الفصل الرابع عشر
في مكانٍ ما بين المقصورة الرابعة والخامسة تلاشى مَيل برات نحو التعليقات الاستعلائية على نظافة الخيول بسهولة وإلى الأبد. فالخيول الجميلة المُدلَّلة التي تهيَّأ لرؤيتها في تلكما المقصورتين لم تكن موجودة. لقد كان مصدر اللمعة على أشعار الخيول، الأصيل منها، والهجين، والقَزَم، وحتى المُهر الصغير، هو تهيئتها والاعتناء بها وليس تدليلها في إسطبلٍ دافئ؛ فقد عاش برات طويلًا بما يكفي مع الخيول ليُدرك ذلك. كانت الشرائط الوحيدة التي رُبطت على أعناق تلك الحيوانات على الإطلاق أوشحةً ذات لون أحمر أو أزرق أو أصفر؛ وكانت الأوشحة سليمة تمامًا داخل غرفة معدَّات ركوب الخيل.
قامت بي بمراسم الضيافة الرسمية، وكان جريج مساعدًا لها؛ لكن لمَّا كان من غير الممكن لأربعة فرسان أن يفكروا في أي حصانٍ بعينه دون الدخول في نقاش، سرعان ما فقدت المناسبة الطابعَ الرسمي البسيط الذي اتَّسمت به بداياتها وتحوَّلت إلى مناقشةٍ عامة ودِّية. في تلك الأثناء لاحظ برات، الذي كان دومًا منعزلًا قليلًا عن الأجواء المحيطة به، أنَّ بي كانت تترك زمام النقاش أكثر فأكثر لسايمون. فكان سايمون، وليس بي، هو مَن قال: «هذا خيل مطرود من إسطبل لخيول السباق تُدرِّبه إلينور ليكون حصان أجرة.» أو «هل تتذكَّر ثورا العجوز؟ هذا أحد أبنائها من الحصان كولد ستيل.» كانت بي تُبعد نفسها عن عمدٍ تمامًا.
سرعان ما أصاب المللُ الأختَين التوءمتَين واختفتا؛ فكان اختفاء روث لأن الخيول كانت تُشعرها بالضجر؛ أما جين فكانت تعرف كلَّ ما يمكن معرفته عن الخيول ولم تَرُقها فكرة أنها صارت مِلكًا لشخصٍ لم تعرفه. أما جريج، المُتحفظ بالفطرة، فتراجع أكثر فأكثر مع بي. وهكذا، وفي لمح البصر، صارت الفرصة مواتية لسايمون؛ بل مواتية لسايمون وبرات.
تصرَّف سايمون وكأنه لا يعبأ بأي شيءٍ في هذا العالَم. وكأن عصر هذا اليوم مجرد عصر يومٍ آخر عادي وبرات مجرد زائر آخر. زائر مُميَّز وواسع المعرفة نوعًا ما، ومرحَّب به من دون شك. أما برات، الذي كان يظهر في المشهد من حينٍ لآخَر من منطلق افتتانه بالخيول، فكان يستمع إلى هذا المُتشدِّق اللطيف يُناقش نَسَب خيل أو شكله أو شخصيته أو التوقعات المستقبلية له؛ ويراقب ملامحه الهادئة المطمئنة، ويتعجب. كان الصوت الهادئ يقول: «ساقاه الأماميتان ضعيفتان»، وكانت العينان القريرتان تمرَّان على الخيل وكأن ليس هناك شيء أهم يعكر الأجواء. «لكنه حصان جميل، ألا ترى ذلك؟» أو «هذا الحصان يجب أن يستريح ويتعافى في المرعى: لقد كان يُستخدَم في الصيد طوال الشتاء؛ لكني سأشارك به في سباقات هذا الصيف. وبي شحيحة للغاية في إطعام الخيول على أي حال.»
وكانت بي تشارك برأيها ثم تختفي مرةً أخرى.
كانت بي هي مَن «تدير» لاتشتس، لكن الاهتمامات المختلفة التي يتخلَّلها الأمر كانت مُقسَّمة بين ثُلاثي آشبي. كانت اختصاصات إلينور الرئيسة هي خيول الأجرة وخيول الصيد، بينما كان سايمون مُختصًّا بخيول الصيد والخيول المشاركة في سباقات قفز الحواجز، أما بي فكان اهتمامها منصبًّا على الأفراس ومُهر الشتلاند. في حياة بيل آشبي، عندما كانت لاتشتس منشأة لتربية الخيول فقط، كانت خيول الأجرة وخيول الصيد في الإسطبلات لاستخدام العائلة والتسلية. أحيانًا، عندما يتصادف أن يكون هناك حصان مُميز في الإسطبل، كانت بي، التي كانت خيَّالة أفضل من أخيها، تأتي من لندن أسبوعًا أو أسبوعَين لتُدرِّبه وبعد ذلك تستعرض به نيابة عنه. وكانت تلك دعايا جيدة للاتشتس؛ ليس لأن لاتشتس كانت تُتاجر في الخيول المُدرَّبة، ولكن بسبب أن التكرار البسيط لاسمٍ ما هو أمر ذو قيمة في عالَم التجارة، كما اكتشف مؤلفو الإعلانات. وفي ذلك الوقت، كان الآشبيون الصغار، تحت إشراف بي، قد حوَّلوا الإسطبلات إلى منافس مربح لأفراس التربية.
قال عامل الإسطبلات لجريج: «السيد جيتس يسأل إن كان بإمكانه أن يتحدَّث إليك يا سيدي.» فاستأذن جريج في الانصراف وعاد إلى غرفة تخزين معدَّات ركوب الخيل.
جاء فوربوستر إلى باب مقصورته، وحدَّق ببرودٍ في برات لوهلة، ثم نكزه بأنفه الروماني على نحوٍ فكاهي.
سأل برات: «أكان دائمًا حصان جين؟»
أجابت بي: «لا، لقد اشتُرِي لسايمون في عيد ميلاده الرابع عشر. لكن سايمون كبر سريعًا حتى إنه في غضون عامٍ أو نحو ذلك كان قد صار كبيرًا عليه، وجين في عمر الرابعة كانت تُطالب بالفعل بأن تَمتطيَ حصانًا «حقيقيًّا» بدلًا من مُهر الشتلاند. وبهذا انتقل من ملكيتِه إليها. إن كان قد اكتسب أي سلوكياتٍ فقد نسِيَها، لكن يبدو أن هناك تفاهمًا مُتبادلًا بينَه وبين جين.»
عاد جريج ليقول إن جيتس كان يريد مقابلة الآنسة آشبي. كان الأمر بخصوص السياج.
قالت بي: «حسنًا، سآتي.» وعندما انصرف جريج قالت: «ما يُريده حقًّا هو رؤية برات، لكنه سينتظر حتى الغد مثل بقية أهل الريف. من طبع جيتس أن يُحاول استباق الآخرين. فالانتهازية تسري في دمِه. إذا كنتما ستذهبان لتُجرِّبا أيًّا من الخيول، فلتعودا عند موعد الشاي. أريد أن أتفقَّد الحظائر مع برات قبل حلول الظلام.»
سأل سايمون، وهو يفتح باب مقصورة أخرى: «هل تتذكَّر جيتس؟»
«لا، لا أظن ذلك.»
«إنه مستأجر مزرعة ويجسيل.»
«وماذا حلَّ بفيدلر، إذن؟»
«مات. هذا الرجل كان مُتزوجًا من ابنة فيدلر، وكان لدَيه مزرعة صغيرة في الجهة الأخرى من بيورز.»
لقد أعطاه سايمون أوراق اللعب التي احتاج إليها في ذلك الوقت. نظر إلى سايمون ليُلاحظ كيف استقبل الأمر، لكن يبدو أن جُلَّ اهتمام سايمون كان الحصان الذي يقوده خارج المقصورة.
«هذه المقصورات الثلاث الأخيرة هي خيول مُقتناة حديثًا، اشتُريَت بعد مراقبتها عن كثَبٍ في حلقة عرض الخيول. لكن هذا أفضلُ خيل في المجموعة. يبلغ من العمر أربع سنوات من سلالة هاي وود من رحم فرس تُدعى شاوت آلاود. اسمه تيمبر.»
كان تيمبر مُهرًا أسود لا تخالطه شعرة بُنية واحدة. كان له شِيَة نجمية بيضاء غير مكتملة، وحلْقة من البياض على إكليلَي حافرَيه، وكان أكثر الخيول، التي تَعامَل معها برات عن قرب، وسامةً على الإطلاق. خرج من مقصورته بتشامُخ لطيف، وكأنه كان مدركًا حُسنه وسعيدًا بكونه محورَ الإشادة. فكَّر برات، وهو يُراقبه، أن ثمة خجلًا غريبًا فيه. لعلها الطريقة التي يقف بها، وقدماه الأماميَّتان متقاربتان. أيًّا كان السبب، فلم يتماشَ هذا مع عينَيه الواثقتَين الفاحصتَين.
قال سايمون: «من الصعب أن تجد به عيبًا، أليس كذلك؟»
كان برات مُستغرِقًا في إعجابه ببِنيته الجسدية، ولا يزال حائرًا بسبب ما رآه تصنُّعًا للخجل من جانب المُهر.
قال سايمون: «إن له واحدًا من أجمل الرءوس التي رأيتُها على حصان في حياتي. انظر إلى عظامه.» وأدار الحصان. «وذو حركة رائعة، أيضًا.»
ظلَّ برات ينظر في صمتٍ وإعجابٍ وحيرة.
قال سايمون، منتظرًا تعليق برات: «ماذا بك؟»
قال برات: «ألا يبدو متعجرفًا؟!»
ضحك سايمون.
«أجل، أظنه هكذا. لكن ليس من دون سبب.»
«أجل. إن له مظهرًا جذابًا فعلًا.»
«بل يفوق ذلك. فهو ركوبةٌ مُمتعة. إنه يستطيع القفز فوق أي حاجز حتى يكاد يلامس السماء.»
تقدَّم برات نحو الحصان وتودَّد إليه بحركاتٍ لطيفة. تقبل تيمبر اللفتة دون أن يستجيب. بدا سعيدًا لكن مع قليلٍ من الملَل.
قال برات: «لا بد أنه كان صداحًا.»
ردَّ سايمون: «صداحًا؟ آه، فهمت. الخيل المغرور.» تأمَّل الحصان من جديد. «أظنه معجبًا بنفسه نوعًا ما. لم يخطر ذلك في بالي من قبل. هل تودُّ أن تُجرب امتطاءه، بالمناسبة؟»
«أود ذلك بالطبع.»
«من المفترض أن يتدرَّب قليلًا اليوم لكنه لم يتلقَّ أيَّ تدريب إلى الآن.» نادى على أحد العاملين بالإسطبل. «آرثر، أحضِر سَرجًا لتيمبر.»
«أمرك يا سيدي. لجام مزدوج يا سيدي؟»
«لا؛ شكيمة.» وعندما انصرف العامل، وجَّه كلامَه إلى برات قائلًا: «له فمٌ كالقفاز.»
تساءل برات إذا كان مترددًا فحسب أن يُسلِّم ذلك الفم الرقيق إلى يدٍ خرقاء لشخص من الغرب الأمريكي يمسك بزمام كابح.
بينما كانوا يضعون السَّرج على تيمبر، ذهبا لتفقُّد «الفرسين الجديدتين» المتبقيتين. كانت إحداهما فرسًا طويلة الظهر ذات لون بني ضارب إلى الحُمرة، ولها رأس قوي وقائمتان خلفيتان («نهايتان قويتان تحلَّان محلَّ الخَصر.» على حد قول سايمون) وكان اسمها سكابا؛ والأخرى شيفرون، وكانت من نوعٍ راقٍ ولها لون كستنائي زاهٍ وعينان مضطربتان.
سأل برات بينما كان سايمون يعيد شيفرون إلى مقصورتها: «ما الحصان الذي تركبه؟»
أغلق سايمون النصف الآخر من الباب ثم استدار ليواجهه.
قال: «أعتقد أنك ربما تُحب أن تأخذ جولة بنفسك.» وعندما عُقد لسان برات لحظة، متفاجئًا من ضربة الحظ التي واتته، قال سايمون: «لا تدَعْه يتحمَّس أكثر من اللازم، وإلا سيثور عندما يهدأ.»
قال برات: «لا، سأعيده هادئًا.» ثم طوَّح رجلَه نحو الجهة المقابلة من أول حصان إنجليزي يمتطيه.
أخذ أحد السوطين اللذَين كان آرثر يمدُّ يدَه بهما نحوه ليختار منهما، ثم أدار الحصان نحو الزاوية الداخلية من الفناء.
سأل سايمون، وكأنه متفاجئ: «أين ستذهب؟»
أجاب برات، وكأن سؤال سايمون قد انطبق على اختياره للمكان الذي سيذهب للتجول فيه بالحصان: «نحو التل، على ما أظن.»
لو كانت البوابة في الجانب الشمالي الغربي من الفناء لم تَعُد تُفضي إلى الطريق المختصر المؤدي إلى التلال، لتعيَّن على سايمون أن يُخبرَه حينها. وإذا كانت لا تزال تؤدي إلى هناك، كان سيُصبح لدى سايمون شيء آخر للقلق بشأنه.
قال سايمون برقة: «لم تختَر سوطًا قويًّا لتغلق به البوابات. أم إنك ستقفز فوق كل شيء يصادفك؟» كانت نبرة صوته كأنما يقول، أنت راعي بقرٍ بارع.
قال برات برصانة وهدوء: «سأُغلق أنا البوابات.»
بدأ يُسيِّر تيمبر نحو زاوية الفناء.
قال سايمون، كمن أدرك شيئًا متأخرًا: «إن له حِيَله، عليك الحذَر منه.»
قال برات: «سآخُذ حذري منه.» ثم سار بعيدًا نحو البوابة الداخلية حيث كان آرثر ينتظره ليفتحها له.
ابتسم له آرثر بودٍّ ثم قال بإعجاب: «إنه حصان طائر ذلك الحصان يا سيدي.»
عندما انعطف إلى يمينِه نحو الممر الضيق تأمَّل دلالة تلك الصفة الإنجليزية البحتة. مرَّ زمن طويل منذ أن سمع أي شيءٍ يُنعت بصفة الطائر. كانت صفة «الطائر» تدل على «الروعة»، بالمفهوم الإنجليزي، وليس الأمريكي. كانت الطائر بالنسبة إليه صفةً تدل على الهامشية. كوب الشاي أو القهوة الذي يُشرَب سريعًا دونما إعداد. أو على شيء مخادع ينطوي في داخله على شيء من الذكاء.
كان تيمبر ذاك حصانًا طائرًا.
سار الحصان الطائر بهدوءٍ قاصدًا المسار بين المنحدرات الخضراء المكسوَّة بزهور البنفسج، وأذناه منتصبتان توقعًا لظهور العشب أمامهما. وعندما أبصرا البوابة عند النهاية البعيدة تراقص الحصان قليلًا. أوعزت إليه يدا برات بالتوقُّف، فتوقَّف في الحال. كان أحدهم قد ترك البوابة مفتوحةً، لكن نظرًا لوجود لافتة في منتصفها مطلية بدقة تقول «يُرجى غلق البوابة»، وجَّه برات تيمبر إلى الموضع المناسب لغلقها. بدا تيمبر على معرفة جيدة بالبوابات واستخداماتها مثلما يعرف جواد رعي الماشية استخدامات الحبل، لكن برات لم يسبق له قطُّ أن كان تحت يده حصان مُرهف وطيِّع بهذه الدرجة. كان تيمبر يمتثِل لأقِّل إشارة من يده أو كعبه مع غياب الاعتراض وبثقةٍ كانت جديدة على خبرة برات. خاض برات التجربة مع هذه القدرة الجديدة على التأقلم بدهشة وسرور. وتيمبر، حتى مع ظهور العشب أمامه، ومع وجوده أسفل قدمَيه، كان يتحرك بامتثالٍ ولطفٍ تحت يدَيه.
قال برات برقةٍ: «أنت مذهل!»
فأخذت أُذناه تتحركان نحوَه بحركةٍ سريعة.
قال: «أنت أعجوبة مُدهشة»، ثم ضمَّ ركبتَيه عندما اتَّجه لمواجهة التل. انطلق تيمبر يعدو على مهلٍ، قاصدًا الكتل الصغيرة من شجيرات الجولق والعرعر التي ميَّزت الأفق.
هكذا إذن يكون امتطاء خيلٍ إنجليزي أصيل، هكذا دار في خَلَده. هذا الوصال، أن تكون جزءًا من كيان كامل. هذه السلاسة. هذا السحر.
انزلق العشب القصير الأملس تحتهما، وكان من الغريب ألا يُرى تدفُّق ولو قليلٌ من الغبار عندما تضرب حدوةُ الحصان الأرض. إنجلترا، إنجلترا، إنجلترا، هكذا كان ينطق إيقاع حدوة الحصان وهي تضرب الأرض. كان كقرعٍ عذبٍ على العشب الإنجليزي.
لا أبالي، هكذا فكَّر، لا أبالي. أنا شخصٌ مجرمٌ ومُنحط، لكني نِلتُ ما أردت، والأمر يستحق العناء. بحق الرب، يستحقُّ العناء. ولو متُّ غدًا، فالأمر يستحق العناء.
وصلا إلى القمة المستوية للتلِّ وصارا في مواجهة الصفِّ المزدوج من الشُّجَيرات التي شكَّلت ممرًّا طبيعيًّا وعرًا، يصِل عرضُه إلى نحو خمسين ياردة، على امتداد قمة التل. كان هذا من الأشياء التي أغفل أليك لودينج عن إخباره به، ولم يكن ظاهرًا أيضًا على الخريطة. حتى هيئة المساحة لا يُمكنها ملاحظةُ شجيرات العرعر المتكتلة. فتوقف حتى يتأمَّلها. لكن تيمبر لم يكن في حالة مزاجية تدعوه إلى التأمُّل. فتيمبر كان يعرف كل شيء عن ذلك الامتداد المستوي من التل بين صفَّي الشجيرات.
قال برات: «حسنًا. لنرَ ما بوسعك أن تفعله»، وتركه يمضي.
كان برات قد ركب خيولًا طائرة من قبل. بل عشرات منها. ركب خيولًا عدَّاءة وربح أموالًا بها. كان يندفع بسرعةٍ اندفاعَ طائرة نفاثة. فلم تَعُد السرعة في حدِّ ذاتها تُدهشه. ما كان يُدهِشه هو رشاقة السير. كان الأمر يبدو وكأنه محمول في الهواء على ظهر حصانٍ مُعلَّق بلعبة دوَّامة الخيول.
تشتَّت الهواء العليل حول وجهه فدغدغ أذنَيه ثمَّ انطلق وراءهما، حاملًا رائحة العُشب المُشبع بالشمس ورائحتَي الجلد وشُجيرات الجولق. مَن يُبالي، مَن يُبالي، مَن يُبالي! هكذا نطقت القدمان الراكضتان. مَن يُبالي، مَن يُبالي، مَن يُبالي! هكذا نطقت الدماء المتدفِّقة في عروق برات.
لو مات غدًا لكان الأمر سيَّان عنده.
عندما وصلا إلى نهاية الممر الممتدِّ بدأ تيمبر في التوقف من تلقاء نفسه، لكن لم يكن من طبائع برات أن يسمح لحصانٍ باتخاذ القرارات، لهذا جعله يستمرُّ في السير، فأداره نحو نهاية الممر الأخضر جنوبًا، وحرَّكه بلُطفٍ نحو ممرٍّ ما، واستجاب تيمبر من دون اعتراض.
قال برات، مُمررًا أصابعه على العُرف الداكن: «عزيزي، أهناك خيول كثيرة مثلك في إنجلترا، أم إنك مُصنَّفٌ كخيلٍ مُميز؟»
أحنى تيمبر رأسه تأثرًا بملاطفته، لكن بإحساس مَن يَستوفِي حقَّه.
ولكن بينما كانا يسيران عائدَين على الجهة الجنوبية من السياج الأخضر الأشعث انصرف انتباه برات واهتمامه إلى امتداد الريف أسفل منهما. وفيما عدا أنه كان ينظر إليها بالمقلوب، إن جاز القول — أي كان يراها من الشمال، وليس من الجنوب مثلما تُرى بطبيعة الحال على الخريطة — كانت كلير كما عرفها أول مرة. كان كل شيءٍ مُمتدًّا تحت مَرآهُ بوضوحٍ ودقَّة كما وصفتها هيئة المساحة.
أسفل منه، إلى يساره قليلًا، كانت الأسقف القرمزية لمزرعة لاتشتس، مُقحمةً في المقصورات الأنيقة لحظيرة الخيول. وعلى مسافةٍ أبعدَ إلى اليسار كانت الكنيسة قائمة على تبَّتِها الصغيرة؛ وعلى يسارها مرة أخرى، كانت قرية كلير، على شكل مجموعةٍ من الأسقف وسط أشجارٍ خضراء باهتة. وعند مَوضع ارتفاع الأرض عن القرية ليُشكل الجانب الجنوبي من الوادي الصغير، كان كلير بارك؛ منزل أبيض طويل يَحتمي من عواصف القنال الإنجليزي الجنوبية الغربية بالمنحدَر القائم وراءه.
في الجهة المقابلة له مباشرةً ارتفع ذلك الجزء المرتفع ليصير نسخةً أصغر حجمًا وأكثر وُعورة من التلِّ الذي كان يقف عليه؛ فكان تلًّا أخضر منخفضًا يُدعى تانبيتشس. كان عبارة عن مرعًى مفتوح مُمتد، يُميزه في منتصف الطريق مَحجرٌ قديم صار مُحاطًا بالعشب جعله أشبه بندبة خضراء، وتُكلِّله أشجار الزان. لم يكن هناك سوى سبع أشجارٍ من الزان في ذلك الوقت بدلًا من عشر، لكنَّ تكتلات الأشجار شكَّلت قمةً جمالية مُبهجة للجانب الجنوبي من الوادي.
أما الجانب الآخر من تل تانبيتشس، كما عرف من الخرائط، فامتدَّ بعيدًا في هيئة منحدَرٍ سهلٍ مسافةَ ميلٍ ونصف الميل حتى المنحدرات الصخرية. تلك المنحدرات التي أنهى عندها باتريك آشبي حياته. وراء التل الأكثر انخفاضًا في الوادي، على التل المقابل لتلة كلير بارك، كانت المزارع التي ظهرت على نحوٍ يصعُب ملاحظتها في نطاقِ ميلٍ أو ميلَين داخل ضواحي ويست أوفر. في الوادي الصغير الذي ميَّز تلةَ كلير بارك عن تل تانبيتشس كان هناك مسارٌ مؤدٍّ إلى الساحل. المسار الذي سلكه باتريك آشبي في مثل ذلك اليوم منذُ ثماني سنوات.
باتت الصورة فجأةً أكثرَ واقعية له من أي وقتٍ مضى حتى الآن: هذه الفاجعة التي كان يستغلُّها لصالِحِه. بل باتت أكثرَ واقعية عما كانت عليه في الجناح الذي عاش فيه باتريك. كان هناك في المنزل علاقات أخرى غير باتريك: علاقات أكثر حضورًا وحيوية. كانت هناك مُشتِّتات التواصُل الإنساني وحاجته الشخصية إلى التحلي بالحذر دائمًا. هنا في العراء والعزلة تجلَّى واقعٌ لم يتجلَّ من قبل قط. فعبْر ذلك المسار الشارد الممتدِّ على الجهة الأخرى من الوادي رحلَ صبيٌّ، مشحونًا بالبؤس لدرجةِ أن هذا العالم الإنجليزي بخَضَاره البهي لم يَعنِ له شيئًا. كان يملك خيولًا مثل تيمبر، وأصدقاء وعائلة، ومكانًا ينتمي إليه، ومع ذلك لم يعنِ له كل هذا شيئًا.
ولأول مرة وهو في عُزلته تلك أدرك برات بذاته فاجعةً أخرى. عندما أخبره لودينج بالقصة في أول مرة، في تلك الحانة بلندن، لم يشعر بشيءٍ سوى بالازدراء لهذا الصبيِّ الذي ملك الكثير ولم يستطِع الاستغناءَ عن ذلك الشيء الإضافي البسيط. مسكين، هكذا جال بخاطره. ثم أحضر لودينج تلك الصور إلى حديقة كيو، وأراه باتريك، وحينها ساوره ذلك الشعور العجيب بالتماهي، ذلك الشعور بالتحيُّز إليه.
قال لودينج، وقدماه تستندان بأريحية على سور الحديقة، وقد ناوله الصورة: «ذلك بات آشبي. كان في عمر الحادية عشرة تقريبًا هنا.» كانت صورة التُقِطت بكاميرا من طراز براوني تو إيه، وقبِلها برات بفضولٍ حقيقي لكنه غير مُلِحٍّ.
لكن بات آشبي لم يكن «المسكين» المجهول الذي كان يحتفظ بصورته في ذهنه حتى الآن. إنما كان شخصًا حقيقيًّا. شخصًا حقيقيًّا جديرًا بالحب. شخصًا شعر برات أنه كان سيُصبح أثيرًا لدَيه. وهكذا تحوَّل عداؤه الغامض لباتريك إلى تحزُّب وتعاطف.
غير أن شعوره بالأسى نحوَه لم يكن له وجود حتى تلك اللحظة من السكون التي حظِيَ بها فوق لاتشتس.
جاء صوت صلصلة خافت من الوادي؛ فجالت عينا برات إلى أسفل من تل تابيتشس إلى الكوخ الواقع عند سفحه. كان ذلك هو كوخ الحدَّاد. كان يقع على بُعد ربع ميل غرب القرية. كان يظهر على الخريطة في شكلِ مُربعٍ صغير أسود على جانب الطريق؛ أما في تلك اللحظة فكان عبارة عن مبنًى صغير له مدخنة سوداء يصدر ساكنه أصواتًا موسيقية بمطرقة.
كان المشهد برُمته يُشبه كثيرًا الفيلم الذي اكتسب منه لغته الفرنسية المتواضعة. «ها هو ذا الحداد» (فوالا لو فورجيو). لم يكن ينقصُه سوى كاهن من الكنيسة. وساعي بريدٍ على دراجة يسير بين ورشة الحدَّاد والقرية.
انزلق برات من فوق ظهر تيمبر، وبحكم عادةٍ راسخة لدَيه منذ زمنٍ طويل أرخى رباط السَّرج وكأنه كان على متن الحصان لساعات، ثم جلس مُولِّيًا ظهره شجيراتِ الجولق والعرعر ليُمتِّع عينَيه بهذا المشهد الأوَّلِي للريف الإنجليزي.