الفصل الحادي والعشرون
رافق سايمون السيد ساندال إلى المحطة عصر اليوم، وعندما غادرا قالت بي: «إذا كنت تريد تجنُّب أي اجتماعيات عصر اليوم، فسأتولى عنك الأمر. فلديَّ سجلات حسابات ينبغي أن أتعامل معها، على أي حال. ربما تودُّ أن تأخُذ أحد الخيول وتخرج مع إلينور. أظنُّها قد عادت إلى الإسطبلات.»
أشياء قليلة في الحياة كان برات سيُحبها قدْرَ حُبه لركوب الخيل مع إلينور، لكن كان هناك شيء واحد أراد أن يفعله بشدة. لقد أراد، في هذا اليوم الذي كان من المُفترَض أن يتسلَّم فيه بات آشبي إرثَه، أن يتَّجِه نحو تل تانبيتشس مُتخذًا المسار الذي اتخذه بات في آخر يومٍ من حياته.
قالت روث: «أريد الذهاب مع برات»، ولاحظ أن جين تتباطأ لسماع نتيجةِ هذا الاقتراح، وكأنها من المُحتمَل أن تأتيَ هي الأخرى. لكن بي قضت على الاقتراح. فقالت إن برات قد قضى ما يكفي من الوقت مع العائلة.
احتجَّت روث قائلة: «لكنه سيذهب مع إلينور!»
لكن برات نفى ذلك. فقد كان ذاهبًا للتمشية بمفرده.
تجنَّب طريق المنزل المحفوف بالأشجار، تحسبًا للقاء زائرين قاصِدين المنزل، واتجه من الإسطبلات إلى الطريق. في واحدٍ من الإسطبلات الذي كان يَحُدُّ طريق المنزل كانت إلينور تُدرِّب مُهرًا بُنيًّا ضاربًا إلى الحمرة وتُحركه في دوائرَ كبيرة بواسطة حبلٍ. وقف تحت الأشجار وراح يُراقبها؛ راقب صبرها الحليم، وبراعتها في التحكُّم في مُهر حائر وحرون، والطريقة التي تمكَّنَت بها، حتى عند طرف لجام طويل، من بثِّ الطمأنينة في نفسه. تساءل إن كان ذلك الطبيب يعرف أيَّ شيءٍ عن الخيول.
أبهجه العشب في تانبيتشس. لم يحظَ بعُشب مثل ذلك تحت قدمَيه منذ كان طفلًا. سار على مهلٍ إلى أعلى، مُستنشقًا رائحة العشب ومراقبًا ظلال السُّحب المهيبة تمر سريعًا أمام الريح. انتقل من المسار نحو قمة أشجار الزان على قمة التل. إذا صعد هناك فسيتمكَّن من رؤية انحدار الريف بأكمله حتى حافة المنحدر؛ الريف الذي كان بات آشبي يتشاركه مع طيور القُبَّرة.
عندما صار على مستوًى واحد مع كتلة الشجيرات والأشجار الصغيرة الخضراء التي ميَّزت المحجر القديم، وجد رجلًا عجوزًا يجلس في مأواه يأكل قطعًا يابسةً من الخبز والمُربَّى، فحيَّاهُ عندما مر به.
قال العجوز بأسلوبٍ فظ: «فخور بنفسك، أليس كذلك!»
استدار على عقِبَيه ونظر مُحدقًا.
«لا شك أن السفر إلى الخارج يرتقي بالناس ويجعلهم أكثر وسامةً وتأنقًا.»
وأخذ قضمة أخرى كبيرة وتفحَّص برات من أسفل اللباد البالي لقُبعته.
«لا أعرف كم من الأعشاش لم تكن لتراها لولاي.»
قال برات: «آبل!»
قال العجوز على مضض: «حسنًا، إلى حدٍّ ما.»
قال برات: «آبل!» وجلس بجانبه. ثم أردف: «سرَّني لقاؤك!»
قال آبل لكلبِه الذي خرج من تحت معطفه ليتشمَّم الوافد الجديد: «كف عن ذلك!»
«آبل!» كان بالكاد يُصدِّق أن مَن كان اسمه بالأمس يشغل مجلدات الجريدة ماثلٌ هنا أمامه بشحمه ولحمه.
بدأ آبل يُظهِر دلائل الرِّضا عن هذه الحماسة التي لا يَعتريها شكٌّ تجاه رفقتِه، وأقر بأنه كان قد تعرَّفه من بعيد. «أنت أعرج، صحيح؟»
«قليلًا.»
«كُسرت ساقك؟»
«أجل.»
قال آبل، مُستحسنًا تقبُّله المقتضب لسوء حظه: «لم تكن قطُّ الشخص الذي يُقطِّب وجهه.»
أسند برات ظهره إلى السياج الخشبي المتين الذي حال بين الخراف وبين واجهة المحجر، وأخرج علبة سجائره، واستقرَّ هناك طوال فترةِ ما بعد الظهر.
في غضون الساعة التالية كان قد عرف الكثير عن بات آشبي، لكن لا شيء مما عرفه ساعده في تفسير انتحاره. ومثل الجميع، كان آبل العجوز مصدومًا ومُندهشًا من وفاة الصبي، وشعر في تلك اللحظة أن تشكيكه في انتحار باتريك قد ثبتَت صحته.
باتريك «لم يكن قطُّ الشخص الذي يُقطِّب وجهه» مهما كانت الأمور «مضجرة إلى حدِّ البشاعة».
سار راعي الغنم العجوز برفقتِهِ إلى أشجار الزان، ومكث برات هناك وأخذ يُراقِب الرجل وكلبه يتضاءلان في البُعد. وبعد أن غابا عن الأنظار بمدةٍ طويلة مكث هناك، تُهدِّئه الوحدة وسكون الرياح في أشجار الزان. ثم تبِعهما لأسفل إلى السهل الأخضر حتى وصل إلى المسار، وظلَّ يتبعه ليُعيده فوق التل المؤدي إلى كلير.
عندما نزل من المنحدر الشمالي إلى الطريق، وصل إلى مسامعه صوت «صلصلة» مألوف. وللحظة عاد بذاكرته إلى مزرعة ويلسون، وورشة الحِدادة المُتوهِّجة في هواء الجبل و— ماذا كان اسمها؟ — كورا تقف في انتظاره خلف الحظيرة بينما كان يُهندم نفسه بعد العشاء. ثم تذكَّر أين كانت ورشة الحِدادة: في ذلك الكوخ عند سفح التل. كان الوقت لا يزال مبكرًا. لذا قرَّر أن يذهب ويرى كيف تبدو ورشة حدادة إنجليزية.
عندما وقف أخيرًا في المدخل، بدت ورشة الحدادة شبيهةً بتلك الكائنة في مزرعة ويلسون، فيما عدا أن السقف كان أكثر انخفاضًا بكثير. كان الحدَّاد وحده؛ إذ كان زميله دون شكٍّ موظفًا يعمل لساعات محدودة، وكان يصنع حدوة حصان. رفع بصرَه عندما أظلم برات المدخل عند وقوفه فيه، وحيَّاه دون أن يُوقف عمله. راقبَه برات قليلًا في هدوءٍ امتزج بالود، ثم اتَّجَه نحو المنفاخ ليشغله من أجلِه. رفع الرجل بصرَه وابتسم. كان قد أنهى ما يفعله في تلك اللحظة ثم قال: «لم أعرفك في الضوء. سعادتي لا تُوصَف لرؤيتك مرةً أخرى في ورشتي يا سيد باتريك.»
«أشكرك يا سيد بلبيم.»
«أصبحتَ أكثرَ مهارةً في التعامُل مع ذلك الشيء مما كنت في السابق.»
«صرتُ أتكسَّب منها منذ أن رأيتُك آخر مرة.»
«حقًّا؟ حسنًا، سوف …!» وأخرج من الفرن حدوة حصانٍ متوهجةً لم تكتمل بعدُ، وكان على وشْك أن يُواصِل العمل فيها عندما غيَّر رأيه وناولها بابتسامةٍ إلى برات. قَبِل برات التحدي وأبلى بلاءً حسنًا، بينما أدى السيد بلبيم دور المساعد باستحسان ناقد.
قال عندما غمر برات حدوة الحصان في الماء: «غريب، لو كان لأحدٍ من عائلة آشبي أن يمتهِن هذه المهنة، فهو أخوك.»
«لماذا؟»
«لأنك لم تُبدِ قطُّ اهتمامًا كبيرًا بهذا العمل.»
«وهل أبدى سايمون اهتمامًا؟»
«في وقتٍ ما لم أكن أستطيع منْعَه من دخول هذا المكان. لم يكن هناك أي شيء لم يكن مُستعدًّا لصناعته، من الشمعدان وحتى البوابات للطريق المؤدي إلى لاتشتس. على حدِّ ما أتذكَّر، كلُّ ما صنعَه هو عصًا لرعْيِ الغنم، ولم يكن عمله مُتقنًا. لكنه كان دائمًا في مُحيط المكان. كان بمثابة هوَس له طوال صيفٍ كامل.»
«أي صيف؟»
«الصيف الذي غادرتنا فيه. كانت الذاكرة لتخونني بشأن ذلك، لولا أنه كان هنا ليُشاهدنا ونحن نضعُ الحديدَ على إحدى العجلات في اليوم الذي هربتَ فيه. حتى إنني اضطررتُ إلى مرافقته إلى المنزل حتى يتناول عشاءه.»
تأمَّل برات الحدوةَ التي صنعها، بينما كان السيد بلبيم يستعد لإنهاء عمله لهذا اليوم.
قال السيد بلبيم، وهو يُومئ باستحسانٍ إلى عمل برات: «يجب أن أُعلقها وأضعَ وسمًا عليها: صنعه باتريك آشبي من لاتشتس.» وأضاف بأسلوب جميل: «وأنا نفسي لا يَسعُني أن أصنعَ واحدة أفضل منها.»
«أَعْطِها إلى آبل العجوز ليُثبِّتها بمسمارٍ على بابه.»
«ليُباركك الرب، لم يكن لآبل العجوز أن يضعَ حديدًا باردًا على عتبة بابه. سيُبعِد الأرواح التي تزوره.»
«حقًّا. أهو متآلف «معهم»؟»
«يَغسلون له كل شيءٍ ويُنظِّفون منزله، إذا كنت ستصدق كلَّ ما تسمعه.»
قال برات: «لا أستبعِد عنه ذلك.» ثم انطلق إلى لاتشتس.
وهكذا ظهرت حجة غياب لسايمون. كان سايمون في مكانٍ ما بالقرب من المنحدر عصر ذلك اليوم. ولم يخرج مُطلقًا من وادي كلير.
هكذا كان الأمر إذن.
في طريقِه إلى المنزل مُتخذًا الطريق بين الإسطبلات الْتقى بجين. كان مظهر جين يُوحي تمامًا بأنها كانت «تتلكَّأ»، فتساءل إذا كان سبب تلكؤها هناك هو أن تعترِضه. كانت تتحدَّث إلى الفرس هَنِي ومُهرها، ولم تُحاول أن تُخفيَ نفسها كما كانت تفعل عند اقترابه قبل تلك اللحظة.
قال: «مرحبًا يا جين»، ثم انضمَّ إلى الحديث مع هَنِي ليمنحها وقتًا. احمرَّ وجهها الصغير الشاحب خجلًا، وكان واضحًا أنها تُقاوم شعورًا غير مألوف تمامًا.
وأخيرًا قال على سبيل الاقتراح، عندما بدا أنها لا تنوي الحديث بأي حال: «حان الوقت لنعود إلى المنزل لنغتسِل.»
أنزلت يدَها من فوق رأس هَنِي والتفتت لتُصبح في مواجهته، واستجمعت نفسها محاولةً الحديث.
«أردتُ أن أقول لك شيئًا. هل تُمانع؟»
«شيءٌ تريدين منِّي أن أفعلَه من أجلك؟»
«أوه، لا. لا شيء من هذا. كلُّ ما في الأمر أنَّني لم أكن لطيفةً معك كثيرًا حين عُدت من أمريكا، وأريد الاعتذار إليك.»
قال وبداخلِه رغبة في أن يأخذ هذا الوجه الصغير الشجاع بين ذراعَيه: «أوه، جين.»
قالت في تطلُّع منها لأن يفهمها: «لم يكن ذلك لرغبةٍ منِّي في أن أكون فظةً معك. إنما لأن … إنما لأن …»
«أعرف السبب.»
«حقًّا؟»
«أجل، بالتأكيد. كان من الطبيعي تمامًا أن تشعري بذلك.»
«صحيح؟»
«في الحقيقة، عند وضع جميع الأمور في الاعتبار، أراكِ مُحقةً وتستحقِّين الإشادة بموقفك.»
«أتقبَلُ اعتذاري إذن؟»
قال برات بجدية: «أقبَل اعتذارك»، وتصافَحا.
لم تضَع ذراعَها في ذراعِه في الحال مثلما كانت ستفعل روث. بل سارت بجانبِه في رصانةٍ وجدية، مُتحدثةً بأدبٍ عن حظوظ مُهر هَنِي في السوق، والاسم الذي ينبغي أن يُسمَّى به. كان موضوع الاسم موضوعًا جذابًا ومثيرًا حتى إنها سرعان ما نسِيَت ارتباكها، وفي الوقت الذي وصلا فيه إلى المنزل صارت تتحدَّث بلا تحفُّظ.
عندما اجتازا الامتداد الواسع المفروش بالحصى، جاءت بي إلى الباب ووقفت تُراقِبهما وهما قادمان.
قالت: «ستتأخَّران على الغداء، أنتما الاثنان.»