هيدجر
(١) بين هسرل و«هيدجر»
(١-١) نوعان من الفينومينولوجيا
مثلما كان «دلتاي» ينظر إلى الهرمنيوطيقا في أفق مشروعه الخاص بإيجاد نظرية ذات توجه تاريخي لمنهج العلوم الاجتماعية، كذلك كان «هيدجر» يستخدم لفظة «هرمنيوطيقا» في السياق الأكبر لبحثه عن أنطولوجيا أكثر «أساسية»، لقد كان «هيدجر»، شأنه في ذلك شأن «دلتاي»، يبحث عن منهجٍ من شأنه أن يكشف الحياة في ضوء الحياة ذاتها، وفي كتابه «الوجود والزمان» اقتبس «هيدجر»، مؤيدًا ومعضدًا، هدف دلتاي في فهم الحياة من خلال الحياة ذاتها، ومنذ البداية شرع «هيدجر» في البحث عن منهج يتخطى التصورات الغربية عن الوجود ويستقصيها إلى جذورها، شرع «هيدجر» في البحث عن «هرمنيوطيقا» تمكنه من أن يكشف اللثام عن الفروض المسبقة التي تتأسس عليها هذه التصورات، وقد أراد، مثل نيتشه من قبله، أن يضع التراث الميتافيزيقي الغربي كله موضع التساؤل.
وجد «هيدجر» في فينومينولوجيا إدموند هسرل أدواتٍ تصوريةً لم تكن متاحةً لدلتاي أو نيتشه، ووجد فيها منهجًا يمكن أن يسلط الضوء على كينونة الوجود الإنساني بطريقةٍ يمكن للمرء بها أن يكشف النقاب عن الوجود ذاته لا عن مجرد أهوائه وتحيزاته وأيديولوجيته، ذلك أن الفينومينولوجيا قد فتحت عالمًا جديدًا وأتاحت فهم الظواهر فهمًا سابقًا على التصورات الذهنية، على أن هذا العالم الجديد كانت له عند «هيدجر» دلالةٌ مختلفة عن تلك التي كانت عند هسرل، فبينما كان «هسرل» يقارب هذا العالم بغرض كشف عمل الوعي بوصفه ذاتيةً ترانسندنتالية، فقد رأى فيه «هيدجر» الوسط الحيوي للوجود الإنساني التاريخي في العالم، ورأى في تاريخيته وزمانيته مفاتيح لفهم طبيعة الوجود، فالوجود كما يكشف عن نفسه في الخبرة المعاشة يند عن التصور العقلي وعن المقولات اللازمانية للتفكير الذهني المتمركز على الأفكار وحدها. إن الوجود هو السجين المحجوب والمنسي للمقولات السكونية الغربية، والذي كان «هيدجر» يأمل في إطلاق سراحه، فهل نجحت الفينومينولوجيا كنظريةٍ ومنهجٍ في أن تقدم له الوسيلة المناسبة؟
لقد نجحت جزئيًّا، غير أن تأثر «هيدجر» بدلتاي ونيتشه، وكذلك طبيعة نقده للميتافيزيقا الغربية وبخاصة الأنطولوجيا، قد جعلاه متوجسًا غاية التوجس من رغبة «هسرل» في رد كل الظواهر إلى الوعي الإنساني، أي إلى الذات الترانسندنتالية، لقد آمن «هيدجر» بأن حقيقة الوجود سابقةٌ على الوعي والمعرفة الإنسانية وأكثر منهما بداءةً وأساسية، بينما كان هسرل يميل إلى اعتبار كل شيءٍ حتى حقيقة الوجود كمعطى من معطيات الوعي، لم يكن مثل هذا الموقف القائم على الذاتية ليقدم الإطار المناسب للنقد الذي كان يدور بخاطر «هيدجر»، ورغم نجاح فينومينولوجيا هسرل في تحقيق مراجعةٍ تنقيحيةٍ طموحٍ للإبستمولوجيا ما تزال ثمارها ملموسةً اليوم في مجالات كثيرة، فهي لم تكن بحد ذاتها الأداة التي يمكن أن يستخدمها «هيدجر» في طرحه الجديد لقضية الوجود.
(١-٢) الفينومينولوجيا بوصفها تأويلًا
في القسم الخاص من «الوجود والزمان» الموسوم باسم «المنهج الفينومينولوجي» في البحث يشير «هيدجر» صراحة إلى منهجه على أنه «هرمنيوطيقا»، وإذا جاز للسائل أن يسأل «ماذا يقدم ذلك للفينومينولوجيا؟» فإن هناك سؤالًا آخر على نفس الدرجة من الأهمية لدراستنا الحالية: «ماذا يقدم ذلك للهرمنيوطيقا؟» غير أنه من الضروري قبل أن نتناول هذا السؤال أن نعرض لتعريف (أو إعادة تعريف) «هيدجر» للفينومينولوجيا.
غير أن هذا الانكشاف أو هذا الصنف من إظهار الشيء «كما هو» يجب ألا نفهمه على أنه شكلٌ ثانوي من الإشارة، مثلما يحدث عندما «يبدو شيءٌ ما على أنه شيءٌ آخر»، ولا هو شبيه بعرضٍ لشيءٍ ما، أي يشير إلى ظاهرة أخرى أكثر أولية، بل هو إظهارٌ لشيءٍ ما كما هو، في ظاهره، في تجليه.
غير أن هذه الوظيفة ليست وظيفةً حرةً بل هي مسألة كشفٍ أو إماطة لثام، فهي تُخرج من التحجب إلى وضح النهار، العقل لا يُسْقِط معنًى على الظاهرة، وإنما وجه الأمر أن ما يظهر هو تجلٍّ أنطولوجي للشيء نفسه، صحيح أننا من خلال النزعة الدوجماطيقية يمكننا أن نفرض على الشيء أن يُرى على الوجه المرغوب فحسب، ولكن ترك الشيء يظهر على ما هو عليه يغدو مسألة تَعَلُّمٍ، علينا أن نتعلم كيف نتيح للشيء أن يفعل ذلك، واللوجوس (الكلام) في الحقيقة ليس قوةً يمنحها لغة مستخدم اللغة، بل قوة تمنحها له اللغة، وسيلة للرضوخ لما انكشف وظهر من خلال اللغة.
مثل هذا المنهج هو ذو أهمية كبرى للنظرية التأويلية، حيث إنه يتضمن أن التأويل لا يتأسس على الوعي الإنساني والمقولات الإنسانية بل على انكشاف الشيء الذي نقابله، الواقع الذي يصادفنا، غير أن اهتمام «هيدجر» كان مُنصبًّا على الميتافيزيقا وعلى مسألة الوجود، فهل بإمكان مثل هذا المنهج أن يضع نهايةً للذاتية وللطابع التأملي النظري للميتافيزيقا؟ هل يمكن أن يُطبَّق على مسألة الوجود؟ هذه مهمةٌ صعبةٌ بلا ريب، ويزيدها تعقيدًا حقيقة أن الوجود ليس ظاهرةً على الإطلاق بل هو شيءٌ أكثر إحاطةً وشمولًا وروغانًا، ومن المحال أن يصبح «موضوعًا» لنا؛ إذ نحن أنفسنا «وجود» في الفعل نفسه الذي نشكل به أي موضوعٍ بوصفه موضوعًا.
(٢) طبيعة الفهم
(٢-١) هيدجر يتجاوز دلتاي
أما الفهم عند «هيدجر»، فهو تصورٌ بعيدٌ كل البعد عن التصورات السابقة، الفهم عند «هيدجر» هو قدرة المرء على إدراك ممكنات وُجودِه ضمن سياق العالم الحياتي الذي وُجد فيه. الفهم ليس موهبةً خاصة أو قدرةً معينة على الشعور بموقف شخصٍ آخر، ولا هو القدرة على إدراك معنى أحد تعبيرات الحياة على مستوى أعمق. «الفهم ليس شيئًا نمتلكه بل هو شيء «نكونه»!» الفهم شكلٌ من أشكال «الوجود في العالم»، أو عنصرٌ مكونٌ من عناصر «الوجود في العالم»، الفهم هو الأساس لكل تفسير، وهو متأصلٌ ومصاحبٌ لوجود المرء وقائمٌ في كل فعلٍ من أفعال التأويل.
(٢-٢) انتفاء ثنائية الذات/الموضوع
كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن «هيدجر» لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربةٍ قاضيةٍ (مثلما قطع الإسكندر عقدة جورديان) يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به هي مشكلةٌ زائفةٌ لا تستحق عناء لحظةٍ واحدةٍ من التفكير! لماذا؟ لأن «الآنية» باعتبارها «وجودًا في العالم» موجودةٌ دائمًا في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إلى «هيدجر» وهو يقول في «الوجود والزمان»: «إن الآنية، في اتجاهها إلى الموجودات وإدراكها لها، لا تحتاج إلى مغادرة مجالها الداخلي الذي نتصورها حبيسةً فيه، وإنما هي بحسب طبيعة وجودها الأولية موجودةٌ دائمًا «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي تلتقي به في عالمٍ تم اكتشافه بالفعل … ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوعٍ بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما تظل الآنية العارفة، في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما تدركه والإبقاء عليه، دائمًا في الخارج بوصفها آنية.» إنها إذن ليست بحاجة لما نسميه ﺑ «العلو»، أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنها على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي تصادفها في هذا العالم، كما أنها دائمًا «بالداخل» باعتبارها «وجودًا في العالم» يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، وصفوة القول أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل، بحيث لا تعدو أن تكون «تحولًا» لهذه العلاقة نفسها:
(٣) العالم وعلاقتنا بالأشياء الموجودة في العالم
إذا غاب الشيء برز حجمه، وتجلت قيمته، مما يجعل الطرح أيسر طريقةٍ لقياس قدر الأشياء، اخلع هذا الشيء من مستقره وانظر حجم الفجوة التي كان يملؤها، امح، في الخاطر، عمل هذا الفنان أو ذاك، وانظر كم يعاني التراث الفني بافتقاده، اطرح هذا الشخص في الظن أو في الحقيقة، وانظر كم يعتري المجلس في غيابه من وهن الفاقة أو من ذبول الشوق.
من الأهمية بمكان أن نلتفت إلى أن مصطلح «العالم» عند «هيدجر» لا يعني البيئة التي نعيش فيها بالمعنى الموضوع للبيئة، أي العالم كما يبدو للنظرة العلمية، بل هو أقرب إلى ما يمكن أن نسميه عالمنا الشخصي، فالعالم عند «هيدجر» ليس جملة جميع الموجودات بل تلك الجملة من الموجودات التي يجد الكائن الإنساني نفسه دائمًا مغمورًا بها منغمسًا فيها من الأصل ومحاطًا بظاهرها كما ينكشف خلال فهمٍ مسبقٍ دائمًا وشاملٍ ومحيط.
إن تصور العالم كشيءٍ منفصل عن النفس، لهو تصورٌ مناقضٌ تمامًا لتصور «هيدجر»؛ لأن مثل هذا التصور يسلم منذ البداية بذلك الانفصال عينه بين الذات/الموضوع الذي ينشأ هو نفسه داخل السياق العلائقي المسمى بالعالم، إن العالم سابقٌ على أي انفصال بين النفس والعالم بالمعنى الموضوعي، إنه سابق على كل «موضوعية»، كل تنظير، وهو من ثم سابقٌ أيضًا على الذاتية ما دام كلٌّ من الموضوعية والذاتية متصورًا داخل مخطط الذات/الموضوع.
من المحال أن نصف العالم عن طريق تعداد الكائنات بداخله، فمن شأن هذه العملية أن تجعل العالم يفلت منا، ذلك أن العالم هو بالضبط ذلك الذي نفترضه مسبقًا في كل فعلٍ من أفعال معرفة الكائنات، فكل كيانٍ (كائن) في العالم إنما يُفهم بوصفه كيانًا في ضوء «عالم»، عالمٍ هو دائمًا هناك بالفعل، هناك من الأصل، والكيانات التي تشكل العالم المادي للإنسان ليست عالمًا بحد ذاتها بل في عالم. «وحده الإنسان من لديه عالم.» والعالم هو شيءٌ شاملٌ محيطٌ وقريبٌ لصيقٌ بالإنسان في الوقت نفسه بحيث يند عن الملاحظة، إنه غير مرئي بحد ذاته، غير أن المرء لا يمكن أن يرى أي شيء حق رؤيته بدونه! فالعالم حاضر على الدوام، إنه محيط خفي يُسلم به المرء ويفترضه مسبقًا في كل أمر، غير أنه «شفاف» يفلت من كل محاولة لفهمه كموضوعٍ أو شيء.
هكذا يكون مجالٌ، عالمٌ، جديدٌ قد انفتح للاستكشاف، إن مقاربته لن تكون سهلة، فلا الوصف الإمبيريقي للكيانات بداخله ولا حتى التفسير الأنطولوجي لوجودها الفردي بحد ذاته سوف يقابل ظاهرة العالم، العالم هو شيء يُحس بجانب الكائنات التي تظهر في العالم، غير أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم، فالعالم أساس كل فهم، العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية (الدازاين).
ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينةٍ في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية، فالأدوات التي يستعملها كل يوم، وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير، كل هذه تغدو شفافةً لا يتلفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدعٌ ما أو تعطل. عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة: هي أن ««معنى» هذه الأشياء يكمن في علاقتها ببناءٍ كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة.» إبان التعطل، وللحظةٍ وجيزةٍ فقط، يُضاء معنى الأشياء ويبزغ من العالم بشكلٍ مباشر.
إن الفرق كبيرٌ والبَوْن جِدُّ بعيد بين مثل هذا الفهم لشيءٍ من الأشياء وبين الفهم الذهني المجرد! ويضرب «هيدجر» في «الوجود والزمان» مثلًا قريبًا وهو المطرقة (الشاكوش)، فالمطرقة الموجودة التي لا تتحلى بأكثر من الحضور هي شيء يمكن وزنه وتمكن كتابة بيان بخصائصه، وتمكن مقارنته بغيره من المطارق، إلا أن المطرقة المكسورة هي التي تكشف للتو واللحظة ماذا تكونه المطرقة، وإن هذه الخبرة لتومئ إلى مبدأ هرمنيوطيقي: هو أن وجود شيءٍ من الأشياء ينكشف لا للنظرة التحليلية التأملية بل في اللحظة التي يميط فيها اللثام عن نفسه فجأةً في السياق الوظيفي الكامل للعالم، وبنفس الطريقة فإن طبيعة الفهم يمكن إدراكها على أفضل نحوٍ، لا من خلال بيانٍ تحليلي بمواصفاته ولا في فورة أدائه الوظيفي الصحيح، بل حين يتعطل ويصطدم بحائط منيع، «ربما عند افتقاد الشيء يتعين على الفهم أن يحوزه».
ويضرب «هيدجر» مثالًا آخر وهو يقدم لنا في هذا المثال تحليلًا لأداة معينة هي العلامة (مثل علامات المرور أو لافتات الطرق أو الأعلام … إلخ)، وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضح النسق الكلي للأداة توضيحًا تامًّا، فعلامة المرور مثلًا توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور … إلخ، فإذا كانت الأداة العادية (كالقلم مثلًا) غير لافتةٍ للأنظار، نتيجة انصراف الكاتب مثلًا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصيةٍ تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يُوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.
أشرنا — آنفًا إلى أن افتقاد الشيء يوقعه في الفهم! هذه الظاهرة، ظاهرة العطل التي تضيء لحظيًّا وجود الأداة بما هي أداة، تشير كما شهدنا الآن إلى غموض «العالم» الذي نعيش فيه وتخفيه، هذا العالم هو أكثر من مجرد مجال العمليات العقلية الإدراكية قبل الشعورية، إنه المجال الذي نصادف فيه المقاومات والممكنات الحقيقية في بنية الوجود، فتقوم هذه المقاومات والممكنات بتشكيل فهمنا، وهو المجال الذي تتأصل فيه زمانية الوجود وتاريخيته، والمكان الذي يترجم فيه الوجود نفسه إلى معنًى وفهم وتفسير، إنه، باختصار، مجال عملية التأويل، أي العملية التي يتحول فيها الوجود إلى موضوع لغوي.
(٣-١) استحالة التأويل بدون فروض مسبقة
بهذا التوكيد على البنية المسبقة للفهم يتجاوز «هيدجر» النموذج القديم للموقف التفسيري — نموذج الذات والموضوع — ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكًا خطيرةً حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقًا لعلاقة الذات-الموضوع، كذلك يلقي ظلالًا من الشك حول ما يمكن أن يعنيه «التأويل الموضوعي» أو التأويل «بدون فروض مسبقة»، يطرح «هيدجر» هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: «التأويل ليس على الإطلاق فهمًا بلا فروضٍ مسبقة لشيءٍ ما معطى مقدمًا.»
يعني ذلك في التفسير الأدبي مثلًا أن أَنْزَهَ المفسرين لنصٍّ من الشعر الغنائي يطوي جوانحه، في حقيقة الأمر، على فروضٍ مسبقةٍ بَدْئِيَّة، بل إنه في مقارنته لنصٍّ من النصوص يكون قد سلم تسليمًا بأنه صنفٌ معين من النصوص، صنفٌ غنائي مثلًا، ويكون قد هيأ نفسه في الوضع الذي يراه ملائمًا لمقاربة مثل هذا النص. إن لقاءه بالعمل ليس لقاءً قائمًا في سياقٍ ما خارج الزمان والمكان، وخارج أفقه الخاص من الخبرات والاهتمامات، بل هو لقاءٌ في زمانٍ معين ومكانٍ محدد، هناك مثلًا سببٌ وراء التفاته إلى هذا النص دون غيره، هكذا يتبين أن مقاربته للنص محفوفةٌ بالتساؤلات والريب وليست انفتاحًا محضًا قائمًا في فراغ.
من الواجب إذن أن نتذكر أن البنية المسبقة للفهم ليست صفةً تخص الوعي في مواجهة عالمٍ مُعطًى من الأصل؛ ولذا فإن هذه الطريقة من النظر من شأنها أن ترتد بنا إلى نفس النموذج الثنائي في التأويل — نموذج «الذات/الموضوع» — الذي تجاوزه تحليل «هيدجر» وتخطاه، بل إن البنية المسبقة تقوم في سياق العالم، ذلك العالم الذي يشمل الذات والموضوع بداءة، إن وصف «هيدجر» للفهم والتأويل هو وصفٌ يضع الفهم والتأويل في موضعٍ سابق على قسمة الذات والموضوع، فهو يشرح كيف تظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعنى والفهم والتأويل، وهو يشرح ما يمكن أن نسميه البناء الأنطولوجي للفهم.
يترتب على ذلك أن الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية الفهم هي في حقيقة الأمر نظريةٌ في التَّكَشُّف الأنطولوجي، وما دام الوجود الإنساني هو نفسه عملية تكشف أنطولوجي فإن «هيدجر» يأبى علينا أن ننظر إلى مشكلة التأويل بمعزلٍ عن الوجود الإنساني، الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» إذن هي نظرية أساسية في كيف يبزغ الفهم في الوجود الإنساني، وإن تحليله ليربط بين الهرمنيوطيقا والأنطولوجيا الوجودية، وبين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ويرمي إلى تأسيس الهرمنيوطيقا لا على الذاتية بل على «وقائعية» العالم وعلى «تاريخية» الفهم.
(٣-٢) الطبيعة الاشتقاقية للعبارات
غير أن العمليات الأساسية لتأويل العالم لا تقوم في تقريرات منطقية وعبارات نظرية، فالكلمات في الأغلب تكون غائبة، كما هو الحال عندما يجرب المرء مطرقة ثم يتركها جانبًا دون كلام، فهذا فعل تأويلٍ ولكنه ليس عبارة، يقول «هيدجر» إن المطرقة في الأصل هي أداة «في متناول اليد»، وعندما تصبح موضوعًا لعبارة فإن تشييد العبارة نفسه يحمل معه تحولًا في الحالة الأصلية، تحولًا من «بالمطرقة» إلى «عن المطرقة»، تحولًا من الاندماج والاستعمال إلى الإسناد والإشارة، وهكذا يبرز الحضور الشيئي وتختفي الحقيقة والماهية.
إن إبراز المطرقة كشيء هو في الوقت نفسه إخفاءٌ لها كأداة، فنحن في السياق الوجودي الأصلي نقارب المطرقة لا بوصفها موضوعًا بل بوصفها أداة، فتختفي «المطرقة-الشيء» في طي وظيفة «المطرقة-الأداة»، ذلك هو المعنى الهرمنيوطيقي الوجودي للمطرقة، أما عندما نعزل المطرقة عن وظيفتها، عن السياق العلائقي الكلي المعاش، هنالك نكون قد انتقلنا من موقف الفهم المسبق إلى موقف الإشارة الموضوعية، نكون قد نفينا المطرقة من عالم المعنى ونطاق «تناول اليد» ووضعنا ظاهرة المطرقة أمامنا كمجرد شيءٍ ننظر إليه ونتملاه.
يدعونا «هيدجر» إلى التمسك باللحظة الوجودية الهرمنيوطية وعدم التخلي عنها لمصلحة التنظير الخالص والأحكام المحضة الراكدة عند المستوى الضحل للوقائع الحاضرة الموضوعية، تهيب بنا هذه اللحظة الوجودية الهرمنيوطيقية أن ندرك ونميز أن جميع العبارات هي في حقيقة الأمر متشقة من، ومتجذرة في، المستوى الأكثر بداءة للتأويل، وأن العبارات لا يمكن أن تحمل معنى بمعزل عن جذورها في الوجود.
ولعلنا ندرك أهمية هذا التمييز إذا نظرنا إلى الطريقة التي تُعالَج بها اللغة اليوم في «علوم» اللغة، فهناك قصورٌ في جميع تعريفات اللغة التي تبقى عند مستوى العبارات والمنطق ولا تتجاوزه، أو التي تنظر إلى اللغة على أنها مجرد تناول واعٍ للعبارات والأفكار، ذلك أن الأساس الحقيقي للغة هو ظاهرة الكلام-النطق، حيث يُجلب شيءٌ ما إلى النور، هذه هي الوظيفة الهرمنيوطيقية للغة، وحين يبدأ المرء من الكلام يكون قد عاد إلى الحدث الذي تقوم فيه الكلمة بوظيفة الكلمة، يكون قد عاد إلى السياق الحي للغة، يقول جيرهارد إيبلنج مرددًا وجهة نظر «هيدجر»: «إن للكلمة نفسها وظيفةً هرمنيوطيقية.» والحق أن الوظيفة الهرمنيوطيقية الأولية للغة تأخذ موقعًا مركزيًّا في فكر «هيدجر» المتأخر وفي التأويل الثيولوجي الجديد، تعني هذه النظرة إلى اللغة أن الفهم — على حد تعبير «إبيلنج» — ليس فهمًا للغة، بل فهمًا من خلال «اللغة»، وهي نظرةٌ ذات أهميةٍ ثيولوجية هائلة؛ لأنها تلفت انتباهنا مرة ثانية إلى الكلام المنطوق وتؤكد على وظيفة النطق.
إن اللغة بوصفها نطقًا لا تعود حشدًا موضوعيًّا من الكلمات التي يتناولها المرء على أنها أشياء، بل تأخذ مكانها في عالمٍ ما هو «في متناول اليد»، وبوسع اللغة، بطبيعة الحال أن تنتقل إلى النطاق الموضوعي وتصبح مجرد شيءٍ ماثلٍ أمام المرء، إلا أن اللغة من الوجهة الجوهرية هي شيءٌ يجده الإنسان «في متناول يده»، شفافًا، سياقيًّا.
على أن اللغة بوصفها كلامًا منطوقًا ليست تعبيرًا عن «واقع داخلي» ما، ولا ينبغي أن نأخذها هذا المأخذ، بل هي موقف يأتي إلى العلن في كلمات، حتى الحديث الشعري ليس نقلًا لواقعٍ داخلي محض بل مشاركة في عالم، وهو بوصفه كشفًا لا للمتحدث بل للوجود في العالم، فهو ليس ظاهرةً ذاتية ولا ظاهرةً موضوعية، بل هو الاثنان معًا، ذلك أن العالم سابقٌ عليهما ومحيطٌ بهما.
(٤) إسهامات «هيدجر» المتأخرة في نظرية التأويل
بكتابه «الوجود والزمان» ترك «هيدجر» أثرًا حاسمًا على نظرية التأويل، ونقل الهرمنيوطيقا نقلةً كبرى ووضع مسألة الفهم في سياقٍ جديد تمامًا، ولو لم يكتب «هيدجر» شيئًا بعد «الوجود والزمان» لما اختلفت مكانته ولا تأثرت أهميته في مجال التأويل، لقد صارت الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» طريقة وجودٍ وتخطت الحدود التي فرضها عليها دلتاي حين تصورها على أنها الشكل التاريخي للفهم كمقابلٍ للشكل العلمي، لقد مضى «هيدجر» قُدمًا ليعلن أن كل فهمٍ هو فهم زماني، قصدي، تاريخي، وأن الفهم ليس عمليةً عقلية بل عملية وجودية، ليس دراسة عملياتٍ شعورية ولا شعورية، بل هو انكشاف الحقيقة للإنسان وانبلاجها وتجليها، لقد كان المرء في السابق يفترض ببساطة تعريفًا مسبقًا لما هو حق وواقع ثم يتساءل كيف أتت عمليات الذهن بهذا الواقع إلى النور، ثم جاء «هيدجر» ليسبر الفهم إلى عمقٍ أبعد ويشير إلى فعل تأسيس الواقع، كشف الواقع، ذلك الفعل الذي صنع التعريف المسبق وحققه، من الهموم الكبرى ﻟ «هيدجر» المتأخر محاولة العودة إلى ما وراء هذا الحدث — تأسيس الواقع — الذي يقوم عليه اليوم الوجود نفسه ويُصاغ ويتجسد.
يقول «هيدجر» إن «كل شاعر عظيم يكتب قصيدةً واحدة ثم يتوسع فيها وينوع عليها ويأخذ منها»، وما دام الفكر الأصيل شعريًّا بالضرورة فإن كل مفكر عظيم يصدع بفكرةٍ واحدة ثم يبقى طيلة عمره يستقصيها دون أن يستنفدها، وهذا المبدأ ينسحب على «هيدجر» نفسه، لقد كتب «الوجود والزمان» ثم طفق يستقصيه وينوِّع عليه، إن جميع أعمال «هيدجر» المتأخرة هي إضافاتٌ وشروحٌ وهوامش ملحقةٌ ﺑ «الوجود والزمان»، وإكمال لنفس المسعى إلى الوجود، وتعميق وتجذير لتلك الاستبصارات الخصبة التي انطوت عليها رائعته الكبرى، لقد أصبح «هيدجر»، ربما، أكثر الفلاسفة شاعريةً وتأويليةً منذ أفلاطون، غير أن اللحن الأساسي في تفكيره لم يتغير قط بل توسع وتنوع وامتد، ونحن حين نلتفت إلى تركيز «هيدجر» على الفهم كمحور لفلسفته، يمكننا أن ندرك لماذا صار منشغلًا في كتاباته المتأخرة بموضوع «التفكير»، ولماذا يعرِّف التفكير بوصفه استجابيةً لا بوصفه تلاعبًا بالأفكار، وقد كان من الشائع تمييز «تَحَوُّلٍ» أو «منعطف» في فكر «هيدجر»، غير أننا حين نستعرض فكره بمنظور اليوم نجده متجانسًا لا تحول فيه ولا انقلاب، ويظل كتاب «الوجود والزمان» هو التربة التي نما فيها فكره اللاحق، لقد كان «هيدجر» منذ البداية إلى النهاية معنيًّا بالعملية التأويلية التي يمكن للوجود بواسطتها أن يخرج إلى النور، وقد كان مدخله إلى ذلك في «الوجود والزمان» هو فينومينولوجيا الآنية (الدازاين)، وفي الأعمال اللاحقة صار مدخله استكشاف العدم، ولفظة «الوجود» نفسها، والمفاهيم اليونانية والحديثة للوجود والحقيقة، والتفكير، واللغة، صحيح أنه صار أكثر شاعرية وغموضًا ونبوئية في كتاباته المتأخرة، إلا أن كشف الوجود وإظهاره بقي هو موضوعه الدائم.
في كتابات «هيدجر» المتأخرة أخذ الطابع التأويلي لتفكيره أبعادًا جديدة، غير أنه صار أكثر تأويلية لا أقل، بل صار تأويليًّا بمعنى الاهتمام بتأويل النصوص، وفيما ظلت تيمته الرئيسية هي كيف تم نسيان الوجود وتم فهمه والتعبير عنه في حدود سكونية وماهوية، فإن موضوع التأويل قد تحول من وصفٍ عام للحياة اليومية للإنسان في اتصاله بالوجود إلى الميتافيزيقيا والشعر، وتزايد اهتمام «هيدجر» بتأويل النصوص وبخاصة الشذور القديمة بحيث جعل التأويل جزءًا من طريقته في التفلسف، ونحن قلما نجد في تاريخ الفلسفة الغربية من يضارعه في ذلك، وحتى لو لم يكن «هيدجر» قد قدم في «الوجود والزمان» إسهامه الفلسفي الحاسم في نظرية الفهم، لبقي رغم ذلك هو الأكثر تأويلية في تاريخ الفلسفة الغربية.
ولعل السبب وراء هذا التطور هو الطبيعة الهرمنيوطيقية الصميمة لكل محاولة للتعامل مع «الوجود»، إذا تم ذلك في سياق عملية الفهم التي تخرج بها الأشياء إلى النور، وتغدو المحاولة أكثر هرمنيوطيقة إذا شئنا أن نمضي وراء «نص» الفكر الغربي إلى الأسئلة التي أنتجت ذلك التراث، ثم تأتي محاولة استخلاص المعنى الخفي للنص وعدم القناعة باستكشاف النسق الكلي وفقًا لادعاءاته الخاصة، هذا ما يحاول «هيدجر» أن يفعله فيما هو يقدم في الوقت نفسه وجهة نظره الخاصة في الموقف الهرمنيوطيقي الصحيح للإنسان بالنسبة للوجود وبالنسبة للتراث.
(٥) نقد «هيدجر» لفكر «الحضور»، ومذهب الذات، والتقنية
في كتابه «الوجود والزمان» كان «هيدجر» قد ألمح إلى اتجاه نقده اللاحق لفكر «الحضور»، وذلك في شرحه للطبيعة الاشتقاقية للعبارات؛ إذ تنزع إلى عرض الأشياء بطريقة لا تهدف إلا لجعلها محط الأنظار لا أكثر، وقد أوضح «هيدجر» إذاك كيف أن تصور الشيء، داخل البنية المسبقة للفهم، كان يميل على نحوٍ خفيٍّ إلى الخضوع لمتطلبات الفكر المنطقي والتصوري، وكيف أن المطرقة مثلًا قد انتُزعت من سياقها الحي ووُضعت في العالم التجريدي للتفكير الحضوري، وفي كتاباته المتأخرة يقوم «هيدجر» بمراجعة الفكر الغربي ويبين كيف انتهى المطاف بهذا الفكر إلى أن يعرِّف التفكير، والوجود، والحقيقة، في حدودٍ «حضوريةٍ» صميمة.
وحتى «فلسفة القيم» الحديثة لا تعدو أن تكون نتيجة أخرى لميتافيزيقا مذهب الذات، فالقيم هي بدائل مؤقتة قُصد بها أن تزود «الأشياء» (ما دامت قيمتها الآن متوقفة على الذات) بالمعنى الذي فقدته حين دخلت في إطار مذهب الذات، لقد فُقد الإحساس بقداسة الأشياء وانخفضت مكانة الأشياء إلى مجرد فائدتها للإنسان، وحين يُقيِّض الإنسان القيم للأشياء يكون قد اقترب كثيرًا، من الوجهة الفلسفية، من النظر إلى القيم ذاتها على أنها أشياء، عندئذٍ تكون القيمة هي شيءٌ ما يلقيه المرء، كأنه طبقةٌ من الطلاء، على الأشياء في عالمه، ويصبح العلم والمذهب الإنساني هما الشعارَيْن المميزَيْن لعصرٍ أصبح الإنسان فيه بحقٍّ مركز جميع الأشياء ومقياسها.
لا تعرف إرادة القوة القائمة على مذهب الذات أيَّ قيمةٍ نهائية، ولا تعرف غير التعطش الدائم لمزيدٍ من القوة، ويتجلى هذا في عصرنا الحاضر في التكالب المسعور على السيطرة التكنولوجية، غير أن تأثير التفكير التكنولوجي هو أكثر شمولًا وخفاءً من ذلك؛ لأننا شيئًا فشيئًا صرنا نعتبر التفكير نفسه مسألة سيطرةٍ وسيادة، لقد أصبح التفكير تكنولوجيًّا يتشكل وفقًا لما تقتضيه المفاهيم والأفكار التي تمنحنا سيطرة على الأشياء وعلى الخبرة، لم يعد الفكر مسألة استجابةٍ مفتوحةٍ للعالم بل أصبح محاولات محمومةً للسيطرة عليه، لم يعد راعيًا حصيفًا وحارسًا أمينًا لثروات الأرض، بل أصبح يستهلك العالم ويستنفد ثرواته في محاولة إعادة تشكيله وفقًا لأغراض الإنسان، لم تعد للنهر، على سبيل المثال، قيمةٌ داخلية، وصار الإنسان يغير مجراه بما يخدم مصالحه، فيبني السدود الضخمة، ويلقي النفايات السامة في النهر ولا يراعي حرمته، لقد فرت الآلهة وصارت الأرض تُستهلك بلا هوادة، وهذه، فيما يرى «هيدجر»، هي النهاية المأساوية لتطور التفكير من أفلاطون، مرورًا بديكارت ونيتشه، ووصولًا إلى عصرنا الحالي.
ثمة إذن فرق هائل يمس نظرية التأويل حين يتم النظر إلى التفكير على أنه تناول أفكار؛ لأن التأويل نفسه عندئذٍ لا يعود تناولًا لمادةٍ مجهولة يجب أن تخرج إلى النور بل يصبح توضيحًا وتقييمًا لمعطياتٍ معلومةٍ سلفًا، هنالك تنحصر مهمة التأويل لا في «إظهار» الشيء وإماطة اللثام عنه بل في تحقيق الثواب والصحة من بين العديد من التأويلات الممكنة، من شأن هذه الفروض المسبقة أن تُبقي المرء دائمًا في الضوء الواضح لما هو معروف سلفًا بدلًا من أن تعبر به الفجوة بين الضوء والظلام، واللغة لا يمكن تصورها في هذا الإطار إلا كنسق من العلامات يتم تطبيقها على مجموعة معلومة سلفًا من الأشياء.
- (١)
مسألة التعدي على النص أو التجرؤ عليه.
- (٢)
مسألة فهم الكاتب فهمًا أفضل من فهمه هو لنفسه.
حين نتصور الحقيقة كشيءٍ ما يبزغ ثم يتوارى بالحجاب، وحين يضع الفعل الهرمنيوطيقي المفسِّر على حدود الفراغ الخالق الذي ينبثق منه العمل، عندئذٍ يجب أن يكون التأويل متفتحًا لما لم يُقل بعد، ذلك أن «العدم»، في مفهوم «هيدجر»، هو الخلفية الخلاقة لكل إبداعٍ إيجابي، إلا أن هذا العدم لا يحمل معنًى إلا في سياق الوجود وفي إيجابية الوجود، وحين يتم النظر إلى العمل الفني لا كموضعةٍ أو إسقاطٍ للذاتية الإنسانية بل كانكشافٍ للوجود أو كنافذةٍ إلى العالم المقدس، تكون مواجهة العمل الفني أقرب إلى استلام هدية أو نيل هبة وليس عملية إدراك ذاتٍ لذاتيتها.
(٦) على الطريق إلى الفكر
في حواره الشهير مع الياباني يذهب «هيدجر» إلى أن الإنسان يقف في «علاقة هرمنيوطيقية» يكون فيها هو «حامل الرسالة» وهو المفصح عن الوجود، فالإنسان هو ذلك الكائن الذي يعبر الفجوة بين خفاء الوجود وتجليه، بين تحجب الوجود وانكشافه، بين العدم (بتعبير آخر) والوجود، والإنسان إذ يتكلم إنما «يؤول» الوجود، والتفكير الحق في تعريف «هيدجر» ليس تناولًا وتلاعبًا بما تم انكشافه، بل كشفًا لما خفي واحتجب، على أن النص الذي يقوله مفكرٌ أو شاعرٌ كبير ينطوي دائمًا على الكثير من الأشياء التي تظل محتجبةً غير مقولة، ومن ثم فإن الحوار الفكري مع النص من شأنه أن يثمر مزيدًا من الكشف ويؤدي إلى مزيد من الإفضاء، ويصبح هذا تأويلًا بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن هذا الفعل التأويلي الثانوي يجب أن يرتد باستمرارٍ إلى إعادةٍ وديةٍ متعاطفةٍ للكشف الأصلي، ويجب أن يتلبث دائمًا على الحدود فيما بين المحتجب والمنكشف.
كيف يمضي الحوار الخلاق مع النص؟
في كتاباته المتأخرة كان «هيدجر» أميل إلى أن موقف الإنسان ينبغي أن يكون نوعًا من السلبية المنفتحة القانتة في إصغاء تامٍّ لصوت الوجود، إلا أنه في عملٍ من أعماله المبكرة، هو «مدخلٌ إلى الميتافيزيقا» يقدم عرضًا ذا أهمية هرمنيوطيقية حول طبيعة التساؤل الخلاق، وهو عرضٌ يضم معًا عددًا من العناصر الهامة في فكر «هيدجر» اللاحق.
التساؤل، عند «هيدجر»، هو طريقةٌ للإنسان في الجدل مع الوجود وحثه على أن يسفر عن وجهه، التساؤل الذي يبقى عند مستوى وجود الموجودات ولا يتجاوزها إلى أساس هذا الوجود وخلفيته، إنما هو تساؤل زائف، أو هو ليس تساؤلًا حقيقيًّا بل تلاعبًا أو حسابًا أو شرحًا، يقول «هيدجر» «إننا نعاني منذ زمن طويل من شلل السؤال وذهاب كل شغف به، لقد أضعنا السؤال بوصفه عنصرًا أساسيًّا من عناصر الوجود التاريخي».
- (١)
تحديد ماهية الإنسان ليست جوابًا على الإطلاق، وإنما هي، جوهريًّا، سؤال.
- (٢)
توجيه هذا السؤال هو شيءٌ تاريخي بمعنى أن هذا السؤال يخلق التاريخ خلقًا أول.
- (٣)
لا يحدث التاريخ، ومعه وجود الإنسان، إلا حيث يكشف الوجود عن نفسه في عملية السؤال.
- (٤)
لا يعي الإنسان نفسه إلا ككائنٍ تاريخي متسائل، ولا يكون ذاتًّا إلا بوصفه كائنًا تاريخيًّا متسائلًا، فذاتية الإنسان تعني هذا: إن عليه أن يحوِّل الوجود الذي يكشف له عن نفسه إلى تاريخٍ ويحمل نفسه على الوقوف فيه.
في كتاباته المتأخرة يتحول اهتمام «هيدجر» من تساؤل الإنسان إلى ضرورة الانفتاح اليقظ على الوجود، ما يزال الوجود في هذه الكتابات تاريخيًّا غير أن حدوثه يعد هبةً من جانب الوجود لا نتاجًا لبحث الإنسان وفهمه.
غير أننا يجب أن نأخذ حذرنا من تصور أي نقطة تحوُّل أو انتقال جذري هنا؛ لأن «هيدجر» في حقيقة الأمر لا يناقض موقفه الأول بل يكمله، إنه يحاول في أعماله المتأخرة أن يؤكد موقفه غير المتمركز على الذات، ولهذا السبب فهو يحول الصورة من إظهار الإنسان متسائلًا مجادلًا للوجود إلى إظهار الإنسان على أنه «راعي الوجود»، غير أنه حتى بوصفه راعيًا للوجود فإن رعايته تتمثل في هيئة «تفكير» و«بناء شعري»، وهذان كلاهما فعلان من جانب الإنسان (وإن يكونا استجابةً للوجود) ويحتفظان بطابعهما التاريخي.
الانفتاح على الحقيقة، الانتظار اليقظ، الإصغاء لنداء الوجود؛ ﻟ «لا تَحَجُّب» «الحقيقة كهديةٍ من جانب الوجود لا كثمرةٍ لبحث الإنسان: هذا هو القانون الأول للفكر وليس قواعد المنطق»، وقد سبق أن ألمعنا في الفصل الخاص بمعنى الهرمنيوطيقا إلى أن «هيدجر» يرى صلة وثيقة بين طبيعة الهرمنيوطيقا وطبيعة هرمس رسول الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، فالرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالةً عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل، التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرًا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤوِّل هو أن تصغي أولًا، أن تفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، أن تفتح كيانك كله لعملية «التجلي»، ألا تفعل بقدر ما تنفعل، أن تتلقى ولا تنخذل أمام سفور الحقيقة، تمامًا مثلما يفعل الشعراء في لحظة الإلهام كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، هكذا يعود بنا «هيدجر» إلى لحظة أكثر بداءة، لحظة سابقة على أي استدلال أو إعمال ذهن، سابقة على أشكال فكرنا الحاضرة، إن مشروع «هيدجر» التأويلي ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى «هيدجر» أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، فإذا توجب على المرء أن يبحث عن الثقل الخفي للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث، ولكي يفلت من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنةٍ وأمكنة ولغات أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو أو تصنيفاته الذهنية.
(٦-١) اللغة والكلام
تتحدث هذه القصيدة عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بشكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته «الاسم»، نعمةً منها وهدية، فهي تبحث في أعماق نبعها عن اسمٍ لكل شيء ولكل خبرة، والكلمة هي التي تُظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار (وهي الآن تزدهر وتسطع نافذةً في العظام)، ومهما يكن ثراء الخبرة وعُرامها فلا ضمان لفهمها ودوامها وتوصيلها للآخرين إذا لم يقيض لها الكلمات التي تترجمها وتفضي به وتنميها، وحين لا يجد المرء كلمةً تترجم خبرته (لا تجد ربة القدر اسمًا لجوهرة الشاعر) فلا جدوى للخبرة ولا قيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق! الأسماء إذن هي التي تُحضر الأشياء وتمدها بالوجود والثبات، وهي التي تسبغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تصبح ذاتها» على حد تعبير بول ريكور.
في كتابه «الوجود والزمان» وضع «هيدجر» اللغة في سياق جديد، وذلك حين قام بتحليل الوجود في العالم بوصفه فهمًا وتأويلًا، واللغة هي تَلَفُّظ الفهم الوجودي، وهي وثيقة الصلة بالفهم بحيث يصبح التفكير المنطقي والتلاعب التصوري بموضوعات العالم أمرًا ثانويًّا واشتقاقيًّا بالمقارنة باللغة في السياق الحي للتلفظ الأولي للفهم، ومنذ «الوجود والزمان» أدرج «هيدجر» المنطق والقضايا تحت تصنيف الفكر الحضوري بينما جعل اللغة، في جوهرها الحقيقي كتلفظ بدئيٍّ للفهم التاريخي الموقفي، شيئًا ينتمي إلى ماهية الإنسان وطريقة وجوده، ومن هذه الزاوية أمكن ﻟ «هيدجر» أن يهاجم النظريات التي ترى اللغة مجرد أداة للاتصال والتواصل.
يحتل موضوع اللغة موقعًا حاسمًا في كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» الذي يكرسه «هيدجر» لبحث السؤال «ما هو الوجود؟» ويعود فيه إلى شذرةٍ من بارمينيدس وجد فيها الإقرار بأن الوجود لا ينفصل عن فهم الوجود، فالوجود والفهم شيءٌ واحد، مثلما أن الوعي وموضوعه شيءٌ واحدٌ عند بارمينيدس، يعني ذلك أنه «ثمة وجود فقط عندما يكون هناك ظهور، لا تَحَجُّب، انكشاف»، ومثلما أنه لا يمكن أن يكون هناك وجودٌ بدون فهم، ولا فهم بدون وجود، كذلك لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون لغة، ولا لغة بدون وجود.
يتساءل «هيدجر»: هب الإنسان لم تكن لديه معرفة مسبقة بالوجود، لم يكن لديه معنًى غامض للوجود، فهل كان ذلك سيؤدي إلى نقصان لغتنا لاسم وفعل (فعل الكينونة) ليس إلا؟ ويجيب «هيدجر»: كلا، بل لن تكون هناك لغةٌ على الإطلاق، ولن يتسنى لأي وجود، بما هو كذلك، أن يكشف عن نفسه في كلمات، ولن يعود بالإمكان استحضاره أو الحديث عنه في كلمات، ذلك أن الحديث عن الوجود، بوصفه وجودًا، لا بد أن يتضمن فهمه مقدمًا كوجود، أي فهم وجوده.
ومن الجهة الأخرى، لو لم تكن ماهيتنا تتضمن القدرة على اللغة، لكان كل وجود منغلقًا أمامنا، بما فيه وجودنا نفسه، فبدون اللغة لما أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأي أسلوب يمكن أن نتخيله، و«هيدجر» يقول في ذلك بصريح العبارة: «أن تكون إنسانًا هو أن تتكلم.» يقول «هيدجر» إنه لوهمٌ عظيم إذن أن نظن أن الإنسان قد اخترع اللغة! فالإنسان لم يخترع اللغة، تمامًا مثلما أنه لم يخترع الفهم ولا الزمان ولا الوجود نفسه، «هل يُعقل أن يكون الإنسان قد اخترع تلك القوة التي تغمره والتي بفضلها وحدها يمكنه أن يوجد كإنسان؟» وحتى الفعل الإنشائي للتسمية، تسمية الأشياء، هو استجابة من جانب الإنسان لوجود الموجودات.
أما متضمنات ذلك بالنسبة للغة فهي أن نعكس الاتجاه المتعارف عليه للكلام، فلا نقول إن الإنسان يتكلم، بل نقول إن اللغة ذاتها تتكلم، «فاللغة»، في جوهرها وصميمها، ليست تعبيرًا ولا هي نشاط للإنسان؛ «اللغة تتكلم»، الكلمات ترن في الصمت، ومن خلالها تتردد حقائق عالم المرء، «هذا الرنين في الصمت ليس من الإنسان، العكس هو الصحيح، الإنسان، في حقيقته وجوهره، من اللغة»، وفعل الكلام هو ما يميز الإنسان بالتحديد، غير أن الكلام هو في ذاته فعلٌ تقوم به اللغة، ما يتجلى في اللغة ليس شيئًا إنسانيًّا بل عالم … الوجود نفسه.
يُعد تحول «هيدجر» في اتجاه التوكيد الزائد على الصبغة اللغوية لطريقة الإنسان في الوجود وتصريحه بأن الوجود يقود الإنسان ويناديه (ومن ثم فالوجود في حقيقة الأمر هو الذي يُظهر نفسه وليس الإنسان)، يُعد هذا التحول ذا أهمية هائلة بالنسبة لنظرية الفهم، فهو يجعل ماهية اللغة هي وظيفتها التأويلية في جعل الشيء يفصح عن نفسه، يعني ذلك أن يصبح مبحث التأويل تمردًا على التحليل المحض والتفسير الصرف من أجل الوصول إلى حوار فكري مع ما يظهر في النص، لم يعد الفهم مسألة تساؤل يريد أن يكون مفتوحًا وغير دوجماوي فحسب بل أصبح أيضًا مسألة تعلم لكيف ينتظر المرء ويترقب وكيف يعثر على الموضع الذي سيكشف فيه وجود النص عن نفسه ويسفر عن وجهه، إن اللغة نفسها هرمنيوطيقية في جوهرها وصميمها، وهي أشد ما تكون هرمنيوطيقية في الشعر العظيم؛ لأن الشاعر، كما يقول «هيدجر» في «ماهية الشعر»، هو الرسول ما بين الآلهة والإنسان.
هكذا وحَّد «هيدجر» بين ماهية الوجود والتفكير والإنسان والشعر والفلسفة وبين الوظيفة الهرمنيوطيقية للقول، وهكذا جعل فلسفته الخاصة هرمنيوطيقية بالدرجة الأساس وجعل موضوعاته الكبرى واقعة في صميم نطاق الهرمنيوطيقا، وقد نجح بالطبع في تحويل سياق الهرمنيوطيقا بأسره بعيدًا عن التصور القديم لها كمبحث فيلولوجي خاص بتأويل النص، لم يأبه «هيدجر» بكثير من المفاهيم السابقة: قسمة الذات/الموضوع، الموضوعية، معايير التحقق، النص بوصفه تعبيرًا عن الحياة؛ كل هذه مسائل غير واردة في منهج «هيدجر»، لقد عرَّف الهرمنيوطيقا على أنها التعامل مع اللحظة التي ينبلج فيها المعنى، إنه فهمٌ هائل الاتساع، على حد تعبير ريكور؛ لأنه لا ينحصر بالضرورة في عملية فهم نص من النصوص، وقد أدى هذا التعريف إلى تغيير جارف في بنية هذا المبحث ومعالمه، ليُعاد تعريف فعل التأويل نفسه ويُوضع في إطار أنطولوجي.
في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقوم «هيدجر» بشرح «أنشودة في الإنسان» من مسرحية «أنتيجونا» لسوفوكليس، في محاولة منه للتعرف على التصور الإغريقي الأول عن الإنسان كما تعبر عنه القصيدة، يقول «هيدجر»:
-
في المرحلة الأولى سوف نقدم المعنى الباطن للقصيدة، ذلك المعنى الذي يمسك صرح الألفاظ ويحفظه ويعلو فوقه.
-
وفي المرحلة الثانية سوف نتفقد التتابع الكامل للفقرات الشعرية Strophes وردودها Antistrophes، ونحدد المنطقة التي تكشفها القصيدة وتبينها وتضيئها.
-
وفي المرحلة الثالثة نحاول أن نتخذ موقفنا في مركز القصيدة، بحيث يمكننا الاطلاع على حكمها فيما يكونه الإنسان وفقًا لهذا الخطاب الشعري.»
في المرحلة الثالثة، نحاول أن نقف في مركز القصيدة، أي في الحد الفاصل بين التَّحَجُّب من جهة وبين الانكشاف الذي أتاحه الفعل الإبداعي للشاعر، فعل التسمية، من جهة أخرى، وأن ننظر مرةً أخرى بتمعنٍ فيما تمت تسميته، يعني ذلك بطبيعة الحال أن نتخطى القصيدة إلى ما لم تقله القصيدة:
«لو أننا قنعنا بما تقوله القصيدة بصورةٍ مباشرة، لبلغ التفسير (التأويل) نهايته (مع المرحلة الثانية)، غير أن التأويل هنا في حقيقة الأمر يكون قد بدأ لتوه، فالتأويل الحق يجب أن يكشف ما لا يمثل في الألفاظ ولكنه يُشار إليه رغم ذلك (ما يُقال دون أن يُلفظ)، وعلى المفسر لكي يحقق ذلك أن يستخدم العنف! عليه أن يبحث عن الشيء الجوهري حيث لم يتبقَّ شيءٌ يمكن أن يجده التفسير العلمي الذي يصم باللاعلم كل ما يتجاوز حدوده.»
(٧) نظرية هرمنيوطيقية في الفن
يقوم هذا الموقف الاستطيقي على التوتر الداخلي بين «الأرض»، بوصفها الأساس الخلاق للأشياء، وبين «العالم». الأرض عند «هيدجر» تمثل الأم الخصبة والمصدر البدائي والأساس الأولي لكل شيء. والعمل الفني، بوصفه حدثًا تتكشف فيه الحقيقة وتميط لثامها، يمثل الإمساك بهذا التوتر الخلاق واحتباسه في «شكل»، إنه يكشف للإنسان التوتر الباطن بين «الأرض» و«العالم» ويأتي به إلى نطاق الموجودات ككل، المعبد اليوناني، على سبيل المثال، الرابض في الوادي، يخلق فضاءً مفتوحًا في الوجود، يخلق فضاءه الحي الخاص، وهو في جمال شكله الفني يترك مواده البنائية تشع في بهائها، لقد صب هذه المواد في «شكل» من شأنه أن يُظهرها ويبرزها ويجعلها تتلألأ وتضيء، إن المعبد لا يحاكي شيئًا ولا ينسخ أي شيء، إنه، ببساطة، يُفرغ لذاته وينحت من نفسه «عالمًا» يُحس فيه وجود الآلهة وجلال حضرتها، وإذا كانت مادية المواد تختفي في «الموضوعات النفعية» أو «الأدوات» كلما نجحت في أداء وظيفتها كأدوات، فإن العمل الفني لا يفتح «عالمًا» إلا من خلال إظهار مادية المواد على التحديد: «الحجر يبقى حجرًا، والمعدن يضيء ويضوِّئ، والألوان تشع كألوان، والأنغام تأتي صوتًا حقيقيًّا، والكلمة تتحدث»، ولئن كان كلٌّ من المَثَّال والبنَّاء يَستخدم في إنتاجه الصخر أو الحجارة، إلا أن الأول منهما لا يريد للحجارة أن تختفي في طوايا عمله الفني، بل هو يريد لها أن تفصح عن كل ما تنطوي عليه من دلالات جمالية، وعلى العكس من ذلك، نجد البنَّاء يستخدم الحجارة، وكأنما هو يستهلكها؛ لأنه لا يريد لها سوى أن تصبح عنصرًا صلبًا يندمج في بناءٍ متين، دون أن يكون له وجوده المستقل.
إن العمل الفني لا يريد أن يطمس الأرض في صنعته ويخفي أرضيتها، بل يريد أن يترك الأرض أرضًا! فالأرض ليست مجرد شيءٍ جُعل للسير عليه كما أن الشجرة ليست مجرد شيءٍ واقف على الطريق، فالأرض هي ذلك الشيء الذي يكشف عن نفسه في إشعاع المعدن ورنين النغم ثم يخفيها مرة ثانية، إنها تلقائية وموصولة، «وعلى الأرض وفيها يؤسس الإنسان التاريخي سكناه في العالم»، وفي الفن نجد أن تشييد عمل فني من «خامة» الأرض يخلق «عالمًا»، فالعمل الفني يمسك الأرض نفسها ويحتفظ بها في انفتاح «عالم»، فتشييد الأرض وعرض العالم هما، من وجهة نظر «هيدجر»، السمتان الأساسيتان للعمل الفني.
خلاصة
تَبَيَّنَ مما سبق أن إسهام «هيدجر» في النظرية التأويلية هو إسهامٌ متعدد الجوانب حقًّا، في «الوجود والزمان» أعاد «هيدجر» صياغة تصور الفهم ذاته في سياقٍ جديدٍ تمامًا، وبذلك يكون «هيدجر» قد أحدث تغييرًا في الطابع الأساسي لأي نظريةٍ لاحقة في التأويل، لقد أعاد تعريف كلمة «هرمنيوطيقا» نفسها، فجعلها مماثلةً للفينومينولوجيا كما رآها وللوظيفة الأولية للكلمات في إحداث الفهم، وفي أعماله المتأخرة اتخذ «هيدجر» تأويل النصوص منهجًا خاصًّا به في التفلسف، معلنًا نفسه فيلسوفًا «هرمنيوطيقيًّا» بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن المعنى الأعمق للكلمة عند «هيدجر» هو عملية الكشف والإظهار التي بها ينكشف الوجود ويأتي إلى النور، وبهذه الطريقة الهرمنيوطيقية الصميمة قام «هيدجر» بمعالجة موضوعات اللغة والأعمال الفنية والفلسفة والفهم الوجودي نفسه.
لقد تجاوز «هيدجر» مفهوم «دلتاي» العريض عن الهرمنيوطيقا كأساسٍ منهجي لجميع العلوم الإنسانية، فالهرمنيوطيقا عند «هيدجر» تشير إلى واقعة الفهم بما هو كذلك، لا إلى المنهج التاريخي في التأويل كمقابلٍ للمنهج العلمي، فقد تخلى «هيدجر» عن ثنائية التاريخي-العلمي التي نذر لها دلتاي حياته بأكملها، واعتبر أن كل فهمٍ هو شيءٌ متأصل في الطبيعة التاريخية للفهم الوجودي، وبذلك مهد «هيدجر» الطريق لتلميذه جادامر وتأويليته الفلسفية.