دلتاي
قدر العلوم الإنسانية أنها اختصت بدراسة آثار كائنٍ حرٍّ مُريد، تقف القوانين السببية عنده مستأذنةً، وتتحدد نتائجه بيقين الحتمية مضروبًا في «لا يقين» الحرية.
إنه المخلوق الخالق، الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته.
إنه الكائن الذي يُدخل «الوعي» في نسيج العالم.
ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة.
ويسبغ المعنى على صمت الكون.
ويفرز «عدمًا» من حوله (على قول سارتر) في قلب الوجود الشيئي المكتمل.
إنه الدودة في التفاحة:
أرقٌ في سُبات الضرورة.
صدعٌ بين «الأشياء».
ولا حيلة للعلم في التنبؤ بمآله.
وليس يُجدي بإزائه إلا «الفهم» لا «التفسير» …
«التأويل» لا «التنبؤ».
بعد وفاة «شلايرماخر» عام ١٨٣٤م تراجع مشروع الهرمنيوطيقا العامة، وحدثت ردةٌ في الفكر التأويلي وعودةٌ إلى حدود الأفرع التخصصية لتصبح الهرمنيوطيقا مرة أخرى تأويلًا فيلولوجيًّا أو قانونيًّا أو تاريخيًّا بدلًا من أن تكون هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم كما أراد لها شلايرماخر.
كان هدف «دلتاي» هو تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات «صائبة موضوعيًّا» ﻟ «تعبيرات الحياة الداخلية»، وكان رد فعله حادًّا تجاه ميل الدراسات الإنسانية إلى تبني طرق التفكير الخاصة بالعلوم الطبيعية وتطبيقها في دراسة الإنسان، ولم تكن الاتجاهات المثالية في نظر دلتاي بديلًا أقوم، فقد ذهب تحت تأثير كونت إلى أن الخبرة العيانية وليس التأمل النظري هي ما ينبغي أن يكون نقطة البدء لأي نظرية في «العلوم الروحية»، الخبرة المعاشة التاريخية الملموسة هي نقطة البدء وهي الختام في علوم الروح، الحياة نفسها هي ما يجب أن ينبع منه تفكيرنا وما يجب أن يتجه إليه تساؤلنا اتجاهًا مباشرًا، علينا ألا نذهب وراء الحياة إلى عالم من الأفكار: «فوراء الحياة نفسها لا يمكن لتفكيرنا أن يمضي.»
(١) البحث عن أساس منهجي للعلوم الروحية
كان مشروع دلتاي هو صياغة منهج ملائم للعلوم المختصة بفهم التعبير الإنساني الاجتماعي والفني، وكان على وعي واضح بعجز المنظور الرديء والآلي للعلوم الطبيعية عن الإيفاء بهذه المهمة والإمساك بُجمع الظاهرة الإنسانية، ومن هنا فقد نظر إلى هذه المهمة على أنها مشكلة إبستمولوجية من جهة، وأنها تتطلب تعميق تصورنا للوعي التاريخي من جهة ثانية، وأنها تعكس حاجة إلى فهم التعبيرات التي تنبع من «الحياة ذاتها» من جهة ثالثة، وعندما يتم لنا فهم هذه العوامل الثلاثة سيتضح لنا الفارق بين طريقة معالجة العلوم الروحية وطريقة معالجة العلوم الطبيعية.
يرفض «دلتاي» ابتداءً أية نظرة ميتافيزيقية في وصف ما يحدث عندما نقوم بفهم ظاهرة من صنع الإنسان، فالمشكلة عنده هي: أي صنف من الفهم ذلك الذي يلائم تفسير الظواهر الإنسانية، المشكلة عنده، باختصار، مشكلة إبستمولوجية وليست مشكلة ميتافيزيقية.
كان «دلتاي» بمعنًى ما امتدادًا للمثالية النقدية عند كانْت، وإن لم يكن من الكانتيين الجدد بل من فلاسفة الحياة، لقد كتب كانْت «نقد العقل الخالص» الذي قدَّم الأسس الإبستمولوجية للعلوم، بينما شرع دلتاي عن قصد في كتابة «نقد العقل التاريخي» لكي يضع الأسس الإبستمولوجية للدراسات الإنسانية. لم يناقش دلتاي المقولات الكانتية ولم يشكك في كفايتها بالنسبة للعلوم الطبيعية، غير أنه رأى الأُطُرَ الكانتية، مثل المكان والزمان والعدد … إلخ، لا تكفي لفهم الحياة الباطنة للإنسان، كذلك لم يجد مقولة «الشعور» وافية لفهم الطابع التاريخي الداخلي للذات الإنسانية، يقول دلتاي: «إنها مسألة تطوير الاتجاه الكانتي النقدي كله، ولكن في مقولة «التأويل الذاتي» بدلا من نظرية المعرفة … إنه نقد للعقل التاريخي بدلًا من العقل الخالص.»
وقد ينبغي أن نأخذ اهتمام «دلتاي» بصياغة نظرية في العلوم الإنسانية في سياق «فلسفة الحياة» الخاصة به، ارتبطت فلسفة الحياة بصفة خاصة بثلاثة من فلاسفة أواخر القرن التاسع عشر هم نيتشه و«دلتاي» و«برجسون»، ويمكن تعقب هذا الاتجاه العام في الفلسفة إلى القرن الثامن عشر حيث علت بعض الاحتجاجات ضد النزعة الصورية والعقلية المحضة وضد أي فكر مجرد يغفل الفرد ككل ويعمى عن الشخصية الحية الشاعرة المريدة، بذلك يُعد روسو وجاكوبي وهردر وفِخته وشيلنج وغيرهم من مفكري القرن الثامن عشر مرهِصين بفلسفة الحياة في محاولاتهم إدراك الوجود الإنساني في العالم من حيث هو امتلاء خبروي، في مثل هؤلاء المفكرين يمكننا أن نلمس جهد فيلسوف الحياة من أجل الوصول إلى واقع غير مزيف بالعوارض الخارجية وبالثقافة. كانت كلمة «الحياة» حتى في ذلك الحين هي صرخة احتجاج ضد ثبوت التراث الفكري وتحديداته، تشير كلمة «الحياة» إلى قوى الإنسان الداخلية مجتمعة ملتئمة كمقابل للقوة السائدة للفهم العقلي، واعتبر فريدريك شليجل فلسفة الحياة هي الحضور الحي للوعي الإنساني والعيش الإنساني في مقابل التأملات المجردة وغير المفهومة ﻟ «الفلسفة المدرسية»، أما فِخته فقد اعتبر أساس كل فلسفته هو التناقض بين ثبوتية الكينونة والتدفق العارم للحياة.
إن موضوع العلوم الإنسانية هو الحياة الإنسانية، وفهم الحياة الإنسانية ينبغي ألا يقوم على مقولات خارجة عن الحياة، بل على مقولات من صميم الحياة ومستقاة من الحياة، فهم الحياة يجب أن يتم من خبرة الحياة ذاتها، يقول دلتاي: إن «الذات العارفة» التي شيدها لوك وهيوم وكانت «لا يجري في عروقها دمٌّ حقيقي»، ذلك أن هؤلاء يضيِّقون نطاق المعرفة ويقصرونها على ملكة الإدراك بانفصال عن الشعور والإرادة، وفضلًا عن ذلك فإنهم كثيرًا ما يتحدثون عن الإدراك كما لو أن بالإمكان عزلَه عن السياق التاريخي الصميم لحياة الإنسان الباطنة، في حين أننا في حقيقة الأمر ندرك ونفكر ونفهم في ضوء الماضي والحاضر والمستقبل ووفقًا لمشاعرنا ومطالبنا والتزاماتنا الأخلاقية. من الواضح إذن أننا لا بد أن نعود إلى الخبرة المعاشة، وإلى الوحدات ذات المعنى كما هي موجودة في الخبرة المعاشة.
والعودة إلى «الحياة» لا تعني عند دلتاي العودة إلى أرضية صوفية أو مصدر سري لكل حياة إنسانية وغير إنسانية، أو لعودة لنوع ما من الطاقة النفسية الأساسية، بل هو يرى الحياة من حيث «المعنى»، فالحياة هي «الخبرة الإنسانية؛ إذ تُعرف من الداخل» و«ليس بوسع الفكر أن يمضي فيما وراء الحياة»، ومقولات الحياة ليست نابعة من واقع مفارق، بل من واقع الخبرة المعاشة، لقد أفصح هيجل من قبل عن نيته في أن يفهم الحياة من الحياة ذاتها، فجاء دلتاي ليضع هذا المقصد في سياق غير ميتافيزيقي (مضاد للميتافيزيقا)، سياق ليس بالواقعي ولا بالمثالي بل سياق فينومينولوجي، لقد ذهب مثل هيجل إلى أن الحياة هي واقع «تاريخي»، غير أن التاريخ عنده ليس غاية مطلقة أو تجليًا لروحٍ مطلقٍ بل هو تعبير عن الحياة، فالحياة نسبية، وهي تعبر عن نفسها في أشكالٍ عديدة، والحياة في الخبرة البشرية ليست «مطلقًا» بأي معنًى من المعاني.
(٢) العلوم الإنسانية كمقابل للعلوم الطبيعية
فالدراسات الإنسانية تتناول وقائع وظواهر ليست منبتة عن الإنسان، بل لا يكون لها معنًى إلا بقدر ما تسلط الضوء على العمليات الداخلية في الإنسان، على «خبرته الداخلية»، إن المناهج الملائمة للموضوعات الطبيعية لا تكفي لفهم الظواهر الإنسانية إلا في حالتها من حيث هي موضوعات طبيعية، ومع ذلك فالدراسات الإنسانية متاح لها شيء غير متاح في العلوم الطبيعية، وهو إمكانية فهم الخبرة الداخلية لشخص آخر من خلال عملية انتقال ذهني باطنة وخفية، يقول دلتاي: «بالضبط لأن هناك انتقالًا حقيقيًّا يمكن أن يحدث (عندما يفهم إنسانٌ إنسانًا)، ولأن تقارب الفكر وعموميته يمكن أن يمتدا ويُشكلا عالمًا اجتماعيًّا تاريخيًّا، يمكن للأحداث والعمليات الداخلية في الإنسان أن تتميز عن تلك الأحداث والعمليات الخاصة بالحيوان، وبفضل هذا «الانتقال الحقيقي» الذي يمكن حدوثه من خلال الموضوعات التي تجسد خبرةً داخلية يستطيع الإنسان أن يبلغ درجةً من الفهم وعمقًا فيه يتعذر بلوغه بالنسبة لأي نوع آخر من الموضوعات، ومن الواضح أن مثل هذا الانتقال ما كان ليحدث لولا وجود تشابه بين وقائع خبرتنا الذهنية الخاصة وبين تلك الحقائق الخاصة بشخص آخر، هذه الظاهرة تحمل معها إمكانية أن نجد في الشخص الآخر أعمق أعماق خبرتنا نحن، وأن نكتشف من التقائنا به عالمًا داخليًّا أكثر امتلاءً.»
يرى «فيكو» أن هناك هوة لا يمكن اجتيازها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو مُعطى في الطبيعة، لم يصنع الإنسان الأعمال الفنية والقوانين وحسب، وإنما صنع التاريخ كذلك، حتى هذه النقطة لا يوجد اختلاف بين فيكو وبين ديكارت، يبدأ الاختلاف الجذري بين فيكو وبين ديكارت وخلفائه الذين كانوا يبتغون علمًا موحدًا يقوم على غرار العلوم الطبيعية حين يذهب فيكو إلى أن منتجات العمل البشري، كالفن والقانون والتاريخ نفسه، وبالضبط لأنها من صنع الإنسان، يمكن فهمها فهمًا أفضل من فهم العالم الطبيعي، حيث إن هذا العالم الطبيعي هو عالم «مغاير» لنا بشكل لا حيلة فيه وغير قابل لأن نعرف حقيقته النهائية. إن أية محاولة لدراسة البشر على أنهم كيانات طبيعية صرف، شأنهم شأن الأنهار والنباتات والأحجار، هي عمل يقوم على خطأ أساسي، ونحن البشر — فيما يتعلق بأنفسنا ملاحظين — نتمتع بامتياز خاص هو الرؤية من الداخل (الرؤية الباطنة)، ويُعد تجاهل ذلك سعيًا وراء مثال من العلم الموحد لكل ما هو موجود وطريقة عالمية مفردة للبحث، يُعد إصرارًا على الجهل وتعمدًا له.
هذه هي الخطوط الرئيسية لتصور «دلتاي» عن العلوم الإنسانية، فهل يمكن تبرير هذا الفصل الصارم بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؟ الحق أن أغلب المفكرين، بما فيهم بعض من أشد المؤيدين لدلتاي، يرون غير ذلك، من ذلك أن جورج ميرش قد أدرك منذ البداية أن التوفيق المثمر بين المنهجين هو أمر ممكن ومطلوب، كما لاحظ بولنو بحق أنه إذا كان هذا الفصل مفيدًا في الفهم النظري لهذين الفرعين الكبيرين من المعرفة، فمن المفيد بنفس الدرجة أن نسلم بأن «الفهم» ليس مقصورًا على الدراسات الإنسانية ولا «التفسير» السببي مقصورًا على العلوم الطبيعية، بل إن كليهما يعمل متآزرًا مع الآخر بدرجات مختلفة في كل فعل حقيقي من أفعال المعرفة، ومن المفارقات الساخرة أن بإمكاننا من موقعنا الحالي أن نرى إلى أي مدًى تسللت التصورات العلمية وحتى النزعة التاريخية (التي جهد «دلتاي» للتغلب عليها) إلى تصوره عن الدراسات الإنسانية، ذلك أن بحثه عن «المعرفة الصائبة موضوعيًّا» كان بحد ذاته تعبيرًا عن المثل الأعلى في العلوم وهو البحث عن المعطيات الواضحة الخالصة، وقد أدى ذلك من حيث لا يدري إلى توجيه فكره نحو استعارات وصور مكانية لا زمانية للحياة العقلية، وهي صور تلائم التفكير العلمي، ومن جهة أخرى فقد أدت به تعاليم شلايرماخر إلى تصور للفهم على أنه إعادة بناء وإلى شيء من النزعة السيكولوجية لم يتخلص منها إلا بجهدٍ جهيد، وذلك عندما تحول إلى تأسيس نظريته على الهرمنيوطيقا بدلًا من تأسيسها على صنف جديد من السيكولوجيا.
(٣) الصيغة التأويلية عند دلتاي: «الخبرة، التعبير، الفهم»
نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فإن علينا أن نفهمه.
يقول دلتاي: «لا ينتمي علمٌ ما إلى الدراسات الإنسانية ما لم يصبح موضوعه متاحًا لنا من خلال إجراء قائم على العلاقة المنهجية بين الحياة والتعبير والفهم.» هذه الصيغة «الخبرة-التعبير-الفهم» ليست واضحة بذاتها لأن كل حد من حدودها له معنًى محدد في فلسفة دلتاي، ويستحق منا وقفةً استكشافيةً منفصلة.
(٣-١) الخبرة Experience
بم تتسم هذه الوحدة من المعنى؟ يجيب دلتاي عن هذا السؤال بإسهاب كبير، ويُعد فهم ذلك الشيء المسمى «الخبرة» وفهم مكوناته أمرًا أساسيًّا لفهم تأويلية دلتاي، أولًا يجب ألا نفهم الخبرة على أنها «محتوى» فعل انعكاسي (تأملي) للوعي؛ لأنها عندئذٍ ستغدو شيئًا نحن على وعي به، بل هي الفعل ذاته، إنها شيء نحيا فيه وخلاله، إنها الموقف نفسه الذي نتخذه تجاه الحياة ونعيش فيه، إنها الخبرة بما هي كذلك، الخبرة كما هي معطاة في المعنى قبل أي تأملٍ انعكاسي، وبوسع الخبرة أن تصبح فيما بعد موضوعًا للتأمل، ولكنها عندئذٍ لا تعود خبرةً مباشرة، بل موضوعًا لفعل آخر من أفعال المواجهة، الخبرة إذن ليست موضوعًا للوعي بقدر ما هي فعل للوعي، وينبغي ألا نتصورها كشيء يقف الوعي بإزائه ويعيه.
من المُتعين أن يكون التحليل الوصفي لهذا العالم الرواغ السابق على الفكر الانعكاسي هو الأساس لكل من الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية، غير أنه مهم بصورة خاصة للدراسات الإنسانية؛ ذلك أن مقولات الفهم الإنساني والتأويلي نفسها يجب أن تُستمد منه، هذا العالم من الوعي قبل الانعكاسي هو بالضبط ما سيُدخر لكي تظفر به فينومينولوجيا هسرل وهيدجر، فبينما كان دلتاي يسعى لإنجاز مشروعه المنهجي بانسجام شديد مع فلسفة الحياة عنده، وفيما كان يفصل فصلًا واضحًا بين مجرد «التفكير» وبين «الحياة» (أو الخبرة) «كان في الحقيقة يؤسس القواعد لفينومينولوجيا القرن العشرين».
على أنه من الخطأ الفادح أن نتصور أن الخبرة تشير إلى ضرب من الواقع الذاتي لا أكثر؛ لأن الخبرة هي بالتحديد ذلك الواقع الذي يتمثل لي قبل أن تغدو الخبرة موضوعية (وتفترض من ثم انفصالًا عن الذاتي)، هذه الوحدة الأولى هي ما يريد دلتاي أن يصوغ منه مقولات يُرجى لها أن تضم (لا أن تفصل) الشعور والمعرفة والإرادة (وهي العناصر الملتئمة معًا في الخبرة)، مقولات من قبيل «القيمة»، «المعنى»، «العلاقة» … وقد لاقى دلتاي صعوبات كبيرة في صياغة هذه المقولات، غير أن المهمة بحد ذاتها هي على أعلى درجة من الأهمية، كان اختيار دلتاي محكومًا بهدفه في بلوغ «معرفة ذات صواب موضوعي»، وهذا الهدف بالتحديد هو ما فرض على تفكيره حدودًا وقيودًا لا داعي لها، غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بسعيه الدءوب من أجل مقولات تعبر عن «حرية الحياة وحرية التاريخ»، إن استبصاره المثمر إنما يكمن في رؤية الخبرة كمجال سابق على الذات والموضوع، مجال يقدم لنا العالم وخبرتنا بالعالم معًا في آن، لقد رأى بوضوح فقر نموذج «الذات-الموضوع» كنموذج لالتقاء الإنسان بالعالم، وعاين بوضوحٍ سطحية الفصل بين المشاعر والموضوعات، والفصل بين الإحساسات والفعل الكلي للفهم، يقول دلتاي بتهكم وازدراء: «نحن نعيش ونتحرك لا في عالم من الإحساسات بل في عالم من الموضوعات التي تقدم نفسها إلينا، لا في عالم من المشاعر بل في عالم من القيم والمعاني.» ومن الممتنع وغير المعقول أن نفصل إحساسات المرء ومشاعره عن السياق الكلي للعلاقات المتضامة معًا في وحدة الخبرة.
ثمة استبصار خصب آخر «لدلتاي» وهو توكيده على الطبيعة الزمانية لسياق العلاقات المُعطاة في الخبرة، فالخبرة ليست شيئًا سكونيًّا، بل هي على العكس تميل في وحدة معناها إلى الامتداد لتضم تحت جناحها كلًّا من إعادة معايشة الماضي وتوقع المستقبل في السياق الكلي للمعنى، فنحن لا يمكن أن نتخيل المعنى إلا في ضوء ما نتوقع من المستقبل أن يكون، ولا بإمكان المعنى أن يتحرر من الاعتماد على المادة التي يقدمها الماضي، الماضي والمستقبل إذن يشكلان وحدة بنائية مع حاضر كل خبرة، وهذا السياق الزماني هو الأفق الذي لا مهرب منه والذي يتم داخله تأويل أي إدراك يحدث في الحاضر.
وقد أفاض «دلتاي» في إثبات أن زمانية الخبرة ليست شيئًا يفرضه الوعي بطريقة انعكاسية (كما هو موقف الكانتيين، فالعقل لديهم هو الكيان النشط الذي يفرض وحدةً على الإدراك)، وإنما الزمانية عند دلتاي هي شيء كامن في الخبرة ذاتها كما هي معطاة لنا، في هذا الصدد يمكن أن يُسمى دلتاي «واقعيًّا» لا «مثاليًّا»: زمانية الخبرة عند دلتاي، كما ستكون عند هيدجر، مساوية في أوليتها للخبرة ذاتها، إنها ليست شيئًا مضافًا إلى الخبرة، إذا حاول المرء، على سبيل المثال، أن يستوعب مسار حياته الخاصة في فعل انعكاسي تأملي للوعي، فها هنا في هذه الممارسة الخاصة وحدة مرشدة لنا فيما نريد أن نبينه، فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل للطريقة الفعلية التي تتمثل بها هذه الوحدة في الوعي على مستوى سابق على التأمل، يقول دلتاي واصفًا محاولته الخاصة في هذا السبيل:
«ماذا يحدث عندما تصبح «الخبرة» هي موضوع تأملي؟ إنني، على سبيل المثال، أرقد صاحيًا بالليل، يؤرقني احتمال ألا أكمل في شيخوختي العمل الذي كنت بدأته، وأفكر ماذا أفعل، ثمة في هذه «الخبرة» مجموعة بنائية من العلاقات: يشكل الفهم الموضوعي للموقف أساسًا لها، وفوق هذا الأساس يقوم توجه هو القلق حول الواقعة المدركة موضوعيًّا والسعي إلى تجاوز هذه الواقعة، كل ذلك يتمثل لي في السياق البنائي للواقعة، لقد قمت الآن بطبيعة الحال بتقديم الموقف للوعي الفاحص والمميز، وأبرزت العلاقات البنائية بوضوح وجلاء؛ لقد قمت ﺑ «عزل» الموقف، غير أن كل ما قمت بطرحه هنا في حقيقة الأمر كامن سلفًا في الخبرة ذاتها، وما فعلت غير أن سلطت عليه الضوء في هذا الفعل التأملي.»
إن «معنى» واقعة مدرَكة موضوعيًّا هو مُعطًى مع الواقعة نفسها، والمعنى أمر زماني في صميمه؛ إذ يُعرَّف في السياق الحياتي للمرء، يقول دلتاي إكمالًا للفقرة السابقة إن هذا يعني شيئًا ذ أهمية أساسية لكل دراسة للواقع الإنساني: «فالأجزاء المكونة لما يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعًا محتواة معًا في الحياة ذاتها.» يمكننا أن نسمي ذلك بالزمانية أو التاريخية الداخلية، وهي غير مقحمة على الحياة بل هي باطنة فيها، يقرر دلتاي حقيقة عظيمة الأهمية للهرمنيوطيقا: وهي أن الخبرة «زمانيةٌ» في صميمها (أي تاريخية بأعمق معاني الكلمة)، ومن ثم فإن فهم الخبرة ينبغي أيضًا أن يتم في مقولات فكرية زمانية (تاريخية) بنفس الدرجة.
(٣-٢) التعبير Expression
وهو الحد الثاني في صيغة دلتاي التأويلية «الخبرة-التعبير-الفهم»، ومن الضروري الانتباه إلى أن استخدام دلتاي لهذا المصطلح ينبغي ألا يُلحقه آليًّا بالنظريات التعبيرية في الفن، ذلك أن هذه النظريات مصوغة في حدود نموذج الذات-الموضوع، فنحن مثلًا نصل لفظة «تعبير» بشكل شبه آلي «بالمشاعر»: نحن «نعبر» عن مشاعرنا، ونظرية التعبير في الفن ترى العمل الفني على أنه تمثيل رمزي للمشاعر، وشاعر مثل وردزورث (وهو من دعاة نظرية التعبير في الخلق الشعري) ينظر إلى القصيدة على أنها تدفق تلقائي لمشاعر عارمة.
(أ) العمل الفني بوصفه موضَعة للخبرة المُعاشة
إذا كان نطاق الدراسات الإنسانية بهذا الاتساع، فأين يقع فهمنا للعمل الفني، ولا سيما العمل الفني الأدبي؟
يشير «دلتاي» — بصفة عامة — إلى التصنيفين الأولين، الأفكار والأفعال، على أنهما «مظاهر الحياة»، أما الثالث فقد كان أميل إلى أن يدخر لها المصطلح الأكثر تخصيصًا «تعبيرات الخبرة المعاشة»، في هذه الفئة الثالثة تجد الخبرة الإنسانية الداخلية أكمل تعبير، وفيها يواجه الفهم أكبر تحدٍّ، يقول دلتاي:
«تختلف تعبيرات الخبرة المعاشة اختلافًا تامًّا عن الأفكار والأفعال، ثمة علاقة خاصة بينها كتعبير عن الحياة ذاتها وبين الفهم الذي يُحدثها ويأتي بها، بوسع التعبير أن يتضمن من سياق الحياة الباطنة أكثر مما يمكن لأي استبطانٍ أن يدرِك، ذلك أن التعبير ينبع من أعماق لا يضيئها الوعي على الإطلاق.»
العمل الفني — بطبيعة الحال — يتخطى في مرونته ووثوقه مجرد الإيماء أو الهتاف بما لا يُقاس، فالإيماءات يمكن تزييفها، أما الفن فهو يشير إلى الخبرة ذاتها أو يعبر عنها ولذلك فهو بمأمنٍ من التزييف:
«في الأعمال الفنية العظيمة تنبت رؤيةٌ ما عن خالقها (الشاعر أو الفنان أو الكاتب) فنرتحل إلى عالمٍ ليس فيه خداعٌ ممن يُعبِّر، ليس هناك عمل فني حقيقي يحاول أن يعكس واقعًا مخالفًا للمحتوى الباطن لمؤلفه، وحقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك: حقًّا في ذاته، ثابتًا، مرئيًّا، باقيًا.»
لم يعد مكانٌ لمشكلة التزييف الموجودة في الإيماءات وفي أي فعل بشري أو موقف بشري تصطرع فيه المصالح، «ذلك أن العمل الفني لا يشير إلى مؤلفه على الإطلاق بل إلى الحياة ذاتها.» ولهذا السبب بالتحديد فإن العمل الفني هو أكثر موضوعات الدراسات الإنسانية وثوقًا وثباتًا وخصوبة، بهذا الوضع الثابت والموضوعي يصبح الفهم الفني الوثيق للتعبير أمرًا ممكنًا، «هكذا تبزغ في الحدود القائمة بين المعرفة والفعل حلقةٌ أو عالمٌ تفصح فيه الحياة عن نفسها بعمقٍ غير متاحٍ في الملاحظة أو التأمل أو النظرية.»
ولعل الأعمال الفنية المتجسدة في اللغة (الأدب) هي بين جميع الأعمال الفنية أعظمها قدرةً على كشف الحياة الباطنة للإنسان، وبسبب وجود هذه الموضوعات الثابتة الباقية (الأعمال الأدبية في هذه الحالة) فقد ظهر بالفعل حشدٌ من النظريات حول تفسير النصوص هو الهرمنيوطيقا، يؤكد «دلتاي» أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تهدي إلى نظريةٍ عامة في الفهم، ذلك أنه «فوق كل شيء فإن فهم بنية الحياة الباطنة يقوم على تفسير الأعمال، الأعمال التي تعبر عن نسيج الحياة الباطنة تعبيرًا كاملًا.» هكذا تأخذ الهرمنيوطيقا عند دلتاي دلالةً جديدة أكبر مما أخذته في السابق؛ إذ تصبح نظريةً غير مقتصرةٍ على مجرد تفسير النصوص، بل نظرية في كيف تكشف الحياة عن ذاتها وتعبر عن نفسها في الأعمال.
(٣-٣) الفهم Understanding
يفتح لنا الفهمُ عالمَ الأشخاص الفرديين، وهو بذلك يفتح لنا أيضًا الاحتمالات الكامنة في طبيعتنا نحن، ليس الفهم مجرد فعل فكري، وإنما هو انتقال وإعادة معايشة العالم كما يجده شخصٌ آخر في الخبرة المعاشة، وليس الفهم عملية مقارنةٍ واعية تأمُّلية، بل عملية تفكير صامت يتم فيها انتقال المرء بطريقةٍ سابقة على التأمل إلى دخيلة الشخص الآخر، إن المرء ليعيد اكتشاف نفسه في الشخص الآخر.
ثمة حقيقة أخرى تُبرِز الطريقة التي يختلف بها الفهم عن مجرد التفسير العلمي، وهي أن للفهم قيمةً في ذاته بمعزل عن أي اعتباراتٍ عملية، فالفهم ليس بالضرورة وسيلةً لشيءٍ آخر، بل هو خيرٌ بحد ذاته، فمن خلال الفهم وحده نلتقي بالجوانب الشخصية وغير التصورية من الواقع: «إن لغز «الشخص» ليجذبنا من أجل ذاته فحسب إلى محاولات للفهم تزداد جدةً وعمقًا على الدوام.» وفي مثل هذا الفهم يبزغ عالَم الفرد، ذلك العالم الذي يشتمل على الإنسان وإبداعاته، ها هنا تكمن وظيفة الفهم الملائمة للدراسات الإنسانية على أتم وجه، ويؤكد دلتاي، مثلما أكد سلفه شلايرماخر من قبل، أن الدراسات الإنسانية تتريث بحبٍّ عند «الجزئي» من أجل ذاته، أما التفسيرات العلمية، فهي قلما تُقَدَّر في ذاتها، بل تُقدر من أجل شيء آخر، وحين تكون بعض الرسائل العلمية ممتعةً لنا بحد ذاتها (كما هو الحال مع رسالة لوكريتس «في طبيعة الأشياء») فنحن إنما نراها على أنها مفاتيح لفهم الطبيعة الداخلية للإنسان؛ إننا، بمعنى أصح، نَلِجُ إلى داخل الدراسات الإنسانية ومقولات الفهم وليس إلى مجرد التفسير.
(٤) معنى «التاريخية» في هرمنيوطيقا دلتاي
التاريخ في تصور «دلتاي» ليس شيئًا ماضيًا يقف بإزائنا بصفته موضوعًا، ولا «التاريخية» عنده تشير إلى تلك الحقيقة الواضحة موضوعيًّا للجميع وهي أن الإنسان يُولد ويعيش ويموت في مسار الزمن، إنها لا تشير إلى زوال الوجود الإنساني وقِصر عمره، والذي هو موضوعٌ للشعر، التاريخية عند «دلتاي» تعني أمرين:
وفيما يتولى الإنسان على الدوام امتلاك التعبيرات المصوغة التي تشكل إرثه وتركته فهو يصبح «تاريخيًّا» بطريقة إبداعية، فهذا الفهم للماضي ليس شكلًا من العبودية، بل من الحرية، حرية الفهم الذاتي المتنامي على الدوام والوعي بقدرته على أن يريد ما سيكونه، وما دام بقدرة الإنسان أن يغير ماهيته ذاتها، فمن الممكن القول بأن لديه القدرة على أن يغير الحياة ذاتها، إن لديه قوًى حقيقية وجذرية على الخَلق.
إن من شأن ذلك أن يدعم ما قلناه آنفًا عن الزمانية الصميمة للفهم: فالمعنى دائمًا يقف في «سياق/أفق» يمتد في الماضي، ويمتد في المستقبل، وشيئًا فشيئًا تصبح هذه الزمانية جزءًا لا يتجزأ من مفهوم «التاريخية»، بحيث «لا يقتصر لفظ «التاريخية» على الإشارة إلى اعتماد الإنسان على التاريخ في فهم ذاته وتأويلها، وإلى تناهيه الإبداعي في تحديد ماهيته تاريخيًّا، بل يشير أيضًا إلى استحالة الفكاك من التاريخ، وإلى الزمانية الصميمة لكل فهم.»
إنه باختصار أبو التصورات الحديثة للتاريخية، فلا تأويلية دلتاي نفسها، ولا تأويلية هيدجر وجادامر، يمكن تصورها إلا في ضوء التاريخية، وبخاصة تاريخية الفهم، فالنظرية التأويلية ترى إلى الإنسان بوصفه معتمدًا على تأويلٍ دائمٍ للماضي، ومن هنا أمكن القول بأن الإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقًا لتأويل ميراثٍ وعالمٍ مشتركٍ تسلمه من الماضي، ميراثٍ حاضرٍ وناشطٍ دائمًا في أفعاله وقراراته، وصفوة القول أنه في التاريخية تجد الهرمنيوطيقا الحديثةُ أُسُسَها النظرية.
(٥) الدائرة التأويلية والفهم
وكما أشرنا من قبل، فإن «الجملة» اللغوية تقدم لنا مثالًا واضحًا على التفاعل المتبادل بين الكل والأجزاء وعلى أهمية الطرفين في عملية الفهم: فنحن من معنى الأجزاء نظفر بفهمٍ لمعنى الكل الذي يغير بدوره حالة اللاتحديد في الكلمات المفردة إلى نمطٍ ثابت وذي معنى، يورد دلتاي هذا المثال ثم يصرح بأن العلاقة نفسها توجد بين الكل والأجزاء في حياة المرء، فمعنى الكل مستمد من معنى الأجزاء، ومن الممكن لحدثٍ أو خبرةٍ أن تغير حياتنا بحيث يصبح ما كان ذا معنى من قبل شيئًا لا معنى له، وبحيث تأخذ خبرةٌ ماضيةٌ هينةٌ معنًى عظيمًا بأثرٍ رجعي، إن معنى الكل يحدد معنى الأجزاء ووظيفتها، والمعنى هو شيء تاريخي، إنه علاقة كلٍّ بأجزاء، ونحن نرى هذه العلاقة من وجهة نظر معينة في زمن معين بالنسبة لتجمع بعينه من الأجزاء، إنها ليست شيئًا عاليًا على التاريخ أو خارجًا عنه بل جزء من دائرةٍ تأويليةٍ محددة تاريخيًّا بصفة دائمة.
- (١)
الخادم القديم في «بستان الكرز».
- (٢)
التابع الخاص في «فاوست».
- (٣)
سمردياكوف في «الإخوة كرامازوف».
- (٤)
كِنت في «الملك لير».
المعنى شيءٌ تاريخي، لقد تغير الزمن، إنه مسألة علاقة، فهو دائمًا مرتبط بمنظور تُرى منه الأحداث، المعنى ليس شيئًا ثابتًا صلبًا، حتى «معنى» الملك لير كمسرحية يتغير، فمعناها عندنا بعد زوال العالم الطبقي الربوبي وفي سياقٍ اجتماعي مغاير تمامًا لا بد أنه مختلف عما كان عليه لدى معاصري شكسبير، إن تاريخ التفسيرات المسرحية لشكسبير لتُظهر لنا أن هناك شكسبير للقرن السابع عشر، وشكسبير للقرن الثامن عشر وآخر للتاسع عشر، ورابعًا للقرن العشرين، تمامًا مثلما أن هناك صيغة أرسطية لأفلاطون وهناك أفلاطون المسيحية المبكرة وأفلاطون العصر الوسيط وأفلاطون القرن السادس عشر وحتى أفلاطون القرن العشرين، فالتفسير دائمًا يقف في الموقف نفسه الذي يقف فيه المفسر نفسه، إن المعنى يتوقف على ذلك مهما بلغ اكتفاؤه الذاتي الظاهري داخل مسرحية أو قصيدة أو حوار.
الحياة هي العنصر أو الحقيقة الأساسية التي يجب أن تشكل نقطة البداية للفلسفة، إنها تُعرف من الداخل، إنها ذلك الشيء الذي وراءه لا يمكن أن نمضي، الحياة لا يمكن أن يُزج بها إلى محكمة العقل.
وحيث إننا نفهم دائمًا داخل أفقنا الخاص الذي هو جزء من الدائرة التأويلية، فإن من المتعذر وجود أي فهم غير موقفي لأي شيء من الأشياء، فنحن نفهم بواسطة الإحالة الدائمة لخبرتنا، من ذلك يتبين أن المهمة المنهجية التي يتعين على المفسر أن يضطلع بها هي ألا يغمر نفسه كليًّا في موضوعه (وهو أمر مستحيل على كل حال)، بل أن يجد طرقًا ممكنة عمليًّا للتفاعل المتبادل بين أفقه الخاص وبين أفق النص، وهذه، كما سوف نبين فيما بعد، هي المسألة التي أولاها جادامر انتباهًا كبيرًا: كيف يمكننا أن نحقق، داخل أفقنا الخاص الذي لا مناص من استخدامه، انفتاحًا معينًا على النص لا يُقحم مقدمًا مقولاتنا الخاصة عليه؟
خلاصة
أسهم «دلتاي» إسهامًا كبيرًا في توسيع نطاق الهرمنيوطيقا، وذلك بأن وضعها في سياق التأويل في الدراسات الإنسانية، وقد كان تفكيره التأويلي المبكر قريبًا جدًّا من النزعة السيكولوجية عند شلايرماخر، ولم يتخلص من هذه النزعة إلا بعد جهدٍ وعبر تطورٍ فكري تدريجي؛ لكي يصل إلى تصورٍ للتأويل على أنه منصبٌّ على التعبير عن «الخبرة المعاشة» ودون إحالةٍ إلى مؤلفه، غير أنه منذ أن وصل إلى ذلك أصبحت الهرمنيوطيقا، وليس علم النفس، هي أساس الدراسات الإنسانية، وقد حقق دلتاي بذلك هدفين من أهم أهدافه الكبرى: فهذا التصور أولًا قد ركز مشكلة التأويل على شيء له وضع ثابت ودائم وموضوعي، وبذلك أمكن للدراسات الإنسانية أن تأمل في بلوغ معرفةٍ ذات صواب موضوعي، ما دام موضوعها ثابتًا في ذاته إلى حد ما، ومن الواضح ثانيًا أن هذا الموضوع يدعو إلى طُرُق للفهم «تاريخية» لا علمية؛ إذ يتعذر أن يُفهم إلا من خلال الإحالة إلى الحياة ذاتها بكل ما تتصف به من تاريخية وزمانية، ومن المحال النفاذ، بعمق متزايد على الدوام، إلى معنى تعبيرات الحياة، إلا من خلال الفهم التاريخي.
هكذا يضع دلتاي تأويل العمل الفني الأدبي في سياق تاريخية الفهم الذاتي للإنسان، إنه تاريخي ليس فقط لأنه يتعين عليه أن يفسر موضوعًا (شيئًا) موروثًا تاريخيًّا، بل لأن المرء يجب أن يفهم الموضوع في أفق زمانيته هو ومن موقعه هو في التاريخ (أي زمانية المرء وموقع المرء)، ولأن العمل المعبر يتضمن فهم الإنسان لنفسه، فهو يفتح واقعًا لا هو «ذاتي» ولا هو «موضوعي» حقًّا (أي منفصل عن أفق فهمنا لأنفسنا)، ومن الوجهة الميثودولوجية، فإن هذا يَجْبَه التأويل بمشكلة فهم معنًى خارجٍ — بطريقة ما — عن قسمة «الذات-الموضوع» التي تميز التفكير العلمي.
على أن دلتاي قد جدد مشروع الهرمنيوطيقا العامة وخطا بها خطوات كبيرة إلى الأمام، لقد وضعها في أفق «التاريخية» الذي أحرزت فيه تطورًا هامًّا فيما بعد، لقد أرسى الأسس لتفكير هيدجر في زمانية الفهم الذاتي، ومن الممكن أن نعد دلتاي بحق أبا «الإشكالية» التأويلية المعاصرة.