(١) يقين الكوجيتو (ديكارت)
… قلت إنني شككت في كل شيء على الإطلاق … في شهادة الحواس وأحكام العقل ووجود
العالم، غير أني سرعان ما لاحظت أنه بينما كنت أريد أن أعتقد أن كل شيءٍ باطل، فقد كان
حتمًا وبالضرورة أن أكون أنا صاحب هذا التفكير شيئًا من الأشياء … نعم إن شيئًا واحدًا
يظل بمنجاةٍ من الشك، وهو الفكر، أنا واثق من أنني أفكر، وحتى لو شككت في أنني أفكر
فهذا الشك يقتضي أن أفكر أيضًا، وأنا حين أشك، وحين أفكر، وحتى حين أخطئ في تفكيري لا
بد أن أكون موجودًا.
أنا أفكر فأنا إذن موجود Cogito Ergo Sum.
ها أنا ذا قد أزحت التراب والحصى والأنقاض، فخلصت إلى الصخرة الثابتة التي أقيم عليها
صرح الفلسفة التي أتحراها، أنا أفكر فأنا إذن موجود … قضيةٌ صحيحة بالضرورة كلما نطقت
بها وكلما تصورتها في ذهني، وهي من الثبات والوثوق بحيث تعجز كل حجج الشكاك عن زعزعتها،
ولو استطاع الروح الخبيث أن يضلني في كل شيء فلن يستطيع أن يمنعني من اليقين أن ذاتي
موجودة حين أفكر.
١
… غير أن الكوجيتو الذي يعطيني وجودي بأوثق الحدوس يجعلني من جهة أخرى في
عزلةٍ تامة هي عزلة فكري الخاص، فلا أتبين سبيلًا للخروج منها ولا أبلغ أي
وجودٍ من الموجودات خارج نفسي؛ لذا سأبذل جهدي للإفلات من عزلةٍ لو طالت لجعلت
المعرفة البشرية كلها وهمًا وحلمًا، سألتمس للفكر سندًا في الوجود الواقع،
سأثبت وجود الله بالفكر ذاته ليكون ضامنًا لمعرفتي الواضحة المتميزة عن العالم
الخارجي.
ديكارت، مقال في المنهج
هكذا أعمل ديكارت الشك في كل شيء، وفاته أن يشك في الوعي نفسه!
وها هنا بالتحديد تنبري مدرسة الارتياب لكي تعلن زيف الوعي نفسه، وتشهر بحيل الوعي
المباشر وتزيل عنها القناع، هكذا يتعين على أية نظرية عامة في التأويل أن تفسر التعارض
بين صنفين من التأويل: التأويل كتذكر للمعنى أو استعادة له، والتأويل كتعقبٍ لأوهام
الوعي وأكاذيبه وردها إلى أصولها، ويتعين على نظرية التأويل فضلًا عن ذلك أن تقسم كل
مدرسة من هاتين المدرستين الكبريين إلى «نظريات» مختلفة بعضها عن بعض بل وغريبة بعضها
عن بعض (وهو أمر يصدق من غير شك على مدرسة الارتياب أكثر مما يصدق على مدرسة
التذكر)، ثمة ثلاثة أساتذة يبسطون سلطانهم على مدرسة الارتياب، وإن بدوا في الظاهر
مختلفين يلغي أحدهم الآخر، وهم: ماركس ونيتشه وفرويد.
٢
إذا رجعنا إلى المقصد المشترك الذي اتخذه كل واحد من هؤلاء الثلاثة لوجدنا فيه
الاعتزام على النظر إلى الوعي بأسره على أنه وعي «زائف» بالدرجة الأساس، هكذا أعادوا،
كلٌّ بطريقته الخاصة، طرح مشكلة الشك الديكارتي، لنقلها إلى صميم الحصن الديكارتي نفسه.
إن الفيلسوف الذي تدرب في مدرسة ديكارت يعرف أن الأشياء محل شك، وأن الأشياء ليست في
حقيقتها على ما تبدو عليه، إلا أنه لا يشك في أن الوعي هو على ما يبدو لنفسه، ففي الوعي
هناك توافق بين المعنى والوعي بهذا المعنى، ومنذ ماركس ونيتشه وفرويد أصبح هذا أيضًا
محل شك، وبعد الشك في الأشياء بدأنا في الشك في الوعي نفسه.
غير أن علينا ألا نسيء فهم هؤلاء الثلاثة الكبار وندرجهم في «مذهب الشك»
Skepticism، إنهم بالتأكيد ثلاثة هادمين عظام،
ولكن هذا بحد ذاته ينبغي ألا يضللنا، فالهدم كما يقول هيدجر في «الوجود والزمان» هو
لحظةٌ قائمةٌ في كل تأسيسٍ جديد، لقد كان الثلاثة يطهرون الأفق من أجل عالمٍ أكثر
أصالة، من أجل بسط سلطانٍ جديد للحقيقة، لا بواسطة النقد «الهادم» وحده، بل بابتكار
فنٍّ «للتأويل»، لقد تغلب ديكارت على شكه في الأشياء بِبَيِّنَة الوعي، وتغلب هؤلاء على
شكهم
في الوعي بطرح تفسيرٍ للمعنى، وبدءًا من هؤلاء صار الفهم هرمنيوطيقا، ولم يعد البحث عن
المعنى هو الإفصاح عن الوعي بالمعنى، بل فك شفرة تعبيراته.
٣
إن «الكوجيتو»، أي الوعي المباشر، عاجزٌ عن التوصل إلى فهم ما ينتجه؛ ولذا ينبغي عليه
اللجوء إلى خطابٍ آخر لتوضيح إنتاجاته، وهي إنتاجاتٌ تكتسي معنى كامنًا غير مباشر ينبغي
استحضاره ورفعه من مستوى الباطن إلى مستوى الظاهر، تلك هي مهمة التأويل المتمثلة في فك
الآليات التي تتحكم في الشعور وتجعله غافلًا عن ذاته، وهي بذلك تسمح بتقدير درجة
«عبوديته» وتفسير انحسار حقله المعرفي.
ورغم اختلاف الثلاثة الكبار في المناهج المستخدمة وتعثر كل منهم فيما تعثر فيه من
موانع وعقبات، فليس هذا بالشيء الجوهري، وإنما الشيء الجوهري هو أن كلًّا منهم قد
ابتكر، بما أُتيح له من وسائل، ومع تحيزات عصره وضدها، علمًا غير مباشر للمعنى غير قابلٍ
للرد إلى «الوعي» المباشر للمعنى، لقد جهد كلٌّ منهم، بطريقته الخاصة، لكي يجعل منهجه
«الواعي» في فك الشفرة مطابقًا للعمل اللاواعي للتشفير، والذي نسبوه لإرادة القوة
(نيتشه)، والوجود الاجتماعي (ماركس)، والآليات السيكولوجية اللاشعورية (فرويد)، إن
«المكر سوف يُواجَه بمكرٍ مضاعف.»
٤
هكذا يتبين أن السمة المميزة لماركس وفرويد ونيتشه هي الفرضية العامة المتعلقة بكلٍّ
من
عملية تزييف الوعي ومنهج فك رموز هذا التزييف. إن العمليتين تمضيان معًا، ما دام رجل
الارتياب يقوم بعمل رجل الزيف والخديعة ولكن في الاتجاه المعاكس، لقد اقتحم فرويد مشكلة
الوعي الزائف من خلال الطريق المزدوج للأحلام والأعراض العصابية، أما ماركس فقد اقتحم
مشكلة الأيديولوجيات من داخل حدود الاغتراب الاقتصادي، وأما نيتشه، وقد ركز على مشكلة
«القيمة» فقد بحث عن المفتاح الخاص بفضح الكذب وكشف الأقنعة في ناحية إرادة القوة:
شدتها وضعفها.
حقيقة الأمر أن «جينيالوجيا الأخلاق» بالمعنى النيتشوي، ونظرية الأيديولوجيات بالمعنى
الماركسي، ونظرية المُثل والأوهام بالمعنى الفرويدي، تمثل ثلاثة طرق متلاقية لكشف
الزيف، غير أن هناك شيئًا يجمعهم لعله أشمل من هذا، وعلاقةً خفية لعلها أشد وأعمق، إن
الثلاثة جميعًا يبدءون بالارتياب المتعلق بأوهام الوعي، ثم يمضون في استخدام حيل فك
الرموز، غير أنهم جميعًا أبعد ما يكونون عن الانتقاص من منزلة «الوعي»، إنما يهدفون إلى
توسيعه، فقد كان هدف ماركس مثلًا هو تحرير العمل بواسطة فهم الضرورة، على أن هذا
التحرير لا ينفصل عن «الاستبصار الواعي» الذي يناهض تعمية الوعي الزائف وينتصر عليها،
وكان مراد نيتشه هو زيادة قوة الإنسان واستعادة بأسه وشدته، على أن معنى إرادة القوة
يجب أن يسترد بوساطة الشفرات: «الإنسان الأعلى» و«العود الأبدي» و«ديونيسيوس» التي
بدونها تتردى القوة المطلوبة في مجرد عنف دنيوي، وكانت غاية فرويد هي أن يقبض الشخص
المحلل على زمام وعيه ويمتلك المعنى الذي كان غريبًا عنه، فيتسع بذلك نطاق وعيه ويعيش
بطريقة أفضل، ويصبح في النهاية أكثر حرية، وأسعد حالًا إذا أمكن.
٥
(٢) ماركس
ذهب ماركس وإنجلز إلى أن كينونة الأفراد ترتبط بالظروف المادية لإنتاجهم، وأن الأسباب
الحقيقية للسلوك الإنساني غريبةٌ عن الفكر الواعي، فهي متجذرة في التنظيم الاجتماعي
الذي يوجه شعور الإنسان ويجعله في غفلةٍ عن حاجاته الحقيقية ومثله: «إن إنتاج الأفكار
والتصورات والشعور مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا بالنشاط المادي للبشر، إنه لغة
الحياة الواقعية.» (ماركس وإنجلز: الأيديولوجية الألمانية)، الحياة تحدد الوعي، الوعي
لا يحدد الحياة. يعني ذلك أن الحياة المادية هي أساس العلاقات الاجتماعية، وأن الشعور
مشروط بالوجود المادي والاجتماعي، بحيث يستحيل تجريد شعور الإنسان وأفكاره من شروط وجودها
وتحويلها إلى ذات مستقلة وعالم ذهني مفارق للعالم
للمادي؛ ولذا فلا فائدة من الصعود إلى مبادئ مجردة لفهم التاريخ، بل ينبغي الاستناد إلى
الظروف الواقعية الأبسط والأعم التي أشرفت على السيرورة التاريخية، ففي كل مرحلة من
مراحل التاريخ نعثر على جملة من القوى الإنتاجية وعلاقة للبشر فيما بينهم وبين الطبيعة
تنتقل من جيل إلى جيل وتتغير بمفعول هذا الجيل الجديد. في ذلك يكمن الأساس الواقعي لما
يعبر عنه الفلاسفة بألفاظ من قبيل «الجوهر» و«الذات» و«الشعور» و«الفكر»، والتي تقتضي
أن نتتبع نشأتها وتكوينها انطلاقًا من ظروف معينة في إطار حركة التاريخ الطويلة.
٦
على هذا الأساس المادي أقام ماركس نظرية الاغتراب، وهي نظرية واقعية جدلية من حيث
إنها تبرز التناقض التاريخي الحي في صميم ما هو إنساني، وتشير لفظة «الاغتراب» إلى حالة
الشعور الذي ينفصل عن ذاته وتُسلب خصائصه وقدراته، أي تُحوَّل إلى شيءٍ آخر مختلفٍ عنها
ومتسلط علينا، المستلب هو الذي لا يمتلك ذاته. إن الإنسان ليفقد ذاته ويصبح غريبًا أمام
نفسه تحت تأثير قوى معادية وإن كانت من صنعه،
٧ ويتأسس مفهوم الاغتراب عند ماركس، كما كان عند هيجل من قبله، على التمييز
بين الوجود والماهية، بحيث إن الإنسان يختلف في الواقع (بالفعل
Actually) عما هو عليه في ذاته (بالقوة
Potentially) وهذه الحالة تبرز في العمل وتقسيم العمل، أي في إطار خصائص
نظام من العلاقات تميز الرأسمالية بخاصة، ونظام الملكية الفردية بعامة، ذلك النظام الذي
يتسم بسيادة القوى اللاإنسانية في المجتمع، وانحطاط العامل جسميًّا وذهنيًّا
وأخلاقيًّا.
يثبت ماركس أن العمل فعلٌ يتم بين الإنسان والطبيعة، ويتمثل في إنتاج واقع جديد يقوم
فيه الإنسان تجاه الطبيعة بدور قوة طبيعية، وبقدر ما يتطور نظام الملكية الفردية يفقد
العمل طابعه الأصلي المتمثل في التعبير عن قدرات الإنسان، ويتحول هو ومنتجاته إلى وجودٍ
منفصل عن الإنسان، عن إرادته ومشروعه: «إن الشيء الذي ينتجه العمل (المنتج/المصنوع)
يجابهه كالكائن الغريب، كقوةٍ منفصلةٍ عن المنتج، فمنتج العمل هو العمل الذي تثبت وتجسد
في شيء، فهو تموضع العمل.» (ماركس — مخطوطات عام ١٨٤٤م)، بحيث إنه في عملية الإنتاج يعيش
العامل علاقته بنشاطه كعلاقة تربطه بشيءٍ غريب لا يملكه، بقوةٍ سلبية وعاجزة، إن العمل
الذي يبدو حرًّا في المجتمع الرأسمالي هو عملٌ مستغَل ومغترب، لا يحقق ذات العامل كشخص
ولا هو يحقق علاقاتٍ اجتماعيةً وثيقة وسليمة.
والاغتراب في مجال العمل هو أساس جميع الأشكال الأخرى للاغتراب، بما في ذلك الاغتراب
الأيديولوجي، مما يؤكد لنا أن الشعور المزيف هو نتيجة تناقضات قائمة في الواقع، أي في
الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
٨
(٣) نيتشه
يلتقي نيتشه مع ماركس في اتخاذ منهج التأويل والبحث عن الأصل في صميم الواقع: إن
الأفكار والقيم منتجاتٌ يقتضي توضيحها الكشف عن شروط وجودها، ففكرة الضرورة تستند عند
نيتشه إلى فكرة النشوء العيني، بخلاف منهج الميتافيزيقا الذي يتمثل في الصعود إلى أساسٍ
خارقٍ للطبيعة، فمفهوم «الجينيالوجيا» Genealogy يفيد
البحث عن نشأة الظواهر الإنسانية وتطورها، أي معرفة الأصل والصيرورة، بدلًا من العمل
على إضفاء مصدرٍ مفارقٍ إلى نظامٍ جامد من البُنى النهائية الثابتة، إن الماضي لا ينقرض
في حقيقة الأمر، إنه حاضر في الحاضر، وهذا الحاضر يمثل إشكالًا بسبب الأوهام العديدة
التي يُحْدِثها في ذهن الإنسان دون وعي منه.
إن الإنسانية في نظر نيتشه تعيش على عبادة الأصنام: أصنام في الأخلاق، وأصنام في
السياسة، وأصنام في الفلسفة، تلك آلهةٌ باطلة اخترعتها ثم عبدتها، فكان أن ضلت سواء
السبيل، وأخذت تتخبط وتتدافع حتى انقضت على نهايتها، وكأنها كانت تريد منذ البدء
الفناء، فإذا كنا نريد أن نخلص الإنسانية من هذه الحالة، وأن نفتح لها طريقًا فسيحًا
معبدًا أمام مستقبل زاهر، وإذا كنا حريصين حقًّا على أن نجعل لوجودنا معنًى ساميًا، وأن
نرتفع بالحياة في سلم التصاعد نحو القداسة ونحو العلاء، فلنصطنع الشجاعة في أروع
مظاهرها، والصراحة في أفضح صورها؛ كي نواجه أنفسنا وأحوالنا في صبر وثبات، غير خجلين
ولا مستحين، فليس في الخجل أو الاستحياء شفاء من أي داء، «ومن يرد الخلق والإبداع، في
الخير أو في الشر، لا بد أن يبدأ اولًا بالإفناء وإهدار القيم!» يقول نيتشه: «إنني
أحلم بقيام جماعة من الرجال تامين مطلقين، أشداء لا يتهاونون ولا يتساهلون، يطلقون على
أنفسهم اسم «الهدامين» فيخضعون كل شيء لنقدهم، ويضحون بأنفسهم من أجل الحقيقة، يجب أن
يظهر كل ما هو شر وباطل في وضح النهار … فالعقل الحر لا يجزع إذا رأى من الآراء ما
يخالف المألوف، فله مطلق الحق في أن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، أما العقل
المستعبد فهو الذي يرى صوابًا كل ما له ماضٍ طويل، وكل ما يبدو اعتقاده سهلًا، وكل ما
هو نافع، وأخيرًا كل ما ضحى من أجله، فلا يود أن يتصور أن كل هذه التضحية ذهبت عبثًا.»
٩
يذهب نيتشه إلى أن التأويل بطبيعته «يعتمد على
المنظور الشخصي»
Perspectival وهو يقع دائمًا خارج تخوم الموضوعية
Post-Objective بل لا يمكن الفصل بينه وبين مصالح الذين يملكون
زمام الأمور في ثقافة من الثقافات، ومن ثم يمكن الإشارة إلى هذه المصالح باسم
مصالح السلطة
Power Interest، ولا يمكن إماطة
اللثام عن هذه المصالح التي تكمن وراء كل تأويل إلا بالبحث عن أنسابها والتنقيب عن
أصولها (الجينيالوجيا)، أي بتتبع جذورها في التاريخ وفي المجتمع، فكل تأويل يخضع لشجرة
عائلة كثيرًا ما يغفل عنها لأنه يستظل بظلها ويأكل من ثمرها.
١٠
يحمل نيتشه على كل الأحكام الأخلاقية التي أصدرتها الإنسانية، مبينًا في تحليلٍ دقيقٍ
الينابيع التي استقت منها هذه الأحكام، كاشفًا عن المصادر الحقيقية التي تصدر عنها،
فاضحًا الأوهام التي وقعت الإنسانية في أحابيلها، وانتهى إلى نظريته المشهورة في
التفرقة بين نوعين من الأخلاق: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد، أي الأخلاق التي كان
مصدرها الممتازين من الإنسانية، والأخلاق التي كان مصدرها رعاعها والطبقات المنحطة فيها،
١١ يقول نيتشه إن قيم السادة تقوم على القوة والبطولة والمخاطرة والصراحة
والغرو والرقص والرياضة البدنية وكل ما يكشف عن حيوية فياضة حرة مسرورة تحب الحياة
وتُقبل عليها بثقة وعزة، وتبغض الضعف والاستخذاء والضعة والكذب والتملق والنفاق
والمداهنة والمساومة وأنصاف الحلول، لا جرم يثور المسودون والعبيد على هذه القيم
ويخلقون قيمًا معاكسة تقوم على الجزع من الحياة وعدم الثقة بها، وتمجد الضعف والاستخذاء
والعجز وتسميه إحسانًا وبرًّا ورحمة، وتلجأ إلى المداورة والنفاق وتسميه تلطفًا وكياسة،
وتضطر إلى الخضوع فتسميه طاعة، وإلى الذل فتسميه صبرًا، وإلى الضعة فتسميها
تواضعًا.
تعقب نيتشه تاريخ الصراع بين قيم السادة وقيم العبيد، الذي شهد موجات من الجذب والشد
انتهت، مع سقوط نابليون، بانتصار قيم العبيد، وخلُص نيتشه من بحثه إلى نتائج هامة؛
أولاها: أن العلة في الانحلال الأوروبي الذي غمر عصره، ثم فيما عانته الإنسانية كلها
على
مر عصورها من اضمحلال، هو انتصار القيم الأخلاقية الصادرة عن العبيد، وسيطرة أخلاقية
العبيد وشرعة أحكامها على أخلاقية السادة وشرعة القيم النبيلة الأرستقراطية، ووضع قيم
الضعف مكان قيم القوة، وجعل العجز فضيلة ومستلزمات العجز صفات حميدة يحرص على طلبها،
وأصحابها هم الأخيار، أما أصحاب قيم القوة فأشرار. وثانيها: أن منبع الأخلاق والأحكام
القيمية في الأخلاق ليس آمرًا أعلى كما تقول المسيحية، كما أنه ليس العقل الإنساني بما
رُكب فيه من جوهر يأمر بالخير ويميز بينه وبين الشر، وبما في طبيعته من «آمرٍ مطلق»
يدعو إلى فعل «الواجب» دون شرط، ومن غير حاجة إلى استخلاص القوانين الأخلاقية من
التجربة، كما يقول الفلاسفة وعلى رأسهم كانت، وإنما هي الطبيعة الإنسانية بما فيها من
غرائز، وعلى رأس هذه الغرائز جميعًا حب السيطرة وإرادة القوة، وليست هناك أفعال أخلاقية
في ذاتها وإنما هناك تأويل للأفعال الإنسانية وتقييم لها، حسب طبيعة من يقوم بالفعل
والتقييم، وما تطمح إليه هذه الطبيعة من حب للسيطرة وإرادة القوة، والشيء الذي يقع عليه
التقييم في ذاته ليس أخلاقيًّا، وليس مضادًّا للأخلاق، وإنما هو على الحياد.
١٢
وأكبر الأوهام التي يتشبث بها الإنسان هو الاعتقاد بأولوية العقل والتغافل عن
الميكانزمات العميقة التي تفلت من حوزة الشعور، إن اللاشعور هو الذي يحدد كل شيء في
الإنسان في قوله وفعله، إنه يؤسس «الجهل» في صميم هذا الواقع: الإنسان يقول ويفعل على
نحو مغاير لما يظن أنه يقوله أو يفعله! وبإزاحة الشعور عن مركزه و«خلعه» عن «عرشه» تحيل
فلسفة نيتشه الفاعلية المستردة إلى إرادة القوة، بحيث إن اللاشعور سيندمج في العلاقة
التي تربط الشعور، كواقع تابع، بمسألة إرادة القوة التي تُنَصَّب كمبدأ أولي وعلة قصوى،
فإرادة القوة كما تبدو كمبدأ اللاشعور وضرورته ومجاوزته كذلك، وبفضل هذه المجاوزة تطابق
إرادة القوة حركة الحياة من حيث إنها «الحياة» تنحو نحو العلو فوق ذاتها. إن إرادة
القوة هي «الجوهر الأعمق للموجود» من حيث إن كل موجود يسعى إلى مجاوزة ذاته، بذلك تمثل
إرادة القوة مصدر التأويل والتقييم بحيث إن كل أحكامنا الأخلاقية تكون محددة ومنظمة من
جانبها.
١٣
(٤) فرويد
كانت كشوف فرويد صدمةً حقيقية لغرور الإنسان وثقته الزائدة بعقله وتسليمه الساذج
بمحتوى وعيه، ذلك أن الشطر الأكبر من سلوك الإنسان وانفعالاته مرده إلى عناصر لا شعورية
لا يدري عنها شيئًا، «إن جزءًا كبيرًا من الأمور الهامة يقع من وراء ظهر المرء.»
فاللاشعور هو كل حياة النفس التي لا يلعب فيها الشعور إلا دورًا ثانويًّا، لقد تبين أن
الوعي الإنساني ليس أهلًا للثقة المطلقة واليقين الديكارتي؛ لأنه، في مجموعه، «زائف»
و«مشتق» و«مدفوع» و«غافل عن نفسه»، ولا بد من رد محتواه الظاهر إلى أصوله اللاشعورية
الباطنة وترجمة معناه السطحي إلى المعنى اللاشعوري الخفي.
إن الوقائع النفسية، سواء السوية منها والمرضية، لا يمكن التسليم بها على علاتها،
بل
ينبغي النظر إليها كعلاماتٍ يؤدي تأويلها إلى دوافع خفيةٍ تمثل شروط وجودها، فالمعنى
الحقيقي للسلوك المرضي (كالوسواس والقلق والرهاب … إلخ)، على سبيل المثال، يجب البحث
عنه في العالم النفسي اللاشعوري الذي يضيء الظاهر اللامعقول للأعراض المدرَكة.
ومن هنا فإن مهمة التحليل النفسي تكمن في استحضار «كلام خفي» يبدو أن الذات البشرية
تحمله في داخلها، وذلك في ترابط بمسارات نفسية لا شعورية تحدد ردود فعل تفلت من مراقبة
الذات، فحقيقة الخطاب الإنساني تتعالى بدون انقطاع على المعنى الذي يدعي الفكر الواعي
منحه إياه، والخاصية الأساسية التي تميز هذا الخطاب هي عدم شفافيته بالنسبة لمن يتفوه
به، إن المسارات النفسية اللاشعورية تمارس على الأفعال الفردية دفعًا وضغطًا لا يمكن
للإرادة الواعية مقاومتها، وتأكيدًا على أهمية اللاشعور يقول فرويد إنه لا يبالي بأي
اعتراض على واقعية اللاشعور وحقيقته، فاللاشعور هو واقع لا يمكن إنكاره؛ لأنه يتمخض عن
آثارٍ واقعية ملموسة ومدركة كالسلوك الوسواسي (فرويد؛ مدخل إلى التحليل النفسي)،
(يذكرنا ذلك بتعريف كارل بوبر للشيء «الواقعي» أو «الحقيقي» بأنه ذلك الشيء الذي يمكنه
أن يمارس تأثيرًا عِلِّيًّا على أشياء نسلم بواقعيتها «للوهلة الأولى»)
prima Facie.
١٤
هكذا تقف الفرويدية ضد الأنا الجوهري الديكارتي التي تسيطر على كامل الشخصية
وتراقبها، إن العالم النفسي مليء بالسراب والأوهام، ومن ثم فالتحليل النفسي يُخضع الذات
ﻟ «تأويل تاريخي» يُدرجها في مشروع «أركيولوجي» ينشد تفسير الحاضر بالرجوع إلى المصدر
(الماضي). ليس هناك «كوجيتو» أصلي يضع نفسه في حكم يقيني ولا ذات تمثل «موجودًا» يتمتع
بالدوام ومعطى مباشرًا ونهائيًّا.
١٥
إن الذات تتكون تدريجيَّا وتبرز من خلال التاريخ النفسي للفرد في علاقة «تضايف» Correlation مع الغيرية ومع الواقع الموضوعي، فالذات
تتهيكل وتجدد هيكلتها دومًا من خلال لحظات جدلية يتمثل «نسيجها الخلفي» في الممنوع، ولا
يمكن للكائن أن يصبح ذاتًّا بدون أن يجابه تجارب وصراعات مختلفة وأن يرتبط بقوى غريبة
وحتى معادية له، مع ما ينجم عن ذلك من كبت يمثل النظام المحتوم لنفسية «حُكم عليها»
بالتبعية تجاه الطفولة، تجاه الماضي، أي ما هو حتمٌ لازبٌ غير قابلٍ للانقراض، وجملة
هذه الاعتبارات من شأنها أن تفرض حدودًا على كل محاولة تميل إلى إضفاء طابعٍ صارم على
منهج التأويل، إن التجربة التحليلية تحدث في حقل الكلام والعلامات، وليس في حقل
الملاحظة كسائر العلوم.
فالتأويل ينتقل من معنًى إلى معنًى آخر، من الدال إلى شيء آخر يريد أن يكون المدلول
الأصلي، وبالرغم من أن «الأعراض العصابية، مثلها مثل زلات القلم واللسان والأحلام، لها
معنى وترتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة المريض الحميمة»، فإن ذلك لا يسمح بالادعاء بأن هذا
الدال يطابقه مدلول واحد مطلق؛ إذ إن «ظروف الحياة المرضية لا بد أن تكون عديدة ومتنوعة
أكثر مما افترضناه» (فرويد: مدخل إلى التحليل النفسي).
فالمحلل ليس السيد المطلق ولا حافظ المعنى الوحيد للنزاعات النفسية، وليس هناك معنًى
ظاهر وإلى الوراء في الماضي البعيد معنى خفي يدركه نهائيًّا تحليلٌ ذكي: «إن المدلول
يشير إلى اتجاه بدون حدود وإلى طريق غير خطي: المعنى الظاهر والمعنى الباطن قطبان
لمعنى واحد لا يمكن استحضاره ولا إدراكه كمجرد اتجاه لمعنى يخص تاريخًا فرديًّا تتحقق
جدليته الكاشفة والمكونة من خلال ظروف المعالجة التحليلية.»
إن الاعتبارات السابقة الذكر تجعل من «التعديل الداخلي للفلسفة التأملية» أمرًا
ضروريًّا، بما أن الذاتية تعيش تجربة التبعية تجاه وجودٍ لم تضعه يجردها من ملكية أصل
المعنى، إلا أن التأمل الذي يلغي ذاته كتأمل هو كذلك نتاجٌ للتأمل، التأمل النقدي
والتأويلي، التأمل الذي يقتضي التوسط
Mediation، كما أن
فهم الذات لا يتم إلا بالمرور عبر الآخر.
١٦