الأسوار
«مصر ظل الإله على الأرض، وهي قدس أقداس العالم وحاضرة الأديان.»
«لا يكن لك آلهة أخرى أمامي …»
«نؤمن بإله واحد، الله الآب، ضابط الكل، خالق السموات والأرض، ما يُرى وما لا يُرى، ونؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله والوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور على نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، والذي به كان كل شيء نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس، ومن مريم العذراء. اتخذ شكله الإنسي من أجل البشر، وخلاص البشر. فتألم وصُلب في عهد بيلاطوس البنطي، دُفن، وقام بين الأموات في اليوم الثالث، كما جاء في الكتب وصعد إلى السماء.»
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
حين صارحهم بالحقيقة، رفضوا تصديق ما حدث …
قال أنور عبد الحفيظ: معنا ألف نزيل … فلماذا القرعة تصيبك أنت بالذات؟
قال وهيب تادرس مصححًا: ليست القرعة ما تحدث عنه … ولكنها الخيانة.
اتجه إليه بنظرة غير مصدقة: معقول؟!
قال سلامة القاضي: تم كل شيء بمعرفتنا.
ضرب علي الشامي كفًّا بكف، وقال متعجبًا: الغريب الغريب أن القرعة تصيب اسم الأستاذ من بين كل هؤلاء الغنم.
قذف خليل عبد النبي بالأوراق من عبه: طُويت الأوراق على اسم واحد.
قال الأستاذ: أعرف.
فغر فاه دهشة: وكيف عرفت يا أستاذ؟
قال في هدوئه الحاسم: أعرف.
قال أمين سالم: ما دام الأمر كذلك … لماذا لم تخبرنا؟
دون أن يغادر هدوءه: لن يفيد شيئًا.
انتفض بيومي الدكر في جلسته: خيانة إذن؟
تساءل أنور عبد الحفيظ: من المجرم؟
بدد خليل عبد النبي الصمت الذي ساد للحظة: حلمي عزت!
أغمض علي الشامي عينيه: مستحيل!
قال خليل عبد النبي: إنه هو الذي نفَّذ الاقتراح … فطوى الأوراق كلها على الاسم الواحد.
قال علي الشامي: لا أتصور … هذا الذي بلا صوت؟!
قال خليل عبد النبي: وهل للثعبان صوت؟
قال أنور عبد الحفيظ: كان محسوبًا علينا.
قال خليل عبد النبي، وهو يقذف الجميع، الجميع، بنظرات نارية: ومن نحن؟ … إنه واحد منا.
صرخ فيه أمين سالم: وهل كان الأستاذ مثل الآخرين؟
افتر الفم الرقيق عن ابتسامة حزينة: في الحقيقة إني كنت أقول كلامًا، أتصوره طيبًا.
•••
فقال له السلطان سليم: والله ما كان قصدي أذيتك، ونويت الرجوع من حلب. لو أطعتني من الأول وجعلت السكة والخطبة باسمي، ما جئت لك ولا دست أرضك.
فقال له طومانباي: الأنفس التي تربت في العز لا تقبل الذل. وهل سمعت أن الأسد يخضع للذئب؟
«وغاية الأمر ملكوا بولاق، وفعلوا بأهلها ما تشيب من سماعه النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور، خصوصًا البيوت المطلة على النيل، والرباع، وكذلك الأطارف. وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة، فنجوا بأنفسهم، ثم بعد أن ملكوا البلد وأحاطوا به، ومنعوا من يخرج منه، واستولوا على الخانات، والوكايل، وما بها من الحواصل والطباق، وأخذوا ما في البيوت والحوانيت، وأخذوا بعض نساء مأسورات، واستولوا على جميع ما في البلد من غلال وسكر وكتان وقطن وأباريز وأدهان وأصناف عطرية، وما لا تسعه السطور، وما لا يحيط به كتاب ولا نشور.»
– قف، وارفع يديك.
انداحت في جوفه — للحظة — مشاعر الغضب والقلق والخوف. سرى — من بعدها — حتى أطراف أصابعه خدر غريب. تبددت اللحظة. ضاع الزمان والمكان. استحال شيئًا لا يمت إلى عالم الأحياء بصلة.
استسلم — بلا مبالاة — ليدي الضابط، تخلعان عنه ثيابه قطعة قطعة وتقذفان بها إلى أرض الطريق.
لم تتخلَّ قدماه عن الأرض، رغم أن العسكري خلع عنهما الحذاء، والجورب، وقذف بهما إلى أي مكان.
فقد إحساسه بكل شيء، فلا خوف، ولا قلق، ولا أدنى محاولة للسؤال.
– أين هم؟
حدَّق — لأول مرة — في وجه الضابط.
اختلجت عيناه وشفتاه. تطوح ذراعاه بلا هدف، ولم ينطق بشيء.
هوى الضابط على صدغه: أين هم؟
انفرجت شفتاه عن أنَّة مكبوتة: من؟
– زملاؤك.
أطال النظر إلى الوجه الصارم القسمات، عراه بنظراته من قبل أن ينزع عنه الثياب. حاول أن يرسم على وجهه أي معنًى للتساؤل والدهشة، ثم لاذ بالصمت.
دفعه الضابط إلى داخل العربة: هل ستقوى على الصمت لفترة طويلة؟
«أنت ابني، أنا اليوم ولدتك.»
قال بيومي الدكر: سأقتله حالًا.
رنا إليه بنظرة مشفقة: ثم ماذا؟
– نجري القرعة من جديد.
– لعل ذلك ما يوافق عليه أصدقائي … لكن هل يوافق من ضمنوا النجاة؟
قال خليل عبد النبي: ليس بالخيانة.
– إذا كان محتمًا عليَّ أن أواجه الموت في غدي … فلن يغيِّر من واقع الأمر أن أواجهه بالخيانة.
– ولماذا تقاسي الموت في سبيل هؤلاء الغنم؟!
في استسلام غريب: تعلَّمت ألَّا أناقش الحقائق!
استطرد كأنه يخاطب مجهولًا: ربما كُتب عليَّ ذلك!
الشجرة تُعرف من ثمارها.
هل يكون الموت مقابلًا لشفاء الألم، وبرء العلة، ومواساة الحزين، وطرد الشيطان؟!
وهل كان يدرك أن الاختيار سيقع عليه هو بالذات؟
تعبيرات الوجه الهادئ أقرب إلى البسمة منها إلى الاكتئاب. بريق الطهر والنقاء يتألق في النظرات الحزينة، كأنه يتحدى الخوف والقهر والعذاب. الحيرة تبسط ظلها القاتل، فلا نجاة.
همَّ توفيق عزوز أن يقول شيئًا. فتح فاه، وكوَّر قبضتيه، وغمغم بكلمات غير واضحة، ثم علا صوته — فجأة — متسائلًا: لماذا لا تتكلم يا بكر رضوان؟
«أليست هذه بلاد رب الشمس رع؟ … متى يهب لنجدتها الراعي الصالح، من لا يعرف قلبه الموجدة، الذي إذا ضلت مواشيه قضى يومه يجمع شملها، ويروي ظمأها، ويداوي عللها. ألا متى يجيء فيجتث الشر من أصله، ويسحق البذرة الفاسدة قبل أن تنبت؟ أين هو اليوم؟ هل راح في غيبوبة النوم؟»
«لهذه الأسباب، يطلب الوفد المصري، باسم الشعب المصري، من مؤتمر الصلح، أن يسمح له بتقديم مطالب البلاد طبقًا لقواعد الحق والعدالة التي هي قاعدة مفاوضات المؤتمر.»
ما كاد يسير في الشارع الطويل، حتى غمرته الرائحة التي لم تغب عنه ثلاثة أعوام، قضاها بعيدًا عن أهله وناسه: الصيادين وغازلي الشباك وبائعي السمك والأبوحمدات والباحثين عن الأصداف والقشور ولقمة العيش.
ما مضى قد مضى.
والقلب البحر الذي ابتلع عشرات الجيف، يمضه الحنين لكل الناس، ولكل الأشياء. حتى شيخ الحارة عرفة إبراهيم، سر المأساة كلها، له في القلب وحشة.
الرمال الملتهبة بسخونة الشمس، الحبلى بمياه البحر. سراي رأس التين، بغموضها المثير. ضوء الفنار الذي يتوهج ثم يختفي. أغاني عبد الواحد، تتغنى بالبحر والعاصفة والشجاعة والحب والمحبوب والليل والرزق، وآهات الصيادين معجبة منتشية، تطلب الإعادة والمزيد. الحاج متولي العباسي شيخ الصيادين، يعرف أسماء الأسماك أكثر مما يعرف أسماء البشر. الشيخ فتوح الذي مارس — في دنياه العجيبة — كل شيء: بدأ خادمًا، فبوابًا، فبائعًا للملابس الداخلية و«الفوط»، ثم اتخذ عربة وحمارًا يطوف بهما شوارع الإسكندرية مناديًا على الفجل زرع العصاري. إمام مسجد أبو العباس — لا يذكر اسمه الآن — ودروسه بين صلاتي المغرب والعشاء. عم محمد الفكهاني الذي أحب الغناء في صوته. سمار الليالي الذين تعلو ضحكاتهم ونكاتهم حتى مطلع الفجر. إبراهيم سلامة الذي يذكره بالشجاع بيولف، مع أنه ليس في قوة بيولف الجسدية ولا جرأته. صرع بيولف الشيطان جرندل الذي كان يبتلع كل ليلة ثلاثين رجلًا، ثم صرع أم الشيطان التي أرادت الانتقام لولدها. إبراهيم سلامة يفزع لأية حركة مفاجئة، حتى لو هش أحد على عينيه. عوَّدته حياة البحر على ترقب المفاجآت غير المتوقعة. مع ذلك أصبح أسطورة فاقت أسطورة بيولف الذي صرع الشيطان.
الجسد النحيل المعروق، النظرات الزائغة، النفس الطيبة بلا حد … استطاعت أن تفرض وجودها في أغاني عبد الواحد ومواويله … عن ذلك الشاب النحيل كأنه طيف، يلقي شباكه في عز العاصفة، يتحدى رياحها وأمواجها العالية، مع أنه يفزع لأي صوت، ولم يصرع الشيطان. حياة الأهل التي ترتبط بمواسم السمك وأحوال البحر: في الصيف، تتحول الأزقة الرطبة الضيقة والبيوت والقهاوي والشاطئ إلى خلايا نحل. الصيف هو صديق الأهل، مع قدومه يكثر المياس والترسة والبوري والبياض والمرجان، يكثر الخير … في الشتاء، يضطرب البحر وتشتد الأنواء، يلزم الأهل بيوتهم لا يبرحونها إلا إلى قهوة السيالة، يشربون الشاي على الحساب.
أليس ذلك — بالتحديد — هو الباعث لكل ما حدث؟
لم تكن الليالي الحلوة تمتد أو تتصل دائمًا، يثور فجأة نقاش حول العيشة الصعبة، السدود التي أحاط بها الإقطاعيون حقول الأسماك في رشيد. الضريبة السنوية الثابتة التي يدفعها صيادو البلانسات، ولو كان المحصول شحيحًا … سطوة المعلمين تحبس داخل أسوارها حتى الأنفاس … حتى الزوجة والأولاد ولقمة العيش والكسوة والصحة والزواج والطلاق والوفاق والطهارة ودخول المدارس وقيد المواليد والوفيات والاعتذار بالسهو عن الصلاة، وبالمرض عن الصوم، وبقلة الحيلة عن الزكاة والحج (أما شهادة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليس عليها — بالطبع — جمرك) والتحدث فيما يجب، وعدم التحدث فيما لا يجب، وقبول — أو رفض — ما تشارك في التعبير عنه الأيدي واهتزازات الجفون وإيماءات الرءوس، وفي أصوات تداري — بتساندها وتداخلها — رنة الارتعاش، والأفق السرابي لا يبين عن توقعات اللحظة التالية.
يعلو النقاش، يتشابك، يمتد.
تُلم أوراق الكوتشينة، ويصمت النرد، وتُسحب الطاولة، ويهمل الشاي الساخن والمزاج والتعميرة. يتواصل الزعيق والانفعال والسباب والصوت الهادئ والرفض والبسمة التي تريد الإقناع وتحليلات الماضي والحاضر والمستقبل.
ولا حل.
فلا أحد يملك الحل.
كلهم على باب الله.
يغادرون اللحظة، في أغلب الأحيان. يعانقون — بالغصب — واقع المهانة والعجز، على صوت لا يخطئونه: ماذا تفعلون هنا … توكَّلوا على الله!
وربما تخلو القهوة في بعض الأمسيات من روادها تمامًا. ودون سؤال، يعلم الجميع بما حدث.
تمضي الخطوات المتعثرة إلى الشاطئ تنتظر أملًا … أن يبين الأفق المظلم — فجأة — عن السفينة التائهة.
تساءل يومًا: إلى متى؟
قال له إمام أبو العباس: هذه حياتنا … فماذا تريد؟
قال: لا أريد شيئًا … مرتبي يكفيني … وربما كانت صلتي بالحي أن عملي يرتبط بالميناء القريب.
بدا على ملامح الإمام ضيق: ما شأنك إذن؟
– إنهم أهلي …
قاطعه: ولهم قوانينهم التي يحترمونها منذ آلاف السنين.
تدخَّل عرفة إبراهيم: نعم … حياة الأهل في الأنفوشي مثل أي حياة خاصة … لها قوانينها التي يخضع الجميع لأحكامها.
أفلت زمام هدوئه: حتى لو كانت ظالمة؟!
عدَّل الإمام من وضع النظارة على عينيه: مِن هذه القوانين أنه إذا ألقى صياد بشبكته، ثم أخذ يسحبها بما تحمل من أسماك … فعليه أن يقتسم ما بها مع أي صياد يمسك بطرف الشبكة.
ثم بلهجة تأكيد: حتى ولو لم يكن لصاحب الشبكة صلة سابقة به.
وعلا صوته ضاحكًا: أليس ذلك بعض ما تؤمن به يا بكر رضوان؟
– والسدود … والضريبة الثابتة … والأجور التافهة … وسطوة المعلمين؟
تغيَّرت سحنة الإمام: هل أوكل الصيادون إليك أمر الدفاع عن حقوقهم؟
– وهل أوكلوا إليك الإمامة؟
– لن تفلح في إثارتي.
غمغم في إصرار: ليتني أفلح.
– إذن … فلا أريدك من بين رواد مجلسي.
– ألسنا في بيت الله؟
– تأتي للصلاة وحدها.
ثم وهو يهز رأسه: حلمت أمس أني دست صرصارًا.
لم يخفِ غضبه: ماذا تعني؟
في لهجة باترة: أعني ما قلت.
وشد أطراف ردائه، وأشاح بوجهه.
ولما دفع به الضابط — في الصباح الباكر — إلى داخل العربة الصغيرة، لمح عرفة إبراهيم على ناصية الحارة، واقفًا ينتظر.
اتجه بخطوات سريعة إلى دكان الحاج محمد الحلَّاق. حاول أن يتلمس لنفسه طريقًا بين الباحثات عن البركة والشفاء والبرء من العقم. لمحه الحاج محمد فاتجه إليه واحتضنه. وأصر على المشروب، لكنه وعد بالعودة.
قطع الوسعاية المتربة. ثم مال إلى شارع الدريني، ومنه إلى السيالة.
ما يزال كل شيء على حاله. الدكاكين مفتوحة، والشبابيك تعلن عن الحياة داخل البيوت، والأحاديث متشابكة، والشوارع تشغي.
هؤلاء الناس هم محبوبه الذي ضيع العمر إشفاقًا عليه … فهل كان الحب من طرف واحد؟ هل تعني المحبوب اللحظة مقطوعة الصلة بما مضى وما سيأتي؟ … وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة في العذاب؟
لا بد أن عرفة إبراهيم يتقاضى — الآن — مقابل الصمت عن جريمة ستحدث غدًا. وربما الإمام في مجلسه المختار، قبالة الضريح، يمنح بركاته — ونظراته الشبقية — للنسوة اللاتي يطلبن البرء والشفاعة والستر … والغد يبين عن ظلمة كثيفة، كتلك التي تلف الليالي الشتوية العاصفة … فهل تعود رحلة السنوات الثلاث إلى بداية البداية؟
الباب الخشبي الضخم نصف مغلق.
دفعه بأصابعه، وصعد السلم بخطوات متعثرة، وعين منداة، ونفس مشتاقة.
علت الابتسامة شفتيه لما تجسدت له صورة الأم، المتوقعة، جلست إلى الكنبة «الاستامبولي» وأخفت ساقًا تحت جسدها، وتركت الأخرى … بينما اليدان مشغولتان بصنع القهوة، أو احتسائها، أو النظر في ثنايا الفنجان لما يخبئه المستقبل.
ها أنا ذا جئت أعاين جمالك. لم أرتكب الظلم في الناس، لم أقتل، ولم آمر بالقتل. لم أكذب، ولا أذكر أنني خنت أحدًا. لم أعصِ الأوامر الإلهية. لم أرتكب الوشاية، ولم أحرض أحدًا على رئيسه. لم أُجع أحدًا ولم أُبكِ أحدًا لم أسرق من التقدمات إلى الهياكل والمقابر. لم أطفف كيل القمح، ولم أغش في قياس الذراع، وفي حد الحقل، فأنا نقي نقي.
«ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها.»
هبت نسمة ربيعية نشطة.
سرت البرودة في جسده الساخن، فأرعشته.
طاف بالحيرة على وجوه الرجال.
ماذا تقدر الكلمات أن تفعل لنفس اختارت الوقوف عند خط النهاية؟
التخلي عن الكثير كان المقابل للفرار من صفعات الصول سعيد وركلاته، لكنك تعانق الموت في بساطة غريبة.
إني أحبك، وأحلم بأن نغادر الأسوار … يومًا، ونتذكر — ذات ليلة صيف رائعة — سني القهر والقسوة والعذاب … والأثر الذي يحدثه موتك، لن يجاوز الأثر الذي يحدثه موت أقل النزلاء شأنًا، كلماتك هي الوقود الذي يضرم إرادة النزلاء.
فلماذا تسلم نفسك إلى المصير الرهيب؟
لماذا لا تحرص على حياتك، إن كان لها لديك قيمة؟
هل قتلت؟ هل سرقت؟ هل زنيت؟ هل شهدت زورًا؟ هل أقسمت كذبًا؟
أنت لم تفعل شيئًا من ذلك. لم تفعل شيئًا على وجه التحديد.
فلماذا السكوت على النهاية البشعة؟
هل أصبحت الكلمات الطيبة طريقًا إلى الموت؟
سأتوجَّه إلى المأمور وأبلغه بما حدث.
علا الصوت الهادئ في غضب: من العبث القيام بمحاولة كهذه.
فقد توفيق عزوز أعصابه: فهل نسلمك إلى الموت بأيدينا؟
– ذلك مصير من تصيبه القرعة.
قال أمين سالم: أتعلم كيف سيتم الأمر؟
في إصرار هادئ: أعلم.
قال وهيب تادرس: إنهم سيسكبون البنزين عليك … ثم يشعلون النار.
– هذه هي الشروط التي قبلناها.
هتف أنور عبد الحفيظ: دون أن نضع حسابًا للخيانة.
اتجه إليه بنظرة حانية: تغيَّرت حياتك يا أنور.
«وكان سليم سلطانًا مهيبًا قهارًا، كثير السفك للدماء، قوي البطش والفحص عن أخبار الناس، عظيم الكشف عن أخبار الممالك والملوك. وكان يغير زيه ولباسه في الليل والنهار، ويتجسس ويطلع على الأخبار.»
لو أن البداية من اللاشيء، هل كانت تتغيَّر النهاية؟
الصوت المؤدب — عبر أسلاك التليفون — يطلب تحديد موعد اللقاء.
لا يهم المكان ولا الزمان. المهم أن نلتقي ونتجاذب أطراف الحديث. سمعتك الطيبة تفرض الاحترام على الجميع، مقالاتك الأدبية الممتازة تدفعني إلى قراءتها، وفي النفس رهبة تلقي المواد الدراسية. المبنى بعيد، وربما تفضل الجلوس في جروبي أو الأمريكين، تجدني في المكان والزمان اللذين تختارهما. إني في شوق إلى لقاء الكاتب الذي أجد كل المتعة في قراءة بحوثه ومقالاته.
– هل يمكن أن أعرف المطلوب على وجه الدقة؟
– لا يهم … ولا داعي للقاء إن لم تكن لديك رغبة.
في تردد لم يحاول إخفاءه: بالعكس … هل أدعوك إلى فنجان قهوة؟
– أخشى أن ذلك يضايقك … سترانا عيون المحررين في الصالة الواسعة.
– ليس في الأمر جريمة … تعالَ، ولنجلس في الكافيتريا.
– كما تشاء.
علاقته بالآخرين لا تزيد على تبادل الإيماءات والتحيات والأحاديث العادية.
دعاه عزت سامي إلى ركوب عربته فطريقهما واحد، لكنه اعتذر في أدب.
إبراهيم عبد المجيد مشغول في واحدة من مكالماته العاطفية الطويلة، بدا تأثيرها على قسمات وجهه.
إحسان شريف لمَّ أوراقه وألقى سلامه ومضى.
تبعته سامية المحلاوي.
لم يعد في الصالة إلا ثلاثة من المحررين.
لو أن عباس الديب واحد منهم، ربما روى له الدعوة الغريبة المفاجئة. بينهما ذلك الود الذي يسمح برواية الأسرار … لكن: هل يفيده شيئًا؟
ربما كان تكتُّم المسألة أجدى.
تنبه إلى دفتر الأرقام التليفونية الصغير على مكتبه … مزقه في عصبية، وتأكد من أن أوراق سلة المهملات أخفته تمامًا.
فتش في جيوبه … سدَّد كمبيالة السخان، فلماذا يحتفظ بها؟ تأكد من أن مزقها قد أصبحت هي الأخرى في أعماق السلة.
لمح شعره منكوشًا على صفحة المكتب … مشَّطه في عناية. عدل الكرافتة والجاكتة. لا بد أن يلقاه على هيئة طيبة.
طلب القهوة دون رغبة حقيقية.
أطلق تنهيدة، وتأمل في الفراغ.
لما تناهى إلى سمعه صوتها المتعب، أدرك خطأ تسرعه.
سأل عن الغداء.
بدأت — كالعادة — في رواية كل أحداث يومها.
قاطعها في انفعال: لا تقلقي إذا تأخرت عن الغداء.
أبعد السماعة عن أذنه، وأغلقها في بطء شديد.
الوجه ضامر ناحل، يناقض القسمات تناقضًا ظاهرًا … فالعينان واسعتان ملتمعتان بما يشبه الدمع، والأنف واسع المنخارين والشفتان ممتلئتان في استدارة.
اتجه بنظراته القلقة إلى إبراهيم عبد المجيد وصلاح المنياوي. هما آخر من بقي في الصالة الواسعة. لا يبدو أن أحدهما قد تعرف إلى الوافد.
سبقه إلى الكافتيريا، والشاب الأنيق يتبعه في تأدُّب ملحوظ.
جلسا على مقعدين في أقصى المكان.
خاضا في الحديث بلا بداية محددة … الجو والأفلام الاستعراضية وتحية كاريوكا وسامية جمال ومباراة كرة القدم الدولية بين مصر والمجر وزحام المواصلات وفوضى المرور وبرامج الإذاعة وأوضاع الصحافة والمعارك الأدبية ومشكلات أدباء الأقاليم.
سأله الشاب الودود فجأة: من أصدقاؤك؟
ندت عن حنجرته قهقهة مفاجئة، لم يتبين الباعث لها …
وسكت.
نفرت العروق بين العينين:
– ما يدعوك إلى القهقهة؟
– آسف … تذكرت شيئًا مضحكًا.
بدا على الشاب أنه يتخلى عن التأدب الذي يحكم تصرفاته.
– أين تقضي سهراتك؟
رمقه بنظرة متوجسة: هل تحقق معي؟
عاد إلى اللهجة المؤدبة: بل هي دردشة صديقين.
– ماذا تريد على وجه التحديد؟
– حتى نقف على أرضية من التفاهم … فإن يومك يبدأ بقراءة صحف الصباح في التواليت … عادة ألفتها منذ سنوات. ثم تشرب كوبًا من الشاي بالحليب قبل أن تجلس إلى ترابيزة السفرة — فالمكتب الذي تعاقدت عليه من دمياط لم يأتِ بعد — لتكتب مقالًا أو فصلًا من كتاب … ثم تقضي وقتًا مع زوجتك في إفهامها بأن شكها الدائم هو الذي سيدفعك إلى الخيانة … وتغادر البيت لتلتقي بأصدقائك: صلاح عبد المجيد وفوزي طاهر وحلمي بهجت، في الأمريكين … ساعة أو نحوها … ثم تذهب إلى الجريدة ليبدأ نهار حافل باللقاءات … دعوتك إلى رعاية أدباء الأقاليم جعلت منك أكثر محرري الجريدة استقبالًا للزوار … وتدور أحاديث … راضية وساخطة … في الأدب وفي السياسة … وفي الرياضة والفن … وتعود إلى البيت بعد العصر … فلا تغادره حتى صباح اليوم التالي.
أطلق ضحكة هادئة وهو يضيف: هذه أربع وعشرون ساعة من حياتك.
الشاب دفع به إلى حافة هاوية: الخوف والرهبة والقلق والدمع والألم والرفض وعدم التصديق، وآلاف المشاعر دارت به في دوامة قاسية، سريعة، ولم يتكلم.
قال الشاب: ما أريده منك ليس شيئًا وضيعًا.
ظل على هدوئه المتوتر. جالت عيناه بلا وعي في أرجاء الكافيتريا، بدا أنه سيطلق صيحة استغاثة في أول القادمين.
– حتى لا أسطو على وقتك … فكل ما أريده منك أن تطلعني — أحيانًا — على ما تتبادله مع أصدقائك من أحاديث.
وضع غضبه — دون تعمُّد — في تكور قبضتيه: ربما لا أستطيع القيام بما تطلب.
– ليس بهذه السرعة … فكِّر طويلًا قبل أن تتخذ قرارًا.
ثم وهو يعدل من وضع النظارة الشمسية على عينيه: أتأذن لي في الانصراف؟
قطع المسافة ما بين الكافيتريا وصالة التحرير في لحظات كأنها دهر. اعتمد رأسه على يديه فيما يشبه الإغماءة.
قال له عباس الديب: رفض الواقع خطأ … ولتكن تبليغاتك عن أخطاء ليست بذات بال … ولتدع الخيال ينسج ما يشاء من شائعات ومؤامرات بلا قوائم اتهام.
كان ذلك ظنك في البداية.
لكن نسيج الخيال مزقته الأيدي المدربة، ببساطة غريبة.
لم يكن فيما تراه من حياة الناس سر، ولا كان فيها شيء مما يستلفت النظر … وربما لو أنك صادفت شيئًا لتكلمت … لكن الذي آلمك أن تصبح عينين على تصرفات الناس وحياتهم. تدربت الذاكرة، ولم يعد بك حاجة لأن تكتب شيئًا. كل شيء تقتنصه صفحة الذهن بحيث لا يفلت. الأوراق والمذكرات لها خطورتها. الأداة الأولى هي الذاكرة. يكفي أن تشاهد الوجه مرة واحدة، حتى تستعيده الذاكرة بعد أعوام. جاوزت الأذن المتنبهة جدران الصالة والكافيتيريا ومبنى الجريدة. يشدها حوار في المترو، وكلمة ساخطة في موقف الأوتوبيس. الكلمة اللامبالية يشم منها — أحيانًا — رائحة السخط. اليقظة دائمة ومستمرة لا يتخللها النعاس. أوشكت الأعصاب أن تذوي وتتبدد. بلغ الأمر حدًّا، لم تعد بعده تصبر على الإذعان. صقيع الحياة الخاصة لا يدري بسره أحد، والمناقشات — مهما تلفعت بالبراءة — تعبر جسر الأذن لتسود صفحات التقارير، وأعز الأصدقاء هم السطور التي تخلو إلى نفسك تمامًا حين تكتبها. الخوف لا ينتهي، ولا حيلة لك في قهوة.
تنفست الرفض: أرفض. أرفض. أرفض.
الأحلام تضاءلت، ذوت، تلاشت، إلا من أمنية بأن تعاود دورة الأربع والعشرين ساعة سيرتها الأولى، وجلسة الأمريكين الصباحية ذكرى تطوف بالخاطر في حنينه إلى الماضي القريب.
– يا صديقي العزيز، أنت لست فردًا في عصابة.
بذل جهدًا حتى لا يواجه نظراته.
– مهمتك هي الدفاع عن حريات الآخرين.
علا صوته في انفعال: وما ذنبي لكي تصبح حريات الآخرين قيدًا على حريتي؟
– ذلك تصور خاطئ.
في نفاد صبر: صدقني … أريد أن أستريح لحظة واحدة.
– عندما تعود إلينا … فستنام ملء جفنيك.
لم تفلح زيارات الشاب المؤدب في إثنائه عما اعتزم أن يفعله حتى بدد الصراخ ذات صباح هدوء الصالة الواسعة. الذي أدهشه، وحار — فيما بعد — في تفسيره، أنه لم يعد كلامًا يقوله. نطق الكلمات دون وعي، وبلا شعور. تملكت الجسد قوة غريبة لا عهد له بها. أنطقت اللسان، أرعشت الجسد. حتى أطراف الأصابع كانت ترتعش … وخدر غريب يحتضن اللامبالاة، كان يسيطر على تصرفاته، منذ دفعته الأيدي الغاضبة داخل العربة الصغيرة.
•••
قال بكر رضوان: يا أستاذ … فلنواجه الأمور بصراحة.
ران على المكان هدوء مفاجئ.
لم يكن يهوى النقاش، وحين يتكلم لا بد أن تعطيه الآذان كل انتباهها. كانت له طريقته في الإنصات إلى الآراء، وتلخيصها، ثم التعقيب بكلمات محددة، يؤكدها صوت ممتلئ عميق.
أضاف وهو يتوسَّط دائرة الرجال، كأنه يتهيأ لخطبة: أنت تعلم بسخف التهم التي نقضي بها أيامنا داخل الأسوار.
التفت إلى أحمد حسنين، بدءًا لنظرات مشاركة راح ينقلها بين الرجال: أحمد حسنين يحلم بالأرض … أن يكون له أقل من فدان، لكن وشاية العمدة جعلت منه مجرمًا خطيرًا، وقذفت به إلى المعتقل سلامة القاضي … مع أنه لم يفعل شيئًا يحاسب عليه، فقد ضيعته أوهام الزعامة. حتى التهمة التي يواجهها ليست محاولة قلب نظام الحكم، أو الترويج لمبادئ هدَّامة … إنها — للأسف — ترويج الإشاعات … توفيق عزوز … لم يكن في باله يومًا أن يضغط على زناد البندقية ليقتل إنسانًا لا يعرفه، لكنه استدعي بتلغراف إلى بلدته التي غاب عنها.
اتجه إلى توفيق عزوز: كم؟
أجاب بسرعة: ثمانية عشر عامًا.
– قتل رجلًا لأنه — كما قيل له — قتل عمه … أو خاله … لا أذكر … وألحقه الثأر بنا ليصبح رجلًا مهمًّا … أليس هو شيخ الجبل؟ … وأنت يا أمين … نسيت تهمتك.
قال أمين سالم: التهمة التي أعرفها هي تجارة المخدرات.
– وهل هي صحيحة؟
– نعم … لكن هل وجدت عملًا شريفا ولم أمارسه؟
ثم، وهو يضرب الهواء بقبضته: مع أني نقلت عشرات الأطنان من الحشيش والأفيون … فلست أعرف مذاقهما حتى الآن.
قال محمد توفيق: وأنا … دخلت المعتقل لأني كنت أحمي الولية عطيات من أعدائها.
– البلطجة هي تهمتك يا توفيق.
– دلوني على شخص واحد هددته، أو فرضت عليه إتاوة … أو أي شيء يناسب التهمة التي ضيعت حياتي.
أكمل بكر رضوان نظرته إلى الدائرة من حوله: بيومي الدكر … رجل بسيط وطيب … لكن الحال المايل لا يعجبه.
شهد الكثير مما لا يرضي، فلجأ إلى كبس طربوش مدير المديرية على رأسه … وسيلة للتعبير عن رأيه فيما يجري.
أشار إلى خليل عبد النبي: خليل غشاش … هذا صحيح … لكن إذا اعتبرنا كل الغشاشين من الخطرين، فهل يكفي معتقل واحد لإيوائهم؟
ثم ثبت نظراته على أنور عبد الحفيظ: وأنت يا أنور … إني أعلم الناس بمأساتك … أنت ضحية الذين أتوا بك هنا.
ورنا إلى وهيب تادرس: تمامًا … مثلما أصبح وهيب تادرس، طالب الطب الموهوب، ضحية تهور سلامة القاضي وعشقه الغريب للزعامة.
قال سلامة القاضي محتجًّا: لست مسئولًا عن سلامة أحد.
– ألم تقل للمباحث إنه أحد تلاميذك؟
أشاح وهيب تادرس بيده: قضيتنا هي الورطة التي نواجهها الآن!
بدا عليه تردد حين واجهت عيناه عيني علي الشامي … قال الشامي بصوته المخدر: إني قواد وتهمتي ثابتة. لكن وجود عشرة جنيهات في اللحظة التي قبض عليَّ فيها كان يكفل لي الحياة خارج جهنم.
وضرب ركبته بأطراف أصابعه: عشرة جنيهات هي الفاصل بين ثبوت التهمة والبراءة منها، فهل أنا القواد؟
أطلق بكر رضوان تنهيدة أسًى، وقال في نبرته الهادئة التي شابها انفعال ملحوظ: يا أستاذ إذا كنا نقضي حياتنا بالقهر داخل المعتقل … فمن البلاهة أن نضيعها مقابل لعبة سخيفة طرأت في بال مجنون!
«اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.»
– المعادلة الصعبة أني لن أغادر الأسوار، حتى أعلن أسماء شركائي في المؤامرة … ولأنه ليست هناك مؤامرة، فليس هناك شركاء، ولأني لن أعترف بالشركاء فلن أغادر الأسوار.
ثم في لا مبالاة يائسة: الموت البطيء لعنة!
قال أمين سالم: لكن الحياة تحفظ الأمل.
– لأنهم قد يقتنعون بأنك امتنعت عن بيع المخدرات فعلًا … وتلك تهمة محددة … لكنني ما زلت أبحث عن تهمتي!
قال خليل عبد النبي: ليته كان تاجرًا بالفعل … فربما كان أحد صبيانه الآن معنا، لكنه اكتفى بأن يحمل الحقيبة بدلًا من الفأس.
صرخ فيه وهيب تادرس: نكتة هذه؟
قال أمين سالم محتجًّا: الظروف السيئة وحدها، هي التي قادتني إلى هنا … وإذا كان في المعتقل من يستحق الإفراج … فهو أنا.
ضرب وهيب تادرس كفًّا بكف، وقال في غضب: ها هي المشكلة الحقيقية … أمين سالم مذنب أم بريء؟!
•••
– ما اسمك؟
– أمين سالم.
– ماذا كنت تعمل من قبل؟
– كنت قارئًا.
– إلى؟
– القرآن كله.
– قد لا يروقك العمل هنا.
فلاحة الأرض … أتروق أحدًا؟ … أي عمل، أي عمل، أهون من الفأس، والطين، والمحراث، والشادوف، والغلب بلا انتهاء، والقيظ المحرق.
– أرجو أن تثق فيَّ.
– لكننا لا نتعامل بالقرآن.
في هدوء حاسم: أعرف.
•••
قال وهيب تادرس: توفيق عزوز … أنت شيخ الجبل … وباستطاعتك أن تنهي المشكلة.
قال بتأثير المفاجأة: منذ ألغيت طوابير العمل لم أعد شيخًا للجبل.
رماه وهيب تادرس بنظرة رافضة.
قال الأستاذ: يا وهيب … لا علاقة لمشيخة الجبل بما نحن فيه.
قال وهيب تادرس: كلمته مسموعة في الإدارة … وهذا ما نطلبه.
قال في هدوئه الحاسم: لا أوافق!
•••
أنت شيخي وأستاذي ومعلمي.
أكتم أنفاسي لتواصل أنفاسك الحياة.
لكنك تعانق الموت، تحرص عليه بإصرار غريب، كأن في موتك الخلاص.
مشيخة الجبل ثمرة القتل دفاعًا عن الكرامة.
أطلقت رصاصاتي في وسط النهار.
رفعت إصبعي عن الزناد بعد أن فرغ الرصاص.
دست على الجثة أمام رواد القهوة الذين لم يجدوا الفرصة حتى لمغادرة أماكنهم.
شربت من الدم الساخن، وألقيت السلاح.
أغمضت العين، وتنهدت في راحة.
كلماتك كانت هي المنفذ للخروج من دائرة الوهم.
الندم على اغتيال الوظيفة والحاضر، جسر الانتظار لما يخبئه المستقبل.
فهل يسلم الأمل إلى اليأس نفسه؟
«… وقال طرفة بن العبد لعنترة: يا أبا الفوارس، ما أنت إلا قد اكتملت بالشجاعة، لكن بلغني أنك رجل معلول النسب، ولولا ذلك كنا قبلناك.»
تخلى محمد توفيق عن صمته.
قال: ليكن مصيري!
اتجهت إليه الأعين في دهشة.
قال الصوت الطيب: ذلك مصير من تصيبه القرعة.
– الرجال يحتاجون إليك … أما أنا، فلا أهل ولا أقارب ولا أصدقاء.
قال في تأثُّر: نحن الأهل والأقارب والأصدقاء.
•••
لم يكن يدري على وجه التحديد، من هم أهله ولا أقاربه.
نمت مداركه، فوجد العجوز في غرفتها الصغيرة تحت حنية سلم بيت الست عطيات بالخرنفش، تحنو عليه، تغسل له ملابسه، تملأ جيبه بالحلوى والفاكهة، كان يقول لها: يا ستي!
ثم ماتت العجوز.
وكانت كل أهله وأقاربه.
كان وحيدًا.
وكانت هذه الوحدة تثقل عليه، وتعذبه.
واشترطت عليه الست عطيات — لكي يظل في حنية السلم — أن يحميها من الخصوم.
خاض الجسد العملاق عشرات المعارك. أصابته جروح وندوب، وفُقئت عينه اليمنى في خناقة مع النخيلي بائع المخدرات القزم على ناصية السكة الجديدة.
لكن أبناء العم لا بد أن يواجهوا الغريب بيد واحدة: افتداه النخيلي بحياته في كبسة مفاجئة.
ولم يعد يدري — من يومها — شيئًا عن عطيات.
•••
عدل وهيب تادرس من جلسته.
واجهت عيناه عيني سلامة القاضي الذي كان يحدق في نتوءات الرمل.
علا صوته: لماذا لا تتكلم؟ … ضيعتنا أحلام الزعامة الزائفة.
حط الرجال مشاعر القلق والخوف والحيرة على المشجب الجديد … علت الأصوات متسائلة، غاضبة، وحادة، وعنيفة.
– ربما كانت القرعة أصابتني.
أودع وجهه — فجأة — أصابعه المتشنجة، وأجهش بالبكاء: ليت القرعة أصابتني!
•••
السرير الصغير يستقبل الجسد المتعب بكل ملابسه.
العينان الزائغتان تبحثان عن اللاشيء في سقف الغرفة. الحقيبة الصغيرة — أسفل السرير — رتب بها كل ما يحتاج إليه، حتى ماكينة الحلاقة ومعجون الأسنان.
فمن يدري … من يدري؟
توقع الضربة، وأعد لكل شيء عدته، منذ تقله العربة الصغيرة، حتى تدخل به الباب الضخم لمبنى المباحث العامة.
حتى الأسئلة التي تصوَّرها، أعد لها الأجوبة اللازمة، وأدار في رأسه كل التهم التي يمكن أن توجه إليه.
زينب لا تجد معنًى لكل ما يحدث.
المؤكد أنه لا يمارس أي نشاط. الفراغ سلة سقطت فيها حياته، الساعات القليلة التي يقضيها في العمل تقطعها مكالمات الاطمئنان بالتليفون، لا تشي بحياة أخرى ربما لا تعرفها.
في فضول مؤدب وإشفاق، يهمس صوتها: هل تخشى شيئًا؟
المسكينة!
ذلك هو المصير يا زينب … اخترت النضال ولا مفر … وإذا لم أكن أفعل الآن شيئًا، فإن ملفاتي تكفل لي التنغيص الدائم حتى أموت. تلامذتي يودعون السجون والمعتقلات … وما داموا قد أفلحوا في الإمساك بالجسد، فلا بد أن يأتي الدور على الرأس يومًا.
– ربما من قبض عليهم يستحقون الاعتقال فعلًا.
– ذلك بالنسبة للتلاميذ.
تقول في استسلام يائس: قدر علينا أن نحيا في ظل الخوف الدائم.
– تلك حياتنا … ولا مفر.
ويطل برأسه من فوق كتفها داخل المطبخ الصغير: هذا البوتاجاز … ربما يكفيك ثمنه لستة أشهر كاملة … أما الثلاجة فإن قيمتها مرتفعة جدًّا … تتيح لك حياة طيبة أكثر من سنتين … ولا تبخلي على نفسك بما في السندرة من مأكولات محفوظة.
– لماذا لا تبتعد عما يثير الشبهات، ونحيا في أمان؟
– ذلك ما أجتهد أن أفعله.
– لا شيء يهمنا إذن.
– ربما يحلم بذلك مناضل مبتدئ.
– فماذا يمنعهم من اعتقالك؟
– لا بد أنهم يفتشون عن الأدلة التي تمكنهم من اتهامي.
ويعلو صوته مؤكدًا: كل تلاميذي في المعتقل الآن … ولا بد أن دوري آتٍ بعد حين.
ويرهف السمع لأقدام خارج الشقة: ها هم قد أقبلوا. وانتهى الأمر.
ترجوه أن ينسى الأمر تمامًا.
لكنه كان قد أسلم نفسه للشك والخوف وتوقع الخطر، والمؤامرة المحبوكة تنسج خيوطها بأناة، وارتسامات الاهتمام بين زملاء العمل تتحول إلى أحاديث هامسة وغمزات وابتسامات ولمزات وتكشيرات ونظرات مشفقة، والضابط يصارحه ببساطة، وهما يهبطان من الشقة في برودة الليل المتأخر: صدقني … لا يوجد اتهام ما … لكنك تتحدث عن خوفك الدائم من أشياء لا نعرفها!
•••
عانقه بكر رضوان بنظرة تأثر: كلما بدأت مناقشة، أنهيتها بالبكاء … تماسك يا رجل.
تساءل الأستاذ: هل كانت الأسباب تغيِّر من النتيجة؟
قال القاضي: لقد أخطأت … ولكن حرام أن أعاير بخطئي في كل مناسبة.
قال وهيب تادرس: تراه خطأً … وأراه جريمة كاملة.
قال بكر رضوان: يا وهيب … سألوه عنك … فهل ينكر صداقتكما؟
•••
ربما استغرقت اللحظة دقائق أو أقل … لكن الأصدقاء غابوا، وأسوار المعتقل تماوجت وابتعدت. امتدت الصحراء إلى قصر العيني، وشارع الماوردي ومقهى الأمل، ومكتبة المنيرة، وبائع الدندرمة تحت كوبري السكة الحديد، والجرسونة في بار الاسكرابيه وصوت الدكتور رفعت الهادئ، وضحكات إيفا التي لا تكاد تغادر فمها، وسكون المشرحة وتزاوج الطرابيش والعمائم في دار العلوم، والبطن الدافئ يصدر شعاعًا محيرًا في الرقصة المجنونة، والأرض تهتز بإيقاعات العنف التي لا تهدأ، وتراتيل الكنيسة، وكلام سلامة القاضي، كلام، كلام، كلام، وتحذير أمين المكتبة: المكان للقراءة، وليس للمناقشة، والذباب المتحرك في همود القيلولة، وبطاقة العضوية تؤدي فوق اللهب رقصة رائعة، وولد وبنت كفاية، وتصور الخلاص من الماضي: العيادة والمرضى والمستقبل، وجيمس بوند يعلن عجزه عن حل أية مشكلة: أبانا الذي في السموات … ابقَ فيها! والفيلا في المعادي أم في مصر الجديدة؟ وكيف تصبح مليونيرًا؟ كيف تحصل على ما تريد بأقل مجهود؟ كيف تحقق ذاتك؟ كيف تقضي على القلق؟ كيف تصبح عصاميًّا؟ … والنظرات المقتحمة المفاجئة.
– مشوار صغير.
– إلى أين؟!
ضيعتني الزعامة الزائفة!
«هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.»
بدت الفكرة اقتراحًا مجنونًا في بادئ الأمر … لا يذكرون صاحبه على وجه التحديد (أعلن سلامة القاضي — فيما بعد — أنه صاحب الاقتراح).
لكن الليل البارد، والشمس الحارقة، والأسوار، والصحراء التي يحدها الأفق، ولدغات العقارب، والعذاب، والغربة، والحرَّاس، والوحشة، والشوق، والملل … ملل سادر متصل، أفق الصحراء ليلة محاق القمر … ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون — في أقل من يوم — حلًّا مقبولًا.
قال مجاهد الغزالي، فتوة عنبر ٤: لنبدأ بالاقتراع.
علا الصوت الهادئ: غدًا عيد الفطر.
قال توفيق عزوز: فلنؤجل الأمر ثلاثة أيام.
صرخ الغزالي في غضب: لن يكون عيد قبل أن نغادر هذه الأسوار اللعينة!
رماه علي الشامي بنظرة مؤنبة: وأيام التعذيب … هل نسيتها؟
ماذا يفيد؟
اختفى الكرباج واللكمات والركلات والمناشف المبتلة والشتائم والزنزانة الانفرادية وانتزاع الأظافر وإطفاء السجاير والطوق الكهربائي والشوكة الرنانة ونتف الشعر وأسماء النساء.
لكن الصحراء اللعينة لا تزال تمتص الحياة قطرة قطرة، والأسوار كأنها شواهد على أجساد تتنفس الموت، والملل يمض لحد الاختناق.
تجاهل السؤال: خير أن يموت واحد منا … من أن نهلك جميعًا.
ثم وهو يتجه إليه بملامح مستنكرة: ما قيمة الحياة أو الموت إن لم تكن حرًّا؟
مشَّط توفيق عزوز لحيته: وما الحل إذا كفت الإدارة على الخبر ماجورًا، ولم يعلم أحد بما حدث؟
هز الغزالي رأسه مؤكدًا: إذا كانت الإدارة نجحت في إخفاء إضرابنا عن الطعام … فإنها لن تنجح هذه المرة.
قال سلامة القاضي: اختفى التعذيب برفضنا له.
قال الغزالي: وذلك ما سيحدث الآن.
قال بكر رضوان: نحن لا نملك السلطة للحكم على إنسان بالموت.
هتف الغزالي في غضب: فهل يظل لهيب الشمس قدرنا إلى ما لا نهاية؟
تدخل يوسف الحبيبي، فتوة عنبر ٢: ذلك أمر تجاوزناه … القرعة هي التي ستحكم.
قال الغزالي: الآن!
تساءل الحبيبي: والتنفيذ؟
– في الفجر.
تناهى السؤال من أقصى العنبر: في أي ساعة نحن؟
مط الغزالي شفتيه: وكيف أعلم؟
قال أمين سالم: لم تعد هذه المسألة تشغلني على الإطلاق … وتعاقب الأيام لا يهمني أيضًا. كل ما أعرفه أن الشمس تشرق وتغرب، ولا أزال داخل هذه الأسوار.
أضاف القاضي مؤكدًا: الملل شيء قاتل.
قال أنور عبد الحفيظ: الفرار من قبضة الصول سعيد كان غاية المنى.
لم يفارق الغزالي غضبه: والفرار من قبضة الملل؟!
هز يوسف الحبيبي رأسه موافقًا: الملل يقتل كل شيء.
قال وهيب تادرس: يا سادة … ألم نرفع عشرات المذكرات لإلغاء أشغال المزرعة؟!
قال بكر رضوان: وهل نسينا الاحتفال بوصول أول دفعة من الكتب؟!
قال خليل عبد النبي: واعتبار التخلي عن أسماء النساء مكسبًا ذا قيمة.
قال علي الشامي: والمخدرات … إن أرخص مكان يبيعها هو هنا.
قال الغزالي: لم أعد بحاجة لمخدر … وإذا اعتصرتني تمامًا، ثم وهبت قطرات من دمي على عباد الله، فسيمتلك السطل كل من يتذوق قطرة.
قال محمد توفيق: وطبيعة الحياة الخالية من العنف؟
قال الغزالي: ما معنى الحياة وراء الجبال بعيدًا عن الدنيا؟!
قال الأستاذ: ماذا تريد بالتحديد؟
نطق الغزالي الكلمة حرفًا حرفًا:
– ١ … ل … إ … ف … ا … ج.
ولما سقطت الشمس في الأفق الغربي، قال الغزالي: أجريت القرعة بواسطة عنبر ثلاثة … وأصابت واحدًا من أفراده … انتهى الأمر، ولا بد أن يفتدي الباقين بحياته.
«… فقال السلطان سليم للجميع: ليس من العدل قتل رجل شهم صادق كهذا الرجل.»
قام بكر رضوان من جلسته.
حدق عبر النافذة، إلى ظلال الغروب التي بدأت تكسو الأسوار والأبنية وأشباح الحراس.
ثنى قسمات الاكتئاب إلى الرجال دون أن يغادر مكانه: لن يفيد تبادل الاتهامات شيئًا … فلماذا لا نبحث عن حل؟
قال أحمد حسنين: الحل الوحيد أن نبلغ المأمور بما حدث.
قال وهيب تادرس: لكن الأستاذ يرفض.
قال الأستاذ في لهجة مستنكرة: لو أن القرعة أصابت واحدًا من الآخرين … هل كنت تبلغ المأمور؟
أشاح بيومي الدكر بيده: الاقتراح في الأصل سخيف.
قال الأستاذ: فلماذا قبلناه؟
قال بكر رضوان في جد: إني لم أقبل أو أرفض شيئًا … ولا أفهم معنًى لكل ما يحدث.
«ثم إن هرقل ظفر بالأب المغبوط مينا أخي الأب بنيامين، فأنزل عليه بلايا عظيمة، وأطلق المشاعل بالنار في أجنابه، حتى خرج شحم كلاه من جنبيه، وسال على الأرض، وقُلعت أضراسه وأسنانه باللكم على الاعتراف المستقيم، وأُمر أن يُملأ مزواد رمل، ويجعل القديس مينا فيه، وأُخرج أكثر من سبع غلوات، وأُنزل في الماء ثلاث دفعات.»
«أنا عاشق ولهان، وقد عذبني الحب، وملكت الحبيبة عليَّ مشاعري، فأنا أراها في كل وقت، وفي كل مكان، وأراها على وجه الخصوص إذا سجى الليل … ولكن ليلاي ليست ليلى العامرية ولا ليلى الأخيلية ولا ليلى المريضة بالعراق، بل ولا ليلى مراد … وإنما هي ليلى المصرية.
ليلى الهيفاء السمراء، ذات الشعر الفاحم والعيون الصحاح المراض. إنها سعادتي وبلائي. شقوتي وهنائي. أحبها حبًّا يقرب من الجنون، وأغار عليها غيرة المفتون. وإن أشقى ما يشقيني أن أرى إلى جانبها أجنبيًّا أشقر ذا عيون زرق، يغازلها، ويحاول أن يصل إلى قلبها. ويل له مني. والله لأقتلنه، أو يبتعد عن طريق ملاكي.»
كانت تبهجه استدارة القمر.
الضوء الفضي يلف الأمواج والرمال والسفن الصغيرة المتناثرة على الشاطئ. حلقات الصيادين تزجي الليل بشرب الشاي وأحاديث السمر. رائحة اليود والملح والطحالب والقواقع والأعشاب. صفافير البواخر التجارية تتناهى من البوغاز، ومن الميناء القريب. ضوء الفنار يكتسح القباب والمآذن وأسطح العمارات. أسراب النورس غلالات بيضاء فوق المياه. غناء عبد الواحد عن القدر والحب والرزق والعاصفة. اختلاط صفير الريح بهدير الموج بوشوشة النخيل، تآلف أصوات متباينة يفتقده إذا غاب عن الأنفوشي.
كان يحلم بأن يخلع — يومًا — ملابسه، مثل معشوقه كامي، ويقذف بنفسه في البحر ليزيل عطور الأرض من جسمه، ويحقق عناق الأرض والبحر.
ألم تكن هذه هواية كامي المحببة؟
وكان يتجه إلى السماء — أحيانًا — يحصي نجومها.
لم تكن السياسة تعنيه في شيء.
إن هي إلا أحاديث متباعدة عن الملك والأحزاب والأغلبية والأقلية والغلاء والعيشة الصعبة.
كان يشارك بأذنه دون أن يشارك بلسانه.
قد يومئ بالموافقة على رأي ما، وربما علق بكلمة، وغالبًا ما تظل صفحة وجهه على هدوئها الباسم.
شغلته الطبيعة وما وراء الطبيعة وقراءات الفلسفة وعلم الجمال، واستهوته الأفكار الرائعة، والآراء المضيئة.
حتى بعد أن اختُطف من عالمه، فإنه لم يسلم خوفه إلى الزنزانة الملتفة بالظلمة والرطوبة، ولا إلى أحاديث نزلاء الزنزانة المجاورة عن الصول سعيد، الذي تعد قسوته البشعة جسرًا لا بد أن يعبره كل وافد جديد.
تساءل في حيرة: هل أعترف بتهمة لا أعرفها؟
أطلق خليل عبد النبي ضحكته المنفعلة: يدا الصول سعيد كفيلتان بأن تعترف أنك هتلر في أقل من ساعة!
خطوات الحارس تقترب. يصر مفتاح، ويُرفع مزلاج حديدي … تبعد الخطوات.
تتناهى آهة مكتومة.
بدأ التعذيب إذن.
لمن؟ وبماذا؟ وكيف؟
لم يكن الضرب مبرحًا في بادئ الأمر. شتائم الصول سعيد تعلو على أنات السجين … لكن الأنين يتحول إلى صراخ وحشي حاد — ينخلع له قلبه — يمتد ويتواصل، في لحظات كأنها دهر … ثم يهمد الصراخ فجأة، ويهدأ كل شيء. حتى شتائم الصول تختفي، ويتصور أن النزيل — الذي لا يعرفه — مات.
كان ينتظر دوره، لكن: متى؟
ترقب العذاب أشد هولًا من العذاب ذاته.
القلق والتوتر والخوف، والتصورات يجسدها الخيال، ينقص منها ويضيف إليها، وآلاف المشاعر المتباينة تتداخل وتتشابك، ونهاية الانتظار — مثل الموت — لا بد أن تأتي.
فلماذا لا تأتي؟
طال الانتظار حتى زحفت أشعة الشمس على سقف الزنزانة، عبر الجزء العلوي من القضبان.
ارتفع صوت البروجي في أرجاء المعتقل.
تقاطر النزلاء إلى الساحة الواسعة.
تعالت الأوامر بتجهيز أفراد الخروج إلى الجبل.
اختفت أشعة الشمس من سقف الزنزانة.
رانت ظلمة حادة، وكثيفة.
مر الوقت بطيئًا، قاتلًا، حتى أهمل أن يعطي سمعه لأي شيء.
لا بد أن الصول سعيد يقابل نوعًا بذاته من النزلاء، هؤلاء الذين قدموا بالجريمة. وكل تهمته أنه تخلى عن الميتافيزيقا — لحظة — وتحدث في السياسة.
فهل يتساوى المجرم والسياسي؟
هدأت حدة انفعاله، واستنام إلى خدر لم يألفه من قبل.
دون أن يتنبه إلى اقتراب الخطوات، صر المفتاح في الباب، ورُفع المزلاج الحديدي ودارت البطارية في الزنزانة الصغيرة، تنشد العينين.
ماذا تقدر النظرات القاسية أن تفعل؟
التصورات في أقصى مداها: الصول سعيد الذي لم تنتهِ أحاديث النزلاء عنه. الجسد العملاق واللكمات والركلات والحقد والغضب والتحدي … ماذا يفعل لنفس اختارت الوقوف عند خط النهاية؟
– قم … تعالَ هنا.
اعتمد على يديه، وحاول أن ينهض. أرهقه التعب والجوع والعطش. أحس بما يشبه الرغبة في النوم، أو التهيؤ للإغماء. تمالك نفسه.
– ما اسمك؟
– بكر.
– ماذا؟
– بكر … رضوان.
– اذكر اسمك الجديد.
وهو يتقي بيديه الصفعات المفاجئة، المتوالية: هذا هو اسمي.
– نزلاء هذا المعتقل من النساء … فما اسمك؟
ندت آهة مكتومة بتأثير لكمة في البطن:
– م … ح … ع … عائشة … نعم … عائشة.
– في الداخل عائشة أخرى.
أسلم الجسد إلى الأرض بحركة مفاجئة من الرجل. أمسك بيده اليمنى، ولوى ذراعه، ثم لوى الذراع الأخرى خلفه. أصبح الرسغان بين لوحي الكتفين … ثم دفعه بركبته في ظهره.
في صوت كأنه رجع الصدى: ماذا تريد؟
– اسمًا آخر.
الآلام حادة وفظيعة، تنز من كل الجسد. أنفاسه تختنق، عيناه يغشاهما الظلام.
– أي شيء … أي شيء …
– ما رأيك في إيزابيللا؟ يليق بالعينين الخضراوين والشعر الأشقر الذي سيجز حالًا.
الضغط بأسنانه على شفتيه أدماهما تمامًا. امتلأ الفم بالدم، والصوت متقطع خافت لا يكاد يبين: كما تشاء!
رفعه الرجل من ساعديه. في سرعة غريبة. ربط اليدين وراء الظهر، والسلاسل المشدودة إلى الأرض لف بها الجسد، جذبها، أصبح الجسد معلقًا كذبيحة.
باعد الرجل ما بين قدميه، وهوى بالكرباج على الظهر العاري … صفَّر الكرباج في الهواء. غاصت القطع الحديدية المتصلة بسيوره في اللحم. تقاطر الدم القاني على الأرض الصلبة … والثياب الأنيقة تحولت إلى مزق ملطخة بالطين والتراب، والدم المتجمد غطَّى الوجه والعنق، والأنفاس انحشرت، فالتقطها — بصعوبة — من الفم المفتوح، والألم قاسٍ، واللحظات امتدت، دارت بها الدوامة المتصلة … الزنازين، العنابر، الأقفال، الأبواب الحديدية، القضبان، الجدران الرطبة، اللزجة، بوابة المعتقل من الداخل، والمكتب الصغير الذي دفن في أوراقه أحمد أفندي الباشكاتب رأسه.
ينطق كل وافد باسمه.
يقلب الرجل في الأوراق. يرفع رأسه إلى الواقف أمامه بنظرة عابرة. يسجل الاسم في الدفتر المفتوح أمامه. يسلمه قطعة نحاسية، تحمل الرقم المقابل لاسمه داخل الأسوار: هذه نمرتك.
الرسو على بر الاعتقال خاتمة لا بأس بها للزيارة الليلية، والطرقات الحادة، والتساؤلات الفزعة، والعربة الصغيرة، والتحقيق الطويل المتعسف، والليالي المتواصلة داخل سجن الاستئناف.
سلَّم كل واحد ما كان لديه من الممنوعات: الكتب والأوراق والأقلام والنقود وشفرات الحلاقة ومعاجين الأسنان والثياب المدنية. حتى الساعات خلعوها من أيديهم وسلموها إلى الباشكاتب، تسلم كل واحد من الشاويش عبد المعطي الدلوين العهدة، واحد لماء الشرب، والثاني لقضاء الحاجة.
تقابلت النظرات.
بعض النزلاء في لباس السجن الأزرق تناثروا هنا وهناك. تعلقت أنظارهم — في فضول — بالباب الحديدي الذي يفضي إلى العنابر المتصلة بعضها ببعض. كان أهم ما يشغل الأذهان، قبل أن يصلوا إلى الأسوار، هو الابتعاد عن النزلاء العاديين، والتجمع ما أمكن.
قال الشاويش عبد المعطي: هل نخلي للإيراد السياسي عنبرًا خاصًّا؟
قال المأمور: ما دامت الأوامر لم تأتِ بذلك … ضعهم في أي مكان.
تنحنح الشاويش بلا مبرر: ولكن هؤلاء أولاد ناس.
بان الغضب في عيني المأمور: أولاد ناس … أولاد كلب … من يأتي إلى هنا يعامل كمجرم.
وعلا صوته متحمسًا: عندما أوزعهم على العنابر … سأفسد أي محاولة لتكتلهم.
وقال الرجل وهو يضع تحديه في نظرة ثابتة، يطوف بها على نصف الدائرة أمامه: أنتم الآن هنا لا تزيدون على أرقام … العالم الخارجي فترة من حياتكم لن تعود … خير أن تسقطوها من الحساب تمامًا … ربما أنتقل — يومًا — إلى وظيفة أخرى … وربما يذهب الحرَّاس، ويفد حرَّاس آخرون … لكن المعتقل سيظل هو بيتكم الذي لا سبيل إلى مغادرته … إذا ما حاول أحدكم أن يرفع صوته … أو يرفض الأوامر الصادرة إليه … سيلقى النهاية تحت إحدى العربات. لأننا مطالبون بتوفير الذخيرة.
واستطرد من بين أسنانه: وستجد الكلاب طعامًا طيبًا في سفح الجبل.
بدد الصمت الخائف صوت سلامة القاضي: هل يحضر لنا أهلنا ما نحتاجه؟
– مثل؟
– طعام … أو ثياب داخلية.
– لن تموت من الجوع … ولن تحتاج إلى ثياب.
أضاف: كل ما هو مطلوب اسم الولي أو الوصي أو الشخص الذي يمكن الرجوع إليه في حالة تسليم النزيل، حيًّا أو ميتًا!
وقبل أن يحل المساء، زال ما كان بين الوافدين والمقيمين من وحشة: استئذان في جردل، دعوة للغداء، إيماءة بالرأس، عبارة ترحيب، نصيحة لأيام قادمة.
ثم علت الأحاديث والتعليقات.
حضرة صاحبة العفة والعصمة حرمنا المحترمة رعاها الله، آمين …
نخبركم بأن كريمتنا أم كلثوم أرسلت لنا جوابًا، وبتلاوته حصل لنا كدر شديد؛ إذ إنه عُلم لنا منه أنها تخلقت بأخلاق ذميمة، وتلك الأخلاق ليست من طباعها أصلًا، بل إنها اكتسبت ذلك من مخالطتها إلى حرم أخيها التي ابتلاها الله تعالى بها …
حضرة الست حرمنا أم عطية
بعد التحية والسلام …
«وقد كان أحمد بن طولون بمصر، بلغه في سنة نيف وستين ومائة، أن رجلًا بأعالي مصر من أرض الصعيد، له ثلاثون ومائة سنة، من الأقباط، ممن يشار إليه بالعلم من لدن حداثته، والنظر والإشراف على الآراء والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل الملل، وأنه علامة بمصر وأرضها، برها وبحرها وأخبار ملوكها. وأنه ممن سافر في الأرض، وتوسط الممالك، وشاهد الأمم من أنواع البيضان والسودان، وأنه ذو معرفة بهيئات الأفلاك والنجوم وأحكامها. وكان قد انفرد عن الناس في بنيان اتخذه، وسكن في أعلاه.»
الأسوار بقعة في جزيرة رملية، يحدها الأفق من كل الجوانب.
لا خطوط تليفون، ولا قضبان قطارات، ولا طرق رملية أو مرصوفة.
العربات المتجهة إلى الأسوار تقذف بنفسها في الرمال الممتدة. ربما صادفت حفرة عميقة، تسلم نفسها إليها بلا قصد. ينزل السائق، ليرفعها النزلاء — فيما بعد — بأكتافهم.
الأسوار — من بعيد — مدينة أسطورية. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجي. أبراج الحراسة في الأركان الأربعة، مجهزة بالأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة. الممنوعات — ما عدا التقاط الأنفاس — تشمل كل شيء. الأقلام والأوراق والصحف والراديو والرسائل والكتب والثياب الداخلية والأحذية والاختلاط والمناقشات والأحاديث العالية والهامسة والسجاير والكبريت والجبن والحلاوة والسكر والشاي والبن …
طابور العمل يعبر الأسوار كل صباح.
يقطع ثلاثة كيلومترات، قبل أن يصل إلى المزرعة في الجانب الشرقي من الجبل. الأرض رملية، منبسطة، يحدها الأفق من كل الجهات، ليس ثمة حجر قائم خارج الأسوار — إلا جدار قديم مهجور، وذلك البيت الصغير: سقف مصنوع من عيدان الجريد المرصوصة، مغطاة بالطين الممزوج بالتبن، وكوة ضيقة تطل على الصحراء الواسعة.
الرجل يصادق الجبل والنهر والليل البارد والشمس الحارقة والحشرات والضباع والوحشة. لحيته طويلة، وشعره مهمل، ويبدو أكبر من عمره الحقيقي بسنوات.
يتودد إليه الحارس: خذ سيجارة.
– إني صائم.
– هل أنت ولي؟
يجيب ضاحكًا: لست وليًّا!
– لكنك رجل طيب.
– عزلتي تفرض عليَّ أن أنشد صداقة الناس.
– فمن أنت؟
– إني مزارع … أمتلك فدانين وثلاثة قراريط … أحيا على ما تعطيه طول السنة.
– وما يجذبك إلى هذه البقعة المنعزلة؟
– أليست كلها أرض الله؟!
يتشاغل بالتحديق في السماء، وتنفرج الشفتان عن أدعية هامسة. ربما الحارس يكف عن السؤال.
… فقال طومانباي: لست بملوم، يا سلطان الروم، فالذنب، كل الذنب على الخونة.
قال وهيب تادرس: يا أستاذ … أنت تمثل صوتًا واحدًا … ونحن نريد الخروج من المأزق فلماذا لا تعطينا الفرصة؟
– ولماذا قبلنا القرعة من البداية؟
تساءل أحمد حسنين: هل كنَّا نرى الغيب؟
أضاف علي الشامي: وهل كنَّا نتوقع الخيانة؟
قال أنور عبد الحفيظ متسائلًا: الجزاء لا بد أن يكون مقابلًا لجريمة … فما جريمتك؟
«ولما أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة، سأل الموكل به عن ذنبه، وجرمه الموجب لحبسه فقال له: لم يكن إلا الحذر من إثارتك الفتن في البلد، وإهاجة العامة لبغضك الفرنسيس لما سبق لك منهم من إيذاء.»
– كيف حالك؟
– الحمد لله.
الجو حار بعض الشيء … أليس كذلك؟
– نعم.
– أنت متعب … أليس كذلك؟
– نعم.
– هل تريد أن تشرب أو تأكل شيئًا؟
– لا.
فاجأه بالسؤال: أين زملاؤك؟
وهو يحاول التماسك: تركتهم في المصلحة.
– نكتة لا بأس بها … لكن ما نريده هو زملاء التنظيم!
صورة زملاء المصلحة هي تجسيد السؤال منذ اللحظة الأولى مفاجأة التعري في الطريق لم تغير شيئًا على الإطلاق. ذلك كان الواقع وربما الخيال. الكلمات الطيبة — وحدها — إطار اللحظة الواحدة، المتصلة.
أتاح لعينيه — بالزوال التدريجي لصدمة المفاجأة — أن تطوفا بالباب المغلق، والسقف ذي اللمبة المضاءة نهارًا والجدران، والحائط الأصم المقابل عبر النافذة، والوجوه الجادة التي تكتم انفعالات الأعماق.
قرر أن يصنع الصراط الذي يغادر من فوقه المأزق الغريب. وضع بقية تماسكه تعبيرًا في حركة اليدين: ما هي المؤامرة؟
– أي مؤامرة؟
– التي تتهمني بالإعداد لها.
– ليس اتهامًا … إنه حقيقة مؤكدة.
– فهل تأذن لي أن أدافع عن نفسي.
لست هنا للترافع … ولن يفيد الإنكار.
– ألا أعلم تهمتي؟
وهو يقذف ببقايا السيجارة — من بعد — إلى المجهول تحت النافذة: أنت تعلمها تمامًا … ويبقى أن نعلمها نحن.
– صدقني … لا أفهم أي شيء.
– سنحاول أن نفهم معًا … أين زملاء التنظيم؟
– أي تنظيم؟
– تعودت ألا أنتزع الكلمات.
– البديهي أن تكون هناك كلمات أصلًا.
– أنت تعاني من مأزق حقيقي … فلا تثِرْني بمحاولتك التفلسف.
– لكنك تحدثني عن أشياء لا أعرفها.
– تصر على الفلسفة الكاذبة.
– ماذا تريد مني؟
قال، وهو يشير براحة يمناه إلى باب الغرفة: لا أريد شيئًا … ربما تشعر بطبيعة المأزق في مكان آخر.
•••
بدد الصمت، الذي ساد — للحظات — صوت خليل عبد النبي، المنفعل: قبلنا القرعة بشرف … لكنهم لجئوا إلى الخداع … والخداع تهمتي التي أحيا بها داخل الأسوار … لهذا فلن أسكت … أنت تقبل الموت … لكنني أرفض الخيانة … ولن أسكت.
قال في هدوء: إذا أبلغت المأمور … قتلت نفسي!
فقد أعصابه: مجنون!
– ربما … لكن الوشاية لن تكون مقابلًا للخيانة.
وعلا صوته: وهل تظن أن الغزالي سيقبل الهزيمة؟
•••
في ذات صباح، تناول مفتاحًا، ومضى إلى «بين الصورين».
فتح دكانًا صغيرًا، وأخرج أجولة العطارة، ورصها على واجهة الدكان.
كان أحب إليه لو ظل في قريته، لا يغادرها.
الصخرة الصغيرة — قبالة الجرن — والدنيا غروب. القرية عائدة بناسها وبهائمها. بينه وبين أغلبهم مداعبة وهزار. الأولاد والبنات: سليمان وصفية وبيومي وعبد الرحمن وحسن الصغير. عنكب يا عنكب، كرة الشراب، الطابة، الغطس في الترعة، جني القطن، ليالي الحصاد.
– أيام أدفع العمر ثمنًا لعودتها، وإن كان العمر — الآن — مسئولية الإدارة.
كان عبد النبي أفندي يعمل صرافًا لضيعة الباشا، سيد القرية. يسافر أول كل شهر إلى القاهرة، حاملًا حقيبته الجلدية الصفراء، بها نقود كثيرة، يصحو لها طول الليل. يعود من القاهرة. يبدأ في رواية كل ما صادفه في القاهرة من أشياء وناس: ليالي الذكر في شارع السد، لوكاندة الهلال الذهبي التي لم يغير غرفته ولا فراشه فيها منذ عشرين عامًا، وإن شاركه في سرير الغرفة الآخر نزلاء، بعضهم ألف رؤيته، والبعض الآخر غيبه صباح الليلة الأولى، الحاج أدهم الذي هجر الفلاحة، والقرية، وافتتح دكانًا للطرابيش في ناصية الغورية، النظرة اللئيمة التي يطالع بها حسنين أفندي باشكاتب الدائرة مصاريف مراسلاته، فنجان القهوة المضبوط في سراي الباشا كأنه التوأم لفنجان السيد الكبير، البيوت التي يدور لارتفاعها الرأس والشارع، والتراموايات، والأوتوبيسات، وعربات الحانطور، وعربات الكارو، وعربات الرش، والزحام الذي يكتم النفَس، وسبع قصر النيل، وإبراهيم باشا أبو إصبع، والسيدة زينب، والإمام الحسين، والأزبكية، والقهاوي، والراديوهات، والسينمات، ونور الكهرباء، والنور الملون، والميكروفونات التي يتعالى منها أذان الصلوات الخمس، والمتصوفة، والذين بلا دين، والبنات الألافرنكا، والسيقان العارية، والصدور المكشوفة، والباعة السريحة، وكناسي الشوارع … المشاهد التي طالما ملأت خياله.
بذل عبد النبي أفندي المستحيل، حتى وصل خليل، دون شباب القرية، إلى إتمام القرآن كله.
قصد إلى الباشا، أفاض في وصف الحال: خليل صبي على ست بنات. لو يساعده الباشا لإيجاد عمل في القاهرة … وأعطى الباشا عبد النبي أفندي خطابًا صغيرًا، وثلاثة جنيهات.
تعلو الضحكات المنفعلة: حتى أنفذ نصيحة عبد النبي أفندي، أخفيتها في جسدي.
…
– في الليلة الأولى التي تمددت فيها على حصيرة غرفة الطحن — وحياة ليل القاهرة تصل إلى عبر النافذة الحديدية الضيقة — قررت أن أنقش في وجهي البسمة — أو الضحكة — اللامبالية.
…
– تعلمت فن البيع … أن ألجأ إلى كل ما أوتيت من شطارة في تزويق البضاعة للمشتري.
…
– يومًا، طلب أحد الزبائن مقدارًا من البخور المحوج: مزيج من العود واللبان والجاوي والمستكة وعين العفريت ورائحة الفانيليا … بدأت أعد للرجل طلبه … شاهدني صاحب المحل، وأنا أرش قطرات من رائحة الفانيليا … مد أصابعه في كوب ماء … ورش ما علق بها على البخور … قال وكأنه يتهمني بالغباء: أي فارق — والبخور هكذا — بين الماء ورائحة الفانيليا؟
…
– هزني ذلك في أول الأمر … ثم اعتدت على كل شيء وبدأت أضيف إلى الخداع فنونًا جديدة … قضايا التموين وحدها بلغت رقمًا هائلًا … فلم أعد أذكرها!
«إن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.»
الخيال يرفض التصور أن الأستاذ يواجه بالكلمة القاسية من أقرب الأصدقاء، والصمت الزافر مرآة الهم الذي ملأ النفوس.
أدرك خليل عبد النبي قسوة الكلمة بعد أن ران الصمت.
لم يبدُ على الأستاذ أنه تضايق، وواصل الحديث … لكن الأعين المشفقة اجتاحت خليل عبد النبي بنظرات غاضبة.
الكلمات الطيبة التي أنهت سني المهانة والقسوة.
الجسد الذي تحمَّل العذاب، دون أن تهده الوشاية.
الرفض والثورة والمحبة والأمل.
لماذا يا خليل؟
قال توفيق عزوز: اعذره يا أستاذ … فالحيرة تقتلنا.
افتر الفم الرقيق عن ابتسامة هادئة: الأب يتحمل رعونة أبنائه.
قال سلامة القاضي: الوقت يسرقنا … ولا بد من حل.
قال وهيب تادرس في نفاد صبر: الأستاذ رفض كل الحلول … فهل يشير علينا بما يراه؟
قال: رفْض القرعة خطأ.
– والخيانة؟
– التعلل بالخيانة خطأ.
قال توفيق عزوز: إذن، نبلغ الإدارة.
– ذلك خطأ أيضًا.
قال بكر رضوان: بماذا تشير إذن؟
– فلنترك للظروف تدبير كل شيء.
قال أمين سالم: هل ننتظر حتى يأخذوك من بيننا؟
ضرب بيومي الدكر الهواء بقبضة يده.
– ومن يتركهم يفعلون ذلك؟
– تأكد يا صديقي أن القرعة ستظل مشروعًا يصعب تنفيذه ما دمتم معي.
– تعني يا أستاذ …
قاطعه في هدوء حاسم: ألم يكن الصبر وسيلتنا لمواجهة المشكلات السابقة؟
«هنا تبدأ أقوال الحكمة التي فاه بها الأمير الأب المقدس، حبيب الإله، ابن الملك الحق، حاكم المدينة، الوزير بتاح حتب، ساقها لتثقيف الجاهل، وليفقه في فنون الحكمة والقول الحسن، فلتكن مجدًا وفخارًا لمن يعمل بها، وعارًا وشنارًا لمن يغفلها.»
قبل أن تنقضي على نزوله في المعتقل أسابيع، بدأت السلطات النفسية لفتوات العنابر تذوب وتنتهي.
حل محلها حب دافق، ومودة بينه وبين الزملاء، الذين أسرهم فيه ذلك الشيء، يبدو في عمق نظرات عينيه، أقرب إلى القوة الغريبة الغامضة المسيطرة.
قنعوا بالحياة في ظل السمعة الهائلة في دنيا الجريمة. صحائف السوابق التي تزخر بكل خارق وعجيب، تعفي من التدليل على قوة البطش.
وأحبوا الأستاذ.
وجدوا في أحاديثه متعة حقيقية. مجاهد الغزالي هو وحده من بين الفتوات الثلاثة عشر الذي أصر على أن تبقى سلطته. لم يرقه أن الأستاذ يخدع النزلاء بتظاهره أنه يستطيع أن يجري معجزات وغرائب، فالأمر لا يعدو حيل الدروشة والدجل والخداع البصري والألاعيب السحرية.
أصبح من الصعب على النزلاء أن يتذكروا وقتًا لم يكن فيه الأستاذ يحيا بينهم. أحبه الجميع: الوفدي، والسعدي، والإخواني، والشيوعي، والنشال، والقواد، وطالب الثأر، والقاتل، وبائع المخدرات.
ثاني يوم عاشه النزلاء السياسيون داخل الأسوار، دعاه شاكر الملواني إلى الغداء.
لبي الدعوة ببساطة.
علم «السياسيون» بما حدث، ورفضوا التصديق.
أحنقهم عليه أنه لا يفرق بين الذين ألقت المصادفة القاسية بهم داخل الأسوار، وبين من تعد إقامتهم لقاء جرائم وتشوهات.
ولما غادر المأمور مكتبه — عصر اليوم الثالث — فوجئ بالصمت يرين على بعض النزلاء، جلسوا في الساحة على هيئة دائرة، انضم إليهم ثلاثة حراس.
قال في سخرية قاتلة: هل هذه عظة الجبل؟!
أضاف: في مستشفى الأمراض العقلية أكثر من ٣٠ نبيًّا!
وثبت على الأستاذ نظرة مستنكرة: يبدو أن ترحيب الصول سعيد بك لم يكن كما يجب.
وأشار إلى الحرَّاس.
دفعوا النزلاء داخل العنابر، وأُغلقت.
ولكن النسمة الهادئة ظلت تنتقل بين العنابر، تناقش وتجادل وتبدي المشورة، وربما ساعدت في عمل ما.
…
بدد الهدوء الذي يلف المكتبة — بعد أن أصبحت الممنوعات ماضيا مندثرًا — صوت مجاهد الغزالي: أنت هنا؟
الحيوان البري لا يزال يرفض كل محاولة لترويضه.
قال وهو يواصل القراءة: نعم.
كنت أبحث عنك.
– لماذا؟
– أريد أن أتحدث إليك.
– بعد أقل من ساعة يحل الغروب … فهل تنتظر؟
– الآن … من فضلك.
– ألا تنتظر حتى أنتهي من هذه الصفحات؟
– قلت: الآن!
– هل الأمر بهذه الخطورة؟
– أعتقد.
طوى صفحات الكتاب:
– ماذا عندك؟
– إنه … إنه سؤال.
– تعطلني عن القراءة من أجل سؤال؟
– هذا السؤال هو الذي سيحدد طبيعة علاقتنا … أعني أنه سيلزم كل منا حدوده.
– يلزم كل منا حدوده؟
– نعم.
– لكن صداقتنا أبسط من هذا التعقيد.
– ليس بيننا صداقة بسيطة أو مركبة.
– إذن … اسأل.
– هل أنت واحد منا؟
– لا أفهم … ماذا تعني؟
– هل لك عينان مثلنا وأذنان ويدان وقدمان؟
– أتشك في هذا؟
– فلماذا تفرض علينا زعامتك؟!
– أنا؟!
– نعم … منذ جئت إلى المعتقل وأنت لا تكف عن إصدار الأوامر.
– أي أوامر يا صديقي … هل ألزمتك بعمل شيء؟
– المصيبة أني لا أجد في هذه اﻟ … الأوامر … ما أرفضه.
– يبدو أنك متعب … هل آتيك بكوب ماء؟
– كل ما أريده منك أن تبعد عن طريقي تمامًا … إذا خاطبني لسانك القذر مرة ثانية … قطعته.
في هدوء، واجهه بالسؤال: ماذا تفعل إذا لم يكن جارك يروق لك؟
– أضربه!
– إنه لن يقف مكتوف اليدين … وربما كان أشد منك قوة.
– ماذا تعني أيها الثعلب؟
– سواء كان جارك يعجبك أم لا … فليس هناك سوى حل واحد … إيجاد وسيلة للتفاهم معه.
– ذلك ما تريده أنت … لأن أحلام الزعامة تسيطر عليك.
فقد — لأول مرة — أعصابه: من أنت حتى أطمع بالزعامة عليك … على ماذا تحيط أسوار هذا المعتقل؟!
التفَّت يدا بيومي الدكر — الذي كان ينشد الأستاذ بدءًا لجلسة المساء — حول ساعدي الغزالي. ضغط بقوة، حتى تهاوي الكرسي المرفوع من بين يديه.
صرخ الرجل.
قال الدكر — ساخطًا — وهو يتبع الأستاذ: فلننتهِ من حرب الإدارة أولًا.
«وصاحوا: لقد آن أوان القيام، على هؤلاء اللئام، فهذا وقت الانتصار للإسلام.»
بدأت الإشاعة من حيث لا يدري أحد، ولكنها انتشرت بسرعة غريبة داخل الأسوار.
فضل إحسان المراغي أن يموت وهو يجري، بدلًا من أن يسلم نفسه إلى الموت البطيء.
أرداه رصاص الحرَّاس، بعد أن غادر الأسوار، واتجه إلى الجبل.
هدم الحراس بيت الشيخ يحيى، ولم يعد يدري أحد عن مصير الشيخ شيئًا. وجوه الحراس جامدة لا تبين عن شيء.
هل الحياة والموت أحداث بلا معنى؟!
نادي الشاويش عبد المعطي على أفراد العمل في مزرعة الجبل، وانتظر.
لم يغادر الأفراد أماكنهم. دوت في العنابر — بلا مقدمات — مئات الحناجر الصاخبة، تغني وتهتف وتصرخ، ويختلط صداها بأقدام الجنود التي تعدو في غير اتجاه. اجتاحت العنابر موجات كاسحة من الصراخ والأنين والصفير والبكاء. أودع الجميع في حناجرهم سني القسوة والعذاب والملل. لم تعد إلا أفواه فتحت عن آخرها وانطلقت منها أصوات صاخبة، مفزعة، متشنجة … ما لبثت أن تبلورت في صيحة واحدة: الإفراج … الإفراج.
ظهر المأمور على باب عنبر واحد، رفع يديه إلى أعلى، ضرب الأرض بقدميه، حاول أن يصل إلى أسماعهم بأعلى مدى صوته.
ظلت الهتافات على حالها، كأنها تصدر عن فم أسطوري يوشك أن يبتلع المأمور والحراس والعنابر والأسوار. لم يعودوا رجالًا، فالأعين ملتمعة ببريق وحشي، والأيدي تكورت كأنها تحيط بعنقه، كأنها تخنقه، والأصوات مساحات عريضة من الهتاف والزعيق والأنين والبكاء والصراخ. حيوان هائل، حجمه بحجم عشرات الأجساد المتلاصقة. ضاعت الملامح والتفاصيل والأسماء. لم يعد إلا الحيوان المنتفض الغاضب المجنون.
أشار إلى الجنود …
حاولوا كم الأفواه القريبة … لكن الصراخ علا واشتد، بدا كأن سيتواصل ويمتد إلى غير نهاية.
امتدت يده إلى جيب السترة، وأخرج مسدسه. أطلق عيارًا في سقف العنبر.
تعثرت الصيحات الوحشية في الأفواه.
وجد الحراس الشجاعة لأن يقتربوا من الأجساد التي أنهكها الصراخ.
تعالت همهمات ضئيلة خافتة، ثم ساد الهدوء تمامًا. هدوء سادر، زافر، غريب، تخدشه الأنفاس.
تعالى صوت المأمور: التعليمات تقضي بأن أطلق الرصاص على الفور … وإذا تكرر ما رأيت فلن أتوانى في تنفيذ التعليمات.
ثم وهو يهز رأسه متحديًا: لن تفتح العنابر أسبوعًا كاملًا.
قال للشاويش عبد المعطي: تسلم العنبر.
أشار إلى الحراس، وهو يخطو تجاه الباب.
انسحب الجنود وراءه، وأغلقوا باب العنبر.
«وأحسست بعرق وغثيان، وسرت منكس الرأس ذليلًا كاسفًا … لماذا تجري كل هذه الجموع أمام عدة أفراد؟ واكتشفت فجأة الحقيقة البسيطة: إن اللحم لا يواجه الرصاص، إن مترليوزًا واحدًا يوضع على رأس أحد الشوارع كفيل بإيقاف أي مظاهرة.»
«الناس بتقول إنك قتلت أمين عثمان لعلاقته بإحدى قريباتك.»
بدفعة خفيفة من يدي الشاويش عبد المعطي، وجد نفسه داخل الغرفة الواسعة.
رفع المأمور رأسه من الجريدة، واتجه إليه بنظرة هادئة.
ظل في وقفته، والصمت مقبض، يعمقه أزيز المروحة التي دارت بالعشرات، وهم معلقون من أقدامهم فيها … هل جاء الدور عليك؟
لكن ذلك ماضٍ مندثر.
الاستجوابات مكانها زنزانة التعذيب. يقف أمام الصول سعيد كل من يفكر أن يرفع صوته، أو يهمس بالاحتجاج، وإن كانت الأخبار المؤكدة تتحدث عن الملفات التي تسجل الحركات والإيماءات والأقوال، مهما كانت تافهة.
– كيف حالك يا حلمي عزت؟
– الحمد لله.
– لماذا لا تجلس.
مال بأصابعه إلى الأرض يهم بالتربع.
هتف الرجل في استنكار: لا … تفضل هنا.
الصول سعيد يضعك في الأتون بنظراته القاسية … لكن نظرات الرجل حانية وادعة … هل سيبلغك نبأ الإفراج؟
دفع إليه بعلبة السجائر: تفضل!
ربما جاء الإفراج بتوصية هامة: إني لا أدخن!
– عظيم.
ثم، وهو يميل عليه بوجهه: أريد أن تسدي لي خدمة هامة.
الصول سعيد لا يدعوك إلى الجلوس، ولا يهديك سيجارة … فهل يعطيك المأمور الفرصة للصمت؟
– من الذي تزعم حادثة الصراخ؟
– أنت إذن تعلم بارتدائي الثياب في مستعمرة العراة … فهل تعلم أن الموت هو المصير الذي أواجهه، لو نطقت بكلمة واحدة؟
– كل ما أريده منك أن تخبرني بالاسم ثم تنصرف على الفور. وسأوصي بزيادة تعيينك.
هل سيتركني بيومي الدكر لو أخبرتك بالاسم؟ … وهل أقدر على مواجهة نظرات الآخرين؟
– ربما لديك سبب يمنعك من ذكر الاسم … لكن تأكد أن ما بيننا لن يعرفه ثالث.
الجزيرة بقعة في محيط العداوة … فهل الذنب ذنبي؟
– أنت تضطرني إلى ذكر السبب.
تريد أن تصور لي الأمر، كأن السبب حقيقة!
– الحراس يشاهدون طوال الليل ما يخجلني ذكره … أليس ذلك هو السبب؟!
هتف بلا وعي: أنت كاذب!
وهو ينفض دخان سيجارته: إذا لم تذكر الاسم … فإن أفعالك المشينة ستكون محور أحاديث العنابر غدًا.
غاص في المقعد الوثير، ونطق بالاسم.
ما كنت تقصد هذا.
ما كنتَ تتصوَّر أن الأمر سيصل إلى هذا الحد … الجريمةُ أبعدُ من أن تَطوف بخاطرك، والقوَّة هي أسلوب التعامُل الوحيد، وأرض الخوف تُثمر — حين تثمر — ذلًّا ومَهانة، ولا صوتَ لك. الشجيرات الصغيرة التي تتناثر في ساحة المعتقَل لا يَعبأ أحدٌ بتبيُّن تفاصيلها، وربما كانت نظرات الإشفاق — أو الازدراء — هي كلُّ ما يدلُّ عليه وجودُك في أعيُن الآخَرين. مجرد وجودك داخل الأسوار يشعر الجميع بالحزن، وربما المهانة. من الظلم — في رأيهم — أن تكون النظرة إليهم وإليك متساوية، وإن لم يقف ذلك حائلًا دون تحميلك أعباء العمل أكثر مما يجب أن تتحمله. محبة الأستاذ هي الضمان الوحيد حتى لا تفقد ذاتك تمامًا. عادة ألفتها، وصارت جزءًا من حياتك: ركوب سيارة على ناصية الطريق وصحبة فتاة تشاركك العز الطارئ. تترك السيارة ذات صباح، ينقصها الراديو تأخذ الإطار من سيارة اليوم التالي … وتتكرر السرقات، فتحاكم بثلاث وعشرين حادثة. أصبحت مجرمًا خطيرًا يضيق بك السجن، والمعتقل هو مجال تطهيرك الوحيد.
«كلا، لم تأخذه سنة ولا نوم، سيأتي من الجنوب، اسمه أميني، أبوه من الصعيد، وأمه من النوبة، وسيضع على رأسه التاج الأبيض، ثم يضع على رأسه التاج الأحمر، ليوحد الإقليمين، وينشر السلام في ربوع الوجهين، وسيفرح به أهل زمانه، وسيخلد اسمه في العالمين … فليفرح كل من قُدر له أن يشهد ذلك الزمان.»
صحت العنابر على نفير البروجي.
تقاطر النزلاء من العنابر إلى الساحة الواسعة.
كانت الشمس ترسل خيوطها الأولى، والظلمة تلف الأفق المحيط والساحة والأبنية، والرجال يبدون كأشباح.
نادى المأمور على اسم الأستاذ.
علا الهمس، وسرت الهمهمات، وتناثرت التعليقات، قلقة، متوترة، خائفة.
لم تكد الحبة تنفرط من العقد الكبير، حتى أحاط الحراس بالأستاذ من كل جانب، واقتادوه إلى منتصف الساحة.
– أين زملاؤك؟
•••
– أين زملاؤك؟
– تركتهم في المصلحة.
– نكتة لا بأس بها … لكن ما نريده هو زملاء التنظيم!
– ما هي المؤامرة؟
– أي مؤامرة؟
– التي تتهمني بالإعداد لها.
– ليس اتهامًا … إنه حقيقة مؤكدة.
– فهل تأذن لي أن أدافع عن نفسي.
– لست هنا للترافع، ولن يفيد الإنكار.
– ألا أعلم تهمتي؟
– أنت تعلمها تمامًا … ويبقى أن نعلمها نحن.
– صدقني … لا أفهم أي شيء.
سنحاول أن نفهم معًا … أين زملاء التنظيم؟
– أي تنظيم؟
– تعودت ألا أنتزع الكلمات.
– البديهي أن تكون هناك كلمات أصلًا.
– أنت تعاني من مأزق حقيقي … فلا تثِرْني بمحاولتك التفلسف.
– لكنك تحدثني عن أشياء لا أعرفها.
– تصر على الفلسفة الكاذبة.
– ماذا تريد مني؟
– لا أريد شيئًا … ربما تشعر بطبيعة المأزق في مكان آخر.
•••
أعاد المأمور سؤاله: أين زملاؤك؟
رنا إلى العينين الناريتين، ولم ينطق بشيء.
– من الذي دبر معك حادثة الصراخ؟
تساءل في استغراب: حادثة الصراخ؟!
– حرضت النزلاء على التمرد بعد أن فشل المراغي في الهروب.
– من الذي قال؟
– أينا يسأل الآخر؟!
– لم أحرض أحدًا على شيء.
– لا أسألك عن تهمتك، فهي ثابتة … أسألك عن زملائك.
دون أن يزايله الهدوء: لا أعلم شيئًا عن أي شيء!
أشار المأمور إلى الحرَّاس.
علت الكرابيج والسيور الجلدية وكعوب البنادق والعصي. لو ظل في مكانه فستنهال الضربات عليه بلا هوادة، ولو أنه حاول التحرك، فالضربات لا بد تلاحقه … راح يلف ويدور حول نفسه، يتقي بيديه الضربات أن تصيب وجهه.
ولم يدرِ أحد، كيف ولا أين بدأت الفوضى تكسر الطوق البشري فجأة ليتوزع بلا رابط في الساحة الواسعة.
اختلط الصراخ والبنادق والشتائم والكرابيج والسيور الجلدية ونفير البروجي وطلقات الرصاص. تحول الوجود كله إلى معركة ضاربة بين النزلاء والحرَّاس، وامتد الزئير الوحشي إلى ما بعد الصحراء والأودية والجبال: الإفراج … الإفراج.
«وذُبح الموظفون، وسُلبت دفاترهم، ولم تعد لكلمتهم قوة.»
«وإنكم ترسلون لنا أعظم ما يكون عندكم من البنب والمدافع والبارود.»
إشارة تلغرافية
المعتقل في إضراب منذ ثلاثة أيام. ننتظر التعليمات.
«لا تزال المدينة مضطربة، ووردت الأنباء طول النهار بقيام مظاهرات متفرقة مصحوبة بالتخريب، وأُلحق ضرر بخط حلوان الحديدي في أثناء الليل، وخرج قطار عن القضبان صباح اليوم، ولم يصب أحد بسوء، وأُحبطت محاولات أريد بها إشعال النار في مصانع بولاق ومخازن وزارة المعارف صباح اليوم. لم يكن حضور موظفي الحكومة في الوزارات مرضيًا، وكانت وزارتا المالية والداخلية عاديتين، ووزارتا المعارف والأشغال سيئتي الحال، والوزارات الباقية متوسطة، وتُبذل الجهود لإرهاب الموظفين، والمدارس على العموم مضربة.»
«ويُعتق أولئك الذين، خوفًا من الموت، كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية.»
«أرسلتك لتجز صوف الشاة، لا لسلخها.»
«أفتى فقهاء ذلك العصر ببطلان الحبس.»
«وبطلت الحرب، وخمدت النار.»
«وعند ذلك كثر الخبز واللحم والسمن والسيرج بالأسواق، وكذلك الغلال، وانحلت الأسعار، وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبرقوق والبطيخ، وكذلك وجود الياميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي.»
لم يعد العنف يبسط ظله القاتل على كل شيء.
أُبيح التدخين، وشرب الشاي والقهوة، وبدأت الضحكات تنطلق في العنابر، دون أن تخشى صيحات الزجر، وأسلم علي الشامي نفسه — باستحلاب فص الأفيون في شمس الشتاء، أو تحت سقف الكانتين، الذي يقي الرأس شمس الصيف المحرقة — لعالم غير مرئي يشغي بالحور العين اللاتي يكافأ بهن المؤمن على صبره في عالم الدنيا.
والساعات الطوال تنقضي وهم يستمعون إلى أحاديث الأستاذ، حتى مطلع الفجر أحيانًا، وربما تناولت الأحاديث أمورًا سياسية. ودعا المأمور وهيب تادرس طالب الطب، إلى علاج أولاده. ولم يعد غياب أحد من النزلاء عن تمام العنبر يعني شيئًا، أو يدعو للتساؤل.
وطغى النقاش على كل ما عداه.
انطلق من الصدور ما كان مكبوتًا. حتى الذين لم تعلُ أصواتهم من قبل عن الهمس، راحوا يجادلون ويناقشون ويصيحون ويهتفون ويسخرون ويعبرون عن كل ما في النفوس.
– الصول سعيد بقامته الهائلة، وشاربه الذي غابت فيه الشفتان، يشير إلى أعلى الزنزانة، ويقول: أترى تلك الذبابة؟
– أي ذبابة؟
– التي تحوم في سقف الزنزانة.
– لا أرى شيئًا.
– مهمتي أن أجعلك تراها!
وأطلق خليل عبد النبي ضحكته المنفعلة: قبل ساعة واحدة … كنت قد رأيت الذبابة وهي تحوم في سقف الزنزانة، وكان الرجل قد أدى مهمته!
أضاف أنور عبد الحفيظ: أما أنا، فقد وضع الرجل أمامي ذبابتين دفعة واحدة … لكنه أصر على السؤال، أيها الذكر، وأيها الأنثى؟!
عاود خليل عبد النبي ضحكته المنفعلة: طبعًا … قلت إنك أنت الأنثى!
وطاف أمين سالم على الجميع بنظرة متسائلة، وقال: هل أتاكم حديث الجدار والمأمور والصول سعيد؟
وأضاف، دون أن يعبأ بالنظرات الداهشة: الجدار خارج المعتقل … قديم … ربما بناه إنسان العصر الحجري.
سأل المأمور عن تاريخه … دونًا عن الجميع، قال الصول سعيد: أكثر من ألفي سنة … سأله المأمور: كيف عرفت؟ أجاب مؤكدًا: اعترف!
وتعالت الضحكات في العنابر، لرواية نزيل في عنبر ثلاثة، عن بواعث اعتقاله اسمه محمد حسن، قبضت المباحث العامة على أربعة يحملون الاسم نفسه بين الآلاف من العاملين في الشركة. اعترف الثلاثة بما أُملي عليهم. ولأنه رفض الاعتراف بما لم يفعله، فقد واجه مصير المجرم الحقيقي.
حتى كلمات الأستاذ الطيبة، وجدت من يناقش جدواها: آيات القرآن والأحاديث النبوية وحكايات الصحابة والأولياء والقديسين، حلم يقظة يفجؤه واقع الأسوار.
قال سلامة القاضي بلهجة متحمسة: الدين أفيون الشعوب!
أضاف علي الشامي وهو يقذف بعقب السيجارة «المحشية»: المخدرات دين أيامنا القادمة!
قال الشاويش عبد المعطي في بساطته الطيبة: كلمات الأستاذ ذات تأثير يفوق أي مخدر!
وكلمات «الإفراج» التي لم تكن تتعدى جدران العنابر في همس متردد، تكاد تكون سرًّا يحرص الجميع عليه، أصبحت نبض النقاش المستفيض … وطاف أحمد حسنين برسالة «مزغونة» على العنابر: الفلوس لم تتبدد، وسأشتري الأرض بعد الإفراج، لأحقق حلم العمر!
•••
لهذا وضعت القرش على القرش. رفضت الزواج، عافرت، اكتفيت — في كل يوم — بوجبة واحدة. طقت في دماغي الفكرة: لماذا لا أمتلك أرضًا؟ ستكون الفرش والغطاء والاستقرار. النملة تكوم الحبات الضئيلة رزق كل يوم. العصفور يبني العش بالقشات التي يحملها منقاره … هكذا كانت قروش الإهانة. قربت المسافة إلى الحلم. أحببت صفية. جذبتني ابتسامتها الطيبة، قلبها الودود الصريح. قعدت على نعمتي. وضعت النقود التي ادخرتها ثلاث سنين في جيب الصديري لمدة أسبوع كامل. الطريق إلى بيت عم سليمان البدوي — والدها — تحدها الغيطان الممتدة، الخطوات الفرحانة تتردد، تتعثر، تعود إلى غرزة عبد البديع. النفس تنشغل عن كل إنسان، وكل ما حولها … تحلم بالأرض.
لم يكن شعورًا تصفه الكلمات عندما أصبح المجموع مائة جنيه عانقت نفسي من الفرحة. طرت طيرانًا إلى الشيخ عباس العمدة. بضعة قراريط لا تزيد والدفع حالًا.
التهمة — في غبشة الظلام — قتلتني. تعدد حوادث السطو، والمائة جنيه أصبحت تهمة.
لكن الرجل الطيب متولي أبو غريب خبأها لي، ولا يزال.
إلى حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية …
بعد تقديم وافر التحية والاحترام
لقد أقرت دولتنا الرشيدة، وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي خطوة طيبة، تثلج صدور كل المؤمنين بحق الإنسان في حياة خالية من العقد والعسف والخوف.
ولسنا هنا في سبيل دعوتكم إلى العمل بما تتضمنه تلك الوثيقة الغالية، فنحن على ثقة من أنكم أحرص منا على تطبيقها، والعمل بمبادئها … فعهدكم هو عهد الحرية الزاهر الميمون، وما يحدث فيه — أحيانًا — من تجاوزات، إنما هو — بالقطع — تصرفات فردية، لأناس غير مسئولين … ولكن قد يكون مهمًّا أن نتشارك في قراءة بعض مواد الوثيقة التي نعلم — يقينًا — أنها — بالنسبة إليكم هدًى، ونبراس حياة.
إن المادة الأولى من هذه الوثيقة الغالية، تؤكد — كما تعلمون — على أنه يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلًا وضميرًا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء.
أما المادة الثانية، فهي تنص على أنه، لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد، أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء.
…
إننا على ثقة من أن توقيع الحكومة الرشيدة على هذه الوثيقة الهامة، هو تعبير عن رغبتها الأكيدة في أن تكون الضمانات الأساسية لكل مواطن هي الركيزة التي تقوم عليها خطواتها الحالية، والمستقبلة.
ولقد وجدنا في هذه المناسبة العظيمة، فرصة لمناقشة أوضاعنا في المعتقل، وهي أوضاع متردية، يصعب أن يحياها بشر!
وعلى الرغم من أنه قد سبق لنا رفع مذكرات إلى مقام معاليكم وإيفادكم ممثلين عنكم لدراسة أوضاعنا على الطبيعة، ووعدكم — المتكرر — بأن تشرفوا المكان بزيارة شخصية … فإن الأوضاع ظلت — وما تزال — على حالها … ومع ذلك، فلقد فضلنا ضبط النفس، وتحاشي الصدام مع إدارة المعتقل، وإن بدا أنها هي التي تسعى لذلك.
يا معالي الوزير …
-
لأن غالبيتنا من الشباب الذي سيغادر المعتقل — ذات يوم — ليواصل حياته، والبحث عن مستقبله … فإننا نأمل تنفيذ وعدكم باستخدام الأقلام والكشاكيل والكتب المدرسية، حتى يتاح المجال للجميع، في التحصيل العلمي، في مستوياته المختلفة.
-
تفضلتم — مشكورين — منذ ثمانية أشهر، بتزويد المكتبة بمجموعة من الكتب الطريفة. ولقد قرأها كل من يهوى الاطلاع في المعتقل، ما بين أربع إلى عشر مرات … فهل نأمل في إرسال مجموعات جديدة، ومتوالية، من الكتب … بالإضافة إلى الصحف التي لا تزال ممنوعة.
-
بعد وقت العمل الرسمي، يعاني الجميع من الفراغ الذي يمكن استثماره بتشجيع الهوايات المفيدة، المختلفة … ولن يحتاج الأمر إلا إلى تزويد المعتقل ببعض الآلات الموسيقية، وغيرها من الأدوات الفنية التي يمكن — بواسطتها — تنمية المواهب، وتزجية الفراغ فيما يفيد.
-
أصبح الراديو وسيلة تثقيف ضرورية، ولا يكاد يخلو منه أي معتقل، أو سجن آخر. إدارة المعتقل تحتفظ لديها بجهازي راديو، فماذا لو أتاحت للنزلاء أن يستفيدوا من أحدهما؟
-
تمضي الأشهر، والسنوات، دون أن يتاح لأي من النزلاء فرصة اللقاء بأسرته، أو أقاربه … وهو تعسف — من إدارة المعتقل — نثق في أنكم ترفضونه، وكل ما نطمع فيه أن نلتقي ببعض أفراد أسرنا، ولو مرة واحدة، لمدة ساعة، كل ثلاثة أشهر.
-
بعض المستلزمات الشخصية التي حصلت عليها الإدارة حال وصولنا إلى المعتقل مما يصعب أن يستغني عنه بعض النزلاء … ولعل أبلغ دليل على ذلك أن النزيل وهيب تادرس، نزعوا منه نظارته الطبية، وهي — كما ترون — قسوة لا مبرر لها.
أخيرًا، فإننا نعاود الأمل في أن تشرفوا المعتقل بزيارة شخصية، تستطيعون من خلالها، وبعدها، اتخاذ القرارات الحاسمة التي تحفظ على الإنسان إنسانيته.
وفي الختام نكرر — يا معالي الوزير — تهنئتنا بتوقيع حكومتنا الرشيدة على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.
حضرة الست حرمنا أم عطية …
بعد التحية العظيمة والسلام الزائد …
حضرة الست حرمنا أم عطية …
بعد التحية العظيمة والسلام الزائد …
أعرفك بأني تسلمت منذ يومين طرد الملوحة الذي بعثت به مع الأسطى عباس … وقد هجم عليه الزملاء في العنبر، فأكلوه هنيئًا مريئًا بإذن الله، وكانت أكلة طيبة.
أعرفك بأنه قد زارنا صباح اليوم مسئول عظيم الشأن، يرتدي بدلة حرير، ونظارة ملونة، ويضع في إصبعه خاتمًا يزيد ثمنه على عشرة جنيهات. وكان رقيقًا جدًّا … تحدث إلينا كما لو كنا أصدقاء … وضحك لنكتة قالها زميلنا خليل عبد النبي، وربت على كتف سلامة القاضي، وسأل الأستاذ عن الجرح الذي أصاب جبهته … وقال إن الله سيفعل ما فيه الخير.
أعرفك بأنه عندما سأل الأستاذ، مسئول الحكومة، عن الموعد الذي سنغادر فيه المعتقل … قال المسئول إن الحكومة تأثرت جدًّا بالتلغرافين اللذين بعثنا بهما، نشرح الحال، ونطلب الإفراج العاجل … خصوصًا وأن نصف المعتقل من أولاد الناس الطيبين، واتهاماتهم سياسية.
أعرفك بأن إدارة المعتقل سمحت لنا — منذ ثلاثة أيام — أن نسهر في العنابر حتى منتصف الليل، بعد أن كانت الأنوار تطفأ في الساعة العاشرة فنضطر إلى النوم، أو نسهر في الظلام … ونحن نقضي معظم الليل في الغناء والرقص وتبادل النكات. وربما روى لنا الأستاذ تاريخ الرسول والصحابة، وتلا آيات القرآن الكريم، أو الأحاديث الشريفة.
وأعرفك بأن الأحوال تغيرت كثيرًا عما كانت عليه، ولم يعد …
وأعرفك بأني أهدي مزيد السلام إلى المعلم قطب، وإلى أختي هنية، وإلى عطية، وأن توصيه بدوام المذاكرة حتى يصبح من الناجحين. كما أرجو تبليغ سلامي إلى كل الأصدقاء والجيران.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السماء تشرق — كل صباح — عن شمس كبيرة لاهبة.
اختفت طوابير العمل، وطقوس التعذيب، ولحظات الخوف والقلق والتوتر. حلت لحظة هادئة، امتداداتها المتوقعة تخلو من المفاجأة. بروجي الصباح. الإفطار. التسكع — داخل الأسوار — بلا هدف. الكلمات التي تبحث عن قضية تطرحها للمناقشة. الليل الذي يجيء بترقب ليل جديد. لحظة متواصلة ممتدة امتصت الثواني والدقائق والساعات والأيام والأشهر والسنين. التفصيلات الصغيرة والتافهة تعني تغيرًا مؤكدًا، حجرًا يحرك ماء البئر الساكنة: المأمور الجديد الذي يدير المعتقل، تنقضي الأيام في متابعة تطورات حياته، ملاحظة تصرفاته وانفعالاته، حتى تلك التي — ربما — يتعمد إخفاءها: هل يحادث الزملاء؟ ما مدى اهتمامه بالرسميات؟ هل يعتمد على المعاملة الطيبة، أو على كرباج الصول سعيد؟ هل يخنصر التعيينات وإيرادات المزرعة؟ هل له أولاد؟ هل يحيا داخل الأسوار بمفرده؟ … العسكري النوبي عبد الوهاب أبو دومة، كاد يذهب التراهن حول حقيقة موطنه بحياة بيومي الدكر … أكد أن فراسته تدله على موطن أبو دومة، السحنة واللهجة والخطوط المتعرجة على جانبي الوجه تدل على سودانية خالصة، وفراسته لا تخيب … راهنه الغزالي بسيجارة، أن «أبو دومة» من أبناء النوبة. تأكد صدق استنتاجه، أخطأ فأسه رأس الدكر الذي تهرَّب من الرهان، حديث الأسوار لأيام طويلة: من المخطئ ومن المصيب؟ توالي الأيام تؤرخه أحداث تافهة: بعد أسبوعين من إصابة توفيق عزوز بالمغص الكلوي … قبل ثلاثة أيام من مجيء دفعة الحراس الجدد … ليلة عزل عباس الصواف في الحبس الانفرادي … في الفترة نفسها التي استضاف المأمور فيها أولاده الثلاثة … تعددت الخناقات لأي سبب، وبلا سبب … وتكلم سلامة القاضي كثيرًا، شرق وغرب وعلق وحلل وروى الحقائق والخفايا، ثم اكتشف أنه لم يعد لديه ما يقوله، فسكت … وغطى حلمي عزت وجهه بيديه — فجأة — وبكى. لم يكن بكاءً بالتحديد، لكنه انتفض واهتز وتشنج وصرخ وتمرغ بالرمال وشد شعره وعض يديه، كأنه يعاني ألمًا هائلًا، كأنه يموت.
هوى عليه بيومي الدكر بصفعة قاسية، فانسحب، وآثر — برغم مصالحة الأستاذ — ألا يغادر العنبر.
وأعلن أفراد طابور العمل رغبتهم في الخروج إلى الوادي … زراعة الأرض أهون ملايين المرات من الثرثرة في اللاشيء، والتحديق في اللاشيء، وترقب اللاشيء.
وقال توفيق عزوز للمأمور: لو أننا عدنا إلى الفلاحة بدلًا من استيراد الخضروات؟
رمقه المأمور بنظرة ضاحكة، وقال مداريًا ابتسامة فاهمة: إشفاق علينا من المصاريف، أم إشفاق على عزك الضائع؟
قال أنور عبد الحفيظ: كل شيء قتله الملل … حتى الهواء!
قال سلامة القاضي: من حقنا أن نطالب ببدل اكتئاب.
قال أمين سالم: العذاب الحقيقي ليس في سجن الإنسان، ولكن في سجن رغباته.
أطلق خليل عبد النبي ضحكته المنفعلة: مقرئ الجماعة فسد!
ثم، وهو يتكلف الجدية: وما يمنعك من إطلاق رغباتك؟ … هيص … زيط … متع نفسك.
قال أمين سالم من بين أسنانه: أحلم في وسط النهار بامرأة … أطرحها على ظهرها العاري في أي مكان.
قال خليل عبد النبي: غرفة الصول سعيد خالية دائمًا.
صرخ أمين سالم متحديًا: حتى في وسط المعتقل!
علا الصوت الهادئ — فجأة — متسائلًا: أليس الأجدى أن نناقش مأساة موتنا البطيء داخل هذه الأسوار؟
«الولس هزم عرابي.»
لعلها المرة الأولى التي يتبين فيها الرجال صوته.
تيار الدهشة سرى مع النظرات المصوبة إلى ارتعاشة شفتيه. ردد أكثر من صوت: ماذا يقول؟
اتجهت النظرات — بتلقائية — إلى الغزالي. ربما الفكرة تشهد نهايتها قبل أن تبدأ.
قال جابر الراس في غضب حقيقي: وهل خلا المعتقل من الرجال؟
أضاف جرجس أيوب متشجعًا: لا تغضبه … فهو ولي أمر عنبر ثلاثة!
قبل أن ينعكس الصدى في أقوال وتصرفات، خرجت الكلمة من فم الغزالي مباشرة كقذيفة: أوافق!
ثم في نبرة خفيضة، تناسب الهدوء الذي ران على المكان فجأة، مقرونًا بالدهشة وعدم التصديق: حتى نطمئن إلى سلامة القرعة … فلا بد أن يكتب حلمي عزت الأوراق بنفسه ويطويها.
تم الأمر في لحظة امتصت كل التفاصيل.
مُزقت الأوراق إلى قطع صغيرة.
تتابعت الأسماء.
طُويت الأوراق.
تكوَّمت وسط الحلقة الآدمية.
صاح الغزالي يقضي على تردد الشاب.
أخفى عينيه في الورقة والاسم، يتقي نظرة واحدة بالذات من بين كل النظرات التي شدتها إلى أصابعه خيوط غير مرئية من القلق والرهبة والصمت.
هل تحرق بيدك شجرة الظل والطمأنينة والحماية؟ … ماذا عن المستقبل بدونه؟ … نظراته التي تقطر عطفًا وإشفاقًا ومحبة، تميتك، تقتلك، كأنه يدرك كل شيء … فهل يدرك أن المصير اللعبة تحرك خيوطه يدا المأمور من داخل الحجرة؟
عادت الأنفاس إلى انطلاقتها في تنهيدة جماعية: شارك فيها — بتأثير فرحة الإنقاذ الشخصي — نزلاء عنبر ثلاثة، في اللحظة التالية عادوا إلى أنفسهم، واستنكروا القرعة.
الأستاذ؟
ماذا يفيد الغنم إذا فقدت راعيها؟
زاطوا وتصايحوا.
فقد بكر رضوان — لأول مرة — هدوء أعصابه، واستنكر فكرة القرعة.
وقف الدكر في وسط الحلقة الآدمية متحديًا.
أحاط خليل عبد النبي الأوراق المطوية بيديه، أخفاها في عبه.
لكم وهيب تادرس — بقبضة ثائرة — حلمي عزت الذي حاول التسلل خارج العنبر.
أحاطت بالأستاذ عشرات الأعين المشفقة، الدامعة، الرافضة.
لم يغادر مجلسه … البسمة الهادئة تضيء الوجه كله، النظرات الساهمة تجاوزت أسوار الصخب، محبة الأصدقاء كسب يصعب التهوين من قيمته.
الكلمات الطيبة أعطت في النهاية، ثمارها.
«على أنه الخير أن يبدو الفرح في أفواه الناس.»
أشار وهيب تادرس إلى أمين سالم قبل أن يتكلم، فسكت.
قال: هل نضيع الوقت في الثرثرة … والأوغاد في الخارج يدبرون لقتلنا؟
اتجه — بخطواته اللاهثة — خارج العنبر. عاد في أقل من دقيقة:
– الساحة تشغي بالعساكر.
قال سلامة القاضي: لعل الإدارة علمت بما حدث.
قبل أن يعقب الرجال، أطلت عينا الصول سعيد من النافذة المقابلة، تنشدان الوجه الطيب: لا تخشَ شيئًا يا أستاذ.
في اللحظة التالية لابتعاده، قفز خليل عبد النبي زاعقًا: خبر القرعة وصل إلى الإدارة … فلمَ نخاف؟
قال محمد توفيق في فرحة ظاهرة: الأستاذ ليس كالآخرين … فمن يجرؤ بتنفيذ القرعة عليه؟
جال بعينيه في وجوه الرجال، يتفحص انعكاسات الرأي … منفذ من عنق الزجاجة لا بأس به.
بدا ما يشبه الحياة في العنبر الهامد. سرت همهمة ارتياح. اهتزت الرءوس والأيدي. علت ضحكة عصبية. زاد وهيب تادرس من إشعال فتيل الكلوب.
دنا بكر رضوان، واحتضن الأستاذ بيد المحبة الخالصة: لو أن يدًا تجاسرت على إيذائك … فسأموت قبلك!
قال الصوت الهادئ: من يدري … ربما يبدل الصباح من حماستنا لأشياء كثيرة.
واتجه بنظرته إلى الرجال في محبة دافقة: الليلة عيد … فلماذا لا نطرح الهم؟
•••
ردد بكر رضوان أغنيات عبد الواحد مطرب الأنفوشي، وروى خليل عبد النبي بعض أساليب احتياله الجهنمية، وأطلق أحمد حسنين عشرات النكت، وغنى بيومي الدكر: يا مساء الليل! … وأخذت الحماسة محمد توفيق فقام ليرقص.
قال أنور عبد الحفيظ: لم يبقَ إلا أن تأذن الإدارة لعلي الشامي حتى يمارس مهنته العظيمة.
•••
كان أبلغ ما يميزها صبيانية محببة تجذبه إليها، وتدفعه أن يحبها … إذا تحدثت أصبحت طفلة في حديثها، وفي ملامح وجهها، وتمسح أنفها بظهر يدها في قسوة بريئة، وشعرها الأسود ينسدل في فوضوية عذبة حول وجهها، فيوشك أن يتحسس نعومته.
يطلب منها أن تغني. تلبي طلبه في سعادة. تجلس على ركبتيها، تضم أصابعها أسفل ذقنها. تزوي ما بين حاجبيها. ترفع رأسها. ينطلق الصوت بريئًا خافتًا، كأنها تصلي.
يضع كل مشاعره في يديه، في تصفيقة حارة. تمتلئ نفسه بالنشوة. تبرق عيناه. يطرد هاتفًا لكي يعانق فاطمة، يقبلها ويضمها إلى صدره، ينسى بين ذراعيها الصغيرتين كل شيء … لكنه يطرد الهاتف حين يتأمل الصبية، فيراها رقيقة، صغيرة، حلوة، كأنها تحفة خزفية.
ليلة، امتد فيها العناق وتواصل. تسلل برد الشتاء إلى جسده الساخن فأرعشه. تكومت على نفسها، تريد أن تخفي جسدها العاري. نظراتها الخجلى، مشاعره المرتجفة، شيء كالغثيان يقف في حلقه.
– تبددت المشاعر الحزينة … وأصبحت تلك لعبتي المفضلة … فاطمات كثيرات، بدأن بالغناء البريء، وانتهين بالفضيحة … وأصبح علي الشامي قوادًا!
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
«اقرءُوا لي الفاتحة ثلاث مرات.»
«وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة.»
لحظات الانتظار هي أقسى ما في الأمر.
علم الإدارة بما حدث يقلل من الخشية ولا يلغيها. حاولوا تناسي الخطر المحدق بالغناء والرقص وتبادل النكات ورواية الذكريات المبهجة والحزينة، والضحكات — وإن علت — جافة جوفاء بلا معنًى.
– ناموا الآن … واستريحوا.
لم يعد لدى أحد ما يقوله أو يفعله. لم يعد أمام العنبر إلا أن يطفئ أنواره، وينام.
ألقى — عبر القضبان — نظرة فاحصة على الساحة الممتدة. القمر في المحاق، والظلمة كثيفة.
لم يتبين شيئًا، فيما عدا الأضواء الباهتة المنبعثة من نقاط الحراسة البعيدة، وما يشبه الأشباح هنا وهناك.
انثالت الصور، توالت، تجسَّدت، قطرت في النفس رحيقًا مرًّا، علت الإيقاعات الصاخبة والمقبضة، امتدت اللحظة، واتسعت، وعمقت … عادت إلى بداية البداية. غادرت الزمان والمكان. جاوزت المعتقل والأسوار والصحراء. هبطت إلى الوادي. طافت بالشوارع والبيوت والأزقة والدروب والحواري والمآذن والقباب والغرز والأديرة والمقاهي. عانقت الأفندية والمشايخ والأبوحمدات وأولاد البلد والغلابة والمساكين والمنكسرين والمساليب والمتصوفة والبلطجية والمومسات والقوادين والبرمجية والبراقع وملايات اللف والجلاليب والأقدام الحافية وذات الأحذية والشباشب والقباقيب والأصوات الهامسة والهادئة والزاعقة والانفعال السريع والقهقهة والتعبير بالصوت والإشارة.
في لحظة، لا يدري كم مر من الوقت قبلها، أعادته العينان الناريتان داخل الأسوار. في لمحة أو أقل، حدقتا فيه من النافذة في أقصى العنبر، ثم تلاشى وقع الأقدام اللاهثة، المبتعدة.
كانت العينان الناريتان تشدانه من بين ملامح الوجه كله، في أحاديث الغزالي الزاعقة، الرافضة. بالقطع كان هو …
فما معنى الذي يحدث؟
طاف بعينيه على الرجال الذين غيَّبهم النوم تحت قدميه.
السفينة حين توشك على الغرق تسرع الفئران بمغادرتها.
الخراف تتبدد حين يختفي من يحميها.
هل حجبت السماء وجهها عنك؟
لشد ما تحتاج إلى من يسندك في آلامك.
لكن الخطر يحدق بك وحدك، والرؤيا أمامك رهيبة، تطاق …
الأفق يبين عن الأحداث المتوقعة، والهوة السحيقة فتحت فاها في قسوة بشعة، واليدان ترتعدان في انفعال، والنفس حزينة حتى الموت.
الموت؟
هل أصبحت الكلمات الطيبة محرمة على أحد؟
وهل تبذل الحياة مقابلًا لنوايا الخير؟
وهل يسلمني إلى الذئاب، أحبائي الذين نذرت النفس فداءهم؟
وهل يكون في وفاتك الخلاص — حقيقة — لنزلاء الأسوار؟
وماذا لو يصبح الفداء بلا خلاص؟
…
…
…
الأقدام الملهوفة تطأ الشجيرات والأعشاب والحصى، في اندفاعها المحموم نحو العنبر، والظلام يبين عن ذبالة ترتعش في اقترابها.
مصر الجديدة في ۱۷ / ۲ / ۱۹۷۰م