الفصل الثالث
تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
ثمة تعريفات عدة مختلفة للهرمنيوطيقا كما تطورت في الأزمنة الحديثة، منذ البداية
كانت
الكلمة تشير إلى علم التأويل وبخاصة مبادئ التفسير النصي القويم، غير أن حقل الهرمنيوطيقا
قد تم تأويله (بترتيب زمني تقريبًا) إلى:
-
نظرية تفسير الكتاب المقدس.
-
ميثودولوجيا فقه اللغة العام.
-
علم كل فهمٍ لغوي.
-
الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية (الروحية) Geisteswis-Senschaften.
-
فينومينولوجيا الوجود والفهم الوجودي.
-
أنساق التأويل (سواء الاستجماعي أو التحطيمي) التي يستخدمها الإنسان للوصول
إلى المعنى القابع وراء الأساطير والرموز.
يعد كل من هذه التعريفات أكثر من مجرد مرحلة تاريخية، فكل تعريف — هنا — يشير إلى
«لحظة»
هامة من لحظات التأويل أو مدخل إلى مشكلات التأويل، وبوسعنا أن نطلق عليها، بغير قليل
من
التجوز والحذر الواجب: «التأويل الإنجيلي»، والفقهي اللغوي، والعلمي، والإنساني، والوجودي،
والثقافي، على الترتيب، يمثل كل تعريفٍ وجهةً يمكن منها النظر إلى الهرمنيوطيقا، ويسلط
الضوء على جانب أو أكثر من فعل التأويل، وبخاصة تأويل النصوص، والحق أن محتوى التأويل
نفسه
يعتريه التغير بتغير هذه الوجهة من النظر، وفيما يلي نعرض للخطوط العامة لهذه اللحظات
الست،
وهو عرض يبرهن على تغير التأويل بتغير الوجهة، ويمثل مقدمة تاريخية موجزة لتعريف
الهرمنيوطيقا.
(١) الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية تفسير الكتاب المقدس
يُعد هذا التعريف للهرمنيوطيقا هو أقدم التعريفات، ولعله ما يزال أوسعها انتشارًا،
وثمة ما يبرر ذلك من الوجهة التاريخية؛ لأن اللفظة إنما دخلت في الاستعمال الحديث عندما
ألحت الحاجة إلى مبحث جديد يقدم القواعد اللازمة للتفسير الصحيح للكتاب المقدس، تتميز
«الهرمنيوطيقا» Hermeneutics عن «التفسير» Exegesis بأنها منهج هذا التفسير وأصوله وأحكامه،
فإذا كان «التفسير» وقفًا على الشرح أو التعليق الفعلي، فإن «الهرمنيوطيقا» هي قواعد
هذا التفسير أو مناهجه أو النظرية التي تحكمه، وإذا كان هذا التعريف قد نشأ في حقل
اللاهوت ونما بمقتضياته، فقد اتسع فيما بعد ليشمل الأدب ويشمل النصوص بمختلف
أنواعها.
مع ظهور حركة الإصلاح البروتستانتي ظهرت الحاجة إلى تفسير الكتاب المقدس دون عون من
سلطة الكنيسة، كان على الكهنة البروتستنت، وقد قطعوا صلتهم بسلطة الكنيسة الكاثوليكية،
أن يتكئوا على أنفسهم في تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا لا يستند إلى سلطة الكنيسة،
وبالنظر إلى تعدد التفسيرات الممكنة لأي نص إنجيلي فقد ألحت الحاجة إلى تأسيس مبادئ أو
معايير للتفسير الصحيح، وبينما جرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين واعترت المشروع
الهرمنيوطيقي تبدلاتٌ واسعة من حيث المجال ومن حيث المحتوى، فقد بقي مفهوم الهرمنيوطيقا
محتفظًا بإشارته الأولى بوصفه فن التأويل وعلمه، و«حيثما نشأت قواعد وتفتقت أحكامٌ
واستوت أنظمةٌ لشرح النصوص أو فهمها أو فك رموزها — فثم علم التأويل، أو
«الهرمنيوطيقا»، وفيما بين عام ١٧٢٠م وعام ١٨٢٠م لم يكن يمضي عامٌ دون أن يظهر دليلٌ
تأويلي جديد ليُعِينَ الكهنة البروتستنت في مهمتهم الملحة الجديدة».
(٢) الهرمنيوطيقا بوصفها المنهاج الفقهي اللغوي (الفيلولوجي)
كان لنشأة «المذهب العقلي» Rationalism، متزامنًا
معه ظهور فقه اللغة الكلاسيكي في القرن الثامن عشر، أثرٌ عميقٌ على تأويل الكتاب
المقدس، حيث نشأ المنهج التاريخي النقدي في اللاهوت، وأكدت المدرسة اللغوية والمدرسة
التاريخية في التفسير أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس هي بعينها
المناهج السارية على سواه من الكتب، وأن المعنى اللفظي في الكتاب المقدس يجب أن يتحدد
بنفس الطريقة التي يتحدد بها في بقية الكتب، ومع ظهور المذهب العقلي أحس المفسرون أن
من
واجبهم بذل ما في وسعهم للتغلب على الأحكام المسبقة، يقول سبينوزا في «رسالة في اللاهوت
والسياسة»: «ليس لتفسير الكتاب المقدس معيار آخر غير ضياء العقل الذي يعم كل شيء.»
ويقول لسنج: «إن الحقائق العرضية للتاريخ لا يمكن أن تصبح براهين على الحقائق الضرورية
للعقل.» هكذا يكون التحدي الذي يواجه التأويل هو أن يجعل الكتاب المقدس ذا صلة بالإنسان
العقلاني المستنير.
أدى هذا التحدي، كما لاحظ البعض، إلى «عقلنة المقولات الإنجيلية»، وحيث إن حقائق
التاريخ العرضية كانت تُعد أدنى من «حقائق العقل»، فقد ذهب مفسرو الكتاب المقدس إلى أن
حقائق الكتاب هي فوق الزمن وفوق التاريخ، وأن الإنجيل لا ينبئ الإنسان بأي حقيقة لن
يسعه في نهاية المطاف أن يدركها من خلال استعمال العقل، كل ما في الأمر أنها حقيقة
أخلاقية عقلية كُشف عنها قبل أوانها، مهمة التفسير إذن هي أن يمضي عميقًا في النص،
مستخدمًا أدوات العقل الطبيعي، ويقف على تلك الحقائق الأخلاقية الكبرى التي كان كُتاب
العهد الجديد يقصدونها غير أنها متوارية داخل ألفاظ تاريخية مختلفة، ذهب هؤلاء المفسرون
إلى ضرورة تأسيس فهم تاريخي يمكنه أن يدرك روح العمل ويترجمها إلى ألفاظ يقبلها العقل
الحديث المستنير، ولنا أن نسمي ذلك شكلًا تنويريًّا من «نزع الأسطورية» Demythologizing وإن كانت هذه اللفظة في القرن
العشرين تعني تأويل العناصر الأسطورية في العهد الجديد لا مجرد إزاحتها والتخلص
منها.
وعلى الرغم من اعتقاد «التنوير» في «الحقائق الأخلاقية» الذي أدى إلى ما يبدو الآن
تحريفًا لرسالة الإنجيل، فإن تأثير ذلك على الهرمنيوطيقا وعلى البحث الإنجيلي بصفة عامة
كان صحيًّا، فقد طور التأويل الإنجيلي تقنياتٍ للتحليل اللغوي بلغت مستوًى رفيعًا
للغاية، وألزم المفسرون أنفسهم أكثر من أي وقت مضى بمعرفة السياق التاريخي لروايات
الإنجيل، أصبح على المفسر أن يكون قادرًا على الحديث عن موضوعات الكتاب المقدس الآن
وفقًا لمقتضيات التغير الزمني وبالطريقة التي تلائم أشخاصًا غيرهم مختلفين في الأحوال
وظروف المعيشة، لقد أصبحت المهمة الحقيقية للتأويل مهمةً تاريخية.
مع هذه التطورات والمستجدات أصبحت مناهج تأويل الكتاب المقدس مرادفةً جوهريًّا لنظرية
دنيوية في التأويل — أي فقه اللغة الكلاسيكي — ومنذ عصر التنوير حتى العصر الحاضر أصبحت
مناهج البحث في الكتاب المقدس متصلةً بفقه اللغة ومرتبطةً به بعُرًى لا تنفصم، وهكذا
حل
مصطلح «هرمنيوطيقا الكتاب المقدس» محل «الهرمنيوطيقا» في الإشارة إلى نظرية تفسير النص
المقدس، أما «الهرمنيوطيقا» حين تُقال مطلقةً غير مقيدة فكانت مرادفة تقريبًا للمنهج
الفقهي اللغوي، وصفوة القول أن تصور الهرمنيوطيقا بوصفها إنجيلية تحديدًا قد تحول
تدريجيًّا إلى الهرمنيوطيقا بوصفها القواعد العامة للتفسير الفيلولوجي (الفقهي اللغوي)
شاملةً الكتاب المقدس كموضوع واحد بين موضوعات أخرى يمكن أن تُظلها هذه القواعد.
(٣) الهرمنيوطيقا بوصفها علم الفهم اللغوي
يُعزى إلى أشلايرماخر Schleirmacher (١٧٦٨–١٨٣٤م) أنه
أعاد تصور الهرمنيوطيقا على أنها «علم» الفهم أو «فن» الفهم، يتضمن مثل هذا المفهوم
نقدًا جذريًّا لوجهة النظر الفيلولوجية (الفقهية اللغوية)؛ لأنه يسعى إلى تجاوز مفهوم
الهرمنيوطيقا على أنها مجموع قواعد وجعلها مترابطة نسقيًّا، أي جعلها علمًا يصف الشروط
اللازمة للفهم في أي حوار كان، كانت ثمرة هذا السعي لا مجرد هرمنيوطيقا فيلولوجية بل
«هرمنيوطيقا عامة» يمكن لمبادئها أن تقدم أساسًا لتأويل النصوص بجميع أنواعها.
يُعد مفهوم «الهرمنيوطيقا العامة» مَعلمًا على الطريق وأذانًا ببداية الهرمنيوطيقا
غير
المتخصصة، ولأول مرة يتم تعريف الهرمنيوطيقا على أنها دراسة الفهم ذاته، ولعل من الجائز
أن نقول إن الهرمنيوطيقا الخالصة هنا تنحدر من أبويها التاريخيَّيْن: إنها سليلة التفسير
الإنجيلي وفقه اللغة الكلاسيكي.
(٤) الهرمنيوطيقا بوصفها الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية
كان فيلهلم دلتاي W. Dilthey (١٨٣٣–١٩١١م) كاتب سيرة
شلايرماخر، واحدًا من عظام الفكر الفلسفي في أواخر القرن التاسع عشر، رأى دلتاي في
الهرمنيوطيقا ذلك المبحث المركزي الذي يمكن أن يقدم الأساس الذي تقوم عليه جميع العلوم
الروحية (الإنسانية) Geisteswissenschaften أي جميع
المباحث التي تنصب على فهم أفعال الإنسان وكتاباته وفنه.
لكي نؤول أي تعبير عظيم للحياة الإنسانية يلزمنا، في رأي دلتاي، فعلٌ من الفهم
التاريخي، وهي عملية تختلف جوهريًّا عن الفهم العلمي التكميمي للعالم الطبيعي، ذلك أن
ما نقوم به في هذه العملية من الفهم التاريخي هو معرفةٌ شخصيةٌ بما يعنيه كائن إنساني
آخر، يكمن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الثقافية، في رأي دلتاي، في موضوع الدراسة
من جهة وفي طريقة الدراسة أو منهجها من جهة أخرى، موضوع العلوم الطبيعية هو أشياء
العالم بينما موضوع العلوم الثقافية هو الشخص الآخر أو الأشخاص الآخرون، أما الفارق في
المنهج فقد أوجزه دلتاي في مقولتي:
-
«التفسير» Explanation.
-
«الفهم» Understanding.
تضطلع العلوم بتفسير الطبيعة بينما تنصرف الدراسات الإنسانية إلى فهم تعبيرات الحياة،
العلوم الطبيعية تفسر موضوعها من خلال الروابط «السببية» Causal: إنها «تعرف» موضوعها «من الخارج»، ويبقى موضوعها غريبًا
عن العالم الإنسان، أما «الفهم» فهو في المقابل «يعرف» موضوعه (كائن إنساني أو إنتاج
إنساني) «من الداخل»: إن بمقدوري أن أعرف الحياة الباطنة لشخص آخر لأنني أيضًا شخص،
ليست هذه معرفة بالروابط السببية بل معرفة بشبكة من المعاني مماثلة لشبكة المعاني التي
أفهم بها نفسي.
ذهب دلتاي إلى أن العلوم الإنسانية يلزمها «نقد» آخر للعقل يقدم للفهم التاريخي ما
قدمه كانْت في «نقد العقل الخالص» للعلوم الطبيعية؛ ذلك هو «نقد العقل
التاريخي».
ففي مرحلة مبكرة من تطوره الفكري حاول دلتاي أن يؤسس نقده على صيغة محورة من علم
النفس، ولما كان علم النفس مبحثًا غير تاريخي فقد كانت محاولاته معوقة منذ البداية،
انصرف دلتاي عن هذه المحاولة المبكرة، ووجد في الهرمنيوطيقا — بوصفها مبحثًا معنيًّا
بالتأويل، وبالتحديد تأويل موضوع تاريخي دائمًا وهو النص — وجد فيها الأساس الأكثر
إنسانيةً وتاريخية لمحاولته الرامية إلى صياغة منهج إنساني حق للعلوم الروحية
(الإنسانية/الثقافية) Geisteswissenschaften.
(٥) الهرمنيوطيقا بوصفها فينومينولوجيا «الدازاين» وفينومينولوجيا الفهم الوجودي
في التحامه بالمشكلة الأنطولوجية التفت مارتن هيدجر Martin Heidegger
(١٨٨٩–١٩٧٦م) إلى المنهج الفينومينولوجي لأستاذه إدموند هسرل E. Husserl، وقدم دراسة فينومينولوجية للوجود
اليومي للإنسان في العالم، ضمنها كتابه «الوجود والزمان» Being and Time
(١٩٢٧م) الذي يُعد اليوم تحفته الكبرى والمفتاح الحقيقي لفهم فكره
الفلسفي، وقد أطلق هيدجر على التحليل الذي قدمه في «الوجود والزمان» اسم «هرمنيوطيقا
الدازاين».
لا تشير الهرمنيوطيقا في هذا السياق إلى علم (أو قواعد) تأويل النصوص، ولا إلى منهج
للعلوم الروحية (الإنسانية)، وإنما تشير إلى تبيان فينومينولوجي للوجود الإنساني ذاته.
يشير تحليل «هيدجر» إلى أن «الفهم» و«التأويل» هما طريقتان، أو أسلوبان، لوجود الإنسان،
ليس الفهم شيئًا يفعله الإنسان بل هو شيء يكونه! ومن ثم يتكشف تأويل الدازاين عند هيدجر،
وبخاصة بقدر ما يمثل أنطولوجيا الفهم، يتكشف أيضًا عن أنه هرمنيوطيقا، لقد كان بحثه
هرمنيوطيقيًّا في المحتوى وفي المنهج أيضًا.
هكذا يُعمِّق هيدجر مفهوم الهرمنيوطيقا والهرمنيوطيقي في «الوجود والزمان» فيمثل ذلك
منعطفًا هامًّا في تطور، وفي تعريف، كل من لفظة «هرمنيوطيقا» ومجالها، وبضربة واحدة
أصبحت الهرمنيوطيقا موصولة بالأبعاد الأنطولوجية للفهم، ومتوحدة في الوقت نفسه بالصنف
الخاص من الفينومينولوجيا الذي أتى به هيدجر.
ثم تكفل البروفسور «هانز جيورج جادامير» Hans-Georg Gadamer
(١٩٠٠م–؟)، تلميذ «هيدجر» النابه، بتطويرٍ متضمنًا الهرمنيوطيقا
الهيدجرية (سواء في «الوجود والزمان» أو في الأعمال اللاحقة) إلى عمل نسقي منظم في
«الهرمنيوطيقا الفلسفية» ضمنها كتابه «الحقيقة والمنهج» Truth and
Method
(١٩٦٠م) الذي يُعد أيضًا تحفته الكبرى ويُعد، شأنه شأن «الوجود
والزمان» لهيدجر، من أهم الأعمال التي أُنتجت في القرن العشرين.
يتعقب جادامر في كتابه «تطور الهرمنيوطيقا» بالتفصيل من شلاياماخر إلى دلتاي وهيدجر،
مقدمًا بذلك أول وصف تاريخي تفصيلي للهرمنيوطيقا يشمل، ويعكس أيضًا، الإسهام الثوري
لهيدجر في هذا المجال، على أن «الحقيقة والمنهج» هو أكثر من مجرد تاريخ للهرمنيوطيقا،
إنه محاولة لربط الهرمنيوطيقا بعلم الجمال وبفلسفة الفهم التاريخي، وهو يمثل اكتمالًا
لنقد هيدجر للهرمنيوطيقا في أسلوبها الأقدم عند دلتاي، ويعكس شيئًا من التفكير التأويلي
عند هيجل بالإضافة إلى هيدجر، ويتمثل ذلك في مفهوم «الوعي التاريخي الحق» Effective Historical consciousness
الذي يتفاعل جدليًّا مع التراث المنقول خلال النص ويدخل في حوار خلاق معه.
ويتقدم جادامر بالهرمنيوطيقا خطوة أخرى إلى الأمام، إلى المرحلة «اللغوية»، فيدفع
بأطروحته التي تفيد أن «الوجود الذي يمكنه فهمه هو اللغة»! فالهرمونيوطيقا هي التقاء
بالوجود من خلال اللغة، وينتهي المطاف بجادامر إلى أن يؤكد الصبغة اللغوية للواقع
الإنساني نفسه، وتنغمر الهرمنيوطيقا في الأسئلة الفلسفية المحضة عن علاقة اللغة والفهم
والتاريخ والواقع، هكذا تقف الهرمنيوطيقا في مركز المشكلات الفلسفية اليوم، فهي لا يمكن
أن تتحاشى الأسئلة الإبستمولوجية أو الأنطولوجية، ما دام الفهم نفسه يُعرَّف على أنه
مسألةٌ إبستمولوجية، وأنطولوجية الهرمنيوطيقا بوصفها نسقًا للتأويل (استعادة المعنى
كمقابل لتحطيم الأوثان).
في كتابه De L’interpretation ١٩٦٥م يتبنى الفيلسوف
الفرنسي بول ريكور Paul Ricoer تعريفًا للهرمنيوطيقا
يعود إلى التركيز على تفسير النصوص Exegesis بوصفه
العنصر المحوري المميز للهرمنيوطيقا، يقول ريكور إننا نعني بالهرمنيوطيقا نظرية القواعد
التي تحكم التأويل، أي تأويل نص معين أو مجموعة من العلامات التي يجوز اعتبارها نصًّا،
التحليل النفسي على سبيل المثال، وبخاصة تفسير الأحلام، هو شكل من الهرمنيوطيقا من غير
شك، ذلك أن كل عناصر الموقف الهرمنيوطيقي تتوافر فيه: فالحلم هو نص … نص مليء بالصور
الرمزية، والمحلل النفسي يستخدم نسقًا تأويليًّا لكي يُقَيِّض للحلم تفسيرًا يُخرج المعنى
الكامن إلى السطح. الهرمنيوطيقا هي عملية فك الرموز التي تمضي من المحتوى الظاهر أو المعنى
الظاهر إلى المعنى الكامن أو الخفي، أما موضوع التأويل، أي النص بمعناه العريض، فقد يكون
رموزًا في حلم،
وقد يكون أساطير المجتمع والأدب ورموزهما.
تميز دراسة ريكور بين الرموز المحددة الأحادية
المعنى Univocal والرموز الملتبسة المتعددة
المعنى Equivocal: أما الأولى فهي علامات تشير إلى معنًى واحد، ومن أمثلتها الرموز
في المنطق الرمزي، وأما الثانية فهي مجال الهرمنيوطيقا الحقيقي؛ لأن على الهرمنيوطيقا
أن تتعامل مع النصوص الرمزية ذات المعاني المتعددة، مثل هذه النصوص قد تشكل وحدة
سيمانتية (دلالية)، كما في الأساطير، لها معنًى سطحي خارجي مترابط تمامًا ولها في الوقت
نفسه دلالة باطنة أعمق، والهرمنيوطيقا هي النسق الذي به تنكشف الدلالة العميقة الكامنة
تحت المحتوى الظاهر.
غير أن عملية البحث عن معنًى خفي في الأحلام وفي زلات اللسان يبين، في حقيقة الأمر،
عدم الثقة — أي الارتياب — في الواقع الخارجي أو الظاهر، ومن مآثر فرويد أنه جعلنا
«نرتاب» في فهمنا الواعي لأنفسنا، وأنه يهيب بنا بَعْدُ أن نحطم خرافاتنا وأوهامنا، بل
حاول فريد أن يثبت لنا، كما في «مستقبل وهم»، أن أعز اعتقاداتنا وأعمقها هي في حقيقتها
أوهام طفلية، وظيفة الهرمنيوطيقا الفرويدية إذن هي «تحطيم الأوثان» Iconoclasm.
هذا ما دفع «ريكور» إلى أن يقول بوجود نظامَيْن من الهرمنيوطيقا في الأزمنة الحديثة
مختلفَيْن تمام الاختلاف: أما الهرمنيوطيقا الأولى فتمثلها فكرة بلتمان عن «نزع الطابع
الأسطوري» Demythologizing، وهي تتعامل مع الرمز
بمودةٍ وحب في محاولة لاسترداد معنًى خفي فيه، وأما الثانية فتعمد إلى تدمير الرمز بوصفه
تمثيلًا لواقعٍ زائف، إنها تنزع الأقنعة وتحطم الأوهام في محاولةٍ عقلية لا هوادة فيها
لكشف الأستار وفضح التعمية والزيف Demystification،
هذه هي «هرمنيوطيقا
الارتياب» Hermeneutics of Suspicion التي يمثلها الارتيابيون الثلاثة العظام: ماركس ونيتشه
وفرويد، كان كل واحد من هؤلاء يؤول الواقع السطحي الظاهر كزيفٍ وكذب ويقدم نسقًا من
الفكر من شأنه أن يهدم هذا الواقع، كان ثلاثتهم مناوئين للعقيدة مناوأةً شديدة، وكان
ثلاثتهم يرون الفكر الحقيقي تمرسًا في «الارتياب» والشك، ويقوضون ثقة الفرد الزائفة في
الواقع وفي اعتقاداته ودوافعه، ويدعون إلى تحولٍ في منظور الرؤية ونسقٍ جديد لتأويل
المحتوى الظاهر لعوالمنا، أي يدعون إلى هرمنيوطيقا جديدة.
ونتيجةً لتضارب هذه المداخل إلى تأويل الرموز اليوم يرى ريكور أنه لا سبيل إلى قوانين
عمومية للتفسير، فلدينا فقط نظريات متعارضة ومنفصلة تتعلق بقواعد التأويل، وبينما يعامل
الطرف الأول (نازعو الأسطورة) الرمز أو النص على أنه نافذة إلى واقع مقدس، فإن الطرف
الثاني (كاشفي الزيف) يعاملون الرموز نفسها (ولتكن نصوص الإنجيل) على أنها واقع زائف
لا
بد من تحطيمه.
أما تناول «ريكور» نفسه لفرويد فقد كان مرانًا رائعًا في النوع الأول من التأويل
(نزع
الأسطورية وصولًا إلى الدلالة الحقة)، إنه «يسترد» أو «يستعيد» دلالة فرويد من جديد إلى
اللحظة الحاضرة، ويحاول أن يجمع بين عقلانية الشك من جهة وبين الإيمان بالتأويل
الاستردادي أو الاستعادي، ويضمها معًا في فلسفةٍ تأمليةٍ لا تنسحب إلى تجريداتٍ محضة
أو
تَتَنَكَّسَ إلى تدريبٍ بسيط في الشك؛ فلسفة تقبل التحدي الهرمنيوطيقي في الأساطير والرموز
وتجسد، من خلال التأمل، ذلك الواقع الكامن وراء اللغة والرمز والأسطورة، إن الفلسفة
اليوم منكبةٌ على اللغة أصلًا، ومن ثم فهي، بمعنًى ما، هرمنيوطيقا، والتحدي الحقيقي هو
أن نجعلها هرمنيوطيقية على نحوٍ مبدعٍ خلاق.
١