إمبراطورية النمل
عندما تلقَّى القبطان جيريلو تعليمات باصطحاب سفينة المِدفعية الجديدة التي تحمل اسم «بنجامين كونستانت» إلى باداما عند فرع باتيمو المتشعِّب من نهر جواراماديما، ومساعدة السكان في مكافحة وباء النمل، ساوره الشك في أن السلطات تسْخر منه؛ فلقد كانت ترقيته في العمل رومانسيةً وغير مألوفة؛ إذ لعبت مشاعر سيدة برازيلية بارزة وعَيْنَا القبطان الصافيتان اللامعتان دورًا في العملية، وكانت صحيفتا «دياريو» و«أوه فوتورو» مُهينتين على نحو يُرثى له في تعليقاتهما. شعر جيريلو أن هذه المَهمة ستفتح الباب من جديد للتعامل معه دونما احترام.
لقد كان كريوليًّا برتغالي الأصل، وكانت تصوراته عن الآداب والانضباط برتغالية صِرفة، ولم يفتح قلبَه إلا لهولرويد، ذلك المهندس المُنتمي إلى مقاطعة لانكشر الذي جاء معه على متن السفينة ليدرِّبه على استخدام اللغة الإنجليزية؛ حيث كان القبطان لا يُجيد نطق بعض الحروف.
قال القبطان: «إن هدفهم من ذلك أن يجعلوني أبدو سخيفًا! ما الذي يمكن للمرء فعله تجاه النمل؟! النمل يأتي ويذهب.»
قال هولرويد: «إنهم يقولون إن هذا النمل لا يذهب. ذلك قول الشاب الأسود الذي قلت عنه إنه سامبو …»
«زامبو؛ هذا يعني أنه هجين الدم.»
«سامبو. لقد قال إن الناس يذهبون!»
دخن القبطان في ضيق لبعض الوقت، ثم قال أخيرًا: «لا مفر من وقوع هذه الأمور. ما هذا؟ فأوبئة النمل وما شابه ذلك هي إرادة الرب. لقد كان يوجد وباء في ترينيداد؛ ذلك النمل الصغير الذي يحمل أوراق الشجر، وكل ثمار البرتقال وكل ثمار المانجو! ما أهمية ذلك؟ أحيانًا تدخل جيوش النمل إلى البيوت لتحارب نوعًا مختلفًا من النمل. فتغادر المنزل لينظفه النمل، ثم تعود مرة أخرى لتجد المنزل نظيفًا كأنه جديد! فلا صراصير أو براغيث على الأرضية.»
فقال هولرويد: «ذلك الشاب الأسود يقول إنه نوع مختلف من النمل.»
هز القبطان كتفيه، وأخذ يدخن مانحًا اهتمامه للسيجارة.
ثم فتح الموضوع من جديد قائلًا: «عزيزي هولرويد، ما الذي يُفترض أن أفعله مع هذا النمل اللعين؟»
فكر القبطان: «هذا أمر سخيف.» لكنه في فترة ما بعد الظهيرة، ارتدى زيَّه الرسمي الكامل واتجه إلى الشاطئ، وعادت البرطمانات والصناديق إلى السفينة، وعاد هو إلى القارب في أعقابها. جلس هولرويد على سطح السفينة في برودة المساء، وأخذ يدخن بشراهة ويتأمل البرازيل في إعجاب. لقد كانوا يُبحرون في نهر الأمازون منذ ستة أيام، وكانوا على بُعد مِئات الأميال من المحيط، وكان الأفق شرقه وغربه يشبه البحر، وصوب الجنوب لم يكن يوجد سوى جزيرةٍ ذات ضفة رملية عليها بعض فروع الشجيرات. كانت المياه تجري دائمًا كأنها مصرف، فقد كانت تعجُّ بالقاذورات، ويحركها التماسيح والطيور الحائمة، ويُغذيها مصدر لا ينفد من جذوع الشجر؛ وملأت المخلفات — تلك المخلفات المندفعة — نفَسَه. كانت بلدة أليمكير ذات الكنيسة الصغيرة، ومخازن المنازل ذات الأسقف المصنوعة من القش، والحُطام الباهت الذي يعود لأيام أكثر ازدهارًا، تبدو كأنها شيء صغير ضائع في هذه الطبيعة القفرة، كانت مثلَ العملة المعدِنية الملقاة في الصحراء الشاسعة. كان القبطان شابًّا، وكانت هذه أول مرة يرى فيها المناطق الاستوائية، لقد جاء مباشرةً من إنجلترا حيث الطبيعة المحدودة والمنبوذة والمستنزَفة، إلى تمام الاستسلام، واكتشف فجأة تفاهة الإنسان. على مدار ستة أيام كانا يبحران قادمَيْن من البحر عبر قنوات مهجورة، وكان الإنسان فيها نادرًا مثل الفراشة النادرة. فيومًا يرى المرء قاربًا؛ ويومًا آخر يرى محطة بعيدة؛ وفي اليوم التالي لا يرى بشرًا مطلقًا. لقد بدأ يدرك أن الإنسان حيوان نادر أيضًا لا يملك سوى سيطرة محفوفة بالمخاطر على هذه الأرض.
أدرك ذلك بمزيد من الوضوح مع مرور الأيام، وسلك طريقًا متعرجًا إلى فرع باتيمو بصحبة هذا القائد المميز الذي كان يمتلك مِدفعًا كبيرًا، وكان محظورًا عليه إهدار ذخيرته. كان هولرويد يتعلم الإسبانية بجهد كبير، لكنه كان لا يزال يتعلم زمن المضارع البسيط، وفي مرحلة التحدث الأساسية. والشخص الآخر الذي لديه كلمات إنجليزية كان زنجيًّا يوقد المحرك البخاري، وينطق كل الكلمات على نحو خاطئ. أما نائب القائد، واسمه دا كونيا، فكان برتغاليًّا يتحدث الفرنسية، لكنها فرنسية مختلفة عن الفرنسية التي تعلمها هولرويد في ساوثبورت، وكان حديثهما مقتصرًا على المجاملات ونقاشات بسيطة عن الطقس. كان الطقس، مثل كل شيء آخر في هذا العالم الجديد المدهش، طقسًا ليس له علاقة بالإنسان؛ فقد كان حارًّا ليلًا ونهارًا، وبخار الهواء تفوح منه رائحة الزرع المتعفن، فقد كانت الرياح بخارًا ساخنًا، وبدا أن التماسيح والنمل والثعابين والقرود تتساءل عما يفعله الإنسان في ذلك الجو الذي لا متعة في شمسه ولا برودة في ليله. فقد كان ارتداء الملابس لا يُحتمل، لكن إلقاءها جانبًا يعني التعرض للَفْحة الشمس نهارًا، وتعريض جزء كبير للبعوض ليلًا، وكان الجلوس على ظهر السفينة نهارًا يعني العمى من وهج الشمس، والجلوس بالأسفل يعني الاختناق. وأثناء النهار كانت تأتي حشرات معينة شديدة الذكاء، وتُلحق ضررًا بالغًا براحة اليد والكاحل. ولما كان القبطان جيريلو بمنزلة الشيء الوحيد الذي يصرف انتباه هولرويد عن هذه العذابات الجسدية، فقد أصبح مملًّا على نحو رهيب؛ إذ كان يروي القصة البسيطة المتمثلة في مشاعر قلبه كلَّ يوم. كانت تلك القصة عن سلسلة من النساء المجهولات، وكان يرويها بتكرار كمن يُحصي أذكاره على مِسبحته. وفي بعض الأحيان كان يقترح ممارسة الرياضة، فيصوِّبان على التماسيح، وفي مرات نادرة كانا يجدان بعض التجمعات البشرية بين الأشجار المهجورة، فيمكثان يومًا أو بعض يوم، ويحتسيان الشراب ويجلسان، وفي إحدى الليالي كانا يرقصان مع البنات الكريولية، اللاتي وجدْن اللغة الإسبانية الركيكة التي يتحدث بها هولرويد، والتي تخلو من زمن الماضي أو المستقبل، كافية لتلبية أغراضهن. لكن لم تكن تلك الأمور تعدو كونها محض بصيص نور على الطريق الرَّمادي الطويل إلى النهر المتدفق، الذي على امتداده ظلت محركات السفينة تخفق. وفي مؤخرة السفينة، وربما في مقدمتها، كانت قِنينة الخمر، ذلك الإله الوثني الليبرالي المتجسد، هي مصدر الغواية.
إلا أن جيريلو عرف المزيد والمزيد من الأشياء عن النمل في تلك الأماكن التي توقف فيها، وأصبح مهتمًّا بمَهمته.
فقال: «إنه نوع جديد من النمل، لا بد أن نكون — ماذا يمكنني أن أقول؟ — علماءَ في النمل؟ إن حجمه كبير. خمسة سنتيمترات! بعضها أكبر! هذا سخف. إننا مثل القردة؛ فنحن مبعوثون لالتقاط الحشرات … لكنها تلتهم البلد.»
وصاح في سخط: «افترض أنه فجأة حدثت مشكلات في أوروبا، أنا الآن هنا، وقريبًا سأكون أعلى نهر ريو نيجرو، ويصبح مِدفعي عديمَ الفائدة!»
وعالج ركبته وأخذ يفكر قائلًا:
«هؤلاء الناس الذين كانوا في المرقص، لقد تدهور حالهم، لقد فقدوا كل ما يمتلكون. جاء النمل إلى منازلهم في ظهيرة يوم ما، وهرب الجميع. أنت تعلم أنه عندما يأتي النمل فلا بد للمرء، أو قل لا بد للجميع، من الهرب فيهيمن النمل على منازلهم. إذا بقيتَ بمنزلك فسوف يلتهمك. أفهمت؟ تسود حالة من الفوضى، تسمع من يقول النمل رَحل، ومن يقول النمل لا يزال بالمكان، ثم يدلف أحدهم إلى داخل المنزل ليجد النمل مترصدًا به …»
«أيتجمع عليه؟»
«يعضُّه؛ فيخرج فورًا مرة أخرى … يصيح ويجري، ويتجه صوب النهر. أرأيت؟ فينزل الماء ويُغرِق النمل، نعم.» توقف جيريلو، وصوَّب عينيه الصافيتين نحو وجه هولرويد، ورَبَت على ركبته ببَراجمه وقال: «لقد تُوفِّي أحدهم في تلك الليلة، كما لو كان قد لدغه ثعبان.»
«هل تسمم … من النمل؟»
هز جيريلو كتفيه قائلًا: «من يدري؟ ربما عضَّه بشدة … عندما التحقت بالخدمة العسكرية التحقت بها لأحارب الرجال. وهذه الأشياء — أقصد هذا النمل — تأتي وتذهب. هذا أمر لا شأن للرجال به.»
وبعد ذلك تحدَّث مرارًا وتكرارًا عن النمل مع هولرويد، وكلما سنحت لهم فرصة التوجه صوب أي تجمع بشري صغير في هذه المياه الشاسعة، وضوء الشمس الساطع، والأشجار البعيدة، تمكن هولرويد بفضل تزايد معرفته باللغة، من إدراك كلمة «ساوبا» الرائجة التي تُهيمن تمامًا على اللغة بأكملها.
لقد فهم أن النمل كان يصير شيئًا مثيرًا للاهتمام، وكلما اقترب منه أصبح أكثر إثارة. تخلى جيريلو عن موضوعاته القديمة على نحو يكاد يكون مفاجئًا، وأصبح ذلك الملازم البرتغالي شخصية حوارية؛ فعرف بعض الأمور عن النمل قاطع الأوراق، ووسع معرفته. وفي بعض الأحيان كان جيريلو يترجم ما سيقوله لهولرويد. فحكى له عن النمل العامل الصغير الذي يحتشد ويقاتل، وعن النمل العامل الكبير الذي يقود ويحكم، وكيف أن ذلك النمل الكبير يزحف دائمًا إلى الرقبة، وكيف تسحب عضَّته الدم. وسرد له كيف يقطع النمل الأوراق، ويصنع أسرَّة من الفُطريات، وكيف تصل مساكنه في كاراكاس أحيانًا إلى مِئات الياردات. قضى الرجال الثلاثة يومين في مناقشة ما إذا كان للنمل عيون، واحتدم النقاش على نحو خطير في ظهيرة اليوم التالي، وأنقذ هولرويد الموقف عندما أبحر صوبَ الشاطئ في قارب، وأمسك بالنمل وشاهده. وأخذ بعض أنواع النمل وعاد، وكان لبعضها عيون، وبعضها الآخر لم يكن له عيون. وتناقشوا أيضًا فيما إذا كان النمل يعض أم يلدغ؟
فقال جيريلو بعد جمع المعلومات من أحد أكواخ الضيافة: «هذا النمل لديه عيون كبيرة. فهو لا يجري على عمًى مثلما يفعل معظم النمل. كلا! إنه يقف في الأركان ويراقب ما تفعل.»
فسأله هولرويد: «وهل يلدغ؟»
«نعم، يلدغ. يوجد سُم في اللدغة.» وأخذ يفكر ثم قال: «لا أعرف ما الذي يمكن للناس فعله حِيال ذلك النمل. فهو يأتي ويذهب.»
«لكن ذلك النمل لا يذهب.»
فقال جيريلو: «سوف يذهب.»
وأمام تاماندو كان يوجد ساحل خفيض طويل، يمتد لثمانية أميال، وهو غير مأهول بالسكان، ثم ظهر مجمع النهر الرئيسي بفرع باتيمو على نحو يشبه البحيرة الكبيرة، ثم أصبحت الغابة أقرب، وأصبحت في النهاية بالغة القرب. وتغيرت طبيعة القناة، وكثرت جذوع الأشجار الملقاة في المياه، ورست السفينة «بنجامين كونستانت» بواسطة حبل، في تلك الليلة، تحت ظلال الأشجار الداكنة. ولأول مرة منذ أيام كثيرة يهبُّ بعض البرودة، وجلس هولرويد وجيريلو لوقت متأخر يدخنان السيجار، ويستمتعان بهذا الإحساس اللذيذ. وكان بال جيريلو مشغولًا كليًّا بالنمل، وما يمكنه فعله. وقرر في النهاية أن ينام، ورقد على مرتبة على سطح السفينة، ولما أعجزت الحَيرة ذلك الرجل، الذي بدا نائمًا بالفعل، كانت كلماته الأخيرة أنه تساءل في يأس قائلًا: «ماذا يمكن للمرء أن يفعل مع هذا النمل؟ … الأمر برُمَّته سخيف.»
وترك هولرويد يحكُّ راحتيه الملدوغتين، ويتأمل وحيدًا.
جلس على سور السفينة، وأخذ يستمع للتغيرات القليلة في تنفس جيريلو إلى أن غَط سريعًا في النوم، ثم سُلب لُبه بدوَّامة النهر وصوتِ تلاطم أمواجه، وأعاد إليه إحساس الاتساع الذي تزايد داخله منذ أن ترك بارا لأول مرة وجاء إلى النهر. ولم تُظهر السفينة سوى ضوء ضئيل، وفي البداية سُمع القليل من الكلام ثم خيَّم الصمت. وأشاح بناظرَيه عن الحدود السوداء المظلمة لأجزاء التشغيل الوسطى في السفينة الحربية، ونظر إلى الضفة حيث غموض الغابات الأسود الجارف، الذي يُنيره بين الحين والآخر حشرات اليراع المضيئة، ولا يخلو مطلقًا من همهمة الأنشطة الغريبة والغامضة …
كانت هذه الأرض الشاسعة الخالية من البشر هي ما يدهشه ويقهره. لقد علم أن السماوات خالية من البشر، وأن النجوم عبارة عن نقاط صغيرة في فضاء شاسع مذهل؛ وعلم أن المحيط هائل ولا يمكن ترويضه، لكنه في إنجلترا كان يعتقد أن الأرض مِلك الإنسان. في إنجلترا الأرض بالفعل مِلك الإنسان؛ فالأشياء البرِّية تعيش في كَبَد، وتنمو على أراضٍ مستأجَرة؛ فالطرق والأسوار موجودة في كل مكان، ويطبَّق نظام أمني صارم. على الخريطة أيضًا يملك الإنسان الأرض، وكلها ملونة لتوضيح مِلكيته لها، في تناقض واضح مع الزرقة العالمية المستقلة للبحر. لقد كان من المسلَّمات بالنسبة له أنه سيأتي يوم ستنتشر فيه قطارات الترام الخفيفة، والطرق الجيدة، والنظام الأمني المنظم، في كل مكان، في الأرض المحروثة والمستنبَتة. إلا أنه في ريب الآن من ذلك.
كانت الغابة لا نهاية لها، وبدت لا تُقهر، وبدا الإنسان دخيلًا نادرًا محفوفًا بالمخاطر. كان المرء يسافر لأميال وسط صراع ثابت وصامت بين الأشجار العملاقة، التي تلتفُّ حولَها النباتات المتسلقة الخانقة، والزهور ذات العبير القوي. وبينما كانت كل الأرجاء مسكونة بالتماسيح والترسة وأنواع لا تُعد ولا تُحصى من الطيور والحشرات، التي بدت كأنها تعيش في مسكنها الطبيعي الذي لا بديل لها عنه، كان الإنسان في أفضل الأحيان يجد موطئ قَدم فوق أرض خالية من الأشجار، ويكافح الأعشاب الضارَّة والوحوش والحشرات، على ذلك الموطئ الصغير، ويقع فريسةً للثعابين والوحوش والحشرات والحمَّى، وسرعان ما يُزاح بعيدًا عن المكان. وفي كثير من الأماكن على امتداد النهر كان الإنسان يُطرد على نحو واضح. وأكد هذا الدرس ذلك الجدول المهجور أو ذلك النهر الذي حفظ اسم «كاسا»، وتلك الجدران البيضاء المتهدمة، وذاك البرج المحطم. لقد كان أسد الجبال واليغور هما الأسياد هنا …
من كانوا الأسياد الحقيقيين؟
من المؤكد أنه يوجد على بُعد أميال قليلة داخل هذه الغابة عدد من النمل يفوق عدد البشر في العالم أجمع! بدت هذه الفكرة جديدة كليًّا لهولرويد؛ ففي غضون عدة آلاف من السنين ارتقى البشر من البربرية إلى مرحلة من الحضارة، جعلتهم يشعرون أنهم أسياد المستقبل وأسياد الأرض! لكن ما الذي سيمنع النمل من التطور أيضًا؟ فهذا النمل، المعروف عنه أنه يعيش في مجتمعات صغيرة مكونة من بضعة آلاف من الأفراد، لم يبذل جهودًا حثيثةً تجاه العالم الأكبر. لكنه لديه لغة ويتمتع بالذكاء! لماذا ستتوقف الأمور عند هذا الحد، في حين أن البشر لم يتوقفوا عند حد المرحلة البربرية؟ افترضْ أن النمل بدأ على الفور تخزين المعرفة مثلما فعل البشر عن طريق الكتب والسجلات، وبدءوا يستخدمون الأسلحة، ويُكوِّنون الإمبراطوريات العظمى، ويشنُّون حربًا مُدبرة ومنظمة، فما العمل؟
تذكَّر المعلومات التي جمعها جيريلو عن ذلك النمل الذي يقترب منه، فهذا النمل يستخدم سمًّا مثل سم الثعابين، وأفراده يطيعون القادة الأكبر مثلما يفعل النمل قاطع الأوراق. لقد كان من النوع اللاحم، وأينما ذهب مكث …
كانت الغابة ساكنة، وكان الماء يرتطم بالجانب دون توقف. وكان يحوم حول المِصباح الموجود فوق رأسه دوامة من العُثِّ البغيض لا تُصدر صوتًا.
نهض جيريلو في الظلام وتنهَّد. وتمتم متسائلًا: «ما الذي يمكن للمرء فعله؟» ثم تقلَّب، وسكن مرةً أخرى.
واستفاق هولرويد من تأملاته التي أصبحت مشئومة بسبب طنين بعوضة.
•••
في الصباح التالي عرف هولرويد أنهم على بعد أربعين كيلومترًا من باداما، وزاد اهتمامه بالضفاف. كان يصعد لأعلى السفينة كلما سنحت له الفرصة لتفقُّد ما حوله، ولم يستطع أن يرى أي علامات استيطان بشري، باستثناء حُطام أحد المنازل الذي يعجُّ بالنباتات وواجهة خضراء اللون لدَير مهجور منذ أمد طويل في موجو، وشجرة غابة مطلة من فضاء نافذته الخالية، والكثير من النباتات المتسلقة التي تغطي بواباته الخالية. وعبَر النهر في ذلك الصباح أسرابٌ عديدة من الفراشات الصفراء الغريبة ذات الأجنحة شبه الشفافة، وهبط الكثير منها على السفينة، وقتلها الرجال. وقُرب العصر وجدوا قاربًا كبيرًا مهجورًا من نوع قوارب الكانو المغطاة، التي تُسمى «كوبرتا».
لم يبدُ مهجورًا في بادئ الأمر؛ إذ كان الشراعان مفرودَين ومعلقَين في ارتخاء، في هدوء فترة ما بعد الظهيرة. وكان يبدو أن ثمَّة شخصًا جالسًا على أرضية القارب صوب المقدمة بجوار المجاديف المثبَّتة في مسندها. وبدا رجل آخر نائمًا ووجهه لأسفل بمحاذاة الجسر الطولي الموجود في منتصف هذه القوارب الكبيرة. إلا أنه كان واضحًا على الفور، من تأرجح الدفة وانحرافها نحو مسار السفينة الحربية، أن الأمور لم تكن على ما يُرام. فحص جيريلو ذلك القارب بالمِنظار الميداني، وأصبح مهتمًّا بالسُّمرة الغريبة في وجه الرجل الجالس، لقد بدا رجلًا أحمر الوجه، بلا أنف. كان مقرفِصًا وليس جالسًا، وكلما أطال القبطان النظر إليه قلَّت رغبته في النظر إليه، وقلَّت قدرته على إشاحة المنظار.
لكنه فعل ذلك أخيرًا، وابتعد قليلًا لينادي هولرويد. ثم عاد لمناداة قارب الكوبرتا، وناداه مرة أخرى؛ بينما القارب يتجه نحوه. بدا اسم القارب واضحًا؛ إذ كان اسمه «سانتا روزا».
وما إن اقترب القارب من أثر سير السفينة الحربية في الماء حتى أخذ يَمور قليلًا، وفجأة سقطت جثةُ الرجل المقرفِص كما لو كانت مفاصله قد تآكلت، وسقطت قبعتُه، ولم يكن شكل رأسه بالمنظر الحسن، وتدلى جسمه في ارتخاء، وتدحرج بعيدًا عن النظر خلف جدار القارب.
صاح جيريلو: «اللعنة!» ولجأ إلى هولرويد على الفور.
كان هولرويد في منتصف سلم السفينة الداخلي. فقال له القبطان: «هل رأيت ذلك؟»
فقال هولرويد: «إنه ميت! حقًّا. من الأفضل أن ترسل قاربًا إلى جواره. ثمة خطأ ما.»
«هل حدث أن رأيت وجهه؟»
«كيف كان يبدو؟»
«لقد كان … آه! ليس لدي كلمات لوصفه.» وفجأة تجاهل القبطان هولرويد، وأصبح قائدًا نشطًا وقاسيًا.
غيرت السفينة الحربية مسارها، وسارت موازيةً للمسار المنحرف لقارب الكانو، وأسقطتْ قاربًا يحمل على متنه الملازم دا كونيا وثلاثة بحارة. ثم دفع الفضول القبطان إلى التحرك ناحية القارب، عندما أصبح الملازم على متنه؛ كي يصبح كل ما على ظهر وباطن القارب «سانتا روزا» مرئيًّا لهولرويد.
رأى الآن بوضوح أن طاقم هذا القارب كان مكونًا فقط من هذين الرجلين الميتين، وعلى الرغم من أنه لم يستطع رؤية وجهيهما فقد رأى من أيديهما الممدودة، التي كانت عبارة عن لحم مهترئ، أنهما تعرَّضا لنوع غريب واستثنائي من عمليات التحلل. وللحظة ظل تركيزه منصبًّا على كتلتَي الملابس القذرة والأطراف المطروحة في تمدد على نحو محير، ثم وجَّه نظره صوب مقدمة القارب ليكتشف ما بداخل القارب المفتوح المتراكم فيه عاليًا صناديق وخزائن، ثم صوَّب نظره نحو مؤخرة القارب حيث كانت القمرة الصغيرة مفتوحة وخالية على نحو لا يفسَّر. ثم أدرك أن مجاديف الجزء الأوسط من ظهر القارب تعجُّ بنقاط سوداء متحركة.
جذبت انتباهَه تلك النقاط. لقد كانت تلك النقاط كلها تسير في اتجاهات نابعة من الرجل الملقى على الأرض، على نحو يشبه الحشد المتفرق من مصارعة الثيران؛ هكذا جاءت الصورة إلى ذهنه دون أن يستحضرها.
أدرك وجود جيريلو بجواره فقال: «أيها القائد، هل معك مِنظارك؟ هل يمكنك أن تسلِّطه قريبًا على تلك المجاديف؟»
حاول جيريلو، وزمجر وسلَّم له المنظار.
وأعقب ذلك لحظة من الفحص، ثم قال الرجل الإنجليزي وهو يعيد المنظار الميداني المركَّز إلى جيريلو: «إنه النمل.»
كان انطباعه عنه أنه حشد من النمل الأسود الكبير، شديد الشبه بالنمل العادي فيما عدا الحجم، وأن بعض هذا النمل الأكبر حجمًا كان يحمل ما يشبه السترة الرَّمادية. إلا أن فحصه للنمل في ذلك الوقت استغرق وقتًا وجيزًا لا يمكِّنه من التقاط التفاصيل. فقد أطل الملازم دا كونيا برأسه من جانب القارب كوبرتا، وأعقب ذلك حوار قصير.
فقال جيريلو: «لا بد أن تصعد على سطح القارب.»
فاعترض الملازم بحُجة أن القارب يعج بالنمل.
فقال جيريلو: «أنت ترتدي حذاءً طويل العنق.»
فغير الملازم الموضوع وسأله: «كيف مات هذان الرجلان؟»
بدأ القائد جيريلو في إصدار تخمينات لم يستطع هولرويد مواكبتها، وتناقش الرجلان بحدَّة متزايدة نوعًا ما. والتقط هولرويد المنظار الميداني واستأنف الفحص؛ فبدأ بفحص النمل، ثم فحص الرجل الميت وسط القارب.
لقد وصف لي هذا النمل بالتفصيل الدقيق.
قال إن هذا النمل في حجم أي نمل رآه من قبل، وأسود، ويتحرك ببطء ثابت مختلف جدًّا عن الدقة الميكانيكية التي تميز النمل العادي. وكانت نملة واحدة من بين عشرين نملة أكبر حجمًا من أقرانها، وحجم رأسها كبير على نحو استثنائي. ذكَّره ذلك على الفور بكبار الشغالات التي يُعتقد أنها تَحكم النمل قاطع الأوراق؛ إذ يبدو أن هذا النمل، مثلها، يُوجِّه ويُنسِّق الحركات العامة. لقد أمال أجساده على نحو فريد تمامًا كما لو كان يستخدم أقدامه الأمامية. وراوده تخيل غريب كان أبعد من أن يُثبِته؛ حيث اعتقد أن كِلا نوعَي النمل يرتدي عتادًا؛ فكلاهما لديه أشياء مربوطة حول أجساده بأشرطة بيضاء برَّاقة تشبه الخيوط المعدِنية البيضاء …
وضع المنظار فجأة، مُدركًا أن مسألة الانضباط بين القائد ومرءوسه أصبحت متأزمة.
قال القبطان: «من واجبك أن تصعد على متن القارب، هذه تعليماتي.»
كان الملازم على وشك الرفض. وظهر بجانبه رأس أحد البحارة المهجَّنين الداكني البشرة.
فقال هولرويد فجأة بالإنجليزية: «أعتقد أن النمل قتَل هذين الرجلين.»
فاستشاط القبطان غضبًا؛ ولم يردَّ على هولرويد. وصاح في مرءوسه بالبرتغالية: «لقد أمرتك أن تصعد على متن القارب، وإن لم تصعد على متنه فورًا فهذا يُعد تمردًا؛ تمردًا تامًّا. تمردًا وجُبنًا! أين هي الشجاعة التي يجب أن تحرِّكنا؟ سوف أُوثقك بالأغلال، سوف أُطلق عليك النار، كما لو كنت كلبًا.» وبدأ يقصفه بوابل من الإهانات والسِّباب، وأخذ يتحرك جيئةً وذَهابًا. وهز قبضتيه، كان يتصرف كما لو كان غير قادر على التحكم في نفسه من شدة الغضب، ووقف الملازم شاحبًا وثابتًا ينظر إليه. وظهر الطاقم في المقدمة والدهشة تعتلي وجوههم.
وفجأة في لحظة توقفٍ لهذا الغضب، توصل الملازم إلى قرار بطولي؛ حيث قدم التحية واستجمع قواه وصعد على متن قارب الكوبرتا.
فقال جيريلو: «آه!» ثم أغلق فمه مثل الفخ. رأى هولرويد النمل يتراجع أمام حذاء دا كونيا. وسار البرتغالي ببطء نحو الرجل الملقى على الأرض، وانحنى في تردد، وأمسك مِعطفه، وقَلَبَه. فاندفع من ملابس الرجل سرب نمل أسود، وتراجع دا كونيا سريعًا جدًّا، وداس النمل بقدمه مرتين أو ثلاث مرات.
التقط هولرويد المنظار، ورأى النمل المتناثر حول قدم الغازي؛ رآه النمل يفعل أمرًا لم يرَ نملًا يفعله من قبلُ؛ فلم يكن هذا النمل يتصرف بحركات عمياء مثل النمل العاديِّ؛ بل كان ينظر إليه مثلما ينظر حشد مندفع من الرجال إلى وحش عملاق فرَّق جمعهم.
فصاح القبطان: «كيف مات؟»
فهم هولرويد أن الملازم البرتغالي يقول إن الجثة متآكلة على نحو يَحول دون معرفة السبب.
فتساءل جيريلو: «ما الذي يوجَد في المقدمة؟»
سار الملازم بضع خطوات، وبدأ يجيب بالبرتغالية. ثم توقف فجأة، وأزاح شيئًا عن رِجله. وأخذ بعض الخطوات الغريبة، كما لو كان يحاول أن يدوس على شيء خفي، وذهب سريعًا إلى جانب القارب، ثم تمالك نفسه، والتفت وسار بتمهل للأمام نحو مخزن البضائع، وصعد إلى سطح السفينة الأمامي الذي تعمل منه المجاديف، ومال لبعض الوقت على الرجل الثاني، ثم زمجر بصوت مسموع، وتراجع للمؤخرة، ومنها إلى القُمرة، وهو يتحرك في تصلب شديد. والتفت ليبدأ حوارًا مع القبطان بنبرة فاترة ومحترمة من كلا الطرفين، على نحو يتناقض بوضوح مع الغضب والإهانة اللذَين سادا اللحظات القليلة السابقة. ولم يفهم هولرويد إلا القليل من معنى هذه المحادثة.
توجَّه إلى المنظار، وتفاجأ بأن النمل اختفى من كل الأسطح المكشوفة على سطح القارب. وتوجه صوب الظلال الموجودة أسفل ظهر القارب، وبدت له تعج بالعيون المراقِبة.
كان من المتفق عليه أن قارب الكوبرتا مهجور، لكنه كان يعجُّ بالنمل على نحو يَحول دون إرسال رجال على ظهره للجلوس والنوم، فكان لا بد من جرِّه. توجَّه الملازم إلى المقدمة لأخذ الحبل وضبطه، ووقف الرجال في القارب على استعداد لمساعدته. وبحث هولرويد بالمنظار عن قارب الكانو.
تزايد إعجابه بالنشاط العظيم الدقيق، وسرِّي الطابع، الذي يحدث. وأدرك أن عددًا من النمل الذي يبلغ طوله بضع بوصات تقريبًا، يحمل أحمالًا غريبة الشكل، لا يستطيع تصور الغرض الذي تُستخدم من أجله، ويتحرك في اندفاع من جهة مجهولة إلى أخرى. لم يكن النمل يتحرك في طوابير عبر الأماكن المكشوفة بل في صفوف بينها مسافات، على نحو يوحي بغرابة اندفاع قوات المشاة الحالية التي تتقدم في ظل إطلاق النيران عليها. وكان عدد من النمل يستتر تحت ملابس الرجل الميت، بينما تجمَّع سرب مثالي على الفور على طول الجانب الذي يجب أن يذهب إليه دا كونيا.
لم يرَ فعليًّا أن النمل يندفع صوب الملازم عند عودته، لكن لم يكن لديه شك في أنه اندفع اندفاعًا متعمدًا. وفجأة صاح الملازم وأخذ يسب ويضرب رجليه قائلًا: «لقد لدغوني!» صاح وقد ارتسم على وجهه الكراهية والاتهام تجاه جيريلو.
ثم اختفى وراء الجانب، وسقط في قاربه، وقفز على الفور في الماء. وسمع هولرويد صوت ارتطامه بالماء.
سحبه الرجال الثلاثة الموجودون في السفينة من الماء، وأعادوه على ظهرها، وفي تلك الليلة مات.
خرج هولرويد والقبطان من القمرة التي يرقد بها جسد الملازم المتورِّم والمشوَّه، ووقفا معًا عند مؤخرة السفينة يحدقان في القارب المشئوم الذي يجرونه خلفهم. كانت الليلة ظلماء سيئة لا ينيرها إلا طيف ومضات من برق يغطي الأفق. كان قارب الكوبرتا، الذي بدا كمثلث أسود غامض، يتأرجح في عُباب السفينة، وكانت أشرعته تهتز وترفرف، وكان الدخَان الأسود المنبعث من المداخن التي يضيئها الشرار مِرارًا وتَكرارًا، يحوم حول صواريه المتأرجحة.
ذهب ذهن جيريلو إلى التفكير في الأشياء القاسية التي قالها الملازم في أوج حُمَّته الأخيرة.
فقال: «لقد قال إنني قتلتُه. هذا مجرد سخف. كان لا بد من صعود أحد الأشخاص على متن القارب. هل سنهرب من هذا النمل اللعين في كل مرة يظهر لنا؟»
لم يقلْ هولرويد شيئًا. كان يفكر في اندفاع منضبط من جانب تلك الأشكال السوداء الصغيرة على ظهر السفينة الخشبي المكشوف الذي تضيئه الشمس.
واستطرد جيريلو: «كان لزامًا أن يذهب إلى هذا المكان. لقد مات أثناء تأدية واجبه. ما الذي كان يشكو منه؟ القتل! … لكن المسكين كان — ماذا يمكنني أن أقول — لقد كان مجنونًا. لم يكن عقله في حالة سليمة. لقد جعله السم متورمًا … آه.»
وصمتا لفترة طويلة.
«سوف نُغرق ذلك القارب … سوف نُحرقه.»
«وماذا بعد؟»
تضايق جيريلو من هذا التساؤل، فرفع كتفَيه لأعلى، وبسط يديه على جانبَيْ جسمه، وقال — وقد بدأت نبرة الغضب تعلو في صوته: «ما الشيء الذي يُفترض أن «يفعله» المرء؟»
فقال بلهجة تملؤها الرغبة في الانتقام: «على أية حال، سوف أُحرق كل نملة في قارب الكوبرتا! سوف أُحرقها حية!»
لم يتأثر هولرويد بالمحادثة. وشق صمتُ هذا الليل القائظ الحرارة صوت عَويل بعيد، صادر عن بعض القردة التي كانت تصيح؛ فسادت هذه الأصوات المشئومة أجواء المكان. ومع اقتراب السفينة الحربية من الضفاف السوداء الغامضة زاد نقيق الضفادع المُقبِض تلك الأجواءَ سوءًا.
بعد فترة توقف طويلة كرر القبطان سؤاله: «ما الشيء الذي يُفترض أن يفعله المرء؟» وفجأة أصبح متهيجًا ومتوحشًا، وأخذ يسبُّ، وقرر أن يُحرق قارب «سانتا روزا» دون إبطاء. سرَت الفكرة في كل من كان على متن السفينة، وساعده الجميع بحماس؛ فسحبوا الحبل وقطعوه، وألقَوا القارب، وأشعلوا فيه النار بالفتيل والكيروسين. وعلى الفور أصبح قارب الكوبرتا يطقطق ويتوهج، على نحو باعث للبهجة، وسط فضاء الليل الاستوائي الشاسع. وراقب هولرويد تصاعد الوهج الأصفر في الظلمة، وومضات البرق الغاضب الذي يملأ الأفق، التي تأتي وتروح فوق قمم الغابة؛ فتجعلها تبدو مثل الظلال للحظات. ووقف خلفه عامل المحرك البخاري يراقب ذلك أيضًا.
أثار الموقفُ عاملَ المحرك البخاري لدرجة جعلتْه يشحَذ قدراته اللُّغوية ليقول: «لقد انفجر نمل الساوبا. رائع!» وضحك بقوة.
لكن هولرويد كان يعتقد أن هذه المخلوقات الصغيرة الموجودة على متن قارب الكانو هي أيضًا لديها عيون وعقول.
شعر بأن الأمر برُمَّته في غاية الحماقة والزلل، لكن «ما الشيء الذي كان يُفترض أن يفعلَه المرء؟» عاد هذا السؤال بقوة هائلة في اليوم التالي، عندما وصلت السفينة الحربية إلى باداما أخيرًا.
كان ذلك المكان ذو المنازل والمخازن التي تغطي أوراقُ الأشجار سقوفَها، ومصنع السكر الذي تسللت إليه النباتات المعترِشة، والمرفأ المصنوع من الخشب والخيزران؛ هادئًا للغاية في هذا الصباح الحارِّ، ولم يُظهر أيَّ أمارة على وجود أحياء. ولم يكن ممكنًا رؤية أيِّ نمل في هذا المكان من هذه المسافة نظرًا لصغر حجمه.
وقال جيريلو: «لقد ذهب كل الأشخاص، لكننا سنفعل أمرًا واحدًا على أية حال. سوف نَصيح ونصفِّر.»
لذلك صاح هولرويد وصفَّر.
ثم انتابت القبطانَ نوبةُ شك من أسوأ النوبات، فقال على الفور: «ثمة أمر واحد يمكن أن نفعلَه.» فقال هولرويد: «ما هو؟»
قال: «نَصيح ونصفِّر مرة أخرى.»
ففعلا ذلك.
سار القبطان على ظهر السفينة، وأخذ يُصدر لنفسه بعض الإيماءات. كان يبدو أن رأسه يدور به الكثير من الأمور. وخرج من بين شفتيه بعض الكلام، وبدا كأنه يخاطب محكمة عامة متخيَّلة، إما بالإسبانية أو بالبرتغالية. والتقطت أذن هولرويد، التي تزايدت دقتها في السمع، بعضَ الكلام المتعلق بالذخيرة. ثم أفاق القبطان من هذه الأمور التي تشغل ذهنه، وصاح فجأة بالإنجليزية قائلًا: «عزيزي هولرويد.» واختتم كلامه قائلًا: «لكن ما الشيء الذي كان يُفترض أن يفعله المرء؟»
أخذا القارب والمنظار الميداني، واقتربا لفحص المكان، ورأيا عددًا من النمل مجتمعًا على حافَة مرفأ الركوب البدائي، وأثَّر فيهما وضعيات ثبات النمل. وحاول جيريلو إطلاق طلقات غير فعالة من مسدسه على هذا النمل. اعتقد هولرويد أنه رأى أعمال حفر غريبة بين المنازل الأقرب، قد تكون من صُنع هذه الحشرات التي غزت هذه البيئات البشرية. وجدَّف المستكشفان، مرورًا بالمرفأ، ليَريا هيكلًا عظميًّا بشريًّا جاثمًا يرتدي مِئزرًا. كان الهيكل فاتحَ اللون ونظيفًا ولامعًا. وتوقفا ليبحثا هذا الأمر …
فقال جيريلو فجأة: «لا بد أن آخذ كل هذه الأرواح بعين الاعتبار.»
فالتفت هولرويد وحدق في القبطان، وأدرك ببطء أنه يشير إلى هذا المزيج العِرقي غير الجذاب، الذي يتكون منه طاقم السفينة.
«من المستحيل أن أُرسلهم للهبوط هنا. هذا مستحيل … مستحيل. سوف يتسممون، ويتورمون، وسوف يسبُّونني ويموتون. هذا مستحيل تمامًا … إذا هبطنا، فلا بد أن أهبط وحدي، أجلْ وحدي، وأنا أرتدي حذاءً سميكًا طويل العنق وسأخاطر بنفسي، ربما أحيا، أو من الممكن ألَّا أهبط. أنا لا أعلم، لا أعلم.»
اعتقد هولرويد أنه قال ذلك، لكنه لم يقلْ شيئًا.
وقال جيريلو فجأة: «الأمر برُمَّته يجعلني أبدو سخيفًا. الأمر برُمَّته!»
جدَّفا وهما ينظران إلى الهيكل الأبيض النظيف من زوايا عديدة، ثم عادا إلى السفينة الحربية. وبعد ذلك أصاب جيريلو تردُّد شديد، فسارت السفينة على نحو أسرع. وبعد الظهيرة، وصلت إلى النهر، كما لو كانت في طريقها لإنجاز مهمة محددة. وفي الغروب عادت مرة أخرى ورسَت. وتجمعت عاصفة رَعدية وضربت بقوة، ثم أصبح الليل باردًا باعتدال، وهادئًا وجميلًا. نام الجميع على ظهر السفينة، أما جيريلو فقط فقد ظل يتحرك جيئةً وذهابًا، ويُهمهِم. وفي الفجر أيقظ هولرويد.
قال هولرويد: «سيدي! ما الخَطب الآن؟»
قال القبطان: «لقد اتخذتُ قراري.»
فقال هولرويد وقد اعتدل في جلسته: «ماذا؟ قررتَ الهبوط؟»
«لا.» قالها القبطان وهو متحفظ جدًّا لوهلة، ثم أعاد قائلًا: «لا، لقد قررتُ …» فبدت على هولرويد أعراض نَفاد الصبر.
قال القبطان: «حسنًا، نعم، سوف أُطلق الرصاص من المِدفع الكبير!»
وفعل ذلك! السماء وحدَها تعلم كيف وجد النمل هذا الأمر، لكنه فعله حقًّا. لقد أطلق المِدفع مرتين بحزم واحتفاء شديدَين. وضع كل أفراد الطاقم حشوة في آذانهم، وبدا الأمر كله كما لو كانوا في حالة حرب، وفي بادئ الأمر أصابوا ودمروا مصنع السكر القديم، ثم حطموا المخزن المهجور الموجود خلف المرفأ. وبعد ذلك واجه جيريلو النتيجة الحتمية.
فقال مخاطبًا هولرويد: «لا جدوى، لا جدوى على الإطلاق. يجب أن نعود … لتلقِّي التعليمات. ستحدث مشكلة كبيرة بسبب الذخيرة … أوه! «مشكلة كبيرة!» أنت لا تعلم يا هولرويد …»
ووقف يُحدِّق في الأفق لفترة في حَيرة بالغة.
وبعدها صاح قائلًا: «لكن ماذا كان في وسعنا غير ذلك لنفعله؟»
بعد الظهيرة، تحركت السفينة في اتجاه النهر مرة أخرى، وفي المساء نزل بعض أفراد الطاقم ومعهم جثة الملازم، ودفنوه على الضفة التي لم يظهر عليها النمل الجديد حتى الآن …
•••
سمعتُ هذه القصة على نحو متقطع من هولرويد منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع.
لقد استبدَّ بتفكيره هذا النمل الجديد، وعاد إلى إنجلترا بفكرة «تحذير الناس منه قبل فوات الأوان»، على حد قوله. وقال إن النمل يهدد غيانا البريطانية التي لا تبعد عن نطاق عملهم الحالي بمقدار يزيد عن ألف ميل، وإنه لزامًا على وزارة المستعمرات النهوض للتعامل مع النمل على الفور. وصاح بحماس شديد: «هذا النمل ذكي. فكروا فحسب في معنى ذلك!»
لا يمكن أن يكون ثمة شك في أنه آفة خطيرة، وقد أصابت الحكومةُ البرازيلية، وأظهرت نوعًا من الحكمة، عندما عرضت مكافأة قدرها خمسمائة جنيه إسترليني نظير طريقة إبادة فعالة لهذه الحشرات. ومن المؤكد أيضًا أنه منذ ظهور هذه الحشرات لأول مرة في التلال الموجودة خارج حدود باداما منذ نحو ثلاث سنوات حققت انتصارات هائلة؛ فلقد احتلوا فعليًّا كامل الضفة الجنوبية لنهر باتيمو التي تمتد لقرابة ستة أميال، لقد طردوا البشر منها تمامًا، واحتلوا المزارع والمستوطنات، واعتلَوْا ظهر سفينة واحدة على الأقل واحتلوها. ويُقال أيضًا إنهم عبَروا — على نحو لا يمكن تفسيره — فرع كابوارانا الشاسع المساحة، وتقدموا لأميال عديدة صوب غابات الأمازون نفسها. ولا شك في أن هذا النمل أكثر عقلانية وأفضل تنظيمًا اجتماعيًّا من أي فصيلة أخرى من النمل عُرفت في السابق؛ فبدلًا من التشرذم في مجتمعات متناثرة، هذا النمل منظم فعليًّا في أمة واحدة؛ بَيْد أن أكثر الجوانب الخاصة ترويعًا في هذا النمل لا تكمن في ذلك بقدر ما تكمن في استخدامه الذكي للسم ضد أعدائه الأكبر حجمًا. يبدو أن سم هذا النمل شديد الشبه بسمِّ الثعبان، ومن المحتمل جدًّا أنه يصنعه فعليًّا، وأن النمل الأكبر حجمًا بينه يحمل بلورات السم الشبيهة بالإبرة في هجماته على البشر.
بطبيعة الحال من الصعوبة البالغة الحصول على أي معلومات تفصيلية حول هذا المنافس الجديد الذي يزاحم على سيادة الكوكب؛ فلا يوجد شاهد عِيان على نشاطه ظل على قيد الحياة بعد مقابلته له، باستثناء تلميحات مثل تلميحات هولرويد. وفي مِنطقة جنوب الأمازون تَشيع أساطير مذهلة عن براعته وقدرته، وتزداد يوميًّا حيث يغذي التقدم المستمر لهذا الغازي خيال الناس نتيجة مخاوفهم. ومعروف عن هذه الكائنات الصغيرة الغريبة استخدامها للأدوات، ومعرفتها بالنار والمعادن، بالإضافة إلى المهارات الهندسية المنظمة التي تدهش عقولنا نحن أهل الشمال؛ فنحن غير معتادين على مهارات مثل تلك التي أظهرها نمل ساوبا (أو النمل قاطع الأوراق) في ريو دي جانيرو عام ١٨٧٤، عندما حفر نفقًا أسفل سطح نهر بارايبا، بلغ عرضه عرض نهر التايمز عند جسر لندن، بالإضافة إلى طريقته المنظمة والمفصَّلة في التخطيط والتواصل كما لو كان يتبع كتابًا أو كتالوجًا. وحتى الآن هو ينتهج الاستيطان التقدمي المستمر، بما ينطوي عليه من قتال أو قتل كل بشر في مناطقه الجديدة التي يغزوها. إن أعداده تتزايد سريعًا، وهولرويد على الأقل مقتنع اقتناعًا راسخًا أنه في نهاية الأمر سينتزع من بني البشر حكم أمريكا الجنوبية الاستوائية بأكملها.
وما الذي يَفرض على هذا النمل التوقف عند أمريكا الجنوبية الاستوائية؟
حسنًا، هذا هو مكانه حاليًّا على أية حال. وبحلول عام ١٩١١ أو نحو ذلك، إذا استمر في التقدم بنفس المعدل الحالي فسيبلغ امتداد سكك حديد كابوارانا، ويستولي عَنوة على اهتمام أوروبا الرأسمالية.
وبحلول عام ١٩٢٠ سيكون قد وصل إلى منتصف غابات الأمازون. وأعتقد أنه بحلول عام ١٩٥٠ أو عام ١٩٦٠ على الأكثر سيكون قد اكتشف أوروبا.