جادامر
كان حدثًا فاصلًا في تطور الهرمنيوطيقا الحديثة ذلك الذي وقع عام ١٩٦٠م، حين صدر كتاب «الحقيقة والمنهج» لمؤلفه هانز جورج جادامر، فبين دَفَّتَيْ مجلدٍ واحدٍ قُدمت مراجعةٌ نقديةٌ للاستطيقا الحديثة ونظرية الفهم التاريخي من منظورٍ هيدجري أساسًا، بالإضافة إلى هرمنيوطيقا فلسفيةٍ حديثةٍ قائمةٍ على أنطولوجيا اللغة.
لا يُقارَن هذا الكتاب في ثرائه ودقته الفلسفية إلا بالسفرين الجليلين الآخرين حول النظرية التأويلية اللذين كُتبا في القرن العشرين ﻟ «يواقيم فاكس»، و«إميليو بتي»، كان كل عملٍ من هذه الأعمال الثلاثة يضع لنفسه غايةً مختلفة، ومن ثم فقد أسهم كل منها إسهامه الخاص والمتميز، أما كتاب «فاكس» القائم في ثلاثة مجلدات عن تاريخ الهرمنيوطيقا في القرن التاسع عشر فيمثل مرجعًا لا غنى عنه لأي باحث جاد في الهرمنيوطيقا، غير أنَّه كُتب في أواخر العشرينيات من القرن العشرين، ومن ثم فهو متأثر بدلتاي، ويقف بالضرورة داخل أفق تصوره للهرمنيوطيقا.
أما «بِتي» فقد استعرض الأنواع المختلفة من التأويل بقصد صياغة نظرية عامة شاملة ومنهجية وتأسيس مجموعة من القوانين الأساسية لجميع صور التأويل، والتي يُمكن أن تمثل القاعدة التي يقوم عليها التأويل الصحيح، ومنذ البداية جعل هذا العمل هدفه وضع منطقٍ منظم — وليس مجرد تاريخ — لصور التأويل، وهو بذلك يُعدٌّ مُكملًا قيمًا لعمل «فاكس» الأسبق، غير أنَّ «بِتي» يقف من الوجهة الفلسفية داخل التقليد المثالي الألماني، ويفترض مقدمًا، كبديهيةٍ لا يطالها الشك، نفس المسلمة التي وضعها هيدجر موضع الشك على نحو جذري، يرى «بِتي» أن فكر هيدجر التأويلي يمثل تهديدًا لفكرة الصواب الموضوعي نفسها في مجال الفيلولوجيا (فقه اللغة) والتاريخ، ومن ثم فقد بقي على جادامر من بعد بِتي أن يُطور النتائج المثمرة والإيجابية للفينومينولوجيا، وبخاصةٍ فكر هيدجر، في النظرية التأويلية، كان جادامر هو من قُدِّر له أن يشتبك بالمشكلة الفلسفية الخاصة بتأسيس أنطولوجيا جديدة لحدث الفهم.
(١) نقد جادامر للاستطيقا الحديثة والوعي التاريخي
هكذا مع ظهور «الحقيقة والمنهج» نجد أنَّ النظرية التأويلية قد دخلت مرحلة جديدة وهامة، ونجد أفكار هيدجر التأويلية الثورية قد وجدت لها في كتابة جادامر تعبيرًا منظمًا ومكتملًا، وخرجت إلى النور متضمناتها فيما يتعلق بالتصور التاريخي والاستطيقي، ونجد التصور القديم للهرمنيوطيقا بوصفها المنهج الخاص بالعلوم الإنسانية (دلتاي) قد أُهمل وضُرب عنه صفح، بل نجد فكرة «المنهج» ذاتها قد حُوكمت، ومكانة «المنهج» نفسه قد اهتزت؛ «ذلك أنَّ عنوان كتاب جادامر ينطوي على تهكم»، فالمنهج عنده ليس هو الطريق إلى الحقيقة! بل من دَأْب الحقيقة، على العكس، أن تفوت رجل «المنهج» وتروغ منه، والفهم في تصوره ليس عمليةً ذاتية لإنسانٍ بإزاء موضوعٍ وقبالته، بل الفهم هو أسلوب وجود الإنسان نفسه، والهرمنيوطيقا ليست فرعًا مساعدًا للدراسات الإنسانية بل هي نشاطٌ فلسفي يحاول تفسير الفهم على أنه عمليةٌ أنطولوجية في الإنسان، أسفرت هذه المراجعات والتفسيرات الجديدة عن صنفٍ جديدٍ من النظريات التأويلية، هي «الهرمنيوطيقا الفلسفية» لجادامر.
أعتقد أن التحليل الزماني للوجود الإنساني عند هيدجر قد برهن بوضوح على أن الفهم ليس موقفًا للذات الإنسانية بين غيره من المواقف العديدة، وإنما الفهم هو طريقة وجود الدازاين نفسه، وإنما بهذا المعنى قد قمت باستخدام مصطلح «هرمنيوطيقا» هنا (أي في كتاب «الحقيقة والمنهج»).
لقد كان هذا التوجه الفكري موجودًا عند هيدجر إلى حدٍ كبير، أما الشيء الجديد الذي أضافه جادامر فهو التوكيد على الجانب النظري والجدلي (وربما الهيجلي) والتفتح الكامل لمتضمنات الأنطولوجيا الهيدجرية في مجال الاستطيقا وتأويل النصوص، لقد تلقى جادامر التصورات الهيدجرية الأساسية عن التفكير واللغة والتاريخ والخبرة الإنسانية كما سيلحظ القارئ في هذا الفصل، ومن الأهمية أن يلحظ ذلك؛ لأنَّ الحجج التي يشتمل عليها كتاب «الحقيقة والمنهج» تعتمد بشدة على هذه التصورات، والحق أن هناك صعوبات جمةً تواجه كل من يحاول فهم أفكار جادامر فهمًا صائبًا، ذلك أن أفكاره متعالقةٌ متواشجةٌ بحيث لا يمكننا أن ندخل دائرته إلا تدريجيًّا، ومن ثم فسوف نحاول فيما يلي أن نبرز بعض الخطوط الرئيسية للطريقة التي طور فيها جادامر نظرية هيدجر في الفهم إلى نقدٍ منطقي للاستطيقا الحديثة ومفاهيم تاريخيةٍ للتأويل.
(١-١) نقد الوعي الاستطيقي
يترتب على هذا التصور نتائج كثيرة؛ أولها: أنه لم تعد هناك طريقةٌ وافيةٌ لتعليل الفن غير المتعة الحسية، لم تعد هناك معايير فنيةٌ تتعلق بالمحتوى أو «المضمون» ما دام الفن ليس معرفة، لقد تم وضع تمييزات مغالِطةٍ بين الشكل والمضمون في الفن وعُزِيت اللذة الجمالية إلى الشكل، لم يعد للفن أي مكانٍ واضحٍ في العالم ما دام الفن والفنان لا ينتسبان للعالم بأي صورةٍ محددة، لم يعد للفن أي وظيفة في المجتمع ولم يعد للفنان أي مكان فيه، ولم يعد هناك سببٌ مشروعٌ لتلك «القداسة» الواضحة للفن، والتي نحسها عندما نستاء لأي تحطيمٍ غشومٍ لأي عملٍ فني عظيم، ومن المتيقن أنَّه من الصعب على الفنان أن يزعم أنه ملهمٌ وصاحب وحي إذا كان كل ما يبدعه هو تعبيرٌ شكليٌّ عن مشاعر وكل ما يقدمه هو لذةٌ جمالية.
غير أنَّ هذا التصور للظاهرة الاستطيقية يناقض خبرتنا ذاتها بأي عمل فني عظيم، فخبرة الالتقاء بعملٍ فني تفتح لنا عالمًا وليست مجرد انْشِدَاهٍ بلذةٍ حسية إزاء ظاهر الأشكال، وبمجرد أن نكف عن النظر إلى العمل على أنه «موضوع» ونرى إليه على أنه «عالم»، عندما نرى «عالمًا» من خلاله، عندئذٍ سندرك أن الفن ليس إدراكًا حسيًّا بل «معرفة»، عندما نلتقي الفن تتسع آفاق عالمنا الخاص وفهمنا لأنفسنا فنرى العالم في ضوء جديد، كما لو كنا نراه للمرة الأولى، حتى الأشياء المعتادة والشائعة في الحياة تبدو في نورٍ جديدٍ عندما يضيئها الفن، فالعمل الفني ليس منفصلًا عن عالمنا الذي نعيش فيه ولا عن فهمنا لأنفسنا، ونحن في لقائنا بالعمل الفني لا نوغل في عالمٍ غريبٍ ولا نخطو خارج الزمن والتاريخ ولا ننفصل عن أنفسنا أو عن الأشياء غير الاستطيقية، إننا بالأحرى نصبح حاضرين حضورًا أكثر امتلاء، ونحن حين نضم إلينا ذاتية الآخر ووحدته، بوصفه عالمًا، فإننا في الوقت نفسه نحقق فهمنا لأنفسنا ذاتها. عندما نفهم عملًا فنيًّا عظيمًا فإن خبرتنا بالعمل تتفاعل مع كياننا كله، ويُوضَع فهمنا لأنفسنا على المحك، وما يحدث إذاك هو أننا لسنا من يستجوب العمل وإنما العمل هو من يستجوبنا ويلقي علينا سؤاله، أي يشغلنا بالمسألة التي شغلته والتي أتت به إلى الوجود.
ولكن رُبَّ قائلٍ يقول إننا عندما نشاهد عملًا فنيًّا فإن العالم المألوف الذي نعيش فيه حياتنا يختفي ويتبدد، بينما ينبلج عالم العمل الفني ويبقى لفترةٍ وجيزةٍ عالمًا مغلقًا على حاله مكتفيًا بذاته، وما هو بنسخةٍ محاكيةٍ للواقع وما ينبغي أن يُقاس بمقاييس الواقع، فكيف يمكننا أن نوفق بين هذا القول وبين ما ذهبنا إليه من أن العمل الفني يقدم لنا عالمًا متصلًّا تمام الاتصال بعالمنا الحياتي الذي نعيش فيه؟
إن تبرير ذلك لا بد أن يكون أنطولوجيًّا: فعندما نشاهد عملًا فنيًّا عظيمًا ونَلِج إلى عالمه فنحن لا نغادر بيتنا، إن صح التعبير، بل «نعود إلى البيت»! إننا نقول على الفور، حقًّا إن الأمر كذلك، لقد قال الفنان الحق، لقد قبض على الواقع في صورة، في «شكل»، إنه لم يستحضر عالمًا مسحورًا لا وجود له بل هذا العالم نفسه، عالم الخبرة والفهم الذاتي الذي نعيش فيه ونسعى ونمارس وجودنا، والتحويل إلى «شكلٍ» هو في الحقيقة تحويلٌ إلى حقيقة الوجود، ومن ثم فمشروعية الفن لا تأتي من أنه يقدم لذةً جماليةً بل من أنه يكشف النقاب عن الوجود، وفهم الفن لا يأتي من خلال تقطيعه وتقسيمه منهجيًّا بوصفه موضوعًا، ولا من خلال فصل الشكل عن المضمون، وإنما يأتي من خلال الانفتاح على الوجود، ومن خلال الإصغاء إلى السؤال الذي يلقيه علينا العمل الفني.
الأمر المحوري في خبرتنا الجمالية بعملٍ فني ليس هو المضمون ولا هو الشكل، بل هو «الشيء المقصود» المتوسط تمامًا في هيئة صورةٍ أو شكل، في عالم له منطقه ودينامياته الخاصة، هكذا ينبغي على المرء في حالة التلقي الاستطيقي للشعر ألا يعمد إلى فصل الشعر عن مادته الخام، وفي حالة التلقي المسرحي ألا يعمد إلى فصل الشيء المقصود عن الأداء نفسه؛ لأن وحدة الحقيقة التي ندركها في لعبة الفن لا تقبل القسمة أو التمايز، ولا يمكن أن نفصل بين عناصرها التامَّةِ الاتحاد إلا فصلًا مفتعلًا احتياليًّا. يريد جادامر في حقيقة الأمر أن يُقوِّض كل استطيقا تنطلق من المقدمة المغلوطة التي تحيل العمل الفني بوصفه «موضوعًا» إلى «الذات» في علاقة «الذات/الموضوع»، ويذهب إلى أنه لا بد لنا من أن نظفر أولًا بأفق التساؤل الذي يتجاوز النموذج القديم لثنائية «الذات/الموضوع» حتى يتسنى لنا أن نجد سبيلًا لفهم وظيفة الفن وغرضه، وفهم ما يقوله العمل الفني وكيف يقوله، وفهم زمانية العمل الفني ومكانيته.
(أ) اللعب وطريقة وجود العمل الفني
لظاهرة اللعب عددٌ من العناصر الهامة التي يمكن أن تلقي الضوء على العمل الفني وأسلوبه في الوجود، غير أن جادامر هنا لا يريد بحالٍ أن يبعث نظريات «اللعب» التي تُفسِّر الفن بأنه تصريفٌ لفائض الطاقة وجلبٌ للذة الاستطيقية، تقوم هذه النظريات على أن اللعب هو نشاطٌ للذات الإنسانية، وأن الفن هو نوع من اللعب الذي يجلب متعةً للذات الإنسانية التي تترك العالم لتستمتع بلحظةٍ استطيقيةٍ تسمو على وجودها الأرضي الدنيوي وتنفصل عنه، وتنظر هذه النظريات إلى الفنان على أنه طفلٌ كبيرٌ مرهف الحس يستمد متعةً استطيقيةً من اللعب بالأشكال وقولبة المواد الخام والتلاعب بها وتحويلها إلى أشكالٍ ذات نسبٍ منسجمةٍ وهيئة متسقة تبعث السرور واللذة.
لا جرم يرفض «جادامر» هذه النظريات ويرى فيها الخطأ نفسه الذي يسم الفكر الحديث كله: خطأ إحالة كل شيء إلى الذات الإنسانية، وهو إذ يهيب بظاهرة اللعب فإنه لا يعني به نشاط ذاتٍ إنسانيةٍ تبتكر وتستمتع، ولا يعني به «حرية» الذات الإنسانية التي يمكنها أن تنخرط في اللعب، إنما يشير «اللعب» في نظرية جادامر إلى طريقة وجود العمل الفني نفسه، وهو حين يستعين بمفهوم اللعب في معرض تفسيره الفن إنما يهدف إلى أن يخلص الفن من الميل التقليدي إلى ربط الفن بنشاط الذات.
إنَّ اللعب هو اللعب وما هو بالجِد، إلا أن للعب نوعًا قدسيًّا من الجدية! وحقيقة الأمر أن الشخص الذي لا يأخذ اللعب مأخذ الجد فهو يُفسد المباراة، فاللعبة لها دينامياتها وأهدافها الخاصة بمعزلٍ عن وعي أولئك الذين يلعبونها، المباراة ليست «موضوعًا» في مقابل «ذات»، إنما هي حركةٌ من الوجود محددةٌ ذاتيًّا ندخل فيها وننخرط في مناخها، إن اللعبة (وليس اشتراكنا فيها) تصبح هي «الذات» الحقيقية، صحيح أن اشتراكنا هو الذي يأتي بالمباراة ويجعل منها عرضًا ومثولًا، غير أن ما يمثل الآن ليس ذواتنا الداخلية بل المباراة: المباراة الآن قائمة، إنها تحدث فينا ومن خلالنا.
من وجهة نظر المذهب الذاتي، فإن اللعب نشاطٌ تقوم به ذاتٌ من الذوات، نشاطٌ حر يشاء المرء أن يزاوله ويستخدمه لمتعته الخاصة، غير أنه عندما نسأل ماذا يكون اللعب نفسه وكيف يحدث، عندما نجعل منطلقنا هو اللعب وليس الذاتية البشرية، عندئذٍ يبدو للأمر وجهٌ آخر، صحيح أن اللعب هو مجرد لعب، غير أن المباراة إذ تنعقد فهي تمتلك الزمام، إنها تنفث فينا سحرها وتجذبنا إليها وتصبح لها السيادة على اللاعب، إن للمباراة روحها الخاصة، وللاعب أن يختار اللعبة التي سوف يهب نفسه لها، ولكنه ما إن يَخْتَرْ حتى يدخل عالمًا مغلقًا، هو العالم الذي تجري فيه المباراة في اللاعبين ومن خلال اللاعبين، للمباراة، بمعنًى ما، زخمها الخاص، إنها تدفع نفسها قُدمًا، إنها «تريد» أن تتم حتى النهاية!
«لقد رأينا أن اللعبة لها وجودها لا في وعي اللاعبين أو في أفعالهم، بل هي على العكس تجذبهم إلى عالمها وتعبئهم بروحها، فاللاعب يحس بأن اللعبة بالنسبة إليه هي واقعٌ غالبٌ مسيطر، بل إن ذلك لينطبق أكثر حين يكون هذا الواقع واقعًا «مقصودًا»، وهو ما يحدث عندما يظهر اللعب بوصفه «عرضًا يقدم للمشاهد».
على أن النقاد الجدد ظلوا متورطين في أوهام الاستطيقا الذاتية دون أن يعوا بذلك، وقد كان تصور جادامر كفيلًا أن يكشف لهم بوضوح أكبر طبيعة الاتصال والاستمرار بين الفهم الذاتي المستمد من الأدب والفهم الذاتي الذي توجد فيه ومن خلاله، وكان تصور جادامر جديرًا بوجه خاص أن يبصرهم بتاريخية الأدب، لقد طالما اتخذ أتباع النقد الجديد من الشكل نقطة انطلاق لتحليلاتهم، مما أوقعهم على الفور في جميع الأخطاء التي يجرها التمايز الاستطيقي.
في الوقت نفسه ما يزال الكثيرون من مفسري الأدب اليوم يُجْفلون من فكرة أن الأدب ذو صبغة تاريخية، صحيح أن العمل الفني ليس مجرد «أثاث في كتاب التاريخ» غير أنه من الخطر بنفس الدرجة أن نغفل حقيقة أن الفهم الذاتي لروح عظماء الماضي إنما يتمثل وينتقل إلينا تاريخيًّا من خلال الأعمال الفنية، ومن شأن مذهب التمييز بين الجوانب الشكلية للأدب، بوصفها الجانب الاستطيقي، والجوانب غير الشكلية أن تجعل المفسر يحس أنه يحيد عن التناول الفني للعمل كلما شرع في تأمل ما «يقوله» العمل، أما تناول معنى العمل بالنسبة ليومنا الحاضر فلا مكان له فيما يبدو في فلسفتهم عن العمل الأدبي. والحق أن التوتر القائم بين الماضي والحاضر كثيرًا ما يتم كبته في التحليلات الشكلية للشعر والتي تتسم باللازمانية واللاتاريخية، وهنا أيضًا نجد النقد الأدبي الحديث مفتقرًا بشدة إلى فهم الطبيعة التاريخية والزمانية للعمل الفني الأدبي، وسوف يتبين ذلك بوضوحٍ أكبر بعد عرضنا التالي لنقد جادامر للتصورات المعتادة عن التاريخ والتاريخية.
(١-٢) نقد الفهم الشائع للتاريخ
ورغم ذلك فإن مفهوم التاريخية، حتى وهو يؤكد هذه الحقيقة، يؤكد في الوقت نفسه على أن الماضي يظل يؤثر على الحاضر ويفعل فيه فعله؛ فالحاضر أيضًا لا تمكن رؤيته ولا فهمه إلا من خلال مقاصد وطرائق رؤية وتصوراتٍ مسبقةٍ منحدرةٍ من الماضي، إن الماضي عند جادامر ليس كومةً من الوقائع يمكن تحويلها إلى موضوع للوعي، وإنما الماضي تيارٌ نتحرك فيه ونشارك لدى كل فعل من أفعال الفهم. التراث إذن ليس شيئًا يقف قبالتنا بل هو شيءٌ نقف فيه ونوجد خلاله، وهو، في معظمه، وسطٌ بلغ من الشفافية حدًّا يجعله غير مرئي لنا، تمامًا مثلما أن الماء غير مرئي للسمك.
ورد هذا التشبيه في رسالة هيدجر «في النزعة الإنسانية»، وإن يكن ذلك بصدد «الوجود» لا «التراث»، فالوجود هو «العنصر» الذي نعيش فيه، غير أنه لا فرق هناك ولا تناقض في حقيقة الأمر؛ لأن اللغة هي منزل الوجود ونحن نعيش في اللغة وخلال اللغة، ولأن هيدجر وجادامر كليهما يتفقان، فضلًا عن ذلك، على أن اللغة هي مستودع التراث ووسطه الحامل، التراث يختبئ في اللغة، واللغة «وسط» شأنها شأن الماء، يتفق كل من هيدجر وجادامر على أن اللغة والتاريخ والوجود ليست عناصر مترابطة فحسب بل ملتحمة ومنصهرة وملتئمة معًا، بحيث إن «لغوية» الوجود هي في الوقت نفسه «أنطولوجيته»، أي انْوِجادُه وتَأَتِّيه والوسَط الذي يحمل تاريخيته.
كان نقد «الوعي التاريخي» عند كل من جادامر وهيدجر موجهًا بالدرجة الأولى إلى «المدرسة التاريخية» في ألمانيا، تلك المدرسة التي كان يمثلها في القرن التاسع عشر درويسن وفون رانكه، والتي تمثل امتدادًا للهرمنيوطيقا الرومانسية (التي يمثلها شلايرماخر ودلتاي بوجهٍ خاص)، على ألا نفهم من ذلك أنها تضفي على التاريخ صبغة رومانسية على طريقة سير ولتر سكوت، إنها على العكس تمثل أشد المحاولات صرامةً لبلوغ تاريخ «موضوعي» لا يدع فيه عالم التاريخ مشاعره الشخصية تتسرب إلى التاريخ بل يدخل بكليته في العالم التاريخي الذي يود أن يصفه.
لقد أنفق دلتاي عمره في محاولة تأسيس منهجٍ لفهم التاريخ مختلفٍ عن منهج العلوم الطبيعية، وأنفق الشطر الأخير من حياته في محاولة تأسيس الدراسات الإنسانية على مجموعة من الأفكار والإجراءات التاريخية والتأويلية غير المصطبغة بالصبغة الطبيعية، كانت «الخبرة» و«الحياة ذاتها» موضوعاته الرئيسية المتكررة، وكان يرى أن الخبرة إذا نُظر إليها على أنها وحدةُ معنًى تصبح معرفة، وبذلك تكون «الحياة ذاتها» منطوية على تأملٍ انعكاسي باطنٍ فيها (محايث)، كانت العلاقة بين الحياة وعملية المعرفة نقطةً أساسية عند دلتاي، كما لاحظ جادامر بحق، وكان فهم التاريخ يكمن عنده لا في انفصال المرء عن خبرته الخاصة بل في إدراك أنه هو نفسه كائن تاريخي، ويكمن في النهاية في مشاركة المرء مع الآخرين في «الحياة»، يقول دلتاي إن هذا الفهم المعطى سلفًا للحياة هو ما يمكِّن المرء من فهم «تعبيرات الحياة» في الفن العظيم والأدب الرفيع، وعندما يواجه المرء هذه التعبيرات ويفهمها فإنه يظفر أيضًا بفهم نفسه؛ فالوعي التاريخي عند دلتاي هو طريقةٌ للتعرف على الذات.
(أ) بعض النتائج التأويلية المترتبة على تاريخية الفهم
مسألة الحكم المسبق Pre-Judgement
ومن المثير للسخرية أن هذه النظرة المغلوطة إلى النص الأدبي تتنكر على أنها أقصى ما وصل إليه التفتح العقلي، رغم أنها تُسلم بالحاضر تسليمًا وتفترض مسبقًا أنه صحيحٌ ولا ينبغي أن يُوضع موضع الاختبار، أي إن الحاضر «مطلق» وإن توجب أن يُعَلَّق ويُنَحَّى جانبًا؛ لأن الماضي لا يمكن أن ينافسه، ونحن إن أنعمنا النظر في هذا التفتح العقلي المزعوم وهذا التعليق للتحيزات نجد أن وراءه ضربًا من الانغلاق وعدم الاستعداد للمخاطرة بأحكامنا المسبقة ووضعها على المحك، إنه يضع الماضي في مقابلنا كشيءٍ لا صلة له بنا تقريبًا، أو كشيءٍ لا يهم إلا أهل الدراسات القديمة، ومن الأمور المؤسفة أن أساتذة الأدب بعامة أصبحوا يُصنَّفون إما إلى شكلانيين (أو جماليين متطرفين) وإما إلى سلفيين مهتمين بالدراسات القديمة، ينعى الفريقُ الثاني على الفريق الأول عدم التعمق في التاريخ وفقه اللغة، بينما ينحي الشكلانيون بالنقد على أساتذة فقه اللغة والتاريخيين؛ لأنهم لا ينظرون في الحقيقة إلى العمل الأدبي على أنه «فن». يستند موقف الجماليين على الفصل المغلوط بين الشكل والمضمون في الاستطيقا الذاتية، فقد رأينا فيما سبق أن الحق والجمال لا يمكن فصلهما في خبرة العمل الفني، وها نحن نرى الآن في ضوء تصورات هيدجر وجادامر عن الفهم التاريخي أن السلفيين والفيلولوجيين من سدنة الماضي ليسوا أقوم فهمًا للتاريخ من الجماليين المتطرفين.
وبوسعنا من الوجهة التأويلية أن نصوغ هذا المبدأ كما يلي: لا يمكن أن يكون هناك تأويلٌ بدون فروضٍ مسبقة، فلا النص الإنجيلي ولا الأدبي يتم تأويله بدون تصوراتٍ مسبقة، فما دام الفهم هو بنية أساسية متراكمة تاريخيًّا وعاملة تاريخيًّا فإنه يتبطن حتى التأويل العلمي، فمعنى التجربة التي نصفها لا يأتي من تفاعل العناصر في التجربة بل من التراث التأويلي الذي تقف فيه ومن الاحتمالات المستقبلية التي تفتحها، زمانية الماضي-الحاضر-المستقبل تنطبق إذن على كل من الفهم العلمي وغير العلمي، إنها عالمية شاملة، ولا يمكن أن يكون هناك فهم بلا فروض مسبقة سواء داخل العلوم أو خارجها.
من أين نحصل على فروضنا المسبقة؟
إذا صح أن من المحال وجود فهمٍ بلا فروض مسبقة، وبعبارة أخرى إذا صح أن ما يُقال له «العقل» هو بناءٌ أو تشييدٌ فلسفي وليس محكمة استئنافٍ نهائية، فإنه يتوجب علينا من ثم أن نعيد فحص علاقتنا بموروثنا، علينا ألا ننظر إلى التراث وإلى السلطة على أنهما عدوان للعقل وللحرية العقلية كما كان يُنظر إليهما في عصر التنوير وفي الحقبة الرومانسية وحتى يومنا هذا، فالتراث يقدم لنا تيار التصورات الذي نقف فيه، ومن واجبنا أن نعرف كيف نفرق بين الفروض المسبقة المثمرة والفروض المسبقة التي تسجننا وتمنعنا من التفكير والنظر، ليس هناك تناقض داخلي، على أية حال، بين دعاوى العقل ودعاوى التراث، فالعقل دائمًا يقف داخل التراث، بل إن التراث ليزود العقل بذلك الجانب من الواقع والتاريخ الذي سيعمل معه، يقول جادامر: إنَّ إدراكنا لاستحالة وجود فهم بلا فروض مسبقة يترتب عليه أن نتخلى عن تفسير عصر «التنوير» للعقل، وأن يسترد التراث والسلطة منزلتهما التي حُرما منها منذ ما قبل التنوير.
وإذا كان من المحال وجود تفسير بلا فروض مسبقة فإن فكرة وجود «تفسيرٍ صحيحٍ» واحد بوصفه صحيحًا في ذاته هي غايةٌ حمقاء وأمرٌ محال، فليس هناك تفسير منبثٌّ عن الحاضر، وليس هناك تفسيرٌ دائمٌ وثابت، وكل نصٍّ ينحدر إلينا، وليكن الإنجيل أو مسرحية شكسبيرية، يتعين أن يُفهم في الموقف التأويلي الذي يقفه، أي في علاقته بالحاضر، وليس يعني ذلك أن نأتي بمقاييس خارجية من الحاضر ونفرضها، كيفما اتُّفِقَ، على الماضي؛ فنجد شكسبير أو الإنجيل غير ذي صلة بنا، بل يعني على العكس أن «المعنى» ليس خاصيةً ثابتةً لموضوعٍ ما بل هو دائمًا «لنا»، كذلك التوكيد على ضرورة أن ننظر إلى النص داخل أفق تاريخيتنا، فهو لا يعني أن «المعنى» مختلفٌ بالنسبة لنا عما كانَه عند قرائه الأوائل، بل يعني أن المعنى هو شيءٌ متعلقٌ بالحاضر ونابعٌ من الموقف التأويلي، وما دام العمل العظيم يكشف حقيقةً عن الوجود فإن لنا أن نفترض أن الحقيقة «الجوهرية» تطابق ما دفع بهذا العمل إلى الوجود في الأصل، وذلك دون أن نقر بفكرة «الحقيقة في ذاتها»، أو فكرة وجود تأويل صحيح صحة دائمة.
مفهوم المسافة الزمنية Temporal Distance
يذهب جادامر إلى أن التوتر القائم بين الحاضر والماضي هو عمل محوري في الهرمنيوطيقا، بل إنه لا يخلو من جوانب بنَّاءةٍ مثمرة، يقول جادامر: «موقعٌ بين الغرابة والإلف يوجد بين ما هو مقصود تاريخيًّا (الموضوعية البعيدة للموروث) وبين انتسابنا لتراث معين، هذا «الما بين» هو الموقع الحقيقي للهرمنيوطيقا»، توسط الهرمنيوطيقا إذن يتضمن كلًّا من الشيء، الذي كان مقصودًا تاريخيًّا، والتراث، إلا أن ذلك لا يعني أن مهمة الهرمنيوطيقا هي تأسيس إجراءٍ منهجي للفهم بقدر ما هي تبيان الشروط التي يمكن في ظلها أن يحدث الفهم.
وحده مرور الزمن ما يُمَكِّن لنا أن نقبض على ذلك الذي يقوله النص، وشيئًا فشيئًا، وبالتدريج فقط، تبزغ الدلالة التاريخية الحقيقية للنص وتشرع في مخاطبة الحاضر.
فهم مؤلف النص
إعادة بناء الماضي Reconstruction of the Past
تهيب بنا الصبغة التاريخية الصميمة المتضمنة في فهم أي نص قديم أن نعيد النظر في الافتراض التأويلي المسبق القائل بأن إعادة تشييد العالم الخاص بالعمل الفني هو المهمة الأولى للفهم، كان الاهتمام الأساسي للتأويل قبل شلايرماخر هو إعادة بناء الخلفية التاريخية للنص المعطى وتحديد سياقه التاريخي الذي يقع فيه، ثم جاء شلايرماخر فأضفى على التأويل طابعًا سيكولوجيًّا واستشفافيًّا، ولكنه ظل على الاعتقاد القديم بأن إعادة بناء السياق التاريخي هي عملية أساسية لفهم أي نص قديم، فالنصوص المقدسة ليست، بعد كل شيء، حاملًا غير زمني لأفكار أزلية وليست تحليقًا خياليًّا شعريًّا خلوًّا من أي دعوى جادة عن الحقيقة، إنها إبداع تاريخي في لغة تاريخية لأناس تاريخيين.
أهمية التطبيق Application
كدرب هيدجر، يُخط لا من أجل السير، وإنما بفعله!
في حالة تطبيق القوانين بصفةٍ خاصةٍ تتجلى هوية التأويل والتطبيق في أوضح صورة: ذلك أن معنى القوانين وروحها لا تتبلور وتبزغ إلا بكدح القضاة في تطبيقها على الحالات الخاصة قاضيًا تلو آخر، وحالةً تلو أخرى، إنها مثال جيد ﻟ ««درب هيدجر» الذي يتعين بالسير عليه ويتحدد بالأقدام التي ترسمه، إنه يُخَطُّ، لا من أجل السير، وإنما بفعله».
إن ما يميز المعرفة العملية، في رأي أرسطو، هو أنها تتعامل مع جزئيات: كيف ينبغي على إنسان معين أن يفعل في موقف معين. تشتمل المعرفة العملية دائمًا على جدل بين «المبدأ العام» و«الحالة الخاصة» أو «الموقف الخاص»، و«الحكمة العملية» هي بالتحديد تلك القدرة على إنجاز هذا التطبيق، وما دام كل صنف من المعرفة يتمتع بتلك الدرجة من الدقة التي يسمح بها موضوعها، وحيث إن المعرفة العملية تتناول الجزئيات، فهي إذن، بحكم طبيعتها ذاتها، لا تتيح إلا معرفة غير دقيقة، إن انعدام الدقة هو جزء من طبيعتها وليس قصورًا يمكن التغلب عليه بمزيد من التقدم في هذا المجال أو ذاك.
فهم النص، إذن، هو تطبيقه.
هذه واحدة من المتضمنات الخلاقة لفكرة جادامر، فالتأويل القانوني والثيولوجي لا يحصر مهمة التأويل في مجرد جهود دراسية قديمة لولوج عالم آخر، بل ترى إلى التأويل على أنه جهد لعبور المسافة واجتياز البون القائم بين النص والموقف الحالي، فسواء كان الموقف هو إصدار حكم أو التبشير بموعظة فلا بد للتأويل ألا يقتصر على شرح ما يعنيه النص في عالمه الخاص بل يمتد ليشمل ما يعنيه النص في اللحظة الراهنة، كذلك يأبى التأويل الثيولوجي والقانوني الإقرار بفكرة أن فهم النص يتم على أساس الانسجام الروحي أو الائتلاف النفسي مع المؤلف، وهو وهم رومانسي محض، فنحن نعرف أن الفهم يمكن أن يتم، بل يتم فعلًا، في وجود الائتلاف وفي غيابه؛ لسبب بسيط، هو أننا لا نتناول المؤلف بل النص.
ومن جهة أخرى يشكل كل من التأويل القانوني والثيولوجي نموذجًا مفيدًا للتأويل الأدبي من حيث إن المؤوِّل في هذين المجالين لا يطبق منهجًا بقدر ما يحاول أن يكيف تفكيره نفسه وينظمه وفقًا للتفكير القائم في النص، ولا يمتلك ملكية بقدر ما يكون مملوكًا لدعوى النص مذعنًا لسلطتها، فالذي يقوم بتأويل «مشيئة القانون» و«مشيئة الله» ليس محتكمًا في موضوعه بل هو خادم له، وموقف التأويل ليس بالموقف الذي يليق فيه بالمرء أن يسلم تسليمًا بفروضه المسبقة ويربأ بها عن الشك والتساؤل ثم يجعل فهمه للعالم وللظواهر خاضعًا لمناهج قائمة على هذه الفروض المسبقة، بل على المرء في الموقف التأويلي أن يخاطر بمذهبه ويضعه تحت ضوء النص ويُخضعه لحكم النص ودعواه، إنه مطالب بأن يترك دعوى النص تكشف عن نفسها كما هي، غير أنه مطالب في الوقت نفسه بأن يرى النص في ضوء الحاضر وأن يترجم معنى الدعوى التي يطرحها النص إلى الحاضر، وفي عملية تفاعل الأفقين، أفق المؤوِّل وأفق النص، والتحامهما، يتسنى للمؤوِّل أن يسمع السؤال الذي كان يشغل النص والذي دعا النص نفسه إلى الوجود.
ونحن نصادف نظيرًا لذلك في التفسير الأدبي عندما نسأل: كيف ينبغي أن نفهم الأسطورة؟ ما الذي يخاطبنا فيها ومن خلالها؟ «ليست الأسطورة وهمًا أو كذبةً أو خرافة، إنها حقيقة كبرى نضجت على مهمل في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصدف، فاكتسبت قوامًا واتخذت شكلًا وصارت مشهدًا حيًّا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئًا هاجعًا ما كنا لنذكره، وما كنا لننساه.»
كذلك الأمر حين نكون بصدد قراءة أو مشاهدة عمل أدبي عظيم: ملتون أو شكسبير أو دانتي أو سوفوكل أو هومر؛ فما نقوم به هنا ليس مجرد «إعادة بناء» عالَم ماضٍ، ذلك أن قراءة العمل الأدبي هي حدث، واقعة تحدث في الزمان، ومعنى العمل هو نتاجٌ لاندماج أفقنا الحاضر نفسه وأفق العمل الأدبي القديم، ثمة شيء شبيه ﺑ «نزع الأسطورية» يحدث في كل فهم أصيل لأي عمل أدبي، وثمة تطبيق على الحاضر يحدث في كل فعل للفهم، أما الظن القائل بأننا حين نقرأ مسرحية لشكسبير «نعود بكليتنا إلى عالم شكسبير» تاركين وراءنا أفقنا الخاص، فهو وهم ودليل على أن اللقاء الاستطيقي قد نجح في أن يُغَشِّي على عامل التطبيق في الفهم.
يؤيد ما ذهبنا إليه أيضًا ما يحدث عندما تُمَثَّل مسرحية شكسبيرية أو مسرحية أقدم على خشبة المسرح: فالمشهد المسرحي يقدم لنا تقنيات معقدة لمساعدتنا على العودة إلى الماضي، والملابس تصنع أحيانًا بتطابق بالغ الأمانة مع الحقبة الزمنية المعروضة، ورغم ذلك تبقى الحقيقة هي أن المسرحية تُمثل في الحاضر، الآن، أمام أعيننا، وفي فهمنا، والموضع الذي تجري فيه المسرحية هو في العقل الجمعي للجمهور، يعرف الممثلون ذلك ويضعونه بالاعتبار في تمثيل أدوارهم، خذ على سبيل المثال مشكلة تمثيل دور الساحرات في «مكبث» على خشبة المسرح، فالإخراج الحديث يميل إلى التقليل من أهمية العنصر الخارق للطبيعة في هذا الصدد ويعرض الساحرات كمجرد نسوة عجائز يتبعن جيش مكبث، ويعرض نبوءاتهم بإضفاء صوت على تأملاتٍ حاضرة أمامنا وبث جو من الاضطراب على المسرح، إنهن يخلقن مناخًا من الشؤم ونُذر الشر، هكذا يتم «تأويل» «معنى» الساحرات بالنسبة لنا اليوم بالطريقة التي يُعرضن بها على المسرح بحيث نجتنب التأثير المضحك الذي يمكن أن تُحدثه الخوارق الخرافية العتيقة الزي لدى المتفرج المعاصر.
من الحقائق الهامة أيضًا أن الإيهام الدرامي في المسرحيات لا يعتمد على المشهد أو الملابس أو حتى الحضور المرئي للممثلين، فالحضور الصوتي، كما هو الحال في التسجيلات الصوتية، هو العنصر الهام بحق، فالإيهام الدرامي هو أن الماضي يحدث في الحاضر، في الحاضر الخبروي وليس في الماضي التاريخي، توضح هذه الظاهرة أمرًا هامًّا عن مفهوم التطبيق في الفهم التاريخي: إنه ليس إحضارًا حرفيًّا للماضي بل إحضار ما هو جوهري في الماضي إلى حاضرنا الشخصي، إلى فهمنا الذاتي، أو بتعبير أدق إلى خبرتنا بالوجود، علينا أن نخدع أنفسنا: إن فهمنا لمسرحية من المسرحيات، عندما «نعرف» ماذا «تعني»، ليس أمرًا مغلقًا على حاله بل هو ربط للعبة المغلقة التي هي المسرحية بحاضرنا ومستقبلنا، هكذا يصرح جادامر: الفهم دائمًا يشتمل على التطبيق، التطبيق على الزمن الحاضر.
(ب) الوعي التاريخي الفعال (العامل/المؤثر/الحق)
يحاول جادامر، كمقابل لذلك الصنف من الوعي التاريخي الذي ينتقده، أن يصف صنفًا أصيلًا من الوعي يظل فيه التاريخ فاعلًا على الدوام، سنطلق على هذا الوعي، على سبيل التخفيف، اسم «الوعي التاريخي العامل» أو «الوعي التاريخي الحق» حسب السياق.
- (١) الأنت بوصفه «موضوعًا» Object داخل نطاقٍ أو مجال.
- (٢)
الأنت بوصفه إسقاطًا تأمليًّا انعكاسيًّا.
- (٣)
الأنت على أنه تراثٌ يتحدث.
- في النمط الأول: من علاقة «أنا-أنت» يُنظر إلى الشخص الآخر «كشيء» محدد داخل نطاق خبرة المرء، وفي الأغلب كشيءٍ يستخدمه المرء كوسيلةٍ أو أداةٍ لتحقيق مآربه، في هذه الحالة يتم فهم الآخر في إطار العموميات ووفق المقولات العامة، في هذا الصنف من التناول يقع كلُّ التفكير الاستقرائي، فإذا ما طبقنا هذا النموذج على العلاقة التأويلية بالتراث لانزلقنا بسهولة في «المناهج» وفي «الموضوعية»، عندئذٍ يصبح التراث موضوعًا منفصلًا عنا، يَنُوسُ على هواه ولا يتأثر بنا أو يتوقف علينا، وسرعان ما نخدع أنفسنا فنظن أنه لا يلزمنا إلا تنحية كل لحظة ذاتية في علاقتنا بهذا التراث لكي نظفر بمعرفةٍ يقينية بما يتضمنه، مثل هذه «الموضوعية» ذات التوجه المنهجي هي في الأغلب الطريقة السائدة في العلوم الطبيعية، والسائدة أيضًا في العلوم الاجتماعية باستثناء المجالات التي تُسفر فيها الفينومينولوجيا عن وجهها، غير أنَّها لا يمكن أن تعود بالنفع على الأفرع البحثية التي تركز على الخبرة الإنسانية، ولا يمكن أن تكون أساسًا يقوم عليه وعيٌ يكون فيه التاريخ فاعلًا (وعي تاريخي حق).
- وفي النمط الثاني: من الخبرة والفهم يُنظر إلى الآخر «كشخصٍ»، غير أن هذه العلاقة «الشخصية» قد تبقى سجينةً في الأنا، وهي في واقع الأمر علاقةٌ بين الأنا وبين «أنت» تشكله الأنا تشكيلًا تأمليًّا انعكاسيًّا، هذا النمط الثاني من علاقة «أنا-أنت» يميز، من الوجهة التأويلية، ذلك الوعي التاريخي الذي اضطلع جادامر بمهاجمته ووجه إليه سهام نقده، هذا النمط من الوعي التاريخي يعرف «آخرية الآخر» في خصوصيته وتميزه وليس في إطار العموميات كما يفعل النمط الأول، آخرية الآخر، إذن، وماضوية الماضي لا تُعرف إلا بنفس الطريقة التي تعرف بها الأنا الآخر، أي من خلال التأمل الانعكاسي، ها هنا نجد الأنا العارفة، في ادعائها معرفة الآخر بكل أحواله الخاصة وادعائها الموضوعية، قد ادعت في حقيقة الأمر أن لها السيادة، غير أن هذا الصنف الخفي من السيادة من خلال الفهم هو الذي يستخدم الفهم لكي يرى التاريخ «قابعًا هناك» بوصفه مجرد «أنت» مُشَكَّل تشكيلًا انعكاسيًّا، إنها تموضع التاريخ وتدمر، في حقيقة الأمر، ما يطرحه علينا من معنى.
- أما النمط الثالث: من علاقة «أنا-أنت» فيتميز بالانفتاح الأصيل على الأنت، هذه هي العلاقة التي لا تُسقط المعنى من الأنا بل تنفتح الانفتاح الأصيل الذي «يدع شيئًا ما لكي يُقال»: «إن الشخص الذي «يسمح لشيءٍ ما أن يُقال له» هو كيانٌ مفتوح بطريقةٍ أساسية»، مثل هذا النمط هو أقرب من النمطين الآخرين إلى ما يعنيه بيوبر بعلاقة «أنا-أنت» الحقيقية، «إنه الانفتاح الذي يود أن يسمع أكثر مما يود أن يسود، يود أن يتغير ويتعدل من خلال الآخر.» وهو الأساس الذي يقوم عليه الوعي التاريخي الحق.١٣
يتكون هذا الوعي من علاقة بالتاريخ لا يمكن للنص فيها أن يكون «آخر» بشكلٍ كاملٍ وموضوعي، ذلك أن الفهم ليس بالتمييز السلبي لآخرية الماضي، بل هو بالأحرى أن يضع المرء نفسه بحيث يقر له الآخر بالأهلية والاستحقاق، عندما يقرأ المرء نصًّا تاريخيًّا على أنه مجرد شيءٍ تاريخي فإنه يكون قد صادر بالحاضر سلفًا وجزم به ووضعه خارج الشك والتساؤل، أما الوعي التاريخي الأصيل فهو لا ينظر إلى الحاضر على أنه ذروة الحقيقة، بل يتذرع بالانفتاح الدائم للدعوى التي يمكن للحقيقة الكامنة في العمل أن توجهها إليه. «يتحقق الوعي التأويلي لا في اليقين الذاتي المنهجي بل في الاستعداد والانفتاح الخبروي كنقيضٍ للجزم الدوجماطيقي.» حين يكتسب المرء «خبرةً» من النصوص فإن ما اكتسبه ليس مجرد معرفةٍ موضوعية، بل «خبرة» غير قابلة للموضعة، إنها «الخبرة» التي أنضجته وجعلته منفتحًا للتراث ومنفتحًا للماضي، إن مفهوم «الخبرة» هو مفهومٌ بالغ الأهمية لفهم تأويلية جادامر كما سيتبين لنا فيما يلي من حديث.
(٢) تأويلية جادامر الجدلية
(٢-١) بنية الخبرة التأويلية
شيءٌ مماثلٌ لذلك يحدث، في رأي جادامر، في مجال اللاهوت وفقه اللغة مع «المنهج التاريخي النقدي» الذي يعكس بطريقةٍ ما نفس الرغبة العلمية العارمة في جعل كل شيء موضوعيًّا وقابلًا للتحقيق، حين تسود هذه الروح لا يعود هناك شيء «واقعي» سوى ما هو قابلٌ للاختبار، ولا يعود هناك مكانٌ للجانب التاريخي والجانب غير القابل للموضعة من الخبرة، ومن ثم فإن تعريف الخبرة نفسه يستبعد معطيات هذه العلوم (فلا تدخل في التعريف).
في مقابل خرافة المعرفة التصورية المحضة والقابلة للتحقيق يدفع جادامر بمفهومه التاريخي والجدلي للخبرة، حيث الخبرة ليست مجرد تيارٍ من الإدراكات الحسية بل واقعة، حدث، لقاء، ورغم أنه لا يشارك هيجل مسلماته ونتائجه فهو يجد في تصور هيجل الديالكتيكي للخبرة نقطة البداية لتأويليته الجدلية الخاصة.
الخبرة، كما يُعرِّفها هيجل، هي نتاج التقاء الوعي بموضوعٍ ما، يقول هيجل: «ثمة حركةٌ بمقتضاها يمارس الوعي فعله في كلٍّ من العارف وموضوعه، وبقدر ما يتولد عن ذلك، بالنسبة له، موضوعٌ جديد يكون ذلك جديرًا بأن يُسمى «خبرة».» الخبرة إذن، وفقًا لهيجل، لها دائمًا بنية انعكاس الوعي أو إعادة تشييده، إنها حركة من نوع ديالكتيكي.
يذهب جادامر إلى أن الخبرة تجد تحققها الجدلي «لا في المعرفة بل في الانفتاح على الخبرة»، ومن الواضح أن الخبرة هنا لا تعني نوعًا من المعرفة المعلوماتية المختزنة عن هذا الشيء أو ذاك، والحق أن جادامر يستخدم مصطلح «الخبرة» بمعنى أقل تقنية وأكثر اقترابًا من معناها الدارج، فتشير «الخبرة» عنده إلى تراكم فهم غير مموضع وغير قابلٍ للموضعة، والذي كثيرًا ما نسميه «الحكمة»، مثال ذلك أن الرجل الذي قضى كل حياته يتعامل مع الناس يكتسب قدرةً على فهمهم، وهي ما نسميه «الخبرة»، وبينما خبرته هي معرفةٌ غير قابلة للموضعة فإنها تدخل في لقائه التأويلي مع الناس، ورغم ذلك فهي ليست قدرةً شخصية محضة، إنها معرفةٌ بطبيعة الأشياء وأحوالها، معرفةٌ بالناس لا يمكن حقًّا وضعها في مصطلحات تصورية.
تومئ الخبرة دائمًا إلى ألم النمو وألم الفهم الجديد، والخبرة شيءٌ لا بد من اكتسابه بصفةٍ دائمة، ولا أحد يستطيع أن ينقذنا منها، وقد نود أن نعفي أبناءنا من «الخبرات» المؤلمة التي مررنا بها نحن، إلا أنه يتعذر إعفاؤهم من الخبرة ذاتها، فالخبرة شيءٌ ينتمي إلى الطبيعة التاريخية للإنسان، الخبرة هي دائمًا تحررٌ من الوهم وخيبةٌ للتوقع ومَسِيرٌ للأمور على ما لم يكن في الحسبان، ولا تأتي الخبرة إلا من هذا الطريق، ورغم ذلك فحقيقة أن الخبرة هي شيءٌ مؤلمٌ بالدرجة الأساس وغير سارٍّ لا يصبغها باللون الأسود ضربة لازب، بل يُطلعنا على طبيعتها الداخلية فحسب، فالسلب والإحباط أو خيبة التوقع وانقشاع الوهم هي صفاتٌ مدمجةٌ في طبيعة الخبرة، وفي طبيعة الوجود التاريخي للإنسان، «تجري كل خبرةٍ عكس التوقع إذا كانت حقًّا تستحق أن تُسمى خبرة.»
(٣) بنية التساؤل في الهرمنيوطيقا
(٣-١) التحام الآفاق Fusion of Horizons
«لكي يستطيع المرء أن يسأل فلا بد أن تكون لديه رغبة في أن يعرف، غير أن هذا يعني أنه يعرف أنه لا يعرف.» وعندما يعرف المرء أنه لا يعرف ثم يتحاشى، رغم ذلك، الاندفاع من خلال «المنهج» إلى افتراض أنه لا يلزمه إلا أن يفهم فهمًا أدق بالطريقة التي يعرفها سلفًا، عندئذٍ فقط يكتسب بنية الانفتاح الذي يميز التساؤل الأصيل، وفي ذلك يقدم لنا سقراط النموذج بالتبادل المرح للسؤال والجواب، سابرًا بذلك أغوار الموضوع نفسه بحثًا عن منفذٍ صحيح إلى طبيعته الحقة.
على أن انفتاح التساؤل ليس انفتاحًا مطلقًا؛ لأن لكل سؤال دائمًا اتجاهًا معينًا، ولأن معنى السؤال يتضمن سلفًا الاتجاه الذي يتعين على الإجابة أن تأتي فيه إذا شاءت أن تكون ملاءمةً وذات معنى، وأنت إذ تضع السؤال تكون قد وضعت الشيء الذي تسأل عنه في ضوءٍ معين، تكون قد اقتحمت وجود الشيء وفتحته عنوةً، التساؤل الحقيقي إذن يفترض الانفتاح (أي إن الجواب غير معروف) وفي الوقت نفسه يشير إلى اتجاهٍ ويحدد حدودًا.
هذه الظاهرة بطبيعة الحال تطرح مشكلة: كيف تسأل السؤال الصحيح؟ فمن الواضح أن منطلق السؤال قد يكون خطأ ومن ثم لا يؤتي معرفةً حقيقية. يرى جادامر أن ليس هناك إلا سبيل واحد للظفر بالسؤال الصحيح، وهو الانغمار في الموضوع نفسه؛ ولذلك ﻓ «الحوار الحقيقي هو نقيض الجدل أو المناظرة»، لأن «المجادل» بطبيعته يتمسك بالجواب الذي بدأ به، أما «المحاور» فهو لا يحاول أن يحرج الطرف الآخر، بل يختبر دعاواه في ضوء الموضوع نفسه، ونحن إذا أنعمنا النظر في محاورات أفلاطون عن الحب أو الأخلاق أو العدالة … إلخ، نجد الحوار يتحرك في اتجاهاتٍ غير متوقعة؛ لأن المتحاورين في هذه المحاورات يقودهم انغماسٌ عام في المسألة موضوع المناقشة، وحين يريد المرء أن يختبر دعاوى الشخص الآخر فهو لا يحاول أن يضعفها، بل على العكس يحاول أن يقويها، أي يحاول أن يجد نقاط قوتها الحقيقية في تناول الموضوع نفسه، هذا ما يجعل محاورات أفلاطون، في رأي جادامر، على أعلى درجةٍ من الأهمية في زمننا المعاصر.
الموضوع العام الذي ينغمس فيه المرء (كل من المفسِّر والنص) في حالة الحوار التأويلي هو التراث أو الموروث، إلا أن الطرف الآخر في الحوار هو «النص»، ذلك الكيان المثبت تثبيتًا عنيدًا في الشكل المكتوب، لا بد إذن أن تُرَدَّ الصبغة الثابتة إلى حركة الحوار، تلك الحركة التي بمقتضاها يحدث الأخذ والرد؛ فالنص يسأل المفسِّرَ والمفسِّرُ يسأل النص، هذه هي مهمة الهرمنيوطيقا: أن تخرج النص من غربته التي يجد نفسه فيها، من حيث هو شكلٌ مكتوبٌ ثابت، وترده إلى الحاضر الحي للحوار الذي يتقوَّم بالسؤال والجواب.
عندما يصلنا نصٌّ ويصبح موضوعًا للتأويل فإنه يطرح على المؤوِّل سؤالًا يحاول المؤوِّل أن يجيب عنه من خلال التأويل، ومن صفة التأويل الأصيل أن يربط نفسه بالسؤال الذي وضعه النص، أن تفهم النص يعني أن تفهم هذا السؤال، ولكي تفهم النص يلزمك أولًا أن تفهم أفق المعنى أو أفق التساؤل الذي يتحدد داخله اتجاه المعنى.
(٣-٢) طبيعة اللغة
(أ) اللغة ليست أداة (الطابع غير الأداتي للغة)
أن تنظر إلى الكلمات على أنها علاماتٌ هو أن تسلبها قوتها البدئية الأصلية وتجعلها مجرد أدواتٍ أو وسائل لتسمية الأشياء، «وحيثما تم النظر إلى الكلمة في وظيفتها كمجرد علامة فإن العلاقة الأصلية بين الكلام والتفكير تتحول إلى علاقة «أداتية»، تغدو الكلمة أداةً للتفكير وتقف كمقابلٍ للتفكير وللشيء الذي تسميه، ولا نعود نرى العلاقة العضوية بين الكلمة وما تسميه، بل نرى الكلمة كمجرد علامة، بذلك يظهر التفكير كشيءٍ منفصل عن الكلمات ويستخدم الكلمات للإشارة إلى الأشياء.»
متى ظهرت نظرية العلامة في الفكر الغربي؟ يتعقب جادامر هذا التصور في التاريخ ويربطه بفكرة «اللوجوس» في الفكر اليوناني، يقول جادامر:
إنها تختفي في وظيفتها (التسمية)، ولا تعود مهمةً في ذاتها ككلمةٍ بل كعلامةٍ فقط، لا يعود يُشار إلى قوتها على كشف الوجود، بل يتلوى «اللوجوس» تزويد العلامات بواقعٍ جاهزٍ معروفٍ سلفًا لكي تشير إليه، لا تعود هناك مشكلةٌ في جانب الكلمات وتتركز المشكلة الحقيقية في جانب الذات التي تستخدم الكلمات، هكذا يُنظر إلى الكلمات كأدواتٍ للإنسان من أجل توصيل فكره، وهكذا يُنظر إليها في النهاية على أنها أداةٌ للذات منفصلةٌ تمام الانفصال عن وجود الشيء الذي تفكر فيه.
فإذا لم تكن اللغة علامة، ولا هي شكل رمزي يبدعه الإنسان، فماذا تكون إذن؟ أولًا وقبل كل شيء، الكلمات ليست شيئًا ينتمي للإنسان، بل هي شيء ينتمي إلى الموقف! إن المرء ليبحث عن الكلمات، الكلمات التي تنتسب إلى الموقف، إن ما تحمله الكلمات حين يقول المرء «الشجرة الخضراء» ليس تأمُّلًا انعكاسيًّا بشريًّا بقدر ما هو الموضوع نفسه، الذي يهم هنا ليس شكل العبارة أو حقيقة أن العبارة تدلي بها ذاتٌ إنسانية، بل المهم هنا هو حقيقة أن الشجرة يتم كشفها في ضوء معين، إن صانع العبارة لم يخترع أي كلمة من كلماتها، لقد تعلمها، وعملية تعلم اللغة لا تأتي إلا بالتدريج ومن خلال الانغمار في تيار الموروث، صانع العبارة لم يصنع كلمةً ثم يسبغ عليها معنًى معينًا، فهذا التصور هو بناءٌ ذهني محض للنظرية اللغوية، يقول جادامر:
«الكلمة اللغوية ليست «علامة» يقبض عليها المرء، ولا هي شيء موجود يشكله المرء ويسبغ عليه معنًى ما فيصنع منه علامة ليُظْهِر بها شيئًا آخر، فكلا الاحتمالين خطأ، وإنما وجه الأمر أن المعنى الأمثل يقبع في الكلمة نفسها، إن الكلمة هي دائمًا مُحَلَّاةٌ بالمعنى سلفًا.»
من الخطأ أن نتصور أن الخبرة هي معطًى غير لغوي يقيِّض المرء له كلماتٍ بشكلٍ لاحقٍ ومن خلال فعل تأملي انعكاسي، إنما الخبرة والتفكير والفهم شيءٌ لغويٌّ قلبًا وقالبًا، وما يفعل المرء حين يصوغ عبارة إلا أن يستخدم الكلمات المنتسبة أصلًا إلى الموقف، وإن تقييض كلماتٍ لوصف الخبرة ليس بالفعل العشوائي، بل هو إذعان لمقتضيات الخبرة.
أن ترى اللغة أداةً للتأمل البشري، أو ترى الكلمات أدواتٍ للذات، هو أشبه بأن تجعل الذيل يهز الكلب! أن تجعل الشكل هو نقطة البداية في اللغة هو في جوهره تكرارٌ لنفس الخطأ الذي ترتكبه الاستطيقا حين تجعل الشكل نقطة بدايتها، إنك إذن تجرد الظاهرة من طابعها كحدث وتفقدها «زمانيتها»، وأهم من ذلك أنك تقع في خطأ اتخاذ الذات الإنسانية، بدلًا من طبيعة الشيء المراد التعبير عنه، كنقطة مرجعية ثابتة، ذلك أنه في حالة اللغة فإن قوتها القولية، وليس شكلها، هي الحقيقة المحورية والحاسمة، لا يمكن للشكل أن ينفصل عن المضمون، غير أننا حين ننظر إلى اللغة كأداة فنحن نفصلهما تلقائيًّا، لا ينبغي للغة، في رأي جادامر، أن تُصنف وفقًا للشكل بل وفقًا لما تنقله إلينا اللغة تاريخيًّا، لا يمكن للغة أن تنفصل عن الفكر.
هكذا يبرهن جادامر على مبدأ وحدة اللغة والفكر نفسه، ومبدأ الصبغة غير التأملية لعملية تكوين الكلمات، وكلا المبدأين يرفض فكرة اللغة كعلامة، اللغة عند جادامر ظاهرة شاملة محيطة، كالفهم نفسه، ومن المحال الإمساك بها كواقعةٍ أو موضعتها على نحوٍ كامل، اللغة، شأنها شأن الفهم، تغمر كل شيء وتحيط بكل شيء يمكن أن يصبح موضوعًا لنا، وقد لاحظ جادامر أن اليونانيين الأوائل لم يكن لديهم كلمةٌ أو تصورٌ للغة نفسها، فاللغة، شأنها شأن الوجود والفهم، هي «وسط» وليست أداة، ويوجز جادامر رأيه عن الشكل، وعن وحدة الفكر واللغة والفهم، وعن خفاء اللغة ولا شعوريتها فيقول:
(٣-٣) اللغة وكشف العالم
إذا كانت وظيفة اللغة ليست الإشارة إلى الأشياء، وإذا كان اتجاه اللغة لا يمضي من الذات، عبر العلامة/الأداة، إلى الشيء المسمى، فنحن إذن بحاجةٍ إلى تصورٍ للغة ووظيفتها يمضي في الاتجاه الآخر: من الشيء أو الموقف — عبر اللغة — إلى الذات، وقد قَيَّضَ جادامر لهذا الغرض مفهوم الكشف أو التمثيل؛ فاللغة تكشف لنا عالمنا (ولا نعني بعالمنا بيئتنا التي يتناولها العلم بل نعني عالمنا الحياتي)، ولكي نفهم تصور جادامر للغة علينا أولًا أن نذكر ما يعنيه بالعالم؛ لأن اللغة عنده هي التي تخلق إمكانية أن يكون للإنسان عالم.
والعالم غير البيئة، فالإنسان وحده هو من لديه عالم، «يتعين على المرء لكي يكون له عالم أن يكون قادرًا على أن يحتفظ أمامه بفضاءٍ مفتوح يتسنى فيه للعالم أن يتكشف له كما هو، أن تمتلك عالمًا يعني في الوقت نفسه أن تمتلك لغة.» الحيوانات مثلًا ليس لديها عالم، وليس لديها لغة، من المؤكد أن الحيوانات يفهم بعضها بعضًا بطريقةٍ ما، ولكن هذا ليس لغة (اللهم إلا عند رجل العلم الذي يعتنق نظرةً أداتية محضة إلى اللغة بوصفها علامة)، فاللغة بوصفها القدرة على فتح فضاءٍ يكشف فيه عالَمٌ عن نفسه هي شيءٌ لا يملكه الحيوان، فالحيوانات، على سبيل المثال، لا يمكنها استخدام جهازها التواصلي في الوصول إلى «فهم» حول موقف أو حدث في الماضي أو المستقبل، وحدها اللغة، بقوتها الحقيقية على تأسيس عالم، يمكنها أن تفعل ذلك.
العالم إذن ليس شيئًا لا شخصيًّا، ولا هو دائرة مغلقة على فردٍ معزولٍ كأنها بالونٌ هائلٌ من إسقاط عقله وإدراكاته، والأقوم أن ننظر إلى العالم على أنه «بين الأشخاص»، إنه الفهم المشترك بين الأشخاص والوسط الحامل لهذا الفهم، والشيء الذي يتيحه ويجعله ممكنًا هو اللغة، واللغة، بوصفها مجال تفاعلٍ متبادل، ليست في حقيقتها «أداة» مشيدة من أجل الفهم، فلو كان الأمر كذلك لكان الإنسان يعيش في نطاقٍ أشبه بنطاق الفهم القائم بين الحيوانات، إنما الفهم في حالة الإنسان هو فهمٌ لغوي، ومن ثم فالذي بين الناس هو «عالم»، العالم إذن هو أرضٌ مشتركة يميزها كل شخصٍ وتربط بين كل من يتواصل في إطارها.
من شأن هذا التصور أن يوسع الأفق الذي نرى فيه الخبرة التأويلية توسيعًا هائلًا، فالذي نفهمه من خلال اللغة ليس مجرد خبرة معينة بل العالم الذي تتكشف داخله هذه الخبرة، إن قدرة اللغة على الكشف تتخطى حتى الزمان والمكان، وبإمكان نصٍّ قديمٍ من أناسٍ ذهبوا منذ عهدٍ بعيدٍ أن يحيي العالم اللغوي «بين الشخصي» الذي كان موجودًا بين أولئك القوم بدقةٍ مذهلة ويجعله حاضرًا أمامنا، هكذا تتحلى عوالمنا اللغوية الخاصة بعالميةٍ معينة تكمن في هذه القدرة على فهم موروثاتٍ أخرى وأماكن أخرى، يقول جادامر:
تتمتع اللغة بقدرةٍ على القول تسمح لها أن تخلق العالم الذي يمكن لكل شيء أن يتكشف فيه، وتتمتع اللغة بشمولٍ وإحاطةٍ تسمح لنا أن نفهم مختلف العوالم التي تمثلت في اللغة مهما تباينت وتنوعت، وتتمتع اللغة بقوة كشفٍ تسمح حتى للنص القصير نسبيًّا أن يفتح عالمًا مختلفًا عن عالمنا، غير أن بإمكاننا أن نفهمه.
(٣-٤) الصبغة اللغوية والخبرة التأويلية
الخبرة التأويلية، كما لاحظنا، هي لقاءٌ بين موروث في هيئة نصٍّ منقولٍ عبر الزمن وبين أفق المفسِّر، وتقدم الصبغة اللغوية الأرض المشتركة التي يتقابلان فيها وعليها، واللغة هي الوسط الذي يختبئ فيه التراث وينتقل عبر الزمن. الخبرة ليست شيئًا ما يأتي سابقًا على اللغة، بل الخبرة نفسها تحدث في اللغة وخلال اللغة، الصبغة اللغوية هي شيء يغمر الإنسان التاريخي ويتخلل طريقته في الوجود في العالم، والإنسان كما لاحظنا لديه «عالم» ويعيش في عالم؛ وذلك بسبب اللغة وبفضل اللغة.
ومثلما «ينتمي» الإنسان إلى جماعةٍ معينةٍ فإنه ينتمي إلى زمنٍ ومكانٍ معينين في التاريخ، وينتمي إلى بلد معين، والمرء لا يقول إن الجماعة تنتمي إليه أو إن التاريخ من الممتلكات الشخصية لذاتيته، ولا هو بأية حال يتحكم في بلده بقدر ما يتحكم بلده في حياته وينظمها، إنه ينتمي إلى هذه الأشياء ولا تنتمي هي إليه، إنه يشارك «فيها»، بنفس الطريقة وبنفس القياس نحن ننتمي إلى اللغة والتاريخ، نشارك فيهما، نحن لا نسيطر على اللغة بقدر ما نتعلمها ونذعن لمقتضياتها، وقوة اللغة على تنظيم فكرنا وتطويعه لا تعود إلى تصلبٍ في اللغة أو قصورٍ بل إلى الموقف وإلى الحالة التي توصلها. الموقف إذن ومقتضى الحال هو ما ينبغي أن نمتثل له ونكيف تفكيرنا وفقه، اللغة ليست سجنًا بل هي فضاءٌ مفتوحٌ في الوجود يسمح بالتوسع اللانهائي بحسب انفتاح المرء على التراث.
لظاهرة الانتماء هذه أهمية كبرى للخبرة التأويلية، فهي تتيح الالتقاء بموروث المرء في النص، فبفضل انتمائنا للغة وانتماء النص إليها في الوقت نفسه يغدو انبثاق أفقٍ مشترك أمرًا ممكنًا، وانبثاق (أو بزوغ) أفقٍ مشتركٍ هو ما يسميه جادامر «التحام الآفاق» كما يحدث للوعي التاريخي الحق، هكذا يتبين أن الصبغة اللغوية هي الأساس الذي يقوم عليه الوعي التاريخي الحق، فالانتماء للغة والمشاركة فيها بوصفها الوسط الخاص بخبرتنا بالعالم (بل السبب الذي يتيح لنا أن يكون لدينا عالمٌ، فضاءٌ مفتوح يمكن لوجود الأشياء أن يتجلى فيه) هما الأساس الحقيقي للخبرة التأويلية.
نخلص من ذلك إلى أن المنهج الملائم للموقف التأويلي الذي يضم المفسِّر والنص هو المنهج الذي يضع المفسِّر في حالة انفتاح تسمح بأن يخاطبه التراث، إنها حالة توقعٍ وتحسبٍ وانتظارٍ لشيءٍ ما أن يحدث، يدرك المفسر في هذه الحالة أنه ليس عارفًا يلتمس موضوعه ويمتلك زمامه ويقتنيه عن طريق اتباع منهجٍ يُطلعه على جلية النص ويكشف له ما يعنيه حقًّا ويهيب به أن يترك تحيزاته جانبًا وينظر بعقلٍ مفتوحٍ نظرةً موضوعية خالصة، لا، ليس هذا منهج جادامر في التأويل، فالتأويل عند جادامر هو أن يكبح المفسر رغبته في التسلُّط والتسيُّد على النص، وأن يضع نفسه في حالة تلقي «خبرةٍ» لا معرفة، فاللقاء بالنص ليس استيعابًا تصوريًّا لشيء ما، بل هو «حدث» فيه ينفتح عالمٌ ما أمام المفسر، وحيث إن كل مفسر يقف في أفقٍ جديد فالحدث الذي يجري، لغويًّا، في الخبرة الهرمنيوطيقية هو شيءٌ جديدٌ يبزغ، شيءٌ لم يكن موجودًا من قبل، في هذا الحدث القائم على الصبغة اللغوية، والمتاح من خلال اللقاء الجدلي بمعنى النص، تتحقق الخبرة الهرمنيوطيقية وتبلغ تمامها.
خاتمة
في «الحقيقة والمنهج» بلغ جادامر بالهرمنيوطيقا مستوًى جديدًا من الشمول والإحاطة، لقد جهد كلٌّ من دلتاي وإميليو بتِّي من أجل تأسيس هرمنيوطيقا عامةٍ وشاملةٍ للعلوم الإنسانية، فماذا عن العلوم الطبيعية؟ هل تتطلب فهمًا من نوع مختلف؟ لقد خلص الاثنان إلى أن تفسير نصٍّ منحدرٍ إلينا تاريخيًّا يتطلب فعلًا من الفهم التاريخي متميز تمامًا عن الفهم الذي يمارسه العالم الطبيعي، أما جادامر فقد رفض هذا التمييز لأنه لم يعد يتصور الهرمنيوطيقا كشيءٍ مقصورٍ لا على النص ولا على العلوم الإنسانية.
الفهم، عند جادامر، هو دائمًا حدثٌ لغويٌّ جدليٌّ تاريخيٌّ، سواء كان ذلك في مجال العلوم أو في الإنسانيات أو في فن الطهي، والهرمنيوطيقا هي أنطولوجيا الفهم وفينومينولوجيا الفهم أيضًا. الفهم ليس فعلًا للذاتية الإنسانية، كما يفترض التصور التقليدي، بل هو الطريقة الأساسية لوجود الدازاين (الآنية) في العالم، أو أسلوبه في الوجود. الفهم ليس شيئًا يفعله الإنسان بل هو شيءٌ يكونه، ومفاتيح الفهم ليست التلاعب والسيطرة بل المشاركة والانفتاح، ليست المعرفة بل الخبرة، ليست الميثودولوجيا (المنهج) بل الديالكتيك (الجدل)، وليست غاية الهرمنيوطيقا عند جادامر أن تقدم قواعد للفهم «الصائب موضوعيًّا» بل أن تتصور الفهم نفسه بطريقةٍ شاملةٍ محيطةٍ قدر المستطاع. لم يكن ما يشغل جادامر هو الفهم الأكثر صوابًا (وبالتالي تقديم معايير للتأويل الصحيح) شأن ناقديه بتي وهيرش، بل الفهم الأكثر عمقًا، الأكثر أصالة.
أخذ جادامر بتعريف هيدجر الأصلي الشامل للفهم، وتعمقه إلى مداه مقتفيًا كتابات هيدجر المتأخرة، فأبرز الجانب الأنطولوجي واللغوي للفهم، وهو بهذا السعي وبمحاولته لتأسيس هرمنيوطيقا فلسفية منظمة فقد اقترب كثيرًا من هيجل الذي يمثل قوةً مؤثرةً كبرى في الفلسفة الألمانية. إن الطابع الجدلي والنظري عند جادامر ليذكرنا بهيجل على الفور، وإن وجه الشبه بين فينومينولوجيا الفهم عند جادامر وبين فينومينولوجيا الروح عند هيجل هو أمرٌ لا يمكن إغفاله.
لعل من الصواب أن تقول إن جادامر كان يميل إلى الوفاق مع هيجل بالقدر الذي يحيد به عن هيدجر، ومن الصواب من جهة أخرى أن نقول إن هرمنيوطيقا جادامر الجدلية هي، ببساطة، امتدادٌ بفكر هيدجر نفسه وتصريحٌ بِمُضْمَرِه. لقد أخذ نظرية هيدجر في الفهم والأنطولوجيا ونقد النزعة الذاتية الإنسانية الحديثة ونقد التكنولوجيا، وطوَّر، بلا تناقضٍ جذري مع هيدجر، هرمنيوطيقا نظريةً ديالكتيكيةً أنطولوجيةً متمركزةً على اللغة.
ولعل المسحة الهيجلية لهرمنيوطيقا جادامر الهيدجرية أساسًا هي بمثابة تحسين لتصور هيدجر، يتجلى ذلك بوضوح عندما يلاحظ المرء ميل هيدجر في كتاباته المتأخرة إلى وصف الفهم في حدود سلبية: الفهم ليس فعلًا للإنسان بل هو حدثٌ فيه! حيث يبزغ خطر أن يتحول الإنسان إلى بقعةٍ سلبيةٍ في تيار اللغة والتراث. إن جادامر لا يوغل في الطرف الآخر الذي يعد ذاتية الإنسان بمثابة نقطة البدء في كل تفكير عن الفهم، ولكنه يتخذ بالفعل موقفًا يسمح بدرجةٍ أكبر من التفاعل الدينامي عندما يتحدث عن «الخبرة» وعن «انصهار الآفاق»، ومن الجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن النقد الحديث الذي وجهه جان-ماري دوميناك لبِنْيَوِيَّة ليفي شتراوس وميشيل فوكو لا يطال جادامر بقدر ما يطال هيدجر:
ومن الإنصاف أن نقول إن المدخل الفينومينولوجي بريء من تلك الموضوعية المجردة للنسق الخالص التي لا تحسب للإنسان حسابًا، ومن ثمن فمن الخلط والعبث أن نحشر هيدجر أو جادامر في زمر ة البنيويين، ولكن يبقى أن نحسب لجادامر مزيةً انفرد بها بفضل نزعته الهيجلية: إنه بقدر جدليته بالتحديد وحديثه عن الطبيعة الجدلية للخبرة كمبدأٍ أساسيٍّ في تأويليته، فهو يسمح بتصور الفهم كفعلٍ شخصيٍّ وليس كمجرد «حدثٍ يحدث».
تذييل: أهمية أرسطو في الهرمنيوطيقا الحديثة
إذا كان لب المشكلة الهرمنيوطيقية هي أن التراث الواحد ينبغي أن يُعاد فهمه مرةً أخرى بطريقةٍ مختلفة، فإن المشكلة من الوجهة المنطقية تتعلق بالصلة بين الكلي والجزئي، الفهم إذن هو حالة خاصة من تطبيق شيءٍ عام على موقف خاص، الأمر الذي يجعل علم الأخلاق الأرسطي ذا أهمية وصلة بالنسبة لنا، صحيح أن أرسطو لم يكن معنيًّا بمشكلة الهرمنيوطيقا، ولا سيما بُعدها التاريخي، بل بالتقدير السليم للدور الذي يتعين على العقل أن يضطلع به في الفعل الأخلاقي، غير أن ما يهمنا في هذا المقام هو بالتحديد أن أرسطو كان معنيًّا بالعقل والمعرفة غير منفصلين عن الكائن الإنساني في صيرورته الدائمة، بل محدِّدَيْن لذلك الكائن ومحدَّدَيْن به، لقد خفف أرسطو من حدة النزعة الذهنية عند سقراط وأفلاطون حين شرع في استقصاء مسألة الخير، وبذلك أصبح أرسطو هو مؤسس علم الأخلاق كمبحثٍ مستقل عن الميتافيزيقا.
كما رأينا فإن مشكلة المنهج يحددها الموضوع تحديدًا تامًّا، وذلك مبدأٌ أرسطي عام، وما يهمنا حقًّا هو أن نفحص بدقة أكبر تلك العلاقة الخاصة بين الوجود الأخلاقي والوعي الأخلاقي والتي وصفها أرسطو في كتابه «الأخلاق»، لقد ظل أرسطو سقراطيًّا من حيث إنه أبقى المعرفة كعنصر ضروري للوجود الأخلاقي، وإن التوازن الذي أوجده بين الإرث السقراطي والأفلاطوني وبين فكرته عن «الإيثوس» هي بالتحديد ما يهمنا في هذا المقام، ذلك أن المشكلة الهرمنيوطيقية هي أيضًا متميزة بشكل واضح عن المعرفة «الخالصة» المنفصلة عن أي نوع معين من الوجود، لقد تحدثنا عن انتماء المؤوِّل للتراث الذي يؤوله، وقد رأينا أن الفهم نفسه هو حدثٌ تاريخي. إن اغتراب المفسِّر عن المفسَّر بواسطة المنهج الموضوعي للعلم الحديث، وهو ما يميز الهرمنيوطيقا والتأريخ في القرن التاسع عشر، قد بدا كنتيجة للإضفاء الزائف للموضوعية، وهدف جادامر في الرجوع إلى مثال الأخلاق الأرسطية هو أن يساعدنا على إدراك ذلك وتفاديه؛ ذلك لأن المعرفة الأخلاقية، كما يصفها أرسطو، ليست معرفةً موضوعية بكل تأكيد، أي إن الشخص العارف لا يقف بإزاء موقفٍ يقوم بملاحظته فحسب، إنه ملتحمٌ بشكلٍ مباشرٍ بما يراه، إنه شيءٌ عليه أن يفعله.
هذه هي النقطة التي يمكننا عندها أن نربط بين تحليل أرسطو للمعرفة الأخلاقية وبين المشكلة الهرمنيوطيقية الخاصة بالعلوم الإنسانية الحديثة، صحيح أن الوعي الهرمنيوطيقي لا شأن له بالمعرفة التقنية ولا الأخلاقية، غير أن هذين الصنفين من المعرفة ما يزالان مشتملين على مهمة «التطبيق» نفسها التي أثبتنا آنفًا انها المشكلة المحورية للهرمنيوطيقا. إن التحكم الحقيقي في المادة الخام أمرٌ مطلوبٌ عمليًّا في الصنعة، وهذا بالتحديد يقدم نموذجًا للمعرفة الأخلاقية، غير أن هناك فرقًا واضحًا بين المعرفة الأخلاقية ومعرفة «الصنعة»، فمن الجلي أن الإنسان ليس «تحت تصرف نفسه بالطريقة ذاتها التي تكون بها خامة الحرفي تحت تصرفه، ومن الجلي أنه لا يملك أن «يصنع نفسه» بنفس الطريقة التي يمكن أن يُصنع بها أي شيء آخر، ومن ثم فلا بد أن المعرفة التي يتطلبها وجوده الأخلاقي غير المعرفة التي يسترشد بها في صنع شيءٍ ما.»
إننا نتعلم «الصنعة» ويمكن أيضًا أن ننساها، ولكننا لا نتعلم المعرفة الأخلاقية، ولا هو بمقدورنا أن ننساها، إننا لا نقف بإزائها، لا نقف قبالتها، كما لو كانت شيئًا ما يمكن أن نكتسبه أو لا نكتسبه، مثلما يمكننا أن نختار أن نكتسب مهارةً موضوعية ما، أيْ «صنعة»، إنما نحن دائمًا مغمورون في موقف حتمية الفعل، ومن ثم فلا بد أن نمتلك سلفًا معرفةً أخلاقية وأن نكون قادرين على تطبيقها، هذا هو ما يجعل مفهوم التطبيق إشكاليًّا للغاية؛ ذلك أننا لا يمكننا أن نطبق إلا شيئًا هو في حوزتنا بالفعل، بيد أننا لا نملك المعرفة الأخلاقية بمعنى أن نحوزها بالفعل ثم نطبقها على مواقف محددة، صحيح أن لدى الإنسان صورةً عما ينبغي أن يكونه (أفكاره عن الصواب والخطأ، عن الدماثة والشجاعة والكرامة والإخلاص … إلخ) وأنه بالتأكيد يسترشد بها في سلوكه، ولكن يظل هناك فرقٌ أساسي بين هذه الصورة وبين الصورة التي يسترشد بها الحرفي في صنعته، أي خطته لصنع الشيء الذي هو مقدمٌ على صنعه، فما هو صوابٌ مثلًا لا يمكن تحديده تحديدًا تامًّا بمعزلٍ عن الموقف الذي يتطلب مني فعلًا صائبًا، بينما الصورة التي يريد الحرفي أن يصنعها هي صورةٌ تحددها تمامًا تلك الفائدة المقصودة منها.
إذا أنعمنا النظر لرأينا أن تطبيق القوانين ينطوي على ضربٍ غريبٍ من الالتباس القضائي. إن موقف الحرفي الصانع جد مختلف، فهو بواسطة تصميم الشيء الذي يضمره بذهنه والقواعد الخاصة بتنفيذه يمضي في تحقيق ذلك الشيء، وهو قد تضطره الظروف إلى تحوير خطته، وقد يعدل عن تصوره الأول إلى تصورٍ آخر دون أن يعني ذلك أن معرفته عما يريد فعله قد تحسنت، وإنما وجه الأمر هنا أننا بإزاء القصور المؤلم المصاحب لتطبيق المرء لمعرفته.