الفصل الخامس عشر

مرَّت السُّحب الكبيرة ومضت، وومض ضوء الشمس وهرب، واقتربت الرياح الهادئة الحائرة من أشجار العرعر ثم ابتعدت عنها فأثارت أصوات حركة سريعة هادئة في العشب. وأصدر تيمبر أصواتًا قليلة بشكيمته، وقطع بعض العشب بأسلوبٍ حذرٍ ومتعجرف. بينما انغمس برات في خدَر السعادة والمتعة وتوقَّف تمامًا عن التفكير بعقلٍ واعٍ.

أفاقه اندفاعٌ سريعٌ لرأس تيمبر لأعلى، وفي اللحظة نفسها تقريبًا جاء صوتٌ نسائي من خلفِه قائلًا، وكأنها ترنيمة مقفَّاة:

«لا تلتفت،

لا تتحرك،

أغلق عينيك،

وخمِّن مَن أنا.»

كان صوتًا لندنيًّا نوعًا ما، وكان يقطر مكرًا.

مثل أي شخصٍ آخر في مثل هذه الظروف امتنع برات عن تلبية الأمر تلقائيًّا. نظر حوله ليجد أمامه وجهَ فتاةٍ في السادسة عشرة أو نحو ذلك. كانت فتاة ضخمةً ممتلئة، ذات شعر كستنائي لامع وعينَين زرقاوَين جاحظتَين. كانت العينان مُميزتَين بقُدرتهما على إظهار النَّهم والبلادة في آنٍ واحد. وعندما التقتا بعينَي برات كادتا تخرجان من محجريهما.

قالت الفتاة بصوت قارب الصراخ: «يا إلهي». وأردفت: «حسبتُك سايمون. أنت لست هو!»

وافقها برات، وقد همَّ بالوقوف على قدمَيه: «نعم، لست هو.»

لكن قبل أن يتمكن من الحركة كانت قد هوت على العشب بجواره.

«يا إلهي، لقد صدمتني. أظن أني أعرف مَن أنت. أنت الأخ الغائب منذ زمنٍ طويل، أليس كذلك؟ لا بد أنك هو؛ تُشبه سايمون كثيرًا. هذا هو أنت، صحيح؟»

قال برات إنه هو.

«حتى إنك ترتدي النوع نفسه من الملابس.»

قال برات إنها ملابس سايمون. «أتعرفين سايمون؟»

«بالطبع أعرفه. أنا شيلا بارسلو. إحدى تلميذات المدرسة الداخلية في كلير بارك.»

«أها.» مدرسة المراوغين، كما أسمَتها إلينور. المكان الذي لم يكن فيه أحدٌ مُضطرًّا إلى تعلُّم جدول العدد تسعة.

«أبذل قصارى جهدي لأُقيم علاقة مع سايمون، لكنها مهمة عسيرة.»

لم يكن برات يعرف الردَّ اللائق على ما قيل، لكنها لم تكن بحاجة إلى أي تشجيع لمواصلة الحديث.

«عليَّ أن أفعل شيئًا حتى أُنعش الحياة في كلير بارك. لا يُمكنك أن تتصوَّر الملَل القاتل فيها. لا يمكنك أن تتصوَّر حقًّا. لا يُوجَد شيء — ولكني لا أقصد «شيئًا» بذلك — أنت ممنوع من فِعله. ذات مرةٍ شعرت بيأسٍ شديد دفعني إلى خلع ملابسي بالكامل واتجهت نحو مكتب سيدريك — سيدريك هو قائدنا، لكنه لا يُحب أن يُطلَق عليه رئيس، لكن هذا دوره بالطبع — دخلت وأنا لا أرتدي شيئًا، عارية تمامًا، ولم يقُل سوى: «هل خطر ببالك يومًا اتباع حمية غذائية، يا عزيزتي شيلا؟» سدَّد نظرةً إليَّ فحسب ثم قال: «هل خطر ببالك يومًا اتباعُ حمية غذائية؟» ثم مضى يبحث عن أصلي وفصلي. دائمًا ما يبحث عن الأصل والفصل. لا تحظى حقًّا بفرصة كبيرة للوصول إلى كلير بارك إلا إذا كان والدك من الصفوة. أو والدتك، بالطبع. لم يكن أبي من الصفوة، لكنه كان من أصحاب الملايين، هكذا كان أبي، وهذا بديلٌ وافٍ تمامًا. فالملايين مدخلٌ جيد للغاية، أليس كذلك؟»

فقال برات إنها من المُفترَض أن تكون كذلك.

«لوَّحتُ بملايين أبي أمام سايمون؛ فهو يُكِن احترامًا جمًّا لأي استثمارٍ مُجدٍ وأملتُ أن يُعزِّز ذلك من جاذبيتي في عينَيه، إن صحَّ القول؛ لكن سايمون متغطرس مريع، أليس كذلك؟»

«أهو كذلك؟»

«ألا تعرف؟»

«لم أُقابله سوى اليوم.»

«أها، بالطبع. لقد عُدت لتوك. يا له من أمرٍ شائق لك. أتفهم أن سايمون ليس مبتهجًا كثيرًا بالطبع، لكن لا بد أن الأمر مُشوِّق لك أن تحلَّ محلَّه.»

تساءل برات إن كانت هي أيضًا قد تلذَّذت بتعذيبه.

«ربما صارت لي فرصة أكبر مع سايمون بعد أن جرَّدتَهُ أنت من ثروته. سيكون عليَّ أن أترصَّده في مكانٍ ما وأرى. حسبتُ أني أترصَّده الآن، عندما رأيت تيمبر. فهو غالبًا ما يأتي هنا لأنه مكانه المُفضَّل لتدريب الخيول. إنه يكره تانبيتشس.» ثم حرَّكت ذقنها فجأةً نحو الجهة المقابلة للوادي. «وهذا مكان مناسب للانفراد به. لهذا أتيتُ إلى هنا أملًا في أن يُحالفني الحظ، ثم رأيت هذا الحيوان الأسود، فظننتُ أنه صار تحت قبضتي. لكنه لم يكن إلا أنت.»

قال برات بوداعة: «أعتذر لك.»

نظرت إليه في تأمُّل.

قالت: «أظن أن محاولة إغوائك بدلًا منه غير مُجدية؟»

«أخشى أنها كذلك.»

«أهذا لأني لستُ نوعك المُفضَّل، أم إن هذا ليس توجُّهك؟»

«أخشى أنه ليس توجُّهي إلى حدٍّ كبير.»

قالت موافقة إيَّاه: «نعم، أظنك كذلك. لك وجهٌ يُشبه الرهبان. من المُضحك أنك تُشبه سايمون كثيرًا لكنك مختلف عنه تمامًا. سايمون ليس به أي شيءٍ من الرهبان، كما بوسع ابنة جيتس التي تعيش هناك في ويجسيل أن تُخبرك. لقد صنعتُ دمًى لابنة جيتس وغرزت فيها دبابيس على سبيل السحر، لكن الأمر لا يُجدي نفعًا. لا تزال متوردةً مثل زهرة فاونيا لفحتها الشمس وتفتنُهُ مثل شريط صائد للحشرات.»

كانت هي نفسها أشبه بزهرة فاونيا مزدهرة، هكذا فكَّر وهو ينظر إلى ثغرها المتورد الندي والأزرار التي تشدُّ ملابسها حول صدرها الممتلئ. لكنها كانت زهرة ذابلة ومُحبَطة بعض الشيء في تلك اللحظة.

سأل برات: «هل يعرف سايمون أنكِ مُغرمة به؟»

«مُغرمةٌ به؟ لستُ مغرمة به. لا أعتقد أنني أُحبه مطلقًا. أريد فقط أن أُقيم علاقة معه لأُضفِيَ بهجةً على هذه الفترة قليلًا. إلى أن أتمكَّن من مغادرة هذا المكان الممل.»

سأل برات بعقلانية: «إذا لم يكن بوسعك فِعل أي شيءٍ تُحبينه، لِمَ لا يُمكنك المغادرة الآن؟»

«حسنًا، لا أريد أن أبدوَ حمقاء كثيرًا، كما تعرف. كنت أرتاد مدرسةً في لينج آبي، وأحلت المكان جحيمًا حتى يُضطر أهلي إلى إبعادي وإرسالي إلى هنا. ظننتُ أني سأقضي أجمل أوقات حياتي هنا، بلا دروس، ولا جدول للحصص، ولا قواعد ولا أي شيء. لم يكن لديَّ فكرة أنه سيكون مضجرًا إلى هذا الحد. أكاد أبكي من فرط الملل.»

«ألا يُوجَد أحدٌ في كلير بارك يمكن أن تتَّخِذيه بديلًا عن سايمون؟ أقصد شخصًا أكثر … أكثر لطفًا؟»

«لا، ألقيتُ نظرةً عليهم في البداية. جميعهم نحفاء وغزيرو الشعر ومثقفون. هل لاحظت من قبل كيف يميل المثقفون إلى الشعر الطويل؟ بعض الناس يستمتعون بهذا المنظر المثير للاشمئزاز، لكني لستُ من هؤلاء. أحبُّهم وُسَماء. ولا بد أن تقرَّ بأن سايمون وسيم للغاية. كان هناك مساعد بستاني في لينج آبي على القدْر نفسه من الوسامة تقريبًا، لكنه كان يفتقر إلى ذلك الشكل المُبهر الذي يخطف الأبصار الذي يتمتع به سايمون.»

«ألم يكن مساعد البستاني سببًا كافيًا للبقاء في آبي؟»

«لا، لقد فصلوه من العمل. كان ذلك أسهلَ عليهم من طردي وإثارة فضيحة. لكنهم اضطروا إلى طردي في جميع الأحوال؛ لذا ربما كان من الأفضل أن يحتفظوا بألبرت المسكين. كان أمهرَ بكثيرٍ في التعامُل مع أزهار اللوبيليا عن التعامل مع الفتيات. لكن بالطبع لم يكن متوقعًا منهم أن يعرفوا ذلك. أظنك لن تثنيَ عليَّ بكلمة أمام سايمون؟ سيكون من المؤسف أن يضيع كلُّ ما تكبَّدته من عذاب أثناء محاولتي إثارة إعجابه.»

«عذاب؟»

«ألا ترى أني تحمَّلت ساعاتٍ على تلك الحيوانات المريعة لمجرد التسلية فحسب؟ وفي وجود أخته العجفاء الباردة التي تنظر إليَّ بازدراء. تبًّا، نسيت: إنها أختك أنت أيضًا، أليس كذلك؟ لكنك ربما أطلتَ الغياب لدرجةٍ لا تجعلك تُفكِّر فيها مثلما يفكر صبي في أخته.»

قال برات: «بالتأكيد لا أفكِّر فيها هكذا»، لكنها لم تكن تنصت إليه.

«أظنك تركب الخيول منذ أن استطعت الحبو، وليس لديك أي فكرة كيف يبدو الأمر حين يرتطم جسدك على ظهر شيء مرتفع كثيرًا عن الأرض يبدو كجبل مهيب بلا معالم، وليس لديك شيء لتتشبث به. يبدو الأمر سهلًا للغاية عندما يفعله سايمون. فالحصان يبدو لطيفًا للغاية وعرْض ظهره ضيق عندما تكون واقفًا على الأرض. تظن أن بإمكانك ركوبه مثلما تركب الدراجة. فقط عندما تصعد تكتشف أن عرْض ظهره يصل إلى أفدنة ولا يسعك أن تُصدر أي انطباعٍ نهائيًّا وأنت على صهوته. ليس عليك سوى الجلوس والارتطام، وتنزلق رجلاك إلى الخلف والأمام بدلًا من أن تظلا ثابتتَين مثل رجلَي سايمون، ثم تُصيبك بُثُور كبيرة تُعجِزك عن الجلوس في حوض الاستحمام لأسابيع. لا تبدو شبيهًا بالرهبان بتاتًا عندما تبتسم قليلًا.»

ألمح برات إلى أنه كان هناك بالتأكيد طرقٌ أفضل لجذب اهتمامٍ مُرضٍ من تجربة شيء لا تملِك فيه أي خبرة بينما الشخص الذي تسعى وراءه قد وصل فيه حدَّ الإتقان.

«لم أكن أعتقد أنني كنت سأجذبه بهذه الطريقة. لقد منحني ذلك مبررًا للوجود في الإسطبلات فحسب. فتلك الأخت … أقصد أختك لا تطيق التسكع حول المكان إذا لم يكن لك شأن هناك.»

فكَّر: «أختك»، وأعجبه وقع الكلمة.

لقد صار لديه ثلاث أخوات الآن، اثنتان منهن على الأقل كانتا من النوع الذي كان ليتمناه. في ذلك الحين كان عليه أن يرحل ويلتقيَ بهنَّ كي يتعرَّف إليهن أكثر.

قال وهو ينهض واضعًا اللجام على رأس تيمبر: «أخشى أني مُضطر إلى الرحيل.»

قالت وهي تُشاهده يُحكِم الحزام: «أتمنَّى لو لم تكن مضطرًّا إلى ذلك. أنت ألطف شخص تحدَّثت إليه على الإطلاق منذ قدومي إلى كلير. من المؤسف أنك لستَ مهتمًّا بالنساء. ربما يمكنك أن تقطع علاقة سايمون بابنة جيتس، وعندئذٍ سيكون لدي فرصة أكبر معه. هل تعرف ابنة جيتس؟»

قال برات، وهو يصعد على ظهر تيمبر: «لا.»

«حسنًا، ألقِ نظرة عليها. إنها في غاية الجمال.»

قال برات: «سأفعل ذلك.»

«أما وقد عُدت إلى الوطن، فأظن أني سأصادفك في الإسطبلات.»

«أتوقَّع ذلك.»

«ألا تودُّ أن تُعطيَني حصةً من دروسي بدلًا من أختك؟»

«أخشى أنه ليس مجال اختصاصي.»

قالت وقد بدت متقبلةً للأمر: «حسنًا، لا بأس. تبدو جذابًا للغاية على ذلك الخيل. أظن أن ظهره عريض جدًّا أيضًا. جميعهم كذلك. إنها مؤامرة.»

قال برات: «إلى اللقاء.»

«أتعلم، أنا لا أعرف اسمك. أخبرَني أحدهم به بالطبع، لكني نَسيتُه. ما هو؟»

«باتريك.»

وعندما نطق بالاسم عاد بذهنه إلى المسار في الجهة المقابلة من الوادي، ونسي الآنسة بارسلو في لمح البصر. عدا بالخيل إلى الخلف ببطءٍ عبْر قمة التل حتى وصل إلى نفس المستوى مع لاتشتس، ثم بدأ في توجيه تيمبر جنوبًا. أسفل منه، كان ثمة طريق أخضر يمرُّ بحظائر الخيول متجهًا نحو الجهة الغربية من المنزل ومنها إلى الامتداد المفروش بالحصى في واجهته. من ذلك الطريق جاءت جين صباح ذلك اليوم، عندما أربكها استقباله عند الباب الأمامي. كانت البوابة المؤدية إلى الطريق مفتوحةً، وكانت البوابة في وضعٍ مستوٍ مع العوارض المتينة للحظيرة المتينة المحاذية للطريق. سار برات حتى النقطة التي استحال فيها مَيَلان التل إلى أرض منحدرة انحدارًا خفيفًا، ثم دفع تيمبر ليعدوَ ببطء. كان النفق الأخضر للطريق بأرضيته الناعمة مفتوحًا أمامهما، ولم يكن ينوي أن يفسد عليه الطريق بالتوقف لغلق بوابة أخرى كان شخصٌ آخر قد تركها مفتوحة.

لم يكن السبب في تأخُّر قدمِه اليسرى خمس دقائق كاملة هو عدم إجادته ركوب الخيل. بل كان ذلك يعود كليًّا إلى السنوات التي قضاها في ركوب الخيل بعنفٍ وخشونة، مما جعل استجاباته الجسدية أسرعَ من فكره الواعي. كان الانحراف مفاجئًا تمامًا وحماسيًّا حتى إن السياج الأبيض كان يحتكُّ بالسَّرج في الموضع الذي يُفترض أن تكون فيه رجله، قبل أن يُدرك أن رجله لم تكن هناك. فقد أبعدها قبل أن يسنح له الوقت بالتفكير في ذلك.

عندما ابتعد تيمبر عن قضبان السياج أرخى ظهرَه في مقعد السَّرج وأوقف الحصان. فتوقَّف تيمبر مُطيعًا.

قال برات، وهو يزفر نفسه المحبوس: «فوو!» خفض بصره إلى تيمبر الذي وقف في براءة وخجل في منتصف الطريق بالضبط.

فقال متندرًا: «مشاكس أنت.»

ظل تيمبر خجلًا لكنَّ أذنَيه كانتا مُنصتَتَين إليه. فكَّر برات أن ما حدث شيء تافه على نحوٍ يثير القلق.

قال برات: «أعرف رجالًا كانوا سيضربونك ضربًا مبرحًا على ذلك»، ثم أنزل أنف الحصان إلى أسفل مرةً أخرى. تراجع تيمبر في خطواته طائعًا، لكن كان واضحًا أنه غير راضٍ في قرارة نفسه. عندما كان بعيدًا بما يكفي عن البوابة قاده برات مرةً أخرى نحو فتحة النفق. لم يكن لدَيه مهماز ولا لجام، لكن انتابه الفضول أن يرى ماذا سيفعل تيمبر هذه المرة. انطلق تيمبر، كما توقَّع، بأدبٍ ليدخل إلى الطريق، متوسطًا المسافة بين كِلا السياجَين بمنتهى الدقة.

بدا وكأن لسان حاله يقول: «ماذا، أنا! أنا أفعل شيئًا كهذا عن عمد؟ أنا، بأخلاقي المثالية؟ بالطبع لا. لقد اختلَّ توازُني وهلةً فحسْبُ عند دخولي الطريق. هذا يحدث لأفضل الناس.»

فكَّر برات، جاذبًا إيَّاه نحو السير: «لا بأس، لا بأس.» ثم قال بصوتٍ عالٍ، مُسيِّرًا إياه عبْر الطريق: «تظن نفسك ذكيًّا. خيول أشدُّ ذكاءً منك حاولت الإطاحةَ بي من فوق صهواتها، صدِّقني. لقد أطاحت بي خيول كفيلة بأن تجعل قيمتك لا تتجاوز قيمة حلوى بخمسة سنتات.»

اهتزت الأذنان السوداوان، مُنصتتَين إليه، تحلِّلان درجةَ صوته ونبرته؛ فأصابتهما الحيرة.

اقتربت الأفراس من السياج لتشاهدهما وهما يمران، مسرورة من هذا الحدث الصغير الذي اقتحم حياتها الهادئة؛ أما المهور فأخذت تدور وتدور في حماسةٍ اشتعلت بداخلها من تلقاء نفسها. لكن تيمبر لم يلتفت إليها. كان قد فقد أيَّ اهتمامٍ فعليٍّ بالأفراس في مرحلةٍ عمرية مبكرة للغاية، وبدا جلُّ اهتمامه في تلك اللحظة بأن هناك مَن فاقه ذكاءً، وأن الشخص الذي فاقه ذكاءً قد أصدر أصواتًا لم يفهمها. كانت أذناه، اللتان كانتا من المفترض أن تنتصبا لمجرد فكرة اقترابه من الإسطبل، مُضطربتَين ومتسائلتَين.

سار برات نحو الجهة الأمامية من المنزل، مثلما فعلت جين ذلك الصباح، لكنه لم يرَ أحدًا. فاستكمل طريقَه إلى الإسطبلات فوجد إلينور تتجوَّل فقط بحصانٍ للنقل، بعد أن انتهت من إعطاء توني درسَه وتركته في كلير بارك.

قالت: «مرحبًا! هل كنت في الخارج مُمتطيًا تيمبر؟» بدت متفاجئة قليلًا. ثم أردفت: «أرجو أن يكون سايمون حذَّرك منه.»

«أجل، أشكركِ، حذَّرني.»

قالت بأسفٍ، وهي تنظر إلى تيمبر وهما يسيران جنبًا إلى جنب نحو الفناء: «إحدى صفقاتي غير الموفَّقة.»

فقال: «صفقاتك أنتِ؟»

«أجل. ألم يُخبرك سايمون بذلك؟»

«لا.»

«كان ذلك لطفًا منه. أتوقَّع أنه لم يُرِد أن تكتشف مدى حماقة أختك مبكرًا هكذا.» وابتسمت له قليلًا، كأنها كانت سعيدة لكونها أخته. «اشتريته من مزاد لريدج هانت. كان تيمبر هو الذي قتل فيلكس العجوز. فيلكس هانتستانتون العجوز، صاحب الخيول، كما تعرف. هل أخبرك سايمون؟»

«لا. لا، أخبرني فحسب عن حيَله.»

«كان فيلكس العجوز يملك بعضَ الخيول الماهرة، وعندما عُرِضت للبيع اتجهتُ إلى هناك لأرى ما يمكنني اختياره منها. لم يكن أيٌّ من زبائن لرديج هانت الدائمين يزايد على تيمبر، لكني ظننتُ أن ذلك ربما يكون لشعورٍ وجداني. ظننتُ أنهم ربما لم يريدوا امتلاكَ الحصان الذي قُتل عليه سيده. وكأن هناك تدخلًا للعاطفة في تجارة الخيول! لم يكن ينبغي أن أُترك للتصرُّف بمفردي. ومع ذلك، كان عليَّ أن أتساءل لمَ اشتريتُه بثمنٍ زهيد هكذا، رغم هيئته ونَسَبه وأدائه. ولم نكتشف إلا بعد شرائه أنه قد فعل الشيء نفسه مع الصياد بعد أيام قليلة، كلُّ ما في الأمر أن الأغصان كانت صغيرة وانكسرت وأدَّت إلى موته، ولكن لم يضربه على رأسه أو يجرجره.»

قال برات، الذي بدأ الحديث: «فهمت.»

«على ما يبدو أن لا أحد كان بحاجةٍ إلى الإقناع. فلم يُصدِّق أحدٌ ممن كانوا هناك عندما قُتل فيلكس أنه كان مجرَّد حادث. كان في تجمُّعٍ لصيد الثعالب في لريدج كاسل، وقد عثروا على فريسة في إحدى غابات لريدج وظلوا يطاردونها عبر الغابة بأكملها. كانت منطقةً ريفيةً جيدة ومفتوحة بها أشجار منعزلة. ولكن تيمبر أخذ فيلكس تحت إحدى أشجار البلوط، وتلقَّى ضربةً بشعة، ومات قبل أن يرتطم بالأرض. لكننا بالطبع لم نعلَم بكل ذلك إلا لاحقًا. كلُّ ما كنت أعرفه حين تقدَّمتُ لشرائه من المزاد أن رأس فيلكس قد ارتطم بغصن شجرة أثناء الصيد. وهو شيء يحدُث للناس منذ عهد ويليام روفوس.»

«هل شاهد أحدٌ ما حدث بالفعل؟»

«لا، لا أظن ذلك. كان الجميع يعرف فقط أن وسط كل هذا المتنزَّه الرحيب لم يكن فيلكس ليختار السير بالخيل تحت شجرة بلوط. وعندما حاول فِعل الشيء نفسه مع سامس الصياد، لم يكن هناك أدنى شك في أنه مَن فعلها. لهذا وُضع في مزادٍ مع بقية المجموعة وتجمَّع كل زبائن لريدج في صمت يشاهدون إلينور القادمة من كلير تشتري مُهرًا.»

قال برات مُمسدًا عنق تيمبر: «لكنه مُهر أنيق للغاية دون شك.»

قالت إلينور: «إنه مُهر جميل.» ثم أضافت ولا تزال ترمق صفقتها غير المُوفَّقة بعينٍ حائرة: «ووثَّاب لا غبار عليه. هل جعلته يقفز اليوم بأي حال؟ لا؟ لا بد أن تفعل ذلك المرة القادمة. إنه صاحب الوثبة الأكثر أمانًا لأن عقله مُشتَّت. فليس لدَيه وقت لتدبير أي شغب مؤذٍ. أمر غريب، أليس كذلك؟ لا يبدو عليه أنه غير جدير بالثقة.»

«لا.»

أدركت نبرة الصوت ثم قالت: «لا تبدو واثقًا من ذلك للدرجة.»

«حسنًا، لا بد أن أُقرَّ بأنه أكثر الخيول التي قابلتُها غرورًا على الإطلاق.»

بدت الفكرة جديدة بالنسبة إلى إلينور مثلما كانت جديدة بالنسبة إلى سايمون.

«مختال بنفسه، أليس كذلك؟ أجل، أظنه كذلك. أتوقَّع أن يُصيبني الغرور لو كنتُ خيلًا وكان لي ما يكفي من الذكاء لقتل رجل. هل حاول القيام بأي حِيَلٍ اليوم؟»

«انحرف عند مدخل الطريق، لكن لم يفعل شيئًا خلاف ذلك.» لم يذكر أنه استغل أول قطعة خشب متينة ليسحق رجلي فيها. فقد كان ذلك شيئًا بينه وبين الحصان. فهو وتيمبر بينهما معرفة طويلة، وبينهما الكثير ليُفضيا به بعضهما إلى بعض.

قالت إلينور: «يتصرف كملاكٍ أغلب الوقت. ذلك هو الشيء المؤذي فيه. سبق لنا جميعًا أن ركِبناه؛ سايمون وجريج وآرثر وأنا، ولم يُسئ التصرف إلا مرتَين. إحداهما مع سايمون والأخرى مع آرثر.» ثم أضافت بابتسامة: «لكننا بالطبع كنا ننأى بأنفسنا دائمًا عن الأشجار.»

«سيُحقق نجاحًا في الصحراء. حيث لا أسيجة ولا أغصان تتخلل الرحلة.»

نظرت إلينور بحزنٍ إلى الخيل الأسود بينما كان برات يسحبه ليسمح لها بأن تسير أمامه نحو الفناء. ثم قالت: «أتوقَّع أنه سيختلق حيلةً أخرى.»

ووافقها برات الرأي، مُمعنًا التفكير فيما قيل. كان تيمبر خيلًا نادرًا وسط الخيول: مشاغب متأنٍّ وذكي. حين يتوقف عن مرحه المعتاد، كان يختلق شيئًا جديدًا. لم يكن تيمبر بكائنٍ يُستَهانُ به.

ولم يكن سايمون يُستهان به. لقد أرسله سايمون على صهوة خيلٍ مشاغب سيئ السمعة، مع ملاحظة بسيطة عن الخيل بأن «له حِيَله.» كانت حيلةً بارعة لارتكاب جريمة قتل غير متعمَّد بالوكالة لم يأتِ بها أحد من قبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤