القوانين الوضعية
عندما يصبح الناس في مجتمع يفقدون حس ضعفهم، وتزول المساواة التي كانت بينهم، وتبدأ حال الحرب.
ويأخذ كل مجتمع خاص في الشعور بقوته، ويوجب هذا حال احتراب الأمم، ويأخذ الأفراد في كل مجتمع في الشعور بقوتهم، فيحاولون تحويل فوائد هذا المجتمع الرئيسة نفعًا لأنفسهم، وهذا ما يحدث حال حرب بينهم.
ونوعا حال الحرب هذان يوجبان وضع قوانين بين الناس، والناس؛ إذ هم سكان سيارة عظيمة جدًّا، حيث توجد شعوب مختلفة بحكم الضرورة، تكون لهم قوانين سائدة لصلة هذه الشعوب فيما بينها، وهذه هي حقوق الأمم، والناس؛ إذ هم عائشون في مجتمع يجب حفظه تكون لهم قوانين سائدة لصلة الحكام بالرعية، وهذه هي الحقوق السياسية، ويكون للناس، أيضًا، من القوانين ما يسود صلة جميع الأهلين فيما بينهم، وهذه هي الحقوق المدنية.
ومن الطبيعي أن تقوم حقوق الأمم على هذا المبدأ، وهو: يجب على مختلف الأمم أن تأتي أعظم خير في السلم وأقل شر في الحرب ما أمكن، وذلك من غير إضرار بمصالحها الحقيقية.
والنصر غاية الحرب، والفتح غاية النصر، والحفظ غاية الفتح، فمن هذا المبدأ، ومن المبدأ السابق يجب أن تشتق جميع القوانين التي تؤلف منها حقوق الأمم.
وتجد، فضلًا عن حقوق الأمم التي تُعنَى بجميع المجتمعات، حقوقًا سياسية لكل من هذه المجتمعات، وما كان لبقاء ليكتب لمجتمع بلا حكومة، ومن الصواب البالغ قول غراڨينا: «إنه يتألف من اجتماع جميع السلطات الخاصة ما يُسمى الحقوق السياسية.»
وأفضل من ذلك أن يقال: إن أكثر الحكومات ملاءمة للطبيعة هي الحكومة التي تكون ذات وضع يوافق أكثر من غيره وضع الشعب الذي قامت من أجله.
ولا يمكن اجتماع القوى الخاصة من غير اجتماع جميع العزائم، ومن الصواب البالغ أيضًا قول غراڨينا: «إن اجتماع هذه العزائم هو ما يُسمى الحال المدنية.»
والقانون على العموم هو الموجب البشري ما سيطر على أمم الأرض طرا، ولا ينبغي للقوانين السياسية والمدنية في كل أمة أن تكون غير الأحوال الخاصة التي يطبق عليها هذا الموجب البشري.
ويجب أن تكون هذه القوانين من اختصاصها بالأمة التي وضعت في سبيلها ما يكون من الاتفاق العظيم معه إمكان صلاح قوانين أمة لأمة أخرى.
ويجب أن تكون هذه القوانين موافقة للطبيعة ولمبدأ الحكومة القائمة أو التي يراد إقامتها، وذلك سواء عليها أكانت موجدة لها كما هو أمر القوانين السياسية، أم كانت حافظة لها كما هو أمر القوانين المدنية.
ويجب أن تكون تلك القوانين خاصة بطبيعة البلد، خاصة بالإقليم البارد أو الحار أو المعتدل، وبطبيعة الأرض وموقعها واتساعها، وبجنس حياة الأمم أو الزراع أو الصائدين أو الرعاة، ويجب أن تناسب درجة الحرية التي يمكن أن يبيحها النظام، ودين الأهلين وعواطفهم وغناهم وعددهم وتجارتهم وطبائعهم ومناهجهم، ثم يوجد لتلك القوانين صلات فيما بينها، صلات بأصلها وبمقصد المشترع وبنظام الأمور التي قامت عليها، فيجب أن ينظر إليها من جميع هذه الأغراض.
وهذا ما أحاول صنعه في هذا الكتاب، فأبحث في جميع هذه الصلات، وهي التي يتألف من مجموعها ما يُسمى روح الشرائع.
ولم أفصل القوانين السياسية عن القوانين المدنية قط؛ وذلك لأنني، وأنا الذي يبحث في روح القوانين من دون القوانين وفي قيام هذه القوانين على مختلف الصلات التي يمكن أن تكون بين القوانين ومختلف الأمور، أراني أقل اتباعًا لترتيب القوانين الطبيعي مني لاتباع ترتيب هذه الصلات وهذه الأمور.
وأول ما أبحث في الصلات بين القوانين ومبدأ كل حكومة، وبما أنه يوجد تأثير بالغ لهذا المبدأ في القوانين فإنني أُعنَى بمعرفته جيدًا، وإذا ما استطعت أن أضعه مرة رئُي سيل القوانين منه كما لو كان هذا من منبعها، ثم أنتقل إلى الصلات الأخرى التي يلوح أنها أكثر خصوصية.