الفصل الثاني عشر
قالت بي: «لقد خصصتُ لك غرفة الأطفال القديمة. آمُل ألا تُمانع ذلك. يُقيم سايمون في الغرفة التي كان يتشاركها مع … التي كنتَ تتشاركها معه.» يا إلهي، يا لها من زلة، هكذا فكَّرت؛ هل سأقدِر يومًا ما على التفكير فيه بصفته باتريك؟ «وإعطاؤك إحدى غرف الضيوف كان يعني مُعاملتك كزائر.»
قال برات إنه سيسعده الإقامة في غرفة الأطفال.
«هل ستصعد الآن، أم ستتناول مشروبًا أولًا؟»
قال برات: «سأصعد الآن.» ثم استدار مُتوجهًا نحو السُّلَّم.
كان يعلم أنها تنتظر هذه اللحظة؛ تنتظر اللحظة التي لا بد أن يُظهِر فيها معرفته بالمنزل. لهذا انصرف عنها واتجه نحو السُّلَّم؛ صعد إلى بسطة السُّلَّم الأولى الكبيرة، ثم اتجه إلى الممرِّ الضيق المؤدِّي إلى الجناح الشمالي، ثم إلى غرف الأطفال المُواجِهة لغرب الجناح. فتح الباب الثالث ضمن أربعة أبواب ووقف في الغرفة التي كانت نورا آشبي قد أعدتها للأطفال عندما كانوا صغارًا. كانت إحدى النوافذ تُطلُّ على الغرب على إسطبلات الخيول، والأخرى تطلُّ على الشمال على قمة التل. كانت الغرفة في الجانب الهادئ من المنزل، بعيدًا عن الإسطبلات والمدخل المؤدي إلى المنزل من الطريق. وقف عند النافذة يتطلَّع إلى زرقة السماء الإنجليزية الناعمة، ويُفكِّر في الجبال المُذهلة القابعة وراء الغبار المُنتشِر في الغرب، وكان يعي تمامًا أن بي آشبي تقف وراءه.
ثمة شيء آخَر كان لا بد أن يُبادر بشأنه.
قال: «أين سايمون؟» والتفت إليها ليكون في مواجهتها.
أجابته: «مثل جين. يتأخَّر على موعد الغداء. لكنه سيحضُر في أي لحظة.»
مرَّ الموقف بسلام، لكنه لاحظ خجلَها من سؤاله المفاجئ، وكأنه ضربها بسوط. لم يأتِ سايمون لمقابلته؛ لم يكن سايمون موجودًا في لاتشتس ليستقبله؛ سايمون شخص صعب المِراس، هكذا استنتج.
وقبل أن يتمكَّن من استكمال الموضوع أخذت منه زمام المبادرة.
«يمكنك الانفراد بحمَّام غرفة الأطفال كله لنفسك، لكن أيمكنك أن تكون رشيدًا في استخدام الماء الساخن؟ فالوقود مشكلة مريعة. والآن اغتسِل وانزل في الحال. لقد أرسلت أسرةُ بيك بعضًا من شراب الشيري من منزل القس.»
«ألن يأتوا إلى الغداء؟»
«لا، سيأتون إلى العشاء الليلة. الغداء يقتصر على الأسرة فقط.»
راقبته وهو يتَّجِه إلى الباب الرابع، الذي كان يعرف أنه باب حمَّام جناح الأطفال، ثم انصرفت وقد بدا عليها الارتياح. كان يعرف سببَ ارتياحها: لأنه عرف طريقَه عبْر أرجاء المنزل. وشعر بالذنب وعدم الارتياح. فخداع السيد ساندال — في وجود مُستشار للملك جالس في الجهة المقابلة له يتفحَّصه بعينَين أيرلنديتَين مُتشكِّكتَين — كان شيئًا مُختلفًا؛ كان خداع السيد ساندال أمرًا مُمتعًا. أما خداع بي آشبي فكان شيئًا آخر تمامًا.
اغتسل في شرود، مُقلِّبًا الصابون بين يدَيه وعيناه مُستغرقتان في تخيُّل المستقبل. هناك كان المرْج الأخضر الذي أراد امتطاء الخيل عليه؛ المرْج الأخضر الذي باع نفسه من أجله. الآن سيأتي بخيلٍ ويذهب إلى هناك ويمتطيه في هذه الأجواء الهادئة، بعيدًا عن العلاقات الإنسانية، ولعبة المقامرة البشرية الغريبة الأطوار هذه، وهناك سيبدو الأمر مرةً أخرى مشروعًا ويستحقُّ العناء.
عاد إلى غرفته فوجد فتاةً شقراء جريئة ذات زينة صارخة ترتدي ثوبًا حريريًّا ضيقًا منقوشًا بالورود تُشذِّب زهور المنثور في وعاء على عتبة النافذة.
قالت الشقراء: «مرحبًا. مرحبًا بعودتك إلى المنزل، وكل هذه الأشياء.»
قال برات: «شكرًا.» أكانت هذه الفتاة شخصًا من المُفترَض أنه يعرفه؟ بالطبع لا!
«تُشبِه أخاك كثيرًا، أليس كذلك؟»
«أظن ذلك.» أخرج فُرَشَهُ من «حقيبته» ثم وضعَها على المزينة؛ في دلالةٍ رمزية على التملُّك.
«لن تعرفني بالتأكيد. أنا لانا آدامز من القرية. كان آدامز النجار والدي. أساعد في أعمال المنزل؛ لأن صديقي يعمل في الإسطبل.»
إذن هذه الفتاة كما اعتقد: الخادمة. نظر إليها وشعر بالأسف على صديقها.
«تبدو أكبر كثيرًا من أخيك، أليس كذلك؟ أعتقد أن السفر حول العالَم هو ما تسبَّب في ذلك. عليك أن تهتمَّ بنفسك، وكل هذه الأشياء. ولا تكن مُدللًا مثل أخيك. ستعذُرني لقول ذلك لكنه مُدلل. لهذا أثار كلَّ هذه الضجة حول عودتك. أرى هذا سخفًا. ليس على المرء سوى النظر إليك ليعرف أنك من عائلة آشبي. أعتقد أنه لا مجال لادعاء أنك لستَ منهم. لكن خُذ بنصيحتي وقِف في وجهه. فهو لا يمكنه احتمال أن يتصدَّى أحدٌ له. لقد كان مُدللًا طوال حياته، أؤكد لك. لا تدَع ذلك يُحبطك.»
وبينما كان برات يتابع إفراغ حقيبتِه مُلتزمًا الصمت، توقَّفت، وقبل أن تتمكَّن من المواصلة جاء صوت إلينور الهادئ من المدخل قائلًا:
«هل أحضروا لك كل ما تريد؟»
قالت الشقراء على عجلٍ: «كنتُ أُرحِّب بعودة السيد باتريك فحسب»، وبعد أن رَمَت برات بابتسامةٍ مشرقة، خرجت من الغرفة بحركةٍ سريعة رشيقة.
تساءل برات في نفسه إلى أي مدًى سمِعت إلينور ما قيل.
قالت إلينور: «غرفة لطيفة، فيما عدا أن شمس الصباح لا تصِل إليها. ذلك السرير من كلير بارك. باعت العمَّة بي الأسِرَّة الصغيرة واشترت ذلك السرير في مزاد كلير. إنه لطيف، أليس كذلك؟ إنه السرير الذي كان في غرفة أليك ليدينهام. فيما عدا ذلك فالغرفة كما هي لم يتغيَّر فيها شيء.»
«أجل؛ وورق الحائط القديم، كما ألاحظ.»
«روبنسون كروزو والرفاق. نعم. كنتُ مغرمةً بشدة بشخصية هيروارد اليقظ. كانت له ملامحُ جذابة.» وأشارت إلى مكان هيروارد في نقوش الأبطال الخياليِّين التي كانت نورا قد اختارتها لتسلية أطفالها ليلًا.
«ألا تزال ورقة أغاني الأطفال في الغرفة المجاورة؟»
«نعم، بالتأكيد. تعالَ وانظر بنفسك.»
ذهب معها، لكن بينما كانت تسرُد القصص المصوَّرة كان عقله منشغلًا بما باحت به الفتاة القروية عن سايمون ومفارقة أنه سينام في فراش أليك لودينج.
إذن كان سايمون يرفض تصديقَ أنه باتريك. «أرى أنه لا مجال للادِّعاء بأنك لستَ منهم.» لم يكن ذلك ليعني غير أن سايمون، بالرغم من كل الأدلة، رفض أن يتقبَّله.
لِمَ؟
تبِع إلينور إلى الطابَق السفلي، وهو لا يزال غارقًا في تساؤلاته.
قادته إلينور إلى غرفة جلوس كبيرة مُشمِسة حيث كانت بي تصبُّ الشيري، وروث تختار لحنًا لتعزفه على البيانو.
سألت روث، كالعادة: «هل تودُّ سماعي وأنا أعزف؟»
قالت إلينور: «لا، لا يود.» ثم قالت لبي: «كنَّا ننظر في ورق الحائط القديم. كنت قد نسِيت كم كنتُ شغوفة بهيروارد. من الجيد أني خُلِّصت منه في الوقت المناسِب وإلا ربما كان سيُصبح مصدرَ هوسٍ أو شيئًا من هذا القبيل.»
قالت روث: «لم تُعجبني قط رسومات الأطفال تلك التي على الجدران.»
قالت إلينور: «أنت لا تقرئين أبدًا؛ ولذلك لم يكن بإمكانك معرفة أي شيءٍ عنهم.»
قالت بي: «توقَّفْنا عن استخدام جناح الأطفال حين توقفنا عن الاستعانة بمُربية للتوءمين. لقد كان بعيدًا جدًّا عن بقية المنزل.»
قالت إلينور: «كان الأمر يستغرق مسيرةَ يومٍ للنداء على التوءم في الصباح؛ ولأن روث كانت تحتاج دائمًا إلى النداء عليها عدة مرات، كان علينا أن ننقلهما إلى مُحيط الأسرة الطبيعي.»
قالت روث: «الأشخاص الضعفاء البنية يحتاجون إلى النوم وقتًا أطول.»
سألت إلينور: «ومنذ متى كنتِ ضعيفة البنية؟»
فأجابت مُستعطفة جين: «المسألة ليست أنني ضعيفة البنية إنما جين هي التي تتمتَّع بقوة أكبر، أليس كذلك يا جين؟» كانت جين قد تسلَّلت إلى داخل الغرفة، والشَّعر على صدغَيها لا يزال مُبتلًّا من اغتسالها السريع.
لكن عيني جين كانتا على بي.
قالت بصوتٍ خافت: «سايمون هنا»؛ ثم قطعت الغرفةَ لتقف بجانب بي وكأنها تطمئنها.
سادت لحظة من الصمت التام. وفي اللحظة التي توقَّفت فيها الحركة لم يتحرك سوى روث. اعتدلت روث في جِلستها في ترقُّب شديد.
ثم تحرَّكت يد بي مرةً أخرى وواصلت ملء الكئوس. قالت: «هذا خبر سارٌّ كثيرًا. لن نحتاج إلى الاحتفاظ ببعض الغداء جانبًا.»
حُبِك الموقفُ بأسلوبٍ بارع لدرجة أن برات، على معرفته بما يعرفه في تلك اللحظة، شعر برغبة في التصفيق على سبيل الإشادة.
سألت إلينور بغير اهتمام: «أين سايمون؟»
فأجابت جين: «كان في طريقه إلى الطابق السفلي.» ثم عادت عيناها إلى بي.
انفتح الباب ودخل سايمون آشبي.
توقَّف للحظة، قبل أن يغلق الباب وراءه، ناظرًا إلى الجهة المقابلة نحو برات. وقال: «ها قد أتيت.»
لم تكن كلماتُه تحمل أيَّ تشديد، ولم يكن في نبرة صوته أي عاطفة واضحة.
سار ببطءٍ عبْر الغرفة إلى أن أصبح وجهًا لوجه أمام برات بجوار النافذة. كانت له عينان رماديَّتان بارزتان على نحوٍ غير عاديٍّ وإطارٍ أغمق يُحيط بقزحية عينَيه، لكن كانتا خاليتَين من أي تعبير. ولم تكن ملامحه الشاحبة تعكس أيَّ تعبير أيضًا. رأى برات أنه كان أشبَهَ بوترٍ مشدودٍ تمامًا، حتى إنك إذا نقرتَهُ بإصبعك اهتز.
ثم وعلى نحوٍ مُفاجئ تمامًا اختفى هذا الشد.
وقف وهلةً يتفرَّس في وجه برات، ثم ارتخت عضلات وجهه فجأةً في ارتياح الراحة.
قال في تشدُّق بعض الشيء: «أكانوا سيُخْفون عليك؟ لكني كنت مُستعدًّا لإنكار أنك باتريك حتى آخر نفس. والآن بعد أن رأيتك أتراجع عن كلِّ ما قلتُه. أنت باتريك بكل تأكيد. مرحبًا بعودتك.» ومدَّ يدَه إليه مصافحًا.
انكسر السكون وراءهما مُتحولًا إلى موجةٍ من الحركة والأصوات المتنافسة. ساد ضجيج يعجُّ بالتهاني المتبادَلة، ورنين الكئوس وأصوات الضحك. حتى روث كظمت خيبةَ أملها، على ما يبدو، لحرمانها من المشاركة في هذه الميلودراما، وكرَّست مواهبها للتملُّق والملاطفة من أجل انتزاع المزيد من الشيري في كأسها، بدلًا من «الرشفة» التي كانت هي نصيب التوءمتَين من أجل شُربٍ آمن على صحتهما.
لكن برات، الذي شرب النبيذَ وشكر الرب على انقضاء هذه اللحظة، كان متحيرًا. كان يفكر، لِمَ هذا «الارتياح»؟
ما الذي كان يتوقَّعه آشبي؟ ما الذي كان يخشاه؟
لقد كان يُنكر احتمالية أن يكون برات هو باتريك. أكان ذلك مجرد تحصينٍ ضد الأمل؛ وسيلة تأمين ضد خيبةِ أملٍ محتومة؟ هل حدَّث نفسه قائلًا: لن أُصدِّق أن باتريك على قيد الحياة، حتى، عندما يثبُت أنه ليس باتريك، لا أكونُ قد علقتُ أملًا على أي شيء؟ وهل كان هذا الارتياح الذي غمره منذ لحظة مضت لإدراكِه فحسب أنه باتريك في النهاية؟
لم يكن الموقف متسقًا.
راقب سايمون كونه نجم الحفل، واندهش لأمره. كان آشبي منذ لحظات قليلة متأهبًا بكل قواه لمواجهة أمرٍ ما، وفي تلك اللحظة بدا أنه … أنه قد أُعفي منه. هكذا كان الحال. كان ذلك هو سبب الارتياح المفاجئ الذي بدا عليه. ردُّ فعلِ شخصٍ متأهِّب لمواجهة الأسوأ وفجأةً انتابتْهُ راحة مؤقتة.
لماذا من المفترض أن يشعر بالراحة؟
أخذ اللغز الصغير معه إلى الغداء، وزجَّ به في مؤخرة عقله بينما كان يتعامَل مع المشكلات التي واجهته في الحديث مع عائلة آشبي ويُجيب عن أسئلتهم المتلاحِقة.
قال الصوت بداخله في نبرة انتصار ونشوة: «صرتَ واحدًا منهم! صرتَ واحدًا منهم! ها أنت ذا تجلس بموجب القانون على مائدة آل آشبي، وجميعهم في مُنتهى السعادة بذلك.»
حسنًا، ربما ليس جميعهم. كانت جين، المُخلصة إلى سايمون، كواحةٍ صغيرة هادئة وسط الحديث الدائر. ولم يكن متوقعًا أن سايمون نفسَه، رغم استسلامه، كان سعيدًا بأي قدْرٍ كبير. لكن بي، التي لم تتوقَّف البتة لتحليل هذا الاستسلام، كانت مُتهلِّلة، وإلينور كانت تتحوَّل لحظةً بعد لحظةٍ من إظهار الأدب أثناء الحوار إلى إبداء اهتمامٍ صريح.
«لكن لجام الكومانشي هو نوع من الزِّيار، أليس كذلك؟»
«لا؛ إنه مجرد مُباعد للفكَّين. يمر الحبل من الفم بالطريقة التي تُمرَّر بها الشكيمة. إنه الأفضل لخيول نقل البضائع. سيتبع خُطاك ليخفِّف من ضغط الشد.»
بعد أن صفحت عنه روث تمامًا لعدم تخمينه شكلَها، أولته تودُّدًا متواصلًا، وكانت الوحيدة التي تدعوه باسم باتريك.
أصبح هذا ملحوظًا أكثرَ مع مُضي فترة الغداء، وكان إقحامها المستمر لاسم «باتريك!» عندما كانت تسترعي انتباهه يتعارَض مع تجنُّب الآخرين شِبه الواعي لذكر اسمه. تمنَّى برات لو كان «المريد» الوحيد له هو جين وليس روث. لو كانت له أخت صغيرة لأحبَّها تمامًا كما أحبَّ جين. كان مُنزعجًا من الصعوبة التي يجدُها في الالتقاء بعينَي جين. وكان يتكبَّد من العناء في مقابلة التفاتها إليه باتزانٍ ما كان يتكبَّده في الالتقاء بالعينَين اللتَين في اللوحة القابعة وراءها. كانت جدران غرفة الطعام مُغطاةً فعليًّا باللوحات الشخصية، واللوحة التي كانت وراء جين كانت لويليام آشبي السابع، مُرتديًا زيَّ كتيبة الدفاع في جيش ويست أوفر، الذي اعتزم التصدي لغزو نابليون الأول مُرتديًّا إياه. كان برات قد حفظ تاريخَ تلك اللوحات عن ظهر قلب، وهو جالس تحت المعبد البوذي في حدائق كيو، وفي كل مرة يرفع فيها عينَيه إلى لوحات ويليام آشبي السابع تلك، كان يُداهمه ذلك التصوُّر السخيف بأن ويليام على علمٍ بكل شيء عن المعبد البوذي.
غير أن شيئًا واحدًا ساعده كثيرًا في هذا اللقاء الأول الصعب مع عائلة آشبي. فالقصة التي كانت لدَيه ويرغب في سردِها عليهم، كما أشار له لودينج أثناء ذلك الغداء الذي جمعهما في فندق جرين مان، كانت حقيقية، فيما عدا بداياتها؛ فقد كانت قصة حياته الشخصية. ونظرًا لأن العائلة كلها بالإجماع تفادت أيَّ إشارةٍ إلى الأحداث التي دفعته دفعًا إلى تلك الحياة، كان أساس الحوار الذي سار عليه ثابتًا. ولم تكن ثمَّة حاجةٌ إلى تفادي شيء أو التحايل في شيء.
لم تكن ثمة حاجة كذلك إلى «الانتباه إلى سلوكياته»، وذلك ما أثنى عليه أليك لودينج ثناءً شديدًا أيضًا. فقد بدا أنه لم يكن هناك تدريب أكثر حزمًا على تحرِّي التهذُّب عند تناول الطعام مما كان يفترض أن يُوجَد في دار أيتام رفيعة المستوى، فيما عدا وجود مُربية من الطراز الأول وفي غاية الحزم. كان لودينج قد قال له: «يا إلهي، إذا كان لديَّ أي نقود مُتبقية من شراء دفعة من المشروبات، فسأرسلها إلى تلك الدار التي كنتَ تُقيم فيها، تعبيرًا عن امتناني لكونك لم تنشأ في واحدةٍ من الضواحي الأرستقراطية. فالأرستقراطية متأصِّلة فيك فعليًّا، يا بُني. ومهما كان ما يُحتمَل أن يفعله بات آشبي، فمن غير المُحتمَل تمامًا أنه كان يمدُّ إصبعه الصغير للأمام عندما يشرب.»
لذا لم يكن لدى برات أيُّ عادات اجتماعية ليتخلَّص منها. في الواقع، كانت استقامته الصارمة مُحبطة قليلًا لروث، التي كانت تبحث عن الشخص المُبهر اللافت للأنظار.
قالت: «أنت لا تأكل بشوكتك»؛ وعندما بدا حائرًا، أضافت قائلة: «بالطريقة التي يأكلون بها في الأفلام الأمريكية؛ فهم يقطعون الطعامَ بسكاكينهم وشوكهم ثم ينقلون الشوكة إلى اليد الأخرى ويأكلون بها.»
علَّق قائلًا: «ولا أمضغُ العلكة أيضًا.»
قالت بي: «أتعجَّب كيف نشأت تلك الطريقة المُعقَّدة كثيرًا للتعامُل مع طعامهم.»
قالت إلينور: «ربما أن السكاكين كانت نادرة في البدايات.»
قال سايمون: «كانت السكاكين ذات نفعٍ كبير لدرجةٍ يستحيل معها أن تكون نادرة في مجتمعٍ رائد. الاحتمال الأرجح أنهم عاشوا أمدًا طويلًا على الطعام المفروم، حتى إنهم حين أتاهم الطعام على هيئة شرائح حملتهم فِطرتهم على تقطيعها قِطَعًا صغيرة في أسرع وقتٍ ممكن.»
فكَّر برات، وهو ينصت إليهم، كيف أن كل ذلك ذو طابع إنجليزي أصيل. ها هو ذا عائد من الموت، وهم يناقشون آداب الطعام الأمريكي بكل هدوء. لم تكن هناك مساحة للمبالغة في اللطف، والإصرار على الحديث عن الموقف بتبادل التهاني كما قد يحدُث في منزلٍ عبر المحيط الأطلسي. لقد تحاشوا فكرةَ استرجاع الذكريات بالقدْر نفسه من التصميم الذي كان الأمريكيون سينغمسون فيه. وحين تذكَّر أصدقاءه من مزرعة ليزي واي، فكَّر كم كان سيصبح ذلك استعراضًا دقيقًا لعجرفة الإنجليز من وجهة نظر بيت، وهانك، وليفتي.
لكن ربما كانت السعادة التي على وجه بي ستثير إعجاب ليفتي كذلك.
سألت بي عندما صبَّت القهوة: «هل تدخن؟» ثم دفعت إليه بعلبة السجائر. لكن برات، الذي أعجبه الصنف الخاص بها، أخرج علبته وعرض محتوياتها عليها.
قالت بي: «أقلعت عنها. أصبح لديَّ رصيد في البنك عِوضًا عنها.»
وعرض العلبة كذلك على إلينور.
توقَّفت إلينور وأصابعها تلمس السجائر، ثم مالت إلى الأمام لتقرأ شيئًا كان محفورًا على العلبة من الداخل.
فقالت: «برات فارار. من ذاك؟»
قال برات: «أنا.»
«أنت؟ أوه، حسنًا؛ فارار بالطبع. لكن لماذا برات؟»
«لا أعرف.»
«أكانوا يدعونك كذلك؟ أقصد، برات؟»
«أجل.»
«لِمَ برات؟»
«لا أعرف. أظن لأنني كنت صغير الحجم.»
قالت روث في سرور: «برات! هل تُمانع أن أناديَك برات؟ هل تمانع؟»
«لا. لم أُنادَ بأي اسم آخَر على مدار أغلب حياتي.»
انفتح الباب وظهرت لانا لتُبلغهم بأن شابًّا قد جاء لمقابلة الآنسة آشبي وأنها استضافته في المكتبة.
قالت بي: «أُفٍّ، يا للإزعاج. ماذا يريد، هل تعرفين؟»
قالت لانا: «يقول إنه صحفي. لكن لا يبدو لي أنه صحفي. يبدو مهندمًا ونظيفًا ومهذبًا للغاية.» كانت خبرة لانا عن الصحافة، مثل معرفة برات بحياة الطبقة المتوسطة، مُستقاة من الأفلام فحسب.
قالت بي: «لا! ليست الصحافة. بالتأكيد ليست هي.»
«يقول إنه من صحيفة «ويست أوفر تايمز».»
«هل ذكر سبب مجيئه؟»
قالت لانا، موجهةً إبهامها في اتجاه باتريك: «جاء بخصوص السيد باتريك، بالطبع.»
تذمَّر سايمون مُمتعضًا: «يا إلهي، لم نهنأ بالاحتفال بعدُ. أظن أن هذه اللحظة كانت ستأتي حتمًا عاجلًا أم آجلًا!»
شربت بي ما تبقَّى من قهوتها. ثم قالت، وهي تمدُّ يدَها وتجذبه ليقف على قدمَيه: «هيا يا برات! ربما من الأفضل لنا أن نذهب وننهيَ الأمر. وأنت أيضًا يا سايمون.» تقدَّمت برات إلى خارج الغرفة، وهي تضحك عليه، ولا تزال يدُها في يده. بثَّت فيه الألفةُ الدافئة لقبضتها فورةً من شعور عجزَ عن تحديده. لم يكن كأيِّ شيءٍ شعر به حتى هذه المرحلة من حياته. وكان منشغلًا بأفكارٍ عن الصحفي لدرجةٍ منعتْه من التوقف لتحليل هذا الشعور الذي انتابه.
كانت المكتبة هي الغرفة المظلمة في الجانب الخلفي من المنزل حيث احتفظت بي بمكتبها ذي الغطاء المنزلق، ودفاتر حساباتها، ومراجعها. كان ثمَّة شابٌّ صغير يرتدي بذلةً زرقاء أنيقة يتأمل حائرًا في كتابٍ عن أنساب الخيول. عند دخولهما ألقى الكتاب وقال بلهجة جلاسجو العميقة: «آنسة آشبي؟ اسمي ماكالان. أعمل في صحيفة «ويست أوفر تايمز». أعتذِر بشدة عن المجيء هكذا من دون دعوة، لكني أظنُّ أنكم قد انتهيتم من تناول الطعام بعد مرور هذا الوقت الطويل.»
قالت بي: «حسنًا، بدأنا في وقتٍ متأخر، وأخشى أننا قضينا وقتًا طويلًا في بعض الأمور.»
قال السيد ماكالان بتفهُّم: «أجل. إنها مناسبة خاصة جدًّا. لا يحق لي أن أفسدها عليكم، لكن شعاري هو «أول مَن يجلب آخِر الأخبار»، وفي هذه اللحظة تحديدًا أنتم آخِر الأخبار.»
«أعتقد أنك تقصد عودة ابن أخي إلى المنزل.»
«بالضبط.»
«كيف علمتَ بالخبر بهذه السرعة يا سيد ماكالان؟»
«سمِع أحد معارفي بالخبر في إحدى حانات كلير.»
قالت بي: «كلمة بائسة.»
قال السيد ماكالان، متحيرًا: «أهي كلمة حانة؟»
«لا. معارف.»
قال السيد ماكالان بأسلوبٍ لطيف: «أخ، إذن، أحد عملائي، إذا كانت تلك الكلمة تروق لك أكثر. هل لي أن أسأل، أيٌّ من هذَين السيدَين الشابَّين هو الضال العائد؟»
قدَّمت بي برات وسايمون. كان شيء من التوتر المُمتزج بالفتور قد عاد إلى وجه سايمون؛ لكن برات، الذي كان موجودًا عندما قطع نات زوكو حلْقه في مطبخ مطعم زوجته السابقة وشهِد نشاطات الصحافة الأمريكية في ذلك الحدث، انبهر بهذه السرعة في جمعِ الأخبار في بريطانيا. أجاب عن الأسئلة البديهية التي طرحها عليه السيد ماكالان وتساءل إن كان هناك أي اقتراحٍ بالتقاط صورةٍ فوتوغرافية. وإذا كان هناك، فلا بد أن يتهرب من ذلك بطريقةٍ ما.
لكن بي هي مَن أنقذته من ذلك المأزق. غير مسموح بالتقاط صور، هكذا قالت بي. ممنوع التقاط أي صور منعًا باتًّا. كان مسموحًا بالإدلاء بجميع المعلومات التي أراد أن يسأل عنها، لكن الصور لم يكن مسموحًا بها.
تقبَّل السيد ماكالان هذا، ولكن على مضض. فقد تذمَّر قائلًا: «قصة التوءم المفقود ستكون أقل إثارة بكثيرٍ دون صورة فوتوغرافية.»
قالت بي: «لن تُطلِق على الخبر «التوءم المفقود»، أليس كذلك؟»
قال سايمون، متحدثًا لأول مرة: «لا؛ سيُطلَق عليه «العائد من الموت».» حلَّت كلماته المتشدقة على الغرفة كأنما ظلٌّ مظلِم قد حلَّ عليها.
اتجهت عينا السيد ماكالان الزرقاوان الفاتحتان نحوه، واستقرَّتا وهلةً عليه تتفرسانه بتمعُّن، ثم عادتا مرةً أخرى إلى بي. ثم قال: «فكَّرت في عنوان «حدث مُثير في كلير». لكني قلِق من أن صحيفة «ويست أوفر تايمز» لن تتقبله. فهي جريدة محافظة للغاية. لكني أتوقَّع أن جريدة «ديلي كلاريون» ستكون استجابتها أفضل.»
قالت بي: «صحيفة «كلاريون!» إحدى صحف لندن! لكن … لكن آمُل ألا يكون ذلك واردًا. فهذا شأنٌ محلي تمامًا … بل شأن عائلي كليًّا.»
قال السيد ماكالان: «هكذا كانت القضية التي وقعت في شارع هيلدروب كريسنت.»
«أيُّ قضية؟»
«كان يطلَق عليها قضية كريبن. صحافة العالَم قائمة على القضايا الأُسرية يا آنسة آشبي.»
«لكن هذه المسألة ليست مثارَ اهتمامٍ مُحتمَل لأي شخصٍ آخر سوانا. عندما اختفى ابن أخي، منذ ثماني سنوات، ذكرت صحيفة «ويست أوفر تايمز» الخبرَ على نحوٍ عارض تمامًا.»
«أجل، أعرف. بحثت عنه. فقرة صغيرة في نهاية الصفحة الثالثة.»
«أعجز عن تبيُّن السببِ في أن تحظى عودةُ ابن أخي بأي اهتمامٍ أكثر من اختفائه.»
«إنها الإثارة مرة أخرى. الناس يرحلون عن الدنيا كلَّ يوم، لكن عددَ مَن يعودون من الموت ضئيل حقًّا يا آنسة آشبي. لا تزال العودة من الموت، رغم تقدُّم العلم الحديث، حدثًا مثيرًا. ولهذا السبب ستُبدي صحيفة «ديلي كلاريون» اهتمامًا به.»
«لكن كيف سمعوا بالخبر؟»
قال السيد ماكالان بذُعر حقيقي: «سمِع بالخبر! آنسة آشبي، هذا سبْقي الصحفي، ألا ترين ذلك.»
«أتقصد أنك ستُرسِل القصة إلى صحيفة «كلاريون»؟»
«من دون شك.»
«سيد ماكالان، يجب ألا تفعل ذلك؛ يجب ألا تفعل ذلك حقًّا.»
قال السيد ماكالان في صبر: «اسمعي يا آنسة آشبي. لقد وافقتُ على منع التصوير، وسأحترم الاتفاق؛ فلن أتسلَّل إلى الريف لأحاول التقاطَ صورٍ للشابَّين في غفلةٍ منهما، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، لكن لا يُمكنكِ أن تَطلُبي منِّي التنازل عن سبْقٍ صحفي مثل هذا. لا يمكن أن أترك سبْقًا صحفيًّا يليق له أن يتصدر«صحيفة يومية في لندن».» وبينما كانت بي مترددة، مُحاصرة في شِراك رغبتها الفطرية في أن تكون منصفة، أضاف قائلًا: «حتى لو لم أرسل القصة إليهم، لا شيء سيمنع مساعد محرر من سرقة القصة من صحيفة «ويست أوفر تايمز» ليجعلها خبرًا في صدر الصفحة الأولى. ولن يكون الموقف أفضلَ بالنسبة إليك بأي حال، ولكنني سأخسر فرصتي في أن أفعل شيئًا جيدًا لنفسي.»
قالت بي في إقرار ضمني بأنه على حق: «عزيزي، أعتقد أن ذلك يعني وفود جحافل من رجال الصحافة من لندن.»
«أوه، لا. ليس سوى صحيفة «كلاريون». إذا كان الخبر يخص صحيفة «كلاريون»، فلن يزعجك أيٌّ من الصحف الأخرى. فجميعهم رجال باليول كوليدج، حسب علمي.»
بهذه الملاحظة الساخرة على الصحافة الإنجليزية، بحث السيد ماكالان عن قبَّعته ولوَّح بالمغادرة.
«ممتنٌّ بشدة لكِ، ولكَ يا سيد آشبي، لما أبديتماه من مرونةٍ في مسألة الإدلاء بالمعلومات. لن أُعطلَكم أكثر من ذلك. اسمحوا لي بأن أهنئكم بهذا الحدث السعيد» — ولثانية استقرت العينان الزرقاوان الفاتحتان في لطف رقيق على سايمون — ثم أردف: «وشكرًا لكَ على لطفك.»
قالت بي في صيغة حوار، بينما كانت تسير معه إلى الباب الأمامي: «تبعُد عن موطنك بمسافة طويلة، أليس كذلك يا سيد ماكالان؟»
«موطني؟»
«اسكتلندا.»
«آه، فهمت. كيف عرفتِ أنني اسكتلندي؟ أوه، من اسمي، بالطبع. أف، إنها مسافة بعيدة إلى جلاسجو؛ لكنها المسافة نفسها بالضبط للعودة إلى لندن، إن صح القول. إذا كنت سأعمل في صحيفة إنجليزية، فمن الجيد أن أعرف شيئًا عن اﻟ… اﻟ…»
اقترحت بي: «السكان الأصليين؟»
قال السيد ماكالان برصانة: «كنت سأقول، الأوضاع المحلية.»
قالت بي وهي تنظر إلى الامتداد الخاوي أمام الباب: «أليس معك سيارة؟»
«تركتُها متوقفة في نهاية ممر السيارات الخاص بكم هناك. لم أعتَد قطُّ اجتياحَ منازل الغرباء وكأني أملكها.»
وبهذا التواضُع اللافت للنظر انحنى الرجل الشاب، وارتدى قبَّعته، وانصرف.