف نسمة،
وهو
عدد السكان عندما عُهِد إلى والي مصر بالإشراف على شئون الجزيرة، وكان بديهيًّا أن ينذر
اختلاط الأجناس في الجزيرة ببذر بذور الشرور والمتاعب واستفحال الخلاف، كما أنه لم يكن
ينتظر عاقل أن تصير مهمة الحكم سهلة مريحة، وحسبك أن مجموع الإيراد لم يتجاوز الأربعة
ملايين قرش صاغ، بينما كانت النفقات تتجاوز إحدى عشر مليونًا من القروش، وأغلب الظن أن
الباشا لم يقبل الاضطلاع بشئون الجزيرة إلا لأنها تكون له بمثابة محطة بحرية تقع على
مسافة
بعيدة في شمال الإسكندرية، وقد حذرته الحكومة البريطانية دفعتين بأن أي محاولة لإرهاق
السكان المسيحيين واضطهادهم أو استعمال العنف معهم قد يؤدِّي إلى تدخُّل الدول العظمى.
٣
ونحسب أن مثل هذا التحذير لم يكن هناك ما يقتضي صدوره؛ لأنه إذا كان الوالي المصري
قد عهد
فيه عن الأقلية المسيحية في مصر؛ فمن باب أولى أنه لن يفكر في اضطهاد الأغلبية المسيحية
في
جزيرة كريت. وكانت باكورة أعماله بعد صدور الفرمان الشاهاني بتوليته حاكمًا على الجزيرة
أنه
أذاع منشورًا موجَّهًا إلى الشعب الكريدي؛ فقد طمأنهم فيه على أنفسهم وبيَّن لهم أنه
ليس
ثمة ما يخشونه، وأنه لن يتوانى في القصاص ممن يحاول إرهاقهم، وأنه سينشئ مجلسين أحدهما
في
«خانية» والآخر في «كنديا»، وأن الأعضاء المسلمين والمسيحيين سيشتركون في أعمال هذين
المجلسين اللذين يُخوَّل لهما البت في كل الأمور ما عدا ما كان له مساس بالشئون القانونية
البحتة كمسألة المواريث، وكان في نيته إدخال عدة إصلاحات إلى الجزيرة كإنشاء رصيف لميناء
خانية وتغطية التلال بالغابات ونشر الزراعة وتعميمها،
٤ وثمت مشروع آخر صحَّتْ عزيمته على تنفيذه وهو تحسين ميناء «سودا» لتكون صالحة
من ناحية لتخزين التجارة الواردة من سوريا ولتكون قاعدة للأسطول المصري.
٥
وفي سنة ١٨٣٣م شخصَ الباشا بنفسه لزيارة كريت، وقد ذهب في صحبته الكولونيل كامبل إجابةً
لدعوة الباشا. ومن هناك أرسل الكولونيل إلى إنجلترا عدة ملاحظات مهمة عن شئون الجزيرة
وطريقة إدارتها، فقد بيَّنَ أن الجزيرة في إبان الفترة التي كانت خاضعة فيها لحكم السلطان
تولى أمرها من قبله ثلاثة باشوات أساءوا الحكم فيها واستبدلوا جميعًا على عجل، وكانوا
جميعًا سواء في ظلم الرعية واضطهادها، وليس من شك في أن الحامية التركية المعسكرة في
الجزيرة كادت تُطرَد إبان الحرب اليونانية لولا مساعدة الجيوش المصرية لها، فلما انتقل
أمر
الجزيرة إلى الباشا ولي عليها مصطفى باشا، وهو رجل كان يخشى التُّرْك بأسه بقدر ما كان
السكان الأروام يُعظِّمونه ويُجِلُّونه.
وقام الباشا المذكور بإنشاء المجلسين المختلطين الموعودين، كما أنشأ محكمتين ابتدائيتين
إحداهما في «صفكيا»، وكان أعضاؤها جميعًا يونانيين؛ إذ لم يكن هناك أثر للجنس التركي
في تلك
الجهة. وقدَّمَت الحكومة إلى الفلاحين البؤساء ما أرادوه من القروض والمواشي ليستعينوا
به
على زراعة أراضيهم من جديد، وصدر منشور للأروام الذين نزحوا عن ديارهم بدعوتهم إلى العودة
إلى بلادهم واستعادة أراضيهم، بشرط أن يدفعوا لأصحابها الحاليين نفس الثمن الذي ابتاع
به
هؤلاء الأراضي المذكورة، وقد لبَّى الكثيرون نداء الباشا وعادوا إلى ديارهم واستوطنوا
فيها
باعتبارهم كتابيين يعيشون في ظل الباشا وحكومته،
٦ ويدفعون الجزية لها.
على أنه برغم هذه الإدارة المعتدلة قد نشأت المتاعب ووُجِد مجال للتذمُّر؛ فمن ذلك
أن
كثيرًا من اللاجئين اليونانيين أبوا العودة إلى الجزيرة إلا بجوازات يونانية باعتبارهم
رعايا يونانيين، كما أن بعضهم دخل الجزيرة بطريقة سرية مجهولة بقصد إثارة القلاقل من
جديد،
ثم إن اللاجئين من سكان كنديا شرعوا ينشرون صحيفة اسمها «مينرفا» تنطق بلسانهم، وقد وقفوها
على إثارة السخط وإشعال نار الأحقاد والفتن في الجزيرة،
٧ وقد أصرَّ الباشا على ألا يسمح للاجئين بالعودة إلى الجزيرة إلا باعتبارهم
كتابيين يدفعون الجزية قائلًا إنه لو سلك غير ذلك المسلك لأثار سخط المسيحيين الباقين
في
الجزيرة وعددهم ٦٠ ألفًا، والذين لم يخطر لهم على بال أن يطالبوا بتغيير مركزهم أو أن
يُعامَلوا إلا باعتبارهم رعايا عثمانيين.
٨
على أنه إذا كانت أعمال ابتزاز الأموال بالطرق غير النظامية قد أُوقِفَت؛ فإن الضرائب
المنتظمة قد أخذت تزداد ويشتد عبؤها على الأهلين فإن «الخراج» أو الجزية المفروضة على
كافة
الرعايا المسيحيين التابعين للباب العالي كانت تُحصَّل بمنتهى الشدة والقسوة،
٩ ولم يفلت من شرورها إلا القليل النادر، وقد فُرِضَتْ ضريبة على النبيذ بقطع
النظر إذا كان مصنوعًا بقصد البيع أو لشئون الصناعات المنزلية، ثم إن امتياز بيع التبغ
والخمرة والجلود في المدن كان من الأمور التي احتكرتها الإدارة المحلية؛ فأدَّى هذا كله
إلى
زيادة الصخب، وجاءت الأنباء تترى من كل صوب وحدب بحصول بعض المعجزات في مختلف الأديرة،
فشرع
الناس يتجمهرون في أنحاء متفرقة. وليس من شك في أن هذه المتاعب كانت كلها نتيجة ما كان
ينشره اللاجئون من الدعاية السيئة، ولمَّا ظن أن الساعة الملائمة لإحداث الانفجار قد
حانت
هجم أحد الأشرار على أحد السائحين الأتراك وأوسعه ضربًا إلى أن فاضت روحه، وقد قُبِض
على
الفاعل — وهو من اللاجئين العائدين — وأُعدِم فعلًا، ولكن حكم الإعدام هذا كان أول وآخر
حكم. ومن ثم شرعت الإدارة في إبعاد اللاجئين العائدين أو السماح لهم بالبقاء باعتبارهم
كتابيين يدفعون الجزية، بشرط أن تدفع القرى التي ينتسبون إليها كفالة عن حسن سلوكهم،
١٠ ثم عاد الباشا إلى الإسكندرية بعد أن أصدر الأوامر التي من شأنها زيادة الأراضي
المنزرعة.
ولكن هذه الأوامر هيَّأت لسوء الحظ الفرصة لحدوث القلاقل من جديد؛ فلقد كان من بين
أوامره
المذكورة أمر يقضي بأن يُعيَّن في كل منطقة شخصان لهما دراية بقوانين مصر، وأن يقوما
بزيارة
كل قرية واستشارة أغنيائها عن خير الوسائل للبر بالفقراء ومساعدتهم وتوحيد الإجراءات
لنقل
الأيدي العاملة من القرى الغاصة بالسكان إلى الجهات غير المنزرعة التي يقل فيها العمال،
ومع
أن هذا الأمر كان مقرونًا بأوامر أخرى لا سبيل إلى إنكار فوائدها؛ لأنها كانت ترمي إلى
خير
الشعب عامة كإنشاء المدارس ودفع مرتبات طفيفة للطلبة نقول برغم هذا كله فإن أهالي كنديا
قد
دخل في روعهم أن الباشا كان يرمي إلى فرض نظام مراقبة الأراضي كالذي كان مُتبعًا في مصر؛
ولهذا هاج هائجهم ورفع علم الثورة، على الرغم من أن النظام الذي أدخله محمد علي في كنديا
مهما افترضنا نقصه في بعض نواحيه؛ فإنه كان بلا جدال يشتم منه روح الخير وعدم التنطع
في
الدين وحب العدالة ورغبة ظاهرة محسوسة في سعادة الشعب ورخائه؛ مما يشهد له أطيب شهادة.
١١
وتهيَّج الباشا واشتدَّ غضبه لكفران الأهالي بما يُنتظَر أن تدره عليهم وعلى جزيرتهم
هذه
المشروعات من الخير وعقد نيته على التمثيل بالمسئولين عن إثارة المشاغب، فأصدر أمره بإعدام
عدد معين من الأفراد؛ إذ ضُبِطوا بجريمة الحض على الثورة. ولم يكتم الباشا رأيه عن كامبل
بأنه يتوقَّع أن يُضبَط بعض الأتراك متلبسين بالجريمة المذكورة كبعض الأروام، وإن ضُبِطوا
فلا مفر من إعدامهم أيضًا أسوةً بالآخرين.
١٢
وأخيرًا، ضبَطَ ولاةُ الأمور ٣١ شخصًا بينهم خمسة من الأتراك وقد أُعدِموا جميعًا.
ولقد
زعم القنصل الفرنسي (وكان مشهورًا بعطفه على اليونانيين وتحزُّبه لهم) أن المتهمين قد
أُعدِموا بدون محاكمة،
١٣ وأغلب الظن أن الباشا كان مقتنعًا بأن هذه المتاعب كانت جميعًا من عمل عصبة من
المهيجين؛ ولذا استقرت نيته على أن ينزل بهم عقابًا لا تستطيع احتجاجات الدول العظمى
الحيلولة دون تنفيذه، وهو عقاب إن كان محدودًا بحيث لا يسوغ تدخل أي دولة من الدول
الأوروبية إلا أنه كان من الفداحة والشدة بحيث يلقي على سكان كنديا درسًا قاسيًا، فإن
كان
هذا ما حسبه الباشا فإن التوفيق لم يَخُنه؛ لأنه لم يَعُدْ يُسمَع بعد ذلك بحدوث أي مشاغب
أو قلاقل في جزيرة كريت.
وعُهِدت إدارة شئون الجزيرة إلى مصطفى باشا الذي ظلَّ يشرف عليها طيلة سيطرة محمد
علي على
الجزيرة. وقد أجمعت كلمة قناصل إنجلترا وفرنسا وروسيا على أن إدارة محمد علي الجزيرة
كانت
إدارة سُداها الاعتدال والعدل ولُحمتها الإنصاف، وإنها كانت محبوبة من الشعب كما كان
النجاح
حليفها إلى أبعد مدى. نعم؛ إن الباشا لم يتمكَّن من القضاء على التذمُّر السياسي قضاء
مبرمًا لأن جزيرة كريت كانت ما تزال تُعتبَر في نظر المهاجرين من الأروام جزءًا من اليونان؛
ولذا كانت هناك جمعيات عديدة في الإمارة اليونانية تتعطش دائمًا إلى ضم الجزيرة إلى أرض
الوطن القومي كما كان يوجد في نفس الجزيرة عدد كبير من الأشخاص يحلمون باقتراب اليوم
الذي
تنضم فيه الجزيرة إلى بلاد اليونان أو على الأقل أن تتمكَّن الجزيرة من الحصول على نوع
من
الاستقلال.
كل هذا كان مُسلَّمًا به ولكن الجزيرة ظلَّت هادئة وراضية من وجود مصطفى باشا في
منصة
الحكم، ولقد كتب القنصل الروسي يقول: «إن الضرائب كانت تُدفَع بدون إبداء أي مقاومة أو
معارضة، وإن الهدوء العام كان مُخيِّمًا على الجزيرة، وأن المجالس البلدية كانت على استعداد
في كل وقت أن تعمل طبقًا لرغبات الحاكم مصطفى باشا.»
١٤ ولقد نقل الحاكم في سنة ١٨٣٨م إلى بعض أنحاء سوريا لتولي قيادة الجيش الذي
أُرسِل لقمع الفتنة التي نشبت في تلك الجهات، وقد شهد القنصل الإنجليزي بأن «سفر مصطفى
باشا
كان أشبه بيوم حداد عام لسكان الجزيرة؛ فلقد أظهر سوادهم من تلقاء أنفسهم علامات الود
الخالص المنزَّه عن الغاية والهوى.» ولما غادر «خانيا» هُرِع إلى وداعه السكان جميعًا
شيوخهم وشبابهم والعبرات تخنقهم وكلهم أسف على فراقه ويتوسَّلون إليه أن يعود إليهم بعد
إتمام مهمته في سوريا،
١٥ إلا أنه لا جدال في أن مصطفى باشا قد تمكَّن مدة حكمه في الجزيرة من حماية
الأروام وتهدئة عواطف المسلمين وإرضائهم.
ولما كان بالمرستون قد اعتاد ألا ينظر إلى حكم محمد علي في الجزيرة أو إلى مشروعاته
فيها
إلا بعين الارتياب والشك فإنه لم يشأ أن يتركها وشأنها؛ فلقد انتقد حكم الإعدام الصادر
على
٢٦ من الأروام وخمسة من الأتراك قائلًا: «إذا صحَّت الأنباء فإنه حكم يدل على القسوة
والرغبة في إزهاق أرواح العباد.» ثم اقترح اللورد أن يتنازل الباشا عن الجزيرة لحكم السلطان
الصالح وقال إنه يمكن حمل جلالته على أن يسن لها دستورًا كالذي تتمتع به جزيرة ساموس.
١٦
ثم دارت محادثات عديدة بين كامبل من ناحية وكبير وزراء الباشا باغوص بك من ناحية أخرى،
ولكن محمد علي رفض بتاتًا الاقتراحات المعروضة عليه وأعلن الباشا — بحق — أن كريت يختلف
شأنها عن شأن جزيرة ساموس، فبينما أن سكان الجزيرة الثانية كلها أروام فإن جزيرة كريت
يسكنها شعب من مختلف الأجناس، ثم إن فيها عددًا كبيرًا من الرعايا المسلمين الذين لا
يمكن
وضعهم عقلًا تحت الإدارة اليونانية. يُضاف إلى هذا كله أن حالة الأروام في الجزيرة تشهد
بالبرهان القاطع أن حكم الباشا ليس قاسيًا ولا يتنافى مع قواعد التسامح الديني أو العدالة،
وعلى ذلك ظلت الأمور تجري مجراها الطبيعي لغاية سنة ١٨٤٠م عندما أضاع الباشا جزيرة كريت
كما
أضاع سوريا، ولم يتوانَ بالمرستون لحظة في العودة إلى مشروعه السابق بسن دستور لجزيرة
كريت
شبيه بالدستور المعمول به في جزيرة ساموس، وهو المشروع الذي يلوح أن اللورد كان متعلقًا
به
كل التعليق. ولعل الخطر في هذا أن كامبل لما بسط المشروع للباشا لم يبسطه له على وجهه
الصحيح، ومهما سلمنا بأن كامبل لما عرض المشروع لم يستعمل اللباقة الكافية، بل وكان يعوزه
الإقناع فلا جدال في أن الباشا لم يكن ميالًا إلى إدخال الإصلاحات الحقيقية، على أن بونسيني
لم يستطع أن يصنع مع الباب العالي أكثر مما صنعه كامبل مع محمد علي؛ فإن دوائر الآستانة
كانت تعتقد كما اعتقدت دوائر القاهرة بأن دستور ساموس غير صالح بالمرة لجزيرة كريت. وقد
أقر
بونسيني هذا الرأي وأيده؛ ومن ثم بعث إلى رئيسه يقول: «إن السكان الأتراك في الجزيرة
لا
يمكن وضعهم تحت الإدارة اليونانية، كما لا يمكن التفكير في وضع حاميات يونانية في القلاع،
وإلا كان معنى ذلك استمرار الفتن وتكون النتيجة أن تصبح الجزيرة تحت حكم اليونان أو فرنسا
أو روسيا.» ومن ثم تقرر إرجاع الجزيرة إلى السلطان دون منحها ذلك الدستور الذي ظن أنه
لا
غنى عنه لخير الجزيرة ويسرها.
وكان التسامح الديني معمولًا به في سوريا كما كان في مصر بطريقة لم تكن معروفة حق
المعرفة
إلى ذلك الحين. ولقد ذهب وفد من العلماء ورجال الدين في دمشق لمقابلة إبراهيم باشا لبثِّ
شكواهم من أن المسيحيين صار يُسمَح لهم بامتطاء الجياد وأن الفوارق والمميزات بين الكفار
وبين المسلمين قد زالت؛ فأعرب لهم مع شيء من التهكم عن موافقته على وجوب الاحتفاظ ببعض
المميزات، واقترح أن يركب المسلمون في المستقبل الهجين أو الإبل وهكذا يحلون مكانًا أرفع
من
مكان المسيحيين،
١٧ ولقد سجل روبرت كيرزون مناسبة محزنة حضر فيها إبراهيم باشا بنفسه الاحتفال
بمعجزة النار المقدَّسة في القدس،
١٨ ولقد كان من جرَّاء هاتين المسألتين — الخدمة العسكرية والتسامح الديني — أن
ثارت ثائرة الأهالي المسلمين كافة وازداد حنقهم على الحكومة الجديدة، وقد أشرنا إلى ذلك
فيما مَرَّ من فصول هذا الكتاب، وقد أشار إلى هذه الحقيقة «مارمونت» عند زيارته لسوريا
في
سنة ١٨٣٤م؛ إذ ألفى كافة الأتراك فيها ساخطين على إبراهيم باشا أشد سخط، وإن سخط الأتراك
على السلطان في الولايات العثمانية التي مَرَّ بها كان لا يقل عن سخط مواطنيهم الآخرين
على
إبراهيم. ولقد وصف القنصل الإنجليزي في حلب شعور أهل سوريا بأنه شعور سخط وتذمر، لا بل
شعور
كراهية أيضًا.
١٩
وليس من شك في أن هذا الشعور قد استفحل أمره من جراء تجديد آخر كان يدعو إلى القلق؛
ألا
وهو السعي لقطع دابر الرشوة في الأعمال الخاصة بتسيير العدالة، وهذه المسألة قد أجمع
عليها
كافة القناصل الإنجليز في سنة ١٨٣٦م، وهم الذين لا يمكن بحال ما أن يستشهد بهم الإنسان
لتحبيذ إدارة إبراهيم باشا في سوريا والإشادة بها. ولعل أكبر خصوم إبراهيم بين أولئك
القناصل يُسلِّم على الأقل بأن دائرة الرشوة قد ضُيِّقت كثيرًا، بينما يسلم غيره بأنها
ما
تزال موجودة، وإن كان هذا داخل حدود ضيقة جدًّا، فضلًا عن أنها لا تزاول إلا خفية عن
علم
ولاة الأمور. ويقرر قنصل ثالث بأن الرشوة قد زال استعمالها زوالًا تامًّا؛
٢٠ فأنت ترى أن كل القناصل قد أجمعوا — وإن كان إجماعهم ذلك لم يأتِ من تلقاء نفسه
— بأن العدل لم يَعُد المثل الأعلى الذي لا يُطبَّق على المسلمين وحدهم، ولقد أَسِف أحد
أولئك القناصل لعدم وجود قانون مكتوب، ولكن هو نفسه يُسلِّم بأنه كانت توجد في المدن
الكبرى
محاكم كالتي أُنشِئَتْ حديثًا في مصر يجلس فيها اليهود والمسيحيون القضاة للفصل في شئون
العباد.
وليس من شك في أن المرونة كانت إحدى مزايا النظام الجديد، وقد كان من حق صاحب الشكوى
أن
يتقدَّم بشكواه على حد سواء إما إلى المفتي أو إلى الموظف الإداري الرئيسي، فإن اختار
الطريق الأول فإن الحكم لا يُنفَّذ إلا بعد عرضه على الهيئة التنفيذية ولها أن تقره أو
ترفضه، وأما إن اختار الطريق الثاني فمن حق الموظف الإداري — إن كانت القضية من القضايا
البسيطة العادية — أن ينظرها ويصدر حكمه فيها، أما إذا كانت القضية من قضايا الحسابات
المعقدة أو خاصة بالشئون التجارية أحالتها إلى المحاكم الجديدة، فأنت ترى أن نظام العدالة
كان يتضمن عنصرًا جديدًا له أهميته الكبرى، هذا العنصر هو أن الخصم غير المسلم اتسع أمامه
باب الرجاء عن ذي قبل في أن تُسمَع شكايته بنزاهة ويُفصَل فيها بما يطابق العدالة. ولعله
مما يستحق الذكر هنا أن شهادة غير المسلم كانت بمقتضى النظام القديم الذي حل محله النظام
الجديد لا تُسمَع ولا تقبلها المحكمة ضد شهادة أحد من المؤمنين الصادقين.
٢١
ولقد أجمل أحد القناصل نتائج حكم محمد علي في تلك البلاد، فقال إنها تضمَّنَتْ بين
ما
تضمَّنَتْه تأمين الناس من الأعمال العرفية، ويُستثنَى من هذا القرعة العسكرية وحماية
أملاكهم ووجود نوع جديد من الحرية الدينية وحرية الحياة والمُسلِّيات والملاهي وتوزيع
الضرائب توزيعًا عادلًا، وبالجملة كانت الحالة في سوريا أقرب إلى الحرية بقدر ما كان
يمكن
التمتع به في مثل أي حكومة حرة، وفي رأي القنصل المشار إليه أن الإدارة قد تحسنت من عدة
وجوه إلى أبعد من المدى الذي كان ينتظره الإنسان، على أن القنصل أضاف إلى ملاحظته السابقة
قوله: «إن الناس لا يُقدِّرون انتظام الإدارة وتحسُّنَها، بل تراهم بسبب شعورهم وعواطفهم
السابقة أو عاداتهم أو أفكارهم القديمة على استعداد دائمًا لأن يُحوِّلوا تلك الإدارة
وتسخيرها في خدمة مصالحهم الخاصة.»
٢٢ «ولاحظ قنصل آخر» أن الرأسماليين الوطنيين لا يحجمون الآن عن توظيف أموالهم في
المغامرات التجارية، مع أنهم في الماضي ما كانوا يجرءون على الدخول في مضمارها.
ولقد نشطت حركة التجارة وانتشرت التجارة انتشارًا هائلًا. نعم؛ إن ضريبة الأراضي
قد بلغت
الثلاثة أضعاف في بعض الجهات ولكن هذا التغيير كان منشؤه زيادة المنافسة على ما قبل؛
ففي
الجهات القريبة من حلب ارتفعت الضريبة؛ لأن الأراضي لم تَعُد تُزرَع على أساس المحسوبية
وقوة النفوذ كما كانت الحال من قبل، وهذا على الرغم من أن الأراضي التي هجرها أصحابها
بسبب
غارات البدو قد تقرَّرَ زرعها من جديد،
٢٣ وبُذِلت المساعي لحمل البدو الرحل على إنشاء صلات تجارة ثابتة مع بقية السكان
المستوطنين وزحزحة خط الحدود الذي يفصل الصحراء ومنطقة العمران شرقًا وإقناع البدو أنفسهم
من الاهتمام بالزراعة، وقد كتب «وبري» بهذه المناسبة، فقال: «إذا استمَرَّ العمل بهذا
النظام؛ فإنه كفيل بأن يؤدِّي إلى أجزل الفوائد، وبذا يتم ربط الشعبين السوري والعربي
في
غاية سلمية واحدة.»
ولقد أمكن حمل رعاة البدو أن يقضوا جانبًا من العام في الزراعة في سهل أطنة الغني
المترامي الأطراف، وهو السهل الذي يقطنه مثلًا خليط من الأناضوليين والتركمان والأكراد،
والذي كانت الفوضى منتشرة في أنحائه من قبل،
٢٤ ويستحيل على المرء أن يذكر بالضبط إلى أي مدى تُمكِن المقارنة بين ما جُمِع في
عهد إبراهيم من الضرائب وبين ما جُمِع منها في العصور التي سبقته.
وليس من شك في أن الخزانة العمومية قد تضخمت وأصبحت عامرة بما دخلها من صنوف الإيراد،
وكان جمع الضرائب بانتظام وتحت المراقبة الدقيقة، وقد فُرِضَتْ على الأقل ضريبة واحدة
جديدة
هي ضريبة الفردية، وكانت عبارة عن ضريبة شخصية (وتشبه ضريبة الإيراد في إنجلترا)، وقد
أُرِيد بها بادئ ذي بدء تحصيل إيراد وافر في خلال الحرب.
ولكن محمد علي جعلها بمثابة مورد دائم، وكانت في بدء الأمر بنسبة ٥٠ قرشًا عن كل
شخص،
ولكن ما لبثت أن خُفِّضت هذه النسبة وجُعِلَتْ تتراوح بين ٣٠ و٥٠ بحسب ثروة الفرد المعين.
وعلى هذا الأساس كان يُفرَض مبلغ معين على كل أسرة مع ترك الحرية لأعضائها لتوزيع المبلغ
المطلوب بين أفرادها، كل على حسب مقدرته، ويُقال إنه كان من شأن هذا الترتيب أن الفقراء
كانوا يُعافَون من الدفع في حين أن الأغنياء كانوا يؤدون ما يزيد عن الغاية القصوى لقيمة
الضريبة.
٢٥
أما الضريبة المفروضة على الكتابين، وكانت تُسمَّى الخراج خطأ في سوريا وكريت، فقد
كان
تحصيلها يجري بمقتضى فرمانات خاصة يُصدِرها الباب العالي وتُرسَل بعد جمعها إلى الآستانة
يستعملها الخليفة في شئونه الخاصة، وكان معدل الضريبة المذكورة ١٥–٣٠ قرشًا حسب ثروة
الشخص
المفروض عليه الضريبة، بيد أنَّ الموظفين المكلفين بجمع هذه الضريبة كانوا يتخذونها دائمًا
لحمل هؤلاء الكتابيين على دفع حصة إضافية لهم لاستعمالها في شئونهم العائلية، ولكن وُضِعَتْ
إجراءات خاصة في سنة ١٨٣٥م لوقف هذه الإعانات الشاذة المخالفة للقانون.
٢٦
وكانت الأموال الأميرية أو ضريبة الأراضي هي المورد المالي الأساسي في سوريا، كما
في
البلاد الأخرى، ولكنها لم يُراعَ في تطبيقها قاعدة معينة، كما أن تحديدها لم يكن بناء
على
مساحة الأراضي مساحة حقيقية، بل كانت الوحدة الاسمية المستخدمة في مسح الأراضي هي أقصى
ما
يستطيع «ثوران» حرثه من الأراضي في خلال يوم واحد، وهو نظام كان كفيلًا بأن يفتح الباب
على
مصراعيه أمام التهرُّب والتحايل، ولم تُبذَل أي محاولة لوضع ضريبة على العقارات العينية،
ولكن كان يُطلَب إلى مدير الإقليم أن يجد أموالًا قِيمتُها المبلغ المطلوب، فيختصر الطريق
بأن يفرض المبلغ المذكور على القرى الواقعة في مديريته؛ فيعمل الأشخاص على تقاسم المبلغ
فيما بينهم.
وبالجملة، فإن أساس الإدارة الصحيحة — وهو مسح الأراضي بطريقة منظمة — كان معدومًا
بالمرة، على أنه كان يُنتظَر أن حكم محمد علي لو استمرَّ لكان الأمل عظيمًا في أن ينتقل
الإصلاح من مصر إلى سوريا.
٢٧
ولا يلوح أنه كان في إدارة إيرادات الأطيان ما يثير الشكوى ويدعو إلى التذمر أو إيجاد
الضغائن والأحقاد، ولكن المقتضيات العسكرية التي كثيرًا ما أشار إليها القناصل في تقاريرهم
كانت بطبيعة الحال موضع استياء الأهلين؛ فقد كانت السلطات العسكرية تستولي على الحبوب
والأرزاق بأثمان هي دون أثمان السوق لتزويد الكتائب الزاحفة. هذا بينما الأشجار الباسقة
كانت تُقتلَع لاستعمالها في الوقود وتُؤخَذ الدواب من أصحابها لاستخدامها في النقل إلى
مسافات بعيدة. نعم؛ كانت السلطات العسكرية تدفع إلى أصحابها أجورًا، ولكن هذه الأجور
قلَّما
كانت كافية للقيام بأَوَد الفلاح لتعويضه عما تجشَّم من المتاعب في سبيل تتبُّع ماشيته
والعودة بها إلى داره بعد أن تفرغ حاجة السلطة العسكرية، ويُضاف إلى ما سبق تسخير العمال
في
بناء القلاع التي كان ينشئها إبراهيم باشا؛ فقد كانت أجور العمال دون نصف ما كان يُحصل
عليه
في الأعمال العادية، هذا عدا أن السلطات كان في وسعها احتجازه للعمل إلى أجل غير مسمى.
٢٨
وقد سارت إدارة إبراهيم في سوريا من وجوه عديدة ولأسباب كثيرة سيرًا هو أبعد من الهدوء
والنجاح من إدارة أبيه في مصر؛ فليس من ريب في أن انهماكه في حركة التجنيد قد نفَّرَ
منه
الطبقات الإسلامية؛ لأن المجندين لم يُؤخَذوا إلا منها وحدها، بينما أدَّى ما أظهره من
التسامح الديني إلى قلق كل متعصب في أنحاء البلاد وشغل باله. أما الفلاحون والعمال فقد
ضايقهم محاولات إبراهيم للاستيلاء على الأقوات والمحاصيل، هذا في حين أن صرامته وشدته
قد
أدخلتا الرهبة على قلوب الموظفين ورجال الإفتاء والقضاء وجعلهم يغرقون رعبًا حرصًا على
مرتباتهم الفادحة التي كانوا يتناولونها منذ زمن بعيد. وفوق هذه الاعتبارات جميعها كان
يوجد
اعتبار آخر، ألا وهو أن الأهلين يعتبرونه حاكمًا غريبًا هبط إلى ديارهم بأصول في الحكم
ومبادئ في الإدارة اقتبسها من مصر، ولقد كان مسلمو سوريا منذ زمن طويل يعتبرون مسلمي
مصر
دونهم في الثقافة بكثير، فجاء فتح إبراهيم للبلاد السورية بمثابة فرصة أتاحت للمصريين
أن
يرفعوا عنهم ذلك الازدراء والاحتقار الذي كان ينظر السوريون به إليهم، ثم تبيَّن أن الجندي
الفلَّاح لم يكن يبدي من سعة الصدر نحو السوريين مثل ما كان يبديه نحو مواطنيه.
٢٩ نعم؛ لقد ارتأى إبراهيم بأن ينشئ سلسلة مخافر بين المدن الرئيسية بعضها وبعض،
لكن لم يكن للناس ثقة بهذه المخافر واستمروا يرسلون بريدهم بواسطة سعاة يستأجرونهم لهذه
الغاية.
٣٠
وثمة مسألة أخرى كانت مثارًا للخلاف ومنشأ للصعوبات، وهي خاصة بآراء إبراهيم السياسية؛
فإنه كان أشد من أبيه تعلُّقًا بفكرة إحياء الخلافة العربية، ولم يكن محمد علي ممن يفكرون
جديًّا في هذه المسألة، وإن كان قد عُرِفَ عنه أنه كان يداعب هذه الفكرة من آنٍ لآخر،
وقد
كانت ميول محمد علي بين روح الاستقلال السياسي وبين إصلاح الإمبراطورية العثمانية، وهذه
الغاية الأخيرة كانت أهم ما تطمح إليه نفسه، وكان يلوح له أن العرب عنصر أحط من العنصر
التركي، وأنه في حاجة إلى تعليم طويل وشاق؛ ولذا لم يكن يسمح في عهده بأن يشغل أحد من
العنصر العربي مركزًا خطيرًا لا في الإدارة ولا في الجيش، أما ابنه إبراهيم فكان على
النقيض
من ذلك؛ ولذا رأيناه يسرف في تشجيع العنصر العربي. وقد ذكر كاتب فرنسي — هو «بوالي كومب»
—
أن خطة إبراهيم هذه قد أدت به إلى متاعب في الإدارة العسكرية، وأنه كان بطبعه شغوفًا
بالمعيشة في وسط جنوده مع رفع الكلفة بينهم وبينه، بل إنه كثيرًا ما كان يقوم بالألعاب
الرياضية معهم ويتغنى بالعنصر الذي نشأوا من سلالته ويقارنه بالعنصر التركي البليد الساقط.
ولقد سأله أحد الجنود العرب يومًا كيف يتفوَّه بأمثال هذه العبارات مع أنه تركي صميم؛
فأجابه إبراهيم من فوره بحرارة: «كلا؛ لستُ تركيًّا! فلقد هبطتُ أرض مصر وأنا طفل رضيع،
ومنذ ذلك الحين قد غيَّرَتْ شمسُ مصر الدَّمَ الذي يجري في عروقي، وصيَّرتني عربيًّا
صميمًا.» وكانت حاشيته تُردِّد هذه الآراء. مثال ذلك أن مختار بك كان يجاهر بأنه هو وأمثاله
جيء بهم إلى مصر وهم في المهد، وعليه فلا تربطهم بالعنصر التركي أي رابطة وهم تابعون
لا
للجنس الذي لا يترك إلا الخراب وراءه أينما حل، بل لذلك الجنس النبيل الذي أضاء طريق
العالم
في العلوم والاختراعات وغطى أنحاء المسكونة بالمدن الناضرة والتماثيل البديعة التي أقامها
على طول المسافة بين بلاد العجم إلى بلاد إسبانيا على أن التغنِّي بتلك السلالة الوهمية
لم
يكن من شأنه إقناع الجنود من الجنس العربي الذين كانوا يُحرَمون من الترقيات لينعم بها
رجال
يزعمون أنهم (من الناحية الروحية فقط) من سلالة الجنس الذي انحدروا منه أنفسهم. ومما
ضاعف
شعور السخط هذا وزاد انتشاره التشريع الذي اقتبسه إبراهيم من القانون الفرنسي بمنع العقوبات
العرفية؛ فإن أقل توبيخ كان يؤدِّي في الحال إلى المطالبة بعقد الديوان (أي إجراء التحقيق
بواسطة المحكمة)، وكثيرًا ما كان الجنود يتوعدون ضباطهم برفع شكايتهم إلى إبراهيم نفسه.
٣١
ولم يَكُ تدهور النظام العسكري وتضعضعه بالبلاد الوحيدَ الذي ترتَّبَ على تحمُّس إبراهيم
للجامعة العربية وأخذه بمناصرتها؛ فإنه لم يكن يقتصر نحو إبداء ميوله نحو تلك الجامعة
سرًّا، كلا بل كان يتكلم علنًا عن إنعاش القومية العربية والسعي إلى نظم كل من يتكلمون
بلغة
الضاد تحت حكم واحد وفتح أبواب وظائف الدولة على مصاريعها أمام أبناء العرب، وكذلك تقليدهم
أسمى المناصب في الجيش واشتراكهم معه في التمتع بنعيم الإيرادات العامة وأبهة الحكم وعظمته،
على أن هذه الآراء والنوايا مهما كانت محبوبة في مصر كانت تُقابَل في سوريا مقابلة أخرى؛
لأن التمييز لم يكن بين الأهالي باعتبارهم أتراكًا أو عربًا، كلا بل كانوا يميزون بعقيدتهم
الدينية فقط أي إن أهالي سوريا كانوا منقسمين إلى مسلمين ومسيحيين فحسب، وعليه فإن نظريات
إبراهيم لم يكن من شأنها أن تطمع السوريين في شيء كانوا محرومين منه، في حين أنهم كانوا
يكادون يوضعون في مستوى المسلمين الذين كانوا موضع ازدراء السوريين واحتقارهم، أو بعبارة
أخرى أن هذه الآراء بدلًا من أن تغرس حب إبراهيم في قلوب الأهالي قد جعلته هو وسياسته
موضع
ارتياب الشعب السوري.
وفي الحق لم يُرزَق إبراهيم ما كان لأبيه من هيبة حكم الناس وإسلاس قيادهم؛ فإن الباشا
الكبير كان يعرف بالضبط مواضع الندى ومواضع السيف، ومتى يترفق في القول ومتى يتوعد ومتى
يضرب ضربته الحاسمة؛ فكانت ملاطفته أشبه شيء بالقطيفة المخيفة التي تكسو براثن النمر.
ولم
يكن تعوزه الحيلة أو يخونه ذكاؤه لابتكار مختلف المعاذير والتعللات المتعددة لتنفيذ
إرادته.
أما إبراهيم فكانت له موهبة واحدة؛ فقد كان جنديًّا باسلًا موفقًا وكان مبدأه أن القوة
وحدها هي الكفيلة بتذليل المصاعب، ولو كان إبراهيم تُرِك وشأنه لما تردَّدَ في تحدِّي
كلمة
أوروبا المتحدة ولهدَمَ في ساعة واحدة ما تجشَّمَ أبوه نحوًا من ثلاثين عامًا في إنشائه
وبنائه، وإذا كان إبراهيم قد فشل في اكتساب السوريين إلى جانبه فإنه قد نجح في نشر لواء
الأمن والسلام والتسامح الديني، كما أنه وُفِّق في تقليم أظافر المغيرين وتنشيط الزراعة
وتطهير العدالة مما كان عالقًا بها من الشوائب والأدران كما ساعد على توسيع دائرة التجارة،
ولكن مسلمي سوريا لم يذعنوا لإبراهيم إلا رهبة من جبروته وخشية من سطوته؛ ولذا كانوا
يتربصون به الفرص الملائمة لخلع يده والتخلص من حكمه والعودة من جديد إلى ولائهم السابق
واستعادة ما كان لهم من السيطرة التقليدية على المسيحي المكروه وغسل عار ذكرى غلبة المصريين
وفتحهم لسوريا.