هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
ما زال الإنسان يصنع الآلات ويطور الأدوات حتى أصبح هو ذاته آلةً بين الآلات وأداةً بين الأدوات، والأدهى بعد ذلك أنه صار عبدًا لها يأتمر بأمرها ويدور في الفلك المدوِّخ الذي أفرغته، ويرزح في مجال القهر الجديد الذي أفرزته.
شيد هابرماس فلسفته على نفس الأسس الفكرية التي تقوم عليها مدرسة فرانكفورت بصفة عامة، وأهمها أن المعرفة هي نتاج المجتمع، وهو نتاجٌ عرضةٌ في كثير من الأحيان للتزييف والتعمية والتشيء، وأن التأمل النقدي كفيلٌ بكشف هذا الزيف والتغلب على هذا التشيء، وفي عام ١٩٦٨م أصدر هابرماس كتابه «التقنية والعلم كأيديولوجيا»، وقد أفاد فيه من أفكار هربرت ماركوز (وبخاصة في كتابه «الإنسان ذو البُعد الواحد») وافتتح المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرانكفورت.
تَجَذَّرَ هذا العداء للفكر الوضعي في قلب مدرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها، وصار هاجسها الأكبر كشف الأسس النظرية والتاريخية والاجتماعية التي تُسيِّر هذا الفكر، وإماطة اللثام عن «إرادة القوة» التي تتبطن هذه الأسس، الأمر الذي استدعى من أقطاب مدرسة فرانكفورت جميعًا التنقيب عن أصول (جينيالوجيا) تلك النزعة العلمية المتطرفة لدى المذاهب الوضعية.
(١) هربرت ماركوز
هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعية (الإيجابية) اسمٌ سجالي، أي لا يمكن فهمه إلا في سياقٍ خلافي واختلافي، أي لا يُفهم إلا باستحضار الخصم الذي يحاربه، حينئذٍ يتبيَّن للمرء أنه نُحت للدلالة على ذاك التحول من نظريةٍ فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية، فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت يعني تأكيد النظام بدلًا من أي خروج على النظام، وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلًا من الفعل الحر، والتآزر بدلًا من اختلاف النظام.
فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكالٌ تكنولوجيةٌ بمعنًى جديد، ومما لا شك فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد أسهما في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي، ولكن الرقابة التقنية غدت اليوم تعبيرًا عن العقل نفسه الذي أصبح خادمًا لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيًّا وكل معارضة تبدو مستحيلة، يخضع المرء في المجتمع التقني الجديد للونٍ جديدٍ من التبعية: تلك التي تُخضع المرء ﻟ «نظام أشياء موضوعي»، هو القوانين الاقتصادية وقوانين السوق وغيره … ولئن كان «نظام الأشياء الموضوعي» هو أيضًا من صنع السيطرة ونتائجها، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجةٍ أكبر من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية، ويستغل في الوقت نفسه وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال.
يتبين إذن أن التقنية ليست شيئًا محايدًا عديم اللون والطعم والرائحة، كما أنها ليست مجرد تطبيقٍ عملي لممارسةٍ نظريةٍ هي العلم، إنها منطقٌ أو وضعٌ أو موقفٌ فلسفي أو أيديولوجي، ليست آلاتٍ وأدواتٍ ووسائل عملٍ في يد الإنسان، بل هي أدواتٌ ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.
(٢) التقنية والعلم كأيديولوجيا
يرى هابرماس أن العلم ليس بريئًا وليس محايدًا وليس نزيهًا!
ويعود الفضل إلى ماكس فيبر في استخدام مفهوم «المعقولية» لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجوازي للمبادلات والأنماط البيروقراطية للسيطرة؛ وعليه فإن العقلنة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي، والتي تسير بموازاة تصنيع العمل الاجتماعي وميكنة الحياة الاجتماعية وإضفاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان، إن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات، تُحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلها تحقيق «غايات» و«أهدافٍ» معقلنة.
ويؤكد هابرماس أن «العقلنة» المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة عملية إضفاء صيغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني، فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويُفقدانها طابعها كمؤسسات، تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.
هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفًا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع هذا الأخير، وهابرماس، هنا، يقتفي أثر ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية، وكأنها مجرد عمليةٍ تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسةٍ رأسمالية متوخيًا منه تحقيق غايات وأغراض عملية استنادًا إلى معايير العلم والتقنية، فهو يرى أن خلف هذه «المعقولية» المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته، فكل عقلانية تكنولوجي يحايثها (يباطنها ويحل بها) منطقٌ للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء، فما دامت معقوليةٌ من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثًا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتهيئة الأنظمة المناسبة والمواتية لبلوغ غاياتٍ ثابتة ومحددة، فإنها تبقي شيئًا يتم في غفلةٍ عن التفكير، وفي خلسةٍ من المصالح الاجتماعية الكبرى، معقولية من هذا القبيل لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني، إنها تفترض نوعًا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع، ذلك أن النشاط العقلي حينما يضع لنفسه غايات، يتحول إلى رقابة؛ لذا فإن «عقلنة» شروط الحياة تعني في نهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسةٍ لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنها شرعية سياسية، وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس إلى ماكس فيبر.
ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيًّا تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي المعيمن والمسيطر لتتحول إلى نوعٍ من السيطرة «المعقلنة»، من دون أن تتخلى مع ذلك عن طابعها.
لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو إحدى مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود، ومبادئ العلم الحديث قد رُكبت وبُنيت، مسبقًا، على نحوٍ يمكن معه استخدامها كأدواتٍ مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفةٍ أوتوماتيكية، وكان من نتيجة ذلك أن اندمجت النزعة الإجرائية النظرية بالنزعة الإجرائية العملية وامتزجت بها، وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم بحتة، ولكنه قدم أيضًا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة، ولقد أصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادمًا للعقل العملي، ولقد كان هذا التلاقي مفيدًا لكليهما، واليوم لا تزال السيطرة قائمة، وقد أخذت طابعًا أكثر شمولًا بفضل التكنولوجيا، وبوجهٍ خاص بوصفها تكنولوجيا، فالتكنولوجيا تبرر ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقافة.
(٣) المعرفة والمصلحة
في كتابه «المعرفة والمصلحة» الذي صدر عام ١٩٦٨م (أي في نفس العام الذي صدر فيه «التقنية والعلم كأيدلوجيا») رسم هابرماس الخطوط العريضة لتأويليته النقدية، وذلك عندما قسَّم المصلحة البشرية إلى ثلاثة أقسام: المصلحة التقنية أو الأداتية، والمصلحة العملية، والمصلحة التحررية.
«أما المصلحة التقنية» أو الأداتية فهي تلك التي تحكم العلوم التجريبية، وتستخدم المناهج الإمبيريقية-التحليلية للوضعية لكي تستخلص المعرفة الأداتية للعلوم الطبيعية، إن ما يميز عبارات العلوم التجريبية هو أن دلالتها تكمن في قابليتها للاستغلال التقني، وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية.
«وأما المصلحة العملية» فمجالها التواصل بين البشر، وتستخدم المنهج التأويلي، لتنتج المعرفة العملية.
«وأما المصلحة التحررية» (المصلحة الرامية للتحرر والانعتاق) فتستخدم النظرية النقدية لكي تظفر بمعرفةٍ تُحرر الإنسان من الزيف والوهم.
(٤) المعركة الفكرية بين هابرماس وجادامر
في كتاب «المعرفة والمصلحة» ظل الطابع السائد هو نقد المعرفة، ولم يُقَدَّر لهابرماس أن ينشغل بالهرمنيوطيقا النظرية والعملية بشكلٍ جاد ودائم، ويتحول بالتالي من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، إلا بعد اشتباكه مع جادامر في سجالٍ عنيف (لعله أطول المعارك الفكرية في التاريخ الحديث؛ إذ استمر عدة عقودٍ من الزمن)، في هذا الجدل نجد هابرماس يأخذ على جادامر ميله إلى إخضاع الفهم والتأويل لسلطة التراث (التقليد/الإرث)، فالتراث في نظر هابرماس (وفي نظر كل مفكر ذي خلفية ماركسية) هو وعاءٌ يحوي تحريفاتٍ أيديولوجيةً هائلة ويختزن في قلبه الزيف والتعمية والتَّشْيِيء، زد على ذلك أن التراث ليس شيئًا متصلًّا موصولًا ثابتًا، فهو عرضةٌ للتمزق الذي يحدثه التعقل والتفكير العقلاني، وهو مليءٌ بالتمزقات التي تخلق ألوانًا من القطيعة والانقلاب، ثمة مصالح حقيقيةٌ في المنهج، وفي العلم بصفةٍ عامة، ينطوي عليها التراث بحيث لا يكفي أن نُلم بأسس الفهم ودعائمه بل يلزمنا خلاص، يلزمنا انعتاق من ربقة التراث وبخاصةٍ إذا كان هذا التراث قمعيًّا.
كما سخر هابرماس من إحجام جادامر عن التنظير في المنهج التأويلي واكتفائه بمجرد عرض مفاهيم موغلةٍ في التجريد من مثل «الآفاق» و«التحام الآفاق»، الأمر الذي استهدف الهرمنيوطيقا لوابلٍ من التهكم والازدراء من جانب الوضعيين.
أما السلطة التي دافع عنها جادامر وبرأها، والحكم المسبق (أو التحيز) الذي جعل منه أداة للفهم كما أراد هيدجر، فقد نالا قسطهما من التفنيد والنقد، ذلك أن هابرماس يرى الأحكام السبقية التي نتشربها من تراثنا كثيرًا ما تكون عثراتٍ وقيودًا على العقل، وينبغي أن نخضعها للتمحيص النقدي باسم العقل والتأمل، لا بد من أن نضع طاقة العقل وسلطانه في مواجهة الطبيعة الظاهرية والقبول السطحي لأطروحات التراث وطرائقه وسُبله، أما المبدأ القائل بعبثية التخلص من الأحكام المسبقة واستحالته، والذي أخذه جادامر عن هيدجر، فهو مبدأ خاطئ في نظر هابرماس الذي يؤكد أن بإمكان الهرمنيوطيقا أن تقهر التحيزات عن طريق المنهج النقدي، وإذا كان جادامر قد حاول أن يزيل التوتر بين النزعة الموضوعية والنزعة الذاتية ويذيب الفوارق بينهما ويفض الاشتباك، فإن هابرماس قد أعاد مرةً ثانية حكم الموضوعية في الهرمنيوطيقا ورد لها سلطانها.
وأما التراث الماركسي في نقد الأيديولوجيا، وهو رافدٌ أساسيٌّ لفكر مدرسة فرانكفورت بصفةٍ عامة، فهو يقدم نموذجًا آخر للنفاذ إلى البنى التحتية للمجتمع والنظر إلى البنية الاجتماعية للمعرفة، يقول ماركس في كتابه «الأيديولوجية الألمانية»: «الوعي لا يحدد الحياة، الحياة هي التي تحدد الوعي.» غير أنه بين الضروب المختلفة من الوعي والتعبير في أي مجتمع هناك وعيٌّ سائد ومسيطر وغالب، ووعيٌ آخر مسودٌ وخاضعٌ ومغلوبٌ على أمره، الوعي الغالب هو وعي الطبقة الحاكمة، وهو يشكل أيديولوجية المجتمع، ويعمل على تبرير سلطة الطبقة المسيطرة وخدمة مصالحها وإضفاء الشرعية على أوضاعها، مهمة النقد الماركسي للأيدلويوجيا هي أن يكشف النقاب عن هذه الخدع الأيديولوجية للوعي المسيطر والتعبيرات السائدة، ويرتكز على المصلحة المحررة ويهدف إلى تحرير الطبقات المقهورة.
أفاد هابرماس إذن من التراثين الماركسي والفرويدي، وشيد نظريةً تأويلية تبدأ من افتراض أن كل معنى ينتج عن الاتفاق هو موضع شك في أن يكون نتاج اتفاقٍ زائف، وأن يكون من ثم معنى زائفًا، ومهمة الهرمنيوطيقا النقدية إذن هي البحث عن اتفاق حقيقي ومعنًى أصيل، وحيث إن عملية البحث عن اتفاق هي في أمثل الأحوال مغامرةٌ عقلية، فقد استعار هابرماس فكرة العقلانية التي قال بها ماكس فيبر، ولا سيما فكرتي الفعل والفعل العقلاني.
(٤-١) نظرية الفعل التواصلي Theory of Communicative Action
- (١) «فعل عقلاني موجه إلى النجاح»، وهو ينقسم بدوره إلى صنفين:
- فعل أداتي غير اجتماعي: يتخذ نموذج العقلانية التقنية.
- فعل استراتيجي اجتماعي المجال: بمعنى أنه يجري في سياقٍ توجد
فيه أطرافٌ عقلانيةٌ أخرى، والفعل الاستراتيجي هو بالضرورة
فعلٌ تنافسي ومخططٌ بهدف قمع أفعال الأطراف الأخرى أو محاصرتها
أو التفوق عليها، وينقسم الفعل الاستراتيجي إلى قسمين:
- (أ) فعل استراتيجي صريح: حيث جميع الأطراف على علمٍ بأنها في عمليةٍ تنافسية، مثال ذلك المباريات، المناقشات، الإجراءات القانونية … إلخ.
- (ب) فعل استراتيجي مُضمر: وينقسم بدوره إلى صنفين:
- فعل ينطوي على خداعٍ شعوري: مثال ذلك التلاعب والإغواء، حيث هناك طرفٌ واحد يدري بالخدعة.
- فعل ينطوي على خداعٍ لا شعوري: مثال ذلك التحريف الأيديولوجي، حيث جميع الأطراف لا تدري بالخدعة.
- (٢) «فعل تواصلي Communicative Action»، وهو الفعل العقلاني الوحيد الذي يرمي إلى فهمٍ حقيقي، والفرق المميز له عن الفعل الاستراتيجي هو أن الفعل التواصلي غير تنافسي، ورغم أنه عقلاني الصبغة فهو قائمٌ على التواضع ومدفوعٌ بالفهم التعاوني البينذاتي Intersubjective ومجردٌ من الأنانية والمصلحة الذاتية.
يذهب هابرماس إلى أننا بصدد الفعل التواصلي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية للوصول إلى الغاية المشتركة من هذا الفعل وهو الفهم المتبادل، وبصدد الفعل الاسترايتيجي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية تكشف النوايا الخبيثة والمقاصد الشريرة التي تتبطن الفعل الاستراتيجي، وحيث إن كلًّا من الفعلين التواصلي والاسترايتيجي يتجسد في اللغة، فإن على الهرمنيوطيقا النقدية أن تولي عنايتها باللغة، وها هنا يبزغ المنعطف اللغوي الشهير لهابرماس: التحول من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، والذي يُدخل النقد الأسلوبي للأيديولوجية عن ماركس إلى داخل نطاق علم اللغة (اللسانيات).
(٤-٢) المنهج التأويلي لهابرماس: البراجماطيقا العامة
-
علم النظم (التراكيبية) Syntatics الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية بعضها ببعض.
-
علم دلالة الألفاظ (السيمانطيقا/المعاني) Semantics الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية ﺑ «الواقع الخارج عن اللغة» Extralinguistic Reality.
-
التداولية (البراجماطيقا) Pragmatics التي تدرس علاقة العلامات اللغوية بمستخدميها من بني الإنسان، فليست اللغة بأي حالٍ شيئًا مخزنًا بالمعاجم وكتب النحو، بل هي شيء متصل بين بني الإنسان، وأيسر طريقة لبيان الموضوعات التي تتألف منها البراجماطيقا هي أن نقول إنها تشمل جميع المسائل التي لا يمكن أن يبحثها اللغويون وفلاسفة اللغة في نطاق علم النظم أو علم الدلالة، والحق أنه في كثير من المناقشات اللغوية تستخدم عبارة «إنها مسألة تداولية لا أكثر» للتهوين من شأن بعض المسائل والموضوعات وعدم أخذها مأخذ الجد.
- العالم ١: عالم البيئة الطبيعية.
- العالم ٢: عالم الأفكار والخبرات الذاتية.
- العالم ٣: عالم المعرفة الموضوعية … العالم الاجتماعي البينذاتي.
- (١) في المستوى الأول نجد الوظيفة الكلامية المحضة للمنطوق أو القول كما يحدث حين أُصْدِر ضوضاءَ صوتيةً أو أكوِّن جملةً مفيدةً أو أقول شيئًا ذا معنًى، ويُسمى هذا الفعل الكلامي Locu. Tionary Act.
- (٢) في المستوى الثاني تأتي الوظيفة الإنجازية للمنطوق أو العبارة؛ إذ يكون القول ذاته «فعلًا»: فحين أكتب في وصيتي على سبيل المثال: «أنا أهب ساعتي لأخي وأوصي له بها» فإنني إذاك لا أصف ما أنا أقوم به ولا أثبت أنني أفعل ذلك، بل أنجز فعلًا وأهب ساعةً، وحين أقول في لحظة عقد الزواج «أنا أرضى بهذه المرأة زوجةً لي» فأنا لا أخبر عن نفسي خبرًا ولا أنقل وقائع الزواج، وإنما أتزوج، إن الجملة هنا ليست مجرد إخبارٍ أو تقرير أو إثبات، إنها جملة إنجازية، منطوق إنجازي، ويُسمى هذا الفعل من أفعال الكلام حيث يكون إنتاج العبارة هو ذاته إنجاز لفعل Illocutionary Act (الفعل الأدائي/الإنجازي/الإنشائي).
- (٣) في المستوى الثالث تأتي الوظيفة الإيعازية أو التحريضية، وذلك حين يريد القائل من قوله أن يُحدث تأثيراتٍ في المتلقي: إقناعًا، رهبة، خشية، سخرية أو ازدراءً … إلخ، ويُسمى هذا الفعل الكلامي Perlocutionary Act.١٣
- (١)
أن تمثل وقائع عن العالم الحقيقي.
- (٢)
أن تعبر عن نوايا وخبرات المتحدث.
- (٣)
أن تؤسس علاقةً بالمستمع.
-
مكوِّن قضوي Propositional.
-
مكوِّن تعبيري Expressive.
-
مكوِّن إنجازي/إنشائي Illocutionary.
-
«فالأفعال الكلامية الخبرية Constative»: معيار صوابها الخاص هو «الصدق» Truth (بمعنى صدق القضية ومطابقة ما في العبارة لما هو في العالم الخارجي).
-
«والأفعال الكلامية الإشهارية Avowal»: معيار صدقها هو «الإخلاص والأمانة وصدق النية» Truthfulness or Sincerity.
-
«والأفعال الكلامية التنظيمية Regulative»: معيار صوابها «الملاءمة أو السداد» Appropriateness or Rightness.
وجديرٌ بالتنويه أن تقييم أفعال الكلام بمعيارٍ أساسي مقيضٍ لها وفقًا للمكون البنائي السائد فيه لا يعني بحالٍ إغفال المكونات الأخرى وإغفال تقييمها بمعاييرها المقابلة، وما كان لنا أن نغفل أن كل فعلٍ كلامي له مكون أساسي غالب وله أيضًا مكونان آخران غير سائدين ينبغي أن ينالا قسطهما من التقييم المناسب وبالمعيار الخاص بكل منهما، وبعبارةٍ أخرى يمكننا القول بأن كل فعلٍ من أفعال الكلام يرفع دعوى صوابٍ واحدةً بشكلٍ مباشرٍ ويرفع اثنتين أخريين بشكلٍ غير مباشر، وعلينا من ثم أن نحلل الفعل الكلامي تحليلًا أوليًّا بواسطة معيار صواب أساسي مناسب للمكون السائد، وأن نحلله تحليلًا ثانويًّا بمعيارَيْن آخرَيْن مناسبَيْن لمكونَيْه الثانويَّيْن، أي إن البراجماطيقا العامة تُسلم بأن كل فعل كلامي يمكن أن يقيم، وينبغي أن يقيم، من ثلاثة منظورات مختلفة، ملقية في هذه العملية شبكةً دقيقةً منسوجة نظريًّا بحيث تتدارك وتصفي أي مقاصد شريرة للفعل الاستراتيجي.
(٤-٣) البراجماطيقا العامة والبرنامج النقدي لهابرماس
-
«فالبراجماطيقا العامة»، أولًا: تقدم نفسها كمعيارٍ أو مقياسٍ ينبغي أن تُعرَض عليه جميع الأفعال الاستراتيجية حتى نكشف النقاب عن برنامجها الشعوري أو اللاشعوري، وعن إرادة القوة التي تضمرها وتُكنها، وبإخضاع كل فعل استراتيجي لتحليل ثلاثي (للصدق، والإخلاص، والملاءمة) يمكن للمؤول النقدي بسهولةٍ أن يعري الفعل ويكشف أنه فعل استراتيجي، ويحدد الطريقة التي يرتكب بها هذا الفعل تشويهًا منظمًا لعملية التواصل، فإذا ما أخفق الفعل الكلامي الإنجازي في أي واحدة من هذه الاختبارات الثلاثة يكون على الفور موضع شك بأنه محمل بعناصر استراتيجية وتحريفات أيديولوجية. بمقدور البراجماطيقا العامة في رأي هابرماس أن تتعقب أخفى العناصر الأيديولوجية التي تنسلك في نسيج اللغة، هذه هي الهرمنيوطيقا النقدية عند هابرماس بالمعنى الدقيق للكلمة، إنها المنهج الذي طور هرمنيوطيقا الارتياب التي تعود لأساتذتها الكبار ماركس ونيتشه وفرويد، وشحذ أدواتها وأرهفها تكنيكيًّا ومنطقيًّا ولغويًّا.
-
«والبرجماطيقا العامة» ثانيًا تنأى عن العالم المتشائم لأساتذة الارتياب الثلاثة، وتتجه إلى عالمٍ أكثر ألقًا حيث يمكن للعقلانية أن تتولى زمام الأمور، والبراجماطيقا العامة تقدم مثالًا يمكن للفعل التواصلي أن يسعى إليه ومجموعة أدوات يعمل بها، وإذا كانت هرمنيوطيقا هابرماس النقدية ارتيابية وتشاؤمية، فإن نظريته في الفعل التواصلي شديدة التفاؤل بل أقرب إلى أن تكون «يوتوبية»، بحيث جعلت فكرته غير الانهزامية عن العقلانية فكرةً بارزة واضحة في العالم بعد الحداثي الذي يُنَظِّر داخله.
إن هابرماس، في حقيقة الأمر، يبعث «الحوار» الجادامري ويحييه بعد أن أثخنه سابقًا وأصماه، وذلك بحقنه بالبراجماطيقا الجديدة التي تطهر «الأفق الجادامري»، و«اللغة» الجادامرية أيضًا، من العدوى الأيديولوجية ومن «إرادة القوة» اللاشعورية، إن هابرماس «جادامري» بمعنًى ما! من حيث إنه يؤمن بالحوار كطريقٍ نهائي إلى العقلانية، لقد سلك الحوار الجادامري في أحكام موقفٍ كلامي مثالي، حيث يُمنح كل أطراف الحوار فرصةً متكافئة للمشاركة في حوارٍ عادل، فيقررون أو يدافعون أو يمحصون دعوى الصواب في أي فعلٍ كلامي، وحيث التفاعل المتبادل غير مقيد ولا مكبوح بالتراتب الاجتماعي والمعايير الملزمة لطرفٍ واحدٍ، وحيث أطراف التواصل مبرأةٌ من أي برنامجٍ استراتيجي.
تذييل
•••
•••
•••
•••
•••