مقدمة
ليست هناك حقائق، هناك فقط … تأويلات.
•••
نحن نعيش في العالم: في التَّاريخ، في العيان، في «الشهادة»، ولسنا نعيش في كونٍ آخر، وكل معنًى إنما هو معنًى متعلقٌ بوجودٍ تاريخيٍّ عيني محدد، معنًى مرتبطٌ ﺑ «تاريخيةٍ» معينة، منسوبٌ لها، محمولٌ عليها، مسندٌ إليها.
ويشتمل وجودنا ككائناتٍ على موقفنا وموقعنا، وعلى أدواتٍ في متناول أيدينا نتناول بها العالم ونفصح عنه، وعلى «فهمنا المسبق» للعالم.
وعالمنا الرمزي ليس منفصلًا بأية حال عن وجودنا، وبخاصةٍ عالمنا اللغوي: نحن لغة؛ بمعنى أن ما يميزنا كأشخاصٍ هو أننا موجوداتٌ واعية بذاتها، أي إن بوسعها أن تعرف نفسها رمزيًّا وأن تنعكس على نفسها تأمليًّا، «اللغةُ تقولُ الإنسانَ» (هيدجر)، نحن لسنا موجودات تستخدم الرموز بل موجودات مشيدة بهذا الاستخدام مجبولة به، يترتب على ذلك أنَّ كلَّ خبرةٍ هي قابلةٌ للإفصاح من حيث المبدأ، قابلةٌ للتجسد الرمزي، فهي تجلب لنا إلى الوجود من خلال تمثلها الرمزي، وكما لاحظ بول ريكور في «الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا» — ﻓ«أن تجلب الخبرة إلى اللغة ليس تغييرًا لها إلى شيءٍ آخر، بل أنت بنطقها وإنمائها إنَّما تجعلها تصبح ذاتها.» ويترتب أيضًا أنَّ الوجود والمعنى، بالنسبة للموجودات البشرية، هما على نفس المكانة وبنفس المنزلة رغم أنَّ الترميز (أو الدلالة) لا يستنفد الخبرة كلها، لا يقولها بأكملها.
نعيش «نحو» شيءٍ ما، وفي توجه إلى الخبرة، ومن ثم فهناك بنيةٌ قَصْدية في النصية والتعبير، وفي معرفة الذات وفي معرفة الآخرين، هذه القصدية هي أيضًا مسافة: الوعي ليس في هوية مع موضوعاته، بل هو يقصد إلى موضوعاته ويراودها.
الوعي الذاتي فعلٌ ثقافي، والثقافة فعلٌ شخصي، وفي هذا يقول ريكور: «من ناحية، يمر الفهم الذاتي خلال مُنعطَف فهم العلامات الثقافية التي فيها توثِّق النفس ذاتها وتشكِّلها، ومن الناحية الأخرى فإنَّ فهم النَّص ليس غايةً في ذاته، إنَّه يتوسط علاقة المرء بذاته، المرء الذي لا يجد في دائرة التأمل المباشر معنى حياته الخاصة؛ لذا لا بد أن نقول بنفس القوة: إنَّ التَّأمل ليس شيئًا بدون وساطة العلامات والأعمال (الفنية، الأدبية … إلخ) وأنَّ التفسير ليس شيئًا إذا لم يكن مندمجًا كحالةٍ وُسطى في عملية الفهم الذاتي، وباختصار: في التأمل الهرمنيوطيقي — أو في الهرمنيوطيقا التأملية — فإنَّ تشكيل «النفس» يكون متعاصرًا مع تشكيل «المعنى»» (بول ريكور: ما هو النص).
وفي علاقة الثقافة بالنفس يقول جادامر: «بزمنٍ طويل قبل أن نفهم أنفسنا من خلال عملية التفحص الذاتي، فإننا نفهم أنفسنا بطريقة بديهية في الأسرة والمجتمع والدولة التي نعيش فيها، إنَّ بؤرة الذاتية هي مرآةٌ غير أمينة، وإدراك المرء لذاته لا يعدو أن يكون بصيصًا ضئيلًا في الدوائر المغلقة للحياة الاجتماعية، هذا هو السبب في أن تحيزات الفرد تشكل الواقع التاريخي لوجوده.»
في معرض تفسيره لهيدجر يتناول جادامر في «الحقيقة والمنهج» مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتنا مع النصوص، فيقول بأننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة، أي بإسقاطٍ مسبق، غير أنَّ علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرارٍ في ضوء ما يَمْثُل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعةٍ لإسقاطٍ مسبق أن تضع أمامها إسقاطًا جديدًا من المعنى، ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطات المتنافسة جنبًا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحًا، ويتبين كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم.
إنَّ المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المسبق، غير أنَّ العالم من حيث هو عيني ويتجاوز ترميزنا له، يحملنا على مراجعة أفهامنا المسبقة، والخبرة التأويلية، اللقاء بالآخر، الإصغاء إلى «صوت الآخر»، انصهار الآفاق، ذلك الانصهار السياقي التاريخي، رغم أنه انصهار لغوي، هو ما يتيح لنا الهروب من سجن اللغة.
يُجسد النص «أسلوب» المؤلف، بصمته الشخصية وختمه الفردي، فهمه الشعوري واللاشعوري للعالم وتوجهه فيه، وتلك المنطقة التي تشغله والتي تُعرف (بالمعنى الفينومينولوجي الأوسع) بالقصدية، ومن المحتم أن أسلوب المؤلف، ووجوده لذاته بالمعنى السارتري، سيكون أيضًا أمرًا ثقافيًّا، حيث إن الدلالة هي جلبٌ ثقافي للخبرة وإبراز لها إلى حيز الوجود.
وقد أضاف يورجين هابرماس مسحةً سياسيةً إلى مشكلة الفهم التاريخي، من حيث إن تجسُّد الفهم في النص قد ينطوي على تحريف مترسب، وتواصلٍ مشوهٍ تشويهًا منظمًا، إن آفاق المرء نفسه قد تشتمل على رواسب ثقيلةٍ من الظلم لا يعرفها ولا يعترف بها.
-
أين يبدأ ما هو مُعاصرٌ للنص وأين ينتهي؟
-
كيف يمكننا أن نفصل بين ذلك الشيء المكوِّن للنص والذي هو تاريخي بالنسبة إليه (أي سابق على الموقف المعاصر للنص) وبين ذلك الشيء المعاصر للنص فحسب؟
-
كيف يمكننا أن نتيقن من معرفتنا في أية حالة؟
يبدو أن تعافي المعنى الأصلي هو، في كثير من الأحيان، وهمٌ وضلالٌ وغايةٌ لا تُدرك، فالمعنى الأصلي قد مضى «في ذمة نفسه!» … تبدد فور انبثاقه ولم يبقَ منه إلا تأويله! إنه كذَكَر النحل الذي يموت فور الإخصاب، يموت فور التقائه بحقيقته، لا يحكم «الأصل» إلا يومًا واحدًا يُخلع بعده ويصبح سبيًا للحاكم الأبدي الفعلي، التأويل.
ليست هناك حقائق، كما يقول نيتشه، هناك فقط تأويلات، والإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقًا لتأويل ميراث وعالم مشترك تَسَلَّمَهُ من الماضي، ميراث حاضر وناشط دائمًا في أفعاله وقراراته، غير أننا، بنزغٍ مثالي عتيد، نظن أننا نعيش في الحقائق، ويصر كل منا على أن عقله يحتكر الحقيقة، وعلى أن الحقيقة قد وقعت في غرام عقله بخاصة، وأقامت في «سياقه» بالذات، وقلما نتفطن إلى أننا نعيش في عالمٍ من التأويلات التي تتضارب أمام أعيننا، فتثير غبارًا حينًا، وتسيل دماءً في كثير من الأحيان.
ورغم أن «فهمنا المُسبق»، كما أكد هيدجر وجادامر، هو أداتنا وعُدتنا للفهم، فنحن نصادر به ولا نريد أن نصهر أفقنا بأفق النص، ولا نريد أن ندخل في حوارٍ صادق مع النص، لا نريد أن نصغي إلى «صوت الآخر»، لا نريد أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة في ضوء ما يبزغ أمامنا في عملية القراء، وبذلك نتصلب عند فهمنا المسبق لا نعدوه، ولا نقرأ النص قراءةً حقيقيةً، بل نُخْرِس النص ونفرض عليه ما ليس فيه، وتظل رواسب سوء الفهم تتراكم عبر السنين، بانتظار «هيدجر جديد» يعيد صقل الكلمات حتى يشع بريقها الأصلي من جديد، هكذا يفوتنا مغزى النص ورسالته وبلاغه، ويشيح عنا النص وقد وَجَدَنا غير جديرين بهديته.
آفة المذاهب جميعًا هي أنها تتحول على يد التابعين وتابعيهم إلى أصنامٍ مفرغة من الروح، وقوالب صفيقة هجرتْها معانيها الأصلية ومقاصدها الأولى، وسكنتها عناكب الجمود وأفاعي التعصب، بحيث لو عاد مؤسسوها إلى الحياة لَجَهِلَهم السدَنةُ الجُدد وما عرفوهم، ورأوهم ناشزين منشقين، وأعادوهم ثانيةً إلى الموت.
الكويت في ١٥ / ٤/ ٢٠٠٣م